جرائم جعـفر الكذّاب
السيّد محمّد القبانجي
تردَّدتُ كثيراً في الكتابة عن هذه الشخصية باعتبارها من شخصيات أهل البيت عليهم السلام، فهو ابن إمام وأخو إمام وعمّ إمام، وقد اُمرنا بتقدير واحترام من ينتسب إلى هذه الشجرة المباركة حتَّى وإن كان يشوبه خلل في تصرّفاته، فعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّي شافع يوم القيامة لأربعة أصناف ولو جاؤوا بذنوب أهل الدنيا: رجل نصر ذرّيتي، ورجل بذل ماله لذرّيتي عند المضيق، ورجل أحبَّ ذرّيتي باللسان وبالقلب، ورجل يسعى في حوائج ذرّيتي إذا طُرّدوا أو شُرّدوا.
مضافاً إلى ما يتردَّد على الألسن من توبته عن أفعاله الشنيعة وتصرّفاته اللامسؤولة.
ولكنّي كلَّما نظرت في جرائمه الفظيعة تجاه أهل البيت (عليهم السلام) كلَّما هاج بي الحزن واعتصر قلبي الألم ممَّا فعله هذا الشخص من أمور يندى لها جبين الإنسانية، إذ انَّها تعدل بل تزيد على ما فعله جيش ابن زياد بمعسكر الإمام الحسين (عليه السلام) في بعض جوانبها.
ويا ليت أنَّ هذا الرجل كانت مخالفاته على مستوى نفسه وشخصه فقط لكان الأمر هيّناً، والطوي عنه كشحاً هو الأولى لما ذكر سابقاً من قربه لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) (والمرء يكرم في ولده)، وسيحاسبه الله جرّاء ذنوبه.
إذن لو كان الأمر مقتصراً على شخصه لما تحدَّثنا عنه قيد أنملة، فالتاريخ أغنانا عن ذلك، فقد أثبت أنَّه كان مستهتراً بالدين، ويكفيه سقوطاً أخلاقياً شربه للخمر وقماره في الجوسق ولعبه بالطنبور وتركه للصلاة، وقد وصفه الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في توقيعه بقوله: ...وقد ادَّعى هذا المبطل المفتري على الله الكذب بما ادّعاه، فلا أدري بأيّة حالة هي له رجاء أن يتمّ دعواه، أبفقه في دين الله؟ فوَ الله ما يعرف حلالاً من حرام ولا يفرّق بين خطأ وصواب، أم بعلم فما يعلم حقّاً من باطل، ولا محكماً من متشابه، ولا يعرف حدّ الصلاة ووقتها، أم بورع فالله شهيد على تركه الصلاة الفرض أربعين يوماً، يزعم ذلك لطلب الشعوذة، ولعلَّ خبره قد تأدّى إليكم، وها تيك ظروف مسكره منصوبة، وآثار عصيانه لله (عزَّ وجل) مشهورة قائمة، أم بآية فليأتِ بها، أم بحجّة فليقمها، أو بدلالة فليذكرها... .
ولكن الذي يدعو إلى ضرورة الحديث عنه ووضع النقاط على الحروف في شخصيته هو تعدّيه وتجاوزه على الساحة المقدَّسة للإمامة، ويمكن بيان جرائمه بما يلي:
١- المشاركة في قتل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وذلك من خلال الوشاية به، حيث إنَّ الإمام (عليه السلام) كان يصرّح بأنَّ أخاه (جعفر) يتمنّى قتله، فكان يقول: ولو تهيَّأ لجعفر قتلي لفعل.
٢- الوشاية بوجود الخلف عند السلطان، فقد جاء عن أبي الأديان أنَّه قال: ... فدخل جعفر الكذّاب على المعتمد وكشف له وجود خلف الحسن (عليه السلام)...
٣- ادعاؤه منصب الإمامة بعد أخيه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، ولم نشهد أحداً من أولاد الأئمّة ادّعاها لنفسه سوى عبد الله الأفطح ابن الإمام الصادق (عليه السلام)، مع افتضاح أمره بالاستهتار والخلاعة، ومقارنة ببني أميّة وبني العبّاس نجد أنَّه لم يدَّع أحد منهم الإمامة الروحية للناس، بل كان كلّ همّهم منازعة أهل البيت (عليهم السلام) في سلطان الدنيا والخلافة الظاهرية طمعاً في فتاتها، فقد ورد أنَّ جعفر الكذّاب حمل إلى الخليفة عشرين ألف دينار لمَّا توفّي الحسن بن علي (عليهما السلام)، وقال: يا أمير المؤمنين تجعل لي مرتبة أخي الحسن ومنزلته...
٤- محاولته قتل الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بكلّ وسيلة ممكنة، فقد ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنَّه قال: ...كأنّي بجعفر الكذّاب وقد حمل طاغية زمانه على تفتيش أمر وليّ الله، والمغيَّب في حفظ الله، والتوكيل بحرم أبيه، جهلاً منه بولادته، وحرصاً منه على قتله إن ظفر به، (و) طمعاً في ميراثه حتَّى يأخذه بغير حقّه.
٥- الإغارة على بيت الإمام (عليه السلام) ونهب ممتلكاته وأثاثه وكلّ ما أمكن حمله، فقد ذكر أبو الحسين الحسن بن الوجناء، قال: حدَّثني أبي، عن جدّه أنَّه كان في دار الحسن بن علي (عليه السلام) فكبستنا الخيل وفيهم جعفر الكذّاب، واشتغلوا بالنهب والغارة...
٦- بيع العلويات في سوق النخّاسين، وهذا الموقف ممَّا تقشعر منه الأبدان، فحتَّى يزيد وابن زياد لم يجسرا على هذا العمل الشنيع مع سبايا الإمام الحسين (عليه السلام)، رغم كلّ ما ارتكبوه من إجرام، فقد روى الكليني عن علي بن محمّد، قال: باع جعفر فيمن باع صبية جعفرية كانت في الدار يربّونها، فبعث بعض العلويين وأعلم المشتري خبرها، فقال المشتري: قد طابت نفسي بردّها وأنْ لا أرزأ من ثمنها شيئاً، فخذها، فذهب العلوي فأعلم أهل الناحية الخبر، فبعثوا إلى المشتري بأحد وأربعين ديناراً وأمروه بدفعها إلى صاحبها.
٧- منازعته ميراث الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وهذا ما لا تقول به الطائفة الحقّة على الإطلاق حتَّى إذا لم يكن هناك ولد للإمام العسكري (عليه السلام) مع وجود الجدَّة أي اُمّ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، فإنَّ الميراث لها بلا منازع، لأنَّها من الطبقة الأولى وهي تحجب الإخوة فهم من الطبقة الثانية، وقد دلَّت الروايات على منازعته في الميراث كما ورد عن محمّد بن صالح بن علي بن محمّد بن قنبر الكبير مولى الرضا (عليه السلام)، قال: خرج صاحب الزمان على جعفر الكذّاب من موضع لم يعلم به عندما نازع في الميراث بعد مضي أبي محمّد (عليه السلام)، فقال له: يا جعفر ما لك تعرض في حقوقي؟، فتحيَّر جعفر وبهت، ثمّ غاب عنه.
٨ - سعيه لحبس أُمّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وبقيّة جواري الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، فقد ذكر صاحب (الهداية الكبرى)، قال: وهو الذي سعى بجارية أخيه الحسن بن علي إلى السلطان وقال له: إنَّ أخي توفّي ولم يكن له ولد وإنَّما خلَّف حملاً في بطن جاريته نرجس، وأخذت هي وورداس الكتابية جاريتا الحسن بن علي من داره في سوق العطش وحبستا سنتين فلم يصح على نرجس ما ادَّعى عليها ولا غيرها فأطلقتا.
ومع هذه الجرائم الفظيعة الثابتة عنه لا يمكن الذهاب إلى توبته بعد ذلك وتسميته بجعفر التوّاب، كيف وقد سمّاه الله تعالى بجعفر الكذّاب، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً﴾ (النساء: ١٢٢)؟
فقد جاء في الرواية عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنَّه قال: حدَّثني أبي، عن أبيه (عليهما السلام) أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: إذا ولد ابني جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) فسمّوه الصادق، فإنَّ للخامس من ولده ولداً اسمه جعفر يدَّعي الإمامة اجتراءً على الله وكذباً عليه، فهو عند الله جعفر الكذّاب المفتري على الله (عزَّ وجل)... .
فجرائمه في حقّ أهل البيت (عليهم السلام) دراية وعلم، وتوبته رواية وظنّ، ولا تُقدَّم الرواية على الدراية. هذا لو كانت الرواية صريحة، فكيف والحال عدم وجود دلالة لا بالصراحة ولا الظهور في هذا الباب، بل كلّ ما هنالك إشارة واحتمال من قول الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في التوقيع الشريف الصادر عنه (عجّل الله فرجه) حينما سُئل عن عمّه فقال: أمَّا سبيل عمّي جعفر وولده فسبيل إخوة يوسف (عليه السلام).
وليت شعري فهل يدلُّ ذلك على توبة الرجل، بل هو على انحرافه أدل، إذ شبّه بإخوة يوسف إذ حسدوه على ما أنعم الله عليه، وليس بالضرورة أن يكون الشبه من كلّ ناحية، أي الحسد ثمّ التوبة، بل يكفي جهة واحدة لتصحيح التشبيه، خصوصاً مع تأكيد الروايات على ذكر حسده سواء لأخيه الحسن العسكري (عليه السلام) أو لابن أخيه الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، فقد جاء في الرواية عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قوله: فو الله ما مثلي ومثله إلاَّ مثل هابيل وقابيل ابني آدم حيث حسد قابيل لهابيل على ما أعطاه الله لهابيل من فضله. وقال الإمام زين العابدين (عليه السلام): ...فهو عند الله جعفر الكذّاب المفتري على الله (عزَّ وجل)، والمدَّعي لما ليس له بأهل، المخالف على أبيه والحاسد لأخيه... .
مضافاً إلى ذلك فإنَّ الأعلام - ممَّن نقل هذا التوقيع أو اطَّلع عليه - لم يفهموا توبته من خلال التوقيع، بل ذكروا جعفراً بكلّ سوء، حيث قال المفيد رحمه الله في (الإرشاد) بعد ذكر بعض أفعاله: ولجعفر أخبار كثيرة في هذا المعنى، رأيت الإعراض عن ذكرها لأسباب لا يحتمل الكتاب شرحها، وهي مشهورة عند الإمامية ومن عرف أخبار الناس من العامّة، كما ذكر في (الفصول العشرة) سبب عدم التفصيل في جرائمه أموراً منها: كثرة من يعترف بالحقّ من ولد جعفر بن علي في وقتنا هذا...، ويكره إضافة خلافه لمعتقده فيه إلى جدّه...، والعشرة الجميلة لهؤلاء السادة أيَّدهم الله بترك إثبات ما سبق به من سمَّيت في الأخبار التي خلَّدوها فيما وصفت أولى.
وقال الطوسي (رحمه الله) في (الغيبة) بعد أن ذكر رواية أثبت فيها سكره واستهتاره: وما روي فيه وله من الأفعال والأقوال الشنيعة أكثر من أنْ تحصى ننزّه كتابنا عن ذلك.
بل لو كان تائباً وكانت توبته مقبولة عند الله لصرَّح الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بذلك ودافع عن عمّه مع وجود الدواعي الكثيرة للتصريح، بينما نجد أنَّ الإمام شبَّهه بإخوة يوسف (عليه السلام)، والمتبادر من التشبيه بهم في هذا المورد وغيره من الموارد هو مورد الحسد وليس التوبة.