التمهيد لغيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)
السيد عباس علي الموسوي
غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) تشكّل حدثاً استثنائياً لم يعهد من قبل لأحد من الأئمة (عليهم السلام)، ولو جاءت بدون مقدّمات وممهّدات لشكّلت مفاجأة للشيعة، وربما صدمتهم في بعض معتقداتهم، ولكنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) الذين سبقوا ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وغيبته مهَّدوا لتلك الغيبة فلم تشكل. وقد كانت المناهج لذلك الهدف تتمثل في أمور:
الأول: بيانات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) المتتابعة والمتتالية التي تبشرنا بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وتذكر صفاته وأعماله وأصحابه والكثير من خصوصياته, خصوصاً مهمته العظمى في القضاء على الجور والظلم وإقامة الحق والعدل. كما هدَّأ الأئمة (عليهم السلام) من روع الشيعة أثناء غيبته (عجّل الله فرجه) وأعلموهم بهذه الغيبة، وأنّ عليهم الانتظار والدعاء بالفرج، وبذلك زرعوا في عقولهم ثقافة الغيبة وأبعادها وضرورة التعايش معها والتكيّف نفسياً وروحياً وعاطفياً مع كل معطياتها.
الثاني: كان من التمهيد لتقبّل غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) أن الإمام العسكري (عليه السلام) حجب ولده المولود الحديث عن الأنظار إلا لبعض خواصه. وهذه الحالة والطريقة، سبقها احتجاب الإمام علي الهادي (عليه السلام) وابنه العسكري (عليه السلام) والد الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، فكان كل منهما لا يظهر أمام شيعته وأنصاره إلا قليلاً ويعتمد على طرق أخرى للتواصل معهم، وهذا منهما كان تمهيداً لحجب الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وغيبته حفاظاً عليه وصوناً له من كيد الأعداء. وإذا تقبّل الشيعة احتجاب الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام) -إلا قليل- كان ذلك أدعى لتقبل احتجاب الإمام المهدي (عجّل الله فرجه).
الثالث: بعد أنْ احتجب الأئمة (عليهم السلام) لم يتركوا شيعتهم دون تواصل معهم، بل عمدوا إلى طريقة الوكلاء فقد عيّنوا من قبلهم من يقوم بالوساطة بينهم وبين شيعتهم فنصبوا الوكلاء الموثوقين الأمناء الصالحين، وكلفوهم بنقل الرسائل المرسلة إليهم أو الصادرة عنهم، فكان الوكيل يتولى نقل الرسائل من الأصحاب إلى الإمام (عجّل الله فرجه)، وهو بدوره يجيب عنها ويردّها بوساطة وكيله، وفي بعض الأحيان يتولّى الإمام نفسه ابتداءً إرسال ما يرتئي أنه ضروري، فيرسل برسائله لإرشاد الشيعة وبيان الأحكام وكشف الأمور المهمة ممّا له علاقة بالدنيا والآخرة.
وهذه الطريقة في تواصل الأئمة (عليهم السلام) مع شيعتهم وفّرت كثيراً من الدماء والسجون والعذاب والآلام على الشيعة، حيث كانت السلطة ترصد كل فرد يدخل على الإمام أو يتصل به لتأخذه وتحقّق معه، وعلى أحسن حال يعود متهماً مراقباً طيلة حياته، إنْ سلم من القتل أو السجن. وأيضاً هذه الطريقة وفّرت على أهل البيت (عليهم السلام) الحفاظ على شيعتهم، كما وفّرت عليهم أنفسهم أتعاباً ومشقات وهم بطبيعة الحال متّهمون -عند الجهاز الحاكم- بعدائهم للحكم وأنهم يريدون الانقلاب عليه والانقضاض على مؤسساته وتدميره.
وطريقة الوكالة، وإنْ كانت جارية في حياة أكثر الأئمة بدءاً من حياة الإمام الصادق (عليه السلام)، إلا أنها اتخذت بعداً مهمّاً في حياة الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام) من حيث أرادا أنْ يوطئا لهذا الأمر عندما يأتي الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ويحتجب عن الناس إلا القليل منهم. ونرى روعة هذا المعنى عندما يتولى عثمان بن سعيد العمري (رضي الله عنه) الوكالة عن الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام) وتستمر وكالته في زمن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) حيث هو موضع الثقة من الإمامين (عليهم السلام) وكذلك يحرز ثقة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) فتتقبل الشيعة وكالته وتثق به وتعطيه زمام أمورها فتسلمّه الأموال وتدفع إليه الرسائل ليوصلها إلى الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) كما كانت تستقبل ما يصدر عن الإمام (عجّل الله فرجه) من آراء وأفكار وتوجيهات وتواقيع، وهكذا استمر -العمري- وكيلاً دون أنْ يختلف فيه أو عليه أحد من الشيعة.
ولمّا وافته المنيّة كان ابنه الوكيل من بعده أيضاً موضع الثقة حيث نصبه الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وكيلاً عنه بعد وفاة والده. وهكذا كانت الوكالة عن الإمام (عجّل الله فرجه) -بأمر منه- من أفضل الطرق للتواصل مع الإمام (عجّل الله فرجه)، ولما فيها من حفظ له ولشيعته وبهذه الطريقة تهيأت السبل وتمهدت ببركة الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام).
الغيبة الصغرى تمهد للغيبة الكبرى:
إنّ احتجاب الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في الغيبة الصغرى وعدم ظهوره العلني حتى لمواليه إلا للسفراء منهم أو لأصحاب الإخلاص المحظوظين، وهذا الاحتجاب واحد من المعطيات المباركة لهذه الغيبة، حيث اعتاد الشيعة على عدم رؤية الإمام (عجّل الله فرجه)، وبهذه الطريقة عندما حدثت الغيبة الكبرى لم تشكّل عدم رؤية الإمام (عجّل الله فرجه) صدمة لهم أو اهتزازاً، إذ ألفوا هذا النمط من السلوك والإمام (عجّل الله فرجه) في الغيبة الصغرى، فكيف وهو في الغيبة الكبرى التي تحدّث بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) وكشف عنها الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) نفسه؟ لا شك أنّ غيابه هذا خفّف كثيراً من غيابه التامّ في الغيبة الكبرى...
والفائدة الثانية لاحتجاب الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وعدم ظهوره في الغيبة الصغرى أنه عوّد شيعته والموالين لهم أن يعدوا لوكلائه المنصوبين من قبله سواء نصّ على بعضهم بالخصوص، كما وقع في الغيبة الصغرى حيث نص على السفراء الأربعة (رضي الله عنهم)، أو كان النّص من قبله بصيغة عامة كما هو الحال في غيبته الكبرى، حيث نصّ نصّاً عامّا ووسّع المواصفات لوكلاء عنه يتولّون إصدار الفتاوى والقيام بشؤون الناس المعنويّة والماديّة، من حيث الاهتمام بشؤون الدين وحفظه ونشره وردّ الشبهات.
وهكذا أيضا الأمر فيما يتولاه المراجع من قبض الحقوق الشرعية وغيرها من الأمور المالية وصرفها على مستحقيها وأصحابها، ومن أمر الله بإعطائهم وسدّ عوزهم. وبهذه الطريقة تعبّد الطريق لرجوع الشيعة إلى وكلاء الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ولقائهم والجلوس معهم وإنْ حرموا بركات الإمام (عجّل الله فرجه) المباشرة ولقاءه لظروف اضطرارية ألجأته إلى الغيبة والاحتجاب فإن الشيعة، وإنْ حرموا من ذلك فإنهم لم يحرموا من لقاء وكلاء الإمام (عجّل الله فرجه) الذين يمثلون الإمام ويقومون بما أراد دون تأخير أو تسويف، وضمن ضوابط وقواعد شرعية لا يميلون عنها أو ينحرفون عن تطبيقها...
غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) - الغيبة الكبرى:
ثبوت الغيبة:
ثبتت ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ثبوتاً قطعياً، وقد أخبر عنها أبوه الإمام العسكري (عليه السلام) وأراه لكثير من أصحابه وعرّفهم أنه الحجّة بعده وأنْ له غيبتين صغرى وكبرى...
وقلنا إنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في الغيبة الصغرى نصب وكلاء عنه تولّوا المهمّات من الأمور بتوجيه منه ورعاية وتسديد، وبعد أن انتهت وكالتهم أعلن هو بنفسه بداية الغيبة الكبرى -التي لازلنا نعيش أيامه- وقد أجمعت كلمات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) على هذه الغيبة الكبرى.
١. في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: والذي بعثني بالحقّ بشيراً ليغيبّن القائم من ولدي بعهد إليه مني حتى يقول أكثر الناس: ما لله في آل محمد حاجة ويشك آخرون في ولادته، فمن أدرك زمانه فليتمسك بدينه... .
٢. وقال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): للقائم غيبتين: إحداهما قصيرة والأخرى طويلة فالأولى يعلم بمكانه فيها خاصة من شيعته، والأخرى لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة مواليه في دينه.
٣. وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: إنّ لصاحب هذا الأمر غيبتين: إحداهما تطول حتى يقول بعضهم مات، وبعضهم يقول: قتل، وبعضهم يقول: ذهب، فلا يبقى على أمره من أصحابه إلا نفر يسير... .
٤. وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: إنّ للقائم غيبتين، يقال له في إحدهما: هلك، ولا يدري في أي واد سلك.
وبهذه النصوص وما تحمل من مضامين، ورد ذكر الغيبة عن الأئمة، وهي تخبر عن وقوعها قبل وجود الحجة وخروجه إلى الحياة؛ فإنَّها من الغيب الذي أطلع الله رسوله عليه، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بدوره أطلع الأئمة (عليهم السلام) عليه وكشفه لهم تارة بالإجمال وأخرى بالتفصيل...