ما هو تأثير الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) على عالم الوجود؟
الشيخ جعفر السبحاني
من أكثر الأسئلة شيوعاً حول الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)؛ هو انّه ما فائدة وجود الإمام في عصر الغيبة؟
وبتعبير آخر: إنّ حياته في عصر الغيبة حياة شخصية خاصة وليست حياة اجتماعية يلعب فيها دور الإمام وعليه ما هي الفوائد التي يمنحها وجوده المقدس للناس جميعاً؟ وما هي نوع تلك الفائدة؟
ويجب أن نعرف أنّ غيبة الإمام (عجّل الله فرجه) لا تعني انّه حوّل إلى روح وأمواج غير مرئية، أو حلم وما يشابه ذلك، بل له حياة اعتيادية وطبيعية في هذا العالم غير إنّها مع عمر مديد؛ إنّ الإمام (عجّل الله فرجه) يمارس حياته في قلب المجتمع ويعيش في عدّة أماكن ولكن على شكل إنسان مجهول وهناك فرق بين اللامرئي والمجهول.
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: للقائم غيبتان يشهد في إحداهما المواسم يرى الناس ولا يرونه.
وحضوره في موسم الحجّ خير شاهد على حياته ولعلّه إشارة إلى أنّ الناس لا يرونه ولكن لا يعرفونه، وممّا يجب التأكيد عليه حول الإجابة على السؤال المذكور هو انّه ليس سؤالاً جديداً يطرح لأوّل مرّة في عصرنا، بل يظهر من الروايات إنّ هذا السؤال كان مطروحاً قبل ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) أيضاً و كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة السابقون (عليهم السلام) عندما يتحدّثون عن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وغيبته الطويلة يواجهون نفس هذا السؤال ويجيبون عليه فمثلاً:
١- قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رداً على سؤال: إنّ الشيعة هل تنتفع بالقائم في غيبته؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): أي والذي بعثني بالنبوة إنّهم لينتفعون به ويستضيئون بنور ولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن جلّلها السحاب.
٢- قال الإمام الصادق (عليه السلام): لم تخلو الأرض منذ خلق الله آدم من حجّة للّه فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجّة للّه فيها ولولا ذلك لم يعبد الله.
فسأل الراوي كيف ينتفع الناس بالحجّة الغائب المستور؟
قال الإمام (عليه السلام): كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب.
٣- وقد أكد الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) نفسه على هذا المعنى أيضاً ففي توقيع أصدره ردّاً على أسئلة إسحاق بن يعقوب وصل إليه على يد محمد بن عثمان كتب يقول (عجّل الله فرجه): وأمّا وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأبصار السحاب.
وتوضيحاً لهذا التشبيه يجب أن نؤكد على أنّ للشمس إضاءتين:
١- إضاءة مباشرة.
٢- إضاءة غير مباشرة .
ففي الأُولى تبدو أشعة الشمس مرئية واضحة، ولكن في الثانية يصبح السحاب مثل زجاجة داكنة تحجب ضوء الشمس المباشر، فينتشر فيه غير إنّ آثار الشمس الحيوية في نمو الموجودات لا تختص بالوقت الذي يكون فيه ضوؤها يشع على عالم الطبيعة مباشرة فقط بل إنّ كثيراً من هذه الآثار كحدوث الحرارة ونمو النباتات وتوليد الطاقة اللازمة للحركة والحياة وإثمار الأشجار وتفتح الأزهار تظل موجودة والشمس محجوبة وراء السحاب ولأشعة وجود الإمام (عجّل الله فرجه) الروحية عندما تكون محجوبة بغيوم الغيبة آثار مختلفة تبيّن فلسفته الوجودية على الرغم من توقّف دروسه التربوية والتعليمية وقيادته المباشرة وإليك بعض هذه الآثار.
١- روح العالم: إنّ الإمام (عجّل الله فرجه) في الرؤية الإسلامية وطبقاً لأحاديث وأخبار كثيرة وأدلّة قدمها العلماء هو روح العالم وانّ العالم متوقف عليه إنّ الإمام (عجّل الله فرجه) قلب عالم الوجود ونواة الوجود المركزية والواسطة في الفيض بين العالم وخالقه من هنا فانّ حضوره وغيبته سيان، ولو لم يكن في هذا العالم ولو مجهولاً لتلاشى عالم الوجود، كما قال الإمام الصادق (عليه السلام): لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت.
وقال الإمام الرابع (عليه السلام): ونحن الذين بنا يمسك الله السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها وبنا ينزل الغيث وبنا ينشر الرحمة ويخرج بركات الأرض ولولا ما في الأرض منا لساخت بأهلها.
٢- حماية دين الله وحفظه: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) حول ضرورة وجود القادة الإلهيين في كل عصر وزمان في إحدى كلماته: اللهمّ بلى لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجّة إمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته، إنّ مرور الزمن وامتزاج الآراء والأفكار الشخصية بالقضايا الدينية وتدخّل يد المفسرين في التعاليم السماوية جعل بعض القوانين الربانية تفقد أصالتها ويكون الدين عرضة للتغيّرات المضرة، فلأجل أن تصان أصالة الدين الإلهي وأن يسد الطريق بوجه الانحرافات والخرافات يجب أن يمسك الإمام المعصوم سكان هذه السفينة، فانّه في كلّ مؤسسة هامة يوجد هناك صندوق للأمان يودع فيه الوثائق المهمة حفظاً لها من السرقة أو الحريق وما شابه، وصدر الإمام (عجّل الله فرجه) وروحه العالية أيضاً هما صندوق الأمان لحفظ وثائق الدين الإلهي إبقاءً على جميع الأصالات الأوّلية والسمات السماوية لذلك الدين فيه.
كتب الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح صحيح البخاري وبعد أن روى الأحاديث التي تقول بأنّ النبي عيسى (عليه السلام) سيهبط إلى الأرض عند ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ويأتم به في الصلاة: وما يقال في أنّ عيسى سيأتم في الصلاة برجل من هذه الأُمّة في آخر الزمان دليل على ما صحّ عند العلماء من أنّ الأرض لا تخلو من حجّة يخرج للّه بالبراهين الساطعة.
٣- بعث الأمل في النفوس: تتركز جميع جهود الجنود والمقاتلين الصناديد في ساحة المعركة على هذا الأمر وهو أن تظل راية الجيش ترفرف أمام هجمات الأعداء وفي المقابل يحاول جنود الأعداء أن يجعلوا رايتهم منكوسة دائماً لأنّ بقاء الراية مرفرفة يبعث القوة في الجنود ويزرع الأمل ويرفع من متصلة حية فالدين اليهودي ختم النبوة التي هي علاقة واقعية بين الله والعالم الإنساني في النبي موسى (عليه السلام) وأنكر نبوة المسيح (عليه السلام) ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذلك، كذلك المسيحيون توقّفوا عند المسيح أيضاً، وتوقّف أهل السنّة عند النبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً واعتقدوا أنّ علاقة الخالق بمخلوقه قد انتهت بخاتميته.
وأمّا المذهب الشيعي فهو المذهب الوحيد الذي يؤمن بأنّ النبوة ختمت بنبوة النبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) غير انّه يعتقد بأنّ الولاية التي هي علاقة الهداية المكملة مستمرة حية بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الأبد، والحمد للّه ربّ العالمين معنوياتهم كذلك وجود القائد في مقر القيادة وإن كان صامتاً يجعل الدماء تجري بسرعة في شرايينهم ويحثّهم على بذل قصارى جهدهم فيقولون: قائدنا حيٌّ ورايتنا ترفرف عالية.
فبمجرد أن ينتشر نبأ قتل القائد بين الجيش يصاب الجيش مهما كان عظيماً وكفوءاً بالإحباط ويتلاشى، ومادام رئيس المجموعة أو الجيش حياً فانّه يبعث الحيوية والنشاط والاطمئنان والأمان في نفوسهم، حتى لو كان مسافراً أو راقداً في الفراش غير أنّ سماع نبأ موته ينثر غبار اليأس والخيبة والإحباط على رؤوس الجميع، والشيعة ووفقاً لعقيدتهم في الإمام الحي الغائب لا يرون أنفسهم وحيدين بعيدين عن قائدهم بالرغم من أنّهم لا يشاهدونه بينهم والأثر النفسي لهذه العقيدة في إبقاء سراج الأمل وهاجاً في قلوبهم وحثّهم على تربية وإعداد أنفسهم لتلك الثورة العالمية الكبرى أمر ممكن دركه واستيعابه.
وقال البروفسور هنري كربن أستاذ الفلسفة في جامعة السوربون والمستشرق الفرنسي الشهير: أعتقد إنّ المذهب الشيعي هو المذهب الوحيد الذي حافظ على علاقة الهداية الإلهية بين الخالق والمخلوق إلى الأبد فقد جعل الولاية مستمرة حية بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).