العلاقة بين المكلَّف (المنتظِر) وبين الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في عصر الغيبة الكبرى
السيد محمد القبانجي
بعيداً عن البدء بالتمهيد والمقدّمة والغور في عوالم العلاقات الاجتماعية وأسباب نشوئها واختلاف أهدافها وتنوّع أشكالها، أقول بعيداً عن كلّ هذا وذاك، فالبحث عن طبيعة العلاقة والارتباط بصاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه) في عصر الغيبة الكبرى من قبل المكلَّف المنتظِر يمكن أن يتمحور بثلاث نقاط:
١- الارتباط العقيدي.
٢- الارتباط التشريعي.
٣- الارتباط العاطفي.
النقطة الأولى: الارتباط العقيدي:
يتمثَّل هذا المحور من العلاقة مع الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في الإيمان به على أساس البرهان والدليل سواء أكان مستمدّاً من العقل كقاعدة اللطف وضرورة أن يكون هناك حجّة لله على الأرض لهداية الأمم والشعوب سواء أكان متمثّلاً بالرسول أو الإمام فيكون هو واسطة الفيض الإلهي.
أم كان مستمدّاً من النصّ الشرعي وهو متوفّر في العقيدة المهدوية بما يفوق التواتر الاجمالي أو المعنوي وحتَّى اللفظي.
ويمكن إجمال الارتباط العقيدي مع الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بالنقاط التالية:
١- الإيمان والاعتقاد بأنَّ الأرض لا تخلو من حجّة لله تعالى على خلقه.
٢- الاعتقاد بأنَّ خلفاء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اثنا عشر أوّلهم أمير المؤمنين (عليه السلام) وآخرهم مهدي آل محمّد (عجّل الله فرجه).
٣- الاعتقاد بأنَّ المهدي هو محمّد بن الحسن العسكري ابن الإمام علي الهادي (عليهم السلام) إلى أن يصل نسبه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) والزهراء (عليها السلام) بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
٤- الاعتقاد بأنَّه مولود سنة (٢٥٥هـ) وحصلت له غيبة بعد شهادة والده سنة (٢٦٠هـ)، وكان له نوّاب أربعة وبموت النائب الرابع علي بن محمّد السمري انقطعت الغيبة الصغرى وبدأت الغيبة الكبرى إلى أن يأذن الله تعالى له بالظهور.
٥- الاعتقاد بأنَّ له (عجّل الله فرجه) جميع المقامات المستحقّة للأئمّة (عليهم السلام)، وهو وارث علم الأوّلين والآخرين، وسوف يحقّق الله على يديه وعده الذي لا يُخلَف ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْـرِكُون﴾
وكما تصرّح الأحاديث الكثيرة على خلافته للأرض، نذكر منها للتبرّك حديثين شريفين:
١- عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول على المنبر: (إنَّ المهدي من عترتي من أهل بيتي، يخرج في آخر الزمان، ينزل له من السماء قطرها، وتخرج له الأرض بذرها، فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملأها القوم ظلماً وجوراً).
٢- عن أبي سعيد رفعه، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (من ولدي اثنا عشر نقيباً، نجباء، محدّثون، مفهَّمون، آخرهم القائم بالحقّ يملأها عدلاً كما ملئت جوراً).
النقطة الثانية: الارتباط التشريعي:
ونعني به العلاقة الشرعية بين المكلَّف وبين الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، ومن أين يحصّل المكلَّف على حكمه الشرعي خلال مسيرة حياته الفردية والاجتماعية أو العبادية والمعاملاتية.
إذ هناك دعاوى من شذّاذ الناس إلى أنَّ الإنسان المرتبط مع الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يمكن أن يأخذ أحكامه الشرعية منه مباشرةً، وهذه الشبهة يراد منها تضييع الدين، ومن خلاله ضياع الإنسان المكلَّف، إذ بعد انتهاء الغيبة الصغرى وانقطاع النيابة الخاصّة حوَّل الإمام (عجّل الله فرجه) الرجوع في أمور الدنيا والدين إلى فقهاء الأمّة ومراجعها، كما جاء في التوقيع الشريف: (وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنَّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم).
بل لقد أسَّس أهل البيت (عليهم السلام) للرجوع إلى الفقهاء من قبل ذلك حفاظاً على دين الناس ورعايةً لشؤون الأمّة، فقد جاء الحديث الشريف عن العسكري (عليه السلام): (من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه...).
النقطة الثالثة: الارتباط العاطفي:
يتمثَّل هذا المحور في إيجاد العامل الروحي والمعنوي للعلاقة مع الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) عند الإنسان المنتظِر، كيف يزيد من شعلة الحبّ والولاء له (عجّل الله فرجه)؟ كيف يستشعر وجوده المقدَّس في ليله ونهاره؟ هنا يتسائل كلّ منّا - نحن المنتظِرون - كم هو غافل عن مولاه وسيّده؟ أترى هل يذكره بشكل يومي، أسبوعي، شهري؟ وما هي نوعية الذكرى؟ هل هي ذكرى عابرة ودعاء لقلقة لسان أم هو تعبير صادق يحكي عن ألم القلب ولوعة الفؤاد ودمعة العين؟ في مثل هذه الأجواء الروحية ينبغي أن يستشعر المنتظِر كلّ آلام الإمام (عجّل الله فرجه) ويستوحي كلّ رغباته حتَّى يكون سابقاً إلى إرادته بعد أن كان ممتثلاً لأوامره، وهي مرتبة عالية للمنتظِر تجعله عارفاً بمكنون رغبات سيّده وما يريده مولاه، فيبادر إلى تنفيذ رغبته ومراده قبل التفوّه به وقبل أن يأمر به.
وهنا يكون اختلاف رتب المنتظِرين بشكل جلي واضح، وإن كان الاختلاف حاصلاً أيضاً في النقطة الأولى، لأنَّ العلاقة العقدية أيضاً ذات مراتب، والمعرفة العلمية بحقائق أهل البيت والإمام المهدي (عليهم السلام) تختلف باختلاف المقامات العلمية للإنسان المنتظِر، ولكن الذي يتجلّى واضحاً للعيان هو مراتب قرب المنتظِر العاطفي من المولى صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه)، فترى البعض لا يحسّ بوجود الإمام (عجّل الله فرجه) ورقابته عليه وألمه وحرقته على شيعته، وترى البعض عكس ذلك تماماً لا يرقى له جفن ولا يهدأ له بال، فهو متواصل الذكر ليله مع نهاره وفي سعادته وشقائه، وهذا ما عُبّر عنه في الرواية (نفس المهموم لنا المغتمّ لظلمنا تسبيح، وهمّه لأمرنا عبادة، وكتمانه لسرّنا جهاد في سبيل الله).
ويمكن إجمال محاور النقطة الثالثة بما يلي:
١- الارتباط الذكري (اللساني).
٢- الارتباط العملي (الفعلي).
٣- الارتباط القلبي وهو ما عُبّر عنه في بعض الروايات بالذكر الخفي، (وآنسنا بالذكر الخفي، واستعملنا بالعمل الزكي والسعي المرضي).
وختاماً نقول: إذا تحقَّق للإنسان المنتظِر هذه الأنواع الثلاثة من الارتباط كان مستحقّاً لأن يكون منتظِراً حقّاً، فالإمام لا يريد ارتباطاً عاطفياً أجوفاً بدون أن يكون مدعوماً بالدليل والبرهان العقلي والنقلي على صحَّة المسير وسلامة المعتقد، ودون أن يجسّد ذلك بنحو عملي في مسيرته الفقهية والشرعية باتّباع من اُمرنا باتّباعهم في عصر الغيبة وهم الفقهاء العدول، أمناء أهل البيت (عليهم السلام) على تراثهم وعلمهم.