حركة المهدي (عجّل الله فرجه) في سياق حركة التاريخ
بلال نعيم
تشترك الأديان السماوية في تبنيها فكرة الخلاص للبشرية على يد مخلص من عالم الغيب، وعن طريق حدثٍ غيبي من صناعة وتدبير الخالق عز ذكره، وإن كانت تختلف من حيث تشخيص العنصر والحدث وفي تسمية الرجل الإلهي الذي سيقوم بمهمة الخلاص العظمى. ونحن المسلمين نعتقد جميعاً بأن الرجل الذي ادخره الله تعالى لهذه المهمة هو آخر أحفاد نبي الإسلام محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم).
وبغضّ النظر عن الاختلافات في الشكل، فلدى المسلمين توافق بأن رجلاً من ولد فاطمة من ولد الحسين (عليهما السلام) سوف يخرج في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما تكون قد ملئت ظلماً وجوراً. وهذا التوافق هو نتيجة تواتر الأحاديث والروايات، فضلاً عن وجود الكثير من الآيات التي تتحدث عن آخر الزمان وأن العاقبة للمتقين، وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين، وأن الله سيمنّ على الذين استضعفوا في الأرض، وأنه كتب (لأغلبن أنا ورسلي).
وهذه المسألة تكاد تكون من المسلّمات لدى جميع المسلمين، أي إن هناك تحولاً عالمياً كبيراً نحو الحق والصلاح عن طريق ثورة إلهية يقوم بها إمام رباني من أحفاد محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم).
لكن الموضوع الذي يجب التوقف عنده هو بمثابة التساؤل عن السياق الذي سيحدث فيه هذا التحول من التسافل إلى التسامي، ومن الباطل إلى الحق، ومن شيوع الظلم إلى حلول العدالة، ومن انتشار الفساد والرذيلة إلى سيادة القيم والفضائل، وهل هذا التحول سوف يحصل نتيجة عوامل غيبية تشبه المعجزات التي كانت تحصل مع أنبياء الله السابقين، والتي عبرت عن تدخل الغيب مباشرة في عالم الشهادة وفق رؤية إلهية اقتضت حماية الدين والحق نتيجة تعرضه للهجمة من أهل الباطل، ما يستدعي الحفاظ على الدين من أجل بقاء وديمومة الحياة..
وهذا التدخل هو غير الحضور الغيبي في عالم الشهادة، هذا الحضور الدائم الذي لا يعرف الغياب والذي هو شاهد على كل عوالم الوجود، والذي يؤثر في رعاية البشر وإنزال الرزق عليهم واللطف في أحوالهم، والذي يؤثر أيضاً في التسديد والتوفيق والتأييد للصالحين ولمسيرتهم.. فالمقصود بالتدخل إذاً هو غير الحضور المتحقق دائماً، وإنما هو تدخل ليفرض معادلة تغيّر من آثار المعادلات الطبيعية، وتفرض نتائج وآثاراً مخالفة ومعاكسة لهذه المحاولات.. هذا من جهة، أم إن التحول الكبير المنتظر سوف يحصل بشكل طبيعي نتيجة الميل الفطري للإنسان نحو الكمال المتمثل في حقيقة القيم المودعة فيه، ما يجعل الإنسان بطبيعته يتأذى من غياب هذه القيم عن ساحة الوجود، فيروح يبحث عنها في العوالم الأخرى، في التطلع نحو الغيب موطن ميلاده الأصلي ومحل كماله، فتتحول أنظار العباد تدريجاً نحو ذلك الغيب، وتبدأ القلوب تهتف له أن مدّ إلينا يدك، فتأتي اليد من ذلك العالم، ويكون ذلك مقدمة طبيعية لعودة المسيح (عليه السلام) وظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) أرواحنا فداه.
إذاً التساؤل الكبير هو: هل تحوُّل الناس نحو الحق هو نتيجة معجزة أم نتيجة سير تكاملي للبشر؟!
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من استحضار الآية القرآنية التي تتحدث عن مسار الصراع بين الحق والباطل وعن نتيجة ذلك.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ...﴾.
إن الصراع بين الحق والباطل هو أمر حتمي، وسوف يستمر على مدى الدهور والأزمنة. وخلالها سوف يكون المشهد الظاهر هو للباطل الذي يعلو الحق، لكن علوَّه يكون بمثابة الزبد والقشرة، وتدريجاً سوف يدفع الحقُّ الذي هو الأصل المخبّأ في الإنسان الباطلَ الذي علاه، وسوف يتحول المشهد إلى إشراقة الحق من جديد، عندئذ تصبح الأرض بحاجة الى من يمثل تمامية الحق في وجوده، فتصبح الأرض كذلك جاهزة لاستقبال ذلك الوجه الحقاني لبقية الله الأعظم أرواحنا فداه، الذي يمهد له المؤمنون والحقانيون كل الظروف التي تسمح بالانقضاض على الباطل.. وعندئذ تفتح كل القلوب لإمام القلوب في ساحة الشهادة، ليحل إماماً في عالم الدنيا يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.. وهذا يعني أن حركة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هي السياق الطبيعي لحركة البشرية التي سوف تنزع نحو العدالة والقيم بعد طغيان الأشرار والاستكبار. ويكون الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) استجابة لصراخ الملايين من الأنفس البشرية التي تتعالى وتتضرع إلى الله لنجاتها من آثار الفساد، فيظهر الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ليقوم بالمهمة التاريخية العظمى التي عنوانها إزالة الفساد وآثاره، ليعم العالم السلام والأمن والطمأنينة والرخاء..