مسألة تأخر الظهور والتمهيد له (عجّل الله فرجه)
محمود جلال
إنّ عدم ظهور الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه) حتى اليوم يرجع سببه إلى المسلمين أنفسهم، بما قدّمت أيديهم!
فقد مزّقتهم خلافاتهم وكثر انشقاقهم على أنفسهم، وتعصّبهم لما يرونه، كذلك قذفهم لكل من خالفهم بالكفر والشرك والضلال, فتفرّق المسلمون إلى جماعات وفرق شتى وانكسرت شوكتهم، فسهل على أعدائهم قهرهم واستعبادهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون!
هذا هو حالهم رغم زعمهم الاعتصام بكتاب الله وسنّة رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، مع تضييعهم لفريضة الإمامة التي شرّعها الله تعالى لخلافة النبوة في حفظ الدين وسياسة الرعية، وإقرارهم بوجوبها وفرضها فرض العين على كل مسلم، وإنّ عقدها لمن يقوم بها في الأمّة واجب بالإجماع وإنْ شذّ عنهم الأصم, فاشترطت في أهل الإمامة سبعة شروط كالعدالة, والعلم المؤدي إلى الاجتهاد, والرأي المفضي إلى سياسة الرعية، وحماية بيضة الإسلام, وطهارة النفس.
والمدقق في هذه الشروط يجد أنّها لا تتوفر إلّا في رجال من أهل بيت النبوة (عليهم السلام)، رفعهم الله فوق درجة العدالة, فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا, واصطفاهم من بين خلقه بسابق علمه وحكيم قدرته، من سلالة الأنبياء وأبناء الأنبياء، من ذريّة آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران (عليهم السلام) على العالمين, ثم أورثهم الكتاب فجعلهم باب مدينة العلم النبوي، وتراجمة وحي الله، وحملة كتاب الله، وأوصياء نبي الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) الذي أوصى الأمّة بهم قائلاً: (يوشك أنْ أدعى فأجيب وإنّي تارك فيكم ما إنْ تمسّكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي وقد نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض), أوّلهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) وآخرهم الإمام الهادي المهدي (عجّل الله فرجه) الذي قال فيه جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم): المهدي (عليه السلام) من عترتي من ولد فاطمة (عليها السلام).
لكنّ القوم كانوا قد أعرضوا عن آل بيت رسول الله وأئمّة الهدى (عليهم السلام)، ولم يرضوا بهم أئمّة وقادة, لذلك لا أكون مبالغاً إذا قلت إنّ منهم من سيحارب الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) عند ظهوره، وسيتأوّل عليه كتاب الله كما تأوّله من قبل الخوارج على أمير المؤمنين (عليه السلام) ورموه بالكفر, بل سيقفون في الخندق المواجه له, مع السفياني وجنده.
فهل يقبل الناس بأنْ يكون إمامهم من أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، من ذريّة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) سيدة نساء أهل الجنة, أو أنّ سيرتهم معه ستكون كسيرة أسلافهم مع آبائه وأجداده؟ أي سيرفضونه ويرفضون إمامته كما رفضوا من قبل إمامة أئمة أهل بيت النبوة, الإمام علي والإمام الحسن والإمام الحسين وذريتهم (عليهم السلام).
إنّ هناك من ينتظر ظهور قائم آل محمد (عجّل الله فرجه) لينعم بالخير والعدل في كنفه وتحت ولايته، يوم يخرج ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وهو غافل عن وجوب تربية وتهيئة نفسه والآخرين - إنْ استطاع - حتى يُمهّد الظروف المناسبة لاستقباله الشريف (عجّل الله فرجه)، آخذاً بالفهم السطحي الساذج لحديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج) على أنّه الاكتفاء بالعبادات والصلوات والنوافل وترك العمل والسعي إلّا لكسب المعيشة وسد الحاجة.
أمّا من فهم الحديث بالمعنى الذي أراده رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وبيّنه من بعده أهل بيته (عليهم السلام) فقد واصل العمل والجهاد بيده ولسانه وقلبه ليلاً ونهاراً، إعداداً واستعداداً لظهور الإمام (عجّل الله فرجه)، وتمهيداً لقيام دولة العدل الإلهي تحت إمرته، مبتغياً بذلك وجه الله تعالى.
وهذا يعني وجوب وجود أفراد على جهوزيّة عالية، عقائدياً ونفسياً وبدنياً ومن حيث الكفاءات ليكونوا في خدمة القائد المهدي (عجّل الله فرجه).
إنّ العقبات والموانع التي تحول بيننا وبين ظهوره الشريف (عجّل الله فرجه)، والتي ستتصدى لبرنامجه ومنهجه القرآني بعد قدومه المبارك، ليست أفراداً فقط وجماعات، بل دول وأنظمة وأمم منحرفة وظالمة وطاغية, وهذا ما لا يمكن مواجهته والتصدّي له بالصلاة والدعاء والأوراد فحسب، ولا بشكل فردي دون عمل جماعي منضبط ومتنام.
جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) في وصف أنصار الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) أنّه قال: رجال لا ينامون الليل، لهم دوّي كدويّ النحل، يبيتون قياما على أطرافهم ويصبحون على خيولهم، رهبان بالليل ليوث بالنهار، وهم من خشية اللّه مشفقون.
جاء في (دعاء زمن الغيبة) المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام): اللّهم عرّفني نفسك فإنّك إنْ لم تعرّفني نفسك لم أعرف نبيك، اللّهم عرّفني نبيّك فإنك إنْ لم تعرّفني نبيّك لم أعرف حجّتك، اللّهم عرّفني حجّتك فإنّك إنْ لم تعرّفني حجّتك ضللت عن ديني.
وليست المعرفة المقصودة هنا هي ما يصطلح عليها بالمعرفة الأطفالية، أي معرفة اسمه (المهدي (عجّل الله فرجه)) وأنّه غائب وسيعود، فأطفالنا يعرفون هذا، ولكن موضوع المعرفة موضوع جدّ عميق، والكلام فيه طويل، لأنّ للمعرفة درجات، منها ما لا يمكن الوصول إليه كما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): يا علي، لا يعرف الله إلّا أنا وأنت، ولا يعرفني إلّا الله وأنت، ولا يعرفك إلّا الله وأنا. وكقول سيد الساجدين (عليه السلام): ولم تجعل للخلق طريقا إلى معرفتك إلّا بالعجز عن معرفتك.
إنّ أئمّة آل البيت (عليهم السلام) هم الهمّ الوحيد الذي تهون التضحية من أجله بكل العلائق الدنيوية وإنْ كانت الأنفس والأهل والأولاد والأموال...
ولا يتحقّق هذا الهمّ على الصعيد النفسي والاجتماعي إلّا بمراعاة الآتي:
أولاً: تربية النفس الإنسانية حتى تصير مرتبطة ارتباطاً حقيقياً مع إمام زمانها والولي على الأنفس والعقول.
ثانياً: تربية وتهيئة الآخرين للوصول لنفس الغرض السامي، أي الارتباط بمهدي آل محمد (عجّل الله فرجه).
ثالثاً: الحب العميق المستتبع للتسليم شيئاً فشيئاً، إلى أنْ يصل المسلم إلى التسليم المطلق لإمامه (عجّل الله فرجه)، تطبيقاً للمعاني القدسيّة العالية الشريفة التي وردت في العديد من الآيات القرآنية الشريفة كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْليماً﴾ و ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، حيث ورد في الروايات الشريفة إنّ المرابطة هي مرابطة إمام زمانكم.
فالنفس المؤمنة متى وصلت إلى التسليم الحقيقي تحلّت بالصبر عن المعاصي والمصابرة على الطاعات ومرابطة صاحب الأمر عليه السلام، وعندئذ تشرق أنوار معارف مهدي آل محمد (عجّل الله فرجه) في تلك النفس التي خلصت وسَلُمَت وسَلَّمت ذاتها وقلبها وسرّها لولى أمرها الإمام المهدي (عجّل الله فرجه).