لماذا البكاء على الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)؟
السيّد محمّد القبانجي
يركّز الكثير منّا في علاقته مع الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) على جانب القدرة والانتصار العالمي على الظالمين والأخذ بالثأر، وهي جوانب جديرة بالاهتمام، ولكن لا ينبغي لهذه الجهة من العلاقة أن تستحوذ على سائر الجهات الأخرى، فصحيح أنَّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هو القائد العامّ للمسلمين بل الإنسانية أجمع، وصحيح أنَّه المحقّق لمشروع الرسالات على طول التاريخ، واستحضار هذه المفاهيم هي التي تجعل علاقتنا بالإمام تتَّسم بالفخر والاعتزاز والأمل والسرور بتحقَّق الوعد الإلهي، ولكن هناك جوانب من العلاقة ركَّز عليها أهل البيت (عليهم السلام) ينبغي على المنتظر الالتفات إليها وعدم الغفلة عنها حتَّى تكتمل جميع جوانب العلاقة، ويكون الارتباط متكاملاً بكلّ أبعاده، فيحدث تماسكاً قويّاً رصيناً متوازناً بين المنتظِر وإمامه (عجّل الله فرجه).
وهذا الجانب هو (علاقة الحزن له في حالة الغيبة) والألم الذي يكابده وهو في هذه الحالة، وهذا الجانب يختلف في نوعية الارتباط عن سابقه من عدَّة نواحي:
الأولى: ويمكن أن نصطلح عليها بالفارق الزمني إذ أنَّ هذا الجانب (علاقة الحزن) يكون التركيز فيه على آلام الإمام في حال غيبته (عجّل الله فرجه)، أمَّا الأوّل (جانب القدرة والانتصار) فتتمحور العلاقة فيه بحال الظهور.
الثانية: ويمكن أن نصطلح عليها أيضاً بالعلاقة التجرّدية والانتفاعية فالنوع الأوّل (جانب القدرة والانتصار) يمثّل الجانب الانتفاعي إذ أنَّ فيه استشعاراً لخلاص الإنسان المنتظِر من آلامه والعيش في سعادة ورفاه في ظلّ حكومة العدل الإلهي، فهو سواء بقصد أو بدون قصد فيه مصلحة ومنفعة للذّات، فهو ليس خالصاً للإمام (عجّل الله فرجه)، إذ هناك نظرة خلاص البشرية، والمنتظِر جزء منها، وهذا بخلاف تمركز العلاقة بالشكل الثاني (الحزن والألم) وهو العلاقة التجرّدية إذ لا يجرُّ المنتظِر نفعاً إلى نفسه، بل على العكس فيه ألم ومواساة لألم إمامه المغيَّب، فهو ارتباط وعلقة خالصة مع الإمام (عجّل الله فرجه) لا يشوبها شائبة المنفعة الذاتية والمصلحة الفردية أو الاجتماعية، أي إنَّه في هذه العلاقة يصل إلى محو الذات في ارتباطه بمحبوبه المغيَّب، بل تصبح محن إمامه محنه ومصائب إمامه مصائبه، كما يقول الحديث الشريف: نفس المهموم لنا المغتمّ لظلمنا تسبيح، وهمّه لأمرنا عبادة، وكتمانه لسرّنا جهاد في سبيل الله.
وهذا النوع من العلاقة أي علاقة استشعار مظلومية الإمام والتلهّف عليه والحزن لألمه قد جسَّده أهل البيت (عليهم السلام) في علاقتهم مع الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وترجموها في مسيرتهم مع مواليهم وشيعتهم، لذلك نجدهم كلَّما ذكروا الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) أجهشوا بالبكاء والنحيب لعظم ما يجري عليه، وهذا الأمر قد يعتبره البعض مستغرباً لأنَّنا عهدنا هذه العلاقة متركّزة في الوجدان الشيعي مستلهمة من أئمّتهم (عليهم السلام) بالنسبة للحسين (عليه السلام)، ولكن المأثور أظهر بعض جوانب هذه العلاقة مع الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) كما هي مع الإمام الحسين (عليه السلام)، ويمكن استعراض بكاء الأئمّة (عليهم السلام) من خلال الروايات التالية:
١- بكاء الإمام الصادق (عليه السلام)، عَنْ سَدِيرٍ الصَّيْرَفِيّ، قَالَ: دَخَلْتُ أنَا وَالْمُفَضَّلُ بْنُ عُمَرَ وَأبُو بَصِيرٍ وَأبَانُ بْنُ تَغْلِبَ عَلَى مَوْلاَنَا أبِي عَبْدِ اللهِ جَعْفَر بْن مُحَمَّدٍ عليه السلام فَرَأيْنَاهُ جَالِساً عَلَى التُّرَابِ وَعَلَيْهِ مِسْحٌ خَيْبَريٌّ مُطَوَّقٌ بِلاَ جَيْبٍ مُقَصَّرُ الْكُمَّيْن وَهُوَ يَبْكِي بُكَاءَ الْوَالِهِ الثَّكْلَى ذَاتَ الْكَبِدِ الْحَرَّى قَدْ نَالَ الْحُزْنُ مِنْ وَجْنَتَيْهِ وَشَاعَ التَّغَيُّرُ فِي عَارضَيْهِ وَأبْلَى الدُّمُوعُ مَحْجِرَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: سَيَّدِي! غَيْبَتُكَ نَفَتْ رُقَادِي وَضَيَّقَتْ عَلَيَّ مِهَادِي وَأسَرَتْ مِنّي رَاحَةَ فُؤَادِي، سَيَّدِي غَيْبَتُكَ أوْصَلَتْ مُصَابِي بِفَجَائِع الأبَدِ وَفَقْدُ الْوَاحِدِ بَعْدَ الْوَاحِدِ يُفْنِي الْجَمْعَ وَالْعَدَدَ، فَمَا اُحِسُّ بِدَمْعَةٍ تَرْقَى مِنْ عَيْني، وَأنِينٍ يَفْتُرُ مِنْ صَدْري عَنْ دَوَارج الرَّزَايَا وَسَوَالِفِ الْبَلاَيَا إِلاَّ مُثّلَ لِعَيْني عَنْ عَوَائِر أعْظَمِهَا وَأفْظَعِهَا وَتَرَاقِي أشَدَّهَا وَأنْكَرهَا وَنَوَائِبَ مَخْلُوطَةٍ بِغَضَبِكَ، وَنَوَازِلَ مَعْجُونَةٍ بِسَخَطِكَ.
قَالَ سَدِيرٌ: فَاسْتَطَارَتْ عُقُولُنَا وَلَهاً وَتَصَدَّعَتْ قُلُوبُنَا جَزَعاً عَنْ ذَلِكَ الْخَطْبِ الْهَائِل وَالْحَادِثِ الْغَائِل، وَظَنَنَّا أنَّهُ سِمَةٌ لِمَكْرُوهَةٍ قَارعَةٍ أوْ حَلَّتْ بِهِ مِنَ الدَّهْر بَائِقَةٌ، فَقُلْنَا: لاَ أبْكَى اللهُ يَا ابْنَ خَيْر الْوَرَى عَيْنَيْكَ مِنْ أيّ حَادِثَةٍ تَسْتَنْزفُ دَمْعَتَكَ، وَتَسْتَمْطِرُ عَبْرَتَكَ، وَأيَّةُ حَالَةٍ حَتَمَتْ عَلَيْكَ هَذَا الْمَأتَمَ؟
قَالَ: فَزَفَرَ الصَّادِقُ (عليه السلام) زَفْرَةً انْتَفَخَ مِنْهَا جَوْفُهُ، وَاشْتَدَّ مِنْهَا خَوْفُهُ، وَقَال: وَيْكُمْ إِنّي نَظَرْتُ فِي كِتَابِ الْجَفْر صَبِيحَةَ هَذَا الْيَوْم وَهُوَ الْكِتَابُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى عِلْم الْمَنَايَا وَالْبَلاَيَا وَالرَّزَايَا وَعِلْم مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَةِ الَّذِي خَصَّ اللهُ تَقَدَّسَ اسْمُهُ بِهِ مُحَمَّداً وَالأئِمَّةَ مِنْ بَعْدِهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ السَّلاَمُ وَتَأمَّلْتُ فِيهِ مَوْلِدَ قَائِمِنَا وَغِيبَتَهُ وَإِبْطَاءَهُ وَطُولَ عُمُرهِ وَبَلْوَى الْمُؤْمِنينَ (بِهِ مِنْ بَعْدِهِ) فِي ذَلِكَ الزَّمَان وَتَوَلُّدَ الشُّكُوكِ فِي قُلُوبهِمْ مِنْ طُولِ غَيْبَتِهِ، وَارْتِدَادَ أكْثَرهِمْ عَنْ دِينِهِمْ وَخَلْعَهُمْ ربْقَةَ الإسْلاَم مِنْ أعْنَاقِهِمُ الَّتِي قَالَ اللهُ تَقَدَّسَ ذِكْرُهُ: (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) يَعْنِي الْوَلاَيَةَ، فَأخَذَتْنِي الرَّقَّةُ، وَاسْتَوْلَتْ عَلَيَّ الأحْزَانُ.
٢- بكاء الإمام الرضا (عليه السلام)، قال دعبل الخزاعي كما جاء في (كمال الدين): أنشدت مولاي الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) قصيدتي التي أوّلها:
مدارس آيات خلت من تلاوة ** ومنزل وحي مقفر العرصاتِ
فلمَّا انتهيت إلى قولي:
خروج إمام لا محالة خارج ** يقوم على اسم الله والبركاتِ
يميّز فينا كلّ حقّ وباطل** ويجزي على النعماء والنقماتِ
بكى الرضا (عليه السلام) بكاءً شديداً، ثمّ رفع رأسه إليَّ فقال لي: يا خزاعي، نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين... .
٣- بكاء الإمام الجواد (عليه السلام)، فقد جاء في كمال الدين عن الصقر بن أبي دلف، قال: سمعت أبا جعفر محمّد بن علي الرضا (عليهما السلام) يقول: إنَّ الإمام بعدي ابني علي، أمره أمري، وقوله قولي، وطاعته طاعتي، والإمام بعده ابنه الحسن، أمره أمر أبيه، وقوله قول أبيه، وطاعته طاعة أبيه، ثمّ سكت. فقلت له: يا ابن رسول الله فمن الإمام بعد الحسن؟ فبكى (عليه السلام) بكاءً شديداً، ثمّ قال: إنَّ من بعد الحسن ابنه القائم بالحقّ المنتظر.
٤- بكاء الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في رواية طويل، قال أبو سهل: فَلَمَّا مَثُلَ الصَّبِيُّ - أي الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) - بَيْنَ يَدَيْهِ سَلَّمَ وَإِذَا هُوَ دُرَّيُّ اللَّوْن، وَفِي شَعْر رَأسِهِ قَطَطٌ، مُفَلَّجُ الأسْنَان، فَلَمَّا رَآهُ الْحَسَنُ بَكَى...