ولادته:
ولد الإمام الخميني في العشرين من جمادى الثاني عام ١٣٢٠هـ في مدينة "خمين" إحدى مدن المحافظة المركزية (أراك) في إيران من أسرة علوية عريقة في العلم والهجرة والجهاد.
كان والده الجليل المرحوم آية الله السيد مصطفى الموسوي معاصراً للمرحوم آية الله العظمى الميرزا الشيرازي(رحمه الله). وبعد إتمامه دراسته الدينية في النجف الأشرف ونيله درجة الاجتهاد عاد إلى إيران وأصبح قبلة الناس في مدينة "خمين" فيما يخصّ الأمور الدينية. لم يبلغ الإمام الخميني(روح الله ٥) أشهر من عمره حتى خنق المستبدون والخونة من عملاء الحكومة آنذاك صوت الحق في صدر والده الذي انتفض على ظلمهم، وأسكتوا أنفاسه بالرّصاص، حيث استشهد في طريق العودة من خمين إلى أراك.
دراسته وأساتذته:
أتقن القراءة والكتابة في وقت قصير ، وبعد ذلك واصل تعلم الأدب الفارسي ، وقبل إكماله السن الخامسة عشرة من عمره أكمل تعلم اللغة الفارسية ، وسار على دَرب أبيه في طلب العلوم الإسلامية.
وفي سنة١٣٣٨هـ أنهى دراسة المنطق ، والنحو ، والصرف ، عند أخيه الأكبر آية الله السيد مرتضى الموسوي , المعروف بـ( پَسَندِيدَه).
ثم سافر إلى مدينة إصفهان ، لغرض مواصلة دراسته ، ثم ذهب إلى مدينة أراك لاشتهار الدراسة الحوزوية فيها ، بزعامة آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري.
وبعد هجرة الشيخ الحائري إلى مدينة قم المقدسة بأربعة أشهر ، رحل إليها الإمام الخميني ، وسكن في مدرسة دار الشفاء ، وواصل دراسته فيها.
وبعد فترة وجيزة نال درجة الاجتهاد ، وأصبح من العلماء البارزين ، ومن مدرِّسي الحوزة العلمية المعروفين.
وبعد وفاة الشيخ الحائري قَدم آية الله العظمى السيد البروجردي لإلقاء الدروس في مدينة قم المقدسة ، فأخذ الإمام يحضر تلك الدروس ، واستفاد منها كثيراً.
تدريسه:
عندما بلغ عمره الشريف سبعة وعشرين عاماً ، شَرَع بتدريس الفلسفة ، وكان شديد الحرص على اختيار الطلاب الجيِّدين ، والمادة المناسبة.
وكان يهتم بتربية طُلاَّبه ، ويؤكد لهم على ضرورة تهذيب النفس ، والتحلي بالفضائل ، وتجنب الرذائل.
وإلى جانب ذلك فقد تولَّى الإمام تدريس علم الأخلاق ، فأخذت حلقته الدراسية تتوسع رُويداً رُويداً ، مما جعل نظام الشاه يفكر بإلغاء هذه الجلسات.
وفي عام ( ١٣١٤ هـ ) شرع الإمام بتدريس البحث الخارج في الفقه والأصول ، وكان عمره الشريف آنذاك ( ٤٤ ) سنة.
طريقته في التدريس:
درس الإمام عند آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري ، الذي كان يعتمد في تدريسه على الفكر ، والدقة ، والمناقشة ، في الدرجة الأولى ، وعلى الآيات الكريمة ، والروايات الشريفة ، في الدرجة الثانية.
كما درس عند آية الله العظمى السيد حسين البروجردي ، الذي كان يعتمد في تدريسه على الروايات ، والأسانيد ، والمتون ، وأقوال العامة ، والظرف التاريخي الذي يحيط بالرواية.
وقد استفاد الإمام من هذين الأسلوبين في التدريس ، وأخذ يطبِّقهما في منهاجه التدريسي.
تلامذته:
نذكر منهم ما يلي:
١- الشهيد الشيخ مرتضى المطهَّري.
٢- الشهيد السيد محمد حسين البهشتي.
٣- ابنه السيد مصطفى الخميني.
٤- الشهيد السيد محمد علي القاضي التبريزي.
٥- الشهيد الشيخ عبد الرحيم الرباني الشيرازي.
٦- الشهيد الشيخ أشرفي الإصفهاني.
٧- الشهيد السيد محمد رضا السعيدي.
٨- الشهيد الشيخ علي القدوسي.
٩- الشهيد الشيخ فضل الله المَحلاَّتي.
١٠- الشهيد الشيخ محمد مُفتِح الهمداني.
مؤلفاته:
له مؤلفات كثيرة ، نذكر منها ما يلي:
١- تحرير الوسيلة ج١.
٢- تحرير الوسيلة ج٢.
٣- مختصر في شرح دعاء السحر.
٤- الأربعون حديثاً.
٥- المكاسب المحرمة.
٦- اسرار الصلاة.
٧- كشف الأسرار.
٨- نيل الأوطار في بيان قاعدة لا ضرر ولا ضرار ، تقريرات لدروسه في البحث الخارج.
٩- الحكومة الإسلامية.
١٠- حاشية على كتاب الأسفار للمُلاَّ صدرا.
١١- ديوان شعر.
١٢- مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية.
الهجرة إلى مدينة قم:
بعد رحيل آية الله العظمى الحاج الشيخ عبدالکريم الحائري اليزدي الى مدينة "قم" في يوم النيروز من عام١٩٢١م، المصادف لشهر رجب من عام ١٣٤٠ هـ)، التحق الإمام الخميني بالحوزة العلمية في مدينة "قم"، وطوى بسرعة المراحل اللاحقة من دراسته الدينية ناهلاً العلوم من نخبة من أساتذة الحوزة في قم في ذلك الوقت، حيث درس تتمة بحوث كتاب في علم المعاني والبيان المطوّل على يد المرحوم آقا ميرزا محمدعلي أديب طهراني، وأكمل دروس مرحلة السطح على يد المرحوم آية الله السيد محمد تقي الخُونساري. وقضى الشطر الأكبر من مرحلة تتلمذه على يد المرحوم آية الله السيد علي يثربي کاشاني؛ كما تلقى دروس مرحلة الخارج (المرحلة العليا) في الفقه والأصول على يد زعيم المدرسة الدينية(الحوزة الدينية) في "قم" آية الله العظمى الحاج الشيخ عبدالکريم حائري يزدي. وتزامناً مع دراسته للفقه والأصول، كان سماحته يتلقّى دروساً في الرياضيات وعلم الفلك والفلسفة لدى المرحوم الحاج السيد أبوالحسن رفيعي قزويني، وإلى جانب ذلك درس العلوم الروحية والعرفانية لدى المرحوم آقا ميرزا علي أکبر حکيمـى يزدي، وعلم العروض والقوافي والفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية لدى المرحوم آقا شيخ محمدرضا مسجدشاهـي أصفهاني، والأخلاق والعـرفان لدى المرحوم آية الله الحاج ميرزا جواد ملکي تبريزي، كما انهمك في خلال ٦ سنوات على دراسة أعلى درجات العرفان النظري والعملي عند المرحوم آية الله آقا ميرزا محمد علي شاه آبادى، فأصبح السير والسلوك المعنوي إلى الله منذ ذلك الحين شغله الشاغل.
في المدرسة الدينية(الحوزة الدينية) في قم، عكف سماحة الإمام(رحمه الله) سنين طويلة على تدريس الفقه والأصول والفاسفة والعرفان والأخلاق الإسلامية لعدة دورات. بالإضافة إلى تدريسه المراحل العليا من علوم أهل البيت(ع) والفقه في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف لمدة تقارب الـ١٤ سنة. وخلال هذه الفترة قام بتدريس الأصول النظرية للحكومة الإسلامية عبر سلسلة دروس "ولاية الفقيه" وذلك لأول مرة.
وينقل تلامذته أن دروسه التي كان يلقيها هناك كانت تعدّ من أرقى المناهج الدراسية في الحوزة، حيث كان يصل عدد طلابه في بعض الدورات - أي السنة الدراسية في الحوزة العلمية في قم - إلى ١٢٠٠ طالباً، من بينهم عشرات المجتهدين المعروفين في وقتنا الحاضر.
في الثلاثين من مارس عام ١٩٦١ توفي آية الله العظمى البروجردي، وفي هذه الأثناء وعلى جري عادته في مراحل حياته السابقة، لم يخط الإمام الخميني خطوة واحدة نحو تقلده مرجعية الحوزة الدينية، على الرغم من ترحيب الحوزة والناس وتحمسهم لهذا الأمر.
ومع وفاة آية الله البروجردي وتعدد المرجعية العليا، عجّل نظام الشاه من وتيرة الإصلاحات التي أوعزت بها الولايات المتحدة.
في ٩ أكتوبر من عام ١٩٦٢م صادقت وزارة أسد الله علم على لائحة المجالس المحلية التي تنص على إلغاء مبدأ اشتراط أن يكون المرشح مسلماً وكذلك إلغاء شرط أداء اليمين الدستورية على القرآن الكريم. لكن بمجرد انتشار خبر التصديق على تلك اللائحة هب الإمام الخميني مع عدد من العلماء في قم وطهران، بعد تدارسهم للأمر، إلى إعلان معارضتهم القاطعة ضد النظام الحاكم.
فعمد نظام الشاه في البدء إلى سياسة التهديد والتشنيع على رجال الدين، لكن لم يحل ذلك من تفاقم المعارضة، فقد عمّ الإضراب طهران وقم وبعض المدن الأخرى، وتجمّع الناس في المساجد معلنين ولاءهم لحركة علماء الدين. ومن ناحيته، فقد أصرّ سماحة الإمام(رحمه الله) على أن تعمل الحكومة على إعلان إلغاء اللائحة المذكورة رسمياً على الملأ.
وأخيراً لم يجد نظام الشاه مهرباً من الرضوخ لهذه المطالب، وبالفعل أعلنت الحكومة في ٢٨ نوفمبر من عام ١٩٦٢م رسمياً إلغاء تلك اللائحة، وأطلعت العلماء ومراجع الدين في طهران وقم على ذلك.
ومن جهة أخرى فقد أكّد الإمام الخميني بعد اجتماعه مع علماء الدين في مدينة قم، على مواقفه السابقة موضحاً أن إلغاء اللائحة المذكورة خلف الكواليس ليس كافياً، وأن الإنتفاضة ستستمر حتى يتمّ الإعلان عن ذلك الإلغاء عبر وسائل الإعلام العامة.
وفعلاً قامت الحكومة في صباح اليوم التالي بنشر خبر إلغاء اللائحة المذكورة في الصحف الرسمية. وإثر هذا الانتصار الذي حققه علماء الدين والشعب المسلم شنت السلطة الحاكمة حملة واسعة ضد علماء الدين عامة والإمام الخميني بوجه خاص، وصممّ الشاه على قمع الإنتفاضة بكل ما أوتي من قوة. فقام بعض جلاوزة النظام المسلحين المتنكرين بالزي الديني والمندسين في اجتماع لطلبة العلوم الدينية في المدرسة الفيضية في مارس من عام ١٩٦٣م الذي صادف ذكرى شهادة الإمام الصادق(عليه السلام) ، بتقويض ذلك الاجتماع، ومن ثم التمهيد لقوات شرطة النظام للإغارة بوحشية على المجتمعين بالأسلحة النارية، وقد قتل وجرح العديد منهم. وفي نفس الوقت كانت مدرسة الطالبية الدينية في تبريز تتعرض لهجوم مماثل.
في رسالة له في ٢ مايو من عام ١٩٦٣م بمناسبة مرور أربعين يوماً على مذبحة المدرسة الفيضية شدّد الإمام الخميني على وقوف العلماء والشعب الإيراني إلى جانب قادة الدول الإسلامية والعربية في مواجهتهم للاحتلال الإسرائيلي، معلناً رفضه واستنكاره لاتفاقيات نظام الشاه مع الكيان الصهيوني الغاصب (إسرائيل)، ليؤكد منذ اللحظة الأولى لانطلاق انتفاضته على الارتباط الوثيق للنهضة الإسلامية في إيران مع مصالح الأمة الإسلامية.
من تركية إلى العراق
في ٥ أكتوبر من عام ١٩٦٥م تمّ ترحيل سماحة الإمام(رحمه الله) مع نجله آية الله الحاج مصطفى من تركية إلى منفاه الثاني العراق. وخلافاً لتصورات نظام الشاه، فقد كان الترحيب الكبير الذي لقيه الإمام من قبل طلاب الحوزة الدينية والجماهير في العراق رسالة واضحة بأن انتفاضة الخامس من حزيران كان لها صدى كبير في العراق وفي النجف الأشرف كذلك.
بدأ الإمام الخميني بإلقاء سلسلة دروس الفقه مرحلة الخارج(المرحلة العليا) في مسجد الشيخ الأنصاري(رحمه الله) في أكتوبر من عام ١٩٦٥م، واستمر على ذلك حتى رحلته إلى باريس. بدأ الإمام بإلقاء دروسه حول الحكومة الإسلامية (أو ولاية الفقيه) في فبراير من عام ١٩٦٩م، وجمعت هذه الدروس في كتاب واحد صدر تحت عنوان(ولاية الفقيه) أو (الحكومة الإسلامية) وقد نشر هذا الكتاب في إيران والعراق ولبنان، ووزع في موسم الحجّ أيضاً، وكان له أثر كبير في تجديد روح الجهاد والمقاومة.
تجدر الإشارة إلى أن الإمام الخميني طيلة سنوات النفي لم يتوقف عن مواصلة الجهاد لحظة واحدة بالرغم من الصعاب التي واجهته، وكانت خطاباته ونداءاته تحيي في القلوب الأمل بالنصر.
في فتوى له بمناسبة حرب الأيام الستة بين العرب وإسرائيل في يونيو عام ١٩٦٧م حرّم أي علاقات تجارية أو سياسية للدول الإسلامية مع إسرائيل، وكذلك حرّم استهلاك البضائع والمنتجات الإسرائيلية من قبل الشعوب الإسلامية.
مواصلة الجهاد:
في نهاية مارس ١٩٧٥م وصل استبداد الشاه إلى القمة وذلك من خلال تأسيسه لحزب"رستاخيز" وفرض نظام الحزب الواحد، حيث صرّح في خطاب له عبر التلفزيون أن على جميع أفراد الشعب الإيراني الدخول في الحزب المذكور، وعلى من يرفض هذا الأمر تسلم جواز سفره والخروج من البلاد. وفور ذلك أصدر الإمام الخميني فتواه التي جاء فيها:
"نظراً لمخالفة هذا الحزب المبادئ الإسلامية ومصالح الشعب الإيراني المسلم، فإن الانتماء إليه حرام على جميع أفراد الشعب، وهو يُعدّ إعانة للظلم واستئصالاً لشأفة المسلمين، وأن مقاومته من أوضح مصاديق النهي عن المنكر".
وكان لفتوى الإمام الخميني وبعض العلماء الآخرين أثرها الكبير والفعّال، فقد أعلن نظام الشاه رسمياً عن فشل سياسة حزب "رستاخيز" ومن ثم حلّه وذلك بعد بضع سنوات من تأسيسه على الرغم من الدعاية الإعلامية التي سخرتها له أجهزة النظام.
وانتفضت جماهير طلبة الحوزة مرة أخرى عام ١٩٧٥م في المدرسة الفيضية خلال الذكرى السنوية لانتفاضة الخامس من يونيو، واستمرت الهتافات التي أطلقتها تلك الجماهير "عاش الخميني" و "الموت للعائلة المالكة" مدة يومين متتاليين، فكانت تلك صدمة كبيرة للشاه وجهاز أمنه "السافاك"، فقامت قوات الشرطة إثر ذلك بمحاصرة المدرسة والهجوم على طلبة العلوم الدينية بوحشية وضراوة، حيث تعرضوا للضرب والإهانة، ثم زجّ بهم في السجون.
واستمراراً لنهجه العدواني في استئصال الدين، أقدم الشاه في مارس من عام١٩٧٦م على خطوة وقحة تمثلت بتغيير التقويم الرسمي للبلاد الذي يعتمد هجرة الرسول الكريم (صلى الله عليه واله وسلم) إلى التقويم الإمبراطوري الذي يبدأ بحكم الملوك الحاخامنشيين. وردّ الإمام الخميني بقوة على ذلك من خلال إصداره لفتوى تقضي بتحريم استخدام التقويم الإمبراطوري المفروض، ورّحب الشعب الإيراني بهذه الفتوى كما فعل في السابق مع فتوى تحريم الانتماء إلى حزب "رستاخيز"، فكانت القضيتان بمثابة فضيحة ووصمة عار لنظام الشاه، مما اضطره إلى العدول عن استخدام التقويم الإمبراطوري عام ١٩٧٨م.
تصاعد وتيرة الثورة الإسلامية عام ١٩٧٧م:
شكل استشهاد آية الله الحاج مصطفى الخميني في ٢٣ أكتوبر عام ١٩٧٧م، ومجالس الفاتحة المهيبة التي أقيمت على روحه في إيران نقطة انطلاق لانتفاضة جديدة للحوزات العلمية والشعب الإيراني المؤمن. وقد اعتبر الإمام الخميني هذه المسألة آنذاك من "الألطاف الإلهية". بعد ذلك نشرت أجهزة النظام مقالة مسيئة للإمام الخميني في صحيفة "اطلاعات" ظناً منها أنها تنتقم منه.
وفي معرض الاعتراض على المقالة المذكورة تفجرت في التاسع من يناير عام ١٩٧٧م انتفاضة شعبية راح ضحيتها عدد من طلبة العلوم الدينية الثائرين والأهالي. وأدّت مراسم العزاء التي أقيمت لإحياء ذكرى الشهداء الذين سقطوا في الانتفاضة المذكورة في مراسم اليوم الثالث واليوم السابع ومراسم الأربعين إلى تفجر انتفاضات متتالية في مدن تبريز ويزد وأصفهان وطهران.
الرحلة من العراق إلى باريس:
في اللقاء الذي تم في نيويورك وضم وزيري خارجية إيران والعراق، اتفق الطرفان على إخراج الإمام من العراق، وعلى أثر ذلك حوصر منزل الإمام في النجف الأشرف من قبل القوات البعثية في العراق وذلك في ٢٤ سبتمبر عام ١٩٧٨م، حيث عقد مدير الأمن العراقي جلسة مع الإمام ذكّره فيها بأن بقاءه في العراق مرهون بتخليه عن الجهاد والكف عن الخوض في المسائل السياسية، فكان ردّ الإمام حازماً حين قال إنه ولعِظم المسؤولية الملقاة على عاتقه تجاه الأمة الإسلامية، غير مستعد للسكوت أو المساومة.
فغادر الإمام الخميني(رحمه الله) النجف الأشرف في ٤ أكتوبر من نفس العام متجهاً نحو الحدود الكويتية، لكن الحكومة الكويتية امتنعت عن استقباله وذلك بتوصية من النظام الإيراني.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه كان في النية أن يتوجه الإمام إلى لبنان أو سورية، لكنه وبعد التشاور مع نجله المرحوم حجة الإسلام والمسلمين الحاج السيد أحمد الخميني(رحمه الله)، قرر التوجه إلى باريس. وفعلاً حطّ الإمام رحاله بباريس في السادس من أكتوبر، وبعد يومين نزل في بيت أحد الإيرانيين في ضاحية نوفل لو شاتو الباريسية.
خلال ٤ أشهر من إقامة الإمام في نوفل لوشاتو، أضحت هذه المدينة أهم المراكز الإعلامية العالمية، وكانت تبث مقابلاته الصحفية ولقاءاته المختلفة ووجهات نظره حول الحكومة الإسلامية وأهداف الثورة المستقبلية. وبهذه الطريقة اطلع عدد أكبر من شعوب العالم على فِكر الإمام وثورته، ومن هذا المكان تولى الإمام وفي أحلك الظروف قيادة الثورة في إيران.
في يناير عام ١٩٧٩م شكل الإمام مجلس الثورة، في هذه الأثناء فرّ الشاه من البلاد وذلك بعد أن تشكل مجلس الوصاية على العرش، ونالت وزارة بختيار الثقة وذلك في ١٦ يناير ١٩٧٩م.
انتشر خبر فرار الشاه في طهران وباقي المدن الإيرانية، ونزل الناس إلى الشوارع للتعبير عن فرحتهم وابتهاجهم بهذا الخبر.
العَودة إلى الوطن بعد ١٤ عاماً من النفي:
في أوائل فبراير عام ١٩٧٩م انتشر في الآفاق قرار عودة الإمام إلى أرض الوطن، وبالرغم من الانتظار الطويل الذي دام ١٤ عاماً، ظل هاجس الحفاظ على سلامته يشغل أذهان الشعب ورفاقه، وذلك لأن الحكومة التي فرضها الشاه كانت ما تزال تسيطر على المراكز الحساسة والمطارات في البلاد، وكانت الأحكام العرفية لا تزال سارية. لكن الإمام كان قد اتخذ قراره، موضحاً لشعبه في بياناته عن رغبته في التواجد بين صفوف الشعب الإيراني في هذه الظروف العصيبة والمصيرية.
وأخيراً، وطأ الإمام أرض الوطن في صبيحة اليوم الأول من فبراير عام ١٩٧٩م بعد غياب دام ١٤ عاماً. وكان الإستقبال الذي حظي به الإمام من قبل الشعب الإيراني عظيماً ورائعاً لدرجة اضطرت معه وكالات الأنباء الغربية إلى الاعتراف بأن عدد الذين خرجوا لاستقبال الإمام تراوح بين ٤-٦ ملايين شخص.
وتدفقت الجموع من المطار إلى "بهشت زهرا" مقبرة شهداء الثورة الإسلامية للاستماع إلى الخطاب التاريخي للإمام. في هذا الخطاب دوت مقولة الإمام الشهيرة:" سأشكّل الحكومة! سأشكّل الحكومة بمؤازرة الشعب!"، في البداية لم يعبأ شاهبور بختيار بهذه المقولة، لكن لم تمض إلا أيام قلائل حتى أعلن الإمام عن تعيين رئيس لحكومة الثورة المؤقتة وذلك في الخامس من فبراير ١٩٧٩م.
في الثامن من فبراير عام ١٩٧٩م قامت عناصر من القوة الجوية بزيارة الإمام الخميني في مقر إقامته في مدرسة علوي في طهران، وأعلنت عن ولائها التام له. في هذه الأثناء كان الجيش الشاهنشاهي يوشك على الإنهيار التامّ، حيث شهد حالات فرار وتمرد العديد من الجنود والمراتب المؤمنين وذلك امتثالاً منهم لفتوى الإمام الخميني في ترك ثكناتهم والانضمام إلى صفوف الشعب.
في التاسع من فبراير انتفض الطيارون في أهمّ قاعدة جوية في طهران، فأرسلت قوة من الحرس الإمبراطوري لمواجهتهم وقمعهم، فانضم الناس إلى صفوف الثوار لدعمهم ومساندتهم.
في العاشر من فبراير سقطت مراكز الشرطة والدوائر الحكومية الواحدة تلو الأخرى بيد الشعب. وهكذا تم دحر نظام الشاه، وأشرقت ـ في صباح يوم ١١ فبراير ـ شمس الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني، واسدِل الستار على آخر فصل من فصول الحكم الملكي السحيق المستبد.
في عام ١٩٧٩م صوّت الشعب لصالح استقرار النظام الجمهوري الإسلامي وذلك في أنزه استفتاء شهدته إيران حتى ذلك التاريخ، ثم تبعتها انتخابات تدوين الدستور والمصادقة عليه ثم انتخاب نواب مجلس الشورى الإسلامي.
كان الإمام يلقي الخطب والبيانات يومياً في مقرّ إقامته وفي المدرسة الفيضية على الآلاف من محبيه وذلك لتهيئة الأجواء لتدعيم أركان النظام الإسلامي وبيان أهداف الحكومة الإسلامية وأولوياتها، وتشجيعهم على تسجيل حضور فاعل في جميع الميادين.
بعد انتصار الثورة انتقل الإمام في الأول من مارس عام ١٩٧٩م من طهران إلى قم، وأقام هناك حتى تعرّضه للأزمة القلبية في٢٢ يناير ١٩٨٠م. خضع الإمام للعلاج طيلة ٣٩ يوماً في مستشفى طهران للأمراض القلبية، أقام بعدها وبصورة مؤقتة في منزل يقع في منطقة "دربند" بالقرب من طهران، ثم انتقل بعدها إلى منزل متواضع ـ حسب طلبه ـ يقع في محلة "جماران"، فظل مقيماً في المنزل المذكور حتى وفاته.
الميزات الشخصية
كان الإمام الخميني(رحمه الله) مؤمناً إلى حدّ كبير بالنظام والترتيب والإنضباط في حياته، وكان يخصّص ساعات معينة من الليل والنهار للعبادة والذكر وتلاوة القرآن والدعاء والمطالعة. فكانت مناجاته وذكره الله سبحانه وتعالى والتفكير أثناء المشي جزءاً من برنامجه اليومي. ومع اقتراب عمره الشريف من الـ٩٠ عاماً إلا أنه كان يعتبر من أنشط القادة السياسيين في العالم، بحيث أنه حافظ على تلك الروحية وذلك النشاط حتى في أصعب اللحظات في سبيل رفعة المجتمع الإسلامي وحلّ مشاكله.
كان الإمام غالباً ما يستمع، سواء في الليل أو النهار، إلى التحاليل الاخبارية التي تبثها الإذاعات الأجنبية الناطقة باللغة الفارسية ليتمكن شخصياً من الوقوف على سير الإعلام المضاد للثورة وتشخيص السبل الكفيلة بمواجهته، هذا إضافة إلى مطالعته اليومية لأهم الأخبار والتقارير في الصحف الرسمية الداخلية وعشرات النشرات الاخبارية، واستماع ومشاهدة البرامج الإذاعية والتلفزيونية في الداخل. ولم يغفل الإمام(رحمه الله) عن مد جسور الارتباط مع عامة الشعب باعتبارهم الثروة الحقيقية للثورة الإسلامية، فكان باستطاعة الناس على اختلاف طبقاتهم الإلتقاء به في أغلب الأيام في حسينية "جماران" لينهلوا من معينه الصافي، وذلك على الرغم من برنامجه اليومي المزدحم واجتماعاته مع مسؤولي النظام الإسلامي.
وفاته:
اهتزَّ العالم في الثامن والعشرين من شهر شوال ، في سنة ( ١٤٠٩ هـ ) ، عند سماعه نبأ وفاة الإمام الخميني ( قدس سره ) من إذاعة وتلفزيون الجمهورية الإسلامية في إيران ، في بيان تُلِيَ مُبتدِءاً بالآية الكريمة:
(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً) الفجر ٢٧ – ٢٨.
لقد رحل الإمام الخميني ( قدس سره ) بعد عمر طويل ناهز التسعين سنة ، قضاهُ بالجهاد ، والصبر ، والسعي لتحرير الإنسان من الجهل ، والتبعيَّة للاستعمار ، والظلم ، والتخلف.
وقد شيَّعه ( قدس سره ) في العاصمة طهران أكثر من عشرة ملايين مشيِّع.
ودُفِن ( قدس سره ) بجوار مقبرة جنة الزهراء ( عليها السلام ) جنوب طهران ، قريباً من مقبرة الشهداء ، وذلك حسب وصيته ( قدس سره)
وصار مرقده الشريف مزاراً للعارفين الثائرين والسائرين على خطه ، والمنتهجين نهجه الديني الثوري ، ليس فقط في إيران ، بل وفي أرجاء المعمورة كلها.