السيدة حكيمة.. سطوع النبوءة
محمد طاهر الصفار
غصنٌ من أغصانِ شجرة النبوة، وغرسٌ من أغراس الإمامة، وبذرةٌ نمت في ظلال الوحي وتفتّحت في روضة البيت النبوي الذي أذهب الله عنه الرجس وطهّره تطهيرا، تشرّفت بمعاصرة أربعة من الأئمة المعصومين فبذلت لهم الولاء الخالص وسخّرت لهم كل الجهد من أجل إبقاء شعلة الإسلام ورسالة أهل البيت متّقدة في طريق الأجيال.
قُدّر لها أن تشهد الصراع العنيف بين أصحاب رسالة السماء أهل البيت وبين جبهة الكفر والضلال السلطوية العباسية فشابهت عمتها السيدة زينب بنت أمير المؤمنين (عليه السلام) في حمل أمانة حجج الله وأدائها على أفضل وجه، وكان لها دور كبير في نشر تعاليم الأئمة الأطهار فوجد فيها الإمام المعصوم نعم الروح الإيمانية الخالصة لله فاصطفاها موضعاً حصيناً لسرِّه ويداً أمينةً لأمانتهِ.
لقد اختار الله هذه المرأة الجليلة الطاهرة النقيّة لتكون المتوليّة والقابلة لولادة بقية الله في أرضه وحجته على عباده ومن يملأ به الأرض قسطاً وعدلاً الإمام الحجة المنتظر (عجّل الله فرجه)، فكانت أهلاً لهذا الشرف، فهالات القداسة والجلال تحيط بها وتشع في روحها الطاهرة فهي ابنة إمام وأخت إمام وعمّة إمام وحفيدة إمام وسليلة سادة أهل الأرض وعمة خاتم الأئمة.
ولدت السيدة الجليلة حكيمة بنت الإمام محمد الجواد (عليه السلام) عام (٢١٦هـ) في المدينة المنوّرة، أما أمّها فهي السيّدة سُمانة المغربيّة أم الإمام الهادي (عليه السلام)، وقد عاصرت السيدة حكيمة أربعة من الأئمّة المعصومين هم: والدها الإمام الجواد (عليه السلام)، وأخاها الإمام عليّ الهادي (عليه السلام)، وابن أخيها الإمام الحسن العسكريّ (عليه السلام) وتشرّفت بالطلعة الرشيدة والغرّة الحميدة لوجه الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، فقد وكّل إليها الإمام الحسن العسكري الإشراف على ولادة السيدة نرجس لابنه المهدي المنتظر (عليهم السلام).
احتلت السيدة حكيمة منزلة كبيرة وعظيمة عند الأئمة (عليهم السلام) فكانت من سفرائهم وحملة أسرارهم ومن المؤمنات المخلصات لهم، ففي تلك الفترة التي شدّد العباسيون من قبضتهم وبطشهم على شيعة أهل البيت ومارسوا أبشع الضغوط الاستبدادية للقضاء على أئمة أهل البيت (عليهم السلام) واستئصالهم، لم يكن الأئمة يكشفون عن ولادة المعصوم أو الإشارة إليه سوى لأشخاص معدودين ممن يثقون بهم كل الثقة يطلقون عليهم (أصحاب السر) وكانت السيدة حكيمة من هؤلاء الأصحاب.
السيدة المباركة:
نشأت هذه السيدة الطاهرة في بيت الوحي ونهلت من منبع العلم والشرف والتقوى فكانت من العلويات الطاهرات الصالحات العابدات، وكان لها دور في تزويج الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بالسيدة نرجس أم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، والقيام بشؤون ولادته.
وروت عن أبيها الإمام الجواد (عليه السلام) الأحاديث، كما قامت بدور الوكالة الخاصة في نقل الأحاديث والأسئلة الرسائل عنه (عليه السلام) إلى شيعته بعد أن شدّدت السلطة العباسية من رقابتها وضغوطها على تحركات العمري وكيل الإمام العسكري وعلى الإمام، فأدت دورها العظيم والخطير هذا على أكمل وجه، وكانت تكتم سر حمل السيدة نرجس (عليها السلام) بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وقد شهد لها الإمام العسكري (عليه السلام) بالصلاح وكان يتفاءل بوجودها فكان يناديها بـ(المباركة)، فشابهت بدورها العظيم هذا دور عمتها السيدة زينب (عليها السلام) التي حفظت أمانة أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) في أهله وعياله وكتم سر الإمامة من بعده والتي أوصى بها لعلي زين العابدين (عليه السلام).
مع القائم (عجّل الله فرجه):
بعث الإمام الهادي (عليه السلام) بِشرَ بن سليمان النخّاس لشراء جارية روميّة وصفها له، وشرح له تفاصيل شراء تلك الجارية التي وقعت في أسر المسلمين، وبعد أن اشتراها بشر تحدّث معها الإمام (عليه السلام) وكانت تُتقن اللغة العربيّة، ثم بشرها بولدٍ يملك الدنيا شرقاً وغرباً، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً يولد لها من ابنه الإمام العسكري (عليه السلام) ثم أرسل إلى السيدة حكيمة فلما رأتها اعتنقتها طويلاً وسُرَّت بها كثيراً.
فقال لها الإمام الهادي (عليه السلام): يا بنت رسول الله، أخرجيها إلى منزلكِ وعلِّميها الفرائض والسُّنن، فإنّها زوجةُ أبي محمّد وأمُّ القائم (عليه السلام). ويدلنا هذا الحديث من الإمام المعصوم على عظيم منزلة السيدة حكيمة وعلمها حينما يوكل إليها تعليم أم بقية الله الفرائض والسنن.
وتشهد السيدة حكيمة انبلاج نور الله في أرضه بولادة وليه القائم بالحق....
زاد الله من شرفك وأعلى من منزلتك أيتها السيدة الطاهرة وقد اختارك لحضور ولادة منقذ البشرية وتولي شؤون الولادة وأول من ينظر إلى وجهه المبارك والتزود منه، حيث يروي المفيد [الإرشاد ص٣٢٦]، والكليني [أصول الكافي ج١، ص٥١٤]، والمجلسي [بحار الأنوار ج٥١، ص١٥١]، والصدوق [كمال الدين ج٢، ص٩٧] وغيرهم:
إن السيدة حكيمة بنت الإمام محمّد بن علي الجواد (عليه السلام) - وهي عمّة الإمام الحسن العسكريّ (عليه السلام) - رأت القائم (عليه السلام) ليلة مولده وبعد ذلك عدة مرات، فقد تشرّفت بأن يكون لها نصيب في ولادة حجة الله في أرضه كما قال لها ابن أخيها الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): يا مباركة إنّ الله تبارك وتعالى أحب أن يشركك في الأجر ويجعل لك في الخير نصيباً. [بحار الأنوار ج٥١، ص١٢]
لم تنل السيدة حكيمة منزلة رفيعة ومكانة عظيمة عند الله والأئمة المعصومين لقربها في النسب منهم فقط، بل كانت خالصة الإيمان، صافية العقيدة، محضة الولاء لهم، فحفظت أحاديثهم وروتها، وتمسكت وحاججت بها، في الوقت الذي استغل من يقرب لهم هذا النسب هذا الأمر فادعى ما ليس له، فوقفت السيدة حكيمة لتنشر علمهم وتنفي ما ادعاه جعفر بن علي من الإمامة بعد أخيه العسكري، فقد روى الشيخ الصدوق بإسناده عن محمد بن عبد الله الطّهوي، قال:
قصدتُ حكيمة بنت محمّد الجواد (عليه السلام) بعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) أسألها من وراء حجاب عن الحجّة وما قد اختلف فيه الناس من الحيرة التي هم فيها، فقالت: يا محمّد، إنّ الله تبارك وتعالى لا يُخلي الأرض من حجّة ناطقة أو صامتة، ولم يجعله في أخوين بعد الحسن والحسين (عليهما السلام) تفضيلاً لهما، وتنزيهاً لهما أن يكون في الأرض عديلهما، إلّا أنّ الله تبارك وتعالى خصّ ولد الحسين (عليه السلام) بالفضل على ولد الحسن (عليه السلام) كما خصّ ولد هارون على ولد موسى (عليه السلام)، وإن كان موسى حجّة على هارون، والفضل لولده إلى يوم القيامة.
وتواصل السيدة حكيمة حديثها فتشير إلى الإمام الحجة الخلف المهدي بعد أبيه فتقول: ولابد للأمة من حيرة يرتاب فيها المبطلون، ويخلص فيها المحقون، كيلا يكون للخلق على الله حجة، وإن الحيرة لابد واقعة بعد مضي أبي محمد الحسن (عليه السلام).
فقال لها الطهوي: يا مولاتي، هل كان للحسن العسكريّ ولد؟ فقالت: إذا لم يكن للحسن عقب، فمن الحجة من بعده؟! وقد أخبرتك أنه لا إمامة لأخوين بعد الحسن والحسين (عليه السلام) ثم حدثته بحديث الولادة. [كمال الدين ٢ ص٤٢٦]
السيدة حكيمة (عليها السلام) في ضوء التأريخ:
نالت السيدة حكيمة (عليها السلام) منزلة عظيمة عند الأئمة (عليهم السلام) ونقلت لنا المصادر سيرتها العطرة المفعمة بالولاء وقد أثنى عليها علماؤنا الأعلام قديماً وحديثاً، يقول المجلسي عندما يصف قبة العسكريين المطهرة:
إنّ فيها قبر الكريمة النجيبة، العالمة الفاضلة، التقيّة الرضيّة، حكيمة بنت أبي جعفر الجواد (عليهما السلام)، ثم يقول: إنّها كانت مخصوصة بالأئمة (عليهم السلام) ومودعة أسرارهم، وكانت أم القائم (عليهم السلام) عندها، وكانت حاضرة عند ولادته، وكانت تراه حيناً بعد حين في حياة أبي محمد العسكري (عليه السلام)، وكانت من السفراء والأبواب بعد وفاته، فينبغي زيارتها بما أجرى الله اللسان بما يناسب فضلها وشأنها. [بحار الأنوار ج٩٩ ص٧٩]
ووصفها السيد محسن الأمين في ترجمتها بأنها: كانت من الصالحات العابدات القانتات لها أخبار في تزويج الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بالسيدة نرجس أم الإمام المهدي (عليهما السلام) وفي ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه). [أعيان الشيعة ج٦ ص٢١٧]
وقال عنها الشيخ عباس القمي: إن كتب الزيارة لم تخصها بزيارة خاصة مع مالها من رفيع المنزلة، فينبغي أن تزار بالزيارة العامّة لأولاد الأئمّة (عليهم السلام)، أو تزار بما ورد لزيارة عمتها الكريمة فاطمة بنت موسى بن جعفر (عليها السلام) [مفاتيح الجنان ص٥٩٤]
توفيت السيدة المباركة الجليلة حكيمة (سلام الله عليها) عام ٢٧٤هـ، ودُفنت بجوار مرقد الإمامين العسكريين (عليه السلام) في مدينة سامراء.