اختبار الإيمان في عصر صاحب الزمان (عجّل الله فرجه)
السيد محمد القبانجي
قد يتصوَّر البعض أنَّ زمان غيبة الإمام (عجّل الله فرجه) هو من أشدّ الأزمنة بلاءً وامتحاناً على المؤمنين انسياقاً مع الحديث الشريف القائل: «يأتي على الناس زمان الصابر منهم على دينه كالقابض على الجمر».
وكذلك ما تذكره بعض الروايات من شدَّة الفتن على جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، حيث ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسيرها: «إنَّ قدّام القائم علامات تكون من الله (عزَّ وجلَّ) للمؤمنين»، قلت: وما هي جعلني الله فداك؟ قال: «ذلك قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ يعني المؤمنين قبل خروج القائم (عجّل الله فرجه)»، ﴿بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، قال: «يبلوهم بشيء من الخوف من ملوك بني فلان في آخر سلطانهم، والجوع بغلاء أسعارهم...».
وعنه (عليه السلام) أيضاً أنَّه قال: «يزجر الناس قبل قيام القائم (عليه السلام) عن معاصيهم بنار تظهر في السماء، وحمرة تجلّل السماء، وخسف ببغداد، وخسف ببلد البصرة، ودماء تسفك بها، وخراب دورها، وفناء يقع في أهلها، وشمول أهل العراق خوف لا يكون لهم معه قرار».
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال: «ستكون بعدي فتن، منها فتنة الأحلاس، يكون فيها حرب وهرب، ثمّ بعدها فتن أشدّ منها، ثمّ تكون فتنة كلَّما قيل: انقطعت، تمادت حتَّى لا يبقى بيت إلّا دخلته، ولا مسلم إلّا صكَّته، حتَّى يخرج رجل من عترتي».
كما ورد عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنَّه قال: «إنَّه لابدَّ لصاحب هذا الأمر من غيبة حتَّى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به، إنَّما هي محنة من الله (عزَّ وجلَّ) امتحن بها خلقه».
ولأجل ذلك كلّه قد يظنُّ البعض أنَّ زمن الظهور سوف تنجلي الغبرة وتتوضَّح الحقيقة ويرتفع الامتحان والابتلاء والشك والريب والتردّد، خصوصاً بعد كلّ هذه الآيات الباهرات التي يظهرها الإمام (عجّل الله فرجه) أو تظهر بوقته للدلالة عليه، من الصيحة والخسف والسفياني وغيرها.
فالمفروض أنَّ الأمور تكون واضحة كالشمس، كما عبَّر عنها الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله: «والله لأمرنا أبين من هذه الشمس».
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «... ثمّ يخرج - أي الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) - من مكّة هو ومن معه الثلاثمائة وبضعة عشر يبايعونه بين الركن والمقام، ومعه عهد نبيّ الله ورايته وسلاحه ووزيره معه، فينادي المنادي بمكّة باسمه وأمره من السماء حتَّى يسمعه أهل الأرض كلّهم اسمه اسم نبيّ. ما أشكل عليكم فلم يشكل عليكم عهد نبيّ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ورايته وسلاحه، والنفس الزكية من ولد الحسين (عليه السلام). فإنْ أشكل عليكم هذا فلا يشكل عليكم الصوت من السماء باسمه وأمره...».
ولكنّ المتأمّل في الروايات والأدعية يجد عكس ذلك، فالفتن والاختبار والامتحان في عصر الظهور المقدَّس أخطر بكثير ممَّا في عصر الغيبة حيث يحتاج الإنسان المؤمن إلى بصيرة وثبات بشكل مضاعف للنجاة منها والنجاح فيها، ويمكن القول بشكل عامّ: إنَّه قلَّما كانت وسائل الإيضاح والوصول إلى الحقيقة واضحة وجليّة كلَّما كان التشويش عليها والعمل المضادّ لها أشدّ وأخطر، ومن المعلوم أنَّ الأساليب والآليات التي يستخدمها الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) تكون غاية في البيان والوضوح، ولكنّ ماكنة الإعلام المضادّ تعمل ليل نهار في سبيل تشويش الحقائق الناصحة لأطروحته العالمية وحركته المقدَّسة.
وهذا ما يستفاد من الرواية الشريفة في دلالة الصيحة، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «ينادي منادٍ باسم القائم (عليه السلام)»، قلت: خاصّ أو عامّ؟ قال: «عامّ، يسمع كلّ قوم بلسانهم»، قلت: فمن يخالف القائم (عليه السلام) وقد نودي باسمه؟ قال: «لا يدعهم إبليس حتَّى ينادي في آخر الليل ويشكّك الناس».
وهكذا قوله (عليه السلام) حول محنة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بأنَّه يلاقي من قومه أشدّ ممَّا لاقى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنَّه أتى الناس وهم يعبدون الحجارة والصخور والعيدان والخشب المنحوتة، وأنَّ قائمنا إذا قام أتى الناس وكلّهم يتأوَّل عليه كتاب الله يحتجُّ عليه به».
وورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «... ثمّ ينطلق -أي الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) - يدعو الناس إلى كتاب الله وسُنّة نبيّه والولاية لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) والبراءة من عدوّه، حتَّى إذا بلغ إلى الثعلبية قام إليه رجل من صلب أبيه وهو من أشدّ الناس ببدنه وأشجعهم بقلبه، ما خلا صاحب هذا الأمر، فيقول: يا هذا ما تصنع؟ فوَالله إنَّك لتجفل الناس إجفال النعم أفبعهد من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أم بماذا؟ فيقول المولى الذي ولى البيعة: والله لتسكتنَّ أو لأضربنَّ الذي فيه عيناك، فيقول له القائم (عليه السلام): اسكت يا فلان، إي والله إنَّ معي عهداً من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، هات لي يا فلان العيبة أو الطيبة أو الزنفليجة، فيأتيه بها فيقرأه العهد من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيقول: جعلني الله فداك، أعطني رأسك أُقبّله، فيعطيه رأسه فيقبّله بين عينيه، ثمّ يقول: جعلني الله فداك جدّد لنا بيعة، فيجدّد لهم بيعة».
وهكذا يتَّضح من خلال الرواية الثالثة شدَّة الامتحان الذي قد يزلزل أقرب الناس من الإمام (عجّل الله فرجه) لولا تدارك الرحمة الإلهية عليه.
ومن خلال العنوان يتَّضح أن تركيزنا في هذه الأسطر إنَّما هو في خصوص المؤمنين به (عجّل الله فرجه) في عصر الغيبة بل بعد ظهوره أيضاً، وهذا ما دعانا إلى كتابة هذه الأسطر لكي لا نطمئن ولا نتَّكل على مجرَّد معرفتنا به (عجّل الله فرجه) وكأنَّ الأمر مفروغ عنه، وأنَّها تكون واقية لنا من الغرق في مهاوي الابتلاء والاختبار الإلهي ومن الغربلة ثمّ الغربلة حتَّى بعد المعرفة، ودلالة ذلك ما ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «كأنّي أنظر إلى القائم (عليه السلام) على منبر الكوفة وحوله أصحابه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً عدَّة أهل بدر، وهم أصحاب الألوية، وهم حكّام الله في أرضه على خلقه، حتَّى يستخرج من قبائه كتاباً مختوماً بخاتم من ذهب عهد معهود من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيجفلون عنه إجفال الغنم البكم، فلا يبقى منهم إلّا الوزير وأحد عشر نقيباً...»، وهنا أيضاً تدلُّ الرواية على عسر الامتحان بعد المعرفة، حيث تشير وبوضوح إلى تقهقر الناس - وهم من فئة المؤمنين به - عن الإمام بعد قراءته للكتاب، وليس عموم الناس فقط بل الحديث يشمل أصحابه (٣١٣) أيضاً عدا نقبائهم الاثني عشر.
وما ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: «... ولو قد قام قائمنا وتكلَّم متكلّمنا ثمّ استأنف بكم تعليم القرآن وشرائع الدين والأحكام والفرائض كما أنزله الله على محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنكر أهل البصائر منكم ذلك اليوم إنكاراً شديداً»، ومع التأمّل في عبارة (أهل البصائر) يتَّضح شدَّة الامتحان الذي يتعرَّض له المخلصون فضلاً عن غيرهم من المؤمنين بالإمام (عجّل الله فرجه)، فأن يكون الإنسان مؤمناً يحتاج إلى مزيد من الجهد والعمل والتوفيق والهدي الإلهي، وأن يكون من أهل البصائر منهم يحتاج إلى مراتب أعلى من جهاد النفس وترويض الذات والرقي في مدارج الكمال، ولكن كلّ هذا لا يعصمهم من الامتحان الإلهي ولا يجعلهم في منأى عن الاختبار العسير ممَّا يستدعي منّا - نحن المؤمنون بالعقيدة المهدوية وبالإمام الثاني عشر (عجّل الله فرجه) - الحذر كلّ الحذر، والاستعداد كلّ الاستعداد، والتسليم كلّ التسليم بعد المعرفة الحقّة.
أمَّا لو أردنا التطرّق إلى شدَّة الامتحان لعموم الأُمّة بل عموم المجتمع البشري لكان للحديث مجاله الواسع أيضاً، ويكفي أن نذكر نموذج خروجه شابّاً موفّقاً ليكون سبباً في إنكارهم الإمام (عجّل الله فرجه) لعدم ثبات الأمر واستقراره في قلوبهم منذ البداية، فقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «وإنَّ من أعظم البلية أن يخرج إليهم صاحبهم شابّاً وهم يحسبونه شيخاً كبيراً».
ونموذج آخر هو النداء الثاني لإبليس بأنَّ الحقّ مع عثمان وشيعته، حيث يسبّب نداؤه ملاذاً للمنكرين أساساً، والحاقدون على أهل البيت (عليهم السلام) يتسارعون إلى التمحور حوله وإنكار الحقيقة الساطعة والبرهان القاطع من الله تعالى تأييداً لوليّه الأعظم.
وختاماً فكلّ هذه الاختبارات والامتحانات إنَّما تدور في فلك المؤمنين ولا تشمل غيرهم من سائر المذاهب والأُمم.
فهل يكتبنا الله من الثابتين على ولايته بعد معرفته (عجّل الله فرجه)؟
نسأله تعالى أنْ يجعلنا من الفائزين والناجحين في الامتحان ومن الثابتين على الإيمان به والاعتقاد بولايته، فهو السبيل الوحيد للنجاة في عوالم الابتلاء والامتحان.