ولادته ونشأته:
ولد محمد إسحاق سنة ١٩٣٠م في قرية (صوبة) إحدى قرى محافظة (غزني) في وسط أفغانستان الواقعة جنوب العاصمة كابل ، وهو ثاني أبناء والده محمد رضا من أخوه محمد أيوب ، وكان والده رحمه الله المتوفى سنة ١٩٨٩م فلاحا بسيطا يعمل عند بعض المتمولين في القرية من ملاك الأراضي ، ليقتات من كد يمينه وعرق جبينه في إعاشة عياله ، إلا أنه كان غنيا بالإيمان وغني بما يغدقه من عطف وحنان على أسرته ، مشفوعا بحب الرسول الكريم وآله الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . وقد كان يرى ذلك المؤمن المزارع البسيط في ولده محمد إسحاق من علامات النبوغ والذكاء ما ألزمه أن يوليه اهتماما ورعاية خاصة ، وكأنه يقرأ في ملامح ولده مذ ولادته ما يكون عليه الوليد في مستقبل الأيام من مقام علمي وفضل وورع وتقوى يؤهله للقيام بدور بارز في خدمة دينه والمؤمنين .
بداية تعليمه:
كان يرسله والده إلى مكتب شيخ القرية يوميا -حيث لا توجد مدارس نظامية في القرية آنذاك- ليتعلم مبادئ القراءة والكتابة وتعلم القرآن ، وهو في الخامسة من العمر ، وفي فصول الشتاء ، يحمل الوالد الكريم صغيره على ظهره مغطيا إياه بما يكفي لحمايته من البرد القارص عبر الطرق الوعرة والثلوج الكثيفة ، ليوصله إلى مكتب الشيخ صباحا ويعود به إلى البيت مساء وهكذا ليتغذى الولد النبيل من مناهل العلم والمعرفة والأخلاق ، وينعم بالعطف والحنان ، فيشب على الإيمان وحب آل البيت عليهم السلام ويقرر إكمال دراساته في الحوزات الدينية كما كان ذلك رغبة والده رحمه الله ، فقرأ على شيخ القرية أبجديات العلوم وتعلم القرآن ، ومن ثم كتاب جامع المقدمات وهو كتاب يتمل على أكثر من عشر كتب مختصرة في النحو والصرف والمنطق والأخلاق لعدة مؤلفين ، يدرسها طلاب العلوم الدينية كمقدمة للكتب اللاحقة المقررة في الحوزات ، ولذلك سميت تلك المختصرات بـ(جامع المقدمات).
المدرسة الدينية:
انتقل الطالب المجد بعد مكتب شيخ القرية إلى قرية (حوت قل) المجاورة وهو ابن الخامس عشر من العمر لينظم إلى صفوف المدرسة الدينية التي أسسها الشيخ قربانعلي وحيدي رحمه الله وهو من خريجي مدرسة النجف الأشرف في العراق.
أكمل في تلك المدرسة قراءة كتاب (جامع المقدمات) وكتاب (البهجة المرضية في شرح الألفية) المعروف في الأوساط الدراسية بكتاب السيوطي نسبة إلى مؤلفه جلال الدين السيوطي المتوفى ٩١١هـ في النحو وقواعد اللغة العربية لأربع سنوات ، وعند أساتذتها كالشيخ ملا إسماعيل وملا حيدر علي رحمهما الله تعالى .
وكان نظام المدرسة حينها يكفل للطالب مكان الإقامة والمبيت في إحدى غرفها الصغيرة ، وعلى الطالب أن يتكفل بمصاريفه الشخصية من اللباس والطعام الذي كان عادة ما يتكون من جلب الطحين من منازلهم لتقوم بعض نساء القرية بعجنها وعملها خبزا للطلاب من دون أجر .
وفاة والدته والانتقال إلى مشهد:
في تلك الفترة فقد محمد إسحاق والدته رحمها الله حيث وافاها الأجل المحتوم اثر مرض ألم بها ، فحزن لفقدها وتألم كثيرا ، حيث فقد معها العطف وحنان الأمومة ، إلا أن المصاب رغم فداحته لم يثنه عن مواصلة التعلم ، بل زاده إصرارا حتى قرر الانتقال من مدرسة القرية إلى مدينة مشهد المقدسة في إيران ، وذلك كخطوة أولى منه ، لما يدور في ذهنه ويعمل من أجله بشغف بالغ متمنيا تحقيق أمنية ، ألا وهو الانتقال إلى الحوزة العلمية الدينية بالعريقة في النجف الأشرف في العراق .
في مدينة الإمام الرضا عليه السلام:
استقر الشيخ محمد إسحاق لسنة واحدة في مدرسة (الحاج حسن) الواقعة في منطقة (بالا خيابان) والتي شملها مشروع توسعة الحرم الرضوي فيما بعد ، فتهدمت المدرسة ووقعت ضمن الساحة الكبيرة للحرم المقدس حاليا ، قرأ خلالها كتاب (حاشية ملا عبدالله) وهو الحاشية على كتاب (تهذيب المنطق) للمولى عبدالله بن شهاب الدين الحسيني المتوفى ٩٨١هـ ، ومقدار من كتاب (المطول) لسعد الدين التفتازاني ، في علم المعاني والبيان والبديع ، قرأها عند الأستاذ الشهير الشيخ محمد حسين النيشابوري المعروف بالأديب النيشابوري رحمه الله ، وهناك لاحظ الشيخ التلميذ مفارقة في نمط الاستفادة من الأستاذ ونظام التدريس ، حيث الأستاذ النيشابوري يطلب أجرا على تعليم الطلاب ولو كان رمزيا ، وذلك لتأمين عيشه البسيط من ناحية ، وليتأكد من وجود الطلبة المجدين في تحصيل العلم وليس مجرد الحضور الرسمي في مجلس درسه من ناحية أخرى ، وكان سماحة المرحوم آية الله السيد يونس الأردبيلي العالم الكبير المعروف في مدينة مشهد وهو الذي يتكفل بتأمين خبز الطلبة ، كما كان العالم الجليل المرحوم الشيخ أحمد الكفائي نجل آية الله الشيخ الآخوند ، وهو المتولي المسؤول على المدارس الدينية في مشهد المقدسة يعطي الطلاب مبلغا شهريا بمقدار أربعين ريالا (نصف دولار تقريبا في حينها) ، وبهذا المبلغ البسيط يؤمن الطالب حياته اليومية البسيطة بأدنى متطلباتها .
هدفه الوصول إلى النجف:
إن تلك الأمور وغيرها من المتاعب التي كانت تواجهه,لم تكن تعني للطالب المجد والمثابر شيئاً سوى المزيد من الإصرار في التعلم وبلوغ مرامه للوصول للحوزة العلمية الدينية في النجف الأشرف في العراق, وهو في بحث وسؤال دائمين حول طريق السفر, حيث كان قد ترسخ في ذهنه - وهو طالب صغير في قريته - أهمية النجف وخصوصيته, لما كان يسمعه من فضل النجف مدينة وحوزة على غيرها من المدن والحوزات ,وذلك مما يدور في أحاديث الطلبة وأساتيذهم وبخاصة العلماء الذين كانوا قد تخرجوا من النجف واستقروا في مناطقهم, ومنهم مؤسس المدرسة الدينية التي درس فيها في قرية <<حوت قل>> , أو من أولئك الذين كانوا مازالوا مستمرين في النجف ويترددون في الزيارات إلى أهليهم , فينقلون في مجالسهم ومحاضراتهم , الخصوصيات والميزات بين الحوزات التي زاروها أو استقروا لبعض الوقت فيها , ويذكرون أفضلية النجف على غيرها , يقول الشيخ الفياض في هذا الصدد: << أول ما سمعت باسم النجف ومرتبة الحوزة العلمية فيها , كان من شيخ قريتنا , ومن ثم في المدرسة الدينية , وكلما كنا نسمع عن النجف شيئاً كنا نسمع عن المبرز فيها , ألا وهو السيد الخوئي، وذلك بواسطة الأفاضل من تلامذته أمثال الشيخ عزيز الكابلي , والسيد محمد حسن الرئيس , والشيخ محمد علي المدرس رحمة الله تعالى عليهم أجمعين.
تأثيرات النجف على وافديها:
ولقد كان من تأثير العوامل الدينية المتقدم ذكرها وزهد العلماء والعادات الاجتماعية والثقافة والمكانة العامة ، أن أنجبت أقطابا تمحضت أقوالهم وأفعالهم لله وحده ، فإن نطقوا ففي نطقهم الصدق والهداية ، وان سكنوا ففي سكونهم التفكير والطاعة وصلاح الأمة ، وإن فعلوا ففي فعلهم الخير ، وإن آخوا آخوا في الله ، وإن عادوا عادوا في الله وحده .
وسماحة آية الله الشيخ محمد إسحاق الفياض واحد من أولئك الذين هاجر إلى النجف الأشرف ، ونهل من نمير علومها وتربى في مدرستها وتحلى بآدابها وأخلاقها ، تلميذا مجدا ومن ثم أستاذا بارعا ، حتى أصبح زعيما من زعمائها وواحدا من المبرزين بين علمائها الكبار ، الذي تقع على عاتقه مسؤولية واحدة من أهم الحلقات الدراسية فيها وكذلك مرجعية الناس في التقليد .
رحلة الشيخ إلى العراق:
انتقل الشيخ الفياض بعد عام من الدرس في حوزة مدينة مشهد -كما تقدم - إلى مدينة قم المقدسة لزيارة قبر السيدة المعصومة أخت الإمام الرضا عليه السلام ومنها انتقل إلى مدينة أهواز، فالمحمرة، حيث نزل في فندق، وبعد فترة اتصل بالسيد الجليل السيد أبو حسن البحراني رحمه الله، الذي كان إمام المحمرة ومن الشخصيات الدينية المعروفة هناك، وقد قام بترتيب أمر سفره إلى البصرة وأوصى السيد الجليل الدليل بأن يأخذ الضيف إلى البصرة،إلى منزل الشيخ عبد المهدي المظفر رحمه الله،وهومن الشخصيات اللامعة في البصرة والذي كان بيته مأوى للناس، حيث المجلس الكبير والمضيف العامر والكرم والخلق الإسلامي الرفيع وخدمة المؤمنين.
من البصرة إلى النجف:
بقي الشيخ محمد إسحاق عند الشيخ المضفر مدة يومين، حتى تمكن الشيخ المضفر من ترتيب أمر سفره بواسطة السيد علي الحكاك صاحب المسافر خانه المعروف في البصرة، إلى النجف الأشرف عن طريق القطار الذي أوصله إلى مدينة المسيب على مسافة (٦٠كم) جنوب العاصمة بغداد، فنزل منها إلى مدينة كربلاء المقدسة، وبعد زيارة حرمي الإمام الحسين وأخيه العباس عليهما السلام انتقل في اليوم نفسه إلى النجف الأشرف، بعد أداء مراسم الزيارة في حرم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، نزل ضيفاً عند الشيخ غلام حسين أحد طلاب مدرسة (السليمية) الواقعة في محلة المشراق.
في النجف الأشرف:
وصل الطالب الجديد إلى النجف وهو شاب في مقتبل ربيعه الثامن عشر، وقد مر في طريقه إليها -كما تقدم- بتجارب عديدة أصقلت مواهبه وعلمته بعض مصاعب الحياة على اختلاف أنواعها والفرق بين نظم العيش والأخلاق والعادات في مدن عديدة مختلفة، إلا أن للنجف الأشرف كمدينة وللحوزة العلمية فيها كمدرسة، صعوباتها وظروفها الخاصة ومتاعبها كما هي العادات والتقاليد المختلفة بين الشعوب والبلدان،مقابل ما لها من خصوصيات إيجابية في مقدمتها بركة وجود مرقد أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام، والانفتاح والتقدم العلمي لحوزتها الدينية التي أهلتها أن تتصدر الحوزات الأخرى وتتزعم قيادتها وتخرج آلاف العلماء وتستقر فيها المرجعية العليا للطائفة، ولينشد إليها أفكار وأنظار طلاب وعشاق علوم أهل البيت عليهم السلام ومواليهم من جميع نقاط العالم .
وعلى النزيل الجديد تقع مسؤولية التكيف مع تلك الظروف وتحمل تخطي صعابها بناء على قدرته في الإصرار والمثابرة على الاستمرار ، ابتداء من تحمل مناخها الحار الشيديد صيفا والبارد القارص شتاء ، إلى ضرورة تعلم اللغة العربية أولا للواردين إليها من غير المتكلمين بها ، والبحث عن مكان مناسب للإقامة ، والتفتيش بين مئات الحلقات الدراسية الموجودة والمنتشرة في عشرات المدارس والمساجد في أطراف المدينة للعثور على الحلقة المناسبة للتلميذ من حيث المستوى والأستاذ والمباحث ، وكيفية الحصول على الكتب الدراسية المنتظمة أو تلك التي يحتاجها الطالب لمطالعاته الخاصة في الحقول المختلفة ، إلى التعرف على الطلاب الآخرين ومستواهم العلمي والأخلاقي لإختيار البعض منهم كزملاء في البحث والدرس ، إلى ضرورة تأمين المواد اللازمة للمأكل والملبس وضرورات العيش ، وغيرها ، ويقول الشيخ محمد إسحاق الفياض في هذا الصدد: (كان قدومي إلى النجف الأشرف بسنوات بعد وفاة السيد أبو الحسن الأصفهاني ، وفي أواخر فترة العهد الملكي ، وأوائل فترة مرجعية السيد محسن الحكيم الذي كان قد أجرى راتبا شهريا للطلبة بمقدار دينارين للطالب المعيل ومبلغ دينار للطالب الأعزب من أمثالنا ، وكنا غالبا ما نأكل الخبز والبصل ، ولا يخطر ببال أحدنا أن يأكل يوما شيئا مما يسمى بالفواكه) .
زيارة العلماء والمدارس:
ما إن استقر الطالب الجديد والضيف النزيل عند أحد الطلاب من بني قومه الذي كان قد سبقه إلى النجف ، مشاركا إياه في غرفته الصغيرة من غرف مدرسة السليمية حتى بدأ بزيارة العلماء والمراجع لأداء واجب الاحترام ، والتعرف عليهم عن قرب ، وطلب التوجيه والإرشاد منهم في المهمة التي نذر نفسه بها ، ألا وهي طلب العلم وخدمة الدين والمؤمنين ، كما قام بزيارة عدد من المدارس والمساجد التي تكتض بالأساتذة وجموع الطلبة في حلقات الدرس والبحث هنا وهناك ، وقد كان عونه في تلك الأمور سماحة العلامة المغفور له الشيخ محمد علي الأفغاني المعروف بالمدرس والذي كان من المهتمين والمتابعين لتسهيل وإنجاز أمور الطلبة وقضاء حوائج بني قومه من الطلبة المقمين في النجف الأشرف وبخاصة الوافدين الجدد منهم ، وهو الأستاذ البارع الشهير لمرحلة المقدمات والسطوح ، ولذلك لقب بالمدرس فقط أخذ الشيخ الفياض معه إلى زيارة المرحوم آية الله السيد محسن الحكيم في مجلسه العام وزار السيد الخوئي في منزله لعلاقة الشيخ المدرس الخاصة وقربه منه .
الاستقرار في المدرسة:
بقي الشيخ محمد إسحاق يشارك مضيفه الشيخ غلام حسين في غرفته الصغيرة في مدرسة السليمية لعدة أشهر ، حتى قرر زميله إكمال نصف دينه بالزواج وقد وفقه الله تعالى لذلك ، فترك الإقامة في المدرسة وانتقل إلى منزله الجديد ، واستقر الشيخ محمد إسحاق في الغرفة منفردا بها ، منكبا على الدرس والبحث والمطالعة والكتابة .
الدروس والأساتذة:
منذ وصول الشيخ الفياض إلى النجف واستقراره في المدرسة، بدأ في شوق وجد واجتهاد دون كلل أو ملل بإكمال ما تبقى عند إكمالها من الكتب التي قرأها في مدرسة القرية أو في حوزة مشهد، فقرأ كتاب (قوانين الأصول) لأبي القاسم القمي والمعروف في الحوزات بكتاب (القوانين)، وكتاب (حاشية ملا عبد الله)، وقسم من كتاب (الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية) عند المرحوم الشيخ ميرزا كاظم التبريزي، وأكمل كتاب (اللمعة) عند المرحوم السيد أسد الله المدني والشيخ ميرزا علي الفلسفي دام ظله، كما أكمل كتاب (المطول) عند المرحوم الشيخ محمد علي المدرس.
ثم انتقل الطالب المجد إلى دراسة مرحلة السطوح ليتأهل لحضور بحوث الخارج لدى العلماء الكبار ، فقرأ كتب (الكفاية) للشيخ الآخوند الخراساني، وكتابي (الرسائل) و (المكاسب المحرمة) للشيخ مرتضى الأنصاري عند المرحوم الشيخ مجتبى اللنكراني، كما أن في تلك الفترة يتباحث في الكتب التي يدرسها مع بعض زملائه ، ويدرس ما فرغ من تحصيله إلى الطلبة المبتدئين من بعده، كما هو المتعارف في نظام التعليم في الحوزة الدينية في النجف الأشرف ، حيث يتمرن الطالب منذ البدء ، على تعلم نظام التدريس وهو يدرس مرحلة أعلى، فهو تلميذ وأستاذ في وقت واحد، وتسمّى تلك المرحلة في عرف الحوزات الدينية بمرحلة السطوح التي تستغرق حوالي خمس سنوات للطالب المجد والمثابر، والتي انتهى منها الشيخ الفياض بأقل من تلك المدة، وسرعان ما التحق بحلقات بحوث كبار العلماء لمرحلة الخارج.
بحث الخارج:
بعد أن وقف الشيخ الفياض على الآفاق الرحبة للفكر الإسلامي واعتاد الأجواء العلمية والروحانية منها، في مراحل دراسة السطوح، حيث الكتب الدراسية المعهودة التي قرأها على أفاضل علماء وأساتيذ الحوزة العلمية من المتقدمين ذكرهم، وقد أكملها بتفوق ملحوظ وإشادة من أساتذته، انتقل إلى المرحلة الدراسية المعروفة ببحث الخارج، حيث تقع مهمة التحضير والإعداد على الطالب نفسه،من غير أن يتقيد بمصدر علمي أو كتاب خاص، فيقوم الطالب بنفسه قبل أن يحضر المحاضرة بإعداد مادة المحاضرة من فقه أو أصول،ثم مراجعة أقوال العلماء في هذه المادة وما يمكن أن يصلح دليلا لها، وما يمكن أن يناقش به هذا الدليل، ثم يحاول الطالب أن يستخلص لنفسه رأياً خاصاً في هذه المسألة، فإذا فرغ من هذا الإعداد، حضر إلى درس الأستاذ ليستمع إلى توجيهاته، والبحث عن أطرافها وعما يتصل بها، وطرح آراء كبار العلماء في المسألة وما يمكن أن يصلح دليلا لها، وما يمكن أن تناقش به، ورأي الأستاذ في نهاية المطاف، وقد اعتاد الأساتذة في المدرسة النجفية، على أن يجمعوا بين وقار الشيخوخة وإنصاف الحق وأتباعه حيثما كان ومن دون نظر إلى الوضع الخاص للطالب أو عمره، ومن ذلك يظهر أن للدرس الخارج في النجف الأشرف نحو من الإشراف والتوجيه العام علمياً وأخلاقياً وصقل المواهب، ثم يقوم به أساتذة متضلعون، مارسوا طويلاً التدريس والبحث والتنظير، وعرفوا بإصابة الفكر وعمق النظرة ودقة الإلتفاتة وسعة الإحاطة، وتتسع حلقات الدرس الخارجي تبعاً لشهرة الأستاذ العلمية ومدى نجاحه في البيان وطريقة العرض وقوة الدليل في مناقشة الآراء وما يطرحه من جديد في ذلك المجال.
ويستمر الطالب على هذا النمط الخاص من الدراسة في الفقه والأصول حتى يبلغ مرحلة الاجتهاد في الوقت نفسه في الوقت نفسه الذي يقوم فيه أيضاً بإدارة حلقات دراسية خاصة في مرحلة السطوح، كما تقدم، وعندما يبلغ الطالب مرحلة الاجتهاد في البحث والاستنباط وصوغ الدليل والجمع بين الأحاديث ووجوه الرأي، ومناقشة الأقوال، فيستقل الطالب، بعد هذه المرحلة الطويلة التي قد تستغرق أكثر من ربع قرن، بالاجتهاد وإبداء الرأي والتوجيه.
وقيل في مصطلح (بحث الخارج) أنه أطلق على هذه المرحلة لأن التدريس فيها يتم خارج متن الكتب، فهو لا يعتمد على رأي خاص ولا على عبارة كتاب معين كما هو في المراحل السابقة، ويتمرن الطالب في أثناء مزاولة هذه المرحلة من الدراسات العليا على الاجتهاد في الرأي، فلا يخرج منها إلا وهو واثق من نفسه في سعة أفقه ودقة آرائه وتحقيقها.
والطابع العام لحلقات بحث الخارج هو الحرية الكاملة في الرأي والتعبير، مستفادة من حرية الاجتهاد التي تدخل في تكوين الشخصية العلمية في مدرسة النجف، ولذلك من حق الطالب أن يقطع على الأستاذ المحاضر درسه ويناقشه في بعض آرائه، ولا يجد الأستاذ مهما بلغت شهرته العلمية، حرجاً في أن ينزل عند رأي الطالب إذا وجد الحق إلى جانبه، وقد يحضر بحث الخارج في كثير من الأحيان مجتهدون كبار كما كان في مجلس بحث السيد الخوئي، عندما أصبح أستاذاً لهذا الدرس، وعليه فإنه في مثل هذا الجو العامر بالبحث والتحقيق والتعميق ينشأ الطالب النجفي وتتبلور لديه مسائل الفكر الإسلامي وفقهه وأصوله.
حضر الشيخ الفياض بحث الخارج وهو في بدايات العشرين من عمره ، واختار حلقات بعض الأساتذة الكبار من علماء النجف القديرين لعدة اشهر ، حتى استقر على بحث أستاذه الذي اشتهر طلابه به واشتهر هو بهم ، فكلما ذكر الخوئي ذكر معه الروحاني والصدر والسيستاني والفياض وغيرهم من أفاضل تلامذته ، كما لو ذكر أحدهم لازمه ذكر الخوئي أستاذا له .
وقد استمر الشيخ الفياض على هذا الدرس يوميا لأكثر من خمسة عشر سنة دون انقطاع في حلقتي الفقه والأصول منها ، مواظبا ومتابعا ومقررا للبحث .
كتابة التقريرات:
اعتاد العلماء الأفاضل في الحوزات العلمية أن يقرروا بحوث الأستاذ بعد الدرس على بعض زملائهم ويكتبونها منظمة بعد التحقيق وإخراج المصادر والمقارنة بين الآراء وأدلتها ، ومن ثم عرضها على الأستاذ فإن وافق عليها ، تطبع وتنشر لتكون دليلا على قوة البحث وبيان رأي الأستاذ وفضل الطالب ، وتلك الكتب المعروفة في أوساط الحوزات العلمية بـ (التقريرات) ، وقد دأب الشيخ الفياض منذ حضوره بحث أستاذه الإمام الخوئي على هذا المنوال ، فكان يقرر البحث على بعض الزملاء ومواظبا على كتابتها يوما بعد يوم في حلقتي الفقه والأصول ، حتى أكمل تقرير الدورة الخامسة من دورات بحث الأستاذ في علم أصول الفقه ، فكان الكتاب المعروف بـ (المحاضرات) .
بداية الشهرة:
من المعروف في نظام الحوزة الدينية أنه لا توجد مراحل مقيدة بزمان أو امتحان معين لتجاوز الطالب لها بشهادة معينة يشتهر بها ، وإنما تكون الشهرة والاعتراف بالفضل والمستوى العلمي للطالب من خلال حضوره المستمر في الحوزة درسا وتدريسا ومباحثة ومناقشة في المجالس عند طرح مسألة معينة ، وتكون على رأسها وفي مقدمتها تقرير الطالب لبحوث أستاذه وموافقة الأستاذ على طبع تلك التقريرات وشهادته عليه فيما يكتبه عند إجازة الطبع والتي تسمى في عرف الحوزة بـ (تقريض الأستاذ) على التقريرات ، وعادة ما تأتي مختصرة جدا ولكنها ذات معنى ومغزى كبيرين ، ويكون التقريض وبحسب شهرة الأستاذ ومستواه العلمي ذات دلالة كبيرة في الشهادة على مستوى التلميذ وفضله ، ومن ذلك تكون شهرة الطالب وانتشار اسمه ومعرفة قدره ومستواه العلمي في الأوساط الحوزوية كافة .
وقد جاء في تقريض الإمام الخوئي على تقريرات الشيخ الفياض قوله (الذي كتبه تقريرا لأبحاثي بأسلوب بليغ وإلمام جدير بالإشادة والإعجاب) ، وهذا نص التقريض الموجود في مقدمة الجزء الأول من كتاب (المحاضرات):
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعترته الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين ، وبعد:
فإني أحمد الله تعالى على ما أولاني به من تربية نفر من ذوي الكفاءة واللياقة حتى بلغ الواحد منهم تلو الآخر درجة راقية من العلم والفضل ، وممن وفقت لرعايته وحضر أبحاثي العالية في الفقه والأصول هو قرة عيني العلامة المدقق الفاضل الشيخ محمد إسحاق الفياض دامت تأييداته ، وقد عرض علي الجزء الأول من كتابه (المحاضرات في أصول الفقه) الذي كتبه تقريرا لأبحاثي بأسلوب بليغ وإلمام جدير بالإشادة والإعجاب ، وإني أبارك له هذا الجهد الميمون وأسأله تعالى أن يوفقه لإتمام مرامه ، إنه ولي التوفيق . في (٦/جمادى الثانية/سنة١٣٨٢هـ) .
وبملاحظة تاريخ التقريض الموافق ٤/١١/١٩٦٢م والذي هو تاريخ طبع الكتاب ، وبملاحظة عمر الشيخ الفياض وهو في سني شبابه ، وما ذكره في حقه أستاذه آنذاك ، يظهر جليا ما هو عليه شيخنا المعظم ، من مقام علمي وفضل ، وما كان يكنه له أستاذه من حب وتقدير كبيرين ، منذ ذلك التاريخ .
كما يحكى أنه لما قدم الشيخ الفياض تقريرات بحوث أستاذه لإجازته في طبعها ، كان بعض ممن يخالف معترضا على الإمام الخوئي موافقته على ذلك ، بحجج واهية غير مستندة على منطق سليم ، كعمر الطالب وانتمائه القومي ، وكان الإمام الخوئي يقول في ردهم: إن المناط هو علم الطالب وفضله ، وما يدل من تقريراته على جده واجتهاده وذكائه وعمله الدؤوب ومتابعته وقوة ملاحظاته ، وليس المناط عمره ، فإنه كانت الاعتراضات هذه وشبهها على أساس صغر سني آنذاك ، تحاول منع أستاذي الشيخ النائيني رحمه الله ، من إجازته طبع تقريرات بحوثه التي كتبتها (أجود التقريرات) فإنه يجب إنصاف الحق وإعطاء كل ذي حق حقه ، كما ينبغي تشجيع المجد والمثابر ودعمه في الاستمرار على ذلك النهج .
وبالفعل فقد أجاز الأستاذ طبع التقريرات تلك ، مع الإشادة المناسبة بمقررها ، وهكذا كان الإمام الخوئي مع جميع تلامذته المجتهدين . ويقول سماحة الشيخ الفياض في مقدمة تلك التقريرات ما هذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ، وبعد ، فهذا هو الجزء الأول من كتابنا محاضرات في أصول الفقه وهو مشتمل على ما استفدته من تحقيقات علية ومطالب شامخة وأفكار مبتكرة من مجلس درس سيدنا الأستاذ الأفخم سماحة آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي ، إذ عكفت ضمن المئات من الطلاب على مجلس درسه الشريف في جامعة العلم الكبرى النجف الأشرف التي أسندت إليه زعامتها ، وألقت بين يديه مقاليدها ، فقام بالعبأ خير قيام في محاضراته وبحوثه ، وتربى على يديه الكريمتين جيل من الأفاضل الأعلام .
وإني إذ أبتهل إلى المولى سبحانه أن يوفقني لإلحاق الجزء الثاني بهذا الجزء في الطبع ، أسأله تعالى أن يمتعنا وعموم المسلمين بدوام وجود أستاذنا الأفخم ويديم أيام إفاداته العامرة .
محمد إسحاق الفياض
وقد وفق الله سماحته في إتمام طبع الأجزاء الخمسة من تقريرات أستاذه في علم أصول الفقه ، وهي تعد اليوم من أهم المصادر العلمية في ذلك الفن ، يتداوله العلماء والطلاب العلوم الدينية في جميع الحوزات درسا وتدريسا ومطالعة ومراجعة للوقوف على الآراء الجديدة والأفكار والنظريات التي تحويها ، والتي لا غنى لهم عنها .
التدريس:
خلال تلك الفترة وما بعدها ، كان شيخنا الفياض واحدا من الأساتذة المبرزين المشهورين في الحوزة ، حيث يلقي دروسه وبحوثه على جمع كبير من الأفاضل من طلاب العلوم الدينية ، يدرس الكتب المعهودة لمستوى السطوح العليا وهي الرسائل والكفاية والمكاسب في حلقات متعددة في المسجد الهندي المعروف ، كما كان أستاذه هذه المرحلة لأكثر من عشر سنوات في جامعة النجف الدينية التي أسسها المرحوم السيد محمد كلانتر ، حتى بدأ بإلقاء بحوث الخارج عام ١٩٧٨م في مدرسة السيد اليزدي الصغرى الواقعة في محلة العمارة ، وعند افتتاح مدرسة دار العلم المعروفة التي أنشأها الإمام الخوئي عام ١٩٨٠م فقد انتقل مجلس بحثه إلى هناك حتى تاريخ هدم المدرسة ، فانتقل مجلس الدرس إلى المسجد الهندي الكبير في فترة قليلة ، ومن ثم إلى مدرسة اليزدي وهي مدرسة أسسها المرجع الكبير السيد كاظم اليزدي (قده) وإلى اليوم ، يحضره جمع كبير من الطلبة وفيهم غير واحد من الأفاضل ممن يقرر بحوثه على أمل طبعها إن شاء الله .
لجنة الاستفتاء:
ولما تعارف لدى المراجع العظام تشكيل لجنة من خاصة المقربين إليهم من أفاضل تلامذتهم والعلماء المبرزين، تسمى بـ (لجنة الاستفتاء) للإجابة على السيل الكبير من الرسائل والاستفسارات الواردة إليهم من مختلف نقاط العالم من مقلديهم، وذلك بعد التمحيص والبحث والمناقشة والتحقيق حتى الوصول إلى الرأي الشرعي الصحيح بنظرهم مع موافقة المرجع لكتابته في الجواب على السؤال الوارد، مما قد يستغرق البحث في مسألة واحدة عدة أيام قبل إمضائها.
ولطول المدة الزمنية التي تجاوزت ربع القرن لمرجعية الإمام الخوئي، وإجماع الأساتذة وكبار تلامذته ، منهم العالم الشهير والباحث العبقري السيد محمد باقر الصدر (قده) على أعلميته وكثرة مقلديه في مختلف بقاع العالم ، فكانت الاستفتاءات الواردة إليه في كل يوم من أقطار العالم الإسلامي بمختلف اللغات كثيرة ، وهي مما دعا الإمام الراحل أن يشكل لجنة الإفتاء من العلماء والمجتهدين الكبار من تلامذته للقيام بهذه المهمة ، وقد كان سماحة الشيخ الفياض لما يملكه من مؤهلات عالية من فضل وعلم وقرب مقام من الإمام الخوئي، واحدا من أولئك الذين استمر بالعمل في هذه اللجنة لأكثر من خمسة وعشرين سنة، حتى آخر يوم من حياة الإمام الراحل (قده) ، وكما هو المعروف فإن تلك اللجنة ضمت في فترات مختلفة أسماء علماء كبار ومجتهدين عظام تصدوا إلى مقام المرجعية فيما بعد ، أو هم في مقامها، من أمثال:
آية الله السيد علي البهشتي دام ظله، وآية الله السيد مرتضى الخلخالي (فرج الله عنه)، وآية الله السيد محمد الروحاني (قده)، وآية الله الشيخ ميرزا علي الغروي (قده)، وآية الله السيد محمد باقر الصدر (قده)، وآية الله الشيخ ميرزا جواد التبريزي، وآية الله الشيخ وحيد الخراساني، وآية الله السيد تقي القمي، وآية الله الشيخ ميرزا علي الفلسفي ، وآية الله السيد علي السيستاني دامت ظلالهم الوارفة، وغيرهم كثير من العلماء الأفاضل وكبار أساتذة الحوزات العلمية.
المؤلفات:
مع الالتزامات الكثيرة لشيخنا المعظم في قيامه بأداء الواجب الديني لخدمة المؤمنين من استمراره في إلقاء الدروس وتربية الأفاضل من تلامذته وحضوره اليومي في مجلس استفتاء الإمام الخوئي أيام حياته (قده) ، وغيرها من الالتزامات الاجتماعية في قضاء حوائج الناس، ومراجعتهم إياه لأخذ الأحكام وفي احتياجاتهم الخاصة وغيرها، ومع كل تلك الانشغالات والمسؤوليات فقد دأب سماحته إلى أن يفرغ بعضا من وقته للتحقيق والتصنيف ، وإغناء المكتبة الإسلامية بتأليفاته القيمة، وطبع منها حتى الآن:
١- محاضرات في أصول الفقه، في عشر مجلدات ، طبع خمسة منها.
٢- الأراضي.
٣- النظرة الخاطفة في الاجتهاد.
٤- تعاليق مبسوطة على العروة الوثقى، طبع منها عشرة أجزاء.
٥- أحكام البنوك.
٦- منهاج الصالحين، في ثلاثة مجلدات.
٧- مناسك الحج.
٨- المباحث الأصولية، في ١٤ مجلدا، طبع منه ٣ مجلدات ، ويليها سائر المجلدات.
أدام الله أيام سماحته بالخير ومزيد من التوفيق والعطاء لخدمة الدين الحنيف والمذهب الحق، وجعله ذخرا لهذه الأمة بدوام ظله الشريف على رؤوس الأنام ، والحمد لله رب العالمين.