أبعاد الأمل في انتظار الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) (١)
الشيخ محمد السند
هناك أبعاد عديدة للأمل - بعد الالتفات إلى أنّ مفردة الأمل والانتظار مفردة أكَّد عليها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّها من أعظم المعالم الاعتقادية المهدوية - لابدّ من دراستها والاهتمام بما ذكرته اللغات والعلوم حول هذه المفردة، ومنها:
أولاً: البُعد النفسي:
في علم النفس مقرر وبشكل لا ريب فيه أنّ حياة النفس الإنسانية ونشاطها معقودة بالأمل، بمعنى أنّ أية نفس إنسانية ينسد باب الأمل عندها، فهذا إنذار ببداية الانهيار، فحبل النجاة والإنقاذ لأية نفس إنسانية هو الأمل، وهو أمر مستقبلي وليس في الماضي، وكثير من حالات الانهيار والكبت الروحي والانتحار والفشل سببها عدم الأمل.
فالأمل أمر عظيم، وليس فقط بحسب علم النفس العام، بل حتى في علم النفس الاجتماعي، فالمجتمع الذي ليس في تطلعه ورؤيته أمل يقوده إلى الأمان فإنه معرّض للانهيار والانحدار والتبعثر والتشتت.
ثانياً: البُعد الحضاري:
قيل إنّ الأُمّة سميت أُمّة لأنّها تؤم وتقصد، وأحد معاني الماهوية العقلية لمعنى الإمام والإمامة الإلهية هي غاية تأملها وتقصدها وتنحو إليها، و(أُمّ) يعني تبع وقصد، والقصد منطوٍ على غاية، والغاية منطوية على الأمل.
فلاحظ أنّ الأمل أو الفرج مطوي في تقرر المعنى الماهوي للإمامة الإلهية، وبلغة علوم الحضارات أنّ الأمل هو الباعث على ازدهار النهضة الحضارية لأية أُمّة، فأية حضارة عملاقة لم تبن ولم تتشكل إلّا بأمل وهدف قممي كانت قد تطلعت إليه تلك الأُمّة، وبعبارة أخرى أنّ القمّة التي تروم الأُمّة تحقيقها حضارياً ما هي إلّا عبارة عن أمل إمكانية الوصول إليها، فالأمل هو أوّلاً غاية قممية، وثانياً أنّ الطريق للوصول إلى الأهداف القممية ممكن.
ثالثاً: البُعد التغييري:
عقيدة انتظار الفرج تشتمل على كل نظام الإمامة ومنهاج أهل البيت (عليهم السلام)، فعندما يكون الإمام المنتظر (عجّل الله فرجه) أمراً يتطلَّع إليه ويعتقد أنه غاية، سينجرّ إلى أنّ الأُمّة يجب أنْ تعبّد الطريق لظهوره، ولكن لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين. وبما أنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فهذا يعني أن هناك مسؤولية تجاه المخلوق، وهناك مسؤولية تجاه نظام الخالق، وبالتالي أنّ معنى الأمل هو معنى المسؤولية، أي لزوم السعي لتعبيد الطريق نحو التغيير الجذري، لذلك كثيراً ما تحدث مداولة في المنتديات العلمية والكتابات أنّ أكبر مسؤولية تجاه الإمام الثاني عشر (عجّل الله فرجه)، وأكبر علامة لظهوره، هي انتشار نور علم ومنهاج أهل البيت (عليهم السلام) في سائر ربوع المسلمين والبشر، فإذا انتشر وساهمنا بذلك كان هذا الطريق للنجاح.
الكاتب والباحث الغربي (فرانسو توال) لديه مركز حول التشيع فقط وتعتمد عليه المراكز الغربية كثيراً، وعنده كتاب حول (الجغرافيا السياسية للتشيع) كتبه سراً ولكنه انتشر، يقول فيه: (أكبر خطورة على الأنظمة الغربية وأكبر قوة في هذا الإمام - وهو الإمام المنتظر (عجّل الله فرجه) - أنه يفتح أُفق تطلع للبشر فوق الأُفق الذي تفتحه الديمقراطية والليبرالية ونظام السوق الحر والرأسمالية، وهو تطلع الحرية والعدل الذي يفتحه هذا الشخص، وتكمن خطورة هذه العقيدة في أنها تفتح تطلعاً مستقبلياً للبشرية وراء أطروحة الديمقراطية، وفوق ما تطرحه تلك الأنظمة، والتنافس مع هذه الأطروحة صعب ممتنع لما فيها من ادِّعاءات فوق ما تدعيه الحضارة الغربية، فلا يمكن التفوُّق عليه، وهذا العرض المغري يخطف عقول الشعوب)، ثم يقول: (هذا التطلع البعيد الذي يزرعه مشروع المهدي الحجة بن الحسن العسكري في عقلية البشر أخطر علينا من الشيوعية وأية أطروحة بشرية أخرى، لأنّ ولاء شعوب العالم سيكون له، لا لتلك الأنظمة، فطبيعة البشر تنجذب نحو الأكبر والأفضل).
لاحظ كيف أنّ انتظار الفرج أفضل عبادة، لأنّ هذه العقيدة ستبرمج للأفراد والأُمّة استراتيجة حضارية عقدية لا تزل ولا تغوى إذا استمسكت بها.
رابعاً: البُعد التجديدي:
البُعد الآخر لعقيدة انتظار الفرج العظيمة أنّ كل ما ستواجهه البشرية من مشاريع وأطروحات لا تكافئ ما ننتظره، فلو كانت تعلوه أو تكافئه، هل سيكون لانتظار الفرج معنى؟
انتظار الفرج يعني مجيء أمر لم يأتِ بعد، فالشيعة أقاموا نظاماً ولكن ما تنتظره من نظام يقيمه الإمام هو في الواقع فوق ما يقيمه غيره لأنّ ذلك فرج مطلق، وأطروحة كبرى.
إذن هناك تطلع أكبر مما هو حاصل الآن، وأنّ علو الإنجاز من الإمام في الإمامة الإلهية يفوق إنجاز البشر، وهذه بصيرة في المعرفة لكونها أطروحة لا يقاس بها كل الأطروحات والفلسفات الحضارية الأخرى، وهذا التطلع يحتاج إلى سعي كبير ومتواصل لتحقيق تلك الغاية والوصول لها، إذ إننا مازلنا في الطريق، وهذا أمر عقائدي مهم.
كما أن معرفة الإمام حق معرفته هي بحد ذاتها تطلّع كبير لا يقنع العارف بها بالقليل، واللطيف في بعض الروايات تأكيداً على ضرورة بصيرة الإنسان بالرؤية العقائدية لكونها رؤية جبارة الأُفق، ولذلك صارت العقيدة أصلاً للدين، والفقه فرعاً له، وهي رؤية واسعة المدى وأهميتها من هذه الجهة فكون العقيدة عروة وثقى، أي أنّ التمسك بها أمان وضمان أعظم من فقه الفروع، وإن كان الفقه أيضاً مهم لكنه لا يصل لأهمية العقيدة.
فمن يمتلك رؤية عقائدية ينتقل بها من عالم إلى عالم، ولا يعتريه اضطراب أو بلبلة، لأنّ الخرائط العقائدية لديه واضحة ومعلومة، ولذلك لا يصاب بالحيرة ولا تفاجئه المفاجآت لأنّها تعطيه توازناً، بخلاف من حرم الرؤية العقائدية، إذ ما إنْ تنتابه وتعتريه حالة من الحالات في بدنه أو في روحه إلّا ويضطرب، والسبب هو عدم وجود بُعد النظر الموجود لدى صاحب العقيدة، فطبيعة هذه الرؤية، رؤية واسعة المدى وعظيمة التأثير والتحكم في توازن الإنسان في كل الحالات. وحتى النظام الأخلاقي لا يرقى إلى الرؤية العقائدية من حيث التأثير والهيمنة.
جاء في إحدى زيارات أمير المؤمنين (عليه السلام) وصف وتصوير واضح لمشهد يصور حال أهل جهنم في الاضطراب والرذائل الأخلاقية، والمذكور في الزيارة أنّ هؤلاء قبل إدخالهم النار كانوا على أشد ما يكون في الرذائل الأخلاقية، بالقياس إلى ما ارتكبوه في الحياة والبرزخ، أي أنها تشتد عندهم أكثر، والسبب هو عدم وجود الرؤية العقائدية، فكلما يذهب أحدهم إلى عالم آخر يكون انزلاقه وغيّه أكثر، ولذلك فإنّ العقيدة بر أمان وتجعل الإنسان متوازن.
وبلغة الأرقام فإنّ هذا البرنامج يظل فعالاً في عوالم عديدة لا في عالم واحد.