(الأربعين) مسيرة الثائرين وجهاد المنتظرين
الشيخ حميد عبد الجليل لطيف الوائلي
المسيرات الجماهيرية تمثل في عالم اليوم واحدةً من أقوى الأسلحة التي لها القدرة على تغيير السياسات والنظم بل وبناء ظواهر اجتماعية وتأسيس ثقافات جديدة تنهض بالمجتمعات لتحقيق أهدافها ونيل طموحاتها، لا بل لا تقف معطيات المسيرات والمظاهرات عند هذا الحد فقط إنما تمهد لقيام دول وحضارات بعد أن تهدم ما يقف في طريقها ويعوق حركتها.
هذا إذا نُظِر إلى المسيرة بمعزل عن خلفيتها ومن قام بتنظيمها ودعمها وتهيئة سبل استمرارها إلى أن تحقق أهدافها وكلما كان القائمون عليها أصحاب سلطة وقدرة ومنعة ونفوذ، كانت على المطاولة والممانعة أقدر.
هذا الحال في مسيراتٍ ومظاهرات يرعاها أشخاصٌ عاديون وتحمل أهدافها ومصالح فئويةٍ ومادية آنيةٍ ولا تحمل أوسع من أفقها بل تمثل فئات قليلةٍ.
أمَّا إذا كانت المظاهرات والمسيرات تنطلق من رؤىً شموليةً وتحمل أهدافاً عالمية، ولا يضيق أفق القائمين عليها حتى لو استوعبت البشرية جمعاء، إنها المسيرات التي لا يحصرها وجود دنيوي ولا تسعى لتحقيق هدف مادي ومطمع فئوي.
إنّها المسيرات العقائدية التي تنقل المتظاهرين إلى وجودٍ أرحب مما هم فيه مهما كان تطلعهم رحباً وإلى أهدافٍ أسمى وأبقى، وهي بهذه الحقيقة والروح والواقع والطموح تضمن دوامها وخلودها وتحمل سر بقائها.
وكنموذج على هذه المسيرات التي قادها على مر الزمان الأنبياء والأولياء والصلحاء (عليهم السلام) قلَّ عدد من انتضمَ فيها أو كثُر.
مسيرة الأربعين، مظاهرة إحياء ذكر الثائر لإصلاح دين المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم).
إنَّ هذه المسيرة الخالدة هي سيرٌ بين إصلاحين، إصلاح الإمام الحسين (عليه السلام) الذي لولا مظاهرته وخروجه على سلاطين الجور لما عشنا اليوم حالة الانتماء لهذا الدينِ وبقاءه صامداً أمامَ كل الانعطافات والمنحدرات التي أراد من خلالها فراعنة كل عصرٍ أنْ يجعلوه إطاراً لتحقيق رغباتهم وطموحاتهم بعد أنْ يفرغوه عن محتواه وواقعه.
الإمام الحسين (عليه السلام) - ظهيرة العاشوراء - رغم قلة من كان معه وكثرة من كان ضده إلاّ أنه قادَ أخلد انتفاضةٍ وأقوى ثورة وأدوم مسيرة قاد انتفاضة الفكر والعقيدة والسياسة والأخلاق والتي مثلت ديمومية وبقاء هذا الدين المقدس، إنَّ هذه المظاهرة التي قادها الإمام الحسين (عليه السلام) ذلك اليوم هزمت أعتى قوة في زمانها تملك كل المؤثرات من قوة وسطوة ومال وسلطة.
ولازالت هذه المسيرة إلى اليوم تمتلك قدرة أن تهزم كل من يقف أمامها ويريد النيل من أهدافها بل ومن يتسلق عليها ليجعلها سبباً لتحصيل رغبةٍ أو نزوة أو منفعة آنية له ولمن يتبعه.
أمَّا الإصلاح الثاني الذي لابد أنْ نسير إليه حاملين بين جوانحنا أهداف الإصلاح الأول ومتزودين بطاقته وقوته وإمكاناته، إنَّه إصلاح الانتظار والتمهيد للمنتظر، إصلاح تلك الفكرة الخالدة التي ورثناها عقيدةً من خلال أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) وما سيقوم به قائدها ولتخليص البشرية جمعاء.
إنَّ مظاهرة الإصلاح التي سيقودها الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) الثائر عندما يخرج منادياً بأعلى صوته يا لثارات الحسين (عليه السلام) إصلاح الظهور المهدوي ينتظر من البشرية أن تقوم بدورها ولتربط بين المظاهرتين.
فكيف لنا أن نكون حلقة الوصل؟ وما هو السبيل الأمثل لنؤدي دورنا ونتحمل مسؤوليتنا؟...
إنَّ مسؤوليتنا كحلقة وصل بين المظاهرتين نجعلها ضمن نقاط:
أولاً: لابد أن يكون ذهابنا في هذه المسيرة العظيمة منطلقاً من قصد القربة للإمام بناءً على القاعدة التي تقول (اعرضوا أعمالكم علينا) لابد أن نعرف أن كل عمل نقوم به لا يقبل إلا بدلالة الإمام ومعرفته وتولي أمره فان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقسم على أن رجلاً لو عمل عمل سبعين نبياً، ثم لم يلق الله بولاية أهل البيت (عليهم السلام) ما قبل الله منه شيئاً.
فلا بد أن نلتفت إلى وجود إمامنا (عجّل الله فرجه) وأن نستحضر رقابته علينا وشهادته على أعمالنا وأن قربنا منه يعني قبول العمل وارتفاع درجاته وأن لا نغفل عن الدعاء له وجعل بعض الخطوات بل كلها في سبيل تعجيل ظهوره والتصدق لسلامته ليشملنا عطفه ورأفته.
وأن لا يخلو سيرنا من مجالس ذكره، فإنها رياض الجنة وموجبات الغفران ومظنة الرحمة ونزول البركة.
فإن سيراً كهذا السير لا شك أنه يحمل عنوان التظاهر ضد الظلم ورفعا لراية الإمام (عجّل الله فرجه) لأجل التمهيد لظهوره لأنه تحلٍ بكل سمات الخلق والعقيدة والسلوك المطلوب منا على لسان أهل البيت (عليهم السلام).
ثانياً: إن ذهابنا إلى الإمام الحسين (عليه السلام) مع استحضار كون هذا الذهاب بقصد القربة إلى الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يعني ذلك أن ذلك الفرد بذهابه إلى الإمام الحسين (عليه السلام) يكون قد ذهب إلى الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) فإنه صاحب ثأره وولي دمه، وأن الأمر كما في حياتنا الاجتماعية، إذ عندما نريد أن نعزي بفقد عزيز فإننا نذهب إلى وريثة وولي دمه، وهذا الذهاب منا تكريم للميت والحي معاً ولا يمكن أن يحسب تكريماً للميت فقط أو تكريماً للحي فقط، وهذا ينطبق تماماً على مسيرة الأربعين المليونية التي نشهدها كل سنة وبإعداد لم يسبق للتأريخ أن سجل نظيراً لها.
ثالثاً: إن هذه المسيرة الملحمية تمثل عقد بيعة وولاء للإمام الحسين (عليه السلام) فهي تمثل في نفس الوقت عقد بيعة وولاء للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وبذلك فهي تقدم لنا إمكانات روحية عالية على مستوى سحق الأنانية في تقديم الخدمة للآخرين وإن كان صاحب هذه الخدمة ذا منزلة اجتماعية كبيرة أو سياسية أو دينية، فإننا نشهد على نطاق واسع أن أصحاب هذه الخدمة يتذللون ويتصاغرون أمام المشاة من أجل أن يقدموا لهم خدمة كغسل بعض ملابسهم أو تقديم الطعام لهم أو توفير وسيلة راحة لهم، فإن هذا التجرد من الأنانية، والذوبان الروحي في المعارف الأخلاقية في تحصيل الكمالات يصعب تحصيله في أرقى الجامعات الإنسانية والمعاهد الأخلاقية حتى لو خُصص لذلك زمن طويل وتوفرت الإمكانات المادية الهائلة، بينما بالإمكان أن يحصله الإنسان في مسيرته إلى الأربعين، وهذا يجعل الإنسان متهيئاً أكثر لقضية الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، فكلما كان الإنسان ذا خلق رفيع وأخلاق سامية فإنه سيكون أقرب إلى الإمام (عجّل الله فرجه)، ومن بين الأشخاص المعدودين الذين يتشرفون بنصرته ويحسبون على جماعته، وما إلى ذلك من العناصر التي يمكن أن نستشفها ونقف عليها من خلال هذه المسيرة الأربعينية وكيف أنها ترتبط بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وبعقيدته.
إن المشاة في هذه المسيرة المليونية المباركة هم بلا شك عناصر تقرب من ظهوره (عجّل الله فرجه) وتمهد لدولته، فهذه الأنهر من البشر التي تصب في بحيرة كربلاء الولاء لو سلط عليها الإعلام كما يسلط على القضايا السياسية فإنها كفيلة بأن تغير مجتمعات ودولاً، وهذا من الأهداف الأخرى التي يجب أن نرعاها في هذه المسيرة.
رابعاً: إن الإنسان مفطورٌ على أن يكون هدفياً حتى في سفره لاسيما السفر الديني منه وقد حفظت الشريعة المقدسة هذه الحالة وبرزت في التشريع أنواع من السفر وترتبت على هدفيته جملة من الأحكام الشرعية.
واليوم نشهد حالة لا نظير لها يعيشها أتباع المذهب الحق وتمثل نموذجا من الولاء والانقطاع لأهل البيت (عليهم السلام) بمقاييس يعجز عن إدراكها الكثيرون.
فمسيرة الأربعين التي يسير فيها قاصدوا درب التضحية والإباء لمات الكيلو مترات متحدّين أقسى الظروف بل والموت وتقطيع الأوصال يأبون إلاّ أن يسجلوا لوحة فريدة، وسفراً نموذجياً أسوياً ينبهر به العالم وينحني أمامه من لا يؤمن بمكانة أهل البيت (عليهم السلام) فيكف بالمؤمنين إجلالاً وإكباراً يقبلون تراب أقدام هؤلاء المسافرين الذين نحتوا في لوحة الوجود أجمل أثر رآه العالم في الولاء والاتباع والتديّن.
ولأجل أن يكون هذا السفر متجللاً بأنوار القدس وبعيداً عن مصائد هوى النفس ومكائد المغرضين لابد أن يلتفت ساروا هذا الدرب المقدس إلى جملة من الأشياء تزين سفرهم وتزيد في جمال صورته روعة وبهاءاً من خلال الالتزام بجملة من الأشياء الشرعية والتي إذا نوي التقرب بها إلى الله تعالى بإهداء ثوابها إلى الإمام فإنه سيكون موجباً لتغيير حقيقة هذا السير ليصبح سيرا ملكوتياً بكل معناه ومن هذه الأشياء:
أ: أن يكون السائر على وضوء فإنه ينبغي لسائر درب العشق والولاء أن يحافظوا على نورانيتهم بالتزام الطهارة وديموميتها على طول الطريق ويجب أن يكون هذا الوضوء ضمن الموازين الشرعية وحدودها.
ب- يا سائري درب الإمام الحسين وزينب (عليهما السلام) كلكم يعلم أن الحرب والقتل والقتال لم يمنع الإمام الحسين (عليه السلام) وصحبه من أن يصلّوا صلاة الظهر في وقتها، أيها الأحبة يا من تسلكون هذا الدرب الطاهر لتقتدوا بالإمام الحسين (عليه السلام) تقربوا إلى إمامكم الغائب المنتظر (عجّل الله فرجه) بأداء صلاتكم في وقتها، فإن الشيطان إذا سمع نداء الصلاة هرب، ولابد أن يكون أداء صلاتكم عند سماعكم للنداء، والأفضل أن تكون جماعةً ضمن إطار شروطها الشرعية.
ج- ينبغي لنا أن نكون مشغولين بالعبادة والذكر في هذا الطريق المبارك فإن لم نتمكن من ذلك فلا أقل من الصلاة على محمد وآله وقرنها بتعجيل فرج الإمام الغائب (عجّل الله فرجه) فإن فوائد هذا العمل توجب رضا الإمام وقربنا منه ومحق الخطايا وإذهاب النفاق واستجابة الدعاء وإضاءة القلب ورفع العذاب ووجوب الشفاعة وحفظ الإيمان وغفران الذنوب وغيرها الكثير من الآثار المادية والمعنوية، فما أسهل هذه العبادة وما أكثر أثرها فلتكن رفيق دربنا وأنيس طريقنا.
د- على سالكي هذا السفر الملكوتي أن يسعوا ليكون سفرهم نموذجياً وأن يحدد لهم مسار مستقبل جديد تكون أولى أولوياته كسب رضا الإمام (عجّل الله فرجه) وتعلم الأحكام والسعي الحثيث في تطبيقها وعدم الاستخفاف بالمحرمات والاقتراب منها صغيرة كانت أو كبيرة.
هـ- لابد لمن يسير في طريق العشق ويعرف أنّ مقصده الإمام الحسين (عليه السلام) وأنَّ من يسجل الزائرين هو إمام عصره (عجّل الله فرجه) أن يكون على يقين بأنّ هذا طريق النجاة وجادة الصراط المستقيم ولا يكون الفوز فيه إلاّ بالتحلي بالمكرمات والابتعاد عن الرذائل ومساوئ الأخلاق وأن يكون سخيا لأن اغصان شجرة السخاء في الجنة ويبتعد عن الاسراف والتبذير لئلا يكون أخاً للشيطان فينتزع من قلبه الإيمان.
لابد أن لا تكون في هذا الطريق لنا هوية إلاّ الهوية المهدوية المنادية بالثأر على ما وقع على الإمام الحسين (عليه السلام) في ظهيرة عاشوراء هذه هي المظاهرة الحقيقية ضد الفساد والاستبداد، أنها مظاهرة الأربعين الممهدة للظهور.