العدل بين المنهج الوضعي والمنهج المهدوي
لطيف عبد النبي يونس
إنّ الإسلام في قرآنه يؤكد على العدل بأوسع مفهوم، ونجد القوانين الأرضية إنما توجد لكي تجسد العدل وتضع كل الضوابط الصارمة لكي تجعله واقعا معاشا، فتوجد للفطرة كمالها.
إن المتفحص للنفس الإنسانية يجد أن قواها وجدت لتعمل وفق البرنامج العام والشامل، وأن أي فصل بين هذه القوى يؤدي إلى خلل في توجهها، فمثلاً لو عملت قوة الباصرة بمعزل عن العقل فهي ترى كل شيء، ولو عملت قوة الشهوة بمعزل عن العقل فإنها تعمل ما تريد، وكذلك الغضب والوهم وكل القوى، وحتى العقل نفسه لا يستطيع أن يعمل بمفرده، وهذه البرمجة الذاتية لم تكن معزولة عن الخارج أيضاً، فإن الخالق(عزَّ وجل) جعلها مرتبطة بقوانين ومن خلال تكامل البرمجة الذاتية مع البرمجة الخارجية تكون كمالية البرمجة الشاملة للمسيرة الفطرية. وعليه ونتيجة حتمية مستقاة من العقل ومن المنطق ومن الإستقراء الخارجي التجريبي انسجمت النتائج مع الرؤية الدينية الحقيقية التي طرحها الإسلام حلاً حقيقياً لتسيير الفطرة بالإتجاه الصحيح فأوجد لها أمرين:
أولاً: العقل وكما عبر عنه بالنبي الداخلي.
ثانياً: الوحي النبي الخارجي الذي يرسم معالم الغيب وهذان الأمران ضروريان في تسيير الفطرة وتوجيهها إلى ما يقوّم عملها ويسبب لها سعادتها. وبهذا تحتاج الفطرة إليهما باعتبارها موجه حقيقي وما رسمته البشرية في قوانينها الوضعية من أحادية التوجيه أفقدها سعادتها وسبب انحرافها.
إنّ الغرور البشري وتغطرسه وإعجابه بذاته وتسلط الهوى على كيانه أدّى إلى انجذابه نحو الفصل بين العناصر الثلاثة، الفطرة والعقل والغيب، فرغم أن الله (عزَّ وجل) أرسل ١٢٤ ألف نبي ووصي فان المسيرة الإنسانية لم تصل إلى مرحلة الرشد، ورغم نداءات الفطرة بالعدل، ولكن أنى يتحقق ذلك ومقدمات العدل تائهة بين الهوى وبين الغرور وبين حبّ الدنيا وعبادة الذات وعبادة الدنيا، ونحن نرى من حيث الدراسة التاريخية ومن حيث الشاهد الحي كيف أن المناهج الوضعية تاهت وبعدها تهاوت في خضم الصراع على الدنيا والصراع من أجل الهوى ففقدت المنهج الصحيح ففقدت العدل، وهي تنادي به وتتنغم بألحانه الخيالية وتحلم به وهي فاقدة لإيجاده لأنها فقدت مقدماته الضرورية وهو المنهج الحقيقي الذي يربط بين العناصر الثلاثة العقل والفطرة والغيب.
المنهج التوحيدي هو الوحيد القادر على إيجاد المعادلة الحقيقية لتفاعل عناصر السعادة المتمثلة بالفطرة وقواها وبين العقل كعنصر فعال وبين الغيب كمادة ضابطة للمعادلة، فالمناهج الوضعية مهما كرست من قوانين لضبط النفس الإنسانية وجعلها معتدلة فهي معادلة خاوية ومتهرئة لا تعدو إلاّ أن تكون ضرباً من الخيال، ولذا نجد أن انهيار الكهرباء في الولايات المتحدة لساعة أدّى إلى مئات الجرائم وانتهاك القوانين، إذن أين التربية وأين القوانين وأين العدل وأين السعادة.
وفي دراسة لـ(فوكوياما) في كتابه (التصدع العظيم) يتحدث بالأرقام عن التصدع الاجتماعي في دول أمريكا وأوروبا، إذن فأين السعادة، وإذا كان المجتمع متصدّعاً فما هي قيمة الحضارة الغربية إذا لم تحقق السعادة التي منشؤها العدل في المجتمع.
ومن هنا جاء المنهج التوحيدي لكي يحل مشكلة الفطرة ويوجهها بالاتجاه الصحيح من خلال إبراز الربط الحقيقي بين الفطرة وقواها، وبين العقل ونوره وبين الغيب بقوانينه. فأصبحت كلمة (لا إله إلاّ الله محمد رسول الله) هي المنهج التوحيدي لتؤكد نفي العبودية (الطاعة) لغير الله، وتثبت أن الله (عزَّ وجل) هو المطاع وبنفس الوقت تقول إن قوانين النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هي الموجهة للفطرة نحو سعادتها المتمثلة بإقامة العدل، فإنك إذا ربيت الفطرة على طاعة الله من بعد الخوف والرجاء فإنها سوف تنسجم مع قوانين الله (عزَّ وجل)، ولن تبرح خطها العادل حتى لو عاشت في انقطاع للكهرباء يدوم آلاف السنين!!!
بعد ما أسس النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المنهج التوحيدي بكل أبعاده وأسس الدولة العادلة وأسس السعادة الحقيقية نجد – وللأسف - هذا الانحراف في التطبيق مما سبب انحراف الأمة حتى وصلت إلى مستوى الحضيض فكان لابدّ للمنهج التوحيدي من وارث ليعيد للفطرة توجهها الحقيقي ولتسير نحو سعادتها وليبني لها هيكل العدل الذي فقدته ففقدت سعادتها. المنهج التوحيدي يقتضي أن يخلص الفطرة الإنسانية من الأصنام البشرية وهذا ما يقوم به المهدي (عجّل الله فرجه) حينما يخوض حرباً شرسة تتمثل بالقضاء على الخط السفياني الذي يمثل الفساد الداخلي للإسلام، وبعدها يقوم بالقضاء على الخط الدجّالي الذي يمثل الفساد العالمي وهذا يعني أن منهج التوحيد الخالص يخوض حرباً ضد خط النفاق، وضد خط الكفر وعندما يتم ذلك ينتقل إلى الخطوة الثانية.
بعد القضاء على الأصنام البشرية تبقى الأصنام النفسية والذاتية، وهذه لها من الخطورة الكبيرة فهي نفسها التي هدمت تطبيق المنهج التوحيدي بعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
إنّ ادخار الله (عزَّ وجل) للصفوة ٣١٣ ليس اعتباطاً بل هو عين الحكمة فإن القضية لن تنتهي عند القضاء على رموز الشر، ولو كان الأمر كذلك لتحقق أمر الإمام (عجّل الله فرجه) من زمان قريب، ولكن التطبيق للمنهج التوحيدي وغرز القوانين الإلهية في الذات بعد إن يتم فرضها في الواقع يحتاج إلى جهد معصومي، والمتمثل بالإمام (عجّل الله فرجه) وجهد الـ ٣١٣ الذين سيكونون تحت أمرته، إن عملية التطبيق والمحافظة على جو التطبيق هو أهم بآلاف المرات من القضاء على رموز الشر ولذلك نجد أمير المؤمنين (عليه السلام) يوبخ وإليه على البصرة لمجرد وليمة حضرها، وعندما تتواجد حكومة عادلة إلهية بقيادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لا تخطيء وتحتها قادة ميدانيون يطيعون قائدهم ولا ينحرفون عن أوامره قيد أنملة، وتتواجد القوانين الإلهية في كل أروقة المجتمع وتوضع الضوابط والأسس وفق مبادئ العدل فلا فرض وجبر بدون إرادة وحقوق وحرية، ولا حرية وحقوق بدون ضوابط إلهية تدخل إلى ذات الإنسان، فمع مرور الوقت تتحول الذوات الإنسانية إلى ذوات توحيدية لا تعرف إلا شعار (لا إله إلاّ الله) ومن خلال هذا الشعار ينبثق لا محالة العدل الذي يعني لا ظلم وتكون السعادة نتيجة حتمية فتعمر الذات ومن خلالها يكون هذا الإنسان يستحق لقب خليفة الله في الأرض وعندها تتفاعل العناصر الثلاثة الفطرة والعقل والغيب مع الطبيعة لتكون هناك جنينة مهدوية اسمها الأرض، أسسها المنهج التوحيدي الذي ورثه الإمام المهدي عليه السلام من جده المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن قبله أكثر من ١٢٤ ألف نبي ووصي.