الحقيقة التاريخية في ضوء النقد التحليلي
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الحقيقة التاريخية تنطلق في ضوء النقد التاريخي للأحداث من وقائع شواهدها، وتنعقد بتظافر أخبارها، وتتأكد بتواتر رواياتها، وإن موضوعاً واحداً حفل بأربعين فصلاً اشتملت على آلاف الأحاديث الشريفة في كتاب واحد، جدير بثبوته متواتراً، إذ بلغت تلك الأحاديث من الشهرة والاستفاضة والتعددية ولمختلف طوائف الأمة الإسلامية حداً يقطع معه بصحة ذلك الموضوع.
وإن موضوعاً واحداً احتضنه علماء الإمامية في إثني عشر قرناً بالدرس والتمحيص والتعقيب والتنظير والمحاججة لحري بأن يكشف عن أسرار ثبوته ووسائل إثباته.
يضاف إلى ذلك كله أن أكثر من مائة عالم من علماء الجمهور قد عرضوا له بالبحث والإقرار في كتب الحديث والسيرة والتراجم والتواريخ والعقائد، مما يبرهن على أهميته، ويدعو إلى التدبر الواعي في آثاره البارزة.
وقد حدب علماؤنا الأعلام سلفاً وخلفاً على تخصيص مصنفات سائرة عن الإمام المنتظر تجاوزت حد الإحصاء كثرةً وتفصيلاً، وهم يطرحون قضيته في ضوء الحديث المتواتر، ويبحثون مفرداته المتعددة في ضوء البراهين والحجج القاطعة، مما يوحي بداهةً بأنه حقيقة تاريخية محضة، لا فرضية فلسفية طارئة، وذلك ما يجعل البحث عنه متداولاً، والحديث عنه مطرداً، والاعتقاد به أمراً ضرورياً لازماً، لأنه في نظر الإمامية من أصول الدين، ويلي النبوة مباشرة.
أما مصنفات المسلمين الأخرى التي عرضت للموضوع في طياتها، أو أفردته بكتاب خاص به، فتتعدى حدود الإحصاء، فلا أعلم كتاباً حديثياً واحداً لدى الجمهور إلا وفيه أحاديث عديدة، أوردت جزءاً يعتد به مما نتحدث عنه، إما بالتصريح أو الصفة، أو الكناية نظراً للظروف السياسية التي تحيط بهم وبالموضوع.
أما كتب الفكر والعقيدة وعلم الكلام فقد أوردت إقرارها بالموضوع حيناً، أو استفسارها عن حقيقة الأمر حينا آخر، أو تشكيكها لا في أصل الموضوع بل بشيء من آثاره، أو لمحة من أخباره.
ومبدأ المصلح المنتظر والقائد المنقذ تستوي الديانات السماوية في إيراده، وإثبات أصالته في صلب العقائد والأديان، وكان التشخيص مختلفاً بذواته، متحداً بمبدئه.
وليس هناك من المسلمين من ينكر هذه الحقيقة إطلاقاً، فقد أجمعوا أن علوياً من ذرية علي والزهراء عليهم السلام، سوف يتسلم قيادة الأمة الإسلامية آخر الزمان، إلا أنهم افترقوا في ذلك تاريخياً، فطائفة تقول بولادته وغيبته من الفريقين، وأخرى تقول بأنه سيولد فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
وعلى هذا فأصل الموضوع ثابت كمبدأ أولي، وإنما الاختلاف في تاريخه، تاريخ الولادة والإيجاد، لا تاريخ الحقيقة والأصل.
وفي هذا الضوء يكون الإقرار بالمبدأ متوافراً، والإعلان بالإيذان في تحقيقه مختلفاً زمانياً، وبهذا القدر الجامع يكون المنقذ الأعظم المبشر به من قبل الرسول الأعظم حقيقة تاريخية، لا أطروحة جدلية، تحقيقا للوعد الإلهي الحق في سياق قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾.
وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾.
وفي الآيتين الكريمتين دلالة مؤكدة على تنفيذ وعد الله وإجلاله بإظهار الدين الإسلامي على بقية الأديان في الأرض، وقد جعل ذاته القدسية شهيداً على هذا الوعد في الآية الأولى، وقد صرح في الآية الثانية بكراهية المشركين لذلك وهو مع هذا سيظهر دينه آجلاً أو عاجلاً.
والواقع على الأرض أمس واليوم يشهد بأن المسيحية هي الظاهرة بكثرتها وأعدادها وقواها، ولابد للوعد الإلهي أن يتحقق، والدلالة الإيحائية في النص القرآني تشهد بأن الوعد سيتحقق، ويكون ذلك ملتصقاً بصاحب الرسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وصاحب الأمر (عجّل الله فرجه)، يمثل الأطروحة نفسها في السعي لإظهار دين الله تعالى، وهو من رسول الله نسباً وعملاً، وسيكون ظهور الدين على يديه حينما يعيد الإسلام غضاً طرياً نابضاً بالحركة والحياة بعد اندراس معالمه، وذلك لدى قيام الدولة العالمية للإسلام بظهوره الشريف المرتقب.
ولا غرابة أن يكون الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه) المصداق البارز لقوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ﴾.
وفي الوراثة في الآية دلالة مركزية تعني صيرورة مصير الأرض لمن يرثها -بتقدير وتقرير من الله تعالى- من المستضعفين الذين سيجعلهم أئمة يرثون الأرض وما عليها، وبهذا وذاك وسواهما تتجلى مصداقية الوعد الإلهي الحق.
وقد أجمع الإمامية على ذلك، فهم إمامية إثنا عشرية، وقد سبق لأحد عشر إماماً القيام بمنصب الولاية الإلهية، فلابد لصاحب الأمر (عجّل الله فرجه) من القيام بذلك لأنه الإمام الثاني عشر لدى الإمامية إجماعاً، وذلك لأن العقل السليم -فضلاً عن الأحاديث الشريفة- يقضي بوجوب الرئاسة الدينية وقيادتها في الأرض في كل زمان، وإلا لما بلغت رسالة الإسلام، إذ لابد لله في الأرض من حجة، لابد لهذا القائد من العصمة لأداء الرسالة دون سهو أو نسيان ولا زيادة أو نقصان، وليكون التبليغ متكاملاً، والقيام بالأمر صادعاً، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنه قال: (إن الأرض لو بقيت بغير إمام ساعةً لساخت).
ولما ثبتت إمامة آبائه (عليهم السلام) بالنص والمؤهلات العليا، فقد ثبتت إمامة صاحب الأمر (عجّل الله فرجه) بالنص عليه أيضاً، ولما كانت الحاجة إلى إمام مفترض الطاعة في كل العصور، كان الإيمان بوجوده ضرورياً إذ لم يدع عند الإمامية إمام موجود غيره، ولا ادعى أحد الوجود سواه، فكان القول بوجوده بناء على المقدمات العقلية نتيجة عقلية لا مناص عنها.
قال الشيخ الطوسي (ت ٤٦٠ هـ):
(إن الإمام اليوم هو: الخلف الحجة القائم المنتظر المهدي محمد بن الحسن صاحب الزمان... وإن المهدي حيٌ موجود من زمن أبيه الحسن العسكري إلى زماننا هذا بدليل: أن كل زمان لابد فيه من إمام معصوم، مع أن الإمامة لطف، واللطف واجب على الله تعالى في كل وقت).
وليس أمراً جديداً بحكم العقل أن على كل من قال بإمامة الأحد عشر إماماً من آباء صاحب الأمر -أو ظهر له القول بذلك وإن لم يتخذه معتقداً- لزمه القول بإمامته (عجّل الله فرجه) باعتباره الثاني عشر منهم، ولنصوص آبائه عليه باسمه ونسبه، ولإجماع شيعتهم على القول بإمامته، وأنه القائم الذي يظهر بعد غيبة طويلة، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
وهكذا الأمر عند الإمامية، وهو الصواب من معتقدهم، وهو مما لا يختلف به إثنان منهم.
والأحاديث التي يرويها علماء الجمهور تؤكد على حقائق ذات أهمية خاصة لأنها تغني عن التمحل وضبابية الرؤية، ففيها وضوح الأمر، ومأثور من السنة، وتواتر في الأخبار، مما يدحض الشك باليقين، ويدفع بالشبهات وراء الأكمات، فقد روى البخاري بسنده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: (قال رسول الله: كيف أنتم إذ نزل ابن مريم فيكم، وإمامكم منكم).
ومثله في صحيح مسلم، وقد رواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (كيف بكم إذا نزل فيكم ابن مريم حكماً، فأمكم، أو قال: وإمامكم منكم).
وعن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (... فيلتفت المهدي، وقد نزل عيسى (عليه السلام) كأنما يقطر من شعره الماء، فيقول المهدي: تقدم بالناس!! فيقول عيسى: إنما أقيمت الصلاة لك، فيصلي عيسى خلف رجل من ولدي، فإذا صليت قام عيسى حتى يجلس في المقام فيبايعه).
وهنا تأكيد أن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يصلي بعد الظهور جماعة، ويصلي خلفه عيسى (عليه السلام)، وإذا ثبت هذا متواتراً، فالمقدمات من الولادة والإمامة والغيبة والظهور للإمام (عجّل الله فرجه) لا خلاف فيها، والنتائج الصحيحة تبنى على مقدمات صحيحة.
وهناك روايات بالعشرات تؤكد أن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) من عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن ولد فاطمة (عليها السلام).
وأن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وجهه كالكوب الدري من ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وهذه الأحاديث التي أشرنا إلى مصادرها وأعطينا مضامينها تؤكد صراحة: أن صاحب الأمر من العترة النبوية الطاهرة، وأنه سيقاتل على السنة كما قاتل جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الوحي، وأن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) سيصلي خلفه عيسى بن مريم (عليهما السلام)، وأنه من ذرية فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وأن وجهه كالكوب الدري.
ويستظهر من هذا أن الإمام (عجّل الله فرجه) في ظهوره وقيامه بالأمر امتداداً للرسالة -دون أدنى شك- في الأداء والتنفيذ، وأن نبياً له منزلته العظمى عند الله تعالى، ومن أولي العزم، وهو عيسى (عليه السلام) يأتم به، ويصلي خلفه (عجّل الله فرجه).
وهذه مفردات لها أهميتها أعربت عنها مئات الأحاديث المسندة، مما يقطع دابر المشككين والمرجفين والمنكرين والحاقدين باعتبار الأمر حقيقة تاريخية ثابتة بالدليل والحس والوجدان.
وهذا ما يوحي بحتمية وجود الحجة حياً في الأرض، منذ ولادته حتى اليوم الموعود بظهوره المبارك، وإقامة دولة الحق والعدل الإلهي في آخر الزمان.