العراق عاصمة دولة صاحب العصر (عجّل الله فرجه) (٢)
السيد صدر الدين القبانجي
تناولت الحلقة الأولى من هذه الدراسة ثلاثة أبحاث:
الأول: عرض للنصوص في المسألة.
الثاني: الهوية الدينية والسياسية للشعب العراقي.
الثالث: رؤية أهل البيت (عليهم السلام) للشعب العراقي.
فيما سوف تتناول هذه الحلقة البحث الرابع وهو تفسير الواقع التاريخي للشعب العراقي.
البحث الرابع: الواقع التاريخي للشعب العراقي
رغم أن العرض السابق أكّد لنا الرؤية الإيجابية التي قدّمها أهل البيت (عليهم السلام) عن الشعب العراقي ورسوخ أواصر المحبّة وعلاقة الولاء المتبادل بين الطرفين، إلاّ أن قراءة الواقع التاريخي للشعب العراقي في مجال التعامل مع أهل البيت (عليهم السـلام) قـد يكشـف لنا صورة تتميّز بالقلق أو الازدواجية، الأمر الذي ينعكس علـى طبيعة تقسيمنا لهذا الشعب وعلاقته بأهل البيت (عليهم السلام).
إذن نحن أمام تساؤل عريض يقول: هل يؤكّد واقع الأحداث السياسية التاريخية في العراق إبّان العصور المتقدّمة وخاصة عصر الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) صدقيّة الارتباط الروحي والسياسي بين الشعب العراقي والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، أم أن الواقع يكشف عن حقيقة أخرى هي حقيقة التمرّد المطلق لدى هذا الشعب على الحاكم، والاصطفاف بفعل هذه الروح المتمرّدة مع أهل البيت (عليهم السلام) باعتبارهم يمثلون زعامة الرفض للحكومات التي تعاقبت على العالم الإسلامي، إبّان العهد الأموي والعباسي وما بعد ذلك، فلم تكن المسألة مسألة ارتباط ايديولوجي بمقدار ما كانت ارتباطاً تفرضه المواقف السياسية المشتركة وتقتضيه الحالة الفسيولوجية للشعب العراقي وطبيعة تقاطعاته مع الحكام.
لقد ذهب الكثيرون إلى هذا الرأي الثاني، وبذلك فسّروا العديد من الوقائع التاريخية التي ارتدّ فيها العراقيون على أهل البيت (عليهم السلام) وأداروا لهم ظهر المجن، كما فسّروا بذلك كثيراً من النصوص الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) والتي تطعن بمبدئية الولاء الواقعي لهم.
لكن الحقيقة فيما نعتقد أن تلك الوقائع التاريخية تحتاج إلى دراسة عميقة ومن كلّ الوجوه والجوانب، وسوف تكشف لنا تلك الدراسة المستوعبة نتيجة هي أقرب للرؤية الإيمانية التي تؤيد الثقة بصدقية الشعب العراقي في ولائه الديني والسياسي مع أهل البيت (عليهم السلام) .
الوقائع التاريخية:
قد يقف على رأس تلك الوقائع التاريخية إخفاق العراقيين بقيادة الإمام علي (عليه السلام) في مواجهة جيش الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان عام ٣٧ للهجرة، ثم التصريحات التي أطلقها الإمام علي (عليه السلام) مندداً بالعراقيين حين قال:
(لوددتُ أنّ معاوية صارفني بكم مصارفة الدرهم بالدينار، فأعطيه عشرة منكم ويعطيني واحداً منهم).
ويأتي في قائمة الوقائع التاريخيّة تراجع قوات الإمام الحسن (عليه السلام) العراقية وانقلابها عليه، مما اضطره للصلح مع معاوية عام ٤١ للهجرة، كما يأتي في سلسلة تلك الوقائع أيضاً موقف الكوفة من حركة الإمام الحسين (عليه السلام) التي بايعته أولاً ثم ارتدّت عليه ثانياً عام٦١ للهجرة، وتستمر حكاية هذه الأرقام والشواهد مروراً بحركة زيد بن علي بن الحسين (عليه السلام) وصلبه في كناسة الكوفة وبقاء جثته معلّقة ثلاث سنوات!! دون أن تجد من يتبرّع لها من الأنصار الموالين لدفنها وسترها.
وقد نصل إلى حركة محمد وإبراهيم ذي النفس الزكية والاخفاق الذي انتهت إليه حركتهما معاً، أحدهما في المدينة والآخر في البصرة.
وكلّ هذه الوقائع اضطرت الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) إلى العزوف عن التصدّي السياسي والانكماش على الحركة العلمية والروحية
والأخلاقية في مواجهة الأخطار التي أحدقت بالأمة الإسلامية.
الوجه الآخر للواقع التاريخي:
إن تلك الوقائع التاريخية قد لا تكون كافية لاستخلاص وجهة النظر النهائية في تقييم الولاء العراقي مذهبياً وسياسياً، بل يجب أن نقرن إليها دراسة الوجه الآخر لتلك الوقائع نفسها أو ما أحاط بها وسبقها.
فالسؤال الأهم: لماذا اختار الإمام علي (عليه السلام) العراق عاصمة له، ومركزاً لانطلاق قواته؟
والسؤال نفسه يأتي عن الإمام الحسن (عليه السلام) الذي اختار أيضاً مواصلة الأرض بالقوات العراقية وعدم اتخاذ قرار بالانسحاب أو استبدالها بقوات أو جماعات أخرى من غير العراقيين.
وإذا لم يكن للعراقيين وفاء أو صدقية في ولائهم لأهل البيت (عليهم السلام)، فلماذا استجاب الإمام الحسين (عليه السلام) لدعواتهم، واستعدّ لقيادة ثورة كبرى من قلاعهم وبيوتهم وعشائرهم؟ أو لماذا رفض مقترحات قدّمها له أخوه محمد بن الحنفية تدعوه للذهاب إلى مكّة وشعابها، أو اليمن وهضابها، وهو يعرف أن له في اليمن جماعات واسعة وأنصاراً كثيرين؟
ومرة أخرى تأتي ثورة سليمان بن صرد الخزاعي (ثورة التوّابين) وبعدها ثورة المختار الثقفي من الكوفة نفسها والتي انتصرت وحكمت العراق بضع سنوات حكما موالياً لأهل البيت (عليهم السلام).
واستمرت ثورات العراقيين ضد الحكم الأموي بقيادة زعماء من أهل البيت (عليهم السلام)، كما استمرت فيهم الاعتقالات والمطاردات بشكل عنيف.
والعجيب أن مقر الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وموطنهم كان هو المدينة المنوّرة، لكن امتدادهم الروحي والسياسي والعلمي كان في العراق ولم يكن في المدينة!!
لقد كان الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام في المدينة المنوّرة، فيما كانت الكوفة هي معقلهم العلمي التي خرّجت مئات التلاميذ وبشكل متواصل وعبر قرون طويلة.
يقول الحسن بن الوشّا:
(رأيت تسعمائة شيخ في مسجد الكوفة كلّ يقول حدّثني جعفر بن محمد الصادق).
لقد كوّن هذا التراكم التاريخي لأواصر الولاء الروحي والارتباط العلمي، والانتماء السياسي بين العراقيين وأهل البيت (عليهم السلام) تصوّراً واضحاً لدى جميع الاتجاهات المضادّة لأهل البيت (عليهم السلام) أنّ العراق هو القلعة الحصينة لأهل البيت (عليهم السلام)، وهو ما عبّر عنه هشام بن عبد الملك (الحاكم الأموي) بقوله حين ذُكر عنده جعفر بن محمد الصادق (عليهم السلام) (هذا المفتون به أهل العراق).
ثلاث ظواهر:
إن العرض الشمولي والمستوعب للوقائع التاريخية التي أحاطت بقصة الحبّ المتبادل بين العراقيين وأهل البيت (عليهم السلام) تضع أمامنا الظواهر التالية:
الظاهرة الأولى:
اختيار أهل البيت (عليهم السلام) العراق عاصمة سياسية وفكرية لهم.
الظاهرة الثانية:
إصرار العراقيين على الارتباط بأهل البيت (عليهم السلام) طوال القرون المتمادية ورغم الظروف الصعبة والتحديات الكبرى.
الظاهرة الثالثة:
التراجع العراقي غير المتوقّع والنكوص العسكري عن أهل البيت (عليهم السلام) عند الشدائد واحتدام الأسنّة.
نستطيع أن نسمي الظاهرة الأولى بظاهرة (الانتخاب المقصود)، والظاهرة الثانية بظاهرة (الديمومة) والظاهرة الثالثة بظاهرة (التراجع القهري).
إننا في الظاهرة الأولى نجد انتخاباً غير طبيعي من قبل أهل البيت (عليهم السلام) للعراق ليكون عاصمتهم ومنطلق حركتهم ويكون العراقيون شعبهم وأتباعهم، رغم أن الظروف السكّانية والجغرافية تدعو لغير ذلك.
كما نجد في الظاهرة الثانية (ظاهرة الديمومة) أنّ التشيع لم ينتشر في العراق تبعاً لحاكم من الحكام أو ملك من الملوك، كما لم ينتشر في العراق تبعاً لظروف سياسيّة أو اقتصادية أو عسكرية مؤاتية، وإنّما كان على العكس دائماً، فهو ينتشر في العراق بالضدّ من كل المقتضيات السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية التي تكالبت على الشيعة والتشيّع في العراق، وهذه ظاهرة حساسة ومهمة جداً وغير مألوفة على طول التاريخ البشري على الإطلاق.
أما في الظاهرة الثالثة فإن التراجع العسكري الذي جمع تجربة العراقيين في حركاتهم الثورية المسلّحة الموالية لأهل البيت (عليهم السلام) هو تراجع قهري بعد الإنهاك العسكري، والإثخان بالجراح، والتهديد بتصفيات وحروب دمويّة ذات سابقة مرعبة، وليس تراجعاً سريعاً، أو هزيمة بغير استحقاقات وظروف عسكريّة ونفسية ضاغطة جداً.
هذه الظواهر الثلاث بمجموعها تجعلنا نقترب من القول أن الولاء العراقي لأهل البيت (عليهم السلام) هو ولاء صادق ووثيق، يفوق كلّ نماذج الولاء التي عرفها تاريخ الشعوب مع قياداتهم ومدارسهم الفكريّة، وإن التشكيك بصدقية هذا الولاء هو تشكيك ناجم عن رؤية غير متكاملة، أو متأثّرة بالفكر السلطاني الذي روّجه أعداء الشيعة وأعداء العراق بالذات.