الرمزية والواقعية في النصوص المهدوية
لطيف عبد النبي يونس
لكل عصر خصائصه وصفاته التي تميزه عن غيره وحتى عوالم النشآت فإنها متمايزة فيما بينه، متغايرة في صفاتها متحدة في وجودها، ويبقى المعبر الوحيد عنها في عالمنا الآني هو اللغة.
وتعد اللغة العربية لغة القرآن هي اللغة الأم التي تستطيع أن تنجز الحضارة الكونية وتستوعب أغلب المفاهيم الوجودية ولذلك اختارها الباري للتعبير عن رسالة السماء.
وبما يخص القضية المهدوية فإننا نرى أن النصوص المهدوية تحمل في طياتها جنبتين هما: الرمزية والواقعية، وهما متأتيتان من نفس اللفظ حيث أن اللفظ إنما وضع للتعبير عن معنى في زمان م، ويخاطب قوما لهم خصوصياتهم المعرفية الواقعية، فلابد من ملاحظة المخاطب (بالكسر) هذه الخصوصية المعرفية والواقعية وكذلك يلاحظ التغيرات الزمكانية والمستقبلية ومن هنا تأتي الرمزية والواقعية بالنسبة للاثنين للواقع المخاطب له آن، وللمخاطب في الزمان التالي، وبهذا الحال نستكشف قدرتين، قدرة اللفظ على التعبير وقدرة المخاطب على استغلال أقصى قدرة اللغة في التعبير. وبهذا يمتاز المعصوم عن غيره في الخطاب الواقعي والتجديدي المستمر الذي يوافق أعظم رسالة سماوية شاملة.
ومن خلال اللفظ اللغوي وقدرة المخاطب على استثمار اللفظ نشأت ظاهرة الرمزية والواقعية في النصوص المهدوية.
فعندما نأتي إلى لفظة السيف فإنها ترجع في معناها إلى آلة القتل، وهذه الآلة مرة تكون بشكل حديدة حادة تجرح وتقطع وبالتالي تحدث القتل أو الضرر كما في الماضي، ومرة أخرى تكون هذه الآلة حديدية ولكن يوجد فيها زر يضغط ليخرج منه شعاع قاتل، ومرة تكون هذه الحديدة بشكل ضخم، ومرة تكون طويلة لتنطلق إلى مسافات كبيرة، فكل هذه الصور والأشكال تعبر عن وحدة مضمون وهي آلة القتل. ومن هنا يكون لفظ السيف هو أشمل لفظة للتعبير عن استعمال القوة في الردع أو القتل، سواء الايجابي أو السلبي، والمخصوص هنا هو الايجابي في القضية المهدوية.
ويوضح الشيخ جعفر السبحاني في بحث له في الالهيات يتناول فيه مفاهيم الكرسي والعرش والميزان يبين ما معناه أن لفظ الميزان هو لفظ مفهومي يعبر عن معنى وهو ما يوزن به الشيء وبالتالي نرى أن هذا الميزان مرة يكون عصا فيها كفتان ومرة يكون حديدة وفيها كفتان ومرة يتطور ليكون نابضا حلزوني، ومرة أخرى يكون عداداً رقمياً ومرة يكون ميزاناً للأشعة، ومرة يكون ميزاناً لقياس الأعمال البشرية يوم القيامة، وبهذا تتغير صورة الميزان من مرحلة بشرية إلى أخرى وتتغير كذلك صورته من نشأة إلى أخرى ولكن الجميع يعبر عنه بلفظة ميزان.
وأما عندما نأتي إلى لفظة نور الإمام (عجّل الله فرجه) فكذلك لفظة النور تعطي معنى الكشف عن الحقيقة وكشف الظلام وحقائق الأشياء، وبالتالي، فمرة يكون النور ضوءاً يكشف ستار الظلام الدامس، ومرة يكون علماً يكشف الحقائق المغيبة أو التي غطتها السحب.
ولعل النص الذي يشير إلى كون الناس في دولة الإمام (عجّل الله فرجه) يستغنون عن نور الشمس بنور الإمام (عجّل الله فرجه) هو إن الإنسانية إنما تنعم بدفء الحياة من خلال نور الشمس وما يحتويه من نعم إلهية ولكن الرواية تقول أن الإمام (عجّل الله فرجه) عندما يظهر يخرج خمسة وعشرين حرفاً من العلم وبالتالي يحصل الاستغناء بهذا العلم وهو النور الإلهي عما تمنحه الشمس من ضوء ونعم إلهية أخرى تختزنها الطاقة الشمسية خصوصاً وإن البشرية تتجه الآن نحو الطاقة الشمسية كبديل عن طاقة النفط.
إن إخراج خمسة وعشرين حرفاً من العلم يعني إن الطاقة العلمية للإنسان ومن خلال الطاقة الإلهية تجتاز مرحلة الاستفادة من الشمس حتى على مستوى الرؤية البصرية.. لماذا؟
لأننا نعرف بأن الإمام (عجّل الله فرجه) هو مصدر طاقة الوجود وهو سر الوجود، وهو واسطة الفيض للوجود وبالتالي فهو يستطيع أن يمد الوجود بكل أنواع الطاقة الفعالة التي تحيي نظام الوجود بكل أبعاده وبصورته الشاملة، وأما الشمس والقمر فما هي إلا أجزاء من فيض الإمام (عجّل الله فرجه) ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وبما أن الإمام هو نور الله في الوجود فهو أكبر وأعظم من نور الشمس بل لا يقاس به، بالتالي تظهر هذه النورية بشكل العلم الذي يبثه بين الناس والتي عبرت عنه الروايات بخمسة وعشرين حرفاً وهذه هي الرمزية والواقعية بنفس الوقت.
وإذا لاحظنا النصوص التي تتحدث عن خصائص دولة الإمام (عجّل الله فرجه) نجدها تحكي عن أمور لا يتحملها العقل ولا يستوعبها.
والحق إننا في هذا العصر الذي بلغت التقنية حداً مذهلاً بحيث أن كل يوم تتطور التقنية فتظهر لنا ابتكارات كبيرة ومثيرة لا نستطيع أن نستوعبه، هذا ونحن الآن ربما بحرف أو حرف ونصف من العلم فما بالك إذا تطورت البشرية إلى ما قبل الظهور واكتمل الحرفان أو لنقل إننا في مرحلة الحرفين من العلم. فإذا كان العقل لا يستطيع أن يستوعب التطورات والطفرات التقنية في عصر الحرفين فبربك كيف نستطيع أن نستوعب عصر الخمسة وعشرين حرفاً، يا ترى ما هو شكل التقنية حينئذ وما مداها وما سرعة تطورها اليومي والحياتي وما هي أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والسلوكية. يقينا هي شيء يفوق التوقعات ويفوق التصورات ولا يستطيع العقل بحدوده المعرفية الآنية أن يستوعبها.
فمثلا كيف يستطيع أن يعبر الإنسان ويجتاز ملايين السنين الضوئية بلمحة بصر، ومن المعروف أن النظرية النسبية التي هي أقوى نظرية أرضية تمنع هذا السفر لان الجسم يتحول إلى طاقة فكيف ينتقل الإنسان هناك.
من المؤكد أن القوانين ستتغير. ولذلك جاءت الرمزية لتدل عن أن السفر بين الكواكب يكون كالسفر بين الأقطار الأرضية
وكيف يستوعب العقل أن الرجل يعمر كثيراً حتى يولد له ألف غلام ليس بينهم جارية وان الثوب الذي يلبسه الإنسان يقصر ويكبر كما يشاء الإنسان وهو مرتديه. والكثير من الأمور التي لم تخطر على قلب بشر.
لاشك إن الصورة الحقيقية للدولة المهدوية هي بمواصفات راقية بحيث لا يستوعبها العقل البشري الآن، لكن لابد للمعصوم أن يوضح أجزاء من أبعادها من خلال ألفاظ تحمل الواقعية والرمزية ليفهم الإنسان شيئا من الحقيقة. ولذلك ورد في بعض الروايات أن علة الغيبة لا تعلم إلا بعد ظهور الإمام (عجّل الله فرجه).
ومن وجهة أخرى نرى أن هناك تشابهاً كبيرا بين ألفاظ القرآن التي تعبر عن أحوال يوم القيامة خصوصا الجنة حيث تجد القرآن يعطي تشبيها ولكنه بنفس الوقت يمزجه مع الواقعية الدنيوية لكي يفهم الإنسان المخاطب جزء الحقيقة وإلا فإن الحقيقة بكاملها لا تظهر إلا يوم القيامة فتكون بحق اليقين، وما دمنا نعيش أدوات معرفية المادة والحس فإننا لا ندرك المرحلة المعرفية الواقعية التي في تلك النشأة غير المادية. إلا إذا تجردت النفس وحصل لها الكشف الروحي والشهودي وهو لا يحصل إلا للقليل من أولياء الله (عزَّ وجل) (لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا).
ومن هنا فان مرحلة دولة الإمام (عجّل الله فرجه) وإن كانت نشأة مادية أرضية لكنها تحدث طفرة نوعية في كل ميادين الحياة وتتغير كل الموازين والتصورات وتنقلب كل التوقعات لتنتج واقعا هي جنة الله في الأرض يجد الإنسان فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر.