طلب الثأر/ ثقافة الانتظار
الشيخ حميد عبد الجليل الوائلي
قال الإمام الحسين (عليه السلام): اللهم اطلب بدم ابن بنت نبيك.
*يناقش البحث هنا قضية الاهتمام بالتراث والنظر إليه عندما نتطلع إلى المستقبل
وذلك من خلال تسليط الضوء على مقاطع تنص على أنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هو صاحب الثأر الحسيني، وإن طلب الثأر هو ثقافة المستقبل الذي يشكل الانتظار أهم حلقاته وهذا لا يتم إلاّ بالرجوع إلى الوراء. وهذا معناه لا بدية أن يكون الماضي حاضراً في ذهنية أي فرد يريد أن يكون مهدوياً، بمعنى أن يكون من أتباع الإمام (عجّل الله فرجه) ويفهم حركته.
وهناك ملاحظة لابدّ من الالتفات إليها والتنبيه عليها قبل الخوض في مفردات البحث هي أنّ فكرة طلب الثأر رُوّج لها سلباً على نطاق واسع حتى أضحت عندما تطلق وكأنما يراد بها طرفاً بعينه ومجتمعاً خاصاً، وإنّها إنّما جاءت لضيق عاشه التشيع، وللخروج من ذلك أوجدوا فكرة الانتقام.
وبطبيعة الحال بحثنا ليس في هذه المفردة من حيث مدلولها السلبي وإنّما نريد أن نتحدث عنها باعتبارها عنصراً من ثقافة الانتظار، ولكن لأجل رفع هذا اللبس أشير إشارة عابرة إلى أنّ الأخذ بزمام العدل وإزاحة بؤر الظلم المتراكم على طول خط مسيرة التاريخ هو ليس ثأراً انتقامياً ولن يكون كذلك بأية حال من الأحوال، وقد سلطت الروايات الضوء على لون الثأر وخصوصياته، وبيّنت كيف يكون ثأراً بعيدا عن النوازع الشخصية، وغير موجه إلى جهة بعينها وجماعة من الناس بعينهم بما هم، وإنّما هذا الثأر موجه إلى من يحمل فكر العدوان، من أي لون كان ويحمل فكر إقصاء الآخر وموجه إلى من يجعل الجور وسحق الحقوق ميزاناً له في التفكير والممارسة.
يقول الإمام الرضا (عليه السلام) عندما سئل هذا السؤال: يا ابن رسول الله ما تقول في حديث روي عن الصادق (عليه السلام) يقول: إذا خرج القائم (عليه السلام) قتل ذراري قتلة الحسين (عليه السلام) ...، فقال الرضا (عليه السلام): هو كذلك!
فقلت: فقول الله (عزَّ وجل): ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ فقال (عليه السلام): صدق الله في جميع أحواله لكن ذراري قتلة الحسين يرضون أفعال آبائهم ويفتخرون بها ومن رضي شيئا كان كمن آتاه ولو أن رجلا قتل في المشرق فرضي بقتله رجل في المغرب لكان الراضي عند الله شريك القاتل، وإنما يقاتلهم القائم (عجّل الله فرجه) إذا خرج لرضائهم لفعل آبائهم.
وطبيعي أنّ معنى الرضا بهذه الأفعال والذي يتوقف عليه قتلهم إنما هو ذلك الرضا الذي يحفز صاحبه ويوجد في نفسه عقيدة تجعله يقوم بقتل الحسين (عليه السلام) حتى ولو خرج الآن وفي هذا الزمان - كما سمعت أنا من أحد المشايخ في بعض الدول العربية يقول: انّه لو خرج الحسين (عليه السلام) الآن وكان يزيد موجوداً وحاكماً وأمرني بقتله لقتلته - وهذا هو الفرد المقابل للفرد الآتي ذكره في البحث والذي يتمنى أن يُقتل تحت راية الحسين (عليه السلام)، ولكنه لم يتمكن من ذلك لبعد الزمان فسننظر حاله عندما نتناوله.
وهنا مجموعة أمور لابدّ أن تؤخذ بعين الاعتبار لأجل أن نلمس هذه الحقيقة:
١- إنّ العيش بين سنتين حتميتين، وهما سنة عدم ديمومة الإصلاح والمصلحين على طول خط الزمن وسنة انتهاء الكون بإصلاح شامل يحتّم علينا الإيمان بانتظار آخذ الثأر والتمهيد له.
٢- إنّنا لم نشهد على طول خط التاريخ أن شخصا حقق جميع أمنياته بل وأهدافه في زمان وجوده وفاعلية حركته الإصلاحية. لذلك تجد حتى سنة الله في الإرسال لأجل الإصلاح وإرساء دعائم القانون الإلهي، أنه تعالى يرسل أشخاصاً ويكملهم بأشخاص آخرين، قال تعالى: ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْويلاً﴾.
٣- إنّنا لابد أن نعلم أننا لسنا أصحاب القرار ومصدر الإرادة في هذا الوجود، بل أنّ هناك قوة تسيطر على حركتنا بمقدار معين وتؤثر في حركاتنا الإصلاحية وهي قدرة الله تعالى وإرادته، إذ ليس للفرد القدرة المطلقة ولا العجز التام في هذا الوجود، بل هو خاضع لشيء ما وراء إرادته وقدرته وهو عين نظرية الأمر بين الأمرين.
فلابدّ على الإنسان الذي يريد أن تعيش حركته الفكرية أو العملية في وجدان الناس أن يخرج عن الآفاق الضيقة، وينظر إلى الأفق الرحب، ويطلق أفكاره أو سلوكياته التي يراها صائبة وسيكفل له المستقبل بقاءها.
٤- إنّ المتتبع لما صدر من الإمام الحسين (عليه السلام) من أفعال وأقوال - مع علمه اليقيني من خلال كل المعطيات أن الحرب عسكريا خاسرة - يجد ومنذ اللحظات الأولى أن الحسين (عليه السلام) يصنع إصلاحاً انتظارياً، إذ يقول (عليه السلام): اللهم فخذ لنا بحقنا وانصرنا على من ظلمنا. بمعنى أن الإمام الحسين (عليه السلام) أو قد في نفوس الناس وفي ضمير الوجدان البشري فضلاً عن الوجدان الديني أن الإصلاح الحسيني هو إصلاح انتظاري (إنما خرجت لطلب الإصلاح) وإنّ هناك شعوراً سيوجد بعد هذه النهضة يعطي ثماراً ولكن ثماره لا تجنى بشكل كامل إلّا بعد انتظار وصبر، وإن هذا الخروج سيبقى محركاً للحس البشري وداعياً له لأن يمهد للإصلاح الشامل.
٥- إننا نجد هذا الإصلاح رُسمت له معالم تحرك الأفراد المؤمنين به على طول خط الوجود البشري وهذا المعلم يتمثل في إن ذلك المصلح مظلوم وخرج لأجل إصلاحنا، فيجب أن نرفع ظلامته ونأخذ بثأره... وقد طالعتنا النصوص عن ذلك... إذ تقول: يا أبا عبد الله لقد عظمت المصيبة بك علينا وعلى جميع أهل السماوات... لعن الله أمة قتلتكم... ولعن الله الممهدين لهم بالتمكين من قتالكم يا أبا عبد الله إني سلم لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم إلى يوم القيامة... فأسأل الله.. أن.. يرزقني طلب ثأرك مع إمام منصور من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويصف الحسين بأنه ثار الله وابن ثأره...
فهذا النص يجمع بين عظم المصيبة على أهل الأرض وأهل السماء وبين توصيف الإمام الحسين (عليه السلام) المقتول المظلوم بأنه ثار الله، وبين الدعاء من كل فرد أن يجعله الله تعالى ممن يرزقون طلب الثأر، حيث جعل طلب الثأر رزقاً، وأن يكون طلب الثأر هذا مع الإمام المنصور، وأكّد المقطع كذلك على أنّ هناك من مهد لمن يقاتل الإمام الحسين (عليه السلام) المظلوم وعليه بالمقابلة يجب علينا أن نمهد لطالب الثأر، وهذا من عناصر الانتظار: أن تكون لك قضية وأن تنتظر حصولها وأن تمهد لها.
٦- هذا يحتم علينا أن نأخذ ذلك التاريخ بعين الاعتبار وننظر إليه وأن لا ننقطع عنه وإلاّ فلن يُقدر لنا فكريا أن نفهم الحركة الإصلاحية المنشودة إذا لم نفهم الحركة الإصلاحية الممهدة (إذ أن الحركة الحسينية على هذا تكون ممهدة للحركة المهدوية المنتظرة)، ولذلك يمكن أن نقول أنّ حركة الإصلاح الحسيني من أهم الممهدات لحركة الإصلاح النهائي أو حركة الإصلاح المهدوي، وإذا لم تفهم هذه لم تفهم تلك.
٧- ينجلي لنا من خلال ذلك أن ما تحث عليه الروايات من طلب الثأر- ليس بمعناه الفردي الشخصي الذي قد ينسبق لدى الذهنية الضيقة لأنّه - طلب الثأر - من أهم مرتكزات الانتظار فيكون إبعادهُ عن اجوائه مميتا له ويجعله انتظاراً فاقداً للروح والحيوية المحركة له.... فعن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أفضل الأعمال - وفي بعض النصوص العبادة- انتظار الفرج. وليس ذلك إلاّ لما سيتحقق على يديه من إرساء العدل وإقامة الحق فيتجلى ما قاله الإمام الصادق (عليه السلام) من أن الأمّة لا توفق حتى يأخذ الثائرُ بثأر الإمام الحسين (عليه السلام) لأنه أبرزُ تجسيد للعدل ولا يتحقق إلا برفع الظلم وقد اكّد ذلك حديث آخر للصادق (عليه السلام) مؤكّداً أن الفرج لا يُرى، ولا يرتفع البلاءُ الذي نزل بقتل المظلوم في كربلاء إلاّ بأخذ الثأر، وهذا نفس ما أكّد عليه الإمام الحسين (عليه السلام) بنفسه مرة في بداية حركته وهو في ساحة القتال مخاطباً من يريد قتله أن هناك من سيتسلط عليكم وينتقم لدمي ودم من قتل معي (الّلهم... وسلط عليهم غلام ثقيف... ينتقم لي ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي منهم) وهو يعكس لنا أن الإمام الحسين (عليه السلام) من أول الأمر يرشد الناس ويهئ الذهنية لحالة الترقب والانتظار للقضاء على الظلم وفي نفس الوقت يحفز الناس على سلوك هذا الطريق ويؤكد ذلك لولده زين العابدين (عليه السلام) إذ يقول له: يا ولدي يا علي والله لا يسكن دمي حتى يبعث الله المهدي (عليه السلام) فيقتل على دمي المنافقين والكفرة.
وهو بذلك يؤكد حالة الانتظار الثأري، وأن هذا الدم سيكون شعاراً لكل من يقومُ بالعدل ويريد إرساء قواعد القسط ورفع الظلم.
لذلك نجد أنّ هناك حقيقة أرستها الروايات ينبغي الالتفات إليها والتمعن فيها وهي الترابط بين الأخذ بالثأر والقيام المهدوي من خلال التأكيد على أنّ ذلك القيام سيكون يوم عاشوراء فاختيار يوم عاشوراء ليس له معنىً في قبال بقية الأيام إلاّ لأجل أنْ تترسخ حالة الترابط بين الانتظار والأخذ بالثأر، إذ يقول الإمام الباقر (عليه السلام): إنّ يوم عاشوراء هو اليوم الذي يقوم فيه المهدي (عليه السلام). ويؤكد في حديث آخر يظهر منه ما أشرنا إليه إذ ينص على أنّ القيام يكون في اليوم الذي قتل فيه الإمام الحسين (عليه السلام) لكي يملأ الأرض عدلاً وهذا يؤكد الترابط بين العدل ويوم عاشورا، وإن الانتظار لطلب الثأر حقيقة يجب أن تعاش في ضمير الفرد.
بل وصل الأمر في التأكيدات الصادرة عن أهل البيت (عليهم السلام) روائياً إلى أنّ نصر الإمام الحسين (عليه السلام) إنما يكون بالمهدي (عجّل الله فرجه) وقيامه.
قال تعالى: ﴿وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ حيث قال القمي: إن الله ينصر الحسين بالقائم (عليهما السلام) من ولده.
وهذا أفضل توصيف تخرج به الروايات لتجسد لنا أن حالة الأخذ بالثأر هي ثقافة الانتظار رجاء ظهور المنقذ وأخذه بالثأر.
٨- وعلى هذا السير ننتهي إلى حقيقة يجب أن تأخذ لها حظاً من الاهتمام الفكري بعد أن نلتفت إلى أنها حقيقة تعيش في الوجدان لا يمكن الاستغناء عنها ومفادها إن الرجوع إلى الوراء لاقتناص الأفكار واستلهام العبر من الماضي ليس تخلفاً بل هو حضارة ورقي وتقدم، فيصح أن نقول إن السير إلى الوراء تقدم وثقافة لا تخلف.
٩- تأتي هنا نتيجة عملية لمن يؤمن بهكذا سير مفادها كيف يمكن للشخص أن يكون من الأفراد الممهدين والمنتظرين للأخذ بالثأر وهو لا يعيش حالة الحضور الدائم للقضية في وجدانه؟
لذلك نجد الدعاء يحث على هذه الحالة لمن لم يكن حاضرا للنصرة إبّان بداية الحركة الإصلاحية والدعاء يحكي حال هذا الفرد فيقول: (فلئن أخّرتني الدهور وعاقني عن نصرك المقدور... فلأندبنك صباحاً ومساءً ولأبكينّ عليك بدل الدموع دما)، وهذا معناه إيقاظ حالة الشعور الدائم بالتقصير، وفي نفس الوقت حالة الشعور الدائم بالاستعداد للنصرة. وهذا قد يفسر لنا أهمية زماننا بالنسبة لنا وأفضليتنا على أهل بدر على ما نقل عن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنّ الواحد منا له أجر خمسين ممن كانوا معه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلل ذلك (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إننا نتحمل مالم يتحملوا ونصبر على مالم يصبروا، وطبيعي ليس معيارية ذلك في البدن بل بالفكر والتعقل، لأنّ أبدان أولئك بلا شك أقوى في التحمل وأنفسهم أقدر على الصبر.
١٠- وهذا لا يعني بأية حال من الأحوال جمودية الإنسان وانزوائه بل يعني الاستثمار الأمثل للطاقة، فالفرد وكما هو ساع وباستمرار على ديمومة حياته المادية المتمثلة بالطعام والشراب وبقية الملذات التي حددتها الشرائع والأعراف، فكذلك ليستثمر رأس المال هذا في جمع أرباح إلى دار قراره.
ومن روائع الشريعة إنها ألبست الاستثمارين في فعل واحد فعمل واحد، فيه لذة ومنفعة للمادة، وهو في نفس الوقت يكسب لذة ومنفعة للآخرة لذلك ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): إنّ أهل الدنيا - أي الذين ينجمدون على الدنيا - ليس لهم في دولة القائم نصيبا.