بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين لا يخفى على المتتبع لتاريخ الطائفة الإمامية أن الله عز وجل قد أنعم عليها طيلة عصر الغيبة بالعلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابين عن دينه والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك ابليس ومردته، ومن فخاخ النواصب الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما تمسك السفينة سكانها، كما ذكره الإمام الهادي عليه السلام في روايته المعروفة.
ونحن في هذه السطور نحب أن نرسم ملامح أحد هؤلاء الذين نذروا أنفسهم لخدمة الدين الحنيف، مثابرون ومجاهدون في إيصال أحكام الله تعالى لخليقته وفي إنقاذ ضعفاء عباد الله من شباك ابليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، ألا وهو شيخنا الاستاذ المرجع الكبير آية الله العظمى الشيخ الميرزا جواد التبريزي دام ظله العالي.
فإنّ من المفروض علينا أن نعرف للعالم وللمؤمنين وأهل العلم بالخصوص سيرة علمائنا الأعاظم والصالحين من سلفنا لتكون نبراساً ومنهاجاً لرواد العلم وعشاق الحقيقة، ومن أجل أن يعرف الجميع كم عانى علماؤنا الصالحون في حياتهم حتى تشرفوا بالنيابة عن ولي الله الأعظم عجل الله تعالى فرجه الشريف، وما توفيقنا إلا بالله عليه نتوكل وإليه ننيب.
مولده:
ولد شيخنا الاستاذ الأعظم بسنة (١٣٤٥ هـ.ق ) في مدينة تبريز وفي نفس مركزها وهي من المدن المهمة في إيران، وقد برز منها الكثير من علمائنا الأبرار قدس الله أنفس الماضين وحفظ الباقين منهم، في اُسرةٍ كريمة عُرفت بالولاء لمحمدٍ وآله عليه وعليهم الصلاة والسلام، وكان والده الحاج علي من التجار في مدينة تبريز ومن المعروفين بالصلاح والتقوى.
فنشأ الاستاذ في رعاية والديه العطوفين، حتى بلغ سن السادسة من عمره الشريف، فدخل المدرسة الأكاديمية رغم صعوبة وتكلفة الدخول في المدارس الحديثة في ذلك الوقت، ولكن ولشدة اهتمام والده به أدخله فيها مما ساعده على نمو فكره واطلاعه على بعض العلوم الحديثة كالرياضيات والهندسة وغيرها.
ثم انه وبعد إكماله مرحلة الابتدائية والثانوية فيها ونظراً لعشقه لطلب العلم وطموحه إلى المعالي أخذ يقرأ بعض المتون في الصرف والنحو والمنطق والبلاغة، تارةً عند أحد المشايخ، وأخرى يقرأ هو بنفسه، وقد فاتح أباه في أن يأذن له بالالتحاق بركب الحوزة، ولكن لصعوبة الظرف المعاشي والسياسي لأهل العلم إبان الحرب العالمية الثانية، لم يأذن له والده في ذلك إشفاقاً منه عليه، فإنّ ما اختاره طريق مليء بالأشواك.
وقد عرض عليه والده أن يشركه معه في تجارته، ولكنه رفض ذلك رفضاً قاطعاً مما جعل الأب العطوف يذعن إلى طلب ولده فأذن له في ذلك فكانت فرحةً عظيمة لهذا الفتى الذي قُدر له أن يكون من أساطين الحوزة وفحول العلماء وكبار المراجع.
فالتحق بالحوزة العلمية في تبريز وكانت حوزةً عامرة آنذاك، وأخذ حجرة في مدرسة الطالبية وكان معه في الحجرة المرحوم العلامة الشيخ محمد تقي الجعفري والذي كان يكبره بأربع سنين تقريباً وشرع في قراءة الشرائع واللمعة والمعالم والقوانين والمطول وأتمّ السطوح عند علماء وفضلاء تبريز.
وكان عفيف النفس شريفها، فلم يكن يظهر ما به من عوز واحتياج إلى أحد وإن كان أقرب الناس إليه، حتى والديه، معتمداً في ذلك على الله سبحانه وتعالى، وربما طوى ليله بنهاره لم يذق فيهما طعاماً، وهو في ريعان شبابه، وقد حدثني مرة حيث كان في بعض الأوقات يحدث بعض تلامذته وخواصه بمثل هذه الامور حينما يراهم منزعجين من امور الدنيا.
وقال: إنه مر علي يومان أنا والشيخ الجعفري لم نذق فيهما طعاماً حتى ضعفنا من الجوع، ولما جاء يوم الجمعة وبعد الظهر جاء أحد التجار إلى المدرسة وأعطى للطلبة مالاً لصلاة الوحشة، يقول فأخذت شيئاً من ذلك المال وذهبت إلى السوق فوجدته مقفلاً، وبعد فحصٍ عثرت على طعامٍ بائت فاشتريته وأعددته بنفسي وأكلنا.
الهجرة إلى النجف الأشرف:
وفي يوم من الأيام، كما حكى الاستاذ دام ظله، قال : كنت جالساً في ساحة المدرسة اُفكر في كيفية الذهاب إلى النجف، وإذا برجل على رأسي وقد بان عليه أنه من التجار، وكان يأتي في السابق إلى المدرسة حباً منه لأهل العلم، والظاهر أنه كان يتابع نشاطي العلمي ويسأل عني من دون وجود علاقة بيننا.
جاء هذا الرجل وسلّم وقال: ما لك متفكراً؟ وجلس إلى جنبه، فقلت له: أفكر في الذهاب إلى النجف، فقال: وما يمنعك من الذهاب؟ فأجبته: يمنعني أن السفر ممنوع وخصوصاً للشباب، وكان ذلك إبان رجوع الشاه بعد سقوط حكومة مصدق، فقال الرجل : لا عليك، أعطني صورك وبعض المعلومات واترك الأمر لي، فعجب الشيخ من ذلك، لكن الله إذا أراد شيئاً هيأ أسبابه، فأعطاه ما يحتاجه وذهب الرجل، فما مضى يوم واحد حتى عاد ومعه جواز سفر إيراني رسمي قد هيأه عن طريق بعض أصدقائه وعلاقاته، ولعله دفع مالاً لأجل ذلك. وقال له: هذا جوازك، فهيئ نفسك غداً للسفر إلى العراق.
وفي الصباح جاء إليه وذهبا معاً إلى قريب من مدرسة الحجتية اليوم، وكانت تعتبر آخر قم في ذلك الوقت، وقريب منها يوجد موقف للسيارات التي تذهب إلى العراق، فاستأجر له كرسياً في سيارة صغيرة مع ثلاثة أشخاص، وأعطاه متاعاً للسفر وودعه، فشكر له الشيخ جميله ودعا له كثيراً.
وتحركت سيارتهم، فلما وصلت إلى قريب الحدود جاء سيل اضطرهم إلى المكث يومين، وبعدها واصلوا المسير إلى بغداد، وتوقفت السيارة بهم في الكاظمية، فذهب الشيخ إلى زيارة الكاظمين عليهما السلام، وبعد فترة توجه إلى كربلاء وتشرف بزيارة سيد الشهداء، ثم توجه صوب النجف حيث الأمل، والشوق الشديد للحوزة العلمية فيها.
وبعد الوصول، توجه فوراً إلى زيارة أمير المؤمنين عليه السلام، ثم نزل ضيفاً على صديقه المرحوم الشهيد آية الله الشيخ ميرزا علي الغروي التبريزي قدس الله نفسه الطاهرة، ولعن قاتليه، الذي كان قد سبقه بثلاث سنين في الهجرة إلى النجف، فنزل عليه ضيفاً في غرفته بمدرسة الخليلي، ثم تهيأت له غرفة في مدرسة القوام الواقعة خلف مسجد الطوسي، وكانت هجرته من قم إلى النجف في حدود سنة ١٣٧١هـ.ق.
يقول الاستاذ، إنه وبعد وصوله ذهب إلى درس السيد الخوئي قدس الله نفسه، وكان السيد يلقي بحثاً في الاُصول بعد صلاة المغرب والعشاء في مسجده الذي يقيم فيه صلاة الجماعة، والمعروف بمسجد الخضراء، وكان البحث في تلك الجلسة حول أنه هل يجب الفحص في الشبهات الموضوعية أم لا، وقد اختار السيد ما هو المعروف من عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية.
إلا أن السيد تمسك لعدم وجوب الفحص ـ إضافةً لأدلة أخرى ـ بصحيحة زرارة، والمعروفة بمضمرة زرارة في الاستصحاب، والتي لا يضرها الاضمار لما ذكر الاستاذ من أنه يفهم من خلال تفريعاتها ومتنها وتدقيق زرارة في السؤال واهتمامه به وكذلك دقة الأجوبة أن المخاطب بقوله (قلت له) هو الإمام، والظاهر أنه الباقر عليه السلام، يقول (قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف... إلى أن يقول: قلت: فهل علي إن شككت أنه أصابه شيء أن أنظر فيه قال لا) الحديث.
فالسيد استدل بهذه الرواية على عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية، وبالفقرة الأخيرة (قوله : علي أن أنظر فيه قال : لا). وفي اليوم التالي ذهب الاستاذ إلى بيت السيد الخوئي ودخل عليه، يقول فوجدته جالساً ومعه أحد السادة من أهل العلم العرب، فسلمت وجلست، وقلت له: سيدنا إن ما تفظلتم به البارحة من أنه لا يجب الفحص في الشبهات الموضوعية صحيح، ولكن استدلالكم بصحيحة زرارة غير تام، وذلك لأن النجاسة في الثوب على فرض ثبوتها مانع علمي لا واقعي، فمتى علم بنجاسته لا يجوز الصلاة فيه مثلاً، ولذا أجاب الإمام زرارة عند سؤاله عن الفحص في الثوب (هل يجب قال لا) إذ لا يجب تحصيل العلم المحقق للمانعية، وكلامنا ـ والحديث للاستاذ دام ظله ـ إنما هو في الشبهات الموضوعية الواقعية، علمت أم لم تعلم، وأنه هل يجب الفحص فيها أم لا؟ يقول: فلما سمع مني السيد ذلك قبل، وقال لي: أحسنت، الحق معك.
يقول الاستاذ: وحيث كان حديثي ومناقشتي له إما باللغة التركية أو الفارسية، رأيت أن السيد الجالس معه متحير يريد فهم المناقشة، بعد أن رأى السيد الخوئي قد قبل ما قلته له، فسأل السيد ماذا يقول هذا الشيخ، فترجم له المناقشة، فقبل هو أيضاً، ثم بعد مدة عرفت أن هذا السيد الذي كان جالساً اسمه السيد محمد باقر الصدر رحمه الله، ويتابع الاستاذ نقل ما حصل بعد ذلك.
وفي اليوم الآخر حيث كان السيد الخوئي جالساً بالمسجد متكئاً على المنبر ووجهه قبالة الباب ينتظر ساعة ابتداء الدرس ليشرع وكان إلى جنبه الشيخ محمد علي التوحيدي التبريزي صاحب مصباح الفقاهة رحمه الله، دخل الاستاذ دام ظله ورآه السيد الخوئي ومن ثم شرع في درسه، وبعد انتهاء الدرس جاءه التوحيدي وقال له : إنه وحين دخولك المسجد سألني عنك السيد الخوئي فقلت له: إنه من أهل تبريز، كان يدرس في قم وجاء تواً إلى النجف. يقول التوحيدي: إن السيد الخوئي قال عندها: سيكون لهذا الرجل شأن ومستقبل زاهر.
وهكذا حتى مضى له في النجف سبعة أشهر أو ثمانية وفي ذات يوم في عصر الجمعة كان ذاهباً إلى مقبرة وادي السلام فلم يشعر إلا وسيارةً تمر من أمامه مسرعة فذهبت مسافة ورجعت إليه، وفُتح بابها وخرج منها شخص وأقبل نحو الشيخ فنظر إليه وإذا هو رفيقه الذي ساعده في السفر إلى النجف وهيأ له الجواز، ففرح بلقائه وجاء به إلى غرفته وكان قد جاء إلى الزيارة، وبعد فترة استراحته، قال له التاجر: إنه آن الأوان أن تتزوج وتستقر، وفعلاً تم الزواج من امرأة صالحة بتبرع هذا التاجر بمصاريف الزواج، واستقر الاستاذ في دارٍ استأجرها مع زوجته التي هي مصداق للمقالة المعروفة: وراء كل عظيم امرأة عظيمة، وكان ثمرة هذا الزواج المبارك ثلاثة ذكور وأربع بنات.
ثم إن الاستاذ بقي مواصلاً للبحث في النجف وأخذ اسمه يزداد شهرةً بالفضل، وأخذت حلقة درسه تتسع وهو مع ذلك ملازم لدرس السيد الخوئي فقهاً واُصولاً حتى طلب السيد منه حضور جلسة الاستفتاء التي لا يحضرها أحد إلا بإذن خاص من السيد، وكان من المشتركين بالجلسة إضافةً إلى الاستاذ التبريزي السيد محمد باقر الصدر، الشيخ مجتبى اللنكراني، الشيخ صدرا البادكوبي، والشيخ الوحيد الخراساني، والسيد السيستاني، والشيخ علي أصغر الأحمدي الشاهرودي.
فكان له الحظ الأوفر من البحث والمناقشة، وقد أطلق عليه السيد الخوئي لقب الميرزا، وهو في عرف الترك يطلق على الرجل الكثير العلم، فاشتهر به. وقد ولازم درس السيد الخوئي تسع سنين ومجلس استفتائه أكثر من عشرين سنة، ولما توفي السيد الإمام الحكيم وأراد السيد الخوئي أن يطبع حاشيته على رسالة السيد الحكيم (المنهاج)، دفع الحاشية لفضلاء تلاميذه ومنهم الميرزا لمطالعتها ومعرفة أنها موافقة لمباني السيد أم لا.
وكان السيد الخوئي رحمه الله مهتماً بحضور الميرزا لمجلس استفتائه وبقائه في النجف، وذكر الاستاذ دام ظله أنه في سنة من سنين وجوده في النجف جاءته رسالة من أبيه في تبريز يقول له فيها إلى متى تبقى بعيداً عني، فعد إلى وطنك وأهلك في تبريز.
يقول الاستاذ: تحيرت كثيراً ودخلني حزن، لأنني وجدت ضالتي في النجف، فكيف يمكن أن أتركها، ومن جانب لا يمكن أن أعصي والدي، فشكوت همي لاُستاذي الخوئي، فأجاب السيد: لا تهتم سوف أكتب كتاباً إلى عالم تبريز أطلب منه أن يذهب إلى والدك ويقنعه ببقائك بالنجف، وفعلاً كتب السيد ذلك وذهب العالم إلى والد الشيخ وعرض عليه رسالة السيد الخوئي، فقبل والد الشيخ على الفور.
ثم إن الاستاذ بقي في النجف مواصلاً لتدريسه واشتغاله العلمي حتى انتقل بدرسه إلى مسجد الخضراء، فكان يرقى منبر استاذه الخوئي ويلقي درسه بالكفاية وغيره من السطح على ما يقارب المائتين طالب، وهذا الرقم في النجف لدرس الخارج كثير، فضلاً عن السطوح.
وبعد وفاة السيد الحكيم بعام شرع الاستاذ في تدريس الخارج فقهاً على مكاسب الشيخ، والاصول من أول الدورة، وقد بارك له استاذه السيد الخوئي ذلك، وقد حدثني المرحوم الشيخ المشكيني ابن آية الله أبو القاسم المشكيني، وقد كان وقتها في النجف أنه سأل السيد الخوئي عن الميرزا جواد التبريزي فقال له كما نقل لي: إنه فاضل مجتهد مطلق.
وهكذا، حتى سنة ١٣٩٣هـ فقرر الاستاذ العودة إلى إيران، وذلك للمضايقات من قبل حكومة العراق لأهل العلم، وقد طلب منه بعض علماء النجف المعروفين البقاء وعدم الذهاب من النجف بمن فيهم السيد الخوئي، ولكنه قد ضاق صدره بما يراه من منكراتٍ وظلمٍ للمؤمنين على يد الظلمة في العراق، فودع النجف مأسوفاً عليه، ونزل قم المقدسة واحتف به طلابها.
فشرع في درسه خارج المكاسب والاصول في بيته، ومن ثم في مسجد (عشق علي)، ولما كثر تلاميذه انتقل إلى حسينية ارك القريبة من داره إلى أن كثر حضار الدرس كثرةً لا يسعهم المكان فانتقل وقبل أكثر من عشر سنين بدرس الفقه إلى المسجد الأعظم بالحرم المطهر، حتى أصبح أستاذ الحوزة العلمية، فبلغ تلاميذه ألف وأكثر في الفقه.
ومن حضر بحثه وجده مشتملاً على مطالب عميقة وشواهد كثيرة وكليات عريضة يطبقها على صغرياتها باستدلالٍ رصين وشاهدٍ متين وجمعٍ عرفي للروايات واطلاع واسع وتحقيق دقيق في علم الرجال وحال الرواة .
وأما الاصول فهو مشغول في الدورة الرابعة له، وقد كان له درس في الرجال في العطل ودرساً فقهياً آخر بعد درسه الصباحي إلا أنه عطلهما لكثرة المشاغل وعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه، نظراً لمرجعيته المترامية الأطراف والمتسعة في الآفاق، فأسس لذلك مجلس استفتاء يجيب على الأسئلة التي ترد عليه من مختلف الأقطار، والذي يحضره عدة من الفضلاء لتحرير الفتاوى وضبط مداركها ومبانيها.
الهجرة إلى قم المقدسة:
وبعد أن أكمل السطح بجد وتفهم رأى أن الحوزة الموجودة في تبريز لا تروي عطشه للعلم، فتاقت نفسه للرحيل إلى قم المقدسة والتي كانت تحتظن عدة من الفحول وعلى رأسهم مؤسس الحوزة الثاني الإمام البروجردي الذي كان قد نزلها قبل وقت قصير، وبعد عامٍ على التحديد. خرج الاستاذ من تبريز بعدما ودع الأحبة متوكلاً على الله وكله شوق للبحث والتحصيل العلمي، مجسداً معنى الحديث: «إني وضعت العلم في الجوع والغربة»، فوصل إلى قم وهو غريب لا يعرف بها أحداً، إلا بعض الأصدقاء الذين قد تعرف عليهم في تبريز، وأخذ حجرة في مدرسة الفيضية، والتي تعتبر مركز الدراسة في الحوزة في ذلك الوقت، ولازالت.
وكان وصوله إلى قم في أوائل سنة ١٣٦٤ هـ.ق وكان عمره الشريف وقتها ١٩ سنة، ولما استقر به المقام، شرع في مواصلة تحصيله العلمي، فحضر أولاً عند ا ية الله العظمى المرحوم السيد محمد الحجة الكوه كمري فقهاً واُصولاً، ولمدة أربع سنين، وحضر عند الفقيه آية الله آغا رضي الزنوزي التبريزي أربع سنين أيضاً، في الفقه الذي كان من تلامذة المرحوم الخراساني (قده )، وأيضاً لازم من حين وصوله إلى قم درس المرجع الكبير الإمام البروجردي فقهاً واُصولاً ولمدة سبع سنين، وهي مدة إقامته في قم المقدسة. وبدأ خلال هذه المدة بتدريس المقدمات وكتاب اللمعة والمعالم والقوانين، وقد ذكر لي دام ظله أنه كان يدرس المعالم في مقبرة شيخان القريبة من الحرم الشريف، وقد حضر عنده الكثير من الفضلاء في تلك المرحلة. واستمر على هذا المنوال إلى أن شرع في تدريس الرسائل للشيخ الأعظم (قده) وقد نقل لي أحد الفضلاء الثقاة أن الاستاذ التبريزي كان يعد في تلك الفترة من أساتذة السطوح في الحوزة، ولأنه لم يكن قد تزوج بعد، فقد كان مقيماً معنا في المدرسة، وكنا نتمنى مكالمته لكي نستفيد منه، وكنت أجلس قريباً من حجرته عله يخرج فأسأله عن مسألة في النحو أو الفقه أو غير ذلك، وكنت إذا سألته يجيبني ويشرح لي بترحاب صدر وتبسم، وكنت أرى نور حجرته مضيئاً إلى ساعات متأخرة من الليل، مشغولاً فيها بالمطالعة والكتابة، فيزيدني ذلك همةً ونشاطاً، انتهى.
وعلى أي حال، انقضت سبع سنين، والميرزا على هذا النهج حتى شرّفه الله تعالى بتلك النفحة القدسية والجنبة الروحية، فصار مجتهداً قادراً على استنباط الأحكام الشرعية، هذا وهو في العقد الثالث من عمره الشريف، إذ كان عمره آنذاك ستة وعشرين سنة، إلا أنه كان يتطلع للأرقى ويطلب المزيد، فهو مصداق طالب العلم الذي لا يمل ولا يكل، فكانت تسيطر عليه الرغبة في الهجرة إلى النجف الأشرف، ولكن ونظراً إلى الظرف المادي والسياسي حيث كان ذلك إبان سقوط ثورة مصدق وقد أغلقت الحدود ومنع السفر من إيران وخصوصاً للشباب. ظل الاستاذ شديد الشوق دائم التفكير في الوصول للنجف.
مرجعيته:
لقد تصدّى شيخنا الاستاذ للمرجعية بعد وفاة أستاذه الإمام الخوئي بعد طلب جمع من العلماء والفضلاء الذين رأوا فيه الجدارة والكفاءة العلمية والعملية لمنصب المرجعية وأشاد بفضله الكثير من أساتذة الحوزة وفضلائها كما أعلنت جماعة المدرسين عن ترشيحها لسبعةٍ من العلماء للمرجعية، كان شيخنا الاستاذ آية الله العظمى الميرزا جواد التبريزي دام ظله من ضمنهم.
وكذلك أصدرت جماعة روحاني مبارز طهران عن طرحها لثلاثةٍ من العلماء وكان الاستاذ من ضمنهم، وأخذت مرجعيته ترتقي وتتسع شيئاً فشيئاً في إيران وخارجها، كالكويت والسعودية والقطيف وقطر والبحرين ولبنان وسوريا والعراق، وكذلك في البلدان الاوروبية واستراليا وأفريقيا.
شخصيته:
إن الحديث عن شخصية الاستاذ من جانبين:
١ ـ الجانب السلوكي.
٢ ـ الجانب العلمي.
أما الجانب السلوكي: فإن الاستاذ قوي الشخصية، متين في جريه، حذر فطن، ذو رقة ورحمة لا يعرفها كل أحد، مواظب على صلاة الليل، بكّاء، وخصوصاً في عزاء سيدالشهداء، ترابي المنهج في الحياة، زاهد في الدنيا بعيد عن كل تكلفات الحياة، ذو همة عالية، دائم التفكير في مطالبه العلمية، قلما تجده فارغاً.
وقد قال يوماً: إني ما عرفت التعطيل أربعين سنة، ليلاً نهاراً، وكثيراً ما يقول : إنني طلبة.
كثير التفكير بالموت، يقرأ وصيته دائماً، لم تتغير حالته بعد أن أصبح مرجعاً، فكثيراً ما تراه وحده، وقد رأيته يوماً بعد أن خرج من درس الفقه فتتبعته علّي أستـفيد شيئاً منه من مطلبٍ علمي أو عبرةٍ أعتبرها، فرأيت عليه عباءةً ممزقة قد مزقت مزقاً بقدر الكف أو أكبر.
فقلت له: شيخنا، إن عبائتك ممزوقة، وكنت أظنه لا يعلم بذلك، فقال لي: أعلم، وعندي عباءة جديدة، ولكن هذه أحب إلى قلبي، قلت: ولماذا؟ قال : لعل هناك طالب علم عباءته ممزقة ويستحي أن يخرج بها، فإذا رآني تشجع وخرج.
فهو دائم التفكير في رقي حال الطلاب وتحسين أوضاعهم، فإضافةً إلى دفعه رواتب شهرية إلى طلاب الحوزة العلمية وعلى نحو العموم، أسس مستوصفاً خيرياً وبنصف قيمة للطلبة بالخصوص من دون مطالبتهم بإثبات هويتهم، وهو مجهز بكافة الأجهزة والأدوية مع وجود كادر طبي متخصص.
وهو شجاع القلب، شديد لا تأخذه في الله لومة لائم، وخير دليل على ذلك وقوفه بوجه المنحرفين عن خط أهل البيت عليهم السلام وتصديه ورفعه لعلم الولاء رغم خطورة الموقف، وقد حذّره بعض المحبين بأن تصديكم لهكذا أشخاص ليس في صالح مرجعيتكم!!
فقال: لتذهب مرجعيتي وأولادي ونفسي فداءً لأهل البيت عليهم السلام.
فأعلن رأيه وفتواه صريحاً في الذين يصطادون في الماء العكر، ويحاولون تشكيك الناس وتسخيف عقائد الشيعة، فأفتى بضلالتهم ووجوب مقاطعتهم وحرمة إعانتهم.
وقد أوذي كثيراً جراء هذا الموقف لكنه صبر ومازال صابراً محتسباً، كما أنه انطلاقاً من وعيه للأخطار الثقافية المحدقة بالمسلمين فقد أسّس داراً للنشر تعرف بـ(دار الصدّيقة الشهيدة) هدفها نشر البحوث العقائدية وترويج الفكر الصحيح حتى من خلال شبكة الانترنت.
زاد الله في العلماء العاملين أمثاله، وأطال عمره الشريف لخدمة الدين والمذهب.
أما الجانب العلمي: إن شيخنا الاستاذ فقيه متضلع وأصولي بارع ورجالي خبير. أمّا تضلّعه في الفقه فيتجلّى للمتأمل في سلامة ذوقه وحسن سليقته، فاستظهاراته للروايات وجمعه بين المتعارضات منها بأجود الوجوه العرفية مما يجري على لسانه من دون مؤونة ولا تكلّف، كما يبرز ذلك أيضاً في سيطرته على صناعة الاستنباط والتطبيق، فهو مستحضر لمتون الكبريات الفقهية والأصولية بشكل متميز دقيق في تطبيقها على صغرياتها سريع الالتفات لخصائص الفروع المختلفة عند المقايسة بينها، فتراه في مجلس الاستفتاء يومياً يتناول المسائل الفقهية من باب الطهارة وحتى باب الديات بنفس علمي واحد وقوة فريدة، حاضر النكتة قوي الحجة.
وأما براعته في الأصول، فتتبين في طريقة تناوله لمادة الأصول، فهو لا يعتني باستعراض جميع الآراء في المبحث مع مناقشة كل واحد منها بما يوجب اضطراب المطلب في ذهن الطالب وعدم سيطرته على محور البحث وإنما يبذل جهده في توضيح محور النزاع مع بيان مختاره فيه بنحو تندفع به كثير من الشبهات المطروحة في الكلمات، وإذا تصدى لمناقشة الآراء كانت مناقشته لها منصبة على بيان بعدها عن نكتة البحث، فمنهجه في الأصول كمنهجه في الفقه أفضل منهج، يربي الطالب على التركيز على النكات المهمة المؤثرة في قبول المطالب ورفضها من دون حشو البحث بتوضيح المصطلحات أو شرح الأفكار الهامشية على أساس البحث.
وأما خبرته في الرجال والحديث، فيظهر لك عند سؤاله ومناقشته حيث تجد عنده كثيراً من النكات والتنبهات الطريفة الناتجة عن طول ممارسته للرجال والحديث ما يربو على أربعين سنة. هذا كله بالإضافة لبحثه.
وأما بالنسبة لعلاقته بطلابه فهو المربي العظيم والاستاذ المحب لتلميذه، فتراه حريصاً على تربية تلامذته وتنمية مستوياتهم، يستقبل نقاشهم ويبدؤهم بالسؤال ويلاحظ أفكارهم شفاهاً وكتابةً، ويعطيهم بحوثه وآرائه لمعرفة مقدار ورودهم في المطالب العلمية.
وبعبارة مختصرة جامعة: إن شيخنا الاستاذ صورة حية عن استاذه الخوئي فكراً وقوةً ومتناةً وأسلوباً.
مؤلفاته:
أ ـ الفقه:
١ ـ رسالة توضيح المسائل
٢ ـ المسائل المنتخبة (العبادات والمعاملات)
٣ ـ صراط النجاة (٦ مجلدات)
٤ ـ منهاج الصالحين (٢ مجلدات):
الجزء الأول: العبادات
الجزء الثاني: المعاملات
٥ ـ مناسك الحج
٦ ـ استفتاءات في مسائل الحج
٧ ـ أحكام النساء في الحج والعمرة
٨ ـ التهذيب في مناسك الحج والعمرة (٢ مجلدات)
٩ ـ كتاب القصاص
١٠ ـ أسس القضاء والشهادة
١١ ـ أسس الحدود والتعزيرات
١٢ ـ طبقات الرجال، بحث وسيع في الرجال
١٣ ـ حاشية على العروة الوثقى
ب ـ الاُصول:
١ ـ إرشاد الطالب في شرح المكاسب، أربع مجلدات (مطبوع ).
٢ ـ دروس في مسائل علم الاُصول:
الجزء الأول: مباحث الألفاظ
الجزء الثاني: مباحث الألفاظ
الجزء الثالث: الأمارات والاُصول العملية
الجزء الرابع: مباحث الاستصحاب
الجزء الخامس: التعادل والتراجيح ـ الاجتهاد والتقليد
ج ـ العقائد:
١ ـ اعتقاداتنا
٢ ـ الأنوار الالهية في المسائل العقائدية
٣ ـ فدك
٤ ـ نفي السهو عن النبي (صلى الله عليه وآله)
٥ ـ رسالة مختصرة في النصوص الصحيحة على امامة الأئمة الإثني عشر (عليهم السلام)
٦ ـ رسالة مختصرة في لبس السواد
٧ ـ ظلامات فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)
٨ ـ عبقات ولائية
٩ ـ تنزيه الأنبياء
١٠ ـ الشعائر الحسينية