الأدب المستفيد من الرسالتين المبعوثتين إلى الشيخ المفيد (رحمه الله)
أحمد خضير كاظم الكاظمي
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَـيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّـرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ * أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ﴾ (البقرة: ١٥٥-١٥٧).
مقدمة:
تحتوي هذه الدراسة المختصرة على نبذة تاريخية عن حياة الشيخ المفيد والفترة التي عاش بها من ملابسات سياسية وظهور عدد من الفتن والمشاكل في الدولة الإسلامية.
كما تناقش سند الرسالتين الواردتين إلى الشيخ المفيد في تلك الفترة من حضرة الإمام (عجّل الله فرجه) ورزقنا نصرته وشرف الشهادة بين يديه، كما أن هناك تساؤل: هل وردت رسائل أخرى عن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في عصر الغيبة الكبرى؟ وكما تضمنت الرسالتين توصيات عالية ومضامين شريفة للشيعة خلال عصر الغيبة، حتّى اهتم كبار العلماء بتلك التوصيات وأمروا بها وذكروها في كتبهم.
من هو الشيخ المفيد؟
الشيخ المفيد اسم يرد عند علماء الشيعة من كبارها وعند المتكلمين من أحسنهم وألمعهم وأكثرهم محاجة وإظهار للحق، وعند الفقهاء أورعهم وأتقاهم، فيذكر أبو يعلى الجعفري صهر الشيخ المفيد أن الشيخ كان لا ينام من الليل إلّا قليلاً، ويقضي بقية الليل بالصلاة أو المطالعة أو التدريس أو تلاوة القرآن المجيد. ولعل آثاره الباقية خير دليل على علمه وفضله، مثل كتاب المقنعة في الفقه، ومثل شرح المنام المشهور في المناظرة والكلام، وأوائل المقالات في الأصول إلى آخره، والمطَّلع على كتبه يعرفه ويعرف مدى غزارة علمه.
وأمّا حياته فقد عاش في بغداد وانشغل بدراسة العلوم الدينية فيها، حتّى أصبح المقدم في كل علم من الفقه والكلام والأصول، وذاع صيته في بغداد.
من مؤلفاته (رضوان الله عليه):
١ - المقنعة.
٢ - الفرائض الشرعية.
٣ - أحكام النساء.
٤ - الكلام في دلائل القرآن.
٥ - وجوه إعجاز القرآن.
٦ - النصرة في فضل القرآن.
٧ - أوائل المقالات.
٨ - نقض فضيلة المعتزلة.
٩ - الإفصاح.
١٠ - الإيضاح.
وتبلغ مؤلفات الشيخ المفيد طبقاً لما ذكر تلميذه البارز الشيخ الطوسي (٢٠٠) مؤلف.
وفاته (رحمه الله):
توفي (رضوان الله عليه) في بغداد من عام (٤١٣ هجرية) عن عمر (٧٥)، ودفن في المرقد المشرف للإمامين الكاظمين (عليهما السلام) قريباً من قبر أستاذه ابن قولويه، وقد كان يحظى بتعظيم الناس وتقدير العلماء والفضلاء من كلا الطرفين.
يذكر الشيخ الطوسي الذي حضر تشييعه بأنه قد كان يوم وفاته لا نظير له من كثرة الصديق والعدو لأداء الصلاة على جنازته والبكاء عليه. وشيَّعه ثمانون ألفاً، وصلّى عليه السيد المرتضى علم الهدى.
وورد أنه وُجد مكتوباً على قبره بخط الإمام (أرواحنا له الفداء):
لا صوت الناعي بفقدك أنه * * * يوم على آل الرسول عظيم
إن كنت قد غيبت في جدث الثرى * * * فالعدل والتوحيد فيك مقيم
والقائم المهدي يفرح كلما تليت * * * عليك من الدروس علوم
وذكرها كتاب جنة المأوى في ذكر من فاز بلقاء الحجة للميرزا حسين النوري (رحمه الله) (بحار الأنوار: ج٥٣، ص٢٥٧، الحكاية ٢٥) قال: قال السيد القاضي نور الله الشوشتري في مجالس المؤمنين ما معناه: إنه وجد هذه الأبيات بخط صاحب الأمر (عجّل الله فرجه) مكتوباً على قبر الشيخ المفيد. والجزء ٥٣ من البحار هو كتاب جنة المأوى في ذكر من فاز بلقاء الحجة للميرزا حسين النوري (رحمه الله).
الرسالة الأولى إلى الشيخ المفيد (قدس سره):
نص الرسالة كما ورد في الاحتجاج للشيخ الطبرسي:
ذكر كتاب ورد من الناحية المقدسة (حرسها الله ورعاها) في أيام بقيت من صفر سنة عشرة وأربعمائة على الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان (قدس الله روحه ونوَّر ضريحه) ذكر موصله أنه يحمله من ناحية متصلة بالحجاز نسخته (الاحتجاج: ج٢، ص٤٩٧):
«للأخ السديد والولي الرشيد الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان أدام الله إعزازه من مستودع العهد المأخوذ على العباد، بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد.. سلام عليك أيها الولي المخلص في الدين المخصوص فينا باليقين، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو ونسأله الصلاة على سيدنا ومولانا ونبينا محمد وآله الطاهرين، ونعلمك أدام الله توفيقك لنصرة الحق، وأجزل مثوبتك على نطقك عنّا بالصدق، أنه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة وتكليفك ما تؤديه عنّا إلى موالينا قبلك أعزهم الله بطاعته وكفاهم المهم برعايته لهم وحراسته، فقف أيدك الله بعونه على أعدائه المارقين من دينه على ما أذكره، واعمل في تأديته إلى من تسكن إليه بما نرسمه إن شاء الله نحن، وإن كنا نائين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنّا شيء من أخباركم ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون أنا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم، ولو لا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء، فاتقوا الله (جل جلاله) وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم، يهلك فيها من حم أجله، ويحمى عنها من أدرك أمله، وهي أمارة لأزوف حركتنا، ومباثتكم بأمرنا ونهينا، والله متم نوره ولو كره المشركون.
اعتصموا بالتقية من شب نار الجاهلية يحششها عصب أموية، يهول بها فرقة مهدية أنا زعيم بنجاة من لم يرم فيها المواطن، وسلك في الطعن منها السبل المرضية، إذا حل جمادى الأولى من سنتكم هذه فاعتبروا بما يحدث فيه واستيقظوا من رقدتكم لما يكون في الذي يليه، ستظهر لكم من السماء آية جلية ومن الأرض مثلها بالسوية، ويحدث في أرض المشرق ما يحزن ويقلق ويغلب من بعد على العراق طوائف عن الإسلام مراق تضيق بسوء فعالهم على أهله الأرزاق، ثم تنفرج الغمة من بعد ببوار طاغوت من الأشرار ثم يستر بهلاكه المتقون الأخيار ويتفق لمريدي الحج من الآفاق ما يؤملونه منه على توفير عليه منهم واتفاق، ولنا في تيسير حجهم على الاختيار منهم والوفاق شأن يظهر على نظام واتساق، فليعمل كل امرئ منكم بما يقرب به من محبتنا ويتجنب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا، فإن أمرنا بغتة فجأة، حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة، والله يلهمكم الرشد ويلطف لكم في التوفيق برحمته.
نسخة التوقيع باليد العليا على صاحبها السلام، هذا كتابنا إليك أيها الأخ الولي، والمخلص في ودنا الصفي، والناصر لنا الوفي، حرسك الله بعينه التي لا تنام، فاحتفظ به ولا تظهر على خطنا الذي سطرناه بما له ضمناه أحداً وأدِّ ما فيه إلى من تسكن إليه، وأوص جماعتهم بالعمل عليه إن شاء الله وصلى الله على محمد وآله الطاهرين».
قبل الدخول في صلب بحث موضوعنا، وهو معنى الرسالة والمطلوب منّا عمله في هكذا ظروف، هناك عدّة مسائل، منها:
سند الرسالة:
أوردت هاتين الرسالتين في كتاب الاحتجاج للطبرسي بدون سند، ومرسلة، مما يدعو البعض إلى تركها وركنها لعدم احتوائها على السند، وخاصة أن بين الشيخ المفيد والطبرسي مؤلف الاحتجاج (رحمهما الله) حوالي أكثر من مئتي عام، مما يبعد الاحتمال عن أنه أخذ الرسالتين مباشرة عن الشيخ المفيد، أقول ورد في الرسالة الشريفة: «اعمل في تأديته إلى من تسكن إليه بما نرسمه»، مما يدل أنه ألزم الشيخ المفيد بنقلها إلى من تسكن إليه نفسه، أي من الشيعة الموثقين فقط لا غير، لغاية أمنية أولاً وأخيراً، وعدة أسباب أخرى تقضيها المصلحة العامة، وهكذا نعرف أن الشيخ المفيد أدّى مضمون الرسالة إلى الخالصين من الشيعة الذين التزموا بمعاني الرسالة الكبرى ومفاهيمها العليا.
ولهذا أيضاً نرى خلو كتب الشيخ المفيد من إيراد هذه الرسالة، لأن كتبه تقع بيد الخاص والعام. ونفهم أيضاً أن السلسلة التي وصلت عن طريقها الرسالة إلى الطبرسي هي من خاصة مؤمني الشيعة أيضاً الذين توارثوا هذه الرسالة، ولهذا نرى أن الطبرسي كان مسلِّماً لهاتين الرسالتين بالأخذ بها أخذ المسلَّمات، حيث قد أوردهما في كتاب مراسلات الإمام المهدي في عصر الغيبة وغيرها.
وقد أورد السيد الصدر ثلاث أسباب وجيهة إلى الأخذ بهذه الرسالتين هي:
أولاً: إرسال الطبرسي لها إرسال المسلَّمات مما يدل أنه كان معتقداً بصحة سندهما، وربما يكون قد حذفه لمدى شهرته ووضوحه.
ثانياً: تضمن الرسالتين على توجيهات عالية وتنبؤات صادقة.
ثالثاً: اقتضاء المصلحة العامة صدور هذه الرسائل في أول زمان الغيبة الكبرى، وذلك لتحقيق مصلحتين:
المصلحة الأولى:
إعطاء المهدي لقواعده الشعبية، القواعد العامة والمفاهيم الأساسية التي ينبغي أن يعرفها الناس وتكون سارية المفعول خلال عصر الغيبة الكبرى.
المصلحة الثانية:
إعطاء المهدي القيادة الرئيسية من الناحية الإسلامية بيد العلماء الصالحين.
هل وردت رسائل أخرى عن الإمام (عجّل الله فرجه) في عصر الغيبة الكبرى؟
إن روايات تشرف المؤمنين برؤية الإمام (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء) بلغت التواتر والمئات حتّى أصبح جلياً لدى شيعة آل البيت (عليهم السلام) بحضوره (عجّل الله فرجه)، وقضاء حوائج المؤمنين. وكم من مريض قد شفى ببركاته، وكم من حاجة من حوائج الدنيا والآخرة قد قضيت بالتوسل إليه وكانت كلها روحانية. فلم نعرف إلى الآن من حصول إنسان على أي شيء مادي من الإمام ما عدا هذه الرسالتين التي نعتبرها عملياً كشيء ملموس واضح ومادي. وإن أورد روايات كثيرة عن تعليمه لبعض الناس أدعية أو تبليغه عن شيء شفهياً، ولكن بدون ظهور خطِّه أو إرساله لأي شيء مادي لإثبات الدعوى.
والإجابة عن هذه المسألة من عدة وجوه:
أولاً:
أن تطلب مرحلة الغيبة التدريجي للوصول إلى مرحلة الغيبة الكبرى تطلب من الإمام التغيب التدريجي حتّى تتقبل تلك الجموع المؤمنة التحول من تلقي الفتوى مباشرة عن طريق الإمام المعصوم إلى تلقي فتاواها وأعمالها العبادية عن المؤمن الفقيه المتَّبع لأمر دينه والتارك لأمور دنياه.
حيث نرى أن الإمام بدئاً اتَّصل بالشيعة عن طريق عدد من الثقات، وكانت المسائل المستحدثة تصل من وإلى الناس عن طريق هؤلاء الثقات الذين عُرفوا بالسفراء، وعُرفت هذه المدة التي دامت حوالي اثنا وسبعون عاماً بالغيبة الصغرى، كي يستطيع الناس تقبل غياب المعصوم عن أنظارهم ومحاولة البحث عن الأكفأ والأجدر والأقرب للإمام وهو الفقيه العادل. حيث اشتملت فترة الغيبة على مدعين للسفارة غير هؤلاء كثير.
وتهيأ الناس خلال هذه الفترة للدخول في عصر الغيبة الكبرى وهو عصر لا يستطيعون الوصول فيه إلى الإمام ومعرفة أمره ونهيه - والذي هو أمر الله ونهيه - إلّا عن طريق الفقيه العادل.
فلذا إن ظهور هاتين الرسالتين بعد فترة انقطاع وبدء الغيبة الكبرى كان موضوع سلوى للمؤمنين وتذكير ببقاء وجود الإمام وتعايشه مع أحداث الأُمة، ولرسم الخطوة للأُمة التي أكدها في رسالته الأخيرة في عصر السمري: «فارجعوا إلى رواة أحاديثنا...»، كما أن هذه الرسالة إضافة إلى بعض روايات الرؤية قد بينت للناس وللجموع المؤمنة مكان سكنى وإجابة لبعض أسئلتهم الكثيرة.
لماذا الشيخ المفيد؟
وقد يرد أيضاً تساؤل وهو: لِمَ يختص الشيخ المفيد بتشريفه بهاتين الرسالتين من دون الشيعة وعلى مدى هذه العصور الطويلة؟
ولهذا جواب من عدة نواحي:
أولاً:
ورود «نعلمك أدام الله توفيقك لنصرة الحق، وأجزل مثوبتك على نطقك عنّا بالصدق، أنه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة وتكليفك ما تؤديه عنّا إلى موالينا قبلك أعزهم الله بطاعته وكفاهم المهم برعايته لهم وحراسته، فقف أيدك الله بعونه على أعدائه المارقين من دينه على ما أذكره، واعمل في تأديته إلى من تسكن إليه بما نرسمه».
في نص الرسالة نفهم أن الإمام دعا الله سبحانه أو استخاره لهذه المراسلة، وقد أذن له سبحانه لهذه المراسلة، وقد فهم الإمام هذا القبول إمّا عن طريق علم الإمام الإلهي بالغيبيات والحكم الإلهي لكل واقعة، أو من نتيجة الاستخارة إذا فرضنا أنه (عجّل الله فرجه) قد قام بالاستخارة.
ثانياً:
قبول الأطروحة التي طرحها السيد الصدر من أن الذنوب هي التي تحجب الإنسان عن المعصوم ورؤيته.
ومما يؤيد أن الشيخ المفيد (رضوان الله عليه) كان طاهراً من الذنوب وقد انفكَّ منها، وأنه انكبَّ على الطاعات وحصل على مخاطبة الإمام له بالأخ السديد والولي الرشيد.
يقول السيد الصدر في الموسوعة الجزء الثاني، الصفحة ١١١: (هل أن مشاهدات المهدي (عليه السلام) في غيبته الكبرى يحتاج إلى درجة عالية من الإيمان والوثاقة كما يميل إليه بعض الباحثين، أو لا يحتاج؟ لا شك أن تلك الدرجة العليا كانت شرطاً في مشاهدة صاحب الأمر المهدي (عجّل الله فرجه) في غيبته الصغرى... كما عرفنا في تاريخها حيث لم يكن أبوه العسكري (عليه السلام) يطلع أحداً عليه إلّا من الموثقين الخاصين، وكذلك كان ديْدَن المهدي بعد وفاة أبيه. وأمّا في عصر الغيبة الكبرى... فلا شك أن الأغلب هو اختصاص المقابلة بالخاصة الموثوقين. كما لا شك في أن الإمام المهدي (عليه السلام) قد يخص بعض الموثوقين بأكثر من مقابلة واحدة، ولعلها تصل إلى عدد مهم من المقابلات لدى عدد منهم).
نزر يسير في شرح الرسالة الأولى:
أنوار من شرح الرسالة الأولى:
«للأخ السديد والولي الرشيد الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان أدام الله إعزازه من مستودع العهد المأخوذ على العباد.. بسم الله الرحمن الرحيم.. أمّا بعد.. سلام عليك أيها الولي المخلص في الدين المخصوص فينا باليقين، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو ونسأله الصلاة على سيدنا ومولانا ونبينا محمد وآله الطاهرين، ونعلمك أدام الله توفيقك لنصرة الحق وأجزل مثوبتك على نطقك عنا بالصدق أنه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة وتكليفك ما تؤديه عنا إلى موالينا قبلك أعزهم الله بطاعته وكفاهم المهم برعايته لهم وحراسته فقف أيدك الله بعونه على أعدائه المارقين من دينه على ما أذكره واعمل في تأديته إلى من تسكن إليه بما نرسمه».
تضمنت الرسالة في المقطع الأول السابق على التعريف لمن أرسلت له الرسالة ومرسل الرسالة والحمد والتهليل وعلى توصية بمن يجب أن يعرض عليه الرسالة وهم من تسكن إليه أيها الشيخ المفيد، فقال (عجّل الله فرجه):
«للأخ السديد والولي الرشيد الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان أدام الله إعزازه من مستودع العهد المأخوذ على العباد».
سبق وأشرنا إلى هذا اللطف الإلهي الذي اختص به المفيد من مخاطبته بالأخ من قبل الإمام، وذلك لبيان مدى الدرجة التي وصل إليها الشيخ (رضوان الله عليه) وهي مرحلة العصمة بالملكة العقلية، ففي بحث العصمة هل أن العصمة مكتسبة أم أن العصمة ملكة للإنسان.
إن العصمة الربانية الموجودة للأنبياء والرسل والأئمة والأوصياء (عليهم السلام) هي عصمة خلقت مع طينتهم ويكتسبها أولياءهم تدريجياً كلٌ حسب مدى التزامه بالواجبات وتركه للمنهيات، في بحوث طويلة.
«بسم الله الرحمن الرحيم.. أمّا بعد.. سلام عليك أيها الولي المخلص في الدين المخصوص فينا باليقين».
بدأت الرسالة بالبسملة ببسم الله الرحمن الرحيم تيمناً وبركة كما اعتاد مسلمي الشرق والغرب بالتسمية في بداية كل أمر والسلام بعبارة «سلام عليك أيها الولي المخلص في الدين المخصوص فينا باليقين» ليبين مدى الفضيلة التي اكتسبها الشيخ المفيد (رضوان الله عليه) لأنه ولي لآل بيت الرحمة ومخصوص بأهل بيت النبوة، باليقين الكامل، ولهذا تمتع الشيخ المفيد بهذه المكانة العليا لدى شيعة أهل البيت وآل البيت (عليهم السلام) ومتابعة لمؤلفات الشيخ المفيد مع سيرة حياته الكريمة نرى زخر مؤلفاته بالدفاع عن مذهب أهل البيت وتعميق رأي مدرسة أهل البيت ووضع الأصول الفقهية والعقائدية للمذهب والتي لا تصدر إلّا عن من درس العلوم الدينية عن دراية وفهم واستنباط وحس علمي طويل في إثبات الحق لا يكتسبه إلّا ذو حظ عظيم وكثرة محاجته التي ظهرت على المخالف والمؤالف.
«فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو، ونسأله الصلاة على سيدنا ومولانا ونبينا محمد وآله الطاهرين».
وكذا بدأت الرسالة بتوحيد الله والثناء عليه بالكلمة العظمى الله الذي لا إله إلّا هو التي ورد عدَّة روايات أنها اسم الله الأعظم، وبالدعاء بالصلاة على محمد وآله الطاهرين.
«ونعلمك أدام الله توفيقك لنصرة الحق، وأجزل مثوبتك على نطقك عنا بالصدق، أنه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة وتكليفك ما تؤديه عنا إلى موالينا قبلك أعزهم الله بطاعته وكفاهم المهم برعايته لهم وحراسته، فقف أيدك الله بعونه على أعدائه المارقين من دينه على ما أذكره، واعمل في تأديته إلى من تسكن إليه بما نرسمه».
وهكذا ابتدأت الرسالة موضوعها بالدعاء للشيخ بالتوفيق لنصرة الحق، وهو النهج الذي نهجه الشيخ المفيد في مؤلفاته وكرَّس حياته له، وهو نصرة دين الحق، ونرى أن بعد ذكر صاحب الأمر لاسم الشيخ ابتداءً قد دعى له بالعز فقال: «للأخ السديد والولي الرشيد الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان أدام الله إعزازه من مستودع العهد المأخوذ على العباد، أدام الله إعزازه بنصرة الحق» وهذه الأدعية أيضاً تنم عن مدى عظمة الشيخ المفيد وكم أدخل سروراً على آل البيت (عليهم السلام) بنصرته لمذهبهم بالحكمة وبالموعظة الحسنة.
وبعد أن أعلم الشيخ المفيد أن الرسالة إنما هي قد جاءت بعد أخذ الإذن الإلهي، ولاقتضاء المصلحة، وتم هذا الإذن عن أحد طريقين أسلفنا لهما، إمّا عن طريق علم الإمام بالغيبيات أو عن طريق الاستخارة التي حث عليها أهل البيت (عليهم السلام) في عدة روايات وملازمتها. والله أعلم.
يورد السيد محمد محمد صادق الصدر أطروحتان لفهم الإذن الإلهي للإمام، هما:
الأولى: صدور الإذن المباشر من قبل الله (عزَّ وجلَّ) في كل واقعة واقعة. ذلك الإذن مستفاد بالإلهام ونحوه من مراتب العلوم التي يختص بها الإمام المعصوم.
ثانياً: الإذن الإلهي المستفاد من بعض القواعد العامة التي يعرفها المهدي (عجّل الله فرجه). ويستطيع تطبيقها في كل مورد. تلك القواعد التي نعبر عنها باقتضاء المصلحة الإسلامية لشيء من الأشياء.
فإذا أحرز الإمام وجود المصلحة في المراسلة مثلاً، فقد أحرز وجود الإذن الإلهي بالعمل على تلك المصلحة.
ونحن إذ نضيف الأطروحة الثالثة، وهي معرفة الإذن الإلهي، تكون عن طريق الاستخارة بالله أيضاً في معرفة المصلحة الإلهية لما ورد بها الشارع من الحث عليها.
أبلغ صاحب الامر للشيخ أن هذه الرسالة بعد فهمها والعلم بما جاء بها، ألّا يبلغها إلّا للخالصين لمن يطمئن إليهم بالإيمان من الشيعة لتكون دستوراً عملياً للعمل بما تقتضيه المصلحة العامة من الواجبات.
إن شاء الله نحن وإن كنا ناءين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح، ولشيعتنا المؤمنين في ذلك، ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنا نحيط علماً بأنبائكم ولا يعزب عنا شيء من أخباركم.
وإن شاء الله فإن الإمام نفهم من النص العام أنه يسكن بمكان بعيد عن دور الظالمين للصلاح الرباني في حفظ راعي الشريعة الإمام المهدي عن أخطار الظالمين وملاحقاتهم، وخوف الإمام هذا نابع من خوفه على المذهب والشيعة حيث قال (عجّل الله فرجه): «حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين».
وإن هذا البعد عن الأنظار باقي ما دامت دولة الفاسقين قائمة في الأرض إلّا أن مع هذا البعد فإن الإمام قريب من الشيعة عالم بأحوالهم عارفاً بأخبارهم ولا تفوته من أمورهم الدينية والدنيوية مثقال ذرة.
«ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون أنا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم، ولو لا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء».
واللأواء الشر، واصطلكم الأعداء أي استأصلوكم وأبادوكم.
وبعد البيان الإجمالي بإحاطته (عجّل الله فرجه) بالأمور ودقائقها، بد التفصيل عن المحنة التي أصابت الشيعة، فنفهم من نص الرسالة أن الشيعة كانوا واقعين تحت الذل والحروب وفي التاريخ المرافق لظهور هذه الرسالة وهو العام (٤١٠ هجرية)، فعلى الرغم من انتشار مذهب التشيع الاثنا عشري في القرن الرابع الهجرية إلّا أننا نلمس أيضاً في هذا القرن زلزلة الوضع السياسي العام للمسلمين وانتشار الفتن الطائفية والسياسية وتخلخل الوضع العام، ونجمل الأحداث العامة كما في موسوعة الإمام المهدي والكامل في التاريخ.
١. أحداث عامة.
١ - أمر الأندلس قد آل إلى التفرق والانحلال عام ٤٠٧ هـ.
الكامل ج٧، ص٢١٠؛ موسوعة الإمام المهدي: ج٢، ص١٤١.
٢ - الشمال الأفريقي يؤل إلى التفرق وتنابذ الأمراء بعد أن غادره المعز لدين الله إلى مصر عام ٣٤١.
الكامل ج٧، ص٣٠٤؛ موسوعة الإمام المهدي: ج٢، ص١٤١.
٣ - تأسيس الدولة الفاطمية من قبل المعز لدين الله في مصر مع وجود حرب في شمال أفريقيا عام ٤٠٦.
الكامل: ج٧، ص٢٧٩؛ موسوعة الإمام المهدي: ج٢، ص١٤١.
٤ - انقطاع الحجاج عن الحج للصعوبات، للأعوام:
(٤٠١هـ):
كما في الكامل: ج٧، ص٢٥٦، موسوعة الإمام المهدي: ج٢، ص١٤١.
(٤١٠ و٤١١ هـ):
كما في الكامل: ج٧، ص٣١٠، موسوعة الإمام المهدي: ج٢، ص١٤١.
(٤١٦ هـ):
كما في الكامل: ج٧، ص٣٢٤، موسوعة الإمام المهدي: ج٢، ص١٤١.
(٤١٧ هـ):
كما في الكامل: ج٧، ص٣٢٧، موسوعة الإمام المهدي: ج٢، ص١٤١.
(٤١٨ هـ):
كما في الكامل: ج٧، ص٣٣٠، موسوعة الإمام المهدي: ج٢، ص١٤١.
٢. أحداث خاصة بالشيعة:
فعلى الرغم من انتشار مذهب التشيع في هذه الفترة وظهور علماء كبار لهم ومتكلمين أمثال الشيخ المفيد الذين وضعوا في هذه الفترة أصول الاستنباط وأصول المذهب في زمن الغيبة وظهور دول شيعية وتميل إلى التشيع مثل ظهور الدولة الفاطمية وسيطرة البويهيون على الحكومة الإسلامية، إلّا أنه قد حدثت حوادث مؤسفة ومضايقات جمة وخطيرة على حياة المواطن الشيعي في تلك الفترة.
حوادث مؤسفة في بغداد في يوم عاشوراء عام ٤٠٦هـ.
في واسط في العام الذي يليه ٤٠٧ هـ.
قتلت جميع الشيعة في شمال أفريقيا.
حوادث في بغداد عام ٤٠٨هـ.
اشتداد الأوضاع سوءاً في بغداد حتّى نفي الشيخ المفيد من بغداد عام ٤٠٩هـ.
تكررت مثل هذه الأعمال في الكوفة عام ٤١٥هـ، وفي بغداد عام ٤٢٢هـ.
وعلى الرغم مما أصاب الشيعة من المصائب، فإن الإمام يؤكد أنه غير بعيد عن شيعته وأنه دائم بالدعاء لهم بالحفظ كما في نص الرسالة «موالينا قبلك أعزهم الله بطاعته وكفاهم المهم برعايته لهم وحراسته».
وأن لولا هذا الدعاء لكان الأعداء أخذوا منهم كل مأخذ ولم يبقوا من الشيعة أحد.
وإن السبب من وراء هذا الذل ابتعادهم عن العهد المأخوذ عليهم، وهو الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) كما تقدمت الرسالة بادئ الأمر. حيث نعت الإمام نفسه «من مستودع العهد المأخوذ على العباد».
تقوى الله... الوصية الأولى:
«فاتقوا الله (جل جلاله)، وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم، يهلك فيها من حم أجله ويحمى عنها من أدرك أمله، وهي أمارة لأزوف حركتنا ومباثتكم بأمرنا ونهينا، والله متم نوره ولو كره المشركون، اعتصموا بالتقية، من شب نار الجاهلية يحششها عصب أموية يهول بها فرقة مهدية، أنا زعيم بنجاة من لم يرم فيها المواطن وسلك في الطعن منها السبل المرضية».
في هذا المقطع بدأت الرسالة الشريفة بالوصية الأولى، وهي تقوى الله ورأس التقوى مخافة الله.
وفي شرح التقوى ومعناها الواسع لا تحويه هذه الأوراق المختصرة، نكتفي بمعنى التقوى وبيان صفات المتقين وأخلاقياتهم وأعمالهم بما تضمنته خطبة أمير البلاغة أمير المؤمنين وسيد المتقين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في وصف أدق المعاني وأشمل صفات المتقين بأوضح العبارات وأقل الكلمات وأوجز الجُمَل، وهي الخطبة ١٩٣ من نهج البلاغة، وإن شاء الله تكون شاملة لمعنى التقوى والمتقين.
ومن خطبة له (عليه السلام) يصف فيها المتقين:
رُوِيَ أَنَّ صَاحِباً لِأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يُقَالُ لَهُ هَمَّامٌ، كَانَ رَجُلًا عَابِداً، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ صِفْ لِيَ المُتَّقِينَ حتّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، فَتَثَاقَلَ (عليه السلام) عَنْ جَوَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا هَمَّامُ، اتَّقِ اللهَ وأَحْسِنْ، فَإِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ»، فَلَمْ يَقْنَعْ هَمَّامٌ بِهَذَا القَوْلِ حتّى عَزَمَ عَلَيْهِ، فَحَمِدَ اللهَ وأَثْنَى عَلَيْهِ وصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله) ثُمَّ قَالَ (عليه السلام):
«أَمَّا بَعْدُ.. فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى خَلَقَ الخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ، غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ، آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ، ولَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ ووَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ، فَالمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الفَضَائِلِ، مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، ومَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ، ومَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ، غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، ووَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى العِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ، نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي البَلَاءِ كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ، ولَوْلَا الأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ، شَوْقاً إلى الثَّوَابِ وخَوْفاً مِنَ العِقَابِ، عَظُمَ الخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ والجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وهُمْ والنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ، قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ، وحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ، وأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ، صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً، تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ، أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا، وأَسَّرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا، أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لِأَجْزَاءِ القُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا، يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ ويَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وأَكُفِّهِمْ ورُكَبِهِمْ وأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ يَطْلُبُونَ إلى اللهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ، وأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ، قَدْ بَرَاهُمُ الخَوْفُ بَرْيَ القِدَاحِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى ومَا بِالقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ ويَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا ولَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ، لَا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ القَلِيلَ ولَا يَسْتَكْثِرُونَ الكَثِيرَ فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ ومِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ، إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي ورَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي، اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ واجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ واغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ، فَمِنْ عَلَامَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ وحَزْماً فِي لِينٍ وإِيمَاناً فِي يَقِينٍ وحِرْصاً فِي عِلْمٍ وعِلْماً فِي حِلْمٍ وقَصْداً فِي غِنًى وخُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ وتَجَمُّلًا فِي فَاقَةٍ وصَبْراً فِي شِدَّةٍ وطَلَباً فِي حَلَالٍ ونَشَاطاً فِي هُدًى وتَحَرُّجاً عَنْ طَمَعٍ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وهُوَ عَلَى وَجَلٍ يُمْسِي وهَمُّهُ الشُّكْرُ ويُصْبِحُ وهَمُّهُ الذِّكْرُ يَبِيتُ حَذِراً ويُصْبِحُ فَرِحاً حَذِراً لِمَا حُذِّرَ مِنَ الغَفْلَةِ وفَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الفَضْلِ والرَّحْمَةِ إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيمَا تُحِبُّ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لَا يَزُولُ وزَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَبْقَى يَمْزُجُ الحِلْمَ بِالعِلْمِ والقَوْلَ بِالعَمَلِ تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ قَلِيلًا زَلَـلُهُ خَاشِعاً قَلْبُهُ قَانِعَةً نَفْسُهُ مَنْزُوراً أَكْلُهُ سَهْلًا أَمْرُهُ حَرِيزاً دِينُهُ مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ مَكْظُوماً غَيْظُهُ الخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ والشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ إِنْ كَانَ فِي الغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ وإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ ويُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ ويَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ بَعِيداً فُحْشُهُ لَيِّناً قَوْلُهُ غَائِباً مُنْكَرُهُ حَاضِراً مَعْرُوفُهُ مُقْبِلًا خَيْرُهُ مُدْبِراً شَرُّهُ فِي الزَّلَازِلِ وَقُورٌ وفِي المَكَارِهِ صَبُورٌ وفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ لَا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ ولَا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ يَعْتَرِفُ بِالحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ لَا يُضِيعُ مَا اسْتُحْفِظَ ولَا يَنْسَى مَا ذُكِّرَ ولَا يُنَابِزُ بِالألقَابِ ولَا يُضَارُّ بِالجَارِ ولَا يَشْمَتُ بِالمَصَائِبِ ولَا يَدْخُلُ فِي البَاطِلِ ولَا يَخْرُجُ مِنَ الحَقِّ إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ وإِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ وإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حتّى يَكُونَ اللهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ والنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ أَتْعَبَ نَفْسَهُ لِآخِرَتِهِ وأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ ونَزَاهَةٌ ودُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ ورَحْمَةٌ لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وعَظَمَةٍ ولَا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وخَدِيعَةٍ».
قَالَ: فَصَعِقَ هَمَّامٌ صَعْقَةً كَانَتْ نَفْسُهُ فِيهَا، فَقَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام):
«أَمَا واللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ»، ثُمَّ قَالَ: «أَهَكَذَا تَصْنَعُ المَوَاعِظُ البَالِغَةُ بِأَهْلِهَا»، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَمَا بَالُكَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ (عليه السلام): «وَيْحَكَ إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لَا يَعْدُوهُ، وسَبَباً لَا يَتَجَاوَزُهُ، فَمَهْلًا لَا تَعُدْ لِمِثْلِهَا فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ».
التقية في الفتن:
«اعتصموا بالتقية من شب نار الجاهلية يحششها عصب أموية يهول بها فرقة مهدية، أنا زعيم بنجاة من لم يرم فيها المواطن وسلك في الطعن منها السبل المرضية».
تؤكد الرسالة الصادرة بلزوم الاعتصام بالتقية عند اشتداد الأزمات في زمان الغيبة خاصة وظهور الفتن، وخاصة الفتن الطائفية كما هو واضح من الأحداث المرافقة لتاريخ عصر ظهور، هذه الرسالة وخاصة وكانت المثير لهذه الفتن الجاهلية البعيدة عن التعاليم الحقيقية للإسلام يصفها بشب نار الجاهلية والتي يحشد لها ويعظمها أتباع (عصابات أموية) ونسبتها إلى الأموية أي الامتثال بسيرة آل أمية في إظهار الكراهية الشديدة والعداء والبغض لآل البيت (عليهم السلام) كما هو واضح من سيرة آل أُمية. فالإمام زعيم (كافل وضامن) بالنجاة من هذه الفتن كل من التزم طريق التقية وانشغل برضا الرب عن الدخول باللغو ومشاركة إشعال نار الفتنة واتخذ طرق السبل المرضية أي اتخاذ طريق الحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة إلى آل البيت بالتي هي أحسن وأقرب إلى التقوى وخير مثال هو الشيخ المفيد الذي عرف في زمانه بكثرة المناقشات والمحاججات التي كانت تتخذ طريق العلم من النفس العلمي الطويل والاستدلالات الدينية العلمية بدلاً من اتخاذ طريق العصب الأموية وهو طريق القوة والإرهاب الدموي في فرض أفكارهم (ولعل فتنة الوهابية وفتاواهم التي ملأت البلاد الإسلامية من تحليل دم الشيعي مثال من الوقت الحاضر على هذه العصب الأموية).
التقية لطالما أكد عليها وشدد أئمة وعلماء آل البيت الأطهار وعلموها لشيعتهم حتّى أفردت كتب الحديث لها أبواباً خاصة بالتقية، مثل كتاب الكافي الجزء ٢ وكتاب بحار الأنوار في الجزء ٧٢.
أحاديث مختارة من كتاب الكافي باب التقية:
١ - عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ وغَيْرِهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي قَوْلِ اللهِ (عَزَّ وجَلَّ): ﴿أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا﴾، قَالَ: «بِمَا صَبَرُوا عَلَى التَّقِيَّةِ ويَدْرَؤُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ قَالَ الحَسَنَةُ التَّقِيَّةُ والسَّيِّئَةُ الإِذَاعَةُ».
٢ - ابْنُ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عُمَرَ الأَعْجَمِيِّ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «يَا أَبَا عُمَرَ إِنَّ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الدِّينِ فِي التَّقِيَّةِ ولَا دِينَ لِمَنْ لَا تَقِيَّةَ لَهُ، والتَّقِيَّةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا فِي النَّبِيذِ والمَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ».
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَالَ: «كُلَّمَا تَقَارَبَ هَذَا الأَمْرُ كَانَ أَشَدَّ لِلتَّقِيَّةِ».
ابْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: «التَّقِيَّةُ فِي كُلِّ ضَرُورَةٍ وصَاحِبُهَا أَعْلَمُ بِهَا حِينَ تَنْزِلُ بِهِ».
عَلِيٌّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ جَمِيلِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَالَ: «كَانَ أَبِي (عليه السلام) يَقُولُ: وأَيُّ شَيْءٍ أَقَرُّ لِعَيْنِي مِنَ التَّقِيَّةِ، إِنَّ التَّقِيَّةَ جُنَّةُ المُؤْمِنِ».
التنبؤات في الرسالة:
إذا حلَّ جمادى الأولى من سنتكم هذه فاعتبروا بما يحدث فيه واستيقظوا من رقدتكم لما يكون في الذي يليه، ستظهر لكم من السماء آية جلية ومن الأرض مثلها بالسوية، ويحدث في أرض المشرق ما يحزن ويقلق.
الآية الأرضية:
يشير السيد محمد صادق الصدر عن هامش الكامل الجزء السابع الصفحة ٣٠٣ في موسوعته أنه في النصف الأول من جمادي الأولى من سنة ورود الرسالة فاض البحر المالح وتدانى إلى الأيلة ودخل البصرة بعد يومين.
الآية السماوية:
تضمنت الرسالة نبوءة من السماء جلية أهملها التاريخ تحدث في جمادي الأولى من سنة كتابة الرسالة وهي سنة (٤١٠ هـ) كتب السيد الصدر في موسوعة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) أنه إمّا لم يذكر التاريخ هذه العلامة السماوية أو أنها التي حدثت في العام (٤١٧ هـ) حيث في رمضان (٤١٧) انقض كوكب (وهو المعبر عنه في زماننا بالنيازك والشهب)، عظيم استنارت له الأرض فسمع له دوي عظيم (الكامل في التاريخ جزء ٧ الصفحة ٣٢٧) وله عدة تفسيرات:
أولاً:
إنه فعلاً حدثت في جمادي الأولى حدث سماوي عظيم أهمله التاريخ لسبب أو آخر.
ثانياً:
إن مفهوم البداء عند الشيعة قد يسمح بتأخر الحدث فتكون العلامة السماوية هي نفسها التي حدثت في عام (٤١٧ هـ) يقول الشيخ المرحوم محمد رضا المظفر في عقائد الإمامية، ص٤٦: (والصحيح في ذلك (أي في البداء) أن نقول كما قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَاب﴾. ومعنى ذلك أنه تعالى قد يظهر شيئاً على لسان نبيه أو وليه أو في ظاهر الحال لمصلحة تقتضي ذلك الإظهار، ثم يمحوه فيكون غير ما قد ظهر أولاً مع سبق علمه تعالى بذلك، كما في قصة إسماعيل لما رأى أبوه إبراهيم أنه يذبحه فيكون معنى قول الإمام (عليه السلام) أنه ما ظهر لله سبحانه أمر في شيء كما ظهر في إسماعيل ولده إذ اخترمه قبله ليعلم الناس أنه ليس بإمام، وكان قد ظهر أنه الإمام بعده لأنه أكبر ولده). انتهى.
أشار الشيخ (رحمه الله) إلى حديث الإمام الصادق (عليه السلام): «ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني».
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) في البداء أيضاً:
«من زعم أن الله تعالى بدا له في شيء بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم».
«من زعم أن الله بدا له في شيء ولم يعلمه أمس فأبرأ منه».
ثالثاً:
إن موعد جمادي الأولى هو بداية العمل بوصية الإمام في الرسالة من التقوى والعمل بالتقية، حيث تناول المقطع لما يكون في الذي يليه، أي أن موعد جمادي الأولى هو بداية العلامة السماوية الجلية والأرضية معها بالسوية تتابعاً، فيشير (عليه السلام) إلى موعد بداية الأحداث وتتابعها فيما بعد، وعلى هذا المفهوم من الرسالة تكون موعد الشهب والنيازك بعد سبعة أعوام هو المقصود، وما يؤيد هذا الرأي النبوءة الثالثة، ويحدث في أرض المشرق ما يحزن ويقلق، وهي أرض إيران إلى الشرق من بغداد والعراق مكان ورود الرسالة، فنلاحظ أن إيران تعاني من الحروب خلال الأعوام (٤١١ و٤١٤)، والحرب هي أكبر ما يحزن ويقلق، ولكن ليس هناك ما أثبت أن بداية هذه الحروب هي جمادي الأولى من (٤١٠ هـ).
٢ - ويغلب من بعد على العراق طوائف عن الإسلام مراق تضيق بسوء فعالهم على أهله الأرزاق ثم تنفرج الغمة من بعد ببوار طاغوت من الأشرار، ثم يستر بهلاكه المتقون الأخيار ويتفق لمريدي الحج من الآفاق ما يؤملونه منه على توفير عليه منهم واتفاق، ولنا في تيسير حجهم على الاختيار منهم والوفاق شأن يظهر على نظام واتِّساق، فليعمل كل امرئ منكم بما يقرب به من محبتنا ويتجنب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا فإن أمرنا بغتة فجأة حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة والله يلهمكم الرشد ويلطف لكم في التوفيق برحمته.
وأشارت الرسالة إلى نبوءة أخرى وهي سقوط العراق بيد الحروب الطائفية المتتالية التي أنهته بسقوطه بيد السلطان طغرل بك أول ملوك السلاجقة، فدخل بغداد عام (٤٤٧)، وأمّا ضيق الأرزاق في العراق خلال هذه الفترات وغلاء الأسعار فقد ذكر التاريخ عن أكل الناس للميتة ولحوق الوباء ودفن الموتى بدون غسل أو تكفين. [الكامل: ج٨، ص٧٠، وما يليها].
أمّا ما يخص الحجاج والحج فنحن سبق أن أوضحنا أن الفتن وسوء الأوضاع السياسية أدّت إلى انقطاع الحج، وقد يكون هذا الانقطاع كلياً كما في الأعوام (٤٠١ و٤١٠ و٤١١ و٤١٦ و٤١٧ و٤١٨ هـ ) (يتفق لمريدي الحج من الآفاق ما يؤملونه منه على توفير عليه منهم واتفاق ولنا في تيسير حجهم على الاختيار منهم والوفاق شأن يظهر على نظام واتِّساق) أن في ما بعد هذه الأعوام بدأت أمور الحجاج بالاستقرار وعادت مراسيم الحج تمارس بدون مضايقات حتّى عاد الحج، وهنا تأتي الإشارة واضحة عن تدخل الإمام المباشر في تهيئة الحاج وتيسير الحج والتوفيق على ظهوره بالاتِّساق والتنسيق ونظام، وهذا التدخل يكون بالدعاء والتدخل المادي الحي، فتشير جمة الروايات على أن الامام (عجّل الله فرجه) يجتمع مع الناس في مراسيم الحج في كل عام.
الوصية الثالثة:
«فليعمل كل امرئ منكم بما يقرب به من محبتنا ويتجنب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا، فإن أمرنا بغتة فجأة، حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة، والله يلهمكم الرشد ويلطف لكم في التوفيق برحمته».
العمل بكل عمل يقرب من بيت الرحمة من قبل الالتزام بتعاليم أهل البيت (عليهم السلام)، ولا شك أن مشاركة آل البيت (عليهم السلام) في أحزانهم وإقامة مراسيم العزاء ومواساة أُمهم فاطمة الزهراء (عليها السلام) من أكثر الأعمال التي تقرب من آل البيت (عليهم السلام) بعد الالتزام الكامل بتعاليم الدين الإسلامي الواردة في القرآن والسنة المطهرة للرسول وآل بيته (صلى الله عليهم أجمعين).
التوقيع الشريف:
نسخة التوقيع باليد العليا على صاحبها السلام «هذا كتابنا إليك أيها الأخ الولي والمخلص في ودنا الصفي والناصر لنا الوفي، حرسك الله بعينه التي لا تنام، فاحتفظ به ولا تظهر على خطنا الذي سطرناه بما له ضمناه أحداً، وأد ما فيه إلى من تسكن إليه وأوصِ جماعتهم بالعمل عليه إن شاء الله وصلى الله على محمد وآله الطاهرين».
وتشرفت الرسالة بالتوقيع باليد العليا للإمام (أرواحنا له الفداء) ومخاطبة الشيخ المفيد بالأخ وهذا من اللطف الإلهي الذي اختص به الشيخ المفيد (رضوان الله عليه) وقد نال هذه الدرجة العليا لأنه (المخلص في ودنا الصفي والناصر لنا الوفي) لا تشوبه شائبة في ود بيت الرحمة وبلغ النصرة لهم بالكلمة والدعوة إلى دينهم بكل ما أوتي من علوم حتّى انتهت إليه زعامة الشيعة. كما تضمن التوقيع الشريف الوصية للشيخ بأن لا يطلع على هذه الرسالة أحد وأن يؤدي معاني مضامينها العالية إلى من تسكن إليه نفسه والوصية إلى الجماعة المؤمنة بالعمل بما جاء فيها والصلاة على محمد وآله.
الرسالة الثانية:
كما في الاحتجاج: ج٢، ص٤٩٨:
وورد عليه كتاب آخر من قبله يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجة سنة اثنتي عشرة وأربعمائة نسخته: «من عبد الله المرابط في سبيله إلى ملهم الحق ودليله، بسم الله الرحمن الرحيم سلام الله عليك أيها الناصر للحق الداعي إليه بكلمة الصدق، فإنا نحمد الله إليك الذي لا إله إلّا هو إلهنا وإله آبائنا الأولين، ونسأله الصلاة على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وعلى أهل بيته الطاهرين، وبعد، فقد كنا نظرنا مناجاتك عصمك الله بالسبب الذي وهبه الله لك من أوليائه وحرسك به من كيد أعدائه، وشفعنا ذلك الآن من مستقر لنا ينصب في شمراخ من بهماء صرنا إليه آنفاً من غماليل ألجأنا إليه السباريت من الإيمان، ويوشك أن يكون هبوطنا إلى صحصح من غير بعد من الدهر، ولا تطاول من الزمان، ويأتيك نبأ منا يتجدد لنا من حال، فتعرف بذلك ما نعتمده من الزلفة إلينا بالأعمال، والله موفقك لذلك برحمته، فلتكن حرسك الله بعينه التي لا تنام أن تقابل لذلك فتنة تبسل نفوس قوم حرثت باطلاً لاسترهاب المبطلين، يبتهج لدمارها المؤمنون ويحزن لذلك المجرمون، وآية حركتنا من هذه اللوثة حادثة بالحرم المعظم من رجس منافق مذمم مستحل للدم المحرم يعمد بكيده أهل الإيمان ولا يبلغ بذلك غرضه من الظلم والعدوان، لأننا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب عن ملك الأرض والسماء، فلتطمئن بذلك من أوليائنا القلوب وليتقوا بالكفاية منه، وإن راعتهم بهم الخطوب والعاقبة بجميل صنع الله سبحانه تكون حميدة لهم ما اجتنبوا المنهي عنه من الذنوب، ونحن نعهد إليك أيها الولي المخلص المجاهد فينا الظالمين أيدك الله بنصره الذي أيَّد به السلف من أوليائنا الصالحين، إنه من اتقى ربه من إخوانك في الدين وأخرج مما عليه إلى مستحقيه كان آمناً من الفتنة المبطلة ومحنها المظلمة المضلة، ومن بخل منهم بما أعاره الله من نعمته على من أمره بصلته، فإنه يكون خاسراً بذلك لأولاه وآخرته، ولو أن أشياعنا وفقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لما تأخر عنهم اليُمْن بلقائنا، ولتعجَّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلّا ما يتَّصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم، والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلاته على سيدنا البشير النذير محمد وآله الطاهرين وسلّم»، وكتب في غرة شوال من سنة اثنتي عشرة وأربعمائة نسخة التوقيع باليد العليا صلوات الله على صاحبها «هذا كتابنا إليك أيها الولي الملهم للحق العلي بإملائنا وخط ثقتنا فاخفه عن كل أحد واطوه واجعل له نسخة تطلع عليها من تسكن إلى أمانته من أوليائنا شملهم الله ببركتنا إن شاء الله، الحمد لله والصلاة على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين».
شرح اليسير من الرسالة الثانية:
«من عبد الله المرابط في سبيله إلى ملهم الحق ودليله بسم الله الرحمن الرحيم سلام الله عليك أيها الناصر للحق الداعي إليه بكلمة الصدق».
نرى تغير في وصف الإمام لنفسه فبعد أن وصف نفسه «من مستودع العهد المأخوذ على العباد» يصف نفسه بـ«عبد الله المرابط في سبيله» ونفهم من هذا أنه في وقت إرسال الرسالة كان الإمام مرابط في سبيل الله، ومن هذا الجهاد نفهم أيضاً أن الإمام يتدخل في كثير من القضايا المهمة في الأُمة الإسلامية والمصيرية بصورة مادية وتحت أطروحة خفاء العنوان التي طرحها السيد محمد صادق الصدر، وفي هذا دليل لمن لا يعلم ويظن أن الإمام ساكت أو مختفياً اختفاءً سالباً نهائياً دون تدخل، فالإمام مجاهد من عدة مواقع ونواحي.
ويصف الإمام الشيخ المفيد بـ«ملهم الحق ودليله والناصر للحق الداعي إليه بكلمة الصدق».
«بسم الله الرحمن الرحيم سلام الله عليك أيها الناصر للحق الداعي إليه بكلمة الصدق فإنا نحمد الله إليك الذي لا إله إلّا هو إلهنا وإله آبائنا الأولين ونسأله الصلاة على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وعلى أهل بيته الطاهرين».
بدأت الرسالة الثانية كالرسالة الأولى بالبسملة وحمد الله والتهليل والصلاة على محمد وآل محمد.
«وبعد، فقد كنا نظرنا مناجاتك عصمك الله بالسبب الذي وهبه الله لك من أوليائه وحرسك به من كيد أعدائه، وشفعنا ذلك»، في هذا المقطع نستدل أن الإمام قد نظر أو عرف بالمناجاة للشيخ المفيد، وهنا نستفيد عدة أمور، منها: أن المناجاة وإن تكن من مدلول اسمها أنها تحدث بين العبد وربه ومولاه، فإن أخبار الشيخ بأمر هذه المناجاة هو دليل صدورها عن شخص ملهم وهو الإمام، وثانياً أن هذه المناجاة قد جاءت عن انقطاع بين الشيخ المفيد والإمام مما دعا الشيخ المفيد إلى المناجاة. فهل كانت هناك رسائل أو اتصال للإمام بالشيخ فيما عدا هذه الرسالتين؟ جواب هذا السؤال موكول إلى التاريخ لحله.
ونفهم من هذا المقطع أيضاً عدة أمور أخرى، منها: أن الله وهب الشيخ (رضي الله عنه) سبباً له من أوليائه وهم الأئمة. داعياً الإمام من الله أن يحرس الشيخ من كيد الأعداء.
«الآن من مستقر لنا ينصب في شمراخ من بهماء صرنا إليه آنفاً من غماليل ألجأنا إليه السباريت من الإيمان، ويوشك أن يكون هبوطنا إلى صحصح من غير بعد من الدهر ولا تطاول من الزمان، ويأتيك نبأ منا يتجدد لنا من حال، فتعرف بذلك ما نعتمده من الزلفة إلينا بالأعمال والله موفقك لذلك برحمته».
تحدثت الرسالة الثانية عن «ويأتيك نبأ منا يتجدد لنا من حال فتعرف بذلك ما نعتمده من الزلفة إلينا بالأعمال والله موفقك لذلك برحمته»، فهل هناك رسالة ثالثة لم تصل إلينا عبر التاريخ، فالرسالة الأخيرة إلى السفير الرابع محمد السمري (رضوان الله عليه) قد تناولت أخباره عن بقاء أيام قليلة يستعد بها لسفره إلى دار اللقاء والآخرة، ومعلوم أن الرسالة الثانية المتقدمة قد وصلت الشيخ المفيد قبل عام من وفاته، فهل اتبعت هذه الرسالة من واضح العبارة رسالة أخرى أخيرة... الخ؟ وهذا السؤال موكول أيضاً إلى التاريخ في حله. ولكن ما يؤكد هذه المرة أن هذه الرسالة متبعة بأخرى هو احتواء الرسالة الثالثة على «فتعرف بذلك ما نعتمده من الزلفة إلينا بالأعمال، والله موفقك لذلك برحمته»، أي بمعنى آخر احتواء الرسالة الثالثة على الأعمال المحمودة والصالحة والمقربة إلى حجة الأزمان، وبالتالي المقربة من الملك العلام جل وعلا.
«فلتكن حرسك الله بعينه التي لا تنام أن تقابل لذلك فتنة تبسل نفوس قوم حرثت باطلاً لاسترهاب المبطلين يبتهج لدمارها المؤمنون ويحزن لذلك المجرمون».
الأمر الموجه إلى الشيخ المفيد وهو مرجع الشيعة آنذاك من مواجهة فتنة تسربلها قوم حضرت لها الأسباب، غايتها التشكيك في المذهب والدين أو غيره، واندحار هذه الفتن هو مصدر بهجة للمسلمين وهو المحافظة على كيانهم الديني والعقلي السليم وحفظ بيضة الإسلام، وتحزن المجرمين لعدم إتمام غرضهم من التفرقة إلى غيره من الأسباب. وقد تكون العقائد التي استدل بها الشيخ في كتبه العقلية وأسس أسسها الاستقرائية هي درء الفتنة العقائدية التي حضر لها المجرمون.
«وآية حركتنا من هذه اللوثة حادثة بالحرم المعظم من رجس منافق مذمم مستحل للدم المحرم يعمد بكيده أهل الإيمان، ولا يبلغ بذلك غرضه من الظلم والعدوان، لأننا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب عن ملك الأرض والسماء، فلتطمئن بذلك من أوليائنا القلوب وليتقوا بالكفاية منه وإن راعتهم بهم الخطوب والعاقبة بجميل صنع الله سبحانه تكون حميدة لهم ما اجتنبوا المنهي عنه من الذنوب».
«وآية حركتنا» قد يكون بداية ظهور الأمر من هذه اللوثة الفتنة والظلم.
والحادثة في الحرم المعظم واستحلال الدم قد يكون هو النفس الزكية التي تقتل في الكعبة زادها الله تشريفاً قبل خمس عشر ليلة من ظهور الإمام الكبير الشريف كما نصت الروايات... الخ.
ويؤكد الإمام أيضاً كما أكد في الرسالة الأولى أنه وراء حفظ المؤمنين بواسطة الدعاء وغيره. وإن راعت خطوب الفتن الشيعة وتعاظمت وتفاقمت فهم في مأمن منها ببركة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بشرط ما اجتنبوا المنهي عنه من الذنوب، أي اجتناب المنهي من الذنوب هو الغاية الأولى لحصول المراد (القرب من الإمام أرواحنا لتراب مقدمه الفداء).
«ونحن نعهد إليك أيها الولي المخلص المجاهد فينا الظالمين أيدك الله بنصره الذي أيَّد به السلف من أوليائنا الصالحين، إنه من اتَّقى ربه من إخوانك في الدين وأخرج مما عليه إلى مستحقيه، كان آمناً من الفتنة المبطلة ومحنها المظلمة المضلة، ومن بخل منهم بما أعاره الله من نعمته على من أمره بصلته، فإنه يكون خاسراً بذلك لأولاه وآخرته».
وهذا عهد يعهده الإمام إلى الولي المخلص المجاهد (وهو الشيخ المفيد) للظالمين (أنفسهم علاوة على الظالمين للناس) أنه:
أولاً: من اتخذ طريق التقوى مسلكاً.
ثانياً: أخرج ما في ذمته من المستحقات والواجبات مثل الخمس وزكاة الفطرة وقضاء الصلوات الواجبة إلى غيره من المستحقات المالية أو الفعلية على الإنسان.
يصل إلى الأمان الكامل من الفتنة المظلة والمبطلة ببركة شموله بدعوات الإمام.
أمّا من بخل بإخراج ما استحق عليه من الواجبات فهو الخسران الأكبر في الدنيا بوقوعه في الفتن والأخرى أن يخلد في النار.
تضمن هذا المقطع على عدة نقاط مهمة نمر بها اقتصاراً لتوضيحها ومن طلب التفاصيل فليطلبها من مصادرها.
أولاً: الجهاد.
ثانياً: التقوى.
ثالثاً: المستحقات المالية مثل الزكاة وزكاة الفطرة والخمس...
أولاً: الجهاد:
إن في نعت الإمام (عجّل الله فرجه) للشيخ المفيد (رضوان الله عليه) بالولي المخلص المجاهد فينا الظالمين أنموذجاً لطيفاً ولفتة إلهية وتنبيهاً رباني إلى عظمة هذه الصفة التي اتَّصف بها الشيخ المفيد.
وخوض بحثاً صغيراً في الجهاد يجر إلى أنواع الجهاد وأقسامه الخ.
قال تعالى: ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيماً﴾.
ولأجل هذا الفضل العظيم فإن المؤمن المجاهد خير من المؤمن القاعد، وعلى المؤمن أن لا يفوت ذلك الفضل الكبير، وهناك الكثير من الآيات التي تحدثت عن الجهاد بلفظه ومشتقاته، وكذلك بلفظ القتل، مثل ﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْر إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ﴾ وأفضل أنواع الجهاد وأقسامه هو الجهاد الأكبر، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾، ففي الرواية يقول الإمام علي (عليه السلام): «إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث سريَّة، فلما رجعوا، قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقى عليهم الجهاد الأكبر، قيل يا رسول الله: وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس. أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه».
ولا شك أن الجهاد الأكبر والأعظم الذي جاهده الشيخ المفيد هو الجهاد في النفس والجهاد الأكبر، فلم نقرأ في حياة الشيخ المفيد إشهار السيف أو القتال، ولعل المعنى جلي من عبارة الرسالة الشريفة: «المجاهد فينا» هو تطبيق للآية الكريمة ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ فنفهم أن المجاهد في الدفاع عن الحق وأعظم الحق الدفاع عن حقوق آل البيت (عليهم السلام) نفهم أن الهداية الربانية هي أولى هذا النوع من الجهاد.
من هنا أيضاً نفهم أن الجهاد المقصود في الرسالة هو الجهاد الأكبر أو جهاد النفس.
ثانياً: التقوى:
وقد تقدم الكلام عن التقوى وهي خوف الله في شرح الرسالة الأولى في ذكر الكلام بخطبة الإمام علي (عليه السلام) الشاملة لمعنى التقوى، وقد مرت.
ثالثاً: المستحقات المالية على المسلم:
إن المستحقات المالية على المسلم ليس كما يتكلم عنها البعض من وصفها بما يشابه الضريبة و... وأن فلسفة وجودها هي إعدام الفوارق الطبقية في المجتمع، أي نعم أنه من أهداف المستحقات المالية إيجاد التساوي بين طبقات المجتمع الواحد، لكننا يجب أن نفكر بأن المستحقات المالية هي واجبات وأعمال وطقوس عبادية حالها كحال الصلاة والصوم... وباقي الفروع وجدت كما وجد الصوم لتطهير النفس فإنها وجدت لتطهير الروح والنفس والأموال، قال تعالى: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ وعلى هذا المفهوم الذي يجب أن نفهمه فإن المتهرب عن أداء هذه الواجبات هو كالمتهرب من أداء الصلاة وباقي الطقوس الدينية وإن كان توقف قبول الصلاة في كثير من الأحيان على أداء الخمس وباقي المستحقات المالية الخ.
وإن إيراد الأحاديث الكثيرة التي أوجبت الخمس، بل اللعن الدائم على المتخلف عنه وارد في أكثر من موقف وحديث، وكذا فإن الأحاديث عن الزكاة وزكاة الفطرة كثيرة حتّى أورد لها الفقهاء أبواباً لهذه المستحقات الثلاث في رسائلهم العملية.
«ولو أن أشياعنا وفقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لما تأخر عنهم اليُمْن بلقائنا، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلّا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم، والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلاته على سيدنا البشير النذير محمد وآله الطاهرين وسلم».
وأخيراً أشارت الرسالة إلى الوفاء بعهد الإمام، ومن هنا نفهم أن هناك حقاً للإمام على شيعته، منها ما رواه الصدوق (رحمه الله) في من لا يحضره الفقيه يرفعه إلى الحسن بن علي الوشا عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: «إن لكل إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وأن من تمام الوفاء بالعهد زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقاً فيما رغبوا فيه كان أئمتهم شفعاؤهم يوم القيامة».
ومن أداء حقهم معرفتهم، فتوارت الأحاديث عن بيت العصمة (عليهم السلام) «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية»، وأن تمام معرفتهم هو الأمان الأكبر والإيمان الأعظم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إن من عرف هذا الأمر لم يضره تقدمه أو تأخره»، أي أن من عرف أئمته لا يضره إن عاش في زمن الظلم والظلمات أدرك النور والظهور أم لم يدركه، لأنه محشور معهم في درجتهم إن شاء الله، وهذا ما نفهمه من مجمل أحاديث أهل البيت (عليهم السلام).
وأخيراً إن التزم الشيعة بتعاليم هذه الرسالة لتشرفوا برؤية الطلعة الرشيدة والغرة الحميدة لصاحبها أفضل سلام وأجمل تحية والتعاليم.
التزام تقوى الله:
البُعد عن الذنوب أو الهرب من الذنوب.
إخراج المستحقات المالية وعدم البخل بما وجب فيه المستحقات... الخ.
التقية عند حدوث الفتن (الرسالة الأولى):
وبينت الرسالة أن سبب بُعد الإمام عن شيعته هو البُعد عن التعاليم الإسلامية، وهذا ما يؤكد الأطروحة التي طرحها السيد محمد محمد صادق الصدر، بأنه لو وجد إنسان خالي من الذنوب وعلى درجة من التقوى والالتزام بالتعاليم الشرعية فإنه مؤهل أن يلتقي بالإمام ولعدة مرات. مثل وجود الأقطاب والأبدال والخواص الذين يقومون بخدمة الإمام والقيام بأعماله وهم موجودون في كل الأزمنة.
وكتب في غرة شوال من سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، نسخة التوقيع باليد العليا صلوات الله على صاحبها «هذا كتابنا إليك أيها الولي الملهم للحق العلي بإملائنا وخط ثقتنا، فاخفه عن كل أحدٍ واطوه، واجعل له نسخة تطلع عليها من تسكن إلى أمانته من أوليائنا شملهم الله ببركتنا إن شاء الله الحمد لله والصلاة على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين».
وانتهت الرسالة بنسخة التوقيع لتزداد شرفاً، وقد أمر الإمام الشيخ بجعل نسخة للخواص الثقات من الشيعة والموالين ليعملوا بما جاء فيها ويبلغوها إلى الآخرين، وهكذا حتّى وصلتنا هذه الرسالتين.
وانتهت الرسالة بخير الكلام (الصلاة على محمد وآل محمد).
كتبت هذه الوريقات بيد أفقر العباد وأحوجهم إلى دعاء مولاه، راجياً أن يتزود بهذه الكلمات ليوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم، مستغفراً الله لما فيها من الهفوات والخطأ والنسيان.
المصادر:
١- موسوعة الإمام المهدي (عليه السلام). الجزء الثاني (تاريخ الغيبة الكبرى) تأليف محمد محمد صادق الصدر. مؤسسة دار المجتبى للمطبوعات (الطبعة الثالثة). قم. إيران.
٢- نهج البلاغة. جمع السيد الشريف الرضي. دار الهجرة للنشر. قم. إيران.
٣- بحار الأنوار. للعلامة المجلسي. مؤسسة الوفاء. بيروت. لبنان. الطبعة الرابعة.
٤- الكافي. لثقة الإسلام الكليني. دار الكتب الإسلامية. طهران. إيران. الطبعة الرابعة.
٥- عقائد الإمامية. المغفور له محمد رضا المظفر. دار المحجة البيضاء. بيروت. لبنان.
٦- الكامل في التاريخ. لأبي الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير. بيروت. لبنان ١٩٦٧.
٧- الشيخ المفيد وهوية التشيع. الإمام الخامنئي. مؤسسة الصديق. بيروت. لبنان.
٨- الاحتجاج لأبي المنصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي. نشر المرتضى - مشهد المقدسة سنة النشر ١٤٠٣ هـ.
٩- من لا يحضره الفقيه - تأليف رئيس المحدثين أبي جعفر الصدوق طبعة دار الكتب الإسلامية طهران ١٣٨٣ هـ. ش.