الحديث عن فقه الاقدمين من فقهائنا يتطلب دراسة مستوعبة وشاملة، تسلط الضوء على اهم المرتكزات التي قام عليها فقههم وتميز بها عن فقه المرحلة السابقة لظهوره، مرحلة الفقه الماثور.
وما نقصد اليه في هذا البحث هو الوقوف بتامل مع البدايات المبكرة لتلك الحقبة، وذلك من خلال التعرض لشخصية فقيه لامع من فقهاء الطبقة المذكورة وروادها الاوائل الذين حاولوا عبر اسهاماتهم وكتاباتهم في الفقه ترشيد حركته وارساء منهجية تاسيسية لطريقة بحثه، وتحقيق نقلة نوعية في مساره.
واذا اردنا ان نخرج من التلميح الى التصريح قلنا مع من قال: ان الفقيه العماني الحسن بن ابي عقيل هو اول من ابدع اساس النظر، وهذب الفقه، وفتق البحث عن الاصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى.
وهذا ما سنعود اليه ان شاء اللّه تعالى عند تحديد ابعاد الدور العلمي الذي نهض به هذا الفقيه البارع بعد قراءة لفصول سيرته الشخصية، واقوال العلماء فيه.
اسمه وكنيته:
ابو محمد الحسن بن علي بن ابي عقيل العماني الحذاء. وياتي ايضا ابو علي الحسن بن عيسى بن ابي عقيل العماني، وهما عبارة عن شخص واحد، ورجح بعض محققي الفن الضبط الاول; لانه للنجاشي، وهو ابصر في علم الرجال من غيره; ولان النجاشي نقل عن جعفر بن قولويهرحمهاللّه معاصر العماني، انه قال: «كتب الي الحسن بن علي بن ابي عقيل».
وقد حاول البعض الجمع بين النقلين، فاحتمل ان عيسى جده باعتبار شيوع النسبة الى الجد، لكن قد يستبعد ذلك من وجهين:
الاول: ان المتبادر من سياق العبارة الثانية ونظائرها هو النسبة الى الاب دون الجد.
الثاني: قد تكرر الضبط الثاني من الشيخ الطوسي رحمه اللّه في موضعين من الفهرست، وفي موضع من رجاله، فلو كان يريد بعيسى النسبة الى الجد فلم لاينسبه ولو في موضع واحد الى ابيه؟! على ان ضبط الرجاليين مبني على الدقة والتحديد، وهو يقتضي ذكر اسم ابيه لا جده، ولا اقل من التنبيه على ان المذكور هو اسم جده لا ابيه.
واحتمل صاحب الرياض على بعد تصحيف علي بعيسى، الا انه ممنوع من اصله، لما ذكرنا في الوجه الثاني من المناقشة السابقة. وعليه فلا يبعد ان يكون ضبطه بعيسى من سهو القلم.
واما الكنية، فالانسب باسمه ان يكون ابا محمد لا ابا علي، كما ان احتمال تعدد الكنية فيه وارد ايضا.
لقبه:
المعروف في ضبط لقبه وشهرته انه العماني بضم العين وتخفيف الميم، نسبة الى عمان، البلد المعروف. الا ان صاحب الرياض ذكره بتشديد الميم (العماني) ونسبه الى المشهور، واستغربه السيد الامين; اذ لم يضبطه كذلك احد من العلماء.
واما اشتهاره بالحذاء، فلم يتضح الوجه فيه، فهل كان هذا لما اشتهرت به اسرته، ام كانت الحذاءة صنعته في اول امره، او نسبة الى محل سكناه كما اطلق ذلك على البعض لمناسبة كهذه؟
طبقته وعصره:
يعتبر الفقيه العماني من فقهاء الغيبة الصغرى، فقد عاصر شطراً منها، وعليه فهو من طبقة الفقهاء المحدثين الثلاثة:
الكليني المتوفى (٣٢٩هـ) وابن بابويه القمي والد الصدوق المتوفى (٣٢٩هـ) وابن قولويه المتوفى (٣٦٨هـ)، وهذا ما ندركه بوضوح من اجازة كتبه ومصنفاته للاخير منهم، كما سياتي التعرض لذلك. ونحن وان كنا نفقد تصوراً واضحاً ومحدداً عن عصره ومدى ارتباطه بمن عاصره من الفقهاء المذكورين من جهة، وسفراء الامام (عجل اللّه فرجه الشريف) من جهة اخرى الا ان مكاتبته لابن قولويه واجازته الرواية والقراءة لمصنفاته تدل على ومض من الارتباط والصلة بينه وبين علماء الامصار وحواضر العلم الاخرى، بالرغم من بعد موطنه عمان عن مراكز التشيع وحوزاته العريقة.
ومن جهة اخرى فان الابهام ايضا يحيط بدوره في الاوضاع السياسية والاجتماعية لعصره وبيئته. وعلى كل حال فقد كان فقيهنا العماني رحمه اللّه معاصرا للفترة ما بين النصف الثاني من القرن الثالث والنصف الاول من القرن الرابع الهجري.
قال المحقق الطباطبائي: وشيخنا من اهل المئة الرابعة وعبر عنه وعن ابن الجنيد المعاصر له بالقديمين، وكانا من كبار الطبقة السابعة، وابن ابي عقيل اعلى منه طبقة، وهو من مشايخ جعفر بن محمد بن قولويه المتوفى (٣٦٨هـ).
وكان اول من اطلق عليه وعلى ابن الجنيد وصف «القديمين» الفقيه الاجل ابوالعباس بن فهد الحلي في مقدمة «المهذب البارع».
اسرته ومحتده:
قد لا تتوفر لدينا تفاصيل وافية عن اسرة العماني آباء واجدادا، كما لا نعرف شيئا عن عقبه وذريته، الا انه ورد في كتاب «الانساب» للسمعاني ان المشهور بابي عقيل جماعة منهم: ابوعقيل يحيى بن المتوكل الحذاء المدني، نشا بالمدينة ثم انتقل الى الكوفة، وروى عنه العراقيون، منكر الحديث، مات سنة سبع وستين بعد المئة.
وقد جزم المحقق الطهراني رحمه اللّه بان المراد بابي عقيل هذا هو جد العماني، قال ما نصه: «واما جده ابو عقيل، واسمه يحيى بن المتوكل، فقد ترجم له الخزرجي فى خلاصة تهذيب الكمال، فقال: يحيى بن المتوكل مولى آل عمر ابو عقيل المدني صاحب بهية، وروى عنها ويروي عنه وكيع.
واستظهر هذا المفاد ايضاً السيد بحر العلوم مستدلاً بشهادة الطبقة وموافقة الكنية والصفة، مضيفا انه: لا ينافيه كونه مدنياً بالاصل لتصريحهم بانتقاله من المدينة الى الكوفة، واحتمال انتقاله او انتقال اولاده من الكوفة الى عمان.
وبناء على صحة هذا الاستظهار نعرف ان اسرة العماني مدنية الاصل قد انحدرت الى الكوفة ثم الى عمان، كما نعرف ايضا: انها كانت من حملة العلم والحديث.
واما قدح السمعاني في جده (ابو عقيل) فانه غير قادح; اذ كان ابو عقيل (يحيى ابن المتوكل) مشهورا بين الجمهور، وقد ذكره ابن حجر وغيره وضعفوه، والظاهر انه لتشيعه.
وقد نوقش هذا الاستظهار بوجوه عمدتها: انطباق الاسم المذكور على جماعة ذكرهم صاحب المناقشة غير يحيى بن المتوكل.
ويمكن الاجابة عن ذلك بعدم الانطباق الكامل لخصوصيات جد العماني ابو عقيل من حيث الطبقة والنسبة واللقب على من ذكر، على ان منهم من لم نجده بحسب تتبع المظان بالحاسوب في بعض المصادر التي اعتمدها في المناقشة، كرجال الكشي، فانه لم يرد فيه ذكر لابي عقيل يحيى بن القاسم الازدي، بل الوارد فيه ابو بصير الذي ادعي في المناقشة رواية الاول عنه.
وكذا ابو عقيل احمد بن عيسى الذي ذكره المستشكل نقلا عن (الاكمال لابن ماكولا) ولكن لم نعثر عليه في هذا الكتاب ولا في البخاري المدعى نقل الاكمال عنه، بل ان بعض المذكورين بهذه الكنية (ابو عقيل) يقطع بعدم انتساب العماني اليه; لاختلاف الطبقة كثيرا، كابي عقيل هاشم بن بلال الذي يروي عن ابي سلام خادم النبي صلى الله عليه واله وسلم!! او ابو عقيل المضري الذي يروي عن اسامة بن زيد او غيرهم ممن ذكر.
بيئته:
تحدثت بعض المصادر عن وجود شيعي في عمان الى جانب الخوارج والاباضية الذين كانوا يمثلون الاكثرية في هذه البلاد، ولا ريب ان العماني عاش في تلك البلاد ضمن الاقلية الشيعية، بيد انا لا نعرف شيئا عن امر ولادته ونشأته فيها، ولعل الذي يلوح من نسبته الى عمان وعدم نسبته الى بلاد اخرى يوحي بانها مولده ومحل نشاته وترعرعه. قال الحموي في وصف عمان بعد ان نعتها بانها واسعة ذات زرع و نخل ان: «اكثر اهلها في ايامنا خوارج اباضية ليس فيها من غير هذا المذهب الا طارئ غريب، وهم لا يخفون ذلك».
وحينئذ سوف نواجه جوانب غامضة في حياة العماني خصوصاً في نشاته وتحصيله، ومع بعد عمان عن مراكز العلم الشيعية والاسلامية، فهل رحل الى حواظر العلم الاخرى وحاز على شرف العلم فيها؟ واذا كان الامر كذلك فلم لم ينعكس هذا الامر في مصادر حياته؟ ولماذا لم يذكر مشايخه وتلامذته المستفيدين من علمه؟ ام انه حاز ذلك المقام العلمي الشامخ في موطنه عمان؟ ولكن كيف تم ذلك مع ان اكثر اهلها من الخوارج ولا يرى فيها الاطارئ غريب من غير هذا المذهب حسب الحموي فضلا عن وجود كيان علمي للشيعة فيها قادر على تخريج فقيه بارع ومتكلم ضليع كابن ابي عقيل.
واذا لم يكن لا هذا ولا ذاك فهل يعني هذا اعتداده بنفسه في طي مراحل العلم وتحصيله؟! وعلى كل حال فانتحديد مراحل التكوين العلمي لشخصية العماني من خلال الكشف عن معالم الحالة البيئية والاجتماعية التي عايشها في غربة عمان وعزلتها عن الكيان العلمي للشيعة امر يعتريه كثير من الغموض والابهام.
ولو تجاوزنا ذلك، فان ثمة حقيقة هامة ينبغي الالتفات اليها في هذا المضمار، وهي: ان عظمة العماني وموقعه العلمي المرموق لم يسمحا لبيئته عمان ان تقيده بطوق العزلة والانقطاع عما حوله من بلاد الاسلام الاخرى وعلمائها، وهذا ما نفهمه من اجازته التي كتبها لجعفر بن محمد بن قولويه، والتي نحدس صدورها على اثر طلب ابن قولويه منه كما اقتضته العادة الجارية في صدور الاجازات بين العلماء، سيما لو لاحظنا بعد الشقة بين عمان وبغداد بعد انتقال ابن بابويه اليها من قم، مما يدل على شهرة العماني وذيوع صيته في الوسط العلمي ببغداد، خصوصا عند مثل ابن قولويه استاذ المفيد الذي كان هو الآخر اي المفيد يثني عليه كثيراً.
كما ان بالامكان ان نلمس شهرة العماني بين الطائفة و بلاد المشرق الاسلامي; حيث ذكر النجاشي انه ما ورد الحاج من خراسان الا وطلب نسخاً من كتابه المتمسك بحبل آل الرسول.
مكانته العلمية:
تطابقت كلمات الفقهاء والرجاليين على توثيقه والاطراء على مكانته وفضله، واليك شطراً من اقوالهم وكلماتهم التي اعربت عن جلالة قدره وعظيم شانه:
قال النجاشي في حقه: «فقيه، متكلم، ثقة ... وسمعت شيخنا ابا عبداللّه (رحمه اللّه) يكثر الثناء على هذا الرجل (رحمه اللّه)».
وقال الشيخ الطوسي: «انه من جلة المتكلمين، امامي المذهب».
وذكره المحقق الحلي في من اختار النقل عنه من اصحاب كتب الفتاوى الذين بان اجتهادهم واشتهر فضلهم.
وقال ابن ادريس: «وجه من وجوه اصحابنا، ثقة، فقيه، متكلم، وكثيرا ما كان يثني عليه شيخنا المفيد».
وذكره في موضع آخر ايضاً، فقال: «كان من جلة اصحابنا المصنفين المتكلمين والفقهاء المحصلين».
واثنى عليه العلامة الحلي قائلا: «انه من جملة المتكلمين وفضلاء الامامية رحمه اللّه».
وفي رجال ابن داود انه: «من اعيان الفقهاء وجلة متكلمي الامامية».
واطراه الفاضل الافندي في رياضه بقوله: «الفقيه، الجليل، والمتكلم النبيل، شيخنا الاقدم المعروف بابن ابي عقيل والمنقول اقواله في كتب علمائنا هو من اجلة اصحابنا الامامية».
وقال السيد بحر العلوم: «حال هذا الشيخ الجليل في الثقة والعلم والفضل والكلام والفقه اظهر من ان يحتاج الى البيان، وللاصحاب مزيد اعتناء بنقل اقواله وضبط فتاواه، خصوصا الفاضلين ومن تاخر عنهما، وهو اول من هذب الفقه واستعمل النظر، وفتق البحث عن الاصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى، وبعده الشيخ الفاضل ابن الجنيد، وهما من كبار الطبقة السابعة، وابن ابي عقيل اعلى منه طبقة، فان ابن الجنيد من مشايخ المفيد، وهذا من مشايخ شيخه جعفر ابن محمد بن قولويه كما علم من كلام النجاشي (رحمه اللّه)».
وقال في حقه المحقق الشيخ اسد اللّه التستري الكاظمي (رحمه اللّه): «الفاضل، الكامل، العالم، العامل، العلم، المعظم، الفقيه، المتكلم، المتبحر، المقدم، الشيخ، النبيل، الجليل، ابي محمد او ابي علي الحسن بن ابي عقيل جعل اللّه له في الجنة خير مستقر واحسن مقيل».
وذكره الحجة السيد حسن الصدر، فقال: «شيخ الشيعة ووجهها وفقيهها، المتكلم، المناظر، البارع، احد اركان الدنيا، المؤسس في الفقه، والمحقق في العلوم الشرعية، والمدقق في العلوم العقلية، له كتب كثيرة في كلالفنون الاسلامية، اشتهر بالفقه والتفريع».
وقال الشيخ سليمان الماحوزي: «ثقة من اعاظم علمائنا».
وذكره المحدث الجليل الشيخ عباس القمي بقوله: «عالم، فاضل، متكلم، فقيه، ثقة، جليل القدر».
وقال المحقق السيد الخوئي: «ان شهرة جلالة الرجل وعظمته العلمية والعملية بين الفقهاء الاعلام اغنتنا عن الاطالة والتعرض لكلماتهم».
وقال الشيخ الحر العاملي: «عالم، فاضل، متكلم، فقيه، عظيم الشان، ثقة».
وقال المحقق التستري: «يكفيه ثناء مثل المفيد عليه، مع غمزه في ابن الجنيد، بل وفي مثل الصدوق».
ومدحه نظما صاحب زبدة المقال فقال: سبط ابي عقيل العماني عنه المفيد افقه الاعيان
عطاؤه العلمي:
اتضح لنا من خلال الكلمات السابقة للفقهاء الاعلام المكانة المرموقة لابن ابي عقيل العماني، فقد اجمعت كلماتهم على وصفه بالفقاهة والتضلع في الكلام، وهذا يعكس بشكل واضح عمق العطاء العلمي لهذا الفقيه، و لا ريب ان عطاء بهذه المثابة من الاصالة لا بد وان يستوفي حظه الطبيعي من مصنفاته فيتجسد فيها وان يتجلى ويظهر في من نهل من علمه واخذ عنه.
وهذا الامر وان كان قد يبدو متناسباً مع مصنفات العماني وآثاره التي سنتعرض لها بعد قليل، الا انا لا نرى مثل هذا التناسب بين عطاءه العلمي وبين من اخذ عنه وتخرج عليه، فقد خلت مصادر ترجمته من تحديد تلامذته والرواة عنه، سوى ما ذكر من اجازته بالمكاتبة الفقيه الاجل ابن قولويه لسائر كتبه، التي ياتي على راسها كتابه العظيم (المتمسك بحبل آل الرسول).
واما ثناء الشيخ المفيد عليه كثيراً كما تقدم عن النجاشي فانه بعد فرض ادراكه له لا يدل على تتلمذه عليه; اذ قد يكون ثناؤه لاخبار استاذه ابن قولويه بحاله. ولعل السر في ندرة تلامذته هو ابتعاده عن مراكز العلم المهمة، كقم والري وبغداد وخراسان، مضافاً الى صعوبة الظروف البيئية للعماني بسبب تغلب الخوارج على بلاده، فكان من الطبيعي ان يوجه الفقيه العماني بعد ان عاقته الاسباب المشار اليها جهده العلمي نحو الكتابة وينصرف الى التصنيف.
وقد نصت مصادر ترجمته على وجود عدة آثار وكتب له في الفقه والكلام، وعمدة مصنفاته في هذين المجالين:
١- كتاب الكر والفر: وهو في الامامة، وصفه النجاشي بانه مليح الوضع، وطريقة البحث فيه تناول المسالة وقلبها وعكسها، وهذه الطريقة في البحث على ندرتها في كتب علمائنا تدل على تضلعه ومهارته في صناعة الكلام والجدل.
وقد بلغت اهمية هذا الكتاب حدا رشحه لان يكون في موقع التدريس والبحث لدى علماء الكلام، فهذا الشيخ المفيد على ما هو عليه من التفوق والحذاقة في صناعة الكلام كان يشتغل بتدريسه وايضاح مقاصده وكان النجاشي احد الذين قراوا عليه الكتاب.
واما عن حال الكتاب، فانه لم يتحدد مبدا فقده وضياعه; اذ لا يعرف عنه اكثر من وصوله الى الشيخ المفيد وتلميذه النجاشي كما تقدم.
٢- كتاب المتمسك بحبل آل الرسول: وضعه في الفقه الاستدلالي والتفريعي بشكل موسع، وقد كان هذا الكتاب مشهورا بين الطائفة كما تصفه عبارة النجاشي، ووصف ايضاً بانه حسن كبير كما في عبارة الشيخ الطوسي، وبلغ في اشتهاره وذيوع صيته بعد فراغه من تاليفه بفترة وجيزة، وما ورد الحاج من خراسان الاوطلب واشترى منه نسخاً، وما هذا الا لمكانة الكتاب ومنزلة مؤلفه عند الطائفة.
واما في الفترة المتاخرة عن ذلك فقد كان الكتاب محط نظر الفقهاء واهتمامهم، فاعتنوا بنقل اقواله واستدلالاته وتفريعاته، وهذا ما نشاهده في فقه الحليين الثلاثة(قدس اللّه اسرارهم) (ابن ادريس والفاضلين) اكثر ممن سبقهم نظراً لكثرة التفريع والتشقيق لمسائل الفقه آنذاك، وانفتاح الفقه الامامي وقتئذ على فقه المذاهب الاخرى سيما في عصر الفاضلين، اي العلامة والمحقق، ففي هذه الفترة بالذات تبوء كتاب المتمسك مقاماً سامقاً، وشهرة عظيمة في كتب الفقهاء، فقد ذكر العلامة الحلي المتوفى (٧٢٦هـ) في وصفه انه: «كتاب مشهور عندنا، ونحن نقلنا اقواله في كتبنا الفقهية».
وهو صريح في وصوله اليه واشتهاره في زمانه، كما ان المنقول عن ابن ادريس المتوفى (٥٩٨هـ) وصول هذا السفر القيم اليه.
واما طبيعة موضوع الكتاب، فانه يتحدد بالفقه الاستدلالي وغيره ايضاً، كما نصت عليه عبارة الشيخ الطوسي; حيث ذكر انه في الفقه وغيره، ولا يستبعد ان يكون مؤلفه قد ذكر فيه بعض المباحث الاصولية او الكلامية على طريقة القدماء كما سياتي ذلك. وهكذا فقد بقي هذا الاثر الفقهي العظيم يتلألأ بآرائه الثاقبة في كتب فقهائنا المتاخرين ومتاخريهم، كصاحب الرياض والمسالك والذكرى والحدائق والجواهر وغيرها من مصنفات الاعلام، لما وجدوا فيه من نظرات حصيفة وتشقيقات لطيفة واستدلالات رصينة وصائبة.
وقد آل امر هذا الكتاب ككثير من تراثنا الى الضياع من بعد زمن العلامة المتوفى (٧٢٦ هـ) او الشهيد الاول المتوفى (٧٨٦ هـ) على ما يظهر منه في الذكرى وصول الكتاب اليه. وقد استقصيت جميع آرائه اخيراً بحمد اللّه بالجهاز الحاسوب (الكمبيوتر)، واستخرجت من معظم مصادر الفقه، وافرغت في مجموع يحمل عنوان (حياة ابن ابي عقيل وفقهه).
هذا ما وقفنا عليه من آثاره العلمية، بالرغم من ان المصادر قد نصت على وجود مصنفات اخرى له في الفقه والكلام لم ترد اسماؤها ولم يضبط عددها، فكان مصيرها ايضاً التلف والضياع مع ما تلف من تراث علمائنا الاقدمين، الا ان الذي يمكن الجزم به هو انتقال هذه الكتب ووصولها لعاصمة العلم آنذاك ببغداد، حيث اجاز مصنفها الفقيه الاجل ابن قولويه روايتها، وهذا يعني بالضرورة وجودها عند ابن قولويه.
دوره العلمي:
ربما يتعذر على الباحث ان يرسم الابعاد الكاملة للدور العلمي والفقهي منه بشكل خاص الذي اضطلع به الفقيه العماني نظراً لغياب مجمل آثاره ومصنفاته التي لو كان يقدر لها البقاء لامكن الكشف عن جوانب متعددة في حياته العلمية. وسنسلط الضوء على البعد المذكور من خلال المعلومات المتوفرة في هذا المجال اداء لبعض حقوق هذا الفقيه العظيم، فنقول:
ان الملاحظ للاوضاع العلمية في القرن الرابع والخامس يجد تمازجا وتداخلا بين جملة من العلوم التي ربما يصعب وضع الفواصل بينها، واهم تلك العلوم هي العلوم الشرعية (الفقه والحديث) والعقائدية (الكلام)، وهذه العلوم كانت تمثل ثقافة العصر ومعيار العلم فيه، وقد اختص علم الحديث منها بشان خاص ورسالة مهمة، حيث هيمنت مدرسة الحديث والمحدثين في المئة الرابعة على الفضاء العلمي بمختلف مرافقه الفقهية والكلامية والتفسيرية، فكان منهجها الرائد المساحة العلمية والموجه لها، والذي يحول دون بروز منهج منافس له يحجمه ويعيق حركته.
وكان من اقطاب هذه المدرسة ثقة الاسلام الكليني والشيخ الاجل ابن بابويه القمي وولده رئيس المحدثين الصدوق وابن قولويه (قدست اسرارهم).
ومن هنا فقد صبغت هذه المنهجية مجمل العطاء العلمي لتلك الفترة، ولم تخرج مصنفات اصحابنا عن اطار المنهج الروائي، فدونك ما دون آنذاك في الفقه والكلام والتفسير، بل وحتى الرجال (كما هو واضح لمن لاحظ رجال الكشي) . وفي زحام هذه الحقبة وتراكماتها يطل الفقيه العماني على الساحة العلمية بكامل ثقله ليبذر البذور الاولى لمرحلة جديدة في نمط التفكير الفقهي والكلامي.
ومن ابرز معالم هذه المرحلة اعتماد العقل ونتاجاته اداة اخرى في البحث العلمي يضاف الى كفة النقل وادواته (الكتاب والسنة).
وهذا ما يفتح امام الفقيه بل والمتكلم ايضاً آفاقا عريضة وواسعة في فهم الادلة والافادة منها، ويحدد نمطاً جديداً في طريقة التعامل معها والرجوع اليها، الامر الذي يعزز قدرة الفقيه في ممارسته الاجتهادية، ويكرس لديه قابلية الاستنباط والتفريع والتشقيق واكتشاف المقاصد العامة للشريعة، والاقتراب شيئا ما من درك الملاكات والمباني الواقعية للحكم الشرعي، و من ثم تضاعف قدراته على اكتشاف النظائر والاشباه، وضم القرائن بعضها الى بعض، والاقتراب من مذاق الشريعة، فكان نتيجة ذلك كله ومآله هو اغناء المحتوى الفقهي ورفده بصورة عامة، و هذه هي الركيزة الاساس والمحور الشاخص في دور الفقيه العماني وابداعه، فقد اراد للفقه والكلام (باعتبارهما اسس العلوم وقواعده في ذلك العصر) ان يجريا على مثل هذه الطريقة فيكتشفا نتائجا وآفاقا لم ترق اليها جهود المحدثين وجوامعهم الروائية، وهذا ما قام بتجسيده في كلا البعدين الفقهي والكلامي.
اما البعد الكلامي فان طريقة المتقدمين على العماني او معاصريه قد اعتمدت بشكل غالب على المنهج الروائي الماثور في عرضها للآراء والمعتقدات، ولم تتخطاه الا في مجالات محدودة وبسيطة، وقد تجسدت هذه الطريقة في التراث الكلامي لمتكلمي تلك الطبقة، كالكليني (في اصول الكافي) وابن بابويه (في الامامة والتبصرة من الحيرة) والشيخ الصدوق (في التوحيد واكمال الدين). لكن العماني ارسى منهجا كلاميا يتخذ العقل والنظر اساساً له، ولنقرا عبارة النجاشي، وهي تصف لنا كتابه وتصور لنا منهجه، قال: «وقرات كتابه المسمى كتاب (الكر والفر) على شيخنا ابي عبد اللّه رحمه اللّه: المفيد وهو كتاب في الامامة مليح الوضع، مسالة، وقلبها، وعكسها».
وهذا الوصف مما انفرد به كتاب العماني على نطاق طبقته ومن تاخر عنه من كتب الكلام، و لم نجد عبارة لمؤرخ رجالي يصف كتابا بمثل هذا الوصف.
ولنا ان نستوحي هذا الوصف من عنوان الكتاب ايضاً فقد عنونه به مؤلفه ليكون معبراً عن منهجه العقلي الجديد، فكان دقيقاً ومصيباً في اختياره، فالجميع يدرك المعنى الذي تتضمنه طريقة الكر والفر في البحث; اذ تفترض الاحاطة الكاملة بجميع فروض المسالة وكيفية اثباتها ومن ثم ما يرد على كل واحد منها ودفعه او التسليم به، وعلى ضوء ذلك ندرك عظمة الكتاب وقيمته العلمية، حتى تميز بموقع مرموق من بين مصنفات الطائفة في الكلام، فلا غرو ان كان الشيخ المفيد يثني على مصنفه ويبدي اعجابه بطريقته، حتى بلغ اهتمامه به الى تدريسه بحوزة بغداد.
هذا فيما يتعلق ببعض الابعاد الكلامية عند الفقيه العماني والتي نؤمن بعدم الايفاء باستجلائها بشكل كامل; اذ ثمة مؤلفات اخرى له في الكلام لا نعرف عنها شيئا. فلا يسعنا سوى الاذعان بالقصور في مقام التكشيف عن الحجم الحقيقي لابن ابي عقيل متكلماً.
واما في البعد الفقهي، فقد حاول العماني تثبيت منهجية تاسيسية، وذلك عندما اعتبر العقل مصدرا ثالثا من مصادر الاجتهاد بعد ان كانت مدرسة الفقه الماثور (المحدثين) تعتمد مصدرين فحسب (الكتاب والسنة); ولذا فانها لا تتخطى النص في ممارساتها الاجتهادية، وهذا امر واضح لمن قارن بين فقه هاتين المرحلتين. وبهذا يكون العماني قد فتح امام الفقه والفقهاء افقاً رحيباً وخصباً لم يعهد من قبل من غالب الاستنباطات الفقهية، ويعتبر هذا التجديد في فقه تلك المرحلة من اهم المنعطفات التي تعرض لها فقه الامامية، وبقى محافظاً ومتمسكاً بها الى عصرنا الحاضر.
وفي هذا الصدد يقول فقيه الطائفة السيد بحر العلوم، واصفاً دور الفقيه العماني: «هو اول من هذب الفقه، واستعمل النظر، وفتق البحث عن الاصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى، وبعده الشيخ الفاضل ابن الجنيد، وهما من كبار الطبقة السابقة».
وايضا ذكر العلامة الحجة السيد حسن الصدر مشيدا بمنهج العماني وطريقته قائلا في نعته: «احد اركان الدين، المؤسس في الفقه، والمحقق في العلوم الشرعية، والمدقق في العلوم العقلية، له كتب في كل الفنون الاسلامية، اشتهر بالفقه والتفريع».
انعكاسات طريقة العماني ونتائجها:
ومن اهم الاهداف التي كان العماني يطمح الى تحقيقها عبر جهوده العلمية الموجهة في مجالي الفقه والكلام، هو التركيز على اراءة منهج فني علمي قائم على اسس ثابتة وقواعد علمية رصينة كبديل عن المنهج القديم، وتحاشياً لنقاط الضعف فيه (كقلة التفريع، والجمود على ظاهر النص)، وفي طول الغرض المذكور ياتي هدف آخر يتلخص في الدعوه الى فصل الفقه عن الحديث كعلم مستقل له قواعده ومكوناته ومبادئه، كما ان له لغته وادواته الخاصة في الخطاب تختلف عن لغة النص، الامر الذي لم تالفه مدرسة الحديث في فقهها الروائي. غير ان الذي لا بد من ملاحظته هو مدى نجاح العماني في هذا الميدان، وهل تحققت الاهداف التي وظف جهوده من اجلها؟
اجل، لقد تمكن رحمه اللّه من تحقيق تلك الاهداف، واتت تلك الجهود ثمارها، وتكللت بالنجاح في الحقبة التي اعقبت عصره بقليل; اذ لم تتهيأ الظروف المناسبة لانتشار طريقته في عصره، وذلك لاسباب خارجية كابتعاده عن مراكز التاثير في الساحة العلمية، وعدم وصول كتبه الى بعضها كقم والري، وخلو مدرسته بعمان من الاتباع والمؤازرين ممن يرتقب منهم نشر آرائه ومذهبه، او لاسباب موضوعية وهي الاهم ياتي في صدارتها عدم تفاعل مدرسة الحديث مع مسلكه ومنهجه بالرغم من انتقال آثاره ومصنفاته الى بغداد.
لا نستبعد ان يكون معاصره احمد بن محمد بن الجنيد ببغداد قد استلهم من طريقته ومنهجه; اذ قد عرف عنه ايضا اعتبار العقل و استدلالاته مصدرا رئيسيا من مصادر الاجتهاد والاستنباط.
وعلى اي تقدير، فانه لم تمض برهة طويلة حتى قيض اللّه رجلاً قد اتسع صدره للعلم، غزير المواهب، متوقد الذهن، تتفجر جوانبه علما وفقها نعني بذلك فخر الطائفة وطودها الشيخ المفيد، فقد وعى هذا الشيخ الجليل ما كان يصبو اليه ذلك الفقيه العظيم، واستوعب مبانيه واصول مسلكه، فسعى الى تطبيقها ونقلها الى واقع الممارسة الاجتهادية، وقد نجح في ذلك لاسباب عديدة، اهمها:
١ - مواهبه وقدراته الذاتية.
٢- اقامته في عاصمة العلم بغداد وموقعه المتميز فيها.
٣- تمكنه من تشييد مدرسة وتخريج جيل من الفقهاء يعدون من النوادر والافذاذ، كشيخ الطائفة الطوسي، والشريف المرتضى علم الهدى، وغيرهم من اقطاب هذه المدرسة ممن عمل على احكام قواعدها والترويج لافكارها.
وعلى كل حال، فقد كان المفيد ممن تاثر بطريقة العماني بواسطة شيخه ابن قولويه ولذا فانه لم يكن يخفي اعجابه واستحسانه لها في مجالس بحثه ودرسه، ولم يكن هذا الاعجاب والاطراء منحصرا بالمفيد ومن عاصره من الفقهاء بل ادرك المتاخرون عنه المكانة الخاصة لفقه العماني وآرائه، فاعتنوا بنقل اقواله واستدلالاته، واثنوا عليه بكل مكرمة وجميل.
قال ابن ادريس: «وهذا الرجل وجه من وجوه اصحابنا، ثقة، فقيه متكلم» ثم عده في موضع آخر من جلة اصحابنا والفقهاء المحصلين.
وقال الخونساري: ان هذا الشيخ هو الذي ينسب اليه ابداع اساس النظر في الادلة، وطريق الجمع بين مدارك الاحكام بالاجتهاد الصحيح.
وذكر السيد بحر العلوم بان للاصحاب مزيد اعتناء بنقل اقواله وضبط فتاواه، خصوصا الفاضلين ومن تاخر عنهما، وهو اول من هذب الفقه واستعمل النظر، وفتق البحث عن الاصول والفروع في ابتداء الغيبة.
وصفوة القول هي: ان الفقه الامامي الاجتهادي قد قام على الاسس التي ارسى العماني دعائمها، وشاد اركانها الشيخ المفيد وتلامذته من بعده، هذا مع الاعتراف بجهود جميع فقهائنا ممن جدد وزاد في هذا العلم من اجل اثرائه ورفده.
المنحى الاصولي عند الفقيه العماني:
لم يكن علم الاصول وليد القرون المتاخرة; اذ كانت لبعض افكاره ونظرياته امتدادا وعمقاً تاريخياً يتصل بعصر الحضور، فقد خامرت بعض نظرياته وافكاره اذهان النخبة العلمية والطبقة المتقدمة من اصحاب الائمة الطاهرين عليهم السلام، فالفوا في ذلك بعض الرسائل والمصنفات، كمباحث الالفاظ لهشام بن الحكم من اصحاب الامام الصادق عليه السلام الذي اورده ابن النديم بعنوان «كتاب الالفاظ» ، «وكتاب ابطال القياس»، وكتاب «نقض اجتهاد الراي على ابن الراوندي»، وكلاهما لابي سهل النوبختي.
وهكذا نجد اسهامات ثلة من الفقهاء قد ساعدت في انماء الفكر الاصولي وبلورته، وقد تفاوتت جهودهم في تشييد صرحه، فمنهم من افرد فيه مصنفاً، ومنهم من بنى فقهه واستدلالاته على الافكار والمباني الاصولية بحيث علم مسلكه الاصولي من خلال البحث الفقهي ونتائجه.
والفقيه العماني وان كنا لا نجزم بانه صنف في علم الاصول، الا ان ذلك ليس بمستبعد، فقد حدثت مصادر ترجمته عن وجود كتب له في غير الفقه والكلام لم تفصح عن هويتها، كما ان ما انفرد الشيخ بنقله من اشتمال كتابه المتمسك (على الفقه وغيره) غير بعيد عن هذا السياق ايضاً، غير انا في غنى عن اثبات ذلك، وذلك بملاحظة ما تقدم من البيان حول خصوصيات فقهه، فان الركيزة الاساس والنقطة الجوهرية فيه تكمن في قوة مبانيه الاصولية واستحكامها بما يتناسب وتلك المرحلة. ويمكن الاشارة الى اهم الركائز والمباني الاصولية التي اعتمدها العماني في فقهه:
١- القول بحجية الدليل العقلي بما لا يخرج عن اطار الكتاب والسنة.
٢- حجية العمومات والقواعد الكلية المستندة الى القرآن الكريم، وما اشتهر من الاخبار المتواترة دون اخبار الآحاد.
وتأييداً لما ذكر وغيره نشير الى بعض التطبيقات والمرتكزات الاصولية في فقه العماني:
١- عدم الاخذ بصحيح الاخبار مع وجود العموم الكتابي: اختار العماني في باب الجهاد القول بوجوب النفير على كل مؤمن اذا استنفر الامام للجهاد، ولا يسوغ التخلف عنه، بحيثيرتفع مع استنفاره اذن الاهل والغريم وطاعة الابوين، وتمسك في ذلك بقوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا اطيعوا اللّه و اطيعوا الرسول واولي الامر منكم)، وبقوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا ما لكم اذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثاقلتم الى الارض).
نلاحظ في هذا النمط من الاستدلال الافادة المطلقة من عموم الآية حتى لحالات عدم اذن الابوين والغريم، مع ورود الخبر بمدخلية اذن الوالدين، فقد روي ان رجلا جاء الى النبي صلى الله عليه واله وسلم يستاذنه في الجهاد، فقال: الك ابوان؟ فقال: نعم، فقال: ففيهما فجاهد.
وروي انه صلى الله عليه واله وسلم قال: اذنا لك؟ قال: لا، قال: ارجع فاستاذنهما فان اذنا لك فجاهد والا فبرهما.
وافتى ايضاً بعدم اشتراط رضا المراة في نكاح بنت اخيها وبنت اختها عليها، لعموم قوله تعالى: (واحل لكم ما وراء ذلكم) وافتى كذلك بعدم سقوط قضاء الصوم عن المريض المستمر مرضه الى قابل; لعموم قوله تعالى: (فعدة من ايام اخر).
٢- التمسك بالاخبار المتواترة دون اخبار الآحاد: قال المحقق التستري: وكان لا يعمل الا بالاخبار المتواترة، الا انه كالمفيد والمرتضى يدعي التواتر كثيرا فيما لا تواتر فيه، كادعاء الاجماع فيما لا اجماع فيه. ويشهد لذلك انه ذهب في باب النجاسات الى عدم انفعال القليل بمجرد الملاقاة الا مع فرض التغير، مخالفا بذلك عامة فقهائنا، مستندا في ذلك الى ما تواتر عن الصادق عن آبائه عليهم السلام: «ان الماء طاهر لا ينجسه الا ما غير لونه او طعمه او رائحته».
نلاحظ في هذا الاستدلال تمسكاً بعموم الخبر المتواتر في قبال مستند المشهور الذين ردوا عليه بوجود المخصص، كالمروي عن علي بن جعفر عن اخيه موسى عليهم السلام: «قال سالته عن الدجاجة والحمامة واشباههنتطا العذرة ثم تدخل في الماء يتوضا منه للصلاة؟ قال: لا، الا ان يكون كثيرا قدر كر من ماء».
٣- الاصول العملية: نلاحظ في جملة من الاستدلالات الماثورة من فقه العماني تمسكه ببعض الاصول العملية، كاصالة البراءة او الاحتياط، ولهذا الامر دلالته الخاصة من زاويتين:
الاولى: كشفه عن الفترة التاريخية المتقدمة التي ترجع اليها هذه العناصر والقواعد الاصولية.
الثانية: ان الامر المذكور ربما يكون من امتيازات فقه العماني; اذ لم نعهد فقيهاً من فقهاء تلك المرحلة قد اعمل هذه القواعد في استنباطه واجتهاده، ولنذكر لكل من هذه الاصول شاهدا ومثالا:
الاحتياط: ذهب المشهور الى ان كفارة الافطار في شهر رمضان مخيرة، وخالف في ذلك الفقيه العماني فاختار كونها مرتبة بدءاً بالعتق فالصيام فالاطعام محتجا بالاحتياط مدعيا ان شغل الذمة بالكفارة معلوم، ومع انتفاء العتق الذي هو اغلظ واشد لا يحصل يقين بالبراءة فيبقى في العهدة.
البراءة: ذهب الى عدم وجوب الكفارة في افطار قضاء شهر رمضان بعد الزوال محتجا باصالة البراءة وببعض الاخبار.
٤- تعارض الادلة: اختار في طلاق المراة بعد الخلوة بها وارخاء الستر نصف المهر لا كله، قال: قد اختلفت الاخبار عنهم عليهم السلام في الرجل يطلق المراة قبل ان يجامعها وقد دخل بها وقد مس كل شيء منها الا انه لم يصبها، فروي عنهم في بعض الاخبار انه: اذا اغلق الباب وارخت الستور وجبت لها كاملا، ووجبت العدة. وفي بعض الاخبار لها نصف المهر.
ثم بعد ان نقل هذين المتعارضين اخذ في معالجة التعارض ورفعه باعمال المرجحات الخارجية كالموافقة للكتاب، فقال:
«وهذا الخبر اي خبر نصف المهر اولى الخبرين، بدلالة الكتاب والسنة بقولهم; لان اللّه عز وجل يقول: (وان طلقتموهن من قبل ان تمسوهن و قد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) فاخبر انه اذا طلقها قبل ان يجامعها فان لها نصف المهر».
ونلاحظ في هذه الممارسة الاجتهادية معالجة اصولية محضة ومبكرة في تلك الفترة تعرب بلا ريب عن دقته في مقام الموازنة بين الادلة.
العماني والقول بالرأي والقياس:
من الضروري جدا الاشارة الى موقف الفقيه العماني ازاء القول بالراي والقياس، فهل كان فقهه متاثرا بذلك؟ قد يقال بذلك، باعتبار انه يعتمد النظر والعقل في الاجتهاد، وقد يوجه اليه هذا النقد او الجرح كما وجه لمعاصره البغدادي ابن الجنيد الذي تضاعفت في شانه هذه المقولة والطعن، وصدر ذلك في حقه من شخصيات كبيرة كالشيخ الطوسي، بيد ان هذا لا يصح من الاساس في شيخنا المترجم، وذلك:
١- صرح في مبحث الحج بعدم جواز العمرة في السنة الا مرة واحدة تمسكاً بـ«لا يجوز عمرتان في عام واحد» راداً على من جوز ذلك قائلا: «قد تاول بعض الشيعة هذا الخبر على معنى الخصوص، فزعمت انها في المتمتع خاصة، فاما غيره فله ان يعتمر في اي الشهور شاء، وكم شاء من العمرة».
ثم عقب على هذا التاويل بقوله: «فان كان ما تاولوه موجوداً في التوقيف عن السادة من آل الرسول عليهم السلام فماخوذ به، وان كان غير ذلك من جهة الاجتهاد والظن فذلك مردود عليهم وراجع في ذلك كله الى ما قاله الائمة عليهم السلام».
وقد دلت عبارته الاخيرة بوضوح على تقرير طريقته في الاجتهاد الصحيح ونبذه لما يقوم منه على اساس الظن والراي، والتعبد بما يرد عن آل الرسول عليهم السلام.
٢- تصريحه بنفي القياس وابطاله في مبحث صلاة العيد قائلا: «ولا عيد مع الامام ولا مع امرائه في الامصار باقل من سبعة من المؤمنين فصاعداً، ولا جمعة باقل من خمسة، ثم قال: ولو كان الى القياس سبيل لكانا جميعاً سواء، ولكنه تعبد من الخالق عز وجل».
٣- اتفاق اعلام الطائفة منذ عصر الشيخ المفيد والطوسي على توثيقه والثناء عليه والاهتمام بنقل آرائه وفتاواه، سيما في عصر ابن ادريس والعلامة الحلي ومن بعدهما، بل قد صرح العلامة كما سياتي بقبول مراسيله لوثاقته وجلالته.
ولم يختلف في مذهبه اصلاً، بل نصوا على اماميته صريحاً كالشيخ الطوسي وغيره، ولعلهم ارادوا بذلك ابطال تطرق الوهم في امره; لبعد مقامه بعمان عن بلاد التشيع، مضافا الى ان كتابه «المتمسك بحبل آل الرسول» ينبئ اسماً ومسمى عن مذهبه وطريقته. وعلى ذلك فلا مجال لما قد يدعى من ان فقهه متأثر او مستمد من فقه غيرنا، وذلك من جهتين:
الاولى: رفض العماني كما عرفنا للاسس التي قام عليها فقه العامة، واهمها القياس والرأي.
الثانية: عدم وجود مؤشرات قطعية على موافقته العامة من حيث الآراء والفتاوى. كما سنلاحظ عند الحديث لاحقا عن آرائه النادرة وما ينفرد به مما يخالف مشهور الامامية ويبتعد عنهم حيث سنذكر آراء العامة، ونرى مدى اقتراب العماني وتاثره بفقههم.
البعد الروائي عند الفقيه العماني:
بعد ان وقفنا على دور العماني فقيها ومتكلماً واصولياً، فماذا عن دوره محدثاً؟ سؤال لا بد من التامل عنده والاجابة عليه، ضرورة ان المرحلة التي عاصرها قد استاثر فيها الحديث بالساحة العلمية، نقلاً وحفظاً وجمعاً، واصطبغت اكثر العلوم بلغة الحديث دون لغة الاصطلاح.
وعلى ضوء ما تقدم من الحديث عن شخصية الفقيه العماني، حيث ذكرنا انه كان من الفقهاء الاعيان في مدرسة الاجتهاد واكابر محصلي اصحابنا، بل انه اول من ابدع اساس النظر وفتق البحث عن الاصول والفروع، ولكن هل يعني ذلك انه لم يكن له حظ في حمل الحديث وروايته؟
قد يترائى للناظر في تراثه العلمي انه لم يكن له نصيب في تعاطي الرواية والخبر; اذ لم نجد له مصنفاً في الرواية والحديث، الا ان المتامل والباحث يرى غير ذلك، ويشهد على ما قلنا امور:
١- تضمن كتابه «المتمسك بحبل آل الرسول» جملة من الروايات استقل بروايتها عن الائمة الطاهرين عليهم السلام فقد نقل عنه الشهيد في الذكرى قائلا: «وعن ابن ابي عقيل عنهم عليهم السلام في تفسير قوله تعالى: (الذين هم على صلاتهم دائمون) اي يديمون على اداء السنة، فان فاتتهم بالليل قضوها بالنهار، وان فاتتهم بالنهار قضوها بالليل.
وروى مرسلا عن امير المؤمنين عليه السلام: «ان النبي صلى الله عليه واله وسلم مر برجل يصلي وقد رفع يديه فوق راسه، فقال: ما لي ارى قوما يرفعون ايديهم فوق رؤوسهم كانها اذان خيل شمس».
٢- تصريح جماعة كالعلامة الحلي المتوفى (٧٢٦هـ) والفاضل المقداد المتوفى (٨٢٦هـ) بقبول مراسيله واليك عبارتيهما:
قال الاول في كتاب الجهاد باب قسمة ما حواه العسكر من اموال البغاة، بعد ان نقل رواية في ذلك عن العماني : «لنا ما رواه ابن ابي عقيل، وهو شيخ من علمائنا تقبل مراسيله لعدالته ومعرفته».
وقال الفاضل المقداد عند نقله رواية من نفس الباب: «رواه ابن ابي عقيل مرسلا ومثله لا يرسل الا عن ثقة، خصوصا اذا عمل بالرواية».
وذكر العلامة المامقاني كلاما قريبا من كلام المقداد.
آراؤه النادرة:
ان الناظر في الكتب الفقهية يلاحظ عناية خاصة بآراء الرعيل الاول من الفقهاء لقربهم من عصر النص، وقد استاثرت فتاوى ابن ابي عقيل والجعفي في كتابه (الفاخر) وابن الجنيد في كتابه (المختصر الاحمدي) باهتمام من تلا عصرهم، وعلى وجه الخصوص في عصر الحليين الثلاثة (ابن ادريس والمحقق والعلامة) وكذا الشهيدين، وكان من بين اولئك شيخنا المترجم الحسن بن ابي عقيل لما تميزت به من دقة وحسن نظر.
وفيما يلي ثبت ببعض آرائه النادرة من ابواب الفقه المختلفة لنرى مدى ابتعاده عن المشهور:
كتاب الطهارة:
١- «عدم تنجس الماء القليل الا مع التغير»، وبه قال مالك والاوزاعي والثوري وداود وابن المنذروقال الحسن البصري وابراهيم النخعي ومالك وداود انه لا ينجس الماء سواء كان قليلاً او كثيراً، الا اذا تغير احد اوصافه» و هو مخالف لاتفاق علمائنا كما ذكر العلامة.
٢- نسب الى ظاهر ابن ابي عقيل القول «بجواز التوضؤ بمثل ماء الورد وماء الزعفران وغيرهما مقيداً ذلك بصورة الاضطرار»، ولعله يرى مطهرية الماء المضاف مطلقاً، وما ذكره انما هو من باب المثال. وقد وافقه على ذلك منا الشيخ الصدوق، ومن العامة ابوبكر الاصم وابن ابي ليلى وابو حنيفة لكن من دون تقييد له بالاضطرار.
٣- عدم اعتبار الاستحاضة القليلة من الاحداث اصلاً، فلا توجب وضوء ولا غسلاً ما لم يظهر على القطنة، وكانه حمل الاخبار الواردة في وجوب الوضوء على المستحاضة على المتوضئ من سائر الاحداث. وقال مالك وداود وربيعة: دم الاستحاضة ليس بحدث ولا يوجب الوضوء.
٤- اكثر النفاس احد وعشرون يوما.
٥- وجوب غسل البشرة في الوضوء اذا كان شعر اللحية خفيفا. وقد ذهب اليه العلامة في التذكرة والمنتهى وهو مذهب ابن الجنيد والشافعي.
٦- جواز الغسلة الثالثة في الوضوء. وقال ابوحنيفة واحمد:
السنة ثلاث، وذهب الى استحباب الثلاث الشافعي واحمد واصحاب الراي.
٧- التخيير بين مسح جميع الوجه وبعضه في التيمم، لكن لا يقتصر على اقل من الجبهة من الجانبين. ونسب الى ابيحنيفة كفاية مسح الاكثر، وجواز ترك دون الربع من ظاهر الوجه، وذهب الى الاول ابويوسف وزفر.
٨- عدم نجاسة الخمر. وذهب اليه ابن بابويه منا، ومن العامة داود وربيعة وهو احد قولي الشافعي.
٩- عدم نجاسة سؤر اليهود والنصارى، مع ان المشهور نجاسة الكافر مطلقا. ولعله لعدم نجاسة القليل عنده بالملاقاة كما تقدم ذكره.
١٠- عدم وجوب الصلاة على الطفل الميت الا اذا بلغ، والمعروف بل عليه دعوى الاجماع هو الوجوب اذا بلغ ستا. وعن سعيد انها تجب حين تجب عليه الصلاة.
١١- وجوب اعادة غسل الميت لو خرج منه ما ينقضه وبه قال ابن سيرين واسحاق واحمد والشافعي في احد اقواله ، وذهب الاكثر الى وجوب غسل الموضع فقط.
١٢- كراهة الجلوس في التشييع ما لم توضع الجنازة في اللحد. وقد وافقه عليه من العامة ابو حنيفة واحمد والشعبي والاوزاعي واسحاق.
١٣- كفاية الضربة الواحدة للوجه والكفين في التيمم بدلا عن الغسل، والمشهور ضربتان للغسل. وذهب الى كفايتها منا المرتضى بدلا عن الوضوء والغسل، وبه قال الاوزاعي واحمد واسحاق وداود وابن جرير والشافعي.
١٤- لزوم الاذكار الاربعة عقيب كل تكبيرة في صلاة الاموات، والمشهور هو توزيع الاذكار.
١٥- جواز التيمم بالارض وبكل ما كان من جنسها كالكحل مثلا، والمشهور العدم. واليه ذهب ابوحنيفة ومالك، لكن الاخير اعتبر فيه ان يكون من جنس الارض، وفصل الشافعي فقال: اذا غلب عليه لايجوز واذا لم يغلب عليه فيه قولان، قال المروزي: يجوز، وقال الباقون: لا يجوز.
كتاب الصلاة:
١٦- لزوم اعادة الصلاة بتيمم فيما لو وجد الماء والوقت متسع، والمشهور انه لا يعيد. وافقه عليه طاوس، وبه قال عطاء والقاسم بن محمد ومحكول وابن سيرين والزهري وربيعة.
١٧- لا رخصة في ترك الصلوات الليلية في سفر او حضر، قال: وهو الاقرب لكثرة التشديد والمبالغة في الاتيان بصلاة الليل.
١٨- تجوز الصلاة كيف شاء كما هو ظاهر كلامه عند خفاء القبلة، والاكثر اوجبوا الصلاة الى اربع. وبه قال داود.
١٩- لزوم الاقامة في جميع الصلوات. واوجب الاذان للمغرب والصبح. وقال ابو حنيفة: يؤذن ويقيم لكل صلاة، وقال الشافعي: يقيم لكل صلاة.
٢٠- لو قرا بعض السورة في النافلة ابتدا في الركعة الثانية من حيث بلغ، ولا تجب عليه الفاتحة، والمشهور قراءتها.
٢١- وجوب التكبير للركوع والسجود، والمشهور الاستحباب.وافقه عليه المرتضى وقال الشافعي لا يستحب.
٢٢- بطلان الصلاة بزيادة او نقيصة سجدة واحدة كما هو الظاهرمن كلامه.
٢٣- وجوب القنوت، فلو تركه عمدا اعاد. وقال الثوري وابو حنيفة: انه غير مسنون.
٢٤- الصلاة ركعتين من جلوس لمن شك بين الاثنتين والثلاث، او الثلاث والاربع، والمشهور التخيير بينهما وبين ركعة من قيام.
٢٥- لزوم الاعادة مطلقاً لو اتم وفرضه القصر، وفتوى الاصحاب على الاعادة في الوقت خاصة.
٢٦- وجوب الجمعة على من اذا صلى الغداة في اهله ادرك الجمعة.
كتاب الصوم:
٢٧- لزوم تبييت النية للصوم، وهو وقوعها اثناء الليل قبل الفجر، وهذا هو المستفاد من ظاهر كلامه. وبه قال الشافعي ومالك واحمد..
٢٨- لا فرق بين العامد والناسي في بطلان الصوم مع الاخلال بالنية من الليل.
٢٩- ثبوت القضاء خاصة دون الكفارة فيمن اجنب وتعمد البقاء الى طلوع الفجر، وكذا المراة اذا طهرت من حيض او نفاس وتركت الغسل عامدة.
٣٠- جواز الارتماس للصائم. وقال المرتضى: هو مكروه وبه قال مالك واحمد والحسن والشعبي.
٣١- ثبوت كفارة واحدة على من استكره زوجته على الجماع فينهار رمضان والقضاء عليه وعليها، والمشهور ثبوت كفارتين يجب عليه القضاء، وهو قول الثوري والاوزاعي. عليه. وقال الشافعي بثبوت كفارة واحدة، وقال اصحاب الرأي:
٣٢- الايام البيض التي يستحب صيامها ثلاثة ايام متفرقة في كل شهر، اربعاء بين خميسين، الخميس الاول منالعشر الاول، والاربعاء الاخير من العشر الاوسط، وخميس من العشر الاخير، والتفسير المعروف عند الاكثر، هو الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.