الدعاء المهدوي وأثره في تنمية الذات والمجتمع
الشيخ حميد عبد الجليل الوائلي
في هذا البحث نحاول تسليط الضوء على أهمية الدعاء في بناء الذات وتقويمها وتنميتها، ومن ثم بناء المجتمع من خلال المحاور التالية:
المحور الأول: حقيقة الدعاء وماذا يشكّل في المنظومة الدينية من أهمية؟
المحور الثاني: وسائط الشريعة في التقرّب إليها وأقرب الوسائط وأهمها.
المحور الثالث: كيف يقوم الدعاء بعملية التنمية للذات ومن ثم للمجتمع.
المحور الرابع: نماذج دعوية مهدوية ينبغي تسليط الضوء عليها بشكل مستمر.
المحور الأول: حقيقة الدعاء وماذا يشكّل في المنظومة الدينية من أهمية؟
قبل بيان حقيقة الدعاء لابدّ أن نلتفت إلى مركزيته في الشريعة:
إذ يعتبر الدعاء من أهم الأركان التي يستند إليها الإنسان في مسيرته نحو الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن لنا بأية حال من الأحوال إغفال الدعاء أو القفز عليه رضوخاً لبعض الإشكالات التي تثار حوله.
حيث يرى البعض أن الدعاء يثلم الإيمان لأن الاعتقاد بقدرة بالله تعالى وعلمه يقضيان أن لا حاجة للدعاء، والله العالم القادر يرى ما في الإنسان ويقدر على تغييره فلم ندعو إذن؟
فقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم الدعاء مكرراً وأكّد على أن من أعطي الدعاء فقد أعطي الإجابة.
بل أن الله سبحانه وتعالى أكّد في بعض آياته أهمية الدعاء إذ قال: ﴿قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً﴾ فهذه الآية الكريمة تقرر مبدأ الأهمية والاهتمام من الله سبحانه وتعالى وأنه متفرع على الدعاء.
فلابدّ أن يلتفت الإنسان إلى الأسباب التي تجعل الله تعالى لا يعبأ به ويزيلها لانّ عدم إزالتها يعني عدم وجود طريق يسلكه إلى الله سبحانه وتعالى.
من هنا تأتي حقيقة الدعاء وماهيته:
فالدعاء هو حالة إشعار النفس الإنسانية بالافتقار وضرورة اللجوء والإلتجاء إلى الوجود الغني المفيض، وهذه الحقيقة عينها حقيقة التوحيد، فيمكن لنا أن نقول إن حقيقة الدعاء هي التوحيد بعينه لأنّ الدعاء يعبّر عن حالة الانكسار والتذلل واللجوء والعبودية إلى ذلك الوجود الكريم المفيض الغني القادر، وإذا دققنا النظر في الآية الكريمة الآنفة الذكر نلاحظ أنها تلمح إلى هذا المعنى إذ تعبر أن الله لا يعبأ بالعبد ما لم يكن صاحب دعاء، بينما الآيات القرآنية الكريمة الأخرى تقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ﴾ فبملاحظة الآيتين وإرخاء العنان لبصر القلب ليجول في الأحاديث الشريفة يجد المرء هذه الحقيقة وهي أن الدعاء لبّ التوحيد ماثلة أمام عينيه.
جاء في (أصول الكافي)، كتاب الدعاء عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: (أفضل العبادة الدعاء) وفيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) (الدعاء عمود الدين).
وفي (الوسائل) عن علي عليه السلام أبواب الدعاء (الدعاء مخ العبادة).
فهذه الأحاديث الشريفة خصوصاً الأخير منها تعبر عن هذه الحالة التي ذكرناها فعمود الدين وأفضل العبادة بل مخها هو الدعاء ونحن نعلم أن المخ هو لب العقل.
إذن فعلى هذا تكون حقيقة الدعاء في الشريعة هي روح العبادة، فهو مخ العبادة، والعبادة بلا مخ كإنسان من غير عقل.
إذن فأرقى حالات الإنسان وهي العبودية التي تجمّل بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿هُوَ الَّذي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ﴾. لا تكون إلاّ بذلك المخ ولا تقف إلاّ على ذلك العمود وهو الدعاء. فحقيقة الدعاء بكلمة واحدة أنه روح التوحيد وحقيقة الإيمان وقلب الإسلام.
فهل يمكن للإنسان أن يصل إلى الله سبحانه وتعالى دون هذه الحقيقة ودون الاعتماد على الدعاء؟
المحور الثاني: وسائط الشريعة في التقرب إليها وأقرب الوسائط وأهمها:
أوجدت الشريعة المقدسة جملة من الوسائل ليتقرب الإنسان من خلالها إلى الله سبحانه وتعالى، والمدار في كل هذه الوسائل القرب من الله سبحانه وتعالى.
وقد تشكلت المنظومة الدينية على أساس مجموعة من العبادات والقوانين التي تنظّم الحياة بما يمكن الإنسان من الوصول والتقرب إلى ساحة القدس الإلهي، وبنظرة مجملة على المنظومة الدينية نجد أن هناك أصول الدين التي يجب الاعتقاد بها، وهي تقرب إلى الله سبحانه وتعالى إذ من لا يؤمن بها لا يمكن أن يتقرب بغيرها مما هو أدنى منها إلى الله سبحانه.
وهناك المنظومة العبادية كالصلاة والصوم والحج والزكاة والخمس والجهاد وغيرها، وهناك المنظومة العملية كالتجارة والمعاملات وبناء الأسرة وبناء المجتمع، وكلها قد وضعت لها الشريعة مجموعة من القوانين لكي تنظمها بما يجعلها جميعاً سبلاً تصب في طريق الوصول إلى الله سبحانه وتعالى.
هذا هو بدن الدين وهيكله، ولا يمكن الوصول إلى الله سبحانه وتعالى من خلال أي بدن أو هيكل آخر.
وهنا يأتي التساؤل الجوهري، ما هي أكثر الوسائل تقريباً إلى الله سبحانه وتعالى؟؟
إذا رجعنا إلى القرآن وجدناه تعالى يقول فيه: ﴿وَإِذا سَأَلَكَ عِبادي عَنِّي فَإِنِّي قَريبٌ أُجيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ﴾.
فنجد أن تحصيل القرب من الله سبحانه لا يكون إلا بالدعاء، وما يؤكد ذلك ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في (الوسائل) في أبواب الدعاء حيث قال (عليه السلام): عليكم بالدعاء فإنكم لا تقربون بمثله.
فالآية والرواية تدلان على حقيقة كون الدعاء هو الطريق الأقرب إلى الله سبحانه وتعالى وإذا جعلنا المنظومة الدينية هو البدن فإنّ روح ذلك البدن هو الدعاء ولا حياة للبدن بلا روح، وإذا جعلنا المنظومة الدينية هي روح الإنسان فإنّ مخ ذلك الروح ولبه هو الدعاء، ولا روح بلا مخ.
إلى هنا توصلنا إلى حقيقة الدعاء وأهميته في المنظومة الإسلامية بشكل بمجمل، وفي الحقيقة هذه مقدمة للدخول في الموضوع.
المحور الثالث: كيف يقوم الدعاء بعملية التنمية للذات ومن ثم للمجتمع:
إنّ لكل ظاهرة من ظواهر الوجود مجموعة من القوانين تحكمها، وظاهرة الدعاء من بين هذه الظواهر، وقد مر بنا أن الدعاء لب العبادة ومخ الدين، ولكي يأخذ الدعاء بأيدينا ليوصلنا إلى الله سبحانه وتعالى، لابدّ أن تكون هناك مجموعة من القواعد تضبط هذه الحقيقة وتجعلها مؤثرة وفاعلة.
وإذا رجعنا إلى الروايات الشريفة وجدنا أنها تعطي للدعاء خصائص لا تعطيها لغيره من وسائل القرب الإلهي، فتصفه بعض الروايات بأنه مفاتيح النجاة وأنه نور السماوات والأرضين وأنه سلاح الأنبياء وهذه الأوصاف وغيرها من الأوصاف الروائية او القرآنية إنما تريد أن تعبر عن حالة يتمتع بها الدعاء وعن خصوصية يمتاز بها، وهي أن له قدرة وفاعلية، على حد تعبير بعض الروايات، إنه يفلّ القضاء المبرم، فهذه المعاني الروائية تريد أن تفتح لنا ولأبصارنا نافذة نطل من خلالها على تلك الحقيقة النورانية التي يمتلكها الإنسان والتي لها القدرة على تغيير كل شيء والتأثير في كل شيء إلى حد أنها تغير ما قدر وأبرم وهذه الخصوصيات لا يمكن أن تكون إلاّ من إنسان عارف بها اولاً ملتفتاً إلى تأثيرها ثانياً، يحمل أهدافاً تجعل منه إنساناً كالأنبياء في نظرته إلى تحقيق الأهداف، لأنّ الأنبياء كانوا يملكون هذا السلاح الذي له القدرة على التغيير والتأثير إلا أنهم لم يفعلوه إلاّ لصالح المجتمع، وصالح ما يأخذ بالمجتمع في القرب إلى الله سبحانه وتعالى وهذا يعني انّه لابدّ من الاخلاص بالدعاء، وأن القلب الساهي والمشغول لا يقبل منه الدعاء.
فعملية تنمية الدعاء للفرد والمجتمع لا تكون إلا من العارف الملتفت، صاحب الأفق الواسع.
وهنا يأتي تساؤل هو: هل يمكن أن نضيف عنصراً ذا تأثير أكبر في فاعلية الدّعاء وقدرته على تنمية الفرد والمجتمع أم لا؟
نرجع إلى القرآن الكريم ونستفتيه في ذلك لأنّه يقول: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْليماً﴾.
فنجده يأمرنا في قوله تعالى: ﴿لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً﴾ وهذه الآية تضيف عنصراً جديداً في أن دعاء الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) له ميزة وخصوصية، وحيث أن حديث الثقلين، فضلاً عن كثير من الروايات تجعل هذه الميزة بعينها في الأئمة (عليهم السلام) وفي الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) خصوصاً فهو إمام الزمان، فلابدّ أن نلتفت إليها ونجعلها من ضمن محاسبات تنمية الدعاء للذات والمجتمع حيث أنها تعني لخصوصية المعصوم وأنه لديه حالة الارتباط المباشر مع الله سبحانه وتعالى ومن دون وسائط ويكون كلامه مع الله تعالى من خلال الدعاء مستجاباً بلا إشكال.
ومن هنا لابد لنا أن نسلط الضوء على بعض النماذج وهي ما نتحدث عنه في المحور الرابع.
المحور الرابع: نماذج دعوية مهدوية ينبغي تسليط الضوء عليها بشكل مستمر منها:
١- ورد في دعاء الندبة وفي بعض الروايات المفسرة لقوله تعالى ﴿أَمَّنْ يُجيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ﴾ إنه المهدي (عجّل الله فرجه) ... (أين المضطر الذي يجاب إذا دعا) فالنص الشريف يؤكد حالة الإستجابة المباشرة إذا دعا المضطر المهدي (عجّل الله فرجه).
٢- في توقيعه (عجّل الله فرجه) للمفيد (رحمه الله) يقول (عجّل الله فرجه): لأننا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب عن ملك الأرض والسماء. فهذا النص الشريف يؤكد على أن دعاءه (عجّل الله فرجه) لا يحجب.
فوائد دعائنا له بعد أن عرفنا أهمية دعائه لنا:
أولاً: نور دربنا وهدايتنا بالدعاء: قال تعالى ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾ فمن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور يمشي به وفي أحد زياراته (عجّل الله فرجه) جاء: السلام عليك يا نور الله الذي يهتدي به المهتدون. فلو دعوت له لإعطائي من نوره الذي يمشى به.
ثانياً: فرجنا بالدعاء: في توقيعه الشريف: وأكثروا الدعاء بالفرج فإن في ذلك فرجكم.
ثالثاً: راحت أبداننا المتعبة بالدعاء: في بعض الأدعية له يقول الدعاء: وأرح به الأبدان المتعبة.
رابعاً: النجاة من الإنحراف بالدعاء له (عجّل الله فرجه): عن الإمام العسكري (عليه السلام) قال: ليغيبنّ [المهدي (عجّل الله فرجه)] غيبة لا ينجو من الهلكة فيها إلاّ ... من يوفقه فيها للدعاء بتعجيل فرجه.
خامساً: استجابة دعائنا بالدعاء له (عجّل الله فرجه): يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث له: إنّ دعاء الولد الصالح لوالده لا تحجب، وفي حديث عن الإمام السجاد (عليه السلام) يقول فيه: إن حق أبوي ديننا محمد وعلي أحق من أبوي نسبنا، وعن الإمام الباقر (عليه السلام): آثر أبوي دينك وآلهما على أبوي نسبك، فالدعاء لأبينا المهدي (عليه السلام) منا نحن أولاده الصالحون مجاب.
سادساً: يبدل السيئات حسنات (وليس يمسح السيئات): فعن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ما جلس قوم يذكرون الله تعالى إلاّ ناداهم ملك من السماء... بدلت سيئاتكم حسنات. وقال أبو جعفر (عليه السلام): إنّ ذكرنا من ذكر الله. وذكر المهدي (عجّل الله فرجه) - الذي هو منهم بلا شك - ذكر الله يوجب تبديل السيئات حسنات.