الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) والعلم الحديث
د. عبد الوهاب الحكيم
أوّل ما يتبادر للذهن عندما يرد ذكر الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) سؤال، هو: هل يمكن للإنسان أن يطول عمره كل هذه الفترة الطويلة التي تجاوزت الألف سنة؟ وما هي الفائدة من بقاء الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لهذه الفترة الطويلة؟ وما هو الغرض من إبقائه؟ وهل هناك أمثلة لبقاء مخلوقات أخرى كل هذه الفترة الطويلة؟
لقد أجاب الكثير ممن كتبوا عن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) عن هذه الأسئلة كل بطريقته الخاصة، وبإعطاء بعض الأمثلة وأخصّ بالذكر منها على بقاء بَشر آخرين أحياء مثل النبي عيسى (عليه السلام) الذي أجمعت البشرية على كونه باقياً يعيش لحد الآن كما يعتقد على الأقل المسيحيون منهم والمسلمون.
وكذلك الخضر (عليه السلام) الذي تجمع الأديان الثلاث على بقائه حياً، وأنه سوف يأتي مع المسيح (عليه السلام)، الذي تجمع الأديان الثلاثة على قدومه لهذه الدنيا وإنقاذه للبشرية بعدما تُملأ هذه الدنيا ظلماً وعدواناً.
كما أن القرآن الكريم ينصّ على بقاء النبي نوح (عليه السلام) في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاماً، ولو أن الآية هنا تنصّ على صفَتين للفترة التي بقي فيها النبي نوح (عليه السلام) تنص على ألف سنة، ثم تقول إلّا خمسين عاماً، وسوف أترك تفاصيل هذه في مجال آخر موضحاً، فهل هناك فرق بين (السنة) و(العام) أم لا؟ كما ينص القرآن الكريم على كون الشهداء ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (آل عمران: ١٦٩).
وهذه الأمثلة لا مجال للشك فيها إذ إن القرآن ﴿لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ...﴾ (فصلت: ٤٢).
والجواب على السؤال الأول، هل يمكن لمخلوق ما أن يعيش أكثر من ألف سنة، أو أي فترة مديدة فوق الفترة المتعارف عليها لبقاء الإنسان مثلاً، والتي لا يتجاوز المعمّر فيها أكثر من (مئة) سنة بقليل إلّا ما ندر؟
أقول: إنه من الناحية العلمية الدقيقة لا يوجد عمر محدّد للمخلوقات حيث تبدو لأول وهلة - وعندما يُنظر إلى الأجزاء الدقيقة من هذه المخلوقات (أعني الخلية) أو بشكل أدق (إلى الذرات منها) - تبدو وكأنها سوف تعيش للأبد. وسوف أفصّل هذا كما يلي:
عمر الذرة:
إن الذرة بتفاصيلها الجميلة والدقيقة تعطي صورة حقيقية عن قدرة الباري (عزَّ وجلَّ)، وعظمة خلقه فيها، ولما تحمله من قوة جبارة، وطاقة يعرف تأثيرها الجميع خاصة بعدما علم تأثيرها في القنبلة الذرية التي أسقطت على هيروشيما وناكازاكي من قبل الأميركيين في (الحرب العالمية الثانية)، وقد ذكر في مقالات أخرى أن (القوة الكبرى) الموجودة في داخل النيوترونات التي تجمع ما بين أجزائها، والتي تدعى بـ(الكويرك تعادل القاعدة (١٠ مرفوعة للأُس ٣٢) من بلايين الفولتات ١٠ أُس ٣٢ كيغا فولت ألف مليون فولت وهذه القوة الكهربائية الجامعة لأجزاء النيوترونات لا يمكن توليدها بأقوى المحرّكات الكهربائية التي استطاع الإنسان أن يصنعها على وجه الأرض (أقوى محرك كهربائي تمّ صنعه لحد الآن لا يولد طاقة كهربائية أكثر من (٤٠٠٠ أربعة آلاف كيغا فولت)، فإذا أردنا أن نولّد كهرباء تعادل الكهربائية الموجودة في داخل الذرة (٣٢١٠ كيغا فولت) فإننا سوف نحتاج إلى مولد كهربائي يصل قطره إلى حدود قطر أحد المجرّات (كمجرّتنا التي نعيش ضمنها مجرة درب التبانة).
فما هي هذه القوة الجبارة التي أودعها الباري (عزَّ وجلَّ) في الذرة في أجزائها، والتي لا يمكن لبشر ما ولا - حتى في المستقبل المنظور - أن يحطم (قلب الذرة) وهذا من رابع المستحيلات كما شاهدنا.
ولكن السؤال ما هو عمر الذرة؟ الجواب على ذلك هو أن أجزاءها على ما يبدو تعيش إلى الأبد، على الأقل على مستوى الالكترونات (التي يقدر عمرها باللانهائية وكذلك الحال بالنسبة للنيوترونات حيث يقدر علماء الفيزياء عمرها ببلايين بلايين المرات بقدر عمر الكون المنظور، والذي يقرّ له لحد الآن بحدود ١٤ بليون سنة، إذ إن عمر البروتونات يقدّر بحدود ٣٦١٠ عشرة أس ٣٦ من السنين، بينما عمر الكون كله لا يقدّر بحدود (١٠٤×٣٢١٠ سنة).
إذن: إن الذرات بأجزائها المختلفة، والتي تكوّن أجزاء كل شيء مخلوق على وجه الأرض، بل في كل هذا الكون سوف تبقى إلى الأبد بالنسبة لنا وإلى الخالق بالطبع، إذ إن وجوده أزلي منذ خلق هذه الذرّات وإلى أن تحين الساعة التي يدعوها إليه لكي تلاقي الجزاء الذي تستحقه.
إذ إن كل شيء في هذا الكون ﴿كُلّ شَيءٍ هَالِكٌ إِلّا وَجْهَهُ﴾ (القصص)، وعلى ما يبدو من هذا العمر المديد لأجزاء الذرة، أنها لم تخلق لهذه الدنيا أبداً، وإنما خلقت ليوم الآخرة حيث لا تفوت الباري (عزَّ وجلَّ) أي ذرة منها، وسوف يأتي بها الباري (عزَّ وجلَّ)، وليس هناك أوضح من هذه الآية الكريمة في صورة لقمان حيث يخاطب النبي لقمان (عليه السلام) ابنه ويقول له واصفاً وصفاً دقيقاً أصغر أنواع المخلوقات (ولو لم يأتِ باسمٍ الذرة لأن وصف الذرة وأجزائها لم يكن مكتشفاً في ذلك الوقت، ولم يتمكن إنسان ذلك العصر من اكتشاف معالم الذرة، بل لم يتمكن إنسان هذا العصر أن يرى أجزاء الذرة ولحد الآن) بقوله، - ودعونا نتعمق في وصف القرآن الكريم للذرات في هذا الكون وكيف أنها سوف تعود إلى الباري عندما يدعوها إليه - في الآية من سورة لقمان ﴿يَا بُنَيّ إِنّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السّماوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ﴾ أي يا بني إن يكن هناك مثقال حبة أي جزء صغير جداً بمقدار المثقال من حبة الخردل - لأنها أصغر شيء منظور عند الإنسان، فهي عبارة عن بذور نبات الخردل وهي بالفعل أصغر أنواع البذور المنظورة - وإن هذه الحبة الصغيرة الدقيقة إذا كانت موجودة في داخل صخرة (أي أنها حتى ولو كانت متحجرة بلغة العصر الحديث) أو أنها موجودة في مكان ما في هذا الكون الرحب الواسع (في السماوات) أو على أي مكان في الأرض، فإن الباري (عزَّ وجلَّ) سوف يأتي بها إليه ويلقيها جزاءها الأوفى. أي وصف أوفى وأدق من وصف القرآن الكريم للأجزاء الدقيقة الموجودة في هذا الكون، ولا أدقّ من الذرّات، وكيف أن الباري (عزَّ وجلَّ) سوف يأتي بها إليه بقدرته وجبروته وعظمته سبحانه وتعالى عما يصفون.
مما تقدم اتَّضح أن الذرة عمرها مديد، وأن (المادة لا تفنى)، وأنها باقية إلى يوم يبعثون. فسوف لن تفنى هذه الذرات أبداً، والباري (عزَّ وجلَّ) سوف يأتي بها من أي مكان في هذا الكون حتى ولو كانت مطمورة، بل حتى ولو كانت متحجرة في أي صخرة أو في أي مكان في السماوات أو في الأرض.
ولكن قد يتساءل آخرون بأننا نتعامل مع إنسان كامل (الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)) وليس مع ذراته، وهل يمكن أن يطول عمر هذا الإنسان لفترة طويلة أم لا؟
أقول في الجواب على ذلك: (ولو أن الجزء الأول من هذا الجواب قد تمت الإجابة عليه) إن الباري (عزَّ وجلَّ) قد أبقى على مخلوقاته المقرّبة إليه كالشهداء جميعاً ونبيّ الله عيسى (عليه السلام) والخضر (عليه السلام) على شكل ذرات وبتركيبة أخرى كالإبقاء على أرواحهم مثلاً، الروح أيضاً من الأسرار التي خصّ الباري بها نفسه ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وَمَا أُوتِيتُم مّنَ الْعِلْمِ إِلّا قَلِيلاً﴾ (الإسراء : ٨٥).
وما تزال الروح بعيدة عن متناول العلم الحديث وإلى المستقبل المنظور على الأقل. ولم يتمكن العلم الحديث من التعرّف على كنهها أبداً، ولسبب بسيط واضح هو عندما يُراد تحليل الخلايا للكشف عن أسرار تكوين البروتينات والأنزيمات - وهي الأجزاء المهمة التي بدونها لا تستطيع الخلية أن تعيش أجزاء قليلة من الثانية - ووجدت طريقة جديدة يظهر سر جديد من أسرار الحياة في الخلايا، وكلما فتحت أبواب لأسرار أكثر وأكثر، كلما زاد التعقيد في الكشف عن أسرار الروح، ألم يقل الباري (عزَّ وجلَّ) ﴿مَا أُوتِيتُم مّنَ الْعِلْمِ إِلّا قَلِيلاً﴾.
لنأخذ الآن الخلية كتركيبة أكبر من الذرة ولنرى ماذا عن عمرها ومن الذي يوجب موتها وإنهاء حياتها، ومن الذرة يوقظها ومن الذي يهلكها ويزيلها من الوجود؟
عمر الخلية:
لا يوجد عمر محدَّد لأي خلية من خلايا المخلوقات، سواء كانت الـ(فيروس) وهي أصغر أنواع الخلايا التي لا تستطيع التكاثر إلّا بوجودها داخل خلايا أخرى، أو (البكتيريا) التي تستطيع أن تعيش بمفردها دون الاعتماد على غيرها، أو أي خلية من خلايا المخلوقات الأخرى التي تحوي أجسامها أكثر من خلية، ابتداء من الأميبا والإسفنج مثلاً والريدات والقواقع إلى الفقاريات فاللبائن فالإنسان، فلا يوجد عمر محدد لأي خلية من الخلايا، ولو تعمّقنا في أي خلية منها نجدها بتركيبة واحدة متشابهة تحوي الخلايا على الساتيوبلازم (المادة الحيوية) الحاوية كل المواد والأنزيمات والبروتينات المصنعة من قبل الخلية، وهناك الدماغ المفكر للخلية الذي يرسل الأوامر لتصنيع هذه المواد، وهذا الدماغ المفكر هو (نواة الخلية) الحاوي على تركيبة الذي هو بدوره من أغرب وأعقد مخلوقات الباري لأنه يحوي من المعلومات ما لا تحويه أكبر كمبيوترات العالم وأعقدها، إذ إن البكتريا الصغيرة التي لا ترى بالعين المجردة، ولا ترى إلّا باستعمال أكبر المجاهر، (وقد تكون أصغر بكتيريا) يحوي من المعلومات ما يعادل مكتبة حاوية مجلد من كتاب الأنسكلوبيديا البريطانية مثلاً.
سبحان الله: بكتيريا صغيرة واحدة تحوي على معلومات تعادل (١٠٠٠) كتاب، فكيف الحال بخلية دماغ الإنسان مثلاً الذي يعادل فيه أكثر من (٥٠٠) مرة بقدر البكتيريا، (طول في خلايا الإنسان يعادل خمسة أمتار، وطول في البكتيريات بحدود ١٠ سنتيمترات) أي أن خلية واحدة من خلايا دماغ الإنسان فيها من المعلومات بقدر (٥٠٠) مرّة أكثر من البكتيريا، أي أن خلية واحدة من خلايا دماغ الإنسان حاوية لمعلومات تعادل نصف مليون كتاب مثل كتب الأنسكلوبيديا البريطانية، فسبحان الخالق المدبر.
المهم من كل هذا أنه لا توجد في هذه الخلايا أي معالم لإنهاء حياتها، وعندما يكشف عنها تحت المجهر نجدها في نشاط وحيوية وحركة دائبة سريعة، يتم فيها صناعة البروتينات والأنزيمات وبملايين المرات في أجزاء دقيقة جداً من الثانية، وإن أي بروتين يصنع في بلايين بلايين المصانع منها هي (الرايبوسومات في وقت يقدر (١٠ أس (٣٢) من الثانية) أي (٣٢) صفراً ما بعد الفارزة من الثانية)، يتم في هذه الأجزاء الدقيقة من الثانية تصنيع أي بروتين في ملايين الرايبوسومات مع العلم أن الإنسان وبكل ما توصل إليه من تكنولوجيا عالية وكفاءة وجدارة في علوم الكيمياء الحيوية لم يستطع ولحد الآن بل وحتى في المستقبل المنظور أن يصنع أي بروتين حتى أبسطها كـ(الألبوين) مثلاً، فهذا خارج عن قدرته حتى في نهاية القرن الحادي والعشرين.
لم يستطع الإنسان ولحد الآن أن يكتشف سبب إنهاء الخلية لعمرها وموتها بعد الوصول إلى فترة معينة قد كتبها الباري (عزَّ وجلَّ) لها، حيث تبدأ هذه الخلايا بتحطيم نفسها، ويتم ذلك بوجود قنابل موقوتة في داخلها، وهي مادة أنزيمية مخزونة في داخل أكياس تدعى بـ(الأيسوسومات)، وهذه الأنزيمات عندما تطلق في الخلية وبأوامر - على ما يبدو آتية من قلب الخلية ودماغها المفكر، وعلى ما يبدو من آخر الجينات في داخل نواة الخلية - تبدأ كل اللايسوسومات في تلك الخلية المعنية بالانطلاق فوراً من أكياسها لتحطّم الخلية، وتنهي حياتها على الفور، وتحولها إلى كتلة من المواد العضوية والأحماض الأمينية لامتصاصها كمادة غذائية للخلايا المجاورة، هذا إذا لم تمت تلك الخلايا المجاورة. ولا يعني هذا أن جميع الخلايا أعمارها طويلة وإلى الأبد، وإنما هناك خلايا لا تستطيع أن تعيش أكثر من (١٠٠) يوم، مثلاً خلايا دم الإنسان الحمراء، وهذه الخلايا بالمناسبة ليس فيها نواة ولا تصنع فيها أنزيمات جديدة ولا بروتينات، وإنما برمجت من قبل الباري (عزَّ وجلَّ) ولفترة محدودة جداً، حتى إذا أتمت مهمتها وتم نقل الأوكسجين بواسطتها من الرئتين إلى الخلايا الأخرى ولفترة محددة تنتهي حياتها وتتحطم الخلية بانطلاق الرايبوسومات فيها وفي الوقت المحدد، ثم يمتصّها الكبد ليستفاد من المواد العضوية فيها والحديد أيضاً كمادة لا عضوية أخرى في تصنيع خلايا جديدة من قبل خلايا نخاع العظم.
ويتفاوت أعمار الخلايا الأخرى عمراً حتى يصل الحال في بعض الخلايا البيضاء في الدم إلى أن تعيش أكثر من عشرين سنة أو حتى طيلة عمر الإنسان، خاصة التي تولّد المناعة التي تستمر الحياة فيها إلى موت الإنسان، وأطول أعمار خلايا الإنسان تلك هي العضلات وخلايا الجهاز العصبي والدماغ، إذ إن هذه الخلايا لا تموت إلّا بعد موت الإنسان وتوقف القلب عن الحركة وموت خلاياه. وكما قلت إن هذه الخلايا لا تبدو - لأول وهلة وقبل فترة وجيزة قبل موتها - أنها سوف تموت، وإنما تستمر بالنشاط والفعالية، حتى إذا جاء أجلها والعمر المحدد لها الذي لا تستأخر عنه ساعة ولا تستقدم، حينها يطلق آخر (الجينات) المخفية في داخل الأوامر بتحطيم الخلايا جميعها، فتنطلق اللايسوسومات لتحطم الخلية نفسها بنفسها. وهنا يظهر تحرك جديد في عالم الخلية لإيجاد هذا الجين الذي يحطم الخلايا والذي سمي بـ(جين الموت والذي يعتقد أنه هو المسؤول عن إطلاق اللايسوسومات (محطات الخلية). والعجيب أن القرآن الكريم يشير إلى أن الباري قد خلق أسباب الموت لمخلوقات قبل أن يخلق أسباب الحياة، فيقول (عزَّ وجلَّ) ﴿خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً الملك﴾. توضح أن الموت هو المخلوق أولاً في مخلوقات الباري قبل الحياة، وأن الحياة نفسها في المخلوقات تحوي موتها ضمنياً وفي داخلها، وأن كلاهما حق (الموت والحياة ومع العلم أن وجود محطات الخلية هذه ليس معناه بالضرورة أنها فقط لتحطيم الخلية ودمارها، وإنما قد يكون لها فائدة أخرى، فنجد مثلاً لدى الحيوانات اللبونة التي تولّد الحليب في أثدائها، أن خلايا الثدي تحطم جزءاً من نفسها بواسطة أخلاق اللايسوسومات، فتحوّل تقريباً نصف الخلية إلى حليب يتم إطلاقه إلى الخارج، وأن الضفدع مثلاً يفقد الذنب عندما يكبر وسبب اختفاء الذنب ليس قطعه وإنهاؤه، وإنما يتم إطلاق اللايسوسومات في جميع خلايا الذنب بعضلاته وعظامه ودمه وخلايا الجلد وبوقت واحد وبأوامر من أنوية) هذه الأجهزة وبتوقيت عجيب فريد. كذلك الحال مثلاً في تكوين الأقدام والأيدي، فإن الخلايا الواقعة ما بين الأصابع تنطلق فيها اللايسوسومات وفي وقت واحد وبحدود الخلايا التي لا تمتد أكثر من طول الإصبع نفسه سواء في الأيدي أو الأرجل وتذوب هذه الخلايا وتتعرج الأصابع عن بعض.
فسبحان الخالق الباري الذي يقول في هذا الصدد ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نّسَوّيَ بَنَانَهُ﴾ (القيامة). كذلك الحال في عملية سقوط الأوراق التي يسقط الملايين منها كل لحظة من بلايين الأشجار على امتداد وجه البسيطة، كلها بالطريقة نفسها إذ تطلق وبوقت واحد ثابت اللايسوسومات في الخلايا الواقعة بالضبط بالسيقان الصغيرة الواقعة ما بين جذع الشجرة الرئيس وسويق الورقة، وفي وقت واحد تسقط الأوراق في الخريف تاركة الشجرة الأصلية الأُمّ تبني من حول أماكن سقوط أوراقها خلايا جديدة، وتلحم مكان سقوط هذه الأوراق إلى حين حلول الربيع حيث تبدأ الحياة من جديد في براعم جديدة نشطة تنبت أوراقاً حية نشطة فعّالة مكانها، وبذلك يتم الحفاظ على الشجرة الأُمّ من الموت وبرداً وجموداً، في الشتاء، والإبقاء على الأشجار على حالها دون سقوطها، وإنما تسقط أوراقها حين تمر الأزمة ويمر الشتاء ويأتي الربيع فتنشط الخلايا من جديد وتنبعث فيها الحياة ويتم بذلك صدق قول الباري (عزَّ وجلَّ) ﴿خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ الملك﴾.
والشيء نفسه يحدث عندما تنزع الحيّات والسحالي والسلاحف جلدها السابق، إذ إن الخلايا الواقعة ما بين الجلدَين القديم والجديد تطلق فيها اللايسوسومات وتذوب هذه الخلايا ويقذف بالجلد كاملاً إلى الخارج . كما أن أسرع عملية بتر وخلع عضو من الأعضاء يتم فيها إطلاق هذه اللايسوسومات هي عندما يمسك بذنب (أبو بريص) مثلاً، فإنه على الفور يترك ذنبه بيد الماسك له ويهرب هو ناجياً بنفسه في أعظم عملية بتر عضو لا تسفك فيها الدماء ولا يشعر الحيوان بأي ألم جراء هذه العملية الدقيقة، وهناك آلاف الأمثلة على ذلك يطول الحديث بذكرها هنا، وكلها تدلّ على عظمة الباري (عزَّ وجلَّ) في خلق الموت قبل الحياة، وهذه سنّة الحياة في هذه الدنيا، ولا بقاء إلّا له.
من كل هذا يتَّضح أنه ليس هناك عمر محدّد للخلية، وأنها يمكن أن تبقى إلى الأبد دون أن تتأثر وتموت طالما تتغذى ويصلها المواد الأولية والماء، فإن معاملها التي تصنع البروتينات وهي (الرايبوسومات) سوف تستمر بالعمل وبطاقتها الاعتيادية، وقد عرفنا من الذي يميت الخلية، وقلنا إنه (جين الموت) الذي لم يكتشف لحد الآن، والذي هو من بين ملايين الجينات غير المعروفة لحد الآن.
إذ لا يعرف العلم الحديث إلّا عدداً قليلاً منها بواسطة عمل هندسة الجينات لأن الاطلاع على كل الجينات يحتاج إلى وقت طويل جداً لا يكفي قرن أو قرنان لإنجازه، ومعرفة كل أسرار الجينات وبواسطة مؤسسات من آلاف الخبراء والأخصائيين في علوم البيولوجيا والبيولوجيا الجزئية.
أقول لولا (جين الموت) الذي يوقف في ساعة ووقت ثابت معين حيث ﴿لا يَستَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ (الأعراف: ٣٤).
ولا أحد يعلم لحدّ الآن كنه جين الموت هذا، فكيف الحال بالساعة التي توقفه ومن الذي يوقفه، إذ ليس هناك جواب على ذلك سوى (ملك الموت) المأمور بقضاء الله وبقدره، الذي يوقف جين الموت هذا وفي جميع خلايا جسم الإنسان، وعندما تحين ساعة موته الذي يأتيه حتى ولو كان في بروج مشيّدة ﴿أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِككّمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ﴾ (النساء: ٧٨).
ولو استطاع الإنسان أن يتعرّف على جين الموت هذا فإنه قد يستطيع إيقافه، ولكن هذا من رابع المستحيلات، وذلك لأنه لا يزال مجهولاً، وهو من بين ملايين الجينات الأخرى المجهولة، وإن كروموسومات الإنسان ومادة بحدود ٩٩ من الجينات غير معروف تحوي الملايين من الجينات غير العاملة والخاملة، ولا يعرف أحد ولحد الآن لماذا توقفت، وتنشط من ضمنها بالطبع جينات أخرى لكي تقوم الخلية بالانشطار والتكاثر. وإذا صحّ التعبير عنها فهي جينات الحياة وهي المسؤولة عن حدوث الحالة المرضية (السرطان)، إذ إن هذا المرض هو نشاط غير اعتيادي لخلايا قد توقف فيها الانشطار والانقسام في خلايا الدماغ مثلاً، أو عضلات القلب مثلاً، وفجأة تتيقظ وتنشط وتبدأ تنشطر وتتقاسم وتتكاثر وتنمو وتؤلّف الورم السرطاني الذي لا يستطيع أحد أن يوقفه، ولا يستطيع العلم الحديث ولحد الآن أن يوقف هذا الجين وعلى مستوى كل الخلايا خاصة إذا أفلتت إحدى هذه الخلايا في دم الإنسان فسوف تذهب إلى مكان آخر وتبدأ بالانشطار وتحضير الخلايا المجاورة بالتكاثر، فسبحان الباري المصوّر الذي خلق عاملَي (الموت والحياة) في الخلية الواحدة المتمثلة في (جين الموت) وجين الانشطار والحيوية (جين الحياة)، وبذلك خلق سبب الموت والحياة في خلية واحدة وفي جميع الخلايا وهو ﴿الّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ (الملك).
ومما تقدم اتَّضح لنا إمكانية بقاء الخلايا إلى أجل طويل وعمر مديد إذا لم يحدث لها طارئ وأطلق فيها (جين الموت)، وإذا كانت هذه الخلايا ذات العمر المديد تؤلّف جسم مخلوق ما مثل الإنسان، بل مثل الإنسان الأمثل الذي يعد لقيادة هذا العالم وإنقاذ البشرية جمعاء كالإمام المهدي (عجّل الله فرجه) مثلاً، فإن الباري قادر على أن يبقيه، وسوف لا يرسل المصوّر الذي بيده أسباب الموت والحياة، لا يرسل (ملك الموت) الموكل بجينات الموت التي تطرقنا إليها، وهذه سوف لن تنشط وتبقى خاملة ويبقى الإمام عائشاً حياً ما بين ظهرانينا يدور في أرجاء الدنيا يرقب البشرية وما يجري فيها إلى أن تحين الساعة التي يأمره الباري لكي يقوم بالأمر ويقود البشرية نحو الإصلاح والسعادة وإزالة الظلم والفساد.
والله الموفق