استشراف المستقبل بين الدراسات الأكاديمية والإشارات الإسلامية
عبد الرحيم الحصيني
تعاظمت الدراسات المستقبلية في العقود الأخيرة من القرن العشرين وستزداد بالتأكيد في مطلع القرن الحالي كباقي الدراسات الجارية في مختلف الحقول.
وانطلاقا من أهمية اكتشاف المستقبل في حياة الإنسان، وكذا في مجالات السياسة الدولية ومصالح الحكام دعت تلك القوى بأن يولوا اهتمامهم بهذا العلم ويسعوا بجد لاحتكاره وحصره في الدوائر الحكومية الخاصة ومراكز البحوث الاستراتيجية، وضم انجازاته وتوظيفها لأغراض الهيمنة واستعمار الشعوب، وذلك للقدرة الهائلة التي يمتلكها هذا العلم، ولياقته الواسعة في تقديم الخدمات المختلفة في مجالات متعددة من حياة الإنسان، كذلك جهة قدرته على السيطرة والتلاعب بالظواهر الاجتماعية المحتملة الحدوث، بالإضافة إلى إمكانيته في تهيئة البدائل وإيجاد الظواهر المرغوبة عند الساسة، أو توظيف هذا العلم لغرض التخلص من العقبات التي تحول دون تحقيق النمو والتطور الذي يرتئيه المخططون وأصحاب القرار في السياسة الدولية كالمستقبل العسكري، أو المستقبل التكنولوجي، أو السياسي.
ومن المعروف أن الطروحات العلمية في حقل المستقبليات قد استبعدت الوسائل التي تنظر للمستقبل برؤى خرافية، كما استبعدت قرارات الحاكمين القائمة على الانفعال، أو النزوات الشخصية الطارئة، بالإضافة إلى تجاوزها، -أي تلك الدراسات- أو أدوات الصراع القديمة-، فلما استطاعت الدوائر الاستكبارية توظيف كل الانجازات العلمية في المجالات الأخرى، نجدها قد سيطرت على علم المستقبليات لما فيه من القدرة لتحقيق الهيمنة والاستكبار، وأسست مبادئ لهذا العلم والإشراف على أساسه، وأنشأت له مدارس وجمعيات ومراكز أبحاث، بل نجد مثلا دولة السويد قد أنشأت وزارة خاصة بالمستقبل، وقد بلغ عدد المؤسسات في أمريكا حتى عام ١٩٦٧م إلى ما يقرب من (٦٠٠) مؤسسة وارتفع الرقم إلى (١٠٠٠) بعد أقل من عشرين عاماً، وتفرع عن علم المستقبل علوم أخرى كعلم اجتماع المستقبل وغيره.
لكن الخبرة الإسلامية لا زالت متواضعة بالقياس إلى التقدم الذي أحرزته الدول الأخرى في هذا الحقل. الأمر الذي يدعونا في هذا الظرف بالذات إلى أن نترصد بوعي ثاقب الأحداث الظالمة التي تمر بها الأمة الإسلامية.
وأن نعي أن التحدي الاستكباري بأساليبه الحديثة لا تقف حركته عند حد، بل هي في تقدم سريع ومستمر يتجاوز مواقفنا السطحية وحركتنا الارتجالية، أو المتفرجة أحيانا لتعمد بالتالي إلى سحق الهوية وإخضاعنا لحضارته الشيطانية.
وإن مواقفنا اللامسؤولة أزاء هذا التحدي الرهيب لا تنسجم مع ما تدعو إليه الرسالة الإسلامية، وما قدمه القرآن الكريم والسنة الشريفة وحركة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من تصورات ونظريات الأمة لأن تحتل مكانتها الطبيعية، وأداء دورها القيمومي، ووسطيتها بين الأمم.
ففي العقيدة الإسلامية ومصادرها المعتبرة ما يكفي ضمانة لحاضر الأمة ومستقبلها، فمن خلال مراجعة النصوص القرآنية والتجربة التاريخية لخط العصمة الإلهي في الحياة يتبين أن الإسلام سبق جميع النظم والنظريات في الدعوة لاستشراف المستقبل استشرافاً علمياً مدروساً واستباق أحداثه ومفاجآته والتخطيط لاحتمالاته.
فلو لاحظنا الآيات القرآنية التي تتحدث عن السنن الإلهية سنجدها تشير إلى الترابط بين الماضي والمستقبل، وضرورة التعرف على المستقبل بهدف بنائه، فقوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ...﴾ إشارة واضحة لدخول الإرادة الإنسانية ومسؤوليتها، حين تبدو مظاهر الفساد من قلة البركات وغيرها في حياة الأمة لان قوله تعالى: (بما كسبت) إشارة إلى تدخل السلوك البشري ودوره في إيجاد الظواهر، كما توجد حتميات ووعود إلهية مستقبلية تكشف عن المخطط الإلهي البعيد، وانتصار الأمة الإسلامية وتمكينها آخر الزمان، قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ﴾. وعلى يد خليفة الله في الأرض صاحب العصر والزمان الإمام الحجة بن الحسن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه).
كما إننا لو راجعنا السيرة النبوية الشريفة وما تتخللها من أحداث، وكذا سيرة الإمام علي (عليه السلام)، ومن بعده ما كان يخطط له الإمام الحسن (عليه السلام) حين صالح معاوية وكذا الإمام الحسين (عليه السلام) وثورته الخالدة، سنلاحظ فيها الدروس المستقبلية وقدرتها حين الاستنطاق الواعي على أثراء التفكير المستقبلي وتأصيله إسلامياً.
وانطلاقاً من كل ما سبق فان النظرية الإسلامية قد قدمت بين يدي المسلم أطروحة مستقبلية متكاملة، وما عليه سوى اكتشافها من خلال تلك المصادر والعمل بموجبها بهدف تحقيق العدالة الإلهية وتحقيق الكمال المنشود.