مساجد في مسيرة الظهور المهدوية (رؤى ودلالات)
الشيخ أكرم دياب
المتتبع للروايات الواردة في المجامع الحديثية المرتبطة بحركة الظهور المهدوية على طول خط الغيبة وصولاً إلى الظهور تستوقفه مجموعة من المشاهدات والأحداث يجمعها رابط مشترك يشير إلى منهجٍ ومَعْلمٍ من معالم التأثير في القضايا المركزية التي ترتبط بالتهيؤ والاستعداد للقاء بقية اللَّه في أرضه الإمام المهدي (عجّل الله فرجه).
من هذه المعالم بعض المساجد التي ورد ذكر بعضها في الروايات وفي تفسير بعض الآيات كالمسجدين الحرام والأقصى وفي البعض الآخر يشار إلى روايات أخرى وحوادث حصل لها ارتباط مباشر بالقائم (عجّل الله فرجه) كمسجدي الكوفة والسهلة الموجودين في الكوفة، وجمكران الموجود على أطراف قم المشرفة.
السؤال المشار هنا هو: ما هي هذه العلاقة الوثيقة بين الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وبين تلك المساجد الأربعة المذكورة؟ وما هي الأهمية الكامنة وراء تخصيص هذه الأماكن ليكون لها شأن في حركة الظهور المهدوية؟
وللإجابة على هذا السؤال أولاً نشير إلى أمرٍ يتعلق بخصوص هذه المساجد، لأنه لو دققنا النظر في الفارق الأساسي بينها نلاحظ ما يلي:
أ- روايات الظهور المتعلقة بالمسجدين-الحرام والأقصى- لاحظت نقطة حاسمة في مسيرة الغيبة الكبرى هي الخروج من الغيبة إلى الظهور, وأشارت إلى أحداث واقعة تعتبر من العلامات المتواتر عليها بين المسلمين, خصوصاً فيما يتعلق بظهور الإمام (عجّل الله فرجه) في المسجد الحرام ومبايعة الناس له بين الركن والمقام.
ب- أما الحوادث أو الروايات المتعلقة بالكوفة والسهلة وجمكران فقد أشارت إلى مجموعة من الأمور المتعلقة بها وحددت مجموعة من الوظائف, مجملها يهدف إلى توثيق الاعتقاد والارتباط بقضية مركزية كقضية الظهور من خلال التهيؤ والاستعداد لهذا الموقف العظيم وصولاً إلى تلك النقطة الحاسمة في تاريخ البشرية، من هنا فإن هذه الروايات أشارت إلى مجموعة من الأعمال والأذكار المستحبة, يأتي بها المؤمن بدافع الشوق إلى اللقاء والفرج.
لو أردنا أن نسلط الضوء على هذه الروايات لنحلّل مسيرة الإمام (عجّل الله فرجه) من الغيبة حتى الظهور وارتباطها بهذه المساجد ينبغي أن نشير إلى أمور:
الأول: إن كون الخروج المتوقع من مكة وفي المسجد الحرام وبين الركن والمقام كما أشرنا يحمل في دلالاته بُعدين مركزيين:
أ- الإشارة إلى أن القضايا التي لأجلها تحمل الأنبياء كل تلك المشقات فقتلوا وصلبوا وفصلت رؤوسهم الشريفة عن أجسادهم- اعني قضية التوحيد المركزية خلاصتها الحديث القدسي المشهور (كلمة لا إله إلا اللَّه حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي)، وهذه تعتبر من الحلقات المفصلية عند الوصول للنقطة الحاسمة والساخنة في تاريخ الإسلام لأنها تشكل عصب الظهور المترقب، وحيث أن هذا البيت العتيق وهذا المسجد الحرام يمثلان نقطة التقاء جميع الأنبياء من نبي اللَّه آدم عليه السلام إلى نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كما ورد في الروايات أنهم زاروا هذا المكان القدسي يجمعهم هذا الهدف وهو التوحيد والإقرار بالعبودية للَّه الواحد القهار جلّ وعلا، واختيار هذا المسجد لانطلاقة الإمام (عجّل الله فرجه) يصب في المجرى التوحيدي التكاملي لمسيرة الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام).
ب - الإشارة إلى قضية فرعية بالنظر الأولي تشير إلى حلقة مهمة في تاريخ الإسلام نعني بها فتح مكة واجتثاث الفساد وضرب مركز الأصنام والشرك وإعلاء كلمة التوحيد في انتقال نوعي في تاريخ الإسلام، واختيار المسجد الحرام للظهور يشير إلى إرادة إلهية في فتحٍ جديد يؤسس لدولة جديدة في زمن تبدلت فيه الأصنام من حجرية إلى بشرية فيأتي صاحب الأمر (عجّل الله فرجه) لاقتلاعها ويعيد للإسلام تاريخه من جديد. وإليه أشار الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (... ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً).
الثاني: وجود الأقصى في المعركة الحاسمة وفي مفصل أساس من مفاصل الظهور حيث يُصلّي الإمام (عجّل الله فرجه) فيه ومن خلفه نبي اللَّه (عيسى) في إشارة إلى قضايا هي في غاية الأهمية:
أ- هو أولى القبلتين ويمثّل أعلى درجات الصراع الطويل الأمد بين الإسلام واليهود, واختيار الإمام (عجّل الله فرجه) للصلاة فيه تعبير عن الانتصار النهائي للإسلام فيه وإقامة دولة الأنبياء الذين استشهدوا في البقعة الطاهرة دفاعاً عن الدين أثناء التبليغ بالأمانة الإلهية.
يقول تعالى: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾.
ب - أما صلاة نبي اللَّه عيسى (عليه السلام) فتصب في تلك القضية التي هي تساهم في رفع كل الشبهات والشك حول قيادة الإسلام للبشرية وتنزع مزاعم أهل الشرك وتُوطىء لدولة التوحيد.
ج- هذا التحرك الاستراتيجي بأبعاده التي ذكرناها يعيدنا بالذكرى إلى قضية أخرى تعتبر من المفاصل التاريخية في الإسلام ولأهميتها أرّخها اللَّه في القرآن وخصها بسورة وهي قضية الإسراء والمعراج برسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولعل اختيار بقية اللَّه (عجّل الله فرجه) للأقصى الشريف يشير إلى ذلك البعد الثالث وتأكيد لذلك الارتباط الروحي والمعنوي في صلاة هي معراج إلى اللَّه وفي إسراء آخر وعودة أخرى من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وقد يؤيد ما ذكرناه في سياق الآيات من سورة الإسراء: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأْقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً * وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأْرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً * فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأِنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الآْخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً﴾.
الثالث: ما ذُكر حول المسجدين الحرام والأقصى يشير إلى تلك المعركة الفاصلة بين التوحيد والشرك وأيام الظهور.
ويبقى أن نتساءل عن ارتباط حركة الظهور المهدوية بمساجد السهلة والكوفة وجمكران وما هو المبتغى من تحويل أنظار المؤمنين في اتجاهها للقيام ببعض المستحبات وطلب اللقاء؟ ولكي نجيب على هذا التساؤل نشير أيضاً إلى أهداف هذه الأعمال:
أ- ربط المؤمنين بها دون المساجد الأخرى يُعمّق تركيز مفهوم الارتباط بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، ومن هنا نلاحظ أننا عندما نتوجه إليهما ليس لنا أي هدف سوى التعبد للَّه (جلّ وعلا) والشوق للقاء الإمام (عجّل الله فرجه)، وكثيراً ما نذهب إلى المساجد الأخرى ولكن لا ينتابنا مثل هذا الشعور إلا فيهما، ولأجله فإن التخصيص بهما والتوجه إليهما يصب في مجال التهيئة والاستعداد لذلك الظهور المرتقب ويهيىء الأرضية الخصبة له.
ب- وجودها وحصول بعض الحوادث فيها يعزز من الأمل باللقاء ويشحذ النفوس بقضية الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ويقوي اليقين بالفرج بانكشاف الكروب والغموم والأحزان عن المؤمنين والمستضعفين. هذا ولا يخفى ما لمسجد السهلة من أهمية في عصر الظهور إذ ورد فيه انه مسكنه عليه السلام وأهل بيته.
رابعاً: كل ما ذكرناه لا يمنع من القول بوجود أهداف روحية ومعنوية واجتماعية أخرى بغض النظر عن كونها مرتبطة بالمسير من الغيبة إلى الظهور والتي منها:
١ - الإشارة إلى أهمية المسجد في الإسلام حتى انه أصبح يشكل المحطة الرئيسة في عصر الغيبة والظهور للإمام (عجّل الله فرجه).
٢ - اعتبار المسجد منطلقاً لكل حركات الثورة ضد الظلم والطغيان وهذا يفسر سبب هجوم المستكبرين عليه واهانته وإقفاله في بعض الأحيان.
٣ - الحث على ارتياد المساجد واعتبارها محطة العروج إلى اللَّه وتقوية جوانب الارتباط الروحي والمعنوي باللَّه والإقرار بالذل والمسكنة في بيته.
هذا بالإضافة إلى بعض الجوانب الأخرى التي لا يسعنا الحديث عنها في هذه العجالة.