دعوى السفارة في الغيبة الكبرى
الجزء الأول والثاني
سماحة الشيخ محمد السند
تقديم وتحقيق: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)
رقم الإصدار: ٢٨٨
الطبعة الثالثة (المحققة) ١٤٤٤هـ
الفهرس
مقدَّمة المركز للطبعة الأُولى..................٣
تمهيد..................٥
الغيبة الصغرى والنيابة الخاصَّة..................٥
خطورة النيابة الخاصَّة..................٦
المدَّعون للسفارة مع باقي الأئمَّة (عليهم السلام)..................٩
الضرورة على انقطاع السفارة..................٩
التشرُّف باللقاء والنيابة..................١٠
محدوديَّة صلاحيَّة النيابة..................١٢
الانقطاع ومعنى الغيبة..................١٢
عقيدة الانتظار..................١٣
التفقُّه في الدِّين اعتصام من الضلال..................١٤
نماذج قرآنيَّة في القدرة التكوينيَّة لرُوَّاد الضلال..................١٧
مفهوم العدالة يُقلَب إلى العصمة المكتسبة وذريعة التأويل..................٢٢
تنويع البحث..................٢٥
الفصل الأوَّل: في الفرق بين السحر والمعجزة والكرامة..................٣١
الفصل الثاني: في كون انقطاع النائب الخاصِّ للإمام (عجَّل الله فرجه) عقيدة من ضروريَّات مذهب الإماميَّة الاثني عشريَّة..................٥٥
الأمر الأوَّل: معنى النيابة لغةً..................٥٧
الأمر الثاني: كلمات علماء الطائفة..................٥٨
الأمر الثالث: النيابة العامة للفقهاء..................٨٧
الأمر الرابع: منابع الشريعة..................٩٨
الأمر الخامس: الرؤيا ليست مصدراً للتشريع..................١١٩
جواب شبهة: «مَنْ رَآنِي فِي مَنَامِهِ فَقَدْ رَآنِي»..................١٣٠
الأمر السادس: نبذة من أحوال النُّوَّاب الأربعة في الغيبة الصغرى..................١٤٧
الأمر السابع: ذكر المذمومين الذين ادَّعوا البابيَّة (لعنهم الله)..................١٦٥
أوَّلهم: المعروف بالشريعي..................١٦٥
ومنهم: محمّد بن نصير النميري..................١٦٦
ومنهم: أحمد بن هلال الكرخي..................١٦٧
ومنهم: أبو طاهر محمّد بن عليّ بن بلال..................١٦٧
ومنهم: الحسين بن منصور الحلَّاج..................١٦٩
ومنهم: ابن أبي العزاقر..................١٧١
نسخة التوقيع الخارج في لعنه..................١٧٧
ذكر أمر أبي بكر البغدادي ابن أخي الشيخ أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) وأبي دلف المجنون..................١٧٩
الأمر الثامن: ثواب الثبات والتمسُّك بالدِّين في الغيبة الكبرى..................١٨٣
الأمر التاسع: تفسير الكتاب الوارد من الناحية المقدَّسة على الشيخ المفيد (رحمه الله) وتشرُّف عدَّة من أساطين الفقه والعلم بلقائه (عجَّل الله فرجه)..................١٩٣
الأمر العاشر: من هم الأبدال والأوتاد؟..................٢٠٣
الفصل الثالث: في الفِرَق التي انحرفت عن الطائفة الإماميَّة وكيفيَّة انحرافها..................٢١٣
الغلاة..................٢١٥
ومنها: الخطَّابيَّة..................٢١٦
ومنها: الحارثيَّة..................٢١٨
ومنها: المنصوريَّة..................٢١٩
ومنها: أصحاب السري..................٢٢٠
ومنها: البيانيَّة..................٢٢١
ومنها: أصحاب حمزة بن عمارة الزبيدي البربري..................٢٢٣
ومنها: المغيريَّة..................٢٢٤
ومنها: أصحاب بزيع بن موسى الحائك..................٢٢٤
ومنها: البشيريَّة..................٢٢٥
ومنها: أصحاب مَعْمَر بن خيثم..................٢٢٧
الفصل الرابع: في تاريخ البابيَّة في إيران..................٢٤٩
الخاتمة..................٢٧٥
الأمر الأوَّل: في خروج الدجَّال..................٢٧٧
الأمر الثاني: في علامات ظهور الحجَّة (عجَّل الله فرجه) وعدَّة أصحابه..................٢٧٩
الأمر الثالث: في مدح العلم وذمِّ الجهل..................٢٨٤
الجزء الثاني..................٢٨٧
الفصل الأوَّل: العقول والخواطر..................٢٨٩
عبادة العقل..................٢٩١
مرتبة ومساحة حجّيَّة العقل..................٢٩٤
الخواطر ومسؤوليَّة بناء الذات..................٣٠٠
فلسفة استعراض الماضي..................٣٠٢
الفصل الثاني: منظومة المعارف الدِّينيَّة..................٣٠٧
المحور الأوَّل: الدِّين..................٣٠٩
موالاة أهل البيت (عليهم السلام) من الدِّين..................٣١٣
المحور الثاني: الملَّة..................٣١٥
المحور الثالث: الشريعة..................٣١٦
المحور الرابع: المنهاج..................٣١٧
المحور الخامس: الطريقة..................٣١٧
المحور السادس: الحكمة..................٣١٧
مساحات التشريع..................٣١٨
بعض شُبَه العلمانيَّة..................٣٢٠
الفصل الثالث: فتنة البصيرة..................٣٢١
فتنة البصيرة أشدّ الفتن..................٣٢٥
تفاوت البصائر..................٣٢٧
اليهود وفتنة العجل..................٣٢٩
الحكمة من فتن البصائر..................٣٣٣
النصارى وفتنة قتل عيسى (عليه السلام)..................٣٣٤
الفتنة محكُّ البصيرة..................٣٣٧
التوسُّل بالنبيِّ وآله من الاختبارات في البصيرة..................٣٣٩
تعدُّد الرؤى والأنظار يُنمِّي البصيرة..................٣٤١
تنوُّع الآيات امتحان للبصائر..................٣٤٢
أصحاب الكساء ركن المهدويَّة..................٣٤٤
طريق تخطِّي فتن البصائر..................٣٤٥
حقيقة التباس الحُجَج..................٣٤٦
اتِّباع بقيَّة الأنبياء في زمن سيِّد الرُّسُل ضلال..................٣٤٧
جميع الأنبياء على دين الخاتم..................٣٤٨
الفصل الرابع: حقيقة ومراتب الحُجَج..................٣٥٣
حقيقة معرفة الحُجَج..................٣٥٥
معنى المتشابَه..................٣٥٦
الحسُّ يقين وظنٌّ..................٣٥٧
لا تقاطع ولا إقصاء في الحُجَج..................٣٥٩
حجّيَّة الفقهاء في دولة الظهور..................٣٦١
أُمومة بديهيَّات العقل في المعرفة..................٣٦٥
أنواع الحُجَج مفتاح البصائر..................٣٧١
مراتب الحُجَج..................٣٧٢
تراتب حجّيَّة الأئمَّة (عليهم السلام)..................٣٨٦
الفصل الخامس: القواعد الرقابيَّة في المعرفة..................٣٩٣
بديهيَّات العقل أُولى القواعد..................٣٩٥
ضروريَّات دين الله ثاني القواعد..................٣٩٧
سُنَن الأنبياء (عليهم السلام) ثالث القواعد..................٣٩٩
مواقف الزهراء (عليها السلام) رابع القواعد الرقابيَّة..................٤٠٥
منهاج الأئمَّة (عليهم السلام) خامس القواعد الرقابيَّة..................٤١١
الواقع والاستكشاف في الحُجَج..................٤١٤
أهمّيَّة الحوزات العلميَّة الدِّينيَّة..................٤١٦
بين البصيرة والتمرُّد..................٤١٩
الغلوُّ والتقصير تعريف آخر..................٤١٩
القواعد الرقابيَّة وحفظ ثقافة أهل البيت (عليهم السلام)..................٤٢٦
القواعد الرقابيَّة والشلمغاني والعبرتائي..................٤٢٩
بواعث الانحراف..................٤٣١
الفصل السادس: النيابة الخاصَّة..................٤٣٩
أصحاب السرِّ..................٤٤١
التأويل مع الظاهر لا الضروري..................٤٤٦
تطابق الشريعة ظاهراً وباطناً..................٤٤٦
سقوط الحجّيَّة..................٤٤٩
إمكانيَّة الانحراف والنائب الخاصُّ..................٤٥١
السفير والنائب قد يفقد حجّيَّته..................٤٥٣
دعوة للتوازن..................٤٥٦
ضرورة الدراسات العقائديَّة..................٤٥٧
الدليل الإثباتي للنيابة الخاصَّة..................٤٥٩
خطورة السفارة ودليلها..................٤٦١
انضباط قنوات الحجّيَّة للغيب..................٤٦٤
شُبُهات عنكبوتيَّة واهية..................٤٦٨
في عصر المهديِّين الاثني عشر..................٤٧٠
الفصل السابع: حقيقة النيابة الخاصَّة والسفارة..................٤٧٥
أدلَّة انقطاع النيابة الخاصَّة والسفارة..................٤٧٧
الدليل الأوَّل..................٤٧٧
الدليل الثاني..................٤٧٨
ضابطة صارمة علامة لعصر الظهور..................٤٨١
الدليل الثالث..................٤٨٢
الدليل الرابع..................٤٨٢
الدليل الخامس..................٤٨٢
الدليل السادس..................٤٨٤
منابع الشريعة..................٤٨٤
عدم حجّيَّة تلقِّي غير المعصوم..................٤٨٧
افتراق الريب عن الفحص العلمي..................٤٨٨
رفع اليد عن أدلَّة اليقين مقابل توهُّمات..................٤٨٩
عدم حجّيَّة إلهام أو رؤية غير المعصوم..................٤٩١
الارتباط بالغيب نبوَّة أم إمامة أم للكلِّ..................٤٩١
تفاوت درجات الصدق..................٥٠١
ضعف ومحدوديَّة الإدراك القلبي لغير المعصوم..................٥٠٣
كشف المعصوم القرآن والسُّنَّة..................٥٠٤
سبب اختلاف المعصوم في التلقِّي مع غيره..................٥٠٥
العدالة تغاير العصمة..................٥٠٦
العلوم الغريبة المكتسبة ووهم إعجازها..................٥٠٨
توصية روايات الظهور بخطورة الدجل..................٥٠٩
التشرُّف برؤية الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لا يعني الحجّيَّة..................٥١١
رياضات النفس وفعل الأعاجيب..................٥١٢
حدود النيابة الخاصَّة والسفارة..................٥١٦
ثبات فقه مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ومصادره..................٥١٦
ضرورة الموازين في قراءة الدِّين..................٥١٨
كفر مُدَّعي السفارة..................٥٢٠
عناوين دعوى السفارة..................٥٢٣
حركات ونهضات رايات سنة الظهور..................٥٢٥
الخلط بين أحوال الرجعة وما قبل الظهور..................٥٢٧
حقيقة السفارة والنيابة الخاصَّة..................٥٢٨
الفصل الثامن: مفهوم الغيبة بين الإفراط والتفريط..................٥٣٣
الإفراط والتفريط في الغيبة..................٥٣٥
حقيقة الغيبة والظهور..................٥٤٢
شواهد التصدِّي للإمامة الفعليَّة..................٥٤٦
الغيبة والتقيَّة وقمَّة النشاط..................٥٥١
لولا إدارة الإمام لشؤون الحياة على الأرض لساخت..................٥٥٣
جهاز تدبير الإمام..................٥٥٥
معنى أعمق للغيبة..................٥٥٩
الفصل التاسع: التوقيت والظهور..................٥٦٣
كيف ننصر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)؟..................٥٦٥
التوقيت والتفاؤل..................٥٧٩
المصادر والمراجع..................٥٨٣
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدَّمة المركز للطبعة الأولى:
دأب مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ومنذ تأسيسه بعد سقوط النظام في النجف الأشرف على وضع اللبنات الأُولى لتأصيل الفكر المهدوي، وتعميق ثقافة الانتظار بين أبناء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في العراق وخارجه، وذلك من خلال الأُطُر العامَّة، والخُطَط المعرفيَّة التي وضعها منهاجاً يسير على خطاه، وكان من جملة هذه البرامج هي إقامة دورات علميَّة تخصُّصيَّة تهتمُّ ببيان الجوانب المعرفيَّة في الثقافة المهدويَّة، وذلك باستضافة الشخصيَّات العلمائيَّة، وفضلاء الحوزة العلميَّة، وأساتذتها ممَّن تشهد لهم الساحة العلميَّة بطول الباع، وعمق النظر، والإحاطة المستوعبة في مختلف جوانب قضيَّة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وكان ممَّن تشرَّف المركز بدعوته سماحة الفقيه المحقِّق الشيخ محمّد السند (دام عزُّه)، حيث عقد المركز لسماحته دورة تخصُّصيَّة حضرها العشرات من طلبة الحوزة العلميَّة، وذلك في شهر صفر سنة (١٤٢٧هـ) في النجف الأشرف في جامع الهندي، ولـمَّا كانت الحاجة ماسَّة، والساحة العلميَّة بحاجة إلى أمثال هذه البحوث القيِّمة التأصيليَّة في الفكر الشيعي، وذلك لوجود الشُّبُهات الفكريَّة في القضايا العقيديَّة بشكلٍ عامٍّ، وعقيدة الإمام
↑صفحة ٣↑
المهدي (عجَّل الله فرجه) بشكلٍ خاصٍّ، قام المركز بتحرير الدرس، وتقويم النصِّ، وربط الأبحاث وتوحيدها، وتخريج المصادر، والتعليق على الكثير من البحوث، لبيان إيضاح، أو تأييد فكرة، ودعم معلومة، أو غير ذلك ممَّا له دخل في شموليَّة البحث واستيعابه، وعرضه بأُسلوب يُحصِّل أكثر قدر ممكن من الفائدة العلميَّة.
وأسميناه (دعوى السفارة في الغيبة الكبرى الجزء الثاني)، كما ارتأى المركز - بعد استحصال موافقة المؤلِّف - طباعة الجزء الأوَّل من دعوى السفارة مع الجزء الثاني باعتبار وحدة الموضوع فيهما، وأنَّ أحدهما مكمِّل للآخر، فقام المركز بإعادة تحقيق الجزء الأوَّل، وإخراج مصادر الروايات والأحاديث، وتصحيح الأخطاء المطبعيَّة، وغيرها من الأُمور الفنّيَّة.
فكان نتاج هذا الجهد أنْ خرج هذا الكتاب بجزئيه الأوَّل والثاني بمثل هذه الحُلَّة القشيبة، راجين من الله تعالى القبول والتوفيق، ومن صاحب الأمر (عجَّل الله فرجه) الرعاية والرضا.
مدير المركز
السيِّد محمّد القبانچي
(١٤٢٩هـ)
↑صفحة ٤↑
الحمد لله باعث الرُّسُل، وجاعل الخلفاء، لكي لا تخلو الأرض من حجَّة لله بالغة على الناس. والصلاة والسلام على سيِّد المرسَلين للنَّاس كافَّة، رحمةً للعالمين، المبشِّر بأنَّ المهدي من ذرّيَّته من نسل البتول المطهَّرة، وعلى آله الأوصياء حُجَج الله على الخلق.
وبعد..
فإنَّ نجوم أهل البيت (عليهم السلام) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً، لا يغيب منهم نجم إلى الدار الآخرة إلَّا ويطلع آخر، حتَّى انتهى الأمر إلى بقيَّة الله في الأرضين، صاحب الأمر، المهدي الحجة بن الحسن العسكري (عليهما السلام)، الذي يملؤها قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً. وقد وقعت المشيئة الإلهيَّة أنْ يكون هذا العَلَم المنصوب، والعِلْم المصبوب، والغوث، والرحمة الواسعة في ستار الخفاء، والحجاب المسدول عن التعرُّف على شخصه وهويَّته من قِبَل معسكر الظالمين والمستكبرين، يمارس مهامَّه ودوره المرسوم من قِبَل الباري تعالى، وهو صاحب ليلة القدر في عصورنا هذه.
الغيبة الصغرى والنيابة الخاصَّة:
لقد هيَّأ الباري (عزَّ اسمه) المؤمنين لغيبة وليِّه (عجَّل الله فرجه) الطويلة المتمادية قروناً بغيبة صغرى قد نصب فيها نُوَّاباً وسفراء له أربعة:
↑صفحة ٥↑
أوَّلهم: عثمان بن سعيد العمري.
والثاني: ابنه محمّد بن عثمان العمري.
والثالث: الحسين بن روح النوبختي.
والرابع: عليُّ بن محمّد السمري.
ابتدأت من عام وفاة الإمام أبي محمّد الحسن بن عليٍّ العسكري (عليه السلام) (٨/ ربيع الأوَّل/ ٢٦٠هـ) إلى (١٥/ شعبان/ ٣٢٩هـ) تاريخ وفاة السمري، فطاولت ما يزيد على (٦٩) عاماً، وكانت لهؤلاء الأربعة مكانة خاصَّة، ونيابة خاصَّة يلتقون من خلالها مع الإمام (عجَّل الله فرجه)، ويوصلون أوامره وتوجيهاته إلى الطائفة الناجية وعلمائها.
وهذه النيابة الخاصَّة لم تعهدها - على الصعيد الرسمي والعلني - الطائفة قبل ذلك مع الأئمَّة السابقين (عليهم السلام)، وإنْ كان لديهم وكلاء ونُوَّاب خاصُّون، إلَّا أنَّ هذه النيابة الخاصَّة للأربعة كانت تمتاز بصلاحيَّات خاصَّة للنائب تتَّصل بشؤون غيبيَّة، نظير ما لأصحاب القائم (عجَّل الله فرجه) الـ(٣١٣) في عصر الظهور من صلاحيَّات غيبيَّة، ومقامات معنويَّة فائقة، ويكفي في الإشارة إلى ذلك تسميتها بالسفارة.
خطورة النيابة الخاصَّة:
وبالنظر لخطورة هذا الموقع السامي فقد كانت الطائفة وعلماؤها يقومون بامتحان هؤلاء الأربعة بنحوٍ مستمرٍّ، مع أنَّ الإمام العسكري (عليه السلام) قد نصَّ لدى وجهاء الطائفة وعلمائها على نيابة العمري وابنه عن الناحية
↑صفحة ٦↑
المقدَّسة (عجَّل الله فرجه)، كما ذكر ذلك الشيخ الطوسي (رحمه الله) في كتابه (الغيبة)(١)، وهذا المنطق ليس غريباً عند أتباع أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، حيث إنَّ المسار الدِّيني لديهم قائم على الدليل والبرهان والبيِّنات، بدءاً من ضرورة المعجزة على نبوَّة الأنبياء (عليهم السلام)، وعلى إمامة الأئمَّة (عليهم السلام)، مضافاً إلى النصوص الإلهيَّة الواردة من كلِّ نبيٍّ سابق على النبيِّ اللَّاحق، ومن سيِّد الأنبياء على سيِّد الأوصياء وولده، ومن الإمام السابق على الإمام اللَّاحق، ويتَّصل بخطورة مقام النيابة الخاصَّة ملاحظة ظاهرة فقهيَّة لدى علمائنا المعاصرين للغيبة الصغرى، ولأوائل الغيبة الكبرى، وهو اللعن والبراءة من المدَّعين الكاذبين، والطرد لهم عن الطائفة، وهذا الموقف تبعاً لما صدر من التوقيعات من الناحية المقدَّسة حول بعضهم.
وفي هذا السياق أيضاً ما يُلاحَظ في زيارة قبورهم التي رواها الشيخ (رحمه الله) في (التهذيب): «جِئْتُكَ مُخْلِصاً بِتَوْحِيدِ اَلله، وَمُوَالَاةِ أَوْلِيَائِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَعَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اَلله اَلْحَسَنِيَّيْنِ، قَالَا: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ اَلْحَسَنِ (عليه السلام) بِسُرَّ مَنْ رَأَى، وَبَيْنَ يَدَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَشِيعَتِهِ، حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ بَدْرٌ خَادِمُهُ، فَقَالَ: يَا مَوْلَايَ، بِالْبَابِ قَوْمٌ شُعْثٌ غُبْرٌ، فَقَالَ لَهُمْ: «هَؤُلَاءِ نَفَرٌ مِنْ شِيعَتِنَا بِالْيَمَنِ...» فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ يَسُوقَانِهِ، إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى أَنْ قَالَ اَلْحَسَنُ (عليه السلام) لِبَدْرٍ: «فَامْضِ فَائْتِنَا بِعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ اَلْعَمْرِيِّ»، فَمَا لَبِثْنَا إِلَّا يَسِيراً حَتَّى دَخَلَ عُثْمَانُ، فَقَالَ لَهُ سَيِّدُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام): «اِمْضِ يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّكَ اَلْوَكِيلُ وَاَلثِّقَةُ اَلمَأْمُونُ عَلَى مَالِ اَلله، وَاِقْبِضْ مِنْ هَؤُلَاءِ اَلنَّفَرِ اَلْيَمَنِيِّينَ مَا حَمَلُوهُ مِنَ اَلمَالِ»، ثُمَّ سَاقَ اَلْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَا: ثُمَّ قُلْنَا بِأَجْمَعِنَا: يَا سَيِّدَنَا، وَاَلله إِنَّ عُثْمَانَ لَمِنْ خِيَارِ شِيعَتِكَ، وَلَقَدْ زِدْتَنَا عِلْماً بِمَوْضِعِهِ مِنْ خِدْمَتِكَ، وَأَنَّهُ وَكِيلُكَ وَثِقَتُكَ عَلَى مَالِ اَلله تَعَالَى، قَالَ: «نَعَمْ، وَاِشْهَدُوا عَلَى أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ سَعِيدٍ اَلْعَمْرِيَّ وَكِيلِي، وَأَنَّ اِبْنَهُ مُحَمَّداً وَكِيلُ اِبْنِي مَهْدِيِّكُمْ». الغيبة للطوسي (ص ٣٥٥ و٣٥٦/ ح ٣١٧).
↑صفحة ٧↑
وَاَلْبَرَاءَةِ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، وَمِنَ اَلَّذِينَ خَالَفُوكَ، يَا حُجَّةَ اَلمَوْلَى، وَبِكَ اَللَّهُمَّ تَوَجُّهِي، وَبِهِمْ إِلَيْكَ تَوَسُّلِي»(٢).
ونظير هذا المفاد ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في (الغيبة) في باب ذكر المذمومين الذين ادَّعوا البابيَّة والسفارة كذباً وافتراءً، قال: (ومنهم أحمد بن هلال الكرخي، قال أبو عليٍّ بن همَّام: كان أحمد بن هلال من أصحاب أبي محمّد، فاجتمعت الشيعة على وكالة محمّد بن عثمان (رضي الله عنه) بنصِّ الحسن (عليه السلام) في حياته، ولـمَّا مضى الحسن (عليه السلام) قالت الشيعة الجماعة له: ألَا تقبل أمر أبي جعفر محمّد بن عثمان وترجع إليه، وقد نصَّ عليه الإمام المفترض الطاعة؟ فقال لهم: لم أسمعه ينصُّ عليه بالوكالة، وليس أنكر أباه - يعني عثمان بن سعيد -، فأمَّا أنْ أقطع أنَّ أبا جعفر وكيل صاحب الزمان، فلا أجسُرُ عليه، فقالوا: قد سمعه غيرك، فقال: أنتم وما سمعتم، ووقف على أبي جعفر، فلعنوه وتبرَّأوا منه. ثمّ ظهر التوقيع على يد أبي القاسم بن روح بلعنه والبراءة منه في جملة من لُعِنَ)(٣).
فإنَّ لعن وبراءة الطائفة من ابن هلال بمجرَّد إنكاره لسفارة النائب الثاني يدلُّ على خطورة مقام النيابة الخاصَّة المسمَّاة بالسفارة في مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وممَّا يُعزِّز كونه مقاماً معنويًّا خاصًّا ما ورد في زيارتهم التي تقدَّمت: «أَشْهَدُ أَنَّ اَللهَ قَدِ اِخْتَصَّكَ بِنُورِهِ حَتَّى عَايَنْتَ اَلشَّخْصَ، فَأَدَّيْتَ عَنْهُ، وَأَدَّيْتَ إِلَيْهِ»(٤).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢) تهذيب الأحكام (ج ٦/ ص ١١٨).
(٣) الغيبة للطوسي (ص ٣٩٩/ ح ٣٧٤).
(٤) تهذيب الأحكام (ج ٦/ ص ١١٨).
↑صفحة ٨↑
ولذلك يُشاهَد من المدَّعين الكذَّابين لهذا المقام في الغيبة الصغرى أنَّهم تمخرقوا وتبهرجوا بادِّعاء مقامات غيبيَّة باطلة، وشؤون ملكوتيَّة زائفة، والملفت لنظر الباحث المتتبِّع أنَّ مقالات هؤلاء المدَّعين للنيابة كذباً في القرن الثالث وبداية الرابع، تبنَّاها في القرون اللَّاحقة كثير من فِرَق الصوفيَّة ورُوَّاد التصوُّف، سواء على صعيد نظريَّات التصوُّف النظري والتصوُّف العملي، أو على صعيد التأويلات الخياليَّة الوهميَّة البعيدة عن الحقائق الغيبيَّة، في مجال المعارف والآداب والسُّنَن(٥).
المدَّعون للسفارة مع باقي الأئمَّة (عليهم السلام):
ويُشاهَد أيضاً أنَّ هؤلاء المدَّعين للسفارة لم يقتصروا على ادِّعائها مع الحجَّة المهدي (عجَّل الله فرجه)، بل ادَّعوها أيضاً مع أرواح الأئمَّة السابقين (عليهم السلام).
وبعبارة أُخرى: إنَّ مقام ومنصب السفارة - حيث كان معناه - وساطة معنويَّة بين الناحية المقدَّسة (عجَّل الله فرجه) وبين الناس، تمادوا في ادِّعائها معنويًّا مع بقيَّة الأئمَّة الماضين (عليهم السلام)، وهذا يُقرِّر أنَّ تحديد إطار معنى النيابة الخاصَّة والسفارة أنَّها وساطة معنويَّة، وتمثيل رسمي بين أيِّ معصوم (عليه السلام) وبين الناس.
الضرورة على انقطاع السفارة:
وقد قامت الضرورة لدى الطائفة الإماميَّة على انقطاعها بعد الغيبة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥) ومن أبرز تلك المعاني الإمامة النوعيَّة والولاية العامَّة، وبشكلٍ عامٍّ إنَّ كثيراً ممَّا يُوجَد لدى الفِرَق الصوفيَّة ورُوَّادها في القرون اللَّاحقة التي تمَّ تشكُّلها يُلاحَظ أنَّ أصله ومرجعه إلى فِرَق الغلاة المنحرفة عن مذهب الإماميَّة، سواء في عهد الغيبة الصغرى، أو في عهد الأئمَّة السابقين (عليهم السلام).
↑صفحة ٩↑
الصغرى بعد النائب الرابع عليِّ بن محمّد السمري، حيث ورد التوقيع من الناحية المقدَّسة على يده: «بِسْمِ اَلله اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، يَا عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ اَلسَّمُرِيَّ، أَعْظَمَ اَللهُ أَجْرَ إِخْوَانِكَ فِيكَ، فَإِنَّكَ مَيِّتٌ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ سِتَّةِ أَيَّامٍ، فَاجْمَعْ أَمْرَكَ، وَلَا تُوصِ إِلَى أَحَدٍ يَقُومَ مَقَامَكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ، فَقَدْ وَقَعَتِ اَلْغَيْبَةُ اَلثَّانِيةُ (اَلتَّامَّةُ)، فَلَا ظُهُورَ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِ اَلله (عزَّ وجلَّ)، وَذَلِكَ بَعْدَ طُولِ اَلْأَمَدِ، وَقَسْوَةِ اَلْقُلُوبِ، وَاِمْتِلَاءِ اَلْأَرْضِ جَوْراً، وَسَيَأْتِي شِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي اَلمُشَاهَدَةَ، أَلَا فَمَنِ اِدَّعَى اَلمُشَاهَدَةَ قَبْلَ خُرُوجِ اَلسُّفْيَانِيِّ وَاَلصَّيْحَةِ فَهُوَ كَذَّابٌ مُفْتَرٍ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله اَلْعَلِيِّ اَلْعَظِيمِ»(٦).
إذ المراد بالمشاهدة هي الوساطة والتمثيل والاتِّصال الرسمي بالناحية المقدَّسة؛ لأنَّها ذُكِرَت في سياق قوله (عليه السلام): «لَا تُوصِ إِلَى أَحَدٍ يَقُومَ مَقَامَكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ، فَقَدْ وَقَعَتِ اَلْغَيْبَةُ اَلثَّانِيةُ (اَلتَّامَّةُ)».
التشرُّف باللقاء والنيابة:
ويحصل الخلط بين تشرُّف جملة من علماء الطائفة، كالسيِّد ابن طاوس والعلَّامة بحر العلوم وغيرهما من الصالحين الأتقياء، كما ذكر ذلك كلٌّ من الكليني في (أُصول الكافي)، والصدوق في (كمال الدِّين)، والطوسي في (الغيبة)، والنوري في (جنَّة المأوى في من رأى الحجَّة الكبرى)، وبين ضرورة انقطاع السفارة والوساطة والتمثيل الرسمي بين الطائفة وبين الناحية المقدَّسة، أي انقطاع التأدية منه إلى الناس، والتأدية من الناس إليه، أي لا يوجد شخص له صلاحيَّة أنْ يُؤدِّي إلى الحجَّة (عجَّل الله فرجه) رسائل الناس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦) كمال الدِّين (ص ٥١٦/ باب ٤٥/ ح ٤٤)، الغيبة للطوسي (ص ٣٩٥/ ح ٣٦٥).
↑صفحة ١٠↑
وأسئلتهم، ولا أنْ يُؤدِّي من الحجَّة (عجَّل الله فرجه) كلامه إلى الناس، فليس هناك من له صلاحيَّة هذه الموقعيَّة من الوساطة والتمثيل الرسمي تحت أيِّ عنوانٍ كان، وتحت أيِّ اسمٍ، لا سفير ولا وسيط ولا نائب خاصٌّ، ولا يلتقي بالحجَّة، ولا على ارتباط به، ولا يحظى برؤيته، فيوصل الرسائل له، ولا غيرها من العناوين التي يتقمَّصها الكثير من الدجَّالين وذوي النصب والحيلة والأراجيف، طُلَّاب الرئاسة الباطلة الطامعين في حطام الدنيا، فلا صلة بين ظاهرة التشرُّف بلقاء الحجَّة (عجَّل الله فرجه)، وبين صلاحيَّة الوساطة وصلاحيَّة الارتباط، فإنَّ التشرُّف ليس له أيُّ اعتبار شرعي للآخرين كطريق إلى البابيَّة وغيرها من المسمَّيات، ولا يتَّصف بأيِّ سمة من معاني الحجّيَّة للآخرين، كباب ارتباط بالناحية المقدَّسة، فالتشرُّف ليس له أيُّ أثر شرعي يترتَّب عليه عند الآخرين، كما أنَّ الذي يتشرَّف به (عجَّل الله فرجه) في الغيبة ينبغي أنْ لا يغلب على ظنِّه وخياله أنْ يُخصَّص بتشريع غير ما هو عليه ظاهر الشرع المحمّدي عند الطائفة الإماميَّة، كما قال هو (عجَّل الله فرجه) وآباؤه ما مضمونه: ما وافق كتاب الله تعالى وسُنَّة نبيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقد قلناه، وما لم يوافق كتاب الله وسُنَّة نبيِّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلم نقله(٧).
وكما أرجع هو (عجَّل الله فرجه) في كثير من التوقيعات الصادرة منه في فترة الغيبة الصغرى، أرجع الرواة في أسئلتهم إلى ما روي عن المعصومين من آبائه (عليهم السلام) ممَّا هو مودَع في أُصول ونُسَخ وكُتُب رواة الحديث لدى الطائفة الإماميَّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧) أو فهو زخرف، أو باطل، وغير ذلك؛ راجع: الكافي (ج ١/ ص ٦٩/ باب الأخذ بالسُّنَّة وشواهد الكتاب).
↑صفحة ١١↑
محدوديَّة صلاحيَّة النيابة:
إنَّ هذا الحدَّ والميزان ليس خاصًّا بمن يتشرَّف باللقاء فقط، بل هو يسري على النُّوَّاب الأربعة في فترة الغيبة الصغرى أيضاً، فقد روى الشيخ (رحمه الله) في كتاب (الغيبة) أنَّ النائب الثالث الحسين بن روح النوبختي جمع ما رواه عن رواة الأصحاب عن الأئمَّة الماضين (عليهم السلام)، فعرض الكتاب على علماء ومحدِّثي قم، فصحَّحوا ما فيه عدا موضع واحد نبَّهوه على الخلل فيه، وهو ما رواه في حدِّ زكاة الفطرة(٨).
فليس دأبه (عجَّل الله فرجه) أنْ يظهر تأويل الكتاب قبل ظهوره (عجَّل الله فرجه) على يد أحد، سواء في الغيبة الصغرى أو الكبرى، بل هذا مدَّخر ومؤجَّل إلى ظهوره، كما هو مفاد التوقيعات في الغيبة الصغرى الصادرة عنه (عجَّل الله فرجه)، ومفاد الروايات المستفيضة عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعن الأئمَّة من آبائه (عليهم السلام)، أنَّه يُحيي الكتاب ويُقيمه بعد ظهوره، وكذلك سُنَّة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ودارس حكم النبيِّين.
الانقطاع ومعنى الغيبة:
ولا يظنَّنَّ ظانٌّ أنَّ معنى هذه العقيدة الضروريَّة عند الطائفة الإماميَّة من انقطاع الاتِّصال الرسمي المعتبر بالحجَّة (عجَّل الله فرجه) يعني جمود الحجَّة بن الحسن (عجَّل الله فرجه) عن مهامِّه ودوره في قيادة البشريَّة ومواصلة مهامِّه الرساليَّة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٨) عَنْ سَلَامَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَنْفَذَ اَلشَّيْخُ اَلْحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ (رضي الله عنه) كِتَابَ اَلتَّأْدِيبِ إِلَى قُمَّ، وَكَتَبَ إِلَى جَمَاعَةِ اَلْفُقَهَاءِ بِهَا، وَقَالَ لَهُمْ: اُنْظُرُوا فِي هَذَا اَلْكِتَابِ، وَاُنْظُرُوا فِيهِ شَيْءٌ يُخَالِفُكُمْ؟ فَكَتَبُوا إِلَيْهِ: أَنَّهُ كُلَّهُ صَحِيحٌ، وَمَا فِيهِ شَيْءٌ يُخَالِفُ إِلَّا قَوْلُهُ فِي اَلصَّاعِ فِي اَلْفِطْرَةِ: نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ، وَاَلطَّعَامُ عِنْدَنَا مِثْلُ اَلشَّعِيرِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ صَاعٌ. الغيبة للطوسي (ص ٣٩٠/ ح ٣٥٧).
↑صفحة ١٢↑
وأنَّه (عجَّل الله فرجه) ناءٍ في أقاصي البلاد لا يتصدَّى للأُمور تاركاً الحبل على الغارب بينما يعبث بالأمر قوى الطغيان البشري، بل لو ترك التصدِّي للأُمور يوماً واحداً لساخت الأرض فساداً بأهلها، ولوقعت الحروب والبلايا في الأصعدة المختلفة على البشريَّة، كما قال (عجَّل الله فرجه) في التوقيع الشريف: «فَإِنَّا نُحِيطُ عِلْماً بِأَنْبَائِكُمْ، وَلَا يَعْزُبُ عَنَّا شَيْءٌ مِنْ أَخْبَارِكُمْ...، وَإِنَّا غَيْرُ مُهْمِلِينَ لِمُرَاعَاتِكُمْ، وَلَا نَاسِينَ لِذِكْرِكُمْ، وَلَوْ لَا ذَلِكَ لَنَزَلَ بِكُمُ اَللَّأْوَاءُ، وَاِصْطَلَمَكُمُ اَلْأَعْدَاءُ»(٩)، بل هو (عجَّل الله فرجه) يُدبِّر ويدير أُمور البشريَّة جميعاً عبر أساليب خفيَّة وأدوات غيبيَّة منتظمة تحت الستار، لكن المقرَّر لتلك الإدارة أنْ لا تظهر إلى السطح والعلن في عصر الغيبة قبل ظهوره (عجَّل الله فرجه)، وأيُّ مدَّعٍ في العلن والعلانية يدَّعي الاتِّصال به والارتباط معه (عجَّل الله فرجه)، فهو دجل وألاعيب واحتيال للتغرير بالسُّذَّج من الناس، فالغيبة والانقطاع لا تعني انعدام حضوره (عجَّل الله فرجه) في الساحة الاجتماعيَّة والسياسيَّة البشريَّة، بل تعني انقطاع الاتِّصال من طرفنا ومن قِبَلنا باتِّجاهه (عجَّل الله فرجه) لا انقطاعه هو (عجَّل الله فرجه) عن التصرُّف في أُمورنا وأُمور البشريَّة وفي المجتمعات المختلفة، كما قال تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: ٣٠)، أي يحول أمام الفساد في الأرض وسفك الدماء.
عقيدة الانتظار:
لا ريب أنَّ عقيدة انقطاع النيابة والسفارة في الغيبة الكبرى لا تعني الانقطاع القلبي والمعنوي عنه (عجَّل الله فرجه)، بل اللَّازم على المؤمن دوام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٩) الخرائج والجرائح (ج ٢/ ص ٩٠٢ و٩٠٣)، الاحتجاج (ج ٢/ ص ٣٢٣).
↑صفحة ١٣↑
قراءة الزيارات المختلفة الواردة في الروايات التي يُزار بها هو (عجَّل الله فرجه)، والإكثار من الدعاء بالفرج، والقيام بالوظائف الشرعيَّة في فضاء وجوِّ الاعتقاد بإمامة المهدي (عجَّل الله فرجه)، والتولِّي له، والتبرُّؤ من خصومه ومناوئيه ومنكريه، ومعايشة هذا الاعتقاد والأمل بظهوره الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وأنَّه (عجَّل الله فرجه) وليُّ الأمر كلِّه، وبقيَّة الله التي يقيم تعالى بها الحجَّة والهداية.
ولأجل ذلك فإنَّ عقيدة الطائفة الإماميَّة في صلاحيَّة المرجعيَّة للفقهاء، هي كونها نيابيَّة عنه (عجَّل الله فرجه) نيابة لا بالخصوص، يستمدُّ منها المجتهد والفقيه الأحكام من الكتاب وسُنَّة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام) عبر الروايات والأحاديث المرويَّة عنهم (عليهم السلام)، كما يستمدُّ بعض الصلاحيَّات للتصدِّي لبعض الأُمور من المأذونيَّة من قِبَله (عجَّل الله فرجه) في التوقيع الشريف: «وَأَمَّا اَلْحَوَادِثُ اَلْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا»(١٠).
التفقُّه في الدِّين اعتصام من الضلال:
قال تعالى: ﴿فَلَوْ لَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: ١٢٢).
وقال الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): «تَفَقَّهُوا فِي دِينِ اَلله، فَإِنَّ اَلْفِقْهَ مِفْتَاحُ اَلْبَصِيرَةِ، وَتَمَامُ اَلْعِبَادَةِ، وَاَلسَّبَبُ إِلَى اَلمَنَازِلِ اَلرَّفِيعَةِ، وَاَلرُّتَبِ اَلْجَلِيلَةِ فِي اَلدِّينِ وَاَلدُّنْيَا، وَفَضْلُ اَلْفَقِيهِ عَلَى اَلْعَابِدِ كَفَضْلِ اَلشَّمْسِ عَلَى اَلْكَوَاكِبِ، وَمَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي دِينِهِ لَمْ يَرْضَ اَللهُ لَهُ عَمَلاً»(١١).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٠) كمال الدِّين (ص ٤٨٤/ باب ٤٥/ ح ٤)، الغيبة للطوسي (ص ٢٩١/ ح ٢٤٧).
(١١) تُحَف العقول (ص ٤١٠)، عنه بحار الأنوار (ج ١٠/ ص ٢٤٧/ ح ١٣).
↑صفحة ١٤↑
وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «اِعْرِفُوا مَنَازِلَ شِيعَتِنَا بِقَدْرِ مَا يُحْسِنُونَ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ عَنَّا»(١٢).
وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «تَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ، فَإِنَّه مَنْ لَمْ يَتَفَقَّه مِنْكُمْ فِي اَلدِّينِ فَهُوَ أَعْرَابِيٌّ»(١٣).
وفي حديث آخر: «لَمْ يَنْظُرِ اَللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، وَلَمْ يُزَكِّ لَهُ عَمَلاً»(١٤).
وفي صحيح أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السلام): «لَوَدِدْتُ أَنَّ أَصْحَابِي ضُرِبَتْ رُؤُوسُهُمْ بِالسِّيَاطِ حَتَّى يَتَفَقَّهُوا»(١٥).
وروى بشير الدهَّان، عنه (عليه السلام): «لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَتَفَقَّهُ مِنْ أَصْحَابِنَا. يَا بَشِيرُ، إِنَّ اَلرَّجُلَ مِنْهُمْ إِذَا لَمْ يَسْتَغْنِ بِفِقْهِهِ اِحْتَاجَ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا اِحْتَاجَ إِلَيْهِمْ أَدْخَلُوهُ فِي بَابِ ضَلَالَتِهِمْ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ»(١٦).
وقال (عليه السلام): «اَلرَّاوِيَةُ لِحَدِيثِنَا يَشُدُّ بِه قُلُوبَ شِيعَتِنَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ»(١٧).
وقال (عليه السلام): «إِذَا أَرَادَ اَللهُ بِعَبْدٍ خَيْراً فَقَّهَهُ فِي اَلدِّينِ»(١٨).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٢) رجال الكشِّي (ج ١/ ص ٦/ ح ٢).
(١٣) الكافي (ج ١/ ص ٣١/ باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثِّ عليه/ ح ٦).
(١٤) الكافي (ج ١/ ص ٣١/ باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثِّ عليه/ ح ٧).
(١٥) الكافي (ج ١/ ص ٣١/ باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثِّ عليه/ ح ٨).
(١٦) الكافي (ج ١/ ص ٣٣/ باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء/ ح ٦).
(١٧) الكافي (ج ١/ ص ٣٣/ باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء/ ح ٩).
(١٨) الكافي (ج ١/ ص ٣٣/ باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء/ ح ٣).
↑صفحة ١٥↑
وفي حديث آخر: «اَلْكَمَالُ كُلُّ اَلْكَمَالِ: اَلتَّفَقُّهُ فِي اَلدِّينِ، وَاَلصَّبْرُ عَلَى اَلنَّائِبَةِ، وَتَقْدِيرُ اَلمَعِيشَةِ»(١٩).
وفي آخر أيضاً: «أَيُّهَا النَّاسُ، اِعْلَمُوا أَنَّ كَمَالَ اَلدِّينِ طَلَبُ اَلْعِلْمِ وَاَلْعَمَلُ بِهِ»(٢٠).
وفي حديث قال (عليه السلام): «أَلَا لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَا فِقْه فِيهَا»(٢١).
وقال (عليه السلام): «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ مِنَ اَلمُؤْمِنِينَ أَحَبَّ إِلَى إِبْلِيسَ مِنْ مَوْتِ فَقِيهٍ»(٢٢).
فمفاد هذه الأحاديث الشريفة أنَّ الذي يدَّعي الوصول إلى المقامات الروحيَّة عبر الرياضات النفسيَّة والاستعداد النفسي أو نحو ذلك، مهما كان متنسِّكاً وأنَّه طوى الأوراد والأذكار والرياضات والختوم في دورات عديدة وأربعينيَّات كثيرة، إذا لم يتفقَّه في الدِّين والشريعة فهو أعرابي لا يُزكِّي الله تعالى له عملاً، كيف وهو لم يتعرَّف على حدود الله، ومواطن رضاه، وموارد سخطه؟ إذ إنَّه ليس بنبيٍّ ولا رسول، فمن لا يتقيَّد بحدود الشريعة كيف يتصوَّر أنَّه على قرب منه تعالى؟ ومن ثَمَّ كان الفقيه - وهو المبيِّن والموضِّح لحدود الشريعة من الكتاب والسُّنَّة - أبغض شيء لإبليس؛ لأنَّه ببيان حدود الشريعة تفشل خُطَط وحِيَل إبليس وشبكات تسويلاته الروحيَّة؛ ولأنَّ التقيُّد بالشريعة هو ميزان الاستقامة، وأنَّ مرمى ومطمع إبليس في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٩) الكافي (ج ١/ ص ٣٢/ باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء/ ح ٤).
(٢٠) الكافي (ج ١/ ص ٣٠/ باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثِّ عليه/ ح ٤).
(٢١) الكافي (ج ١/ ص ٣٦/ باب صفة العلماء/ ح ٣).
(٢٢) الكافي (ج ١/ ص ٣٨/ باب فقد العلماء/ ح ١).
↑صفحة ١٦↑
غوايته لكثير من الفِرَق والجماعات التي تتقمَّص السلك الروحي وتدَّعي الارتباط بمنابع الغيب، هو فسخ تلك الجماعات عن الالتزام بحدود الشريعة بارتكاب المحرَّمات والتنصُّل عن أداء الواجبات شيئاً فشيئاً، وبالتالي إغراؤها في الانسلاخ عن دين خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
ومن هنا كان الفقه والتفقُّه يُوضِّح معالم الدِّين وحدود الشريعة وحدود الطريق إلى الله تعالى وتمايزه عن حدود الطريق إلى الغواية والضلال، كما أنَّ الفقه يقف سدًّا منيعاً أمام التأويلات الباطلة الضالَّة لنصوص القرآن والحديث، فإنَّ تلك الجماعات تعتمد ضمن وسائلها الإقناعيَّة لجذب الناس إلى مسيرها على تأويلات لنصوص الدِّينيَّة لا تستند إلى ميزان وضابطة سوى الدعاوى وميول الأهواء وادِّعاء المقامات الغيبيَّة والارتباط بالغيب كي تنطلي على أفراد الجماعة، أنَّ كلَّ ما يقولونه هو إلهام غيبي وإيحاء لدنِّي لا يقبل النقاش والمسألة، وهو فوق الاستدلال والبحث والنقد.
نماذج قرآنيَّة في القدرة التكوينيَّة لرُوَّاد الضلال:
على سبيل النبذة لا الاستقصاء:
منها: إبليس اللعين، فإنَّه كما يصفه القرآن الكريم بالتمكين الذي أعطاه الله له: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف: ٢٧).
↑صفحة ١٧↑
وقال تعالى: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً﴾ (الإسراء: ٦٤).
وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ (مريم: ٨٣)، ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ (الأنعام: ١٢١).
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ (الزخرف: ٣٦).
وقال تعالى: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ (النمل: ٢٤).
وغيرها من الآيات التي تتحدَّث عن المكنة والقدرة التي أعطاها الباري تعالى لإبليس من التأثير على نفوس بني آدم إلَّا المخلَصين، وهي درجة من الملكوت لم ترقَ إليها القوى العظمى للدول البشريَّة عبر التاريخ إلى يومنا الحاضر. هذا مضافاً إلى تسخيره لمردة الشياطين والعفاريت جنوداً له ليسترقوا السمع ويراقبوا جمع البشريَّة من لدن آدم (عليه السلام) إلى يوم الوعد المعلوم.
ويُبيِّن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّ هذه المكنة والقدرة لم تُعْطَ لإبليس اللعين جزافاً واعتباطاً، قال (عليه السلام): «فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اَلله بِإِبْلِيسَ، إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ اَلطَّوِيلَ، وَجَهْدَهُ الْجَهِيدَ، وَكَانَ قَدْ عَبَدَ اَللهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ، لَا يُدْرَى أَمِنْ سِنِي اَلدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي اَلْآخِرَةِ عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اَلله بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ؟ كَلَّا»(٢٣).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٣) نهج البلاغة (ص ٢٨٧/ الخطبة ١٩٢ المسمَّاة بالقاصعة).
↑صفحة ١٨↑
فهذه الستَّة آلاف سنة التي لا يُدرى أنَّها من سِنِي الأرض أو من سِنِي السماء التي عَبَدَ الله تعالى فيها، هي التي أوجبت الجزاء له بهذا التمكين، فهو قد ارتاض هذه المدَّة ومضى حقباً في الرياضة الروحيَّة لكن ابتغى بها نتيجة بخسة، وهي التمكين في دار الدنيا من سلطان الملكوت النازل، وهو في الآخرة من الأخسرين.
ومنها: العفريت من الشياطين، قال تعالى: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي﴾ (النمل: ٣٨ - ٤٠)، فبيَّن تعالى أنَّ القدرة التي تمكَّن منها العفريت نظير المكنة التي كانت لدى آصف بن برخيا وصيِّ النبيِّ سليمان (عليه السلام) صاحب علم من الكتاب في بعض جهاتها وإنْ كانت دونها بعض الشيء، مع أنَّ العفريت هو من الشياطين المسخَّرين للنبيِّ سليمان (عليه السلام)، وهذه القدرة لم تكن سحراً وتخييلاً، بل قدرة حقيقيَّة تتجلَّى بأنْ يأتي في بضع دقائق بعرش ملكة سبأ من اليمن إلى فلسطين.
ومنها: بلعم بن باعورا، قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأعراف: ١٧٥ و١٧٦).
↑صفحة ١٩↑
والآية التي أُوتيها بلعم بن باعورا هي حرف من الاسم الأعظم، كما وردت بذلك الروايات(٢٤)، والاسم الأعظم ليس قولاً باللسان يُصوَّت، بل هو الروح الأعظم، وإعطاء حرف منه يعني الارتباط الروحي بدرجة من التأييد منه، ومع كلِّ ذلك لم تكن نفس بلعم بن باعورا وشهوتها قد خمدت، بل تغلَّبت في النهاية عليه، وأرادت تسخير هذا الارتباط الروحي بالاسم الأعظم تحت إمرتها، فكانت العاقبة أنِ انسلخت نفس بلعم عن هذا الارتباط والتأييد، فرغم القدرة التكوينيَّة والمقام الذي وصل إليه، إلَّا أنَّ ذلك لم يضمن عدم وقوعه في الخطأ والمعصية، ولم يمنعه من الشطط والخطل.
ومن ثَمَّ قال جملة من المحقِّقين من أهل المعرفة من الإماميَّة أنَّ الشطط والشطحات التي تصيب وتعتور وتعرض على أهل الرياضات الروحيَّة دالَّة وكاشفة عن عدم سيطرتهم على جبلِّ النفس وأنانيَّة الذات، ففرعونيَّته بدل أنْ تموت تزداد قوَّةً بقوَّة الرياضات الخاطئة أو غير المتقيِّدة بالشريعة، فالطريقة تكون بدون الشريعة طريقة شيطانيَّة بدل أنْ تكون رحمانيَّة، ومن ثَمَّ كان الفقه أمان من الزيغ والضلال لأصحاب الرياضات الروحيَّة، كما هو أمان لبقيَّة شرائح الأُمَّة عن الانحراف، وهو من معاني أنَّ التمسُّك بالثقلين أمان عن ضلال الأُمَّة.
وفي الحقيقة أنَّ دفائن طبقات النفس على تركيب غامض، فتجتمع ظواهر من الصفات الفضيليَّة العالية مع هذه الرذائل ذوات السوء الشديد،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٤) راجع: تفسير القمِّي (ج ١/ ص ٢٤٨).
↑صفحة ٢٠↑
وإلى ذلك يشير ما رواه في (الاحتجاج) عَنِ اَلرِّضَا (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ عَلِيُّ اِبْنُ اَلْحُسَيْنِ: إِذَا رَأَيْتُمُ اَلرَّجُلَ قَدْ حَسُنَ سَمْتُهُ وَهَدْيُهُ، وَتَمَاوَتَ فِي مَنْطِقِهِ، وَتَخَاضَعَ فِي حَرَكَاتِهِ، فَرُوَيْداً لَا يَغُرَّنَّكُمْ، فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يُعْجِزُهُ تَنَاوُلُ اَلدُّنْيَا وَرُكُوبُ اَلْحَرَامِ مِنْهَا لِضَعْفِ نِيَّتِهِ وَمَهَانَتِهِ، وَجُبْنِ قَلْبِهِ، فَنَصَبَ اَلدِّينَ فَخًّا لَهَا، فَهُوَ لَا يَزَالُ يَخْتِلُ اَلنَّاسَ بِظَاهِرِهِ، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ حَرَامٍ اِقْتَحَمَهُ، وَإِذَا وَجَدْتُمُوهُ يَعِفُّ عَنِ اَلمَالِ اَلْحَرَامِ، فَرُوَيْداً لَا يَغُرَّنَّكُمْ، فَإِنَّ شَهَوَاتِ اَلْخَلْقِ مُخْتَلِفَةٌ، فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَنْبُو عَنِ اَلمَالِ اَلْحَرَامِ وَإِنْ كَثُرَ، وَيَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى شَوْهَاءَ قَبِيحَةٍ، فَيَأْتِي مِنْهَا مُحَرَّماً، فَإِذَا وَجَدْتُمُوهُ يَعِفُّ عَنْ ذَلِكَ فَرُوَيْداً لَا يَغُرَّنَّكُمْ، حَتَّى تَنْظُرُوا مَا عُقْدَةُ عَقْلِهِ، فَمَا أَكْثَرَ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ أَجْمَعَ ثُمَّ لَا يَرْجِعُ إِلَى عَقْلٍ مَتِينٍ، فَيَكُونُ مَا يُفْسِدُ بِجَهْلِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ بِعَقْلِهِ، فَإِذَا وَجَدْتُمْ عَقْلَهُ مَتِيناً فَرُوَيْداً لَا يَغُرَّكُمْ، تَنْظُرُوا أَمَعَ هَوَاهُ يَكُونُ عَلَى عَقْلِهِ أَمْ يَكُونُ مَعَ عَقْلِهِ عَلَى هَوَاهُ، وَكَيْفَ مَحَبَّتُهُ لِلرِّئَاسَاتِ اَلْبَاطِلَةِ، وَزُهْدُهُ فِيهَا، فَإِنَّ فِي اَلنَّاسِ مَنْ خَسِرَ اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةَ يَتْرُكُ اَلدُّنْيَا لِلدُّنْيَا، وَيَرَى أَنَّ لَذَّةَ اَلرِّئَاسَةِ اَلْبَاطِلَةِ أَفْضَلُ مِنْ لَذَّةِ اَلْأَمْوَالِ وَاَلنِّعَمِ اَلمُبَاحَةِ اَلمُحَلَّلَةِ، فَيَتْرُكُ ذَلِكَ أَجْمَعَ طَلَباً لِلرِّئَاسَةِ، حَتَّى ﴿إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [البقرة: ٢٠٦]، فَهُوَ يَخْبِطُ خَبْطَ عَشْوَاءَ، يُوقِدُهُ أَوَّلَ بَاطِلٍ إِلَى أَبْعَدِ غَايَاتِ اَلْخَسَارَةِ، وَيُمِدُّهُ رَبُّهُ بَعْدَ طَلَبِهِ لِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي طُغْيَانِهِ، فَهُوَ يُحِلُّ مَا حَرَّمَ اَللهُ، وَيُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اَللهُ، لَا يُبَالِي مَا فَاتَ مِنْ دِينِهِ إِذَا سَلِمَتْ لَهُ اَلرِّئَاسَةُ اَلَّتِي قَدْ شَقِيَ مِنْ أَجْلِهَا، فَأُولَئِكَ اَلَّذِينَ غَضِبَ اَللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً»، إلى أنْ قال: «وَلَكِنَّ اَلرَّجُلَ كُلَّ اَلرَّجُلِ نِعْمَ اَلرَّجُلُ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ هَوَاهُ تَبَعاً لِأَمْرِ
↑صفحة ٢١↑
اَلله، وَقُوَاهُ مَبْذُولَةً فِي رِضَى اَلله، يَرَى اَلذُّلَّ مَعَ اَلْحَقِّ أَقْرَبَ إِلَى عِزِّ اَلْأَبَدِ مِنَ اَلْعِزِّ فِي اَلْبَاطِلِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ قَلِيلَ مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ ضَرَّائِهَا يُؤَدِّيهِ إِلَى دَوَامِ اَلنَّعِيمِ فِي دَارٍ لَا تَبِيدُ وَلَا تَنْفَذُ، وَأَنَّ كَثِيرَ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ سَرَّائِهَا إِنِ اِتَّبَعَ هَوَاهُ يُؤَدِّيهِ إِلَى عَذَابٍ لَا اِنْقِطَاعَ لَهُ وَلَا يَزُولُ، فَذَلِكُمُ اَلرَّجُلُ نِعْمَ اَلرَّجُلُ، فِيهِ فَتَمَسَّكُوا، وَبِسُنَّتِهِ فَاقْتَدُوا، وَإِلَى رَبِّكُمْ فَتَوَسَّلُوا، فَإِنَّهُ لَا تُرَدُّ لَهُ دَعْوَةٌ، وَلَا يُخَيَّبُ لَهُ طَلِبَةٌ»(٢٥).
فمن ذلك ينبغي الالتفات إلى أنَّ الرياضات الروحيَّة تُكسِب النفس قدرات خارقة، كطيِّ الأرض، وقراءة الضمير، والترائي في منام الآخرين، والتصرُّف في تلك الرؤى، وقراءة الأعمال الماضية أو المستقبليَّة، وغيرها من قدرات النفس التي قد يُطلِق عليها علماء الروح والنفس الجُدُد المحدِّثون: قوَّة التخاطر، والجلاء البصري والسمعي، والتنويم المغناطيسي، وغيرها من قدرات وحركات الروح والاتِّصال مع أرواح الموتى، وأنَّه لتُحكى أفعال خارقة عن مرتاضي الهند أو فِرَق الصوفيَّة المختلفة في الصين وشرق آسيا وغيرها من المناطق، إلَّا أنَّ كلَّ ذلك ليس علامة النجاة ورضا الربِّ تعالى، فإنَّ موطن ذلك التقوى والطاعة له تعالى.
مفهوم العدالة يُقلَب إلى العصمة المكتسبة وذريعة التأويل:
ومن الأغاليط التي يُردِّدها مدَّعو المقامات والمنازل الروحيَّة، هو تفسير العدالة التي هي ملكة الاجتناب عن المعاصي في السلوك العملي، بأنَّ هذه الماهيَّة هي عصمة مكتسبة، فيُقلَب عنوان العدالة إلى العصمة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٥) الاحتجاج (ج ٢/ ص ٥٢ و٥٣)؛ وورد في تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) (ص ٥٣ - ٥٥/ ح ٢٧)، وتنبيه الخواطر (ج ٢/ ص ٤١٨ و٤١٩).
↑صفحة ٢٢↑
وحيث لا يمكنهم دعوى أنَّها لدنّيَّة بنصب من الشريعة، يختلقون لها مخرجاً كونها مكتسبة وأنَّ العصمة قابلة للاكتساب، وليس بالضرورة أنْ تكون وهبيَّة لدنّيَّة منه تعالى، وأنَّ العصمة وإنْ كانت شرطاً في المعصومين الأربعة عشر (النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام))، إلَّا أنَّ ذلك لا يعني حصرها فيهم، بل هي عامَّة قابلة للتحقُّق في نوع البشر بالاكتساب، وأنَّ العصمة الاكتسابيَّة يكفي فيها العصمة في العمل وإنْ لم تكن عصمة في العلم، أي يكفي فيها العصمة العمليَّة دون أنْ تكون عصمة علميَّة، إلى غير ذلك من الإطارات التي يصيغونها قوالب لا تنطلي إلَّا على السُّذَّج وعلى قليلي البضاعة العلميَّة.
مع أنَّه لو فُرِضَ اجتناب شخص عن المعاصي من لدن بلوغه إلى مماته، فليس ذلك يُخرِجه عن حدِّ العدالة، ويتجاوز به إلى حدِّ العصمة، وأيُّ فرقٍ بين الماهيَّتين والمعنيين حينئذٍ؟ ثمّ إنَّه كيف يُعقَل انفكاك العصمة العمليَّة عن العلميَّة، وهل يُعقَل لمن يضلُّ الطريق أنْ تكون له عصمة يمتنع عليه الخطأ في العمل؟ مع أنَّ علماء الإماميَّة في علم الكلام قد أشبعوا البحث في أنَّ العصمة العمليَّة وليدة العصمة العلميَّة، والعصمة تعني امتناع صدور المعصية من المعصوم وقوعاً، وإنْ لم تكن ممتنعة منه إمكاناً، وهذا بخلاف العدالة، فإنَّه وإنِ اجتنب المعاصي طيلة حياته إلَّا أنَّه لا يمتنع منه وقوع وصدور المعصية.
هذا مع أنَّ العصمة تلازم الحجّيَّة الرسميَّة على الآخرين، فكيف يكون الشخص معصوماً ولا يكون حجَّة بذاته على الآخرين وينصُّ الشرع الحنيف على لزوم اتِّباعه؟
ومن هذه الدعوى يتطوَّر الحال عند مدَّعي المنازل الروحيَّة إلى
↑صفحة ٢٣↑
دعاوى أكثر فأكثر، ويتطوَّر بهم الحال إلى مزالق يخالفون بها الضرورات الشرعيَّة تحت ذريعة التأويل الذي يفتحون بابه تغطيةً لتلك المخالفات، كما حصل ذلك لكلِّ الفِرَق التي انحرفت عن أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام).
روى الكشِّي (رحمه الله) بسنده عن الصادق قوله (عليه السلام): «قَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنِّي لَهُمْ إِمَامٌ، وَاَلله مَا أَنَا لَهُمْ بِإِمَامٍ، مَا لَهُمْ لَعَنَهُمُ اَللهُ، كُلَّمَا سَتَرْتُ سِتْراً هَتَكُوهُ، هَتَكَ اَللهُ سُتُورَهُمْ، أَقُولُ كَذَا، يَقُولُونَ: إِنَّمَا يَعْنِي كَذَا، إِنَّمَا أَنَا إِمَامُ مَنْ أَطَاعَنِي»(٢٦).
وروي عنه (عليه السلام) أنَّه قال عن أبي الخطَّاب - الذي انحرف بعد أنْ كان من أصحاب السرِّ كبلعم بن باعورا، حين دخل ومعه سبعون رجلاً -: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِفَضَائِلِ اَلمُسْلِمِ؟ فَلَا أَحْسُبُ أَصْغَرَهُمْ إِلَّا قَالَ: بَلَى جُعِلْتُ فِدَاكَ، قُلْتُ: مِنْ فَضَائِلِ اَلمُسْلِمِ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ قَارِئٌ لِكِتَابِ اَلله (عزَّ وجلَّ)، وَفُلَانٌ ذُو حَظٍّ مِنْ وَرَعٍ، وَفُلَانٌ يَجْتَهِدُ فِي عِبَادَتِهِ لِرَبِّهِ، فَهَذِهِ فَضَائِلُ اَلمُسْلِمِ، مَا لَكُمْ وَلِلرِّئَاسَاتِ؟ إِنَّمَا اَلمُسْلِمُونَ رَأْسٌ وَاحِدٌ، إِيَّاكُمْ وَاَلرِّجَالُ، فَإِنَّ اَلرِّجَالَ لِلرِّجَالِ مَهْلَكَةٌ، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: إِنَّ شَيْطَاناً يُقَالُ لَهُ: اَلمُذْهِبُ يَأْتِي فِي كُلِّ صُورَةٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَأْتِي فِي صُورَةِ نَبِيٍّ وَلَا وَصِيِّ نَبِيٍّ، وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا وَقَدْ تَرَاءَى لِصَاحِبِكُمْ فَاحْذَرُوهُ، فَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ قُتِلُوا مَعَهُ، فَأَبْعَدَهُمُ اَللهُ وَأَسْحَقَهُمْ، إِنَّهُ لَا يَهْلِكُ عَلَى اَلله إِلَّا هَالِكٌ»(٢٧).
محمّد السند
(١١/ ذي القعدة/ ١٤٢٤هـ)
يوم ميلاد الإمام الرضا (عليه السلام)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٦) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٩٠/ ح ٥٣٩).
(٢٧) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٨١ و٥٨٢/ ح ٥١٦).
↑صفحة ٢٤↑
الحمد لله الذي يهدي من يشاء، ويضلُّ من يشاء، وله الحجَّة البالغة.
والصلاة والسلام على محمّد خاتم أنبيائه، وسيِّد رُسُله، الذي أرسله بالهدى ودين الحقِّ، ليُظهِره على الدِّين كلِّه ولو كره المشركون، وعلى آله الأوصياء الهداة، وخاتمهم المهدي المنتظَر الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلِئَت ظلماً وجوراً.
وبعد..
فقد قال (جلَّ وعلا): ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت: ٢)، «يُفْتَنُونَ كَمَا يُفْتَنُ اَلذَّهَبُ، [وَ]يُخْلَصُونَ كَمَا يُخْلَصُ اَلذَّهَبُ» كما قال الكاظم (عليه السلام)(٢٨)، «لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَنْ يُمَحَّصُوا وَيُمَيَّزُوا وَيُغَرْبَلُوا، وَيُسْتَخْرَجُ فِي اَلْغِرْبَالِ خَلْقٌ كَثِيرٌ» كما جاء عن الصادق (عليه السلام)(٢٩).
وعن الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «لَتُمَحَّصُنَّ يَا شِيعَةَ آلِ مُحَمَّدٍ تَمْحِيصَ اَلْكُحْلِ فِي اَلْعَيْنِ، وَإِنَّ صَاحِبَ اَلْعَيْنِ يَدْرِي مَتَى يَقَعَ اَلْكُحْلُ فِي عَيْنِهِ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى يَخْرُجُ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ يُصْبِحُ اَلرَّجُلُ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ أَمْرِنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٨) الكافي (ج ١/ ص ٣٧٠/ باب التمحيص والامتحان/ ح ٤).
(٢٩) الكافي (ج ١/ ص ٣٧٠/ باب التمحيص والامتحان/ ح ٢).
↑صفحة ٢٥↑
وَيُمْسِي وَقَدْ خَرَجَ مِنْهَا، وَيُمْسِي عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ أَمْرِنَا وَيُصْبِحُ وَقَدْ خَرَجَ مِنْهَا»(٣٠).
وفي خبر آخر: «وَاَلله لَتُمَحَّصُنَّ، وَاَلله لَتَطِيرُنَّ يَمِيناً وَشِمَالاً حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْكُمْ إِلَّا كُلُّ اِمْرِئٍ أَخَذَ اَللهُ مِيثَاقَهُ، وَكَتَبَ اَلْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ، وَأَيَّدَهُ بِرُوحٍ مِنْهُ »، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُمْ (عليهم السلام): «حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْكُمْ عَلَى هَذَا اَلْأَمْرِ إِلَّا اَلْأَنْدَرُ فَالْأَنْدَرُ»(٣١).
وفي رواية: «لَا يَكُونُ اَلَّذِي تَمُدُّونَ إِلَيْهِ أَعْنَاقَكُمْ (وهو ظهور الحجَّة (عجَّل الله فرجه)) حَتَّى يَشْقَى مَنْ شَقِيَ، وَيَسْعَدَ مَنْ سَعِدَ»(٣٢).
وإنَّ من تلك الفتن العمياء هي توالي المدَّعين للنيابة الخاصَّة (الوساطة) والسفارة في الغيبة الكبرى، بأساليب وأشكال مختلفة، وتسميات متعدِّدة، يُموِّهون بها على مختلف أصناف الناس. فتارةً تحت غطاء التشرُّف والفوز بلقاء الحجَّة، وأُخرى التظاهر بالتقى والورع والوصول إلى مقام الأبدال والأوتاد، وثالثة الرؤيا في المنام، ورابعة السحر والشعبذة وإظهاره كمعجزة وكرامة، وخامسة المكاتبة، و... و...
ومن ثَمَّ انتظم البحث في هذه الصفحات بعداد تلك الشُّبَه(٣٣)، تنبيهاً على زيفها، وإبانةً لزيغها، وإلَّا فانقطاع السفارة في الغيبة الكبرى كالنار على المنار، وكالشمس في رابعة النهار، حتَّى إنَّ الشيخ أبا القاسم جعفر بن محمّد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٠) الغيبة للنعماني (ص ٢١٤/ باب ١٢/ ح ١٢).
(٣١) الغيبة للنعماني (ص ٣٣ و٣٤).
(٣٢) الغيبة النعماني (ص ٢١٦ و٢١٧/ باب ١٢/ ح ١٦).
(٣٣) الشُّبَه، جمع شبهة، وتُجمَع على شُبُهات أيضاً.
↑صفحة ٢٦↑
ابن قولويه (رحمه الله)(٣٤) قال: (إنَّ عندنا (أي الطائفة الإماميَّة) أنَّ كلَّ من ادَّعى الأمر (أي السفارة) بعد السمري (رحمه الله)(٣٥) (آخر النُّوَّاب الأربعة في الغيبة الصغرى) فهو كافر منمِّس ضالٌّ مضلٌّ)(٣٦)، فلولا التلبيس بالأقنعة المتلوِّنة، والالتواء بالطُّرُق المعوجَّة لما كانت حاجة للخوض في ذلك.
ومنوال الجزء الأوَّل من الكتاب كما يلي:
الفصل الأوَّل: في الفرق بين السحر والمعجزة والكرامة.
الفصل الثاني: في كون انقطاع النائب الخاصِّ للإمام الحجَّة (عليه السلام) عقيدة من ضروريَّات الإماميَّة الاثني عشريَّة، وفيه عشرة أُمور:
الأمر الأوَّل: معنى النيابة.
الأمر الثاني: كلمات علماء الطائفة (رضوان الله عليهم).
الأمر الثالث: النيابة العامَّة للفقهاء.
الأمر الرابع: منابع الشريعة.
الأمر الخامس: الرؤيا ليست مصدراً للتشريع.
الأمر السادس: نبذة من أحوال النُّوَّاب الأربعة (رضي الله عنهم) في الغيبة الصغرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٤) صاحب كتاب (كامل الزيارات)، وأُستاذ الشيخ المفيد (رحمه الله) في الفقه، قال عنه النجاشي (رحمه الله) في رجاله (ص ١٢٣/ الرقم ٣١٨): (من ثقات أصحابنا وأجلَّائهم في الحديث والفقه...، وعليه قرأ شيخنا أبو عبد الله الفقه...، وكلُّ ما يُوصَف به الناس من جميل وثقة وفقه فهو فوقه).
(٣٥) وربَّما أثبت البعض السيمري، أو الصيمري - بالصاد -؛ وهو أبو الحسن عليُّ بن محمّد السيمري، كما يأتي في الأمر السادس من الفصل الثاني من هذا الكتاب.
(٣٦) الغيبة للطوسي (ص ٤١٢/ ح ٣٨٥).
↑صفحة ٢٧↑
الأمر السابع: ذكر المذمومين الذين ادَّعوا البابيَّة(٣٧) (لعنهم الله).
الأمر الثامن: ثواب الثبات والتمسُّك بالدِّين في الغيبة الكبرى، وشدَّة المحنة.
الأمر التاسع: تفسير الكتاب الوارد من الناحية المقدَّسة على الشيخ المفيد (رحمه الله)، وتشرُّف عدَّة من أساطين الفقه والعلم بلقائه (عجَّل الله فرجه).
الأمر العاشر: من هم الأبدال والأوتاد؟
الفصل الثالث: في الفِرَق التي انحرفت عن الطائفة الإماميَّة، وكيفيَّة ذلك.
الفصل الرابع: في تاريخ البابيَّة في إيران.
الخاتمة: وفيها ثلاثة أُمور:
الأمر الأوَّل: في خروج الدجَّال.
الأمر الثاني: ظهور الحجَّة (عجَّل الله فرجه) وأصحابه.
الأمر الثالث: في ذمِّ الجهل، ومدح العلم.
هذا ما وسع المجال لسطره، وبالله التوفيق.
أمَّا الجزء الثاني، فهو كما يلي:
الفصل الأوَّل: العقول والخواطر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٧) البابيَّة: نسبة إلى الباب، وهم من كانوا يدَّعون أنَّهم الباب إلى الحجَّة (عجّل الله فرجه)، بمعنى أنَّ من يريد أمراً ما من الحجَّة (عجّل الله فرجه) فلا بدَّ أنْ يعود إليهم، وهم بدورهم يؤدُّون ذلك إلى الحجَّة (عجّل الله فرجه) حتَّى يُبيِّن الحقَّ، وكلُّ من ادَّعى ذلك سوى السفراء الأربعة الذين كانوا في عصر الغيبة الصغرى ادَّعى باطلاً، كما سيأتي ذلك مفصَّلاً في الأمر السابع من الفصل الثاني.
↑صفحة ٢٨↑
الفصل الثاني: منظومة المعارف الدِّينيَّة.
الفصل الثالث: فتنة البصيرة.
الفصل الرابع: حقيقة ومراتب الحُجَج.
الفصل الخامس: القواعد الرقابيَّة في المعرفة.
الفصل السادس: النيابة الخاصَّة.
الفصل السابع: حقيقة النيابة الخاصَّة والسفارة.
الفصل الثامن: مفهوم الغيبة بين الإفراط والتفريط.
الفصل التاسع: التوقيت والظهور.
* * *
↑صفحة ٢٩↑
الفصل الأوَّل: في الفرق بين السحر والمعجزة والكرامة
↑صفحة ٣١↑
لـمَّا كان طريق إثبات النبوَّة هي المعجزة التي هي من قِبَل الله تعالى، وهي تفترق عن السحر، كان من اللَّازم معرفة كلٍّ منهما بنحو عميق ودقيق، كي لا يلتبس الأمر، ويُعلَم المحقُّ من المبطل، والصادق من الكاذب، سأل ابن السكِّيت الرضا (عليه السلام) بعدما بيَّن له علل وجه معجزات الأنبياء (عليهم السلام): فَمَا اَلْحُجَّةُ عَلَى اَلْخَلْقِ اَلْيَوْمَ؟ فَقَالَ (عليه السلام): «اَلْعَقْلُ يُعْرَفُ بِه اَلصَّادِقُ عَلَى اَلله فَيُصَدِّقُهُ، وَاَلْكَاذِبُ عَلَى اَلله فَيُكَذِّبُهُ، فَقَالَ اِبْنُ اَلسِّكِّيتِ: هَذَا وَاَلله هُوَ اَلْجَوَابُ(٣٨).
وسأل أبو بصير الصادق (عليه السلام): لِأَيِّ عِلَّةٍ أَعْطَى اَللهُ (عزَّ وجلَّ) أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَأَعْطَاكُمُ اَلمُعْجِزَةَ؟ فَقَالَ: «لِيَكُونَ دَلِيلاً عَلَى صِدْقِ مَنْ أَتَى بِهِ، وَاَلمُعْجِزَةُ عَلَامَةٌ لِله لَا يُعْطِيهَا إِلَّا أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَحُجَجَهُ، لِيُعْرَفَ بِهِ صِدْقُ اَلصَّادِقِ مِنْ كَذِبِ اَلْكَاذِبِ»(٣٩).
قال المحقِّق الطوسي (رحمه الله)(٤٠) في (التجريد): (وطريق معرفة صدقه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٨) الكافي (ج ١/ ص ٢٤ و٢٥/ كتاب العقل والجهل/ ح ٢٠)، علل الشرائع (ج ١/ ص ١٢١ و١٢٢/ باب ٩٩/ ح ٦٠)، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج ٢/ ص ٨٥ و٨٥/ باب ٣٢/ ح ١٢)، تُحَف العقول (ص ٤٥٠).
(٣٩) علل الشرائع (ج ١/ ص ١٢٢/ باب ١٠٠/ ح ١).
(٤٠) المحقِّق نصير الدِّين الطوسي، من أكابر علماء الإماميَّة، وله خدمات كبيرة للمذهب، وقد برع في علوم كثيرة كالفلسفة، وعلم الكلام، والفلك، والهيأة، والهندسة، وغيرها، وقد بنى المرصد الفلكي المشهور بمراغة.
↑صفحة ٣٣↑
(النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)) ظهور المعجزة على يده، وهو ثبوت ما ليس بمعتاد، أو نفي ما هو معتاد، مع خرق العادة، ومطابقة الدعوى)(٤١).
وقال العلَّامة الحلِّي (رحمه الله)(٤٢) في شرحه للتجريد في ذيل العبارة: (الثبوت والنفي سواء في الإعجاز، فإنَّه لا فرق بين قلب العصا حيَّة وبين منع القادر عن رفع أضعف الأشياء، وشرطنا خرق العادة لأنَّ فعل المعتاد ونفيه لا يدلُّ على الصادق، وقلنا: مع مطابقة الدعوى، لأنَّ من يدَّعي النبوَّة ويسند معجزته إلى إبراء الأعمى فيحصل له الصمم مع عدم برء الأعمى لا يكون صادقاً. ولا بدَّ في المعجزة من شروط: أحدها: أنْ يعجز عن مثله أو عمَّا يقاربه الأُمَّة المبعوث إليها. الثاني: أنْ يكون من قِبَل الله تعالى أو بأمره. الثالث: أنْ يحدث عقيب دعوى المدَّعي للنبوَّة أو جارياً مجرى ذلك، ونعني بالجاري مجرى ذلك أنْ يظهر دعوة النبيِّ في زمانه...، الخامس: أنْ يكون خارقاً للعادة)(٤٣).
وقال المحقِّق الطوسي (رحمه الله) في (التجريد) أيضاً: (الكرامات: وقصَّة مريم وغيرها تُعطي جواز ظهورها [أي المعجزة] على الصالحين)(٤٤).
وقال العلَّامة الحلِّي (رحمه الله) في شرحه للعبارة: (استدلَّ المصنِّف (رحمه الله) بقصَّة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤١) تجريد الاعتقاد (ص ٢١٤).
(٤٢) العلَّامة الحلِّي هو الشيخ جمال الدِّين أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهَّر، شيخ الطائفة وعلَّامة وقته وصاحب التحقيق والتدقيق، كثير التصانيف، انتهت الإماميَّة إليه، برع في العلوم العقليَّة والنقليَّة.
(٤٣) كشف المراد (ص ٣٧٧ و٣٧٨).
(٤٤) تجريد الاعتقاد (ص ٢١٤).
↑صفحة ٣٤↑
مريم، فإنَّها تدلُّ على ظهور معجزات عليها وغيرها مثل قصَّة آصف، وكالأخبار المتواترة المنقولة عن عليٍّ وغيره من الأئمَّة (عليهم السلام))(٤٥).
وقال المحقِّق الطوسي (رحمه الله) بعد ذلك: (ولا يلزم خروجه عن الإعجاز، ولا التنفير، ولا عدم التميُّز، ولا إبطال دلالته، ولا العموميَّة)(٤٦).
وقال العلَّامة (رحمه الله) في شرحه: (إنَّ المعجزة مع الدعوى مختصٌّ بالنبيِّ، فإذا ظهرت المعجزة على شخص فإمَّا أنْ يدَّعي النبوَّة أو لا، فإنِ ادَّعاها علمنا صدقه، إذ إظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح عقلاً، وإنْ لم يدَّعِ النبوَّة لم يُحكَم بنبوَّته. والحاصل أنَّ المعجزة لا تدلُّ على النبوَّة ابتداءً، بل تدلُّ على صدق الدعوى، فإنْ تضمَّنت الدعوى النبوَّة دلَّت المعجزة على تصديق المدَّعي في دعواه...، [و]لا يلزم إظهار المعجز على كلِّ صادق، إذ نحن إنَّما نُجوِّز إظهارها على مدَّعي النبوَّة أو الصالح إكراماً لهما وتعظيماً، وذلك لا يحصل لكلِّ مخبر بصدق...، [و]إنَّ امتياز النبيِّ يحصل بالمعجز واقتران دعوى النبوَّة، وهذا شيء يختصُّ به دون غيره، ولا يلزم من مشاركة غيره له في المعجزة مشاركته له في كلِّ شيء...، [و]كما لا تلزم الإهانة وانحطاط مرتبة الإعجاز مع ظهور المعجز على جماعة من الأنبياء، كذا لا تلزم الإهانة مع ظهوره على الصالحين)(٤٧).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٥) كشف المراد (ص ٣٧٨).
(٤٦) تجريد الاعتقاد (ص ٢١٤).
(٤٧) كشف المراد (ص ٣٧٩) بتقديم وتأخير.
↑صفحة ٣٥↑
وقال المحقِّق القمِّي (رحمه الله)(٤٨) في (رسالة أُصول الدِّين): (الإمام يُعرَف بالمعجزة، فكلُّ من ادَّعى الإمامة وأتى بالمعجزة فإنَّما تدلُّ على صدقه مثل ما مضى في بعث النبوَّة)(٤٩).
وقال العلَّامة الحلِّي (رحمه الله) في كتاب (أنوار الملكوت) ما حاصله: (المعجز أمر خارق للعادة مقرون بالتحدِّي، والتقييد بخارق للعادة ليتميَّز المعجز عن غيره، وهذا القيد يُكتفى به عن التقييد بعدم المعارضة ليتميَّز به عن السحر والشعبذة إذ السحر والشعبذة ليس بخارق للعادة وإنْ كانت خفيَّة على أكثر الناس. وقيَّدنا الخارق للعادة بالاقتران بالتحدِّي ليتميَّز المعجز عن الكرامات)(٥٠).
وقال الحكيم المتبحِّر محمّد مهدي النراقي (رحمه الله)(٥١) في كتابه (أنيس الموحِّدين): (كلُّ من ادَّعى النبوَّة أو الإمامة وصدر منه أمر خارق فهو صاحب كرامة)، ثمّ قال: (والفرق بين المعجزة والسحر والشعبذة هو أنَّ السحر والشعبذة من الأُمور العاديَّة، ولكن أسبابهما تخفى على أكثر الناس، وهذا بخلاف المعجزة، فهي ليست من الأُمور العاديَّة، ولا يوجد لها سبب مطلقاً)(٥٢).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٨) المحقِّق الميرزا أبو القاسم القمِّي، من كبار فقهاء الشيعة، له كتاب قوانين الأُصول في أُصول الفقه، وجامع الشتات، وغنائم الأيَّام في الفقه، وغير ذلك، واشتهر بالمحقِّق القمِّي.
(٤٩) رسالة في أُصول الدِّين للمحقِّق القمِّي (رحمه الله).
(٥٠) أنوار الملكوت في شرح الياقوت (ص ١٨٤) بتفاوت.
(٥١) هو العلَّامة الجامع للفنون والعلوم العقليَّة والنقليَّة، ذو الفضائل الأخلاقيَّة، والملكات النورانيَّة، صاحب كتاب جامع السعادات.
(٥٢) أنيس الموحِّدين (ص ١٠١ - ١٠٣).
↑صفحة ٣٦↑
وتوضيح الكلام في هذا المقام أنَّ الأُمور العاديَّة التي جرت عادةُ الله تعالى على وقوعها على قسمين:
الأوَّل: ما سببه ظاهر، وهو يحصل إمَّا من أسبابٍ أرضيَّة مثل تأثير بعض الأغذية والأدوية، وصيرورة النطفة إنساناً، ونحو ذلك من الأسباب الأرضيَّة التي تتَّفق. وإمَّا تحصل من أسباب سماويَّة، مثل الحرارة الحاصلة من الشمس. وإمَّا تحصل من تركُّب الأسباب، مثل تأثير الدواء المتناول في جوٍّ هوائيٍّ خاصٍّ، ومثل تأثير الدعاء المكتوب في وقتٍ خاصٍّ، أو الذي يُقرَأ في وقتٍ خاصٍّ. وهذه كلُّها من الأُمور التي جرت عادة الله تعالى على وقوعها بأسبابٍ متوفِّرة ومتهيِّئة لأكثر الناس.
الثاني: هي التي تحصل أيضاً إمَّا من أسبابٍ أرضيَّة أو سماويَّة أو كليهما، ولكن أسبابها مخفيَّة على أكثر الناس، مثل السحر والشعبذة والطلسمات وعلم الحِيَل والنيرنجات، وحيث إنَّ لها أسباباً فالتعلُّم والتعليم حاصل فيها، أي إنَّ كلَّ من يعلم تلك العلوم يمكن له أنْ يُعلِّمها غيرَه، بخلاف المعجزة، التي ليس لها سبب مطلقاً، لأنَّه من المعلوم أنَّ شقَّ القمر - مثلاً - لم يقع بسبب وحيلة ما، بل هو عطيَّة إلهيَّة يُعطيها الله تبارك وتعالى لمن يشاء، ومن ذلك لا يستطيع صاحب المعجزة أنْ يُعلِّمها غيرَه، حيث إنَّه ليس لها علَّة غير إرادة الله تعالى، فالتعليم في المعجزة لا مجال له.
إذاً اتَّضح أنَّ المعجزة خارقة للعادة.
وأمَّا السحر والكهانة(٥٣) والشعبذة فليست بخارقة للعادة، بل هي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٣) الكهانة الإخبار عن المستقبل بتوسُّط الجنِّ بعد انصياعهم للكاهن بسبب نمطٍ من الأعمال، وهي قريبة من السحر.
↑صفحة ٣٧↑
أُمور عاديَّة أسبابها تخفى على أكثر الناس.
والتفريق بين المعجزة والسحر والشعبذة على من له غَرفة من المعارف والعلوم في نهاية السهولة، حيث إنَّه يتمكَّن من العلم بأنَّ الأمر له سبب أم لا، وأرباب السحر أسرع معرفةً لذلك من بقيَّة المتعلِّمين، ولذلك أوَّل من آمن بالنبيِّ موسى (عليه السلام) هم السحرة. ولكن هذا الفرق يشكل على عامَّة الناس الاهتداء إليه، فعليهم بمتابعة العلماء كي يشرق نور الحقيقة في قلوبهم.
نعم، هنالك فرق آخر بين صاحب المعجزة والساحر يمكن لعامَّة الناس معرفته، وهو أنَّ صاحب المعجزة مهما طُلِبَ منه(٥٤) أمر خارق للعادة للاحتجاج به فإنَّه قادر على إظهاره، مثلما طلب جماعة من المعاندين من نبيِّنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كثيراً من الأُمور الخارقة للعادة فأظهرها لهم، وكذلك بقيَّة الأنبياء (عليهم السلام).
وهذا بخلاف الساحر، فإنَّ عمله منحصر في فعلٍ خاصٍّ قد تعلَّمه، وإذا طُلِبَ منه أمر - خارق للعادة - آخر فإنَّه يعجز عن ذلك، ومن ذلك لم يُرَ ولم يُسمَع أنَّ ساحراً كان يأتي بكلِّ ما يُطلَب منه.
أقول: فتحصَّل ممَّا تقدَّم من كلمات الأعلام أنَّ المعجزة أمر خارق للعادة يأتي بها من يدَّعي النبوَّة أو الإمامة إثباتاً لصدقه، وأنَّ معجزات الأنبياء (عليهم السلام) تتحدَّى البشريَّة على مرِّ العصور إلى يوم القيامة بأنْ يأتوا بمثلها، فإخراج النبيِّ صالح (عليه السلام) للناقة من الجبل بانشقاقه تعجز البشريَّة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٤) هذا إذا لم يكن الطلب بداعي العناد واللجاج، بل لاستكشاف حقيقة الحال، كما كان يتَّفق ذلك مع النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حينما كانت قريش تطلب منه بعض المعجزات.
↑صفحة ٣٨↑
مهما تطوَّرت علومهم عن ذلك، وكذلك قلب العصا حيَّةً تسعى تلتقم سحر وإفك كلِّ ساحر من النبيِّ موسى (عليه السلام)، وكذلك إحياء الموتى وإبراء الأعمى والأكمه والأبرص من النبيِّ عيسى (عليه السلام)، وكذلك شقُّ القمر والقرآن الخالد لنبيِّنا الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
إذاً لا بدَّ من ادِّعاء، وأمر خارق للعادة، كي يتحقَّق معنى المعجزة، ومن هنا يتَّضح أنَّ كرامات أولياء الله الصالحين لا تُسمَّى معجزةً، لأنَّهم لا يدَّعون لأنفسهم شيئاً، ولو ادَّعوا ما ليس لهم لما أعطاهم الله تلك الكرامات، وهذه السُّنَّة من الله تعالى حكمة بالغة كي لا تبطل حُجَجه على عباده، ويتمَّ الاحتجاج عليهم ببعث الرُّسُل، وبإقامة الأوصياء خلفاء الرُّسُل.
قال العلَّامة الطباطبائي (رحمه الله)(٥٥) في تفسيره - عند الكلام حول قدرة الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) -: (الناس في جهل بمقام ربِّهم وغفلة عن معنى إحاطته وهيمنته، فهم مع ما تهديهم الفطرة الإنسانيَّة إلى وجوده وأحديَّته يسوقهم الابتلاء بعالم المادَّة والطبيعة والتوغُّل في الأحكام والقوانين الطبيعيَّة ثمّ السُّنَن والنواميس الاجتماعيَّة والأُنس بالكثرة والبينونة إلى قياس العالم الربوبي بما ألفوا من عالم المادَّة، فالله سبحانه عندهم مع خلقه كجبار من جبابرة البشر مع عبيده ورعيَّته... لكن البراهين اليقينيَّة تقضي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٥) هو العلَّامة السيِّد محمّد حسين الطباطبائي صاحب تفسير الميزان، من بيت العلم والفضل، له تاريخ طويل في خدمة الشريعة حيث إنَّ أربعة عشر من أجداده كانوا من العلماء المبرزين، كان واحد هذا العصر في العلوم العقليَّة والتفسير.
↑صفحة ٣٩↑
بفساد ذلك كلِّه، فإنَّها تحكم بسريان الفقر والحاجة إلى الموجودات الممكنة في ذواتها وآثار ذواتها، وإذا كانت الحاجة إليه تعالى في مقام الذات استحال الاستقلال عنه والانعزال منه على الإطلاق، إذ لو فُرِضَ استقلال لشيء منه تعالى في وجوده أو شيء من آثار وجوده - بأيِّ وجه فُرِضَ في حدوث أو بقاء - استغنى عنه من تلك الجهة، وهو محال.
فكلُّ ممكن غير مستقلٍّ في شيء من ذاته وآثار ذاته، والله سبحانه هو الذي يستقلُّ في ذاته، وهو الغنيُّ الذي لا يفتقر في شيء، ولا يفقد شيئاً من الوجود وكمال الوجود كالحياة والقدرة والعلم، فلا حدَّ له يتحدَّد به...
وعلى ما تقدَّم كلُّ ما للممكن من الوجود أو الحياة أو القدرة أو العلم متعلِّق الوجود به تعالى، غير مستقلٍّ منه بوجه...، [و]الاستقلال يُبطِل الحاجة الإمكانيَّة، ولا فرق فيه بين الكثير والقليل كما عرفت، هذا من جهة العقل.
وأمَّا من جهة النقل، فالكتاب الإلهي وإنْ كان ناطقاً باختصاص بعض الصفات والأفعال به تعالى كالعلم بالمغيَّبات والإحياء والإماتة والخلق كما في [كثير من الآيات، و]لكنَّها جميعها مفسَّرة بآيات أُخَر كقوله: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ (الجنّ: ٢٦ و٢٧)، ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ﴾ (السجدة: ١١)، ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي﴾ (المائدة: ١١٠)...، وانضمام الآيات إلى الآيات لا يدع شكًّا في أنَّ المراد بالآيات النافية اختصاص هذه الأُمور به تعالى بنحو الأصالة والاستقلال،
↑صفحة ٤٠↑
والمراد بالآيات المثبتة إمكان تحقُّقها في غيره تعالى بنحو التبعيَّة وعدم الاستقلال.
فمن أثبت شيئاً من العلم المكنون أو القدرة الغيبيَّة أعني العلم من غير طريق الفكر والقدرة من غير مجراها العادي الطبيعي لغيره تعالى من أنبيائه وأوليائه كما وقع كثيراً في الأخبار والآثار، ونفى معه الأصالة والاستقلال بأنْ يكون العلم والقدرة مثلاً له تعالى وإنَّما ظهر ما ظهر منه بالتوسيط، ووقع ما وقع منه بإفاضته وجوده، فلا حجر عليه.
ومن أثبت شيئاً من ذلك على نحو الأصالة والاستقلال طبق ما يثبته الفهم العامِّي وإنْ أسنده إلى الله سبحانه وفيض رحمته لم يخل من غلوِّ، وكان مشمولاً لمثل قوله: ﴿لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ (النساء: ١٧١))(٥٦).
وقال (رحمه الله) في تفسيره في ذيل قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ (البقرة: ١٠٢): (إنَّ الآية بسياقها تتعرَّض لشأن آخر من شؤون اليهود، وهو تداول السحر بينهم، وأنَّهم كانوا يستندون في أصله إلى قصَّة معروفة أو قصَّتين...، إنَّ اليهود كما يذكره عنهم القرآن أهل تحريف وتغيير في المعارف والحقائق، فلا يُؤمَنون ولا يُؤمَن من أمرهم أنْ يأتوا بالقَصَص التاريخيَّة محرَّفة مغيَّرة على ما هو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٦) تفسير الميزان (ج ١٠/ ص ٢١٠ - ٢١٣).
↑صفحة ٤١↑
دأبهم في المعارف يميلون كلَّ حين إلى ما يناسبه من منافعهم في القول والفعل.
وفيما يلوح من الآية أنَّ اليهود كانوا يتناولون بينهم السحر، [و]ينسبونه إلى سليمان، زعماً منهم أنَّ سليمان (عليه السلام) إنَّما مَلَكَ المَلَك وسخَّر الجنَّ والإنس والوحش والطير وأتى بغرائب الأُمور وخوارقها بالسحر الذي هو بعض ما في أيديهم، وينسبون بعضه الآخر إلى المَلَكين ببابل هاروت وماروت.
فردَّ عليهم القرآن بأنَّ سليمان (عليه السلام) لم يكن يعمل بالسحر، كيف والسحر كفر بالله، وتصرُّف في الكون على خلاف ما وضع الله العادة عليه وأظهره على خيال الموجودات الحيَّة وحواسِّها؟ ولم يكفر سليمان (عليه السلام)، وهو نبيٌّ معصوم، وهو قوله تعالى: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾.
فسليمان (عليه السلام) أعلى كعباً وأقدس ساحةً من أنْ يُنسَب إليه السحر والكفر، وقد استعظم الله قدره في مواضع من كلامه في عدَّة من السور المكّيَّة النازلة قبل هذه السورة...).
إلى أنْ قال: (وفيها أنَّه كان عبداً صالحاً ونبيًّا مرسَلاً آتاه الله العلم والحكمة، ووهب له من المُلك ما لا ينبغي لأحدٍ من بعده، فلم يكن بساحر، بل هو من القَصَص الخرافيَّة والأساطير التي وضعتها الشياطين وتلوها وقرأوها على أوليائهم من الإنس، وكفروا بإضلالهم الناس بتعليم
↑صفحة ٤٢↑
السحر. وردَّ عليهم القرآن في المَلَكين ببابل هاروت وماروت بأنَّه وإنْ نزل عليهما ذلك، ولا ضير في ذلك، لأنَّه فتنة وامتحان إلهي، كما ألهم قلوب بني آدم وجوه الشرِّ والفساد فتنةً وامتحاناً، وهو من القدر، فهما وإنْ أُنزل عليهما السحر إلَّا أنَّهما ما كانا يُعلِّمان من أحد إلَّا ويقولان له: إنَّما نحن فتنة فلا تكفر باستعمال ما تتعلَّمه من السحر في غير مورده كإبطال السحر والكشف عن بغي أهله، وهم مع ذلك يتعلَّمون منهما ما يُفسِدون به أصلح ما وضعه الله في الطبيعة والعادة...).
إلى أنْ قال: (لأنَّ العقل لا يرتاب في أنَّ السحر أشأم منابع الفساد في الاجتماع الإنساني...، وفي تفسير العيَّاشي والقمِّي في قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾، عن الباقر (عليه السلام) في حديث: «فَلَمَّا هَلَكَ سُلَيْمَانُ وَضَعَ إِبْلِيسُ اَلسِّحْرَ، وَكَتَبَهُ فِي كِتَابٍ، ثُمَّ طَوَاهُ، وَكَتَبَ عَلَى ظَهْرِهِ: هَذَا مَا وَضَعَهُ آصَفُ بْنُ بَرْخِيَا لِلْمَلِكِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ مِنْ ذَخَائِرِ كُنُوزِ اَلْعِلْمِ، مَنْ أَرَادَ كَذَا وَكَذَا فَلْيَعْمَلْ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ دَفَنَهُ تَحْتَ سَرِيرِهِ، ثُمَّ اِسْتَثَارَهُ لَهُمْ، فَقَالَ اَلْكَافِرُونَ: مَا كَانَ يَغْلِبُنَا سُلَيْمَانُ إِلَّا بِهَذَا، وَقَالَ اَلمُؤْمِنُونَ: بَلْ هُوَ عَبْدُ اَلله وَنَبِيُّهُ»(٥٧)...، [و]إسناد الوضع والكتابة والقراءة إلى إبليس لا ينافي استنادها إلى سائر الشياطين من الجنِّ والإنس، لانتهاء الشرِّ كلِّه إليه، وانتشاره منه لعنه الله إلى أوليائه بالوحي والوسوسة، وذلك شائع في لسان الأخبار) (٥٨).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٧) تفسير العيَّاشي (ج ١/ ص ٥٢/ ح ٧٤)، تفسير القمِّي (ج ٢/ ص ٢٠٠).
(٥٨) تفسير الميزان (ج ١/ ص ٢٣٤ - ٢٣٧).
↑صفحة ٤٣↑
ثمّ قال (رحمه الله) تحت عنوان (بحث فلسفي): (من المعلوم وقوع أفعال خارقة للعادة الجارية للمشاهدة والنقل، فقلَّما يوجد منَّا من لم يشاهد شيئاً من خوارق الأفعال، أو لم يُنقَل إليه شيء من ذلك - قليل أو كثير -، إلَّا أنَّ البحث الدقيق في كثير منها يُبيِّن رجوعها إلى الأسباب الطبيعيَّة العاديَّة، فكثير من هذه الأفعال الخارقة يتقوَّى بها أصحابها بالاعتياد والتمرين كأكل السموم وحمل الأثقال والمشي على حبل ممدود في الهواء إلى غير ذلك، وكثير منها تتَّكي على أسباب طبيعيَّة مخفيَّة على الناس مجهولة لهم كمن يدخل النار ولا يحترق بها من جهة طلاية الطلق ببدنه، أو يكتب كتاباً لا خطَّ عليه ولا يقرأه إلَّا صاحبه، وإنَّما كُتِبَ بمائع لا يظهر إلَّا إذا عُرِضَ لكتاب على النار، إلى غير ذلك.
وكثير منها يحصل بحركات سريعة تخفى على الحسِّ لسرعتها، فلا يرى الحسُّ إلَّا أنَّه وقع من غير سبب طبيعي، كالخوارق التي يأتي بها أصحاب الشعبذة، فهذه كلُّها مستندة إلى أسباب عاديَّة مخفيَّة على حسِّنا أو غير مقدورة لنا، لكن بعض هذه الخوارق لا يُحلَّل إلى الأسباب الطبيعيَّة الجارية على العادة كالإخبار عن بعض المغيَّبات، وخاصَّةً ما يقع منها في المستقبل، وكأعمال الحبِّ والبغض والعقد والحلِّ والتنويم والتمريض وعقد النوم والإحضار والتحريكات بالإرادة ممَّا يقع من أرباب الرياضات، وهي أُمور غير قابلة للإنكار، شاهدنا بعضاً منها، ونُقِلَ إلينا بعض آخر نقلاً لا يُطعَن فيه، وهو ذا يوجد اليوم من أصحابها بالهند وإيران والغرب جماعة يُشاهَد منهم أنواع من هذه الخوارق.
↑صفحة ٤٤↑
والتأمُّل التامُّ في طُرُق الرياضات المعطية لهذه الخوارق والتجارب العمليَّة في أعمالهم وإرادتهم يوجب القول بأنَّها مستندة إلى قوَّة الإرادة والإيمان بالتأثير على تشتُّت أنواعها، فالإرادة تابعة للعلم والإذعان السابق عليه، فربَّما توجد على إطلاقها، وربَّما توجد عند وجود شرائط خاصَّة ككتابة شيءٍ خاصٍّ بمدادٍ خاصٍّ في مكانٍ خاصٍّ في بعض أعمال الحبِّ والبغض، أو نصب المرآة حيال وجه طفلٍ خاصٍّ عند إحضار الروح، أو قراءة عوذة خاصَّة، إلى غير ذلك، فجميع ذلك شرائط لحصول الإرادة الفاعلة.
فالعلم إذا تمَّ علماً قاطعاً أعطى للحواسِّ مشاهدة ما قطع به، ويمكنك أنْ تختبر صحَّة ذلك بأنْ تُلقِّن نفسك أنَّ شيئاً كذا أو شخصاً كذا حاضر عندك تشاهده بحاسَّتك، ثمّ تتخيَّله بحيث لا تشكُّ فيه ولا تلتفت إلى عدمه ولا إلى شيء غيره، فإنَّك تجده أمامك على ما تريد، وربَّما توجد في الآثار معالجة بعض الأطبَّاء الأمراض المهلكة بتلقين الصحَّة على المريض.
وإذا كان الأمر على هذا فلو قويت الإرادة أمكنها أنْ تُؤثِّر في غير الإنسان المريد، نظير ما توجده في نفس الإنسان المريد، إمَّا من غير شرط وقيد، أو مع شيء من الشرائط.
ويتبيَّن بما مرَّ أُمور:
أحدها: أنَّ الملاك في هذا التأثير تحقُّق العلم الجازم من صاحب خرق العادة، وأمَّا مطابقة هذا العلم للخارج فغير لازم، كما كان يعتقده أصحاب تسخير الكواكب من الأرواح المتعلِّقة بالأجرام الفلكيَّة، ويمكن أنْ يكون
↑صفحة ٤٥↑
من هذا القبيل الملائكة والشياطين الذي يستخرج أصحاب الدعوات والعزائم أسماءهم، ويدعون بها على طُرُق خاصَّة عندهم، وكذلك ما يعتقده أصحاب إحضار الأرواح [من] حضور الروح، فلا دليل لهم على أزيد من حضورها في خيالهم أو حواسِّهم دون الخارج، وإلَّا لرآه كلُّ من حضر عندهم، وللكلِّ حسٌّ طبيعي.
وبه تنحلُّ شبهة أُخرى في إحضار روح من هو حيٌّ في حال اليقظة مشغول بأمره من غير أنْ يشعر به، والواحد من الإنسان ليس له إلَّا روح واحدة. وبه تنحلُّ أيضاً شبهة أُخرى، وهي أنَّ الروح جوهر مجرَّد لا نسبة له إلى زمان ومكان دون زمان ومكان. وبه تنحلُّ أيضاً شبهة ثالثة، وهي أنَّ الروح الواحدة ربَّما تحضر عند أحد بغير الصورة التي تحضر بها عند آخر. وبه تنحلُّ شبهة رابعة، وهي أنَّ الأرواح ربَّما تكذب عند الإحضار في أخبارها، وربَّما يُكذِّب بعضها بعضاً.
فالجواب عن الجميع: أنَّ الروح إنَّما تحضر في مشاعر الشخص المحضِر لا في الخارج منها على حدِّ ما نحسُّ بالأشياء المادّيَّة الطبيعيَّة.
ثانيها: أنَّ صاحب هذه الإرادة المؤثِّرة ربَّما يعتمد في إرادته على قوَّة نفسه وثبات إنيَّته كغالب أصحاب الرياضات في إراداتهم، فتكون لا محالة محدودة القوَّة مقيَّدة الأثر عند المريد وفي الخارج. وربَّما يعتمد فيه على ربِّه كالأنبياء والأولياء من أصحاب العبوديَّة لله وأرباب اليقين بالله، فهم لا يريدون شيئاً إلَّا لربِّهم وبربِّهم، وهذه إرادة طاهرة لا استقلال للنفس التي تطلع هذه الإرادة منها بوجه، ولم تتلوَّن بشيء من ألوان الميول النفسانيَّة، ولا اتِّكاء لها إلَّا على الحقِّ، فهي إرادة ربَّانيَّة غير محدودة ولا مقيَّدة.
↑صفحة ٤٦↑
والقسم الثاني إنْ أثَّرت في مقام التحدِّي كغالب ما يُنقَل من الأنبياء سُمّيت آية معجزة، وإنْ تحقَّقت في غير مقام التحدِّي سُمّيت كرامة أو استجابة دعوة إنْ كانت مع دعاء. والقسم الأوَّل إنْ كان بالاستخبار والاستنصار من جنٍّ أو روح أو نحوه سُمّي كهانة، وإنْ كان بدعوة أو عزيمة أو رقية أو نحو ذلك سُمّي سحراً.
ثالثها: أنَّ الأمر حيث كان دائراً مدار الإرادة في قوَّتها، وهي على مراتب من القوَّة والضعف، أمكن أنْ يبطل بعضها أثر البعض، كتقابل السحر والمعجزة، أو أنْ لا يُؤثِّر بعض النفوس في بعض إذا كانت مختلفة في مراتب القوَّة، وهو مشهود في أعمال التنويم والإحضار)(٥٩).
ثمّ قال (رحمه الله) تحت عنوان (بحث علمي): (العلوم الباحثة عن غرائب التأثير كثيرة، والقول الكلِّي في تقسيمها وضبطها عسيرة جدًّا، وأعرف ما هو متداول بين أهلها ما نذكره:
منها: السيمياء، وهو العلم الباحث عن تمزيج القوى الإراديَّة مع القوى الخاصَّة المادّيَّة للحصول على غرائب التصرُّف في الأُمور الطبيعيَّة، ومنه التصرُّف في الخيال المسمَّى بسحر العيون، وهذا الفنُّ من أصدق مصاديق السحر.
ومنها: الليمياء، وهو العلم الباحث عن كيفيَّة التأثيرات الإراديَّة باتِّصالها بالأرواح القويَّة العالية، كالأرواح الموكَّلة بالكواكب والحوادث وغير ذلك، بتسخيرها أو باتِّصالها واستمدادها من الجنِّ بتسخيرهم، وهو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٩) تفسير الميزان (ج ١/ ص ٢٤١ - ٢٤٣).
↑صفحة ٤٧↑
فنُّ التسخيرات.
ومنها: الهيمياء، وهو العلم الباحث عن تركيب قوى العالم العلوي مع العناصر السفليَّة للحصول على عجائب التأثير، وهو الطلسمات، فإنَّ للكواكب العلوية والأوضاع السماويَّة ارتباطات مع الحوادث المادّيَّة، كما أنَّ العناصر والمركَّبات وكيفيَّاتها الطبيعيَّة كذلك، فلو ركَّبت الأشكال السماويَّة المناسبة لحادثة من الحوادث كموت فلان، وحياة فلان، وبقاء فلان مثلاً مع الصورة المادّيَّة المناسبة، أنتج ذلك الحصول على المراد، وهذا معنى الطلسم.
ومنها: الريمياء، وهو العلم الباحث عن استخدام القوى المادّيَّة للحصول على آثارها بحيث يظهر للحسِّ أنَّها آثار خارقة بنحو من الأنحاء، وهو الشعبذة.
وهذه الفنون الأربعة مع فنٍّ خامس يتلوها وهو الكيمياء الباحث عن كيفيَّة تبديل صور العناصر بعضها إلى بعض كانت تُسمَّى عندهم بالعلوم الخمسة الخفيَّة.
قال شيخنا البهائي: أحسن الكُتُب المصنَّفة التي في هذه الفنون كتاب رأيته ببلدة هرات اسمه (كلُّه سرٌّ)، وقد ركَّب اسمه من أوائل أسماء هذه العلوم: الكيمياء، والليمياء، والهيمياء، والسيمياء، والريمياء. انتهى ملخَّص كلامه. ومن الكُتُب المعتبرة فيها خلاصة كُتُب بليناس، ورسائل الخسروشاهي، والذخيرة الإسكندريَّة، والسرُّ المكتوم للرازي، والتسخيرات للسكَّاكي، وأعمال الكواكب السبعة للحكيم طمطم الهندي.
↑صفحة ٤٨↑
ومن العلوم الملحقة بما مرَّ علم الأعداد والأوفاق، وهو الباحث عن ارتباطات الأعداد والحروف للمطالب، ووضع العدد أو الحروف المناسبة للمطلوب في جداول مثلَّثة أو مربَّعة أو غير ذلك على ترتيب مخصوص.
ومنها: الخافية، وهو تكسير حروف المطلوب أو ما يناسب المطلوب من الأسماء، واستخراج أسماء الملائكة أو الشياطين الموكَّلة بالمطلوب، والدعوة بالعزائم المؤلَّفة منها للنيل على المطلوب، ومن الكُتُب المعتبرة فيها عندهم كُتُب الشيخ أبي العبَّاس التوني، والسيِّد حسين الأخلاطي، وغيرهما.
ومن الفنون الملحقة بها الدائرة اليوم التنويم المغناطيسي، وإحضار الأرواح، وهما كما مرَّ من تأثير الإرادة والتصرُّف في الخيال، وقد أُلِّف فيها كُتُب ورسائل كثيرة، واشتهار أمرها يغني عن الإشارة إليها هاهنا، والغرض ممَّا ذكرنا على طوله إيضاح انطباق ما ينطبق منها على السحر أو الكهانة)(٦٠)، انتهى كلامه.
أقول: والغرض من هذا التطويل في النقل التنبيه على مدى وكثرة العلوم الغريبة الباحثة حول الأفعال التي بظاهرها خارقة للعادة ولكنَّها في الحقيقة عاديَّة لمن مارس وتعلَّم تلك العلوم أو تلك الرياضات الباعثة على تقوية الإرادة وتأثيرها، وأنَّ لهذه الأفعال أسباباً عاديَّة ولكنَّها خفيَّة على أكثر الناس، فيتوهَّم الجاهل أنَّها معاجز أو كرامات لصاحب تلك الأفعال والأُمور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦٠) تفسير الميزان (ج ١/ ص ٢٤٤ و٢٤٥).
↑صفحة ٤٩↑
وفي هذا العصر قد خصَّصت الجامعات والمعاهد العلميَّة الحديثة كلّيَّات وتخصُّصات مرتبطة بهذه العلوم، كالتنويم المغناطيسي، وعلم التسخير، وإحضار الأرواح، والتنبُّؤ والإخبار بالمغيَّبات المستقبليَّة الأرضيَّة، ونحو ذلك كثير، ومن أراد الاطِّلاع فليراجع النشرات الدوريَّة الصادرة من مختلف الجامعات الأكاديميَّة في البلدان المختلفة.
وفي الختام لهذا الفصل نتعرَّض لما قاله المحقِّق السيِّد الخوئي (قدّس سرّه) في الإعجاز وفرقه مع السحر والشعبذة ونحوها، قال: (وهو في الاصطلاح أنْ يأتي المدَّعي لمنصبٍ من المناصب الإلهيَّة بما يخرق نواميس الطبيعة ويعجز عنه غيره شاهداً على صدق دعواه)(٦١).
أقول: ولا يخفى أنَّ التعميم في التعريف لكلِّ منصب إلهي أتقن ممَّا تقدَّم من التعريفات، حيث لا ينحصر إظهار الفعل الخارق بمدَّعي النبوَّة والإمامة، بل يعمُّ النُّوَّاب والسفراء للإمام المعصوم (عليه السلام)، كما نصَّ على ذلك الشيخ المفيد (رحمه الله)(٦٢) في (أوائل المقالات) قال: (القول في ظهور المعجزات على المنصوبين من الخاصَّة والسفراء...)، إلى أنْ قال: (أقول: إنَّ ذلك جائز لا يمنع منه عقل ولا سُنَّة ولا كتاب)(٦٣)، انتهى كلامه رُفِعَ مقامه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦١) البيان في تفسير القرآن (ص ٣٣).
(٦٢) هو فخر الشيعة أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي المتوفَّى (٤١٣هـ)، ويُعرَف بابن المعلِّم، أجلُّ مشايخ الشيعة، ورئيسهم، وأُستاذهم، وكلُّ من تأخَّر عنه استفاد منه، وفضله أشهر من أنْ يُوصَف في الفقه والكلام والرواية، أوثق أهل زمانه، وأعلمهم، انتهت إليه رئاسة الإماميَّة في وقته.
(٦٣) أوائل المقالات (ص ٦٩/ الرقم ٤٣).
↑صفحة ٥٠↑
ونصَّ على ذلك السيِّد المرتضى (رحمه الله)(٦٤) في كتاب (الذخيرة) في فصل عقده لذلك بعد الفصول التي ذكرها في معجزات الأنبياء (عليهم السلام)(٦٥)، وسيأتي ذكر بعض ما ظهر على أيديهم من الكرامات.
وقال السيِّد الخوئي (قدّس سرّه) تتمَّةً لما سبق: (وإنَّما يكون المعجز شاهداً على صدق ذلك المدَّعي إذا أمكن أنْ يكون صادقاً في تلك الدعوى، وأمَّا إذا امتنع صدقه في دعواه بحكم العقل، أو بحكم النقل الثابت عن نبيٍّ أو إمام معلوم العصمة، فلا يكون ذلك شاهداً على الصدق، ولا يُسمَّى معجزاً في الاصطلاح وإنْ عجز البشر عن أمثاله.
مثال الأوَّل: ما إذا ادَّعى أحد أنَّه إله، فإنَّ هذه الدعوى يستحيل أنْ تكون صادقة بحكم العقل، للبراهين الصحيحة الدالَّة على استحالة ذلك.
ومثال الثاني: ما إذا ادَّعى أحد النبوَّة بعد نبيِّ الإسلام، فإنَّ هذه الدعوى كاذبة قطعاً بحكم النقل المقطوع بثبوته الوارد عن نبيِّ الإسلام وعن خلفائه المعصومين بأنَّ نبوَّته خاتمة النبوَّات، وإذا كانت الدعوى باطلة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦٤) هو السيِّد المرتضى علم الهدى ذو المجدين أبو القاسم عليُّ بن الحسين بن موسى بن محمّد ابن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، إمام الفقه، ومؤسِّس أُصوله، وأُستاذ الكلام، ونابغة الشعر، وراوية الحديث، وبطل المناظرة، والقدوة في اللغة، والأُسوة في العلوم العربيَّة كلِّها، والمرجع في تفسير كتاب الله العزيز، أضف إلى ذلك كلِّه نسبه الوضَّاح، وحسبه المتألِّق، وأواصره النبويَّة الشذيَّة، ومآثره العلويَّة الوضيئة إلى أياديه الواجبة في تشييد المذهب، ومساعيه المشكورة عند الإماميَّة جمعاء.
(٦٥) راجع: الذخيرة في علم الكلام (ص ٣٣٢ فصاعداً).
↑صفحة ٥١↑
قطعاً، فماذا يفيد الشاهد إذا أقامه المدَّعي؟ ولا يجب على الله (جلَّ شأنه) أنْ يُبطِل ذلك بعد حكم العقل باستحالة دعواه، أو شهادة النقل ببطلانها)(٦٦).
أقول: تقييد دعوى صاحب الأمر أو الفعل الخارق للعادة بكون دعواه ممَّا يحتمل صدقها عقلاً ونقلاً، أي لا يقوم دليل عقلي أو نقلي قطعيَّين على كذبه قد يُوهِم أنَّ الأمر الخارق للعادة ليس شاهداً قطعيًّا على الصدق، وبالتالي لا تكون المعجزة شاهداً على الصدق، ولكن هذا الوهم فاسد، فإنَّ المراد أنَّ قيام الدليل العقلي أو النقلي القطعي كاشف عن عدم كون هذا الأمر خارقاً للعادة ومن قِبَل الله (عزَّ وجلَّ)، ودليل على كون هذا الأمر خارقاً للعادة صورةً وظاهراً لا واقعاً، أي إنَّه مخفي سببه لا أنَّه يعجز عنه البشر أجمع، بل من يطَّلع على سببه يتمكَّن من ذلك.
وقال (قدّس سرّه): (وليس من الإعجاز المصطلح عليه ما يُظهِره الساحر والمشعوذ، أو العالم ببعض العلوم النظريَّة الدقيقة، وإنْ أتى بشيء يعجز عنه غيره، ولا يجب على الله إبطاله إذا عُلِمَ استناده في عمله إلى أمر طبيعي من سحر أو شعبذة أو نحو ذلك، وإنِ ادَّعى ذلك الشخص منصباً إلهيًّا، وقد أتى بذلك الفعل شاهداً على صدقه، فإنَّ العلوم النظريَّة الدقيقة لها قواعد معلومة عند أهلها، وتلك القواعد لا بدَّ من أنْ توصل إلى نتائجها، وإنِ احتاجت إلى دقَّة في التطبيق، وعلى هذا القياس تخرج غرائب علم الطبِّ المنوطة بطبائع الأشياء، وإنْ كانت خفيَّة على عامَّة الناس، بل وإنْ كانت خفيَّة على الأطبَّاء أنفسهم، وليس من القبيح أنْ يختصَّ الله أحداً من خلقه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦٦) البيان في تفسير القرآن (ص ٣٣).
↑صفحة ٥٢↑
بمعرفة شيء من تلك الأشياء، وإنْ كانت دقيقة وبعيدة عن متناول أيدي عامَّة الناس، ولكن القبيح أنْ يغري الجاهل بجهله، وأنْ يجري المعجز على يد الكاذب، فيضلَّ الناس عن طريق الهدى)(٦٧).
أقول: فبعد وضوح الموارد التي لا بدَّ أنْ يُبطِلها الله تعالى، والموارد التي ليست كذلك، فلا يتوقَّع ذو الذهن الساذج أنَّ كلَّ مورد يقصر ذهنه ولم يُبطِله الله تعالى فهو معجز، بل عليه التحرِّي بنفسه أو بتوسُّط ذوي الخبرة والاطِّلاع كما مرَّ في كلام الحكيم النراقي (رحمه الله)(٦٨).
وتابع السيِّد الخوئي (قدّس سرّه) قائلاً: (تكليف عامَّة البشر واجب على الله سبحانه، وهذا الحكم قطعي قد ثبت بالبراهين الصحيحة، والأدلَّة العقليَّة الواضحة، فإنَّهم محتاجون إلى التكليف في طريق تكاملهم، وحصولهم على السعادة الكبرى، والتجارة الرابحة، فإذا لم يُكلِّفهم الله سبحانه، فإمَّا أنْ يكون ذلك لعدم علمه بحاجتهم إلى التكليف، وهذا جهل يتنزَّه عنه الحقُّ تعالى. وإمَّا لأنَّ الله أراد حجبهم عن الوصول إلى كمالاتهم، وهذا بخل يستحيل على الجواد المطلق. وإمَّا لأنَّه أراد تكليفهم فلم يمكنه ذلك، وهو عجز يمتنع على القادر المطلق. وإذن فلا بدَّ من تكليف البشر، ومن الضروري أنَّ التكليف يحتاج إلى مبلِّغ من نوع البشر يوقفهم على خفيِّ التكليف وجليِّه، ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: ٤٢].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦٧) البيان في تفسير القرآن (ص ٣٤).
(٦٨) قد مرَّ في (ص ٣٦)، فراجع.
↑صفحة ٥٣↑
ومن الضروري أيضاً أنَّ السفارة الإلهيَّة من المناصب العظيمة التي يكثر لها المدَّعون، ويرغب في الحصول عليها الراغبون، ونتيجة هذا أنْ يشتبه الصادق بالكاذب، ويختلط المضلُّ بالهادي.
وإذن فلا بدَّ لمدَّعي السفارة أنْ يقيم شاهداً واضحاً يدلُّ على صدقه في الدعوى، وأمانته في التبليغ، ولا يكون هذا الشاهد من الأفعال العاديَّة التي يمكن لغيره أنْ يأتي بنظيرها، فينحصر الطريق بما يخرق النواميس الطبيعيَّة.
وإنَّما يكون الإعجاز دليلاً على صدق المدَّعي، لأنَّ المعجز فيه خرق للنواميس الطبيعيَّة، فلا يمكن أنْ يقع من أحد إلَّا بعناية من الله تعالى، وإقدار منه، فلو كان مدَّعي النبوَّة كاذباً في دعواه، كان إقداره على المعجز من قِبَل الله تعالى إغراءً بالجهل، وإشادةً بالباطل، وذلك محال على الحكيم تعالى...، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى في كتابه الكريم: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ [الحاقَّة: ٤٤ - ٤٦])(٦٩).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦٩) البيان في تفسير القرآن (ص ٣٤ - ٣٦).
↑صفحة ٥٤↑
↑صفحة ٥٣↑
ونذكر فيه أُموراً:
الأمر الأوَّل: معنى النيابة لغةً:
ففي (مجمع البحرين) للطريحي (رحمه الله): (ناب فلان عنِّي: قام مقامي، وناب الوكيل عنِّي في كذا ينوب نيابة فهو نائب)(٧٠)، ومثله في (تاج العروس)(٧١).
ومن هنا عرَّف الفقهاء الوكالة بالنيابة أو الاستنابة، والغالب في استعمال النيابة هو فيما كان مورد النيابة محدوداً ومقيَّداً، أي إنَّ النائب ينوب عن المنوب عنه في متعلَّق محدود معيَّن، وأمَّا إذا كان المورد غير محدود وذا شؤون عديدة فذلك نحو من إعطاء الولاية من المنوب عنه إلى النائب، فيقال: ولَّاه أو نصبه والياً في كذا، وإذا اتَّسعت الدائرة أكثر من ذلك فيقال: استخلاف، وقد جُعِلَ خليفة.
وعلى أيَّة حالٍ، في موارد النيابة والوكالة المتعلَّق يكون محدوداً ومعيَّناً.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧٠) مجمع البحرين (ج ٢/ ص ١٧٨/ مادَّة نوب).
(٧١) تاج العروس (ج ٢/ ص ٤٥٤/ مادَّة نوب).
↑صفحة ٥٧↑
الأمر الثاني: كلمات علماء الطائفة:
قال بعض الحكماء: إنَّه لا يُستدَلُّ على الضروري وإنَّما يُنبَّه عليه، فما ظاهره استدلال إنَّما هو تنبيه، إذ بمجرَّد التنبُّه يحصل الالتفات إلى ضرورته. وهكذا ما نحن فيه، وهو انقطاع النائب الخاصِّ للإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) عند الإماميَّة، فما نسطره من كلمات العلماء الأعلام ووجوه الطائفة الاثني عشريَّة إنَّما هو تنبيه على التسالم والضرورة عندهم.
وليُعلَم أنَّ معنى النائب الخاصِّ هو استنابة الإمام (عليه السلام) شخصاً بخصوصه في شيء معيَّن، كما في قول الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): «اَلْعَمْرِيُّ (عثمان بن سعيد) وَاِبْنُهُ (محمّد) ثِقَتَانِ، فَمَا أَدَّيَا إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّيَانِ، ومَا قَالَا لَكَ فَعَنِّي يَقُولَانِ، فَاسْمَعْ لَهُمَا وَأَطِعْهُمَا، فَإِنَّهُمَا اَلثِّقَتَانِ اَلمَأْمُونَانِ»(٧٢).
ومعنى النائب العامِّ والمرجع الدِّيني هو استنابة الإمام (عليه السلام) كلَّ من توفَّرت فيه صفات معيَّنة في أمر معيَّن، كما في قول الصادق (عليه السلام): «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مِمَّنْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا، وَنَظَرَ فِي حَلَالِنَا وَحَرَامِنَا، وَعَرَفَ أَحْكَامَنَا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧٢) الكافي (ج ١/ ص ٣٣٠/ باب في تسمية من رآه (عليه السلام)/ ح ١)، الغيبة للطوسي (ص ٢٤٣/ ح ٢٠٩)، إعلام الورى (ج ٢/ ص ٢١٩).
↑صفحة ٥٨↑
فَلْيَرْضَوْا بِهِ حَكَماً، فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِماً»(٧٣)، وهو تنصيب للفقهاء العارفين بالأحكام عن طريق روايات الأئمَّة (عليهم السلام) أنْ يقضوا بين الناس.
وكذلك قول الحجَّة المنتظَر (عجَّل الله فرجه) في رواية الطبرسي (رحمه الله) في كتابه (الاحتجاج): «فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ اَلْفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً عَلَى ِهَوَاهُ، مُطِيعاً لِأَمْرِ مَوْلَاهُ، فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْضِ فُقَهَاءِ اَلشِّيعَةِ لَا جَمِيعِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ رَكِبَ مِنَ اَلْقَبَائِحِ وَاَلْفَوَاحِشِ مَرَاكِبَ فَسَقَةِ اَلْعَامَّةِ، فَلَا تَقْبَلُوا مِنَّا عَنْهُ شَيْئاً، وَلَا كَرَامَةَ»(٧٤)، وهو تنصيب للفقهاء العدول كمرجع ديني لبيان الأحكام الشرعيَّة، وتعلُّم الشيعة ذلك منهم، وسيأتي تفصيل ذلك.
ومجمله أنَّ النيابة الخاصَّة في المقام هي استنابة الإمام (عليه السلام) شخصاً لإيصال أقواله وأوامره للشيعة، وأخذ الحقوق الشرعيَّة كالخُمُس والزكاة، ولذا أُطلق لفظ السفير على النُّوَّاب الأربعة، وهم: عثمان بن سعيد العمري، ومحمّد ابنه، والحسين بن روح النوبختي، وعليُّ بن محمّد السمري، في الغيبة الصغرى (٢٦٠ - ٣٢٩هـ)، حيث إنَّ الأربعة كان عملهم كالوسيط بين الإمام (عجَّل الله فرجه) والشيعة. ويقرب من هذا المعنى استعمال لفظة (السفير) في يومنا هذا على ممثِّلي الدولة في البلدان المختلفة، ولذلك يُطلَق على هذا النحو من النيابة السفارة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧٣) الكافي (ج ١/ ص ٦٧/ باب اختلاف الحديث/ ح ١٠)، تهذيب الأحكام (ج ٦/ ص ٣٠٢/ ح ٨٤٥/٥٢).
(٧٤) الاحتجاج (ج ٢/ ص ٢٦٣ و٢٦٤)، عن الإمام العسكري (عليه السلام). وورد بتفاوت يسير في تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) (ص ٣٠٠).
↑صفحة ٥٩↑
وأمَّا النيابة العامَّة، فهي استنابة الإمام (عجَّل الله فرجه) كلَّ من وُجِدَت فيه صفات كما مرَّ لمنصب القضاء والإفتاء ونحو ذلك ممَّا سيأتي بالأخذ والاستنباط من كتاب الله العزيز والروايات المأثورة عن الأئمَّة (عليهم السلام)، أي لا بالأخذ المباشر منه (عجَّل الله فرجه)، لوقوع الغيبة الكبرى حتَّى يظهر ويخرج بإذن الله تعالى، وذلك حين تقع علامات الظهور كالصيحة من السماء، والخسف بالبيداء، وخروج السفياني، وقتل النفس الزكيَّة بمكَّة.
ولنذكر كلمات العلماء الذين هم أُمناء الأئمَّة (عليهم السلام) على الحلال والحرام والفرائض والسُّنَن:
قال الشيخ أبو القاسم بن محمّد بن قولويه (رحمه الله) - صاحب كتاب (كامل الزيارات) أُستاذ الشيخ المفيد (رحمه الله) في الفقه، والذي قال النجاشي (رحمه الله) فيه: (وكلُّ ما يُوصَف به الناس من جميل وثقة وفقه فهو فوقه)(٧٥) -: (إنَّ عندنا (أي الطائفة الإماميَّة الشيعيَّة) أنَّ كلَّ من ادَّعى الأمر (أي السفارة والباب) بعد السمري (رحمه الله) (آخر النُّوَّاب الأربعة في الغيبة الصغرى) فهو كافر منمِّس ضالٌّ مضلٌّ)(٧٦).
قال الشيخ سعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمِّي - الذي قال عنه النجاشي (رحمه الله): (أبو القاسم، شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجهها)(٧٧) - في كتاب (المقالات والفِرَق): (فنحن متمسِّكون بإمامة الحسن بن عليٍّ، مقرُّون بوفاته، موقنون مؤمنون بأنَّ له خلفاً من صلبه، متديِّنون بذلك،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧٥) رجال النجاشي (ص ١٢٣/ الرقم ٣١٨).
(٧٦) الغيبة للطوسي (ص ٤١٢/ ح ٣٨٥).
(٧٧) رجال النجاشي (ص ١٧٧/ الرقم ٤٦٧).
↑صفحة ٦٠↑
وأنَّه الإمام من بعد أبيه الحسن بن عليٍّ، وأنَّه في هذه الحالة مستتر خائف مغمور مأمور بذلك، حتَّى يأذن الله (عزَّ وجلَّ) له فيظهر ويعلن أمره، كظهور من مضى قبله من آبائه، إذ الأمر لله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء ويأمر بما يريد من ظهور وخفاء ونطق وصموت، كما أمر رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حال نبوَّته بترك إظهار أمره والسكوت والإخفاء من أعدائه والاستتار وترك إظهار النبوَّة التي هي أجلّ وأعظم وأشهر من الإمامة، فلم يزل كذلك سنين إلى أنْ أمره بإعلان ذلك، وعند الوقت الذي قدَّره تبارك وتعالى، فصدع بأمره وأظهر الدعوة لقومه.
ثمّ بعد الإعلان بالرسالة وإقامة الدلائل المعجزة والبراهين الواضحة اللَّازمة بها الحجَّة، وبعد... قريش وسائر الخلق من عرب وعجم وما لقي من الشدَّة ولقيه أصحابه من المؤمنين أمرهم بالهجرة إلى الحبشة، وأقام هو مع قومه حتَّى تُوفّي أبو طالب، فخاف على نفسه وبقيَّة أصحابه، فأمره الله عند ذلك بالهجرة إلى المدينة، وأمره بالاختفاء في الغار والاستتار من العدوِّ، فاستتر أيَّاماً خائفاً مطلوباً حتَّى أذن الله له وأمره بالخروج.
كيف بالغريب الوحيد الشريد الطريد المطلوب الموتور بأبيه وجدِّه هذا مع القول المشهور من أمير المؤمنين على المنبر: «إِنَّ اَللهَ لَا يُخْلِي اَلْأَرْضَ مِنْ حُجَّةٍ لَهُ عَلَى خَلْقِهِ ظَاهِراً مَعْرُوفاً، أَوْ خَائِفاً مَغْمُوراً، لِكَيْ لَا يُبْطِلَ حُجَّتَهُ وَبَيِّنَاتَهُ»(٧٨)، وبذلك جاءت الأخبار الصحيحة المشهورة عن الأئمَّة.
وليس على العباد أنْ يبحثوا عن أُمور الله، ويقفوا أثر ما لا علم لهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧٨) نهج البلاغة (ص ٤٩٧/ ح ١٤٧) بتفاوت.
↑صفحة ٦١↑
به، ويطلبوا إظهاره، فستره الله عليهم وغيَّبه عنهم، قال الله (عزَّ وجلَّ) لرسوله: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: ٣٦]، فليس يجوز لمؤمن ولا مؤمنة طلب ما ستره الله، ولا البحث عن اسمه وموضعه، ولا السؤال عن أمره ومكانه، حتَّى يُؤمَروا بذلك، إذ هو (عليه السلام) غائب خائف مغمور مستور بستر الله متَّبع لأمره (عزَّ وجلَّ) ولأمر آبائه.
بل البحث عن أمره وطلب مكانه والسؤال عن حاله وأمره محرَّم، لا يحلُّ ولا يسع، لأنَّ في طلب ذلك وإظهار ما ستره الله عنَّا وكشفه وإعلان أمره والتنويه باسمه معصية الله، والعون على سفك دمه (عليه السلام) ودماء شيعته وانتهاك حرمته، أعاذ الله من ذلك كلَّ مؤمن ومؤمنة برحمته، وفي ستر أمره والسكوت عن ذكره حقنها، وصيانتها سلامة ديننا، والانتهاء إلى أمر الله وأمر أئمَّتنا وطاعتهم، وفَّقنا الله وجميع المؤمنين لطاعته ومرضاته بمنِّه ورأفته.
ولا يجوز لنا ولا لأحدٍ من الخلق أنْ يختار إماماً برأيه ومعقوله واستدلاله، وكيف يجوز هذا وقد حظره الله (جلَّ وتعالى) على رُسُله وأنبيائه وجميع خلقه، فقال في كتابه، إذ لم يجعل الاختيار إليهم في شيء من ذلك: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: ٣٦]، وقال: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ [القَصَص: ٦٨] من أمرهم، وإنَّما اختيار الحُجَج والأئمَّة إلى الله (عزَّ وجلَّ)، وإقامتهم إليه، فهو يقيمهم ويختارهم ويخفيهم، وإذا شاء يقيمهم فيُظهِرهم ويُعلِن أمرهم إذا أراد ويستره إذا شاء فلا يبديه، لأنَّه تبارك وتعالى أعلم بتدبيره في خلقه، وأعرف بمصلحتهم، والإمام
↑صفحة ٦٢↑
أعلم بأُمور نفسه وزمانه وحوادث أُمور الله منَّا...)، إلى أنْ قال: (فهذه سبيل الإمامة، وهذا المنهاج الواضح، والغرض الواجب اللَّازم الذي لم يزل عليه الإجماع من الشيعة الإماميَّة المهتدية رحمة الله عليها، وعلى ذلك كان إجماعنا إلى يوم مضى الحسن بن عليٍّ رضوان الله عليه)(٧٩).
وقال أبو محمّد الحسن بن موسى النوبختي (رحمه الله) المتكلِّم الفيلسوف من أكابر الطائفة وعظماء سلالة بني النوبخت في كتابه (فِرَق الشيعة): (فنحن مستسلمون بالماضي (العسكري) وإمامته، مقرُّون بوفاته، معترفون بأنَّ له خَلَفاً قائماً من صلبه، وأنَّ خَلَفه هو الإمام من بعده حتَّى يظهر ويُعلِن أمره كما ظهر وعلن أمر من مضى قبله من آبائه...)، إلى أنْ قال: (وبه جاءت الأخبار الصحيحة عن الأئمَّة الماضين، لأنَّه ليس للعباد أنْ يبحثوا عن أُمور الله، ويقفوا بلا علم لهم، ويطلبوا آثار ما ستر عنهم...، وقد رويت أخبار كثيرة أنَّ القائم تخفى على الناس ولادته، ويخمل ذكره، ولا يُعرَف...) إلى أنْ قال: (فهذا سبيل الإمامة، والمنهاج الواضح اللَّاحب الذي لم تزل الشيعة الإماميَّة الصحيحة التشيُّع عليه)(٨٠).
وقال الشيخ المفيد (رحمه الله) في كتاب (الإرشاد) في باب ذكر القائم وتاريخ مولده ودلائل إمامته: (وكان الخبر بغيبته ثابتاً قبل وجوده، وبدولته مستفيضاً قبل غيبته، وهو صاحب السيف من أئمَّة الهدى (عليهم السلام)، والقائم بالحقِّ، المنتظَر لدولة الإيمان، وله قبل قيامه غيبتان، إحداهما أطول من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧٩) المقالات والفِرَق (ص ١٠٣ - ١٠٦).
(٨٠) فِرَق الشيعة (ص ١٠٩ - ١١٢).
↑صفحة ٦٣↑
الأُخرى، كما جاءت بذلك الأخبار.
فأمَّا القصرى منهما منذ وقت مولده إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته وعدم السفراء بالوفاة.
وأمَّا الطولى فهي بعد الأُولى، وفي آخرها يقوم بالسيف، قال الله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القَصَص: ٥ و٦]، وقال (جلَّ ذكره): ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٥]، وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لَنْ تَنْقَضِيَ اَلْأَيَّامُ وَاَللَّيَالِي حَتَّى يَبْعَثَ اَللهُ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، يُوَاطِئُ اِسْمُهُ اِسْمِي، يَمْلَؤُهَا عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً»)(٨١).
وقال (رحمه الله) في الرسائل الخمس التي ألَّفها في الغيبة في الرسالة الثانية: (فإنْ قال: إذا كان الإمام عندكم غائباً، ومكانه مجهولاً، فكيف يصنع المسترشد؟ وعلى ماذا يعتمد الممتحن فيما ينزل به من حادث لا يعرف له حكماً؟ وإلى من يرجع المتنازعون، لاسيّما والإمام إنَّما نُصِّبَ لما وصفناه؟ قيل له: هذا السؤال مستأنف لا نسبة له بما تقدَّم، ولا صلة بينه وبينه، وقد مضى السؤال الأوَّل في معنى الخبر وفرض المعرفة.
وجوابه على انتظام، ونحن نجيب عن هذا المستأنف بموجز لا يخلُّ بمعنى التمام، وبالله التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٨١) الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٤٠).
↑صفحة ٦٤↑
[فنقول]: إنَّما الإمام نُصِّبَ لأشياء كثيرة:
أحدها: الفصل بين المختلفين.
الثاني: بيان الحكم للمسترشدين.
ولم يُنصَّب لهذين دون غيرهما من مصالح الدنيا والدِّين، غير أنَّه إنَّما يجب عليه القيام فيما نُصِّب له مع التمكُّن من ذلك والاختيار، وليس يجب عليه شيء لا يستطيعه، ولا يلزمه فعل الإيثار مع الاضطرار، ولم يؤتِ الإمام في التقيَّة من قِبَل الله (عزَّ وجلَّ) ولا من جهة نفسه وأوليائه المؤمنين، وإنَّما أُتِيَ ذاك من قِبَل الظالمين الذين أباحوا دمه، ونفوا نسبه، وأنكروا حقَّه، وحملوا الجمهور على عداوته ومناصبة القائلين بإمامته، وكانت البليَّة فيما يضيع من الأحكام، ويتعطَّل من الحدود، ويفوت من الصلاح متعلِّقة بالظالمين، وإمام الأنام بريء منها وجميع المؤمنين.
فأمَّا الممتحن بحادث يحتاج إلى علم الحكم فيه، فقد وجب عليه أنْ يرجع في ذلك إلى العلماء من شيعة الإمام، وليعلم ذلك من جهتهم بما استودعوه من أئمَّة الهدى المتقدِّمين. وإنْ عُدِمَ ذلك - والعياذ بالله - ولم يكن فيه حكم منصوص على حالٍ، فيعلم أنَّه على حكم العقل، لأنَّه لو أراد الله أنْ يتعبَّد فيه بحكم سمعي لفعل ذلك، ولو فعله لسهل السبيل إليه.
وكذلك القول في المتنازعين، يجب عليهم ردُّ ما اختلفوا فيه إلى الكتاب والسُّنَّة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من جهة خلفائه الراشدين من عترته الطاهرين، ويستعينوا في معرفة ذلك بعلماء الشيعة وفقهائهم. وإنْ كان - والعياذ بالله - لم يوجد فيما اختلفوا فيه نصٌّ على حكم سمعي، فليعلم أنَّ ذلك ممَّا كان في
↑صفحة ٦٥↑
العقول، ومفهوم أحكام العقول، مثل أنَّ من غصب إنساناً شيئاً فعليه ردُّه بعينه إنْ كانت عينه قائمة، فإنْ لم تكن عينه قائمة كان عليه تعويضه بمثله، فإنْ لم يوجد له مثل كان [له] أنْ يُرضي خصمه بما تزول معه ظلامته، فإنْ لم يستطع ذلك أو لم يفعله مختاراً كان في ذمَّته إلى يوم القيامة. وإنْ كان جانٍ جنى على غيره جناية لا يمكن تلافيها كانت في ذمَّته، وكان المجني عليه ممتحناً بالصبر إلى أنْ ينصفه الله تعالى يوم الحساب. فإنْ كان الحادث ممَّا لا يُعلَم بالسمع إباحته من حظره، فإنَّه على الإباحة إلَّا أنْ يقوم دليل سمعي على حظره.
وهذا الذي وصفناه إنَّما جاز للمكلَّف الاعتماد عليه والرجوع إليه عند الضرورة بفقد الإمام المرشِد، ولو كان الإمام حاضراً ما وسعه غير الردِّ والعمل على قوله، وهذا قول خصومنا كافَّة: إنَّ على الناس في نوازلهم بعد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنْ يجتهدوا فيها عند فقدهم النصَّ عليها، ولا يجوز لهم الاجتهاد واستعمال الرأي بحضرة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
فإنْ قال: فإذا كانت عبادتكم تتمُّ بما وصفتموه مع غيبة الإمام، فقد استغنيتم عن الإمام.
قيل له: ليس الأمر كما ظننت في ذلك، لأنَّ الحاجة إلى الشيء قد تكون قائمة مع فقد ما يسدُّها، ولولا ذلك ما كان الفقير محتاجاً إلى المال مع فقده، ولا المريض محتاجاً إلى الدواء وإنْ بعد وجوده، والجاهل محتاجاً إلى العلم وإنْ عُدِمَ الطريق إليه، والمتحيِّر محتاجاً إلى الدليل وإنْ لم يظفر به.
ولو لزمنا ما ادَّعيتموه وتوهَّمتموه للزم جميع المسلمين أنْ يقولوا: إنَّ الناس كانوا في غيبة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للهجرة وفي الغار أغنياء عنه، وكذلك
↑صفحة ٦٦↑
حالهم في وقت استتاره بشعب أبي طالب (عليه السلام)، وكان قوم موسى (عليه السلام) أغنياء عنه في حال غيبته عنهم لميقات ربِّه، وكذلك أصحاب يونس (عليه السلام) أغنياء عنه لما ذهب مغضباً والتقمه الحوت وهو مليم، وهذا ممَّا لا يذهب إليه مسلم ولا ملِّي، فيُعلَم بذلك بطلان ما ظنَّه الخصوم وتوهَّموه على الظنَّة والرجوم، وبالله التوفيق)(٨٢).
وقال (طيَّب الله رمسه) في الرسالة الرابعة في الغيبة: (المهدي الذي يُظهِر الله به الحقَّ، ويبيد بسيفه الضلال، وكان المعلوم أنَّه لا يقوم بالسيف إلَّا مع وجود الأنصار واجتماع الحفدة والأعوان، ولم يكن أنصاره (عليه السلام) عند وجوده متهيِّئين إلى هذا الوقت موجودين، ولا على نصرته مجتمعين، ولا كان في الأرض من شيعته طرًّا من يصلح للجهاد وإنْ كان يصلحون لنقل الآثار وحفظ الأحكام والدعاء له بحصول التمكُّن من ذلك إلى الله (عزَّ وجلَّ)، لزمته التقيَّة، ووجوب فرضها عليه كما فُرِضَت على آبائه (عليهم السلام)، لأنَّه لو ظهر بغير أعوان لألقى نفسه بيده إلى التهلكة، ولو أبدى شخصه للأعداء لم يألوا جهداً في إيقاع الضرر به، واستئصال شيعته، وإراقة دمائهم على الاستحلال، فيكون في ذلك أعظم الفساد في الدِّين والدنيا)(٨٣).
وقال الشيخ الصدوق (رضوان الله تعالى عليه)(٨٤) في كتابه (كمال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٨٢) رسائل في الغيبة (ج ١/ ص ١٣ - ١٦).
(٨٣) رسائل في الغيبة (ج ٤/ ص ١٣).
(٨٤) هو الشيخ أبو جعفر محمّد بن عليِّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمِّي المشتهر بالصدوق، أحد أعلام الإمامية الاثني عشريَّة في القرن الرابع، وُلِدَ بدعاء الصاحب (عجّل الله فرجه)، وصدر فيه من ناحيته المقدَّسة بأنَّه فقيه خير مبارك. وأمَّا والده عليُّ بن بابويه فأشهر من أنْ يُعرَّف، وكان وكيلاً للأئمَّة (عليهم السلام) في قم.
↑صفحة ٦٧↑
الدِّين وتمام النعمة) في الباب الثاني والأربعين ما روي في ميلاد القائم (عجَّل الله فرجه) بسنده إلى غِيَاثِ بْنِ أَسِيدٍ، قَالَ: وُلِدَ اَلْخَلَفُ اَلمَهْدِيُّ (عليه السلام) يَوْمَ اَلْجُمُعَةِ، وَأُمُّهُ رَيْحَانَةُ، وَيُقَالُ لَهَا: نَرْجِسُ، وَيُقَالُ: صَقِيلُ، وَيُقَالُ: سَوْسَنُ، إِلَّا أَنَّهُ قِيلَ لِسَبَبِ اَلْحَمْلِ: صَقِيلُ. وَكَانَ مَوْلِدُهُ (عليه السلام) لِثَمَانِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَوَكِيلُهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، فَلَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ أَوْصَى إِلَى اِبْنِهِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، وَأَوْصَى أَبُو جَعْفَرٍ إِلَى أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رُوحٍ، وَأَوْصَى أَبُو اَلْقَاسِمِ إِلَى أَبِي اَلْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ اَلسَّمُرِيِّ (رضي الله عنهم). قَالَ: فَلَمَّا حَضَرَتِ اَلسَّمُرِيَّ اَلْوَفَاةُ سُئِلَ أَنْ يُوصِيَ، فَقَالَ: لِله أَمْرٌ هُوَ بَالِغُهُ، فَالْغَيْبَةُ اَلتَّامَّةُ هِيَ اَلَّتِي وَقَعَتْ بَعْدَ مُضِيِّ اَلسَّمُرِيِّ (رضي الله عنه)(٨٥).
وقال (رفع الله درجته في أعلى علِّيِّين) في الكتاب المزبور في الباب الخامس والأربعين في ذكر التوقيعات: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ اَلْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ اَلمُكَتِّبُ(٨٦)، قَالَ: كُنْتُ بِمَدِينَةِ اَلسَّلَامِ فِي اَلسَّنَةِ اَلَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا اَلشَّيْخُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلسَّمُرِيُّ (قَدَّسَ اَللهُ رُوحَهُ)، فَحَضَرْتُهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِأَيَّامٍ، فَأَخْرَجَ إِلَى اَلنَّاسِ تَوْقِيعاً نُسْخَتُهُ: «بِسْمِ اَلله اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، يَا عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ اَلسَّمُرِيَّ، أَعْظَمَ اَللهُ أَجْرَ إِخْوَانِكَ فِيكَ، فَإِنَّكَ مَيِّتٌ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ سِتَّةِ أَيَّامٍ، فَاجْمَعْ أَمْرَكَ، وَلَا تُوصِ إِلَى أَحَدٍ يَقُومُ مَقَامَكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ، فَقَدْ وَقَعَتِ اَلْغَيْبَةُ اَلثَّانِيَةُ، فَلَا ظُهُورَ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِ اَلله (عزَّ وجلَّ)، وَذَلِكَ بَعْدَ طُولِ اَلْأَمَدِ، وَقَسْوَةِ اَلْقُلُوبِ، وَاِمْتِلَاءِ اَلْأَرْضِ جَوْراً، وَسَيَأْتِي شِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي اَلمُشَاهَدَةَ، أَلَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٨٥) كمال الدِّين (ص ٤٣٢ و٤٣٣/ باب ٤٢/ ح ١٢).
(٨٦) من مشايخ الصدوق (رحمه الله)، ترحَّم عليه في كتابه كمال الدِّين.
↑صفحة ٦٨↑
فَمَنِ اِدَّعَى اَلمُشَاهَدَةَ قَبْلَ خُرُوجِ اَلسُّفْيَانِيِّ وَاَلصَّيْحَةِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله اَلْعَلِيِّ اَلْعَظِيمِ»، قَالَ: فَنَسَخْنَا هَذَا اَلتَّوْقِيعَ وَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، فَلَمَّا كَانَ اَلْيَوْمُ اَلسَّادِسُ عُدْنَا إِلَيْهِ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ وَصِيُّكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ فَقَالَ: لِله أَمْرٌ هُوَ بَالِغُهُ، وَمَضَى (رضي الله عنه)، فَهَذَا آخِرُ كَلَامٍ سُمِعَ مِنْهُ(٨٧).
وقال (عطَّر الله مرقده) في مقدَّمة كتابه المزبور: (إنَّ الذي دعاني إلى تأليف كتابي هذا: أنِّي لـمَّا قضيت وطري من زيارة عليِّ بن موسى الرضا (صلوات الله عليه) رجعت إلى نيسابور وأقمت بها، فوجدت أكثر المختلفين إليَّ من الشيعة قد حيَّرتهم الغيبة، ودخلت عليهم في أمر القائم (عليه السلام) الشبهة، وعدلوا عن طريق التسليم إلى الآراء والمقائيس، فجعلت أبذل مجهودي في إرشادهم إلى الحقِّ، وردِّهم إلى الصواب بالأخبار الواردة في ذلك عن النبيِّ والأئمَّة (صلوات الله عليهم))(٨٨).
وقال الشيخ الطوسي (رحمه الله)(٨٩) في كتاب (الغيبة): (ذكر أمر أبي الحسن عليِّ بن محمّد السمري بعد الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (رضي الله عنه)، وانقطاع الأعلام به، وهم الأبواب:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٨٧) كمال الدِّين (ص ٥١٦/ باب ٤٥/ ح ٤٤).
(٨٨) كمال الدِّين (ص ٢).
(٨٩) هو الشيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن بن عليِّ بن الحسن الطوسي نسبةً إلى طوس من مُدُن خراسان، شيخ الطائفة الإماميَّة، صاحب التصانيف في أكثر العلوم والفنون، والتي تُعَدُّ أصلاً في بابها، وهو مؤسِّس الحوزة العلميَّة في النجف الأشرف، تتلمذ على الشيخ المفيد والسيِّد الشريف المرتضى، تُوفّي (٤٦٠هـ).
↑صفحة ٦٩↑
أَخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ بَابَوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زَكَرِيَّا بِمَدِينَةِ اَلسَّلَامِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اَلله مُحَمَّدُ بْنُ خَلِيلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّهِ عَتَّابٍ - مِنْ وُلْدِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ -، قَالَ: وُلِدَ اَلْخَلَفُ اَلمَهْدِيُّ (صَلَوَاتُ اَلله عَلَيْهِ) يَوْمَ اَلْجُمُعَةِ، وَأُمُّهُ رَيْحَانَةُ، وَيُقَالُ لَهَا: نَرْجِسُ، وَيُقَالُ لَهَا: صَقِيلُ، وَيُقَالُ لَهَا: سَوْسَنُ، إِلَّا أَنَّهُ قِيلَ بِسَبَبِ اَلْحَمْلِ: صَقِيلُ.
وَكَانَ مَوْلِدُهُ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَوَكِيلُهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، فَلَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ أَوْصَى إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ اِبْنِ عُثْمَانَ (رحمه الله)، وَأَوْصَى أَبُو جَعْفَرٍ إِلَى أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (رضي الله عنه)، وَأَوْصَى أَبُو اَلْقَاسِمِ إِلَى أَبِي اَلْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ اَلسَّمُرِيِّ (رضي الله عنه)، فَلَمَّا حَضَرَتِ اَلسَّمُرِيَّ اَلْوَفَاةُ سُئِلَ أَنْ يُوصِيَ، فَقَالَ: لِله أَمْرٌ هُوَ بَالِغُهُ.
فَالْغَيْبَةُ اَلتَّامَّةُ هِيَ اَلَّتِي وَقَعَتْ بَعْدَ مُضِيِّ اَلسَّمُرِيِّ (رضي الله عنه).
وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اَلنُّعْمَانِ (الشيخ المفيد) وَاَلْحُسَيْنُ بْنُ عُبَيْدِ اَلله (الغضائري)(٩٠)، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ اَلصَّفْوَانِيِّ(٩١)، قَالَ: أَوْصَى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٩٠) جليل القدر، أُستاذ الشيخ الطوسي والشيخ النجاشي (رحمهما الله)، صاحب الرجال. قال الطوسي (رحمه الله) في رجاله (ص ٤٢٥/ الرقم ٦١١٧/٥٢): (كثير السماع، عارف بالرجال، وله تصانيف ذكرناها في الفهرست)، وقال النجاشي (رحمه الله) في رجاله (ص ٦٩/ الرقم ١٦٦): (شيخنا (رحمه الله) له كُتُب)، ثمّ ذكر كُتُبه.
(٩١) قال عنه النجاشي (رحمه الله) في رجاله (ص ٣٩٣/ الرقم ١٠٥٠): (شيخ الطائفة، ثقة، فقيه، فاضل)، وهو محمّد بن أحمد كما في مشيخة التهذيب والاستبصار وفي كُتُب الرجال، ويروي عنه المفيد والغضائري (رحمهما الله).
↑صفحة ٧٠↑
اَلشَّيْخُ أَبُو اَلْقَاسِمِ (رضي الله عنه) إِلَى أَبِي اَلْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ اَلسَّمُرِيِّ (رضي الله عنه)، فَقَامَ بِمَا كَانَ إِلَى أَبِي اَلْقَاسِمِ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ اَلْوَفَاةُ حَضَرَتِ اَلشِّيعَةُ عِنْدَهُ، وَسَأَلَتْهُ عَنِ اَلمُوَكَّلِ بَعْدَهُ، وَلِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَلَمْ يُظْهِرْ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِأَنْ يُوصِيَ إِلَى أَحَدٍ بَعْدَهُ فِي هَذَا اَلشَّأْنِ.
وَأَخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى بْنِ بَابَوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو اَلْحَسَنِ صَالِحُ بْنُ شُعَيْبٍ اَلطَّالَقَانِيُّ (رحمه الله) فِي ذِي اَلْقَعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اَلله أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَخْلَدٍ، قَالَ: حَضَرْتُ بَغْدَادَ عِنْدَ اَلمَشَايِخِ (رحمهم الله)، فَقَالَ اَلشَّيْخُ أَبُو اَلْحَسَنِ عَلِيُّ اِبْنُ مُحَمَّدٍ اَلسَّمُرِيُّ (قدّس سرّه) اِبْتِدَاءً مِنْهُ: رَحِمَ اَللهُ عَلِيَّ بْنَ اَلْحُسَيْنِ بْنِ بَابَوَيْهِ اَلْقُمِّيَّ.
قَالَ: فَكَتَبَ اَلمَشَايِخُ تَأْرِيخَ ذَلِكَ اَلْيَوْمِ، فَوَرَدَ اَلْخَبَرُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي ذَلِكَ اَلْيَوْمِ.
وَمَضَى أَبُو اَلْحَسَنِ اَلسَّمُرِيُّ (رضي الله عنه) بَعْدَ ذَلِكَ فِي اَلنِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
وَأَخْبَرَنَا جَمَاعَةٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ بَابَوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ اَلْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ اَلمُكَتِّبُ(٩٢)، قَالَ: كُنْتُ بِمَدِينَةِ اَلسَّلَامِ فِي اَلسَّنَةِ اَلَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا اَلشَّيْخُ أَبُو اَلْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلسَّمُرِيُّ (قدّس سرّه)، فَحَضَرْتُهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِأَيَّامٍ، فَأَخْرَجَ إِلَى اَلنَّاسِ تَوْقِيعاً نُسْخَتُهُ:
«بِسْمِ اَلله اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، يَا عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ اَلسَّمُرِيَّ، أَعْظَمَ اَللهُ أَجْرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٩٢) تقدَّم أنَّه من مشايخ الصدوق (رحمه الله)، وأنَّه ترحَّم عليه في كتابه كمال الدِّين.
↑صفحة ٧١↑
إِخْوَانِكَ فِيكَ، فَإِنَّكَ مَيِّتٌ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ سِتَّةِ أَيَّامٍ، فَاجْمَعْ أَمْرَكَ وَلَا تُوصِ إِلَى أَحَدٍ فَيَقُومَ مَقَامَكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ، فَقَدْ وَقَعَتِ اَلْغَيْبَةُ اَلتَّامَّةُ، فَلَا ظُهُورَ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِ اَلله تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ طُولِ اَلْأَمَدِ، وَقَسْوَةِ اَلْقُلُوبِ، وَاِمْتِلَاءِ اَلْأَرْضِ جَوْراً. وَسَيَأْتِي شِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي اَلمُشَاهَدَةَ، أَلَا فَمَنِ اِدَّعَى اَلمُشَاهَدَةَ قَبْلَ خُرُوجِ اَلسُّفْيَانِيِّ وَاَلصَّيْحَةِ فَهُوَ كَذَّابٌ مُفْتَرٍ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله اَلْعَلِيِّ اَلْعَظِيمِ».
قَالَ: فَنَسَخْنَا هَذَا اَلتَّوْقِيعَ، وَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، فَلَمَّا كَانَ اَلْيَوْمُ اَلسَّادِسُ عُدْنَا إِلَيْهِ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ وَصِيُّكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ فَقَالَ: لِله أَمْرٌ هُوَ بَالِغُهُ، وَقَضَى، فَهَذَا آخِرُ كَلَامٍ سُمِعَ مِنْهُ (رَضِيَ اَللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ)...
وَأَخْبَرَنِي اَلْحُسَيْنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي اَلْعَبَّاسِ بْنِ نُوحٍ، عَنْ أَبِي نَصْرٍ هِبَةِ اَلله بْنِ مُحَمَّدٍ اَلْكَاتِبِ أَنَّ قَبْرَ أَبِي اَلْحَسَنِ اَلسَّمُرِيِّ (رضي الله عنه) فِي اَلشَّارِعِ اَلمَعْرُوفِ بِشَارِعِ اَلْخَلَنْجِيِّ مِنْ رُبُعِ بَابِ اَلمُحَوَّلِ قَرِيبٌ مِنْ شَاطِئِ نَهَرِ أَبِي عَتَّابٍ.
وَذَكَرَ أَنَّهُ مَاتَ (رضي الله عنه) فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ)(٩٣)، انتهى كلام الشيخ الطوسي (رحمه الله) في كتابه (الغيبة).
وقال الشيخ الأجلُّ ابن أبي زينب محمّد بن إبراهيم النعماني من أعلام القرن الرابع، والتلميذ الخصِّيص بالشيخ الكليني (رحمه الله) صاحب كتاب (الكافي)، قال في كتابه (الغيبة) في فصول ما روي في غيبة الإمام المنتظَر (عليه السلام): (هذه الروايات التي قد جاءت متواترة تشهد بصحَّة الغيبة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٩٣) الغيبة للطوسي (ص ٣٩٣ - ٣٩٦).
↑صفحة ٧٢↑
وباختفاء العلم، والمراد بالعلم الحجَّة للعالم، وهي مشتملة على أمر الأئمَّة (عليهم السلام) للشيعة بأنْ يكونوا فيها على ما كانوا عليه لا يزالون ولا ينتقلون، بل يثبتون ولا يتحوَّلون، ويكونون متوقِّعين لما وُعِدُوا به، وهم معذورون في أنْ لا يروا حجَّتهم وإمام زمانهم في أيَّام الغيبة، ويُضيَّق عليهم في كلِّ عصر وزمان قبله ألَّا يعرفونه بعينه واسمه ونسبه، ومحظور عليهم الفحص والكشف عن صاحب الغيبة والمطالبة باسمه أو موضعه أو غيابه أو الإشادة بذكره، فضلاً عن المطالبة بمعاينته، وقال لنا: «إِيَّاكُمْ وَالتَّنْوِيهَ»، و«كُونُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ»، و«إِيَّاكُمْ وَالشَّكَّ»، فأهل الجهل الذين لا علم لهم بما أتى عن الصادقين (عليهم السلام) من هذه الروايات الواردة للغيبة وصاحبها يطالبون بالإرشاد إلى شخصه والدلالة على موضعه، ويقترحون إظهاره لهم، ويُنكِرون غيبته؛ لأنَّهم بمعزل عن العلم، وأهل المعرفة مسلِّمون لما أُمروا به، ممتثلون له، صابرون على ما نُدِبُوا إلى الصبر عليه، وقد أوقفهم العلم والفقه مواقف الرضا عن الله، والتصديق لأولياء الله، والامتثال لأمرهم، والانتهاء عمَّا نهوا عنه، حذرون ما حذَّر الله في كتابه من مخالفة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة (عليهم السلام) الذين هم في وجوب الطاعة بمنزلته لقوله: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: ٦٣]، ولقوله: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: ٥٩]، ولقوله: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [المائدة: ٩٢].
↑صفحة ٧٣↑
وفي قوله في الحديث الرابع من هذا الفصل - حديث عبد الله بن سنان -: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا صِرْتُمْ فِي حَالٍ لَا تَرَوْنَ فِيهَا إِمَامَ هُدًى، ولَا عَلَماً يُرَى»، دلالة على ما جرى وشهادة بما حدث من أمر السفراء الذين كانوا بين الإمام (عليه السلام) وبين الشيعة من ارتفاع أعيانهم، وانقطاع نظامهم، لأنَّ السفير بين الإمام في حال غيبته وبين شيعته هو العلم، فلمَّا تمَّت المحنة على الخلق ارتفعت الأعلام ولا تُرى حتَّى يظهر صاحب الحقِّ (عليه السلام)، ووقعت الحيرة التي ذُكِرَت وآذننا بها أولياء الله، وصحَّ أمر الغيبة الثانية التي يأتي شرحها وتأويلها فيما يأتي من الأحاديث بعد هذا الفصل، نسأل الله أنْ يزيدنا بصيرةً وهدًى، ويُوفِّقنا لما يرضيه برحمته)(٩٤).
ثمّ إنَّه (قدَّس الله لطيفه) روى في الفصل اللَّاحق عدَّة أحاديث في أنَّ للقائم (عجَّل الله فرجه) غيبتين، نذكر نبذة منها:
قال بعد ذكر سنده إلى إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ اَلْيَمَانِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (الباقر) (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ لِصَاحِبِ هَذَا اَلْأَمْرِ غَيْبَتَيْنِ»، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «لَا يَقُومُ اَلْقَائِمُ وَلِأَحَدٍ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ»(٩٥).
وروى بسنده إلى أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اَلله (الصادق) (عليه السلام): كَانَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «لِقَائِمِ آلِ مُحَمَّدٍ غَيْبَتَانِ، إِحْدَاهُمَا أَطْوَلُ مِنَ اَلْأُخْرَى»، فَقَالَ: «نَعَمْ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ حَتَّى يَخْتَلِفَ سَيْفُ بَنِي فُلَانٍ، وَتَضِيقَ اَلْحَلْقَةُ، وَيَظْهَرَ اَلسُّفْيَانِيُّ، وَيَشْتَدَّ اَلْبَلَاءُ، وَيَشْمَلَ اَلنَّاسَ مَوْتٌ وَقَتْلٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٩٤) الغيبة للنعماني (ص ١٦٣ - ١٦٥).
(٩٥) الغيبة للنعماني (ص ١٧٥ و١٧٦/ باب ١٠/ فصل ٤/ ح ٣).
↑صفحة ٧٤↑
يَلْجَئُونَ فِيهِ إِلَى حَرَمِ اَلله وَحَرَمِ رَسُولِهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(٩٦).
وروى بسنده إلى اَلمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ لِصَاحِبِ هَذَا اَلْأَمْرِ غَيْبَتَيْنِ، يَرْجِعُ فِي إِحْدَاهُمَا إِلَى أَهْلِهِ، وَاَلْأُخْرَى يُقَالُ: هَلَكَ، فِي أَيِّ وَادٍ سَلَكَ؟»، قُلْتُ: كَيْفَ نَصْنَعُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ؟ قَالَ: «إِنِ اِدَّعَى مُدَّعٍ فَاسْأَلُوهُ عَنْ تِلْكَ اَلْعَظَائِمِ اَلَّتِي يُجِيبُ فِيهَا مِثْلُهُ»(٩٧).
ثمّ قال الشيخ النعماني (رحمه الله): (هذه الأحاديث التي يُذكَر فيها أنَّ للقائم (عليه السلام) غيبتين أحاديث قد صحَّت عندنا بحمد الله، وأوضح الله قول الأئمَّة (عليهم السلام)، وأظهر برهان صدقهم فيها، فأمَّا الغيبة الأُولى فهي الغيبة التي كانت السفراء فيها بين الإمام (عليه السلام) وبين الخلق قياماً منصوبين ظاهرين موجودي الأشخاص والأعيان، يخرج على أيديهم غوامض العلم، وعويص الحكم، والأجوبة عن كلِّ ما كان يسأل عنه من المعضلات والمشكلات، وهي الغيبة القصيرة التي انقضت أيَّامها وتصرَّمت مدَّتها. والغيبة الثانية هي التي ارتفع فيها أشخاص السفراء والوسائط للأمر الذي يريده الله تعالى، والتدبير الذي يمضيه في الخلق، ولوقوع التمحيص والامتحان والبلبلة والغربلة والتصفية على من يدَّعي هذا الأمر، كما قال الله (عزَّ وجلَّ): ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ [آل عمران: ١٧٩]، وهذا زمان ذلك قد حضر،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٩٦) الغيبة للنعماني (ص ١٧٧/ باب ١٠/ فصل ٤/ ح ٧).
(٩٧) الغيبة للنعماني (ص ١٧٨/ باب ١٠/ فصل ٤/ ح ٩).
↑صفحة ٧٥↑
جعلنا الله فيه من الثابتين على الحقِّ، وممَّن لا يخرج في غربال الفتنة، فهذا معنى قولنا: (له غيبتان)، ونحن في الأخيرة، نسأل الله أنْ يُقرِّب فرج أوليائه منها، ويجعلنا في حيِّز خيرته، وجملة التابعين لصفوته)(٩٨).
وروى (رحمه الله) في الباب الرابع عشر في العلامات التي تكون قبل قيامه (عجَّل الله فرجه) بسنده عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَقُومُ الْقَائِمُ حَتَّى يَقُومَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً كُلُّهُمْ يُجْمِعُ عَلَى قَوْلِ أَنَّهُمْ قَدْ رَأَوْهُ، فَيُكَذِّبُهُمْ»(٩٩).
وقال الشيخ العلَّامة زين المحدِّثين محمّد بن الفتَّال النيسابوري (رحمه الله)(١٠٠) الشهيد في سنة (٥٠٨هـ) في كتابه (روضة الواعظين): (وروي أنَّه وُلِدَ يوم الجمعة لثمان خلون من شعبان سنة سبع وخمسين ومائتين، قبل وفاة أبيه بسنتين وسبعة أشهر، والأوَّل هو المعتمد (أي سنة خمس وخمسين)، وبابه عثمان بن سعيد، فلمَّا مات عثمان أوصى إلى ابنه أبي جعفر محمّد بن عثمان، وأوصى أبو جعفر إلى أبي القاسم الحسين بن روح، وأوصى أبو القاسم إلى أبي الحسن عليِّ بن محمّد السمري، فلمَّا حضرت السمري الوفاة سُئِلَ أنْ يُوصي، فقال: إنَّ الله بالغ أمره، وقد انتظر (عليه السلام) لدولة الحقِّ)(١٠١).
وقال الشيخ أمين الإسلام أبو عليٍّ الفضل بن الحسن الطبرسي (رحمه الله)(١٠٢)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٩٨) الغيبة للنعماني (ص ١٧٨ و١٧٩).
(٩٩) الغيبة للنعماني (ص ٢٨٥/ باب ١٤/ ح ٥٨).
(١٠٠) هو أُستاذ صاحب معالم العلماء الحافظ محمّد بن عليِّ بن شهرآشوب السروي.
(١٠١) روضة الواعظين (ص ٢٦٦).
(١٠٢) هو صاحب مجمع البيان كتاب التفسير المعروف، وهو من أعلام القرن السادس في علماء الطائفة.
↑صفحة ٧٦↑
في كتابه (إعلام الورى بأعلام الهدى) عند ذكره الدلائل على إمامة الإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه) في الباب الثالث، وبعد ذكره لرواية أبي بصير التي تقدَّم ذكرها وفيها الإخبار بالغيبتين، قال: (فانظر كيف قد حصلت الغيبتان لصاحب الأمر (عليه السلام) على حسب ما تضمَّنته الأخبار السابقة لوجوده عن آبائه وجدوده (عليهم السلام).
أمَّا غيبته الصغرى منهما فهي التي كان فيها سفراؤه (عليه السلام) موجودين، وأبوابه معروفين، لا تختلف الإماميَّة القائلون بإمامة الحسن بن عليٍّ (عليه السلام) فيهم، فمنهم(١٠٣): أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري، ومحمّد بن عليِّ بن بلال، وأبو عمرو عثمان بن سعيد السمَّان (العمري)، وابنه أبو جعفر محمّد ابن عثمان، وعمر الأهوازي، وأحمد بن إسحاق، وأبو محمّد الوجناني، وإبراهيم بن مهزيار، ومحمّد بن إبراهيم، في جماعة أُخَر ربَّما يأتي ذكرهم عند الحاجة إليهم في الرواية عنهم.
وكانت مدَّة هذه الغيبة أربعاً وسبعين سنة، وكان أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري (قدَّس الله روحه) باباً لأبيه وجدِّه (عليهما السلام)(١٠٤) من قبل، وثقة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٠٣) هؤلاء الجماعة فيهم الوكلاء المباشرون وهم السفراء الأربعة، والآخرون وكلاء بالواسطة أي بواسطة الأربعة، وهذا الذي ذكره الشيخ الطوسي (رحمه الله) في كتابه الغيبة (ص ٤١٥)، قال: (وقد كان في زمان السفراء المحمودين أقوام ثقات ترد عليهم التوقيعات من قِبَل المنصوبين للسفارة من الأصل)، ثمّ ذكر عدَّة كثيرة منهم، ومعناه أنَّ الوكلاء بالواسطة كانوا كثيرين تصلهم التوقيعات عبر النُّوَّاب الأربعة الذين هم وكلاء بالمباشرة.
(١٠٤) أي لأبي الإمام الثاني عشر وجدِّه.
↑صفحة ٧٧↑
لهما، ثمّ تولَّى الباقية من قِبَله، وظهرت المعجزات على يده، ولـمَّا مضى لسبيله قام ابنه أبو محمّد مقامه (رحمهما الله) بنصِّه عليه، ومضى على منهاج أبيه (رضي الله عنه) في آخر جمادى الآخرة من سنة أربع أو خمس وثلاثمائة، وقام مقامه أبو القاسم الحسين بن روح من بني نوبخت بنصِّ أبي جعفر محمّد بن عثمان عليه، وأقامه مقام نفسه، ومات (رضي الله عنه) في شعبان سنة ستٍّ وعشرين وثلاثمائة، وقام مقامه أبو الحسن عليُّ بن محمّد السمري بنصِّ أبي القاسم عليه، وتُوفِّي لنصف من شعبان سنة ثمان وعشرون وثلاثمائة).
ثمّ ذكر رواية أبي محمّد الحسن بن أحمد المكتِّب التي سبق ذكرها، والتي فيها وقوع الغيبة التامَّة، وانقطاع السفراء، وكذب من يدَّعي المشاهدة - أي السفارة والنيابة - حتَّى يظهر بعلامات الصيحة وخروج السفياني، ثمّ قال: (ثمّ حصلت الغيبة الطولى التي نحن في أزمانها، والفرج يكون في آخرها بمشيئة الله تعالى)(١٠٥).
وقال (رحمه الله) في الباب الخامس في حلِّ الشُّبُهات في غيبته (عجَّل الله فرجه): (فإنْ قالوا: فالحقُّ مع غيبة الإمام كيف يُدرَك؟ فإنْ قلتم: لا يُدرَك ولا يُوصَل إليه، فقد جعلتم الناس في حيرة وضلال مع الغيبة. وإنْ قلتم: يُدرَك الحقُّ من جهة الأدلَّة المنصوبة عليه، فقد صرَّحتم بالاستغناء عن الإمام بهذه الأدلَّة، وهذا يخالف مذهبكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٠٥) إعلام الورى (ج ٢/ ص ٢٥٩ و٢٦٠)؛ وقد ذكر العلَّامة المحقِّق أبي الحسن عليِّ بن عيسى الإربلي (رحمه الله) في كشف الغمَّة في معرفة الأئمَّة (ج ٣/ ص ٣٣٧ و٣٣٨) عين ما ذكره الطبرسي (رحمه الله) بألفاظه.
↑صفحة ٧٨↑
الجواب: أنَّ الحقَّ على ضربين: عقلي وسمعي، فالعقلي يُدرَك ولا يُؤثِّر فيه وجود الإمام ولا فقده. والسمعي عليه أدلَّة منصوبة من أقوال النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونصوصه، وأقوال الأئمَّة الصادقين (عليهم السلام)، وقد بيَّنوا ذلك وأوضحوه، غير أنَّ ذلك وإنْ كان على ما قلناه فالحاجة إلى الإمام مع ذلك ثابتة، لأنَّ جهة الحاجة إليه - المستمرَّة في كلِّ عصر وعلى كلِّ حالٍ - هي كونه لطفاً لنا في الفعل الواجب العقلي من الإنصاف والعدل واجتناب الظلم والبغي، وهذا ممَّا لا يقوم غيره مقامه فيه)(١٠٦).
وقال الشيخ أبو منصور أحمد بن عليِّ بن أبي طالب الطبرسي (رحمه الله)، وهو من الأعلام في القرن الخامس في كتاب (الاحتجاج): (وأمَّا الأبواب المرضيُّون، والسفراء الممدوحون في زمان الغيبة: فأوَّلهم: الشيخ الموثوق به أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري، نصَّبه أوَّلاً أبو الحسن عليُّ بن محمّد العسكري، ثمّ ابنه أبو محمّد الحسن، فتولَّى القيام بأُمورهما حال حياتهما (عليهما السلام)، ثمّ بعد ذلك قام بأمر صاحب الزمان (عليه السلام)، وكان توقيعاته وجواب المسائل تخرج على يديه.
فلمَّا مضى لسبيله قام ابنه أبو جعفر محمّد بن عثمان مقامه، وناب منابه في جميع ذلك.
فلمَّا مضى هو قام بذلك أبو القاسم حسين بن روح من بني نوبخت.
فلمَّا مضى هو قام مقامه أبو الحسن عليُّ بن محمّد السمري.
ولم يقم أحد منهم بذلك إلَّا بنصٍّ عليه من قِبَل صاحب الأمر (عليه السلام)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٠٦) إعلام الورى (ج ٢/ ص ٣٠١ و٣٠٢).
↑صفحة ٧٩↑
ونصب صاحبه الذي تقدَّم عليه، ولم تقبل الشيعة قولهم إلَّا بعد ظهور آية معجزة تظهر على يد كلِّ واحدٍ منهم من قِبَل صاحب الأمر (عليه السلام)، تدلُّ على صدق مقالتهم، وصحَّة بابيَّتهم.
فلمَّا حان سفر أبي الحسن السمري من الدنيا وقرب أجله، قيل له: إلى من توصي؟ فأخرج إليهم توقيعاً نسخته...)، ثمّ ذكر التوقيع الذي مرَّ ذكره(١٠٧).
وقال العلَّامة الحلِّي (رحمه الله) في كتاب (الرجال) في ترجمة محمّد بن عثمان العمري: (يُكنَّى أبا جعفر، وأبوه أبا عمرو، جميعاً وكيلان في خدمة صاحب الزمان (عليه السلام)، ولهما منزلة جليلة عند هذه الطائفة...)، إلى أنْ قال: (وقال عند موته: أُمرت أنْ أُوصي إلى أبي القاسم بن روح، وأوصى إليه، وأوصى أبو القاسم ابن روح إلى أبي الحسن عليِّ بن محمّد السمري، فلمَّا حضرت السمري الوفاة سُئِلَ أنْ يُوصي، فقال: لله أمر هو بالغه، والغيبة الثانية هي التي وقعت بعد مضيِّ السمري)(١٠٨).
وذكر ابن داود الحلِّي (رحمه الله) في كتاب (الرجال) عين ذلك بألفاظه في الترجمة المذكورة(١٠٩).
وقال الخواجه نصير الدِّين الطوسي (رحمه الله) في كتاب (تجريد الاعتقاد) في المقصد الخامس في الإمامة: (الإمام لطف، فيجب نصبه على الله تعالى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٠٧) الاحتجاج (ج ٢/ ص ٢٩٦ و٢٩٧).
(١٠٨) خلاصة الأقوال (ص ٢٥٠ و٢٥١/ الرقم ٥٨).
(١٠٩) رجال ابن داود (ص ١٧٨/ الرقم ١٤٤٩).
↑صفحة ٨٠↑
تحصيلاً للغرض...، وانحصار اللطف فيه معلوم للعقلاء، ووجوده لطف وتصرُّفه لطف آخر، وغيبته منَّا)(١١٠).
وشرح العلَّامة الحلِّي (رحمه الله) العبارة بقوله: (لطف الإمامة يتمُّ بأُمور، منها ما يجب على الله تعالى، وهو خلق الإمام وتمكينه بالقدرة والعلم والنصُّ عليه باسمه ونسبه، وهذا قد فعله الله تعالى. ومنها ما يجب على الإمام، وهو تحمُّله للإمامة وقبوله، وهذا قد فعله الإمام. ومنها ما يجب على الرعيَّة، وهو مساعدته والنصرة له وقبول أوامره وامتثال قوله، وهذا لم تفعله الرعيَّة، فكان منع اللطف الكامل منهم لا من الله تعالى ولا من الإمام)(١١١).
وقال العلَّامة المجلسي (رفع الله درجته) في شرح كتاب (الكافي) في ذيل الأحاديث المتعرِّضة لوقوع الغيبتين، قال: (واعلم أنَّه كان له (عليه السلام) غيبتان، أُولهما الصغرى، وهي من زمان وفاة أبي محمّد العسكري (عليه السلام)، وهو لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأوَّل سنة ستِّين ومائتين إلى وقت وفاة رابع السفراء أبي الحسن عليِّ بن محمّد السمري، وهو النصف من شعبان سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، فتكون قريباً من سبعين.
والعجب من الشيخ الطبرسي والسيِّد ابن طاوس أنَّهما وافقا في التاريخ الأوَّل، وقالا في وفاة السمري: تُوفِّي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، ومع ذلك ذكرا أنَّ مدَّة الغيبة الصغرى أربع وسبعون، ولعلَّهما عدَّا ابتداء الغيبة من ولادته (عليه السلام).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١١٠) تجريد الاعتقاد (ص ٢٢١).
(١١١) كشف المراد (ص ٤٩٢).
↑صفحة ٨١↑
وأمَّا سفراؤه (عليه السلام) فأوَّلهم أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري، فلمَّا تُوفِّي (رضي الله عنه) نصَّ على ابنه أبي جعفر محمّد بن عثمان، فقام مقامه، وهو الثاني من السفراء، وتُوفِّي (رضي الله عنه) سنة أربع وثلاثمائة، وقيل: خمس وثلاثمائة، وكان يتولَّى هذا الأمر نحو من خمسين سنة، فلمَّا دنت وفاته أقام أبا القاسم الحسين بن روح النوبختي مقامه، وتُوفِّي أبو القاسم (قدَّس الله روحه) في شعبان سنة ستَّة وعشرين وثلاثمائة، فلمَّا دنت وفاته نصَّ على أبي الحسن عليِّ بن محمّد السمري، فلمَّا حضرت السمري (رضي الله عنه) الوفاة سُئِلَ أنْ يُوصي، فقال: لله أمر هو بالغه، ومات (روَّح الله روحه) في النصف من شعبان سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، كلُّ ذلك ذكره الشيخ (رحمه الله)(١١٢))(١١٣).
وقال الشيخ المفيد (رحمه الله) في كتابه (الإرشاد): (وكان الخبر بغيبته ثابتاً قبل وجوده، وبدولته مستفيضاً قبل غيبته، وهو صاحب السيف من أئمَّة الهدى (عليهم السلام)، والقائم بالحقِّ، المنتظَر لدولة الإيمان، وله قبل قيامه غيبتان، إحداهما أطول من الأُخرى، كما جاءت بذلك الأخبار. فأمَّا القصرى فمنذ وقت مولده إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته وعدم السفراء بالوفاة، وأمَّا الطولى فهي بعد الأُولى، وفي آخرها يقوم بالسيف)(١١٤).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١١٢) ويعني به الشيخ الطوسي (رحمه الله)؛ وقد سُمّيت تلك السنة بسنة تناثر النجوم تارةً، وبسنة تهافتت فيها الكواكب، كما ذكر ذلك الشيخ الطوسي (رحمه الله) في رجاله (ص ٤٣٢/ الرقم ٦١٩١/٣٤)، وذكر ذلك النجاشي (رحمه الله) في رجاله (ص ٢٦٢/ الرقم ٦٨٤)؛ وسبب التسمية هو كثرة من مات فيها من أعلام الطائفة، كالنائب الرابع وابن بابويه والكليني (رحمهم الله).
(١١٣) مرآة العقول (ج ٤/ ص ٥٢ و٥٣).
(١١٤) الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٤٠).
↑صفحة ٨٢↑
وروى الصدوق (رحمه الله) في (كمال الدِّين)، قال: (كان مولده (عليه السلام) لثمان ليال خلون من شعبان سنة ستٍّ وخمسين ومائتين، ووكيله عثمان بن سعيد، فلمَّا مات عثمان أوصى إلى ابنه أبي جعفر محمّد بن عثمان، وأوصى أبو جعفر إلى أبي القاسم الحسين بن روح، وأوصى أبو القاسم إلى أبي الحسن عليِّ بن محمّد السمري (رضي الله عنهم)، فلمَّا حضرت السمري الوفاة سُئِلَ أنْ يُوصي، فقال: لله أمر هو بالغه، فالغيبة التامَّة هي التي وقعت بعد مضيِّ السمري (رضي الله عنه))(١١٥).
وقال السيِّد عبد الله شُبَّر(١١٦) في كتابه (حقُّ اليقين في معرفة أُصول الدِّين) في المقصد الثالث من أحوال الغائب المستتر (عليه السلام) في بعض معجزاته وأحوال سفرائه: (قال الطبرسي (رحمه الله) في الاحتجاج: أمَّا الأبواب المرضيُّون...)، وذكر كلَّ ما تقدَّم ذكره عن الطبرسي (رحمه الله) في كتاب (الاحتجاج)(١١٧).
ومن وضوح انقطاع السفارة وانقطاع النائب المباشر المتَّصل بالحجَّة (عجَّل الله فرجه) أخذ علماء العامَّة بالتشنيع على الشيعة بأنَّكم تستدلُّون على ضرورة وجود المعصوم لهداية الأنام ولتدبير الأُمور وإقامة العدل والقسط، فكيف تناقضون ذلك بالالتزام بالغيبة والاستتار والانقطاع؟ ولكن علماء الإماميَّة لم يتركوا لهذه الأوهام مجالاً، وأخذوا بالجواب عنها، وقد تقدَّم طرفاً من ذلك في الكلمات التي نقلناها، وأنَّ الحرمان من ظهور المعصوم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١١٥) كمال الدِّين (ص ٤٣٢ و٤٣٣/ باب ٤٢/ ح ١٢).
(١١٦) هو السيِّد العلَّامة عبد الله بن السيِّد محمّد رضا صاحب المؤلَّفات، منها جامع الأحكام في الأخبار، وهو قرابة (٢٠) مجلَّداً، وغيرها ممَّا يقارب (٧٠) كتاباً، وهو من أعلام القرن الثالث عشر.
(١١٧) حقُّ اليقين (ص ٢٨٦).
↑صفحة ٨٣↑
وتصرُّفه وتدبيره سببه راجع إلى الرعيَّة والمكلَّفين من الخذلان، وعدم الوقوف إلى جانب الحقِّ والعدل، وأنَّه حين يكتمل نصاب الأنصار والأعوان يكتب الله تعالى فرجه الشريف.
ومن شاء مراجعة هذه السجالات بين علماء الفريقين، فليسرح النظر في ما ألَّفه علماء الإماميَّة من الكُتُب باسم الغيبة، أو التي تبحث عن حياة الحجَّة (عجَّل الله فرجه)، وكلُّ ذلك ممَّا يُنبِّه على كون انقطاع النائب الخاصِّ والسفير من ضروريَّات المذهب حتَّى عرفه علماء أهل السُّنَّة، ولنذكر بعض كلماتهم، وعلى القارئ مراجعة البقيَّة في مظانِّها إنْ شاء الاطِّلاع عليها.
قال الشهرستاني(١١٨) في كتاب (المِلَل والنِّحَل): (ومن العجب أنَّهم قالوا: الغيبة قد امتدَّت مائتين ونيِّفاً وخمسين سنة، وصاحبنا قال: إنْ خرج القائم وقد طُعِنَ في الأربعين فليس بصاحبكم. ولسنا ندري كيف تنقضي مائتان ونيِّف وخمسون سنة في أربعين سنة، وإذا سُئِلَ القوم عن مدَّة الغيبة كيف تُتصوَّر؟ قالوا: أليس الخضر وإلياس (عليهما السلام) يعيشان في الدنيا من آلاف سنين لا يحتاجان إلى طعام وشراب؟ فلِمَ لا يجوز ذلك في واحدٍ من آل البيت؟ قيل لهم: ومع اختلافكم هذا كيف يصحُّ لكم دعوى الغيبة؟ ثمّ الخضر (عليه السلام) ليس مكلَّفاً بضمان جماعة، والإمام عندكم ضامن مكلَّف بالهداية والعدل، والجماعة مكلَّفون بالاقتداء به والاستنان بسُنَّته، ومن لا يُرى كيف يُقتدى به؟)(١١٩)، انتهى كلامه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١١٨) أبو الفتح محمّد بن عبد الكريم الشهرستاني، تُوفِّي سنة (٥٤٨هـ)، وهو شافعي الفروع وأشعري الأُصول.
(١١٩) المِلَل والنِّحَل (ج ١/ ص ١٧٢).
↑صفحة ٨٤↑
ولا يخفى تخبُّطه وتحريفه في النقل كعادته في كتابه، إذ قول الشيعة عن أئمَّتهم (عليهم السلام): إنَّ القائم (عجَّل الله فرجه) حين يظهر يكون في سنِّ الشيوخ وشابُّ المنظر حتَّى أنَّ الناظر إليه ليحسبه ابن أربعين سنة فلا يصيبه الهرم بمرور الليالي والأيَّام، وليس ذلك من قدرة الله تعالى ببعيد.
وأمَّا الجواب عن إشكاله الآخر فقد تقدَّم، وقد ذُكِرَت في الروايات فوائد وجوده وانتفاع الناس منه في غيبته، منها: أنَّ قلوب المؤمنين مثبتة به فهم بها عاملون، وأنَّه كالشمس إذا غيَّبها عن الأبصار السحاب، وأنَّ المعصوم (عليه السلام) أمان لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمان لأهل السماء، وبه يمسك السماء أنْ تقع على الأرض إلَّا بإذنه، وبه يُنزَّل الغيث، وتُنشَر الرحمة، وتخرج بركات الأرض، ولولا وجوده على الأرض لساخت بأهلها، ولولاه لم يُعبَد الله.
وقال الخواجه كلان(١٢٠) في كتابه (ينابيع المودَّة) عن كتاب (المحجَّة فيما نزل في القائم الحجَّة) في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الزخرف: ٢٨): (عن ثابت الثمالي، عن عليِّ بن الحسين، عن أبيه، عن جدِّه عليِّ بن أبي طالب (رضي الله عنهم)، قال: «فينا نزلت هذه الآية، وجعل الله الإمامة في عقب الحسين إلى يوم القيامة، وإنَّ للغائب منَّا غيبتين إحداهما أطول من الأُخرى، فلا يثبت على إمامته إلَّا من قوى يقينه، وصحَّت معرفته»)(١٢١)، انتهى كلامه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٢٠) هو الشيخ سليمان بن الشيخ إبراهيم المعروف بخواجه كلان الحسيني البلخي القندوري المتوفَّى سنة (١٢٩٤هـ)، من علماء أهل السُّنَّة.
(١٢١) ينابيع المودَّة (ج ٣/ ص ٢٤٨ و٢٤٩/ باب ٧١/ ح ٤٣).
↑صفحة ٨٥↑
وقد عرفت سابقاً أنَّ الغيبة الصغرى إشارة إلى مدَّة النُّوَّاب الأربعة، والكبرى إلى الغيبة التامَّة وانقطاع النُّوَّاب والسفراء.
وقال علاء الدِّين المشهور بالمتَّقي الهندي(١٢٢) في كتاب (البرهان في علامات مهدي آخر الزمان) في الباب الثاني عشر: (عن أبي عبد الله الحسين بن عليٍّ (رضي الله عنهما)، قال: «لصاحب هذا الأمر - يعني المهدي - غيبتان، إحداهما تطول حتَّى يقول بعضهم: مات، وبعضهم: ذهب...»)(١٢٣)، انتهى كلامه.
ومضمون هذه الرواية موجود في الروايات التي وردت بطُرُقنا، ومن الواضح أنَّ قول البعض المشار إليه في الرواية بأنَّه (عجَّل الله فرجه) مات أو ذهب أو في أيِّ وادٍ سلك أو هلك - كما في الروايات الأُخرى -، لا يكون إلَّا بعد انقطاع النائب الخاصِّ والسفير للحجَّة (عجَّل الله فرجه) وشدَّة الامتحان بالغيبة التامَّة.
أقول: هذا غيض من فيض من كلمات علماء الإماميَّة، وتركنا الأكثر مخافة التطويل والملال، وكلُّها على كون انقطاع النيابة الخاصَّة من معتقدات المذهب وضروريَّاته.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٢٢) هو علاء الدِّين عليُّ بن حسام صاحب كتاب كنز العُمَّال، نزيل مكَّة المشرَّفة، المتوفَّى سنة (٩٧٥هـ).
(١٢٣) البرهان في علامات مهدي آخر الزمان (ص ١٧١ و١٧٢/ باب ١٢/ ح ٤).
↑صفحة ٨٦↑
الأمر الثالث: النيابة العامَّة للفقهاء:
قد عرفت انقطاع النيابة الخاصَّة والسفارة، ولكن ليس ذلك يعني بقاء المؤمنين والمكلَّفين في حيرة من أمرهم، بل قد نصَّب الأئمَّة (عليهم السلام) وإمام زماننا (عجَّل الله فرجه) لهم من يرجعون إليه في كلِّ ما ينزل بهم من الحوادث والوقائع، وفي تعلُّم الأحكام الشرعيَّة، وفصل الخصومات، واستيفاء الحقوق، وغيرها من حاجاتهم الدِّينيَّة.
وهو الفقيه الجامع لشرائط معيَّنة، كالعلم بالأحكام الشرعيَّة من الكتاب والسُّنَّة، وهي الروايات المعتبرة المأثورة عن المعصومين (عليهم السلام)، وكالعدالة، والتقوى، وغيرها من الشروط.
فقد قال الصادق (عليه السلام): «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مِمَّنْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا، وَنَظَرَ فِي حَلَالِنَا وَحَرَامِنَا، وَعَرَفَ أَحْكَامَنَا، فَلْيَرْضَوْا بِهِ حَكَماً، فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِماً، فَإِذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ يَقْبَلْه مِنْه فَإِنَّمَا اسْتَخَفَّ بِحُكْمِ اَلله وَعَلَيْنَا رَدَّ، وَاَلرَّادُّ عَلَيْنَا اَلرَّادُّ عَلَى اَلله، وَهُوَ عَلَى حَدِّ اَلشِّرْكِ بِالله»(١٢٤).
وقال (عليه السلام): «اِجْعَلُوا بَيْنَكُمْ رَجُلاً مِمَّنْ قَدْ عَرَفَ حَلَالَنَا وَحَرَامَنَا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٢٤) الكافي (ج ١/ ص ٦٧/ باب اختلاف الحديث/ ح ١٠)، تهذيب الأحكام (ج ٦/ ص ٣٠٢/ ح ٨٤٥/٥٢).
↑صفحة ٨٧↑
فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ قَاضِياً، وَإِيَّاكُمْ أَنْ يُخَاصِمَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً إِلَى اَلسُّلْطَانِ اَلْجَائِرِ»(١٢٥).
وروى الشيخ الصدوق (رحمه الله) في كتاب (كمال الدِّين وتمام النعمة) عَنْ مُحَمَّدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِصَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنُ يَعْقُوبَ (الشيخ الكليني)، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَعْقُوبَ، قَالَ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيَّ (النائب الثاني في الغيبة الصغرى) أَنْ يُوصِلَ لِي كِتَاباً قَدْ سَأَلْتُ فِيهِ عَنْ مَسَائِلَ أَشْكَلَتْ عَلَيَّ، فَوَرَدَ اَلتَّوْقِيعِ بِخَطِّ مَوْلَانَا صَاحِبِ اَلزَّمَانِ (عليه السلام): «أَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ أَرْشَدَكَ اَللهُ وَثَبَّتَكَ...»، إلى أنْ قال: «وَأَمَّا اَلْحَوَادِثُ اَلْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا، فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ، وَأَنَا حُجَّةُ اَلله عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيُّ رَضِيَ اَللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ فَإِنَّهُ ثِقَتِي، وَكِتَابُهُ كِتَابِي»(١٢٦).
وروى هذا الحديث الشيخ الطوسي (رحمه الله) في كتاب (الغيبة) عن جماعة، عن جعفر بن محمّد بن قولويه (صاحب كتاب كامل الزيارات، وأُستاذ الشيخ المفيد (رحمه الله)، والذي قال النجاشي (رحمه الله) فيه: (وكلُّ ما يُوصَف به الناس من جميل وثقة وفقه فهو فوقه)(١٢٧))، وأبو غالب الرازي (من أحفاد زرارة بن أعين، ومن شيوخ الطائفة الأجلَّاء)، وغيرهم، كلُّهم عن محمّد بن يعقوب (الشيخ الكليني)(١٢٨)، ورواه أيضاً الشيخ الطبرسي (رحمه الله) في كتاب (الاحتجاج)(١٢٩).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٢٥) تهذيب الأحكام (ج ٦/ ص ٣٠٣/ ح ٨٤٦/٥٣).
(١٢٦) كمال الدِّين (ص ٤٨٣ - ٤٨٥/ باب ٤٥/ ح ٤).
(١٢٧) رجال النجاشي (ص ١٢٣/ الرقم ٣١٨).
(١٢٨) الغيبة للطوسي (ص ٢٩٠ و٢٩١/ ح ٢٤٧).
(١٢٩) الاحتجاج (ج ٢/ ص ٢٨١ - ٢٨٣).
↑صفحة ٨٨↑
وروى الطبرسي (رحمه الله) في كتاب (الاحتجاج) عن الحجَّة (عجَّل الله فرجه): «فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ اَلْفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً عَلَى ِهَوَاهُ، مُطِيعاً لِأَمْرِ مَوْلَاهُ، فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْضِ فُقَهَاءِ اَلشِّيعَةِ لَا جَمِيعِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ رَكِبَ مِنَ اَلْقَبَائِحِ وَاَلْفَوَاحِشِ مَرَاكِبَ فَسَقَةِ اَلْعَامَّةِ، فَلَا تَقْبَلُوا مِنَّا عَنْهُ شَيْئاً، وَلَا كَرَامَةَ»(١٣٠).
وروى الكشِّي (رحمه الله) في كتاب (الرجال) بسنده عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يَحْمِلُ هَذَا اَلدِّينَ فِي كُلِّ قَرْنٍ عُدُولٌ يَنْفُونَ عَنْهُ تَأْوِيلَ اَلمُبْطِلِينَ، وَتَحْرِيفَ اَلْغَالِينَ، وَاِنْتِحَالَ اَلْجَاهِلِينَ، كَمَا يَنْفِي اَلْكِيرُ خَبَثَ اَلْحَدِيدِ»(١٣١).
وروى بسنده إلى أَحْمَدَ بْنِ حَاتِمِ بْنِ مَاهَوَيْهِ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَيْهِ - يَعْنِي أَبَا اَلْحَسَنِ اَلثَّالِثَ (الهادي) (عليه السلام) - أَسْأَلُهُ عَمَّنْ آخُذُ مَعَالِمَ دِينِي، وَكَتَبَ أَخُوهُ أَيْضاً بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمَا: «فَهِمْتُ مَا ذَكَرْتُمَا، فَاصْمِدَا فِي دِينِكُمَا عَلَى كُلِّ مُسْتَنٍّ فِي حُبِّنَا، وَكُلِّ كَثِيرِ اَلْقَدَمِ فِي أَمْرِنَا، فَإِنَّهُمَا كَافُوكُمَا إِنْ شَاءَ اَللهُ تَعَالَى»(١٣٢).
وروى الطبرسي (رحمه الله) في كتاب (الاحتجاج) عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «فَنَحْنُ اَلْقُرَى اَلَّتِي بَارَكَ اَللهُ فِيهَا، وَذَلِكَ قَوْلُ اَلله (عزَّ وجلَّ)، فَمَنْ أَقَرَّ بِفَضْلِنَا حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَأْتُونَا، فَقَالَ: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾، أَيْ جَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شِيعَتِهِمْ اَلْقُرَى اَلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا، ﴿قُرًى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٣٠) الاحتجاج (ج ٢/ ص ٢٦٣ و٢٦٤)، عن الإمام العسكري (عليه السلام). وورد بتفاوت يسير في تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) (ص ٣٠٠).
(١٣١) رجال الكشِّي (ج ١/ ص ١٠ و١١/ ح ٥).
(١٣٢) رجال الكشِّي (ج ١/ ص ١٥ و١٦/ ح ٧).
↑صفحة ٨٩↑
ظَاهِرَةً﴾، وَاَلْقُرَى اَلظَّاهِرَةُ اَلرُّسُلُ، وَاَلنَّقَلَةُ عَنَّا إِلَى شِيعَتِنَا، وَفُقَهَاءُ شِيعَتِنَا إِلَى شِيعَتِنَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ﴾، فَالسَّيْرُ مَثَلٌ لِلْعِلْمِ، ﴿سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً﴾(١٣٣)، مَثَلٌ لِمَا يَسِيرُ مِنَ اَلْعِلْمِ فِي اَللَّيَالِي وَاَلْأَيَّامِ عَنَّا إِلَيْهِمْ، فِي اَلْحَلَالِ، وَاَلْحَرَامِ، وَاَلْفَرَائِضِ، وَاَلْأَحْكَامِ، آمِنِينَ فِيهَا إِذَا أَخَذُوا [مِنْ مَعْدِنِهَا اَلَّذِي أُمِرُوا أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُ](١٣٤)، آمِنِينَ مِنَ اَلشَّكِّ وَاَلضَّلَالِ، وَاَلنَّقَلَةِ مِنَ اَلْحَرَامِ إِلَى اَلْحَلَالِ، لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا اَلْعِلْمَ مِمَّنْ وَجَبَ لَهُمُ أَخْذُهُمُ إِيَّاهُ عَنْهُمْ بِالمَعْرِفَةِ...» الحديث(١٣٥).
وروى البرقي (رحمه الله) في كتاب (المحاسن) عَنْ أَبِيهِ، عَنِ اَلنَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عِمْرَانَ اَلْحَلَبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اَلله بْنِ مُسْكَانَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ(١٣٦)، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام): أَرَأَيْتَ اَلرَّادَّ عَلَى هَذَا اَلْأَمْرَ كَالرَّادِّ عَلَيْكُمْ؟ فَقَالَ: «يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ هَذَا اَلْأَمْرَ فَهُوَ كَالرَّادِّ عَلَى رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(١٣٧).
هذا مع أنَّ بيان الأحكام الشرعيَّة وجوبه على الفقيه كان منذ صدر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٣٣) في الاحتجاج: (سير به ليالي وأيَّاماً).
(١٣٤) ما بين المعقوفتين من بحار الأنوار.
(١٣٥) الاحتجاج (ج ٢/ ص ٦٣)، عنه بحار الأنوار (ج ٢٤/ ص ٢٣٢ و٢٣٣/ ح ١).
(١٣٦) وسند الرواية كلُّه من وجهاء الرواة وأجلَّائهم الفقهاء، ولا تخفى منزلة أبي بصير ليث المرادي في الوثاقة والفقاهة، وهو أحد الفقهاء الأربعة الذين قال عنهم الصادق (عليه السلام): «أَرْبَعَةٌ نُجَبَاءُ أُمَنَاءُ اَلله عَلَى حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، لَوْلَا هَؤُلَاءِ اِنْقَطَعَتْ آثَارُ اَلنُّبُوَّةِ وَاِنْدَرَسَتْ». رجال الكشِّي (ج ١/ ص ٣٩٨/ ح ٢٨٦).
(١٣٧) المحاسن (ج ١/ ص ١٨٥/ ح ١٩٤)؛ ورواه بنفس السند الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج ٨/ ص ١٤٦/ ح ١٢٠).
↑صفحة ٩٠↑
الشريعة، قال تعالى: ﴿فَلَوْ لَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: ١٢٢)، فأوجب على الطائفة المتفقِّهة في الدِّين الإنذار، كما أوجب على غيرهم من عامَّة الناس قبول قولهم في بيان الأحكام الشرعيَّة، وهو يُستفاد من الآية الشريفة، حيث إنَّ حذر الناس بعد الإنذار مطلوب وراجح بدلالة الآية، ولا يترتَّب الحذر إلَّا عند وجوب قبول ما أنذروا به.
ولهذا كانت طوائف تلو الأُخرى تنهال على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثمّ على الأئمَّة المعصومين (عليهم السلام) من بعده للتفقُّه ومعرفة الفرائض والسُّنَن والآداب وأركان العقيدة والإيمان.
ثمّ تذهب الطوائف وتنشر وتُبيِّن ذلك لعامَّة الناس، وهذا ممَّا يقتضيه طبيعة النظام البشري، حيث إنَّه ليس من الممكن عادةً أنْ ينهال كلُّ المكلَّفين والناس بأجمعهم على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلى المعصومين (عليهم السلام) بالسؤال عن معالم الدِّين، فهذا الممشى والسلوك عند العقلاء دأبوا عليه، وأقرَّه الشرع المقدَّس في نشر الأحكام.
وقد روى عَبْدُ اَلمُؤْمِنِ اَلْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (الصادق) (عليه السلام): «قَوْلَ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿فَلَوْ لَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٢]، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا إِلَى رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَيَخْتَلِفُوا إِلَيْهِ، فَيَتَعَلَّمُوا، ثُمَّ يَرْجِعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَيُعَلِّمُوهُمْ...» الحديث(١٣٨).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٣٨) معاني الأخبار (ص ١٥٧/ باب معنى قوله (عليه السلام): اختلاف أُمَّتي رحمة/ ح ١)، علل الشرائع (ج ١/ ص ٨٥/ باب ٧٩/ ح ٤).
↑صفحة ٩١↑
وروى النجاشي (رحمه الله) في كتابه (الرجال) عن الباقر (عليه السلام) أنَّه قال لأبان بن تغلب وهو أحد الفقهاء من تلامذته: «اِجْلِسْ فِي مَسْجِدِ اَلمَدِينَةِ وَأَفْتِ اَلنَّاسَ، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يُرَى فِي شِيعَتِي مِثْلُكَ»(١٣٩).
وسأل عبد العزيز بن المهتدي الرضا (عليه السلام) قَالَ: قُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنِّي لَا أَكَادُ أَصِلُ إِلَيْكَ أَسْأَلُكَ عَنْ كُلِّ مَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَعَالِمِ دِينِي، أَفَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ ثِقَةٌ آخُذُ عَنْهُ مَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَعَالِمِ دِينِي؟ فَقَالَ: «نَعَمْ»(١٤٠).
وكذلك سأل عليُّ بن المسيَّب الهمداني، قَالَ: قُلْتُ لِلرِّضَا (عليه السلام): شُقَّتِي بَعِيدَةٌ، وَلَسْتُ أَصِلُ إِلَيْكَ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَمِمَّنْ آخُذُ مَعَالِمَ دِينِي؟ فَقَالَ: «مِنْ زَكَرِيَّا بْنِ آدَمَ اَلْقُمِّيِّ اَلمَأْمُونِ عَلَى اَلدِّينِ وَاَلدُّنْيَا»(١٤١).
وسأل عبد الله بن أبي يعفور، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اَلله (الصادق) (عليه السلام): إِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ سَاعَةٍ أَلْقَاكَ، وَلَا يُمْكِنُ اَلْقُدُومُ، وَيَجِيءُ اَلرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِنَا فَيَسْأَلُنِي وَلَيْسَ عِنْدِي كُلَّمَا يَسْأَلُنِي عَنْهُ، قَالَ: «فَمَا يَمْنَعُكَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ اَلثَّقَفِيِّ؟ فَإِنَّهُ قَدْ سَمِعَ مِنْ أَبِي، وَكَانَ عِنْدَهُ وَجِيهاً»(١٤٢).
وسأل شعيب العقرقوفي، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام): رُبَّمَا اِحْتَجْنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٣٩) رجال النجاشي (ص ١٠/ الرقم ٧)؛ ورواه الطوسي (رحمه الله) في الفهرست (ص ٥٧/ الرقم ٦١/١).
(١٤٠) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٧٨٤/ ح ٩٣٥).
(١٤١) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٨٥٨/ ح ١١١٢).
(١٤٢) رجال الكشِّي (ج ١/ ص ٣٨٣/ ح ٢٧٣).
↑صفحة ٩٢↑
أَنْ نَسْأَلَ عَنِ اَلشَّيْءِ، فَمَنْ نَسْأَلُ؟ قَالَ: «عَلَيْكَ بِالْأَسَدِيِّ»، يَعْنِي أَبَا بَصِيرٍ(١٤٣).
والأخبار المشتملة على إرجاع الناس إلى تلامذتهم (عليهم السلام) كثيرة، ومن هنا حثَّ الأئمَّة المعصومون (عليهم السلام) على التفقُّه في الدِّين، وحفظ الروايات المأثورة عنهم، وبيَّنوا فضل ذلك.
فقد روى الصدوق (رحمه الله)، قَالَ: قَالَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «قَالَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): اَللَّهُمَّ اِرْحَمْ خُلَفَائِي، قِيلَ: يَا رَسُولَ اَلله، وَمَنْ خُلَفَاؤُكَ؟ قَالَ: اَلَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي يَرْوُونَ حَدِيثِي وَسُنَّتِي»(١٤٤).
وروى الكشِّي (رحمه الله) عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه السلام) يَقُولُ: «بَشِّرِ اَلمُخْبِتِينَ بِالْجَنَّةِ: بُرَيْدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ اَلْعِجْلِيُّ، وَأَبُو بَصِيرٍ لَيْثُ بْنُ اَلْبَخْتَرِيِّ اَلمُرَادِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَزُرَارَةُ، أَرْبَعَةٌ نُجَبَاءُ، أُمَنَاءُ اَلله عَلَى حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، لَوْ لَا هَؤُلَاءِ اِنْقَطَعَتْ آثَارُ اَلنُّبُوَّةِ وَاِنْدَرَسَتْ»(١٤٥).
وروى عن أبي بصير أنَّ أبا عبد الله (الصادق) (عليه السلام) قال له في حديث: «لَوْ لَا زُرَارَةُ [وَنُظَرَاؤُهُ] لَظَنَنْتُ أَنَّ أَحَادِيثَ أَبِي (عليه السلام) سَتَذْهَبُ»(١٤٦).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٤٣) رجال الكشِّي (ج ١/ ص ٤٠٠/ ح ٢٩١).
(١٤٤) من لا يحضره الفقيه (ج ٤/ ص ٤٢٠/ ح ٥٩١٩)، معاني الأخبار (ص ٣٧٤ و٣٧٥/ باب معنى قول النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): اللهم ارحم خلفائي.../ ح ١).
(١٤٥) رجال الكشِّي (ج ١/ ص ٣٩٨/ ح ٢٨٦).
(١٤٦) رجال الكشِّي (ج ١/ ص ٣٤٥/ ح ٢١٠)، وما بين المعقوفتين من وسائل الشيعة (ج ٢٧/ ص ١٤٢/ ح ٣٣٤٣١/١٦).
↑صفحة ٩٣↑
وفي رواية أُخرى عن الصادق (عليه السلام)، قَالَ: «أَحَبُّ اَلنَّاسِ إِلَيَّ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً أَرْبَعَةٌ: بُرَيْدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ اَلْعِجْلِيُّ، وَزُرَارَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَاَلْأَحْوَلُ، وَهُمْ أَحَبُّ اَلنَّاسِ إِلَيَّ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً»(١٤٧)، وهؤلاء الأربعة كانوا من أفقه أصحابه وأصحاب الباقر (عليه السلام).
وروى سليمان بن خالد عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «مَا أَجِدُ أَحَداً أَحْيَا ذِكْرَنَا وَأَحَادِيثَ أَبِي (عليه السلام) إِلَّا زُرَارَةُ، وَأَبُو بَصِيرٍ لَيْثٌ اَلمُرَادِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَبُرَيْدُ بْنِ مُعَاوِيَةَ اَلْعِجْلِيُّ، وَلَوْ لَا هَؤُلَاءِ مَا كَانَ أَحَدٌ يَسْتَنْبِطُ هَذَا، هَؤُلَاءِ حُفَّاظُ اَلدِّينِ وَأُمَنَاءُ أَبِي (عليه السلام) عَلَى حَلَالِ اَلله وَحَرَامِهِ، وَهُمُ اَلسَّابِقُونَ إِلَيْنَا فِي اَلدُّنْيَا، وَاَلسَّابِقُونَ إِلَيْنَا فِي اَلْآخِرَةِ»(١٤٨).
وروى جميل بن درَّاج عن الصادق (عليه السلام) أنَّه ذكر أقواماً، وقال: «كَانَ أَبِي (عليه السلام) اِئْتَمَنَهُمْ عَلَى حَلَالِ اَلله وَحَرَامِهِ، وَكَانُوا عَيْبَةَ(١٤٩) عِلْمِهِ، وَكَذَلِكَ اَلْيَوْمَ هُمْ عِنْدِي، هُمْ مُسْتَوْدَعُ سِرِّي، أَصْحَابُ أَبِي (عليه السلام) حَقًّا، إِذَا أَرَادَ اَللهُ بِأَهْلِ اَلْأَرْضِ سُوءاً صَرَفَ بِهِمْ عَنْهُمُ اَلسُّوءَ، هُمْ نُجُومُ شِيعَتِي أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً، يُحْيُونَ ذِكْرَ أَبِي (عليه السلام)، بِهِمْ يَكْشِفُ اَللهُ كُلَّ بِدْعَةٍ، يَنْفُونَ عَنْ هَذَا اَلدِّينِ اِنْتِحَالَ اَلمُبْطِلِينَ، وَتَأَوُّلَ اَلْغَالِينَ»، ثُمَّ بَكَى، فَقُلْتُ: مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ: «مَنْ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اَلله وَرَحْمَتُهُ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً: بُرَيْدٌ اَلْعِجْلِيُّ، وَزُرَارَةُ، وَأَبُو بَصِيرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ»(١٥٠).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٤٧) رجال الكشِّي (ج ١/ ص ٣٤٧/ ح ٢١٥).
(١٤٨) رجال الكشِّي (ج ١/ ص ٣٤٨/ ح ٢١٩).
(١٤٩) أي صندوق وخزانة علمه.
(١٥٠) رجال الكشِّي (ج ١/ ص ٣٤٨ و٣٤٩/ ح ٢٢٠).
↑صفحة ٩٤↑
وَعَنْ اَلصَّادِقِ (عليه السلام)، قَالَ: «اِعْرِفُوا مَنَازِلَ اَلرِّجَالِ مِنَّا عَلَى قَدْرِ رِوَايَاتِهِمْ عَنَّا»(١٥١).
وعنه (عليه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «طَلَبُ اَلْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، أَلَا إِنَّ اَللهَ يُحِبُّ بُغَاةَ اَلْعِلْمِ»(١٥٢).
وعنه (عليه السلام)، قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالتَّفَقُّه فِي دِينِ اَلله، وَلَا تَكُونُوا أَعْرَاباً(١٥٣)، فَإِنَّه مَنْ لَمْ يَتَفَقَّه فِي دِينِ اَلله لَمْ يَنْظُرِ اَللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، وَلَمْ يُزَكِّ لَهُ عَمَلاً»(١٥٤).
وقال (عليه السلام): «لَوَدِدْتُ أَنَّ أَصْحَابِي ضُرِبَتْ رُؤُوسُهُمْ بِالسِّيَاطِ حَتَّى يَتَفَقَّهُوا»(١٥٥).
وقال (عليه السلام): «إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ اَلْأَنْبِيَاءِ، وَذَاكَ أَنَّ اَلْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُورِثُوا دِرْهَماً وَلَا دِينَاراً، وَإِنَّمَا أَوْرَثُوا أَحَادِيثَ مِنْ أَحَادِيثِهِمْ، فَمَنْ أَخَذَ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَقَدْ أَخَذَ حَظًّا وَافِراً، فَانْظُرُوا عِلْمَكُمْ هَذَا عَمَّنْ تَأْخُذُونَهُ، فَإِنَّ فِينَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ فِي كُلِّ خَلَفٍ عُدُولاً يَنْفُونَ عَنْه تَحْرِيفَ اَلْغَالِينَ، وَاِنْتِحَالَ اَلمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ اَلْجَاهِلِينَ»(١٥٦).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٥١) رجال الكشِّي (ج ١/ ص ٣ - ٥/ ح ١).
(١٥٢) بصائر الدرجات (ص ٢٢/ ج ١/ باب ١/ ح ١)، الكافي (ج ١/ ص ٣٠/ باب فرض العلم ووجوب طلبه.../ ح ١)؛ ورواه بتفاوت يسير البرقي (رحمه الله) في المحاسن (ج ١/ ص ٢٢٥/ ح ١٤٦).
(١٥٣) أي أهل البادية الجاهلين بأحكام الدِّين.
(١٥٤) الكافي (ج ١/ ص ٣١/ باب فرض العلم ووجوب طلبه.../ ح ٧).
(١٥٥) الكافي (ج ١/ ص ٣١/ باب فرض العلم ووجوب طلبه.../ ح ٨).
(١٥٦) الكافي (ج ١/ ص ٣٢/ باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء/ ح ٢).
↑صفحة ٩٥↑
وقال الصادق (عليه السلام): «إِذَا أَرَادَ اَللهُ بِعَبْدٍ خَيْراً فَقَّهَهُ فِي اَلدِّينِ»(١٥٧).
وعن الباقر (عليه السلام) قال: «مَنْ عَلَّمَ بَابَ هُدًى فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهِ وَلَا يُنْقَصُ أُولَئِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَنْ عَلَّمَ بَابَ ضَلَالٍ كَانَ عَلَيْه مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ عَمِلَ بِهِ وَلَا يُنْقَصُ أُولَئِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئاً»(١٥٨).
وقال الصادق (عليه السلام): «اِحْتَفِظُوا بِكُتُبِكُمْ فَإِنَّكُمْ سَوْفَ تَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا»(١٥٩).
وقال (عليه السلام) للمفضَّل بن عمر: «اُكْتُبْ وَبُثَّ عِلْمَكَ فِي إِخْوَانِكَ، فَإِنْ مِتَّ فَأَوْرِثْ كُتُبَكَ بَنِيكَ، فَإِنَّه يَأْتِي عَلَى اَلنَّاسِ زَمَانُ هَرْجٍ لَا يَأْنَسُونَ فِيه إِلَّا بِكُتُبِهِمْ»(١٦٠).
والأحاديث في هذا المجال كثيرة جدًّا لا يسع المقام ذكرها.
والسرُّ في هذا الحثِّ الشديد هو أنَّ الفقهاء حصون الإسلام، يدفعون عنه بِدَع الباطل ودعاته، وكذب المفترين كما تقدَّم في الروايات.
وقال الكاظم (عليه السلام): «إِذَا مَاتَ اَلمُؤْمِنُ بَكَتْ عَلَيْه اَلمَلَائِكَةُ، وَبِقَاعُ اَلْأَرْضِ اَلَّتِي كَانَ يَعْبُدُ اَللهَ عَلَيْهَا، وَأَبْوَابُ اَلسَّمَاءِ اَلَّتِي كَانَ يُصْعَدُ فِيهَا بِأَعْمَالِهِ، وَثُلِمَ فِي اَلْإِسْلَامِ ثُلْمَةٌ لَا يَسُدُّهَا شَيْءٌ، لأَنَّ اَلمُؤْمِنِينَ اَلْفُقَهَاءَ حُصُونُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٥٧) الكافي (ج ١/ ص ٣٢/ باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء/ ح ٣).
(١٥٨) الكافي (ج ١/ ص ٣٥/ باب ثواب العالم والمتعلِّم/ ح ٤)؛ ورواه بتفاوت يسير البرقي (رحمه الله) في المحاسن (ج ١/ ص ٢٧/ ح ٩).
(١٥٩) الكافي (ج ١/ ص ٥٢/ باب رواية الكُتُب والحديث.../ ح ١٠).
(١٦٠) الكافي (ج ١/ ص ٥٢/ باب رواية الكُتُب والحديث.../ ح ١١).
↑صفحة ٩٦↑
اَلْإِسْلَامِ كَحِصْنِ سُورِ اَلمَدِينَةِ لَهَا»(١٦١).
وقال الصادق (عليه السلام): «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ مِنَ اَلمُؤْمِنِينَ أَحَبَّ إِلَى إِبْلِيسَ مِنْ مَوْتِ فَقِيهٍ»(١٦٢).
وقال (عليه السلام): «إِنَّ أَبِي كَانَ يَقُولُ: إِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) لَا يَقْبِضُ اَلْعِلْمَ بَعْدَمَا يُهْبِطُهُ، وَلَكِنْ يَمُوتُ اَلْعَالِمُ فَيَذْهَبُ بِمَا يَعْلَمُ، فَتَلِيهِمُ اَلْجُفَاةُ(١٦٣) فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ، وَلَا خَيْرَ فِي شَيْءٍ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ»(١٦٤).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٦١) الكافي (ج ١/ ص ٣٨/ باب فقد العلماء/ ح ٣)؛ ورواه بتفاوت يسير الحميري (رحمه الله) في قرب الإسناد (ص ٣٠٣/ ح ١١٩٠)، والصدوق (رحمه الله) في علل الشرائع (ج ٢/ ص ٤٦٢/ باب ٢٢٢/ ح ٢).
(١٦٢) الكافي (ج ١/ ص ٣٨/ باب فقد العلماء/ ح ١)؛ ورواه بتفاوت يسير العيَّاشي (رحمه الله) في تفسيره (ج ١/ ص ١٥١/ ح ٤٩٨).
(١٦٣) أي أهل النفوس الغليظة والقلوب القاسية التي ليست قابلة لاكتساب العلم والكمال.
(١٦٤) الكافي (ج ١/ ص ٣٨/ باب فقد العلماء/ ح ٥).
↑صفحة ٩٧↑
إنَّ منابع الشريعة هما: الكتاب العزيز، والسُّنَّة المطهَّرة من أقوال وأفعال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأقوال الأئمَّة المعصومين (عليهم السلام) وأفعالهم وتقريراتهم، وقال الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحَكَم في الوصيَّة المعروفة: «يَا هِشَامُ، إِنَّ لِله عَلَى اَلنَّاسِ حُجَّتَيْنِ، حُجَّةً ظَاهِرَةً، وَحُجَّةً بَاطِنَةً، فَأَمَّا اَلظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَاَلْأَنْبِيَاءُ وَاَلْأَئِمَّةُ (عليهم السلام)، وَأَمَّا اَلْبَاطِنَةُ فَالْعُقُولُ»(١٦٥).
وقال الصادق (عليه السلام) لعبد الله بن سنان: «حُجَّةُ اَلله عَلَى اَلْعِبَادِ اَلنَّبِيُّ، وَاَلْحُجَّةُ فِيمَا بَيْنَ اَلْعِبَادِ وَبَيْنَ اَلله اَلْعَقْلُ»(١٦٦).
وفي حديث طويل للصادق (عليه السلام) حيث بيَّن فيه أنَّ بالعقل مبدأ الأُمور وقوَّتها وعمارتها، وبه عُرِفَ الله وصفاته الكماليَّة، وبه عُرِفَت الكمالات، قيل له: فهل يكفي العباد بالعقل دون غيره؟ قال: «إِنَّ اَلْعَاقِلَ لِدَلَالَةِ عَقْلِهِ اَلَّذِي جَعَلَهُ اَللهُ قِوَامَهُ وَزِينَتَهُ وَهِدَايَتَهُ عَلِمَ أَنَّ اَللهَ هُوَ اَلْحَقُّ، وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّهُ، وَعَلِمَ أَنَّ لِخَالِقِهِ مَحَبَّةً، وَأَنَّ لَهُ كَرَاهِيَةً، وَأَنَّ لَهُ طَاعَةً، وَأَنَّ لَهُ مَعْصِيَةً، فَلَمْ يَجِدْ عَقْلَهُ يَدُلُّهُ عَلَى ذَلِكَ، وعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَطَلَبِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٦٥) الكافي (ج ١/ ص ١٦/ كتاب العقل والجهل/ ح ١٢)، تُحَف العقول (ص ٣٨٦).
(١٦٦) الكافي (ج ١/ ص ٢٥/ كتاب العقل والجهل/ ح ٢٢).
↑صفحة ٩٨↑
وَأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِعَقْلِهِ إِنْ لَمْ يُصِبْ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ، فَوَجَبَ عَلَى اَلْعَاقِلِ طَلَبُ اَلْعِلْمِ وَاَلْأَدَبِ اَلَّذِي لَا قِوَامَ لَهُ إِلَّا بِهِ»(١٦٧).
وقد روى السُّنَّة والشيعة بالطُّرُق المستفيضة المتواترة حديث الثقلين عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ اَلثَّقَلَيْنِ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَداً، كِتَابَ اَلله وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَلَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ اَلْحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا».
وقد رواه عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أكثر من ثلاثين صحابيًّا، وما لا يقلُّ عن مائتي عالم من كبار علماء السُّنَّة بألفاظ مختلفة في كُتُبهم، فضلاً عن الشيعة(١٦٨).
وروى الشيخ الصدوق (رحمه الله) في (معاني الأخبار) عن الباقر (عليه السلام)، قَالَ: «خَطَبَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (صَلَوَاتُ اَلله عَلَيهِ) بِالْكُوفَةِ بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنَ اَلنَّهْرَوَانِ، وَبَلَغَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ يَسُبُّهُ وَيَلْعَنُهُ وَيَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، فَقَامَ خَطِيباً، فَحَمِدَ اَللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَذَكَرَ مَا أَنْعَمَ اَللهُ عَلَى نَبِيِّهِ وَعَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:... يَا أَيُّهَا اَلنَّاس، إِنَّهُ بَلَغَنِي مَا بَلَغَنِي، وَإِنِّي أَرَانِي قَدِ اِقْتَرَبَ أَجَلِي، وَكَأَنِّي بِكُمْ وَقَدْ جَهِلْتُمْ أَمْرِي، وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٦٧) الكافي (ج ١/ ص ٢٩/ كتاب العقل والجهل/ ح ٣٥).
(١٦٨) راجع: بصائر الدرجات (ص ٤٣٢/ ج ٨/ باب ١٧)، والكافي (ج ٢/ ص ٤١٤ و٤١٥/ باب أدنى ما يكون العبد مؤمناً/ ح ١)، وأمالي الصدوق (ص ٥٠٠/ ح ٦٨٦/١٥)، ومسند أحمد (ج ١٧/ ص ١٦٩ و١٧٠/ ح ١١١٠٤)، وسُنَن الترمذي (ج ٥/ ص ٣٢٨ و٣٢٩/ ح ٣٨٧٦)، وسُنَن النسائي (ج ٥/ ص ٤٥ و٤٦/ ح ٨١٤٨)، وغيرها من المصادر.
↑صفحة ٩٩↑
تَرَكَهُ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كِتَابَ اَلله وَعِتْرَتِي، وَهِيَ عِتْرَةُ اَلْهَادِي إِلَى اَلنَّجَاةِ خَاتَمِ اَلْأَنْبِيَاءِ، وَسَيِّدِ اَلنُّجَبَاءِ، وَاَلنَّبِيِّ اَلمُصْطَفَى»(١٦٩).
وقال الصادق (عليه السلام): «إِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْزَلَ فِي اَلْقُرْآنِ تِبْيَانَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى وَاَلله مَا تَرَكَ اَللهُ شَيْئاً يَحْتَاجُ إِلَيْهِ اَلْعِبَادُ حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ عَبْدٌ يَقُولُ: لَوْ كَانَ هَذَا أُنْزِلَ فِي اَلْقُرْآنِ، إِلَّا وَقَدْ أَنْزَلَهُ اَللهُ فِيهِ»(١٧٠).
وقال (عليه السلام): «مَا خَلَقَ اَللهُ حَلَالاً وَلَا حَرَاماً إِلَّا وَلَه حَدٌّ كَحَدِّ اَلدَّارِ، فَمَا كَانَ مِنَ اَلطَّرِيقِ فَهُوَ مِنَ اَلطَّرِيقِ، وَمَا كَانَ مِنَ اَلدَّارِ فَهُوَ مِنَ اَلدَّارِ، حَتَّى أَرْشُ اَلْخَدْشِ فَمَا سِوَاهُ، وَاَلْجَلْدَةِ وَنِصْفِ اَلْجَلْدَةِ»(١٧١).
وقال (عليه السلام): «مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَفِيهِ كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ»(١٧٢).
وقال زين العابدين (عليه السلام): «إِنَّ أَفْضَلَ اَلْأَعْمَالِ عِنْدَ اَلله مَا عُمِلَ بِالسُّنَّةِ وَإِنْ قَلَّ»(١٧٣).
وقال الباقر (عليه السلام): «كُلُّ مَنْ تَعَدَّى اَلسُّنَّةَ رُدَّ إِلَى اَلسُّنَّةِ»(١٧٤).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٦٩) معاني الأخبار (ص ٥٨/ باب معاني أسماء محمّد وعليٍّ.../ ح ٩).
(١٧٠) الكافي (ج ١/ ص ٥٩/ باب الردِّ إلى الكتاب والسُّنَّة.../ ح ١)؛ ورواه بتفاوت يسير القمِّي (رحمه الله) في تفسيره (ج ٢/ ص ٤٥١).
(١٧١) الكافي (ج ١/ ص ٥٩/ باب الردِّ إلى الكتاب والسُّنَّة.../ ح ٣).
(١٧٢) الكافي (ج ١/ ص ٥٩/ باب الردِّ إلى الكتاب والسُّنَّة.../ ح ٤).
(١٧٣) الكافي (ج ١/ ص ٧٠/ باب الأخذ بالسُّنَّة وشواهد الكتاب/ ح ٧)؛ ورواه بتفاوت يسير البرقي (رحمه الله) في المحاسن (ج ١/ ص ٢٢١/ ح ١٣٣).
(١٧٤) المحاسن (ج ١/ ص ٢٢١/ ح ١٣٢)، الكافي (ج ١/ ص ٧٠ و٧١/ باب الأخذ بالسُّنَّة وشواهد الكتاب/ ح ١١).
↑صفحة ١٠٠↑
وقال الصادق (عليه السلام): «مَنْ خَالَفَ كِتَابَ اَلله وَسُنَّةَ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فَقَدْ كَفَرَ»(١٧٥).
وقال (عليه السلام) عَنْ آبَائِهِ، عَنْ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لَا قَوْلَ إِلَّا بِعَمَلٍ، وَلَا قَوْلَ وَلَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَلَا قَوْلَ وَلَا عَمَلَ وَلَا نِيَّةَ إِلَّا بِإِصَابَةِ اَلسُّنَّةِ»(١٧٦).
وقال (عليه السلام): «مَنْ دَانَ اَللهَ بِغَيْرِ سَمَاعٍ عَنْ صَادِقٍ أَلْزَمَهُ اَللهُ اَلْتِيهَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ»(١٧٧)، أي من تديَّن وعمل بحكم بغير المأثور من المعصوم جعل الله حاله يوم القيامة وهو يوم الفزع الأكبر في تيه، مع كونه ذلك اليوم في أشدّ الحاجة إلى الأمان والقرار، أو أنَّ التيه كناية عن الضلال وعاقبة السوء.
وفي الرسالة المشهورة للإمام الصادق (عليه السلام) إلى أصحابه والتي أمرهم بمدارستها والنظر فيها وتعاهدها والعمل بها، فكانوا يضعونها في مساجد بيوتهم، فإذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها، والتي رواها الكليني (رحمه الله) في كتاب (الروضة من الكافي) بطُرُق معتبرة نذكر موضعاً منها ممَّا يهمُّ الكلام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٧٥) الكافي (ج ١/ ص ٧٠/ باب الأخذ بالسُّنَّة وشواهد الكتاب/ ح ٦).
(١٧٦) المحاسن (ج ١/ ص ٢٢١ و٢٢٢/ ح ١٣٤)، الكافي (ج ١/ ص ٧٠/ باب الأخذ بالسُّنَّة وشواهد الكتاب/ ح ٩)؛ ورواه بتفاوت يسير الصفَّار (رحمه الله) في بصائر الدرجات (ص ٣١/ ج ١/ باب ٦/ ح ٤)، وابن بابويه (رحمه الله) في فقه الرضا (عليه السلام) (ص ٣٧٨).
(١٧٧) بصائر الدرجات (ص ٣٣ و٣٤/ ج ١/ باب نادر من باب ٨/ ح ١)، وفيه: (ألزمه الله التيه إلى يوم القيامة)، الكافي (ج ١/ ص ٣٧٧/ باب من مات وليس له إمام من أئمَّة الهدى/ ح ٤)، وفيه: (ألزمه الله البتَّة إلى العناء)، الغيبة للنعماني (ص ١٣٣/ باب ٧/ ح ١٨)، وفيه: (ألزمه الله التيه إلى العناء).
↑صفحة ١٠١↑
في المقام، قال (عليه السلام): «أَيَّتُهَا اَلْعِصَابَةُ اَلمَرْحُومَةُ اَلمُفْلِحَةُ، إِنَّ اَللهَ أَتَمَّ لَكُمْ مَا آتَاكُمْ مِنَ اَلْخَيْرِ، وَاِعْلَمُوا أَنَّه لَيْسَ مِنْ عِلْمِ اَلله وَلَا مِنْ أَمْرِه أَنْ يَأْخُذَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اَلله فِي دِينِهِ بِهَوًى وَلَا رَأْيٍ وَلَا مَقَايِيسَ، قَدْ أَنْزَلَ اَللهُ اَلْقُرْآنَ وَجَعَلَ فِيهِ تِبْيَانَ كُلِّ شَيْءٍ، وَجَعَلَ لِلْقُرْآنِ وَلِتَعَلُّمِ اَلْقُرْآنِ أَهْلاً، لَا يَسَعُ أَهْلَ عِلْمِ اَلْقُرْآنِ اَلَّذِينَ آتَاهُمُ اَللهُ عِلْمَهُ أَنْ يَأْخُذُوا فِيه بِهَوًى وَلَا رَأْيٍ وَلَا مَقَايِيسَ، أَغْنَاهُمُ اَللهُ عَنْ ذَلِكَ بِمَا آتَاهُمْ مِنْ عِلْمِهِ وَخَصَّهُمْ بِهِ وَوَضَعَهُ عِنْدَهُمْ كَرَامَةً مِنَ اَلله أَكْرَمَهُمْ بِهَا، وهُمْ أَهْلُ اَلذِّكْرِ اَلَّذِينَ أَمَرَ اَللهُ هَذِه اَلْأُمَّةَ بِسُؤَالِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ مَنْ سَأَلَهُمْ - وَقَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اَلله أَنْ يُصَدِّقَهُمْ وَيَتَّبِعَ أَثَرَهُمْ - أَرْشَدُوه وَأَعْطَوْه مِنْ عِلْمِ اَلْقُرْآنِ مَا يَهْتَدِي بِه إِلَى اَلله بِإِذْنِهِ وَإِلَى جَمِيعِ سُبُلِ اَلْحَقِّ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَرْغَبُ عَنْهُمْ وَعَنْ مَسْأَلَتِهِمْ وَعَنْ عِلْمِهِمُ الَّذِي أَكْرَمَهُمُ اَللهُ بِهِ وَجَعَلَهُ عِنْدَهُمْ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْه فِي عِلْمِ اَلله اَلشَّقَاءُ فِي أَصْلِ اَلْخَلْقِ تَحْتَ اَلْأَظِلَّةِ(١٧٨)، فَأُولَئِكَ اَلَّذِينَ يَرْغَبُونَ عَنْ سُؤَالِ أَهْلِ اَلذِّكْرِ وَالَّذِينَ آتَاهُمُ اَللهُ عِلْمَ اَلْقُرْآنِ وَوَضَعَهُ عِنْدَهُمْ وَأَمَرَ بِسُؤَالِهِمْ، وَأُولَئِكَ اَلَّذِينَ يَأْخُذُونَ بِأَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ وَمَقَايِيسِهِمْ حَتَّى دَخَلَهُمُ اَلشَّيْطَانُ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا أَهْلَ اَلْإِيمَانِ فِي عِلْمِ اَلْقُرْآنِ عِنْدَ اَلله كَافِرِينَ، وَجَعَلُوا أَهْلَ اَلضَّلَالَةِ فِي عِلْمِ اَلْقُرْآنِ عِنْدَ اَلله مُؤْمِنِينَ، وَحَتَّى جَعَلُوا مَا أَحَلَّ اَللهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ اَلْأَمْرِ حَرَاماً، وَجَعَلُوا مَا حَرَّمَ اَللهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ اَلْأَمْرِ حَلَالاً، فَذَلِكَ أَصْلُ ثَمَرَةِ أَهْوَائِهِمْ، وَقَدْ عَهِدَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قَبْلَ مَوْتِهِ، فَقَالُوا: نَحْنُ بَعْدَ مَا قَبَضَ اَللهُ(عزَّ وجلَّ) رَسُولَهُ يَسَعُنَا أَنْ نَأْخُذَ بِمَا اِجْتَمَعَ عَلَيْهِ رَأْيُ اَلنَّاسِ بَعْدَ مَا قَبَضَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٧٨) تحتمل إرادة عالم الأرواح، أو التقرُّر العلمي للأشياء.
↑صفحة ١٠٢↑
رَسُولَهُ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَبَعْدَ عَهْدِهِ اَلَّذِي عَهِدَهُ إِلَيْنَا، وَأَمَرَنَا بِهِ مُخَالِفاً لِله وَلِرَسُولِهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَمَا أَحَدٌ أَجْرَأَ عَلَى اَلله وَلَا أَبْيَنَ ضَلَالَةً مِمَّنْ أَخَذَ بِذَلِكَ وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ، وَاَلله إِنَّ لِله عَلَى خَلْقِهِ أَنْ يُطِيعُوهُ وَيَتَّبِعُوا أَمْرَهُ فِي حَيَاةِ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَبَعْدَ مَوْتِهِ، هَلْ يَسْتَطِيعُ أُولَئِكَ أَعْدَاءُ اَلله أَنْ يَزْعُمُوا أَنَّ أَحَداً مِمَّنْ أَسْلَمَ مَعَ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أَخَذَ بِقَوْلِهِ وَرَأْيِهِ وَمَقَايِيسِهِ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اَلله وَضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً، وَإِنْ قَالَ: لَا لَمْ يَكُنْ لأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ بِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ وَمَقَايِيسِهِ، فَقَدْ أَقَرَّ بِالْحُجَّةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّ اَللهَ يُطَاعُ وَيُتَّبَعُ أَمْرُهُ بَعْدَ قَبْضِ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَقَدْ قَالَ اَللهُ وَقَوْلُهُ اَلْحَقُّ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٤](١٧٩)، وَذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اَللهَ يُطَاعُ وَيُتَّبَعُ أَمْرُهُ فِي حَيَاةِ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَبَعْدَ قَبْضِ اَلله مُحَمَّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَكَمَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ اَلنَّاسِ مَعَ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أَنْ يَأْخُذَ بِهَوَاهُ وَلَا رَأْيِهِ وَلَا مَقَايِيسِهِ خِلَافاً لِأَمْرِ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ اَلنَّاسِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أَنْ يَأْخُذَ بِهَوَاهُ وَلَا رَأْيِهِ وَلَا مَقَايِيسِهِ...».
إلى أنْ قال (عليه السلام): «أَيَّتُهَا اَلْعِصَابَةُ اَلْحَافِظُ اَللهُ لَهُمْ أَمْرَهُمْ عَلَيْكُمْ بِآثَارِ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَسُنَّتِهِ وَآثَارِ اَلْأَئِمَّةِ اَلْهُدَاةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مِنْ بَعْدِهِ وَسُنَّتِهِمْ، فَإِنَّه مَنْ أَخَذَ بِذَلِكَ فَقَدِ اِهْتَدَى، وَمَنْ تَرَكَ ذَلِكَ ورَغِبَ عَنْهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٧٩) والخطاب في الآية الشريفة يشملنا نحن أبناء هذا الزمن أيضاً، ويهتف بنا عن تبديل الدِّين الحقِّ والرجوع إلى العقب وإلى الضلالة.
↑صفحة ١٠٣↑
ضَلَّ، لأَنَّهُمْ هُمُ اَلَّذِينَ أَمَرَ اَللهُ بِطَاعَتِهِمْ وَوَلَايَتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ أَبُونَا رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): اَلمُدَاوَمَةُ عَلَى اَلْعَمَلِ فِي اِتِّبَاعِ اَلْآثَارِ وَاَلسُّنَنِ وَإِنْ قَلَّ أَرْضَى لِله وَأَنْفَعُ عِنْدَهُ فِي اَلْعَاقِبَةِ مِنَ اَلْاِجْتِهَادِ فِي اَلْبِدَعِ وَاِتِّبَاعِ اَلْأَهْوَاءِ، أَلَا إِنَّ اِتِّبَاعَ اَلْأَهْوَاءِ وَاِتِّبَاعَ اَلْبِدَعِ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اَلله ضَلَالٌ، وكُلُّ ضَلَالَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ فِي اَلنَّارِ، وَلَنْ يُنَالَ شَيْءٌ مِنَ اَلْخَيْرِ عِنْدَ اَلله إِلَّا بِطَاعَتِهِ وَاَلصَّبْرِ وَاَلرِّضَا، لِأَنَّ اَلصَّبْرَ وَاَلرِّضَا مِنْ طَاعَةِ اَلله...».
إلى أنْ قال (عليه السلام): «فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللهُ مِنْ أَهْلِ صِفَةِ اَلْحَقِّ فَأُولَئِكَ هُمْ شَيَاطِينُ اَلْإِنْسِ وَاَلْجِنِّ، وَإِنَّ لِشَيَاطِينِ اَلْإِنْسِ حِيلَةً وَمَكْراً وَخَدَائِعَ وَوَسْوَسَةً بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ يُرِيدُونَ إِنِ اِسْتَطَاعُوا أَنْ يَرُدُّوا أَهْلَ الْحَقِّ عَمَّا أَكْرَمَهُمُ اَللهُ بِهِ مِنَ اَلنَّظَرِ فِي دِينِ اَلله اَلَّذِي لَمْ يَجْعَلِ اَللهُ شَيَاطِينَ اَلْإِنْسِ مِنْ أَهْلِهِ إِرَادَةَ أَنْ يَسْتَوِيَ أَعْدَاءُ اَلله وَأَهْلُ اَلْحَقِّ فِي اَلشَّكِّ وَاَلْإِنْكَارِ وَاَلتَّكْذِيبِ، فَيَكُونُونَ سَوَاءً كَمَا وَصَفَ اَللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ [النساء: ٨٩]، ثُمَّ نَهَى اَللهُ أَهْلَ اَلنَّصْرِ بِالْحَقِّ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ أَعْدَاءِ اَلله وَلِيًّا وَلَا نَصِيراً، فَلَا يُهَوِّلَنَّكُمْ وَلَا يَرُدَّنَّكُمْ عَنِ اَلنَّصْرِ بِالْحَقِّ اَلَّذِي خَصَّكُمُ اَللهُ بِهِ مِنْ حِيلَةِ شَيَاطِينِ اَلْإِنْسِ وَمَكْرِهِمْ مِنْ أُمُورِكُمْ...».
إلى أنْ قال: «هَذَا أَدَبُنَا أَدَبُ اَللهُ فَخُذُوا بِهِ وَتَفَهَّمُوهُ وَاِعْقِلُوهُ وَلَا تَنْبِذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ»(١٨٠).
وروى الكليني (رحمه الله) في كتاب (الكافي) في أبواب الحجَّة باب الغيبة بسنده عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «اَللَّهُمَّ إِنَّه لَا بُدَّ لَكَ مِنْ حُجَجٍ فِي أَرْضِكَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٨٠) الكافي (ج ٨/ ص ٢ - ١٤/ ح ١).
↑صفحة ١٠٤↑
حُجَّةٍ بَعْدَ حُجَّةٍ عَلَى خَلْقِكَ، يَهْدُونَهُمْ إِلَى دِينِكَ، وَيُعَلِّمُونَهُمْ عِلْمَكَ، كَيْلَا يَتَفَرَّقَ أَتْبَاعُ أَوْلِيَائِكَ، ظَاهِرٍ غَيْرِ مُطَاعٍ، أَوْ مُكْتَتَمٍ يُتَرَقَّبُ، إِنْ غَابَ عَنِ اَلنَّاسِ شَخْصُهُمْ فِي حَالِ هُدْنَتِهِمْ فَلَمْ يَغِبْ عَنْهُمْ قَدِيمُ مَبْثُوثِ عِلْمِهِمْ، وَآدَابُهُمْ فِي قُلُوبِ اَلمُؤْمِنِينَ مُثْبَتَةٌ فَهُمْ بِهَا عَامِلُونَ»، وَيَقُولُ (عليه السلام) فِي هَذِه اَلْخُطْبَةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: «فِيمَنْ هَذَا؟ وَلِهَذَا يَأْرِزُ(١٨١) اَلْعِلْمُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ حَمَلَةٌ يَحْفَظُونَهُ وَيَرْوُونَهُ كَمَا سَمِعُوهُ مِنَ اَلْعُلَمَاءِ وَيَصْدُقُونَ عَلَيْهِمْ فِيهِ، اَللَّهُمَّ فَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ اَلْعِلْمَ لَا يَأْرِزُ كُلُّهُ، وَلَا يَنْقَطِعُ مَوَادُّهُ، وَإِنَّكَ لَا تُخْلِي أَرْضَكَ مِنْ حُجَّةٍ لَكَ عَلَى خَلْقِكَ ظَاهِرٍ لَيْسَ بِالمُطَاعِ أَوْ خَائِفٍ مَغْمُورٍ، كَيْلَا تَبْطُلَ حُجَّتُكَ، وَلَا يَضِلَّ أَوْلِيَاؤُكَ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَهُمْ، بَلْ أَيْنَ هُمْ وَكَمْ هُمْ، أُولَئِكَ اَلْأَقَلُّونَ عَدَداً، اَلْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اَلله قَدْراً»(١٨٢).
وفي كلامه (عليه السلام) إشارة إلى غيبة الحجَّة (عجَّل الله فرجه)، حيث قال: «أَوْ مُكْتَتَمٍ يُتَرَقَّبُ، إِنْ غَابَ عَنِ اَلنَّاسِ»، والاكتتام إشارة إلى عدم نصب الحجَّة الغائب النائب الخاصَّ في غيبته، وهي الطولى الكبرى.
وأشار (عليه السلام) بقوله: «إِنْ غَابَ عَنِ اَلنَّاسِ شَخْصُهُمْ فِي حَالِ هُدْنَتِهِمْ فَلَمْ يَغِبْ عَنْهُمْ قَدِيمُ مَبْثُوثِ عِلْمِهِمْ، وَآدَابُهُمْ فِي قُلُوبِ اَلمُؤْمِنِينَ مُثْبَتَةٌ فَهُمْ بِهَا عَامِلُونَ» إلى الوظيفة في الغيبة الكبرى، وهي الرجوع إلى أحاديث الأئمَّة الحُجَج (عليهم السلام) المثبتة في كُتُب المؤمنين الرواة منذ قديم أيَّام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٨١) أي ينقبض ويرتفع، كناية عن ذهابه.
(١٨٢) الكافي (ج ١/ ص ٣٣٩/ باب في الغيبة/ ح ١٣)؛ ورواه النعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص ١٣٦ - ١٣٨/ باب ٨/ ح ٢).
↑صفحة ١٠٥↑
الأئمَّة (عليهم السلام)، وأنَّ هذه الأحاديث المأثورة عنهم هي علم الأئمَّة (عليهم السلام) وآدابهم، وهي منبع الدِّين والشريعة والهداية.
وأشار (عليه السلام) بقوله: «وَلِهَذَا يَأْرِزُ اَلْعِلْمُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ حَمَلَةٌ يَحْفَظُونَهُ وَيَرْوُونَهُ كَمَا سَمِعُوهُ مِنَ اَلْعُلَمَاءِ وَيَصْدُقُونَ عَلَيْهِمْ فِيهِ» إلى أنَّ العلم بالشريعة بين الناس يذهب ويقلُّ بذهاب الفقهاء والحُفَّاظ والرواة عن الأئمَّة (عليهم السلام)، وهذا وجه قول الصادق (عليه السلام) الذي سبق حول زرارة ومحمّد ابن مسلم وأبي بصير وبُريد(١٨٣).
وروى الصدوق (رحمه الله) في كتابه (كمال الدِّين) بسنده عن الصادق (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام) في وصيَّة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعليٍّ (عليه السلام)، قال: «يَا عَلِيُّ، وَاِعْلَمْ أَنَّ أَعْجَبَ اَلنَّاسِ إِيمَاناً وَأَعْظَمَهُمْ يَقِيناً قَوْمٌ يَكُونُونَ فِي آخِرِ اَلزَّمَانِ لَمْ يَلْحَقُوا اَلنَّبِيَّ، وَحَجَبَتْهُمُ اَلْحُجَّةُ، فَآمَنُوا بِسَوَادٍ عَلَى بَيَاضٍ»(١٨٤).
وروى الكشِّي (رحمه الله) في كتاب (الرجال) بسنده إلى أبي هاشم الجعفري (داود بن القاسم من ذرّيَّة جعفر الطيَّار (رضوان الله تعالى عليه))، قال: أَدْخَلْتُ كِتَابَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ اَلَّذِي أَلَّفَهُ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ (وهو من أصحاب الرضا (عليه السلام)، وكان من أفقه أصحابه) عَلَى أَبِي اَلْحَسَنِ اَلْعَسْكَرِيِّ (عليه السلام)، فَنَظَرَ فِيهِ وَتَصَفَّحَهُ كُلَّهُ، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا دِينِي وَدِينُ آبَائِي، وَهُوَ اَلْحَقُّ كُلُّهُ»(١٨٥).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٨٣) قد تقدَّم في (ص ٩٣)، فراجع.
(١٨٤) كمال الدِّين (ص ٢٨٨/ باب ٢٥/ ح ٨)؛ ورواه (رحمه الله) في من لا يحضره الفقيه (ج ٤/ ص ٣٦٦/ ح ٥٧٦٢).
(١٨٥) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٧٨٠/ ح ٩١٥).
↑صفحة ١٠٦↑
وروى الكليني (رحمه الله) بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ اَلْحَسَنِ بْنِ أَبِي خَالِدٍ شَيْنُولَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ اَلثَّانِي (الجواد) (عليه السلام): جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّ مَشَايِخَنَا رَوَوْا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (الباقر) وَأَبِي عَبْدِ اَلله (الصادق) (عليهما السلام)، وَكَانَتِ اَلتَّقِيَّةُ شَدِيدَةً، فَكَتَمُوا كُتُبَهُمْ وَلَمْ تُرْوَ عَنْهُمْ، فَلَمَّا مَاتُوا صَارَتِ اَلْكُتُبُ إِلَيْنَا، فَقَالَ: «حَدِّثُوا بِهَا، فَإِنَّهَا حَقٌّ»(١٨٦).
وروى الشيخ الجليل الأقدم ابن شعبة الحرَّاني (رحمه الله) في كتابه (تُحَف العقول) عن الكاظم (عليه السلام) أنَّه كان لأبي يوسف (تلميذ أبي حنيفة وقاضي العبَّاسيِّين) معه كلام في مجلس الرشيد، فقال الرشيد بعد كلام طويل لموسى بن جعفر (عليه السلام): بِحَقِّ آبَائِكَ لَـمَّا اِخْتَصَرْتَ كَلِمَاتٍ جَامِعَةً لِمَا تَجَارَيْنَاهُ(١٨٧)، فَقَالَ (عليه السلام): «نَعَمْ»، وَأُتِيَ بِدَوَاةٍ وَقِرْطَاسٍ، فَكَتَبَ: «بِسْمِ اَلله اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، جَمِيعُ أُمُورِ اَلْأَدْيَانِ أَرْبَعَةٌ: أَمْرٌ لَا اِخْتِلَافَ فِيهِ، وَهُوَ إِجْمَاعُ اَلْأُمَّةِ عَلَى اَلضَّرُورَةِ اَلَّتِي يُضْطَرُّونَ إِلَيْهَا، وَاَلْأَخْبَارُ اَلمُجْمَعُ عَلَيْهَا، وَهِيَ اَلْغَايَةُ اَلمَعْرُوضُ عَلَيْهَا كُلُّ شُبْهَةٍ، وَاَلمُسْتَنْبَطُ مِنْهَا كُلُّ حَادِثَةٍ، وَهُوَ إِجْمَاعُ اَلْأُمَّةِ. وَأَمْرٌ يَحْتَمِلُ اَلشَّكَّ وَاَلْإِنْكَارَ، فَسَبِيلُهُ اِسْتِيضَاحُ أَهْلِهِ لِمُنْتَحِلِيهِ بِحُجَّةٍ مِنْ كِتَابِ اَلله مُجْمَعٍ عَلَى تَأْوِيلِهَا، وَسُنَّةٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا لَا اِخْتِلَافَ فِيهَا، أَوْ قِيَاسٍ تَعْرِفُ اَلْعُقُولُ عَدْلَهُ، وَلَا يَسَعُ خَاصَّةَ اَلْأُمَّةِ وَعَامَّتَهَا اَلشَّكُّ فِيهِ وَاَلْإِنْكَارُ لَهُ. وَهَذَانِ اَلْأَمْرَانِ مِنْ أَمْرِ اَلتَّوْحِيدِ فَمَا دُونَهُ، وَأَرْشِ اَلْخَدْشِ فَمَا فَوْقَهُ. فَهَذَا اَلمَعْرُوضُ اَلَّذِي يُعْرَضُ عَلَيْهِ أَمْرُ اَلدِّينِ، فَمَا ثَبَتَ لَكَ بُرْهَانُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٨٦) الكافي (ج ١/ ص ٥٣/ باب رواية الكُتُب والحديث.../ ح ١٥).
(١٨٧) أي: لما وقع الكلام والمحادثة حوله.
↑صفحة ١٠٧↑
اِصْطَفَيْتَهُ، وَمَا غَمَضَ عَلَيْكَ صَوَابُهُ نَفَيْتَهُ. فَمَنْ أَوْرَدَ وَاحِدَةً مِنْ هَذِهِ اَلثَّلَاثِ فَهِيَ اَلْحُجَّةُ اَلْبَالِغَةُ اَلَّتِي بَيَّنَهَا اَللهُ فِي قَوْلِهِ لِنَبِيِّهِ: ﴿قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنعام: ١٤٩]، يَبْلُغُ اَلْحُجَّةُ اَلْبَالِغَةُ اَلْجَاهِلَ فَيَعْلَمُهَا بِجَهْلِهِ كَمَا يَعْلَمُهُ اَلْعَالِمُ بِعِلْمِهِ، لِأَنَّ اَللهَ عَدْلٌ لَا يَجُورُ، يَحْتَجُّ عَلَى خَلْقِهِ بِمَا يَعْلَمُونَ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى مَا يَعْرِفُونَ لَا إِلَى مَا يَجْهَلُونَ وَيُنْكِرُونَ»(١٨٨).
ومضمون كتاب الكاظم (عليه السلام) هو مضمون ما تقدَّم في بداية هذا الأمر الرابع عن الصادق (عليه السلام) من أنَّ العقل وإنْ كان حجَّة يُدرَك به التوحيد وصفات الخالق والكمالات وحسن العدل وقبح الظلم وإحالة اجتماع النقيضين ونحوها، ولكن لا يُكتفى به في معرفة مراضي الله ومعاصيه وأوامره ونواهيه، بل لا بدَّ من العلم وهو الكتاب العزيز والسُّنَّة المطهَّرة للنبيِّ وآله (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)(١٨٩)، فهذه هي الحُجَج الثلاث المشار إليها في قوله (عليه السلام): «فَمَنْ أَوْرَدَ وَاحِدَةً مِنْ هَذِهِ اَلثَّلَاثِ فَهِيَ اَلْحُجَّةُ اَلْبَالِغَةُ».
كما أنَّ المشار إليه بقوله (عليه السلام): «وَهَذَانِ اَلْأَمْرَانِ مِنْ أَمْرِ اَلتَّوْحِيدِ فَمَا دُونَهُ، وَأَرْشِ اَلْخَدْشِ فَمَا فَوْقَهُ. فَهَذَا اَلمَعْرُوضُ اَلَّذِي يُعْرَضُ عَلَيْهِ أَمْرُ اَلدِّينِ» هو ما تقدَّم في صدر كلامه (عليه السلام) من إجماع الأُمَّة على الضرورة، والأخبار المجمع عليها، أو الأمر الذي لا اختلاف فيه، والذي فيه الشكُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٨٨) تُحَف العقول (ص ٤٠٧ و٤٠٨).
(١٨٩) راجع ما مرَّ في (ص ٩٨).
↑صفحة ١٠٨↑
سواء كان من الأُصول أو الفروع، والمراد من العرض هو ملاحظة الأمر المشكوك سواء في أُصول الدِّين أو فروعه، ومقارنته مع الضروريَّات والسُّنَّة القطعيَّة والمستفيضة عنهم (عليهم السلام)، فما وافقها اصطُفِيَ وارتُضِيَ، وما نافاها أُنكِرَ ونُفِيَ.
وهذه ضابطة وردت بها أحاديث مستفيضة كما في قول الباقر (عليه السلام): «اَلْوُقُوفُ عِنْدَ اَلشُّبْهَةِ خَيْرٌ مِنَ اَلْاِقْتِحَامِ فِي اَلْهَلَكَةِ، وَتَرْكُكَ حَدِيثاً لَمْ تُرْوَهُ خَيْرٌ مِنْ رِوَايَتِكَ حَدِيثاً لَمْ تُحْصِهِ، إِنَّ عَلَى كُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً، وَعَلَى كُلِّ صَوَابٍ نُوراً، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اَلله فَخُذُوا بِهِ، وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اَلله فَدَعُوهُ»(١٩٠).
وقال الصادق (عليه السلام): «إِذَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ حَدِيثٌ فَوَجَدْتُمْ لَهُ شَاهِداً مِنْ كِتَابِ اَلله، أَوْ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَإِلَّا فَالَّذِي جَاءَكُمْ بِهِ أَوْلَى بِهِ»(١٩١).
وقال (عليه السلام): «كُلُّ شَيْءٍ مَرْدُودٌ إِلَى اَلْكِتَابِ وَاَلسُّنَّةِ، وَكُلُّ حَدِيثٍ لَا يُوَافِقُ كِتَابَ اَلله فَهُوَ زُخْرُفٌ»(١٩٢).
وقال الرضا (عليه السلام): «إِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) حَرَّمَ حَرَاماً، وَأَحَلَّ حَلَالاً، وَفَرَضَ فَرَائِضَ، فَمَا جَاءَ فِي تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اَللهُ، أَوْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اَللهُ، أَوْ دَفْعِ فَرِيضَةٍ فِي كِتَابِ اَلله رَسْمُهَا بَيِّنٌ قَائِمٌ بِلَا نَاسِخٍ نَسَخَ ذَلِكَ، فَذَلِكَ مِمَّا لَا يَسَعُ اَلْأَخْذُ بِهِ، لِأَنَّ رَسُولَ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لَمْ يَكُنْ لِيُحَرِّمَ مَا أَحَلَّ اَللهُ، وَلَا لِيُحَلِّلَ مَا حَرَّمَ اَللهُ، وَلَا لِيُغَيِّرَ فَرَائِضَ اَلله وَأَحْكَامَهُ، كَانَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُتَّبِعاً مُسَلِّماً مُؤَدِّياً عَنِ اَلله،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٩٠) تفسير العيَّاشي (ج ١/ ص ٨/ ح ٢).
(١٩١) الكافي (ج ١/ ص ٦٩/ باب الأخذ بالسُّنَّة وشواهد الكتاب/ ح ٢).
(١٩٢) المحاسن (ج ١/ ص ٢٢٠ و٢٢١/ ح ١٢٨)، تفسير العيَّاشي (ج ١/ ص ٩/ ح ٤)، الكافي (ج ١/ ص ٦٩/ باب الأخذ بالسُّنَّة وشواهد الكتاب/ ح ٣).
↑صفحة ١٠٩↑
وَذَلِكَ قَوْلُ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأنعام: ٥٠]، فَكَانَ مُتَّبِعاً لِله، مُؤَدِّياً عَنِ اَلله مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ اَلرِّسَالَةِ...»، إلى أنْ قال: «لِأَنَّا لَا نُرَخِّصُ فِيمَا لَمْ يُرَخِّصْ فِيهِ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَلَا نَأْمُرُ بِخِلَافِ مَا أَمَرَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)...»، إلى أنْ قال: «فَأَمَّا أَنْ نَسْتَحِلَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أَوْ نُحَرِّمَ مَا اِسْتَحَلَّ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَداً، لِأَنَّا تَابِعُونَ لِرَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، مُسَلِّمُونَ لَهُ، كَمَا كَانَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تَابِعاً لِأَمْرِ رَبِّهِ (عزَّ وجلَّ)، مُسَلِّماً لَهُ، وَقَالَ (عزَّ وجلَّ): ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧]»(١٩٣).
وقال الصادق (عليه السلام): «حَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ، وَحَرَامُهُ حَرَامٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ، لَا يَكُونُ غَيْرُهُ، وَلَا يَجِيءُ غَيْرُهُ»، وَقَالَ: «قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): مَا أَحَدٌ اِبْتَدَعَ بِدْعَةً إِلَّا تَرَكَ بِهَا سُنَّةً»(١٩٤).
وفي (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه إلى مالك الأشتر، قال: «وَاُرْدُدْ إِلَى اَلله وَرَسُولِهِ مَا يُضْلِعُكَ مِنَ اَلْخُطُوبِ، وَيَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ اَلْأُمُورِ، فَقَدْ قَالَ اَللهُ تَعَالَى لِقَوْمٍ أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: ٥٩]، فَالرَّدُّ إِلَى اَلله اَلْأَخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ، وَاَلرَّدُّ إِلَى اَلرَّسُولِ اَلْأَخْذُ بِسُنَّتِهِ اَلْجَامِعَةِ غَيْرِ اَلمُفَرِّقَةِ»(١٩٥).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٩٣) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج ٢/ ص ٢٢ و٢٣/ باب ٣٠/ ح ٤٥).
(١٩٤) الكافي (ج ١/ ص ٥٨/ باب البِدَع والرأي والمقائيس/ ح ١٩).
(١٩٥) نهج البلاغة (ص ٤٣٤/ ح ٥٣).
↑صفحة ١١٠↑
وفي (تفسير العيَّاشي) عَنْ سَدِيرٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) وَأَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام) لَا يُصَدِّقُ عَلَيْنَا إِلَّا بِمَا يُوَافِقُ كِتَابَ اَلله وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(١٩٦).
وقد تقدَّم قول الحجَّة (عجَّل الله فرجه): «وَأَمَّا اَلْحَوَادِثُ اَلْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا»(١٩٧)، وهي الأحاديث المعتبرة المأثورة عن آبائه المعصومين (عليهم السلام) وعنه (عجَّل الله فرجه) في الغيبة الصغرى.
وقد تكرَّر إرجاع الحجَّة (عجَّل الله فرجه) في التوقيعات الصادرة في الغيبة الصغرى إلى الروايات المأثورة عن آبائه (عليهم السلام) المدوَّنة في الكُتُب المشهورة بين الطائفة، ففي الكتاب(١٩٨) لمحمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري(١٩٩) إلى الحجَّة (عجَّل الله فرجه) بتوسُّط النُّوَّاب الأربعة، سأله عَنِ اَلمُصَلِّي إِذَا قَامَ مِنَ اَلتَّشَهُّدِ اَلْأَوَّلِ لِلرَّكْعَةِ اَلثَّالِثَةِ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُكَبِّرَ؟ فَإِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا قَالَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اَلتَّكْبِيرُ، وَيُجْزِيهِ أَنْ يَقُولَ: بِحَوْلِ اَلله وَقُوَّتِهِ أَقُومُ وَأَقْعُدُ.
الجواب: توقيع الحجَّة (عجَّل الله فرجه): «إِنَّ فِيهِ حَدِيثَيْنِ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ إِذَا اِنْتَقَلَ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى فَعَلَيْهِ تَكْبِيرٌ، وَأَمَّا اَلْآخَرُ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ اَلسَّجْدَةِ اَلثَّانِيَةِ فَكَبَّرَ ثُمَّ جَلَسَ ثُمَّ قَامَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ لِلْقِيَامِ بَعْدَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٩٦) تفسير العيَّاشي (ج ١/ ص ٩/ ح ٦).
(١٩٧) قد تقدَّم في (ص ٨٨)، فراجع.
(١٩٨) أي مكتوب.
(١٩٩) قال عنه النجاشي (رحمه الله) في رجاله (ص ٣٥٤ و٣٥٥/ الرقم ٩٤٩): (أبو جعفر القمِّي، كان ثقةً، وجيهاً، كاتب صاحب الأمر (عليه السلام)، وسأله مسائل في أبواب الشريعة، قال لنا أحمد بن الحسين (الغضائري ابن أُستاذه): وقعت هذه المسائل إليَّ في أصلها والتوقيعات بين السطور).
↑صفحة ١١١↑
اَلْقُعُودِ تَكْبِيرٌ، وَكَذَلِكَ اَلتَّشَهُّدُ اَلْأَوَّلُ يَجْرِي هَذَا اَلمَجْرَى، وَبِأَيِّهِمَا أَخَذْتَ مِنْ جِهَةِ اَلتَّسْلِيمِ كَانَ صَوَاباً»(٢٠٠).
فأرجع (عجَّل الله فرجه) السائل وهو محمّد بن عبد الله الحميري إلى الحديثين المرويَّين عن آبائه (عليهم السلام)، ثمّ أكَّد على السائل الأخذ بأيِّ واحدٍ منهما، والعمل به من باب التسليم والردِّ في كلِّ ما ينوبه إلى الأحاديث المنقولة عنهم (عليهم السلام).
وسأل الحميري أيضاً في ضمن المسائل التي في كتابه: وَرُوِيَ فِي ثَوَابِ اَلْقُرْآنِ فِي اَلْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا أَنَّ اَلْعَالِمَ (عليه السلام) (هو لقب للإمام الكاظم (عليه السلام))(٢٠١) قَالَ: «عَجَباً لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِي صَلَاتِهِ ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ كَيْفَ تُقْبَلُ صَلَاتُهُ؟»، وَرُوِيَ: «مَا زَكَتْ صَلَاةٌ لَمْ يُقْرَأْ فِيهَا بِـ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾»، وَرُوِيَ «أَنَّ مَنْ قَرَأَ فِي فَرَائِضِهِ اَلْهُمَزَةَ أُعْطِيَ مِنَ اَلدُّنْيَا»، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقْرَأَ اَلْهُمَزَةَ وَيَدَعَ هَذِهِ اَلسُّوَرَ اَلَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَعَ مَا قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ وَلَا تَزْكُو إِلَّا بِهِمَا؟
اَلتَّوْقِيعُ: «اَلثَّوَابُ فِي اَلسُّوَرِ عَلَى مَا قَدْ رُوِيَ، وَإِذَا تَرَكَ سُورَةً مِمَّا فِيهَا اَلثَّوَابُ وَقَرَأَ ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ وَ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾ لِفَضْلِهِمَا، أُعْطِيَ ثَوَابَ مَا قَرَأَ وَثَوَابَ اَلسُّورَةِ اَلَّتِي تَرَكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْرَأَ غَيْرَ هَاتَيْنِ اَلسُّورَتَيْنِ وَتَكُونُ صَلَاتُهُ تَامَّةً، وَلَكِنْ يَكُونُ قَدْ تَرَكَ اَلْفَضْلَ»(٢٠٢).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٠٠) الغيبة للطوسي (ص ٣٧٨ و٣٧٩/ ح ٣٤٦)، الاحتجاج (ج ٢/ ص ٣٠٤).
(٢٠١) للكاظم (عليه السلام) عدَّة ألقاب، لشدَّة التقيَّة في زمانه (عليه السلام)، فكانت الشيعة تُكنِّي عنه بالعالم والفقيه والعبد الصالح وغيرها من الألقاب خوفاً من سلطات بني العبَّاس.
(٢٠٢) الغيبة للطوسي (ص ٣٧٧/ ح ٣٤٥)، الاحتجاج (ج ٢/ ص ٣٠٢ و٣٠٣).
↑صفحة ١١٢↑
وَسَأَلَ عَنِ اَلتَّوَجُّهِ لِلصَّلَاةِ أَنْ يَقُولَ: عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَدِينِ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَإِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا ذَكَرَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: عَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ فَقَدْ أَبْدَعَ، لِأَنَّا لَمْ نَجِدْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ اَلصَّلَاةِ خَلَا حَدِيثاً فِي كِتَابِ اَلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ أَنَّ اَلصَّادِقَ (عليه السلام) قَالَ لِلْحَسَنِ (أي ابن راشد): «كَيْفَ تَتَوَجَّهُ؟»، فَقَالَ: أَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، فَقَالَ لَهُ اَلصَّادِقُ (عليه السلام): «لَيْسَ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ، كَيْفَ تَقُولُ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ حَنِيفاً مُسْلِماً؟»، قَالَ اَلْحَسَنُ: أَقُولُ، فَقَالَ اَلصَّادِقُ (عليه السلام): «إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ فَقُلْ: عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَدِينِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْهَاجِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَاَلْاِئْتِمَامِ بِآلِ مُحَمَّدٍ، حَنِيفاً مُسْلِماً، وَمَا أَنَا مِنَ اَلمُشْرِكِينَ».
فَأَجَابَ (عليه السلام): «اَلتَّوَجُّهُ كُلُّهُ لَيْسَ بِفَرِيضَةٍ، وَاَلسُّنَّةُ اَلمُؤَكَّدَةُ فِيهِ اَلَّتِي هِيَ كَالْإِجْمَاعِ اَلَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ، حَنِيفاً مُسْلِماً عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَدِينِ مُحَمَّدٍ، وَهُدَى أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ، وَمَا أَنَا مِنَ اَلمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِله رَبِّ اَلْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، وَأَنَا مِنَ اَلمُسْلِمِينَ، اَللَّهُمَّ اِجْعَلْنِي مِنَ اَلمُسْلِمِينَ، أَعُوذُ بِالله اَلسَّمِيعِ اَلْعَلِيمِ مِنَ اَلشَّيْطَانِ اَلرَّجِيمِ، بِسْمِ اَلله اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، ثُمَّ اِقْرَأِ اَلْحَمْدَ، قَالَ اَلْفَقِيهُ اَلَّذِي لَا يُشَكُّ فِي عِلْمِهِ: إِنَّ اَلدِّينَ لِمُحَمَّدٍ، وَاَلْهِدَايَةَ لِعَلِيٍّ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهَا لَهُ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَفِي عَقِبِهِ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنَ اَلمُهْتَدِينَ، وَمَنْ شَكَّ فَلَا دِينَ لَهُ، وَنَعُوذُ بِالله مِنَ اَلضَّلَالَةِ بَعْدَ اَلْهُدَى»(٢٠٣).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٠٣) الاحتجاج (ج ٢/ ص ٣٠٧ و٣٠٨).
↑صفحة ١١٣↑
وَسَأَلَ عَنْ سَجْدَةِ اَلشُّكْرِ بَعْدَ اَلْفَرِيضَةِ، فَإِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا ذَكَرَ أَنَّهَا بِدْعَةٌ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَسْجُدَهَا اَلرَّجُلُ بَعْدَ اَلْفَرِيضَةِ؟ وَإِنْ جَازَ فَفِي صَلَاةِ اَلمَغْرِبِ هِيَ بَعْدَ اَلْفَرِيضَةِ أَوْ بَعْدَ اَلْأَرْبَعِ رَكَعَاتِ اَلنَّافِلَةِ؟
فَأَجَابَ (عليه السلام): «سَجْدَةُ اَلشُّكْرِ مِنْ أَلْزَمِ اَلسُّنَنِ وَأَوْجَبِهَا، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ هَذِهِ اَلسَّجْدَةَ بِدْعَةٌ إِلَّا مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحْدِثَ بِدْعَةً فِي دِينِ اَلله. فَأَمَّا اَلْخَبَرُ اَلمَرْوِيُّ فِيهَا بَعْدَ صَلَاةِ اَلمَغْرِبِ، وَاَلْاِخْتِلَافِ فِي أَنَّهَا بَعْدَ اَلثَّلَاثِ أَوْ بَعْدَ اَلْأَرْبَعِ، فَإِنَّ فَضْلَ اَلدُّعَاءِ وَاَلتَّسْبِيحِ بَعْدَ اَلْفَرَائِضِ عَلَى اَلدُّعَاءِ بِعَقِيبِ اَلنَّوَافِلِ كَفَضْلِ اَلْفَرَائِضِ عَلَى اَلنَّوَافِلِ، وَاَلسَّجْدَةُ دُعَاءٌ وَتَسْبِيحٌ، فَالْأَفْضَلُ أَنْ تَكُونَ بَعْدَ اَلْفَرْضِ، فَإِنْ جَعَلْتَ بَعْدَ اَلنَّوَافِلِ أَيْضاً جَازَ»(٢٠٤).
وَكَتَبَ إِلَيْهِ (صَلَوَاتُ اَلله عَلَيْهِ) أَيْضاً فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ كِتَاباً سَأَلَهُ فِيهِ عَنْ مَسَائِلَ أُخْرَى، كَتَبَ: بِسْمِ اَلله اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، أَطَالَ اَللهُ بَقَاكَ، وَأَدَامَ عِزَّكَ وَكَرَامَتَكَ وَسَعَادَتَكَ وَسَلَامَتَكَ، وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ، وَزَادَ فِي إِحْسَانِهِ إِلَيْكَ، وَجَمِيلِ مَوَاهِبِهِ لَدَيْكَ، وَفَضْلِهِ عَلَيْكَ، وَجَزِيلِ قَسْمِهِ لَكَ، وَجَعَلَنِي مِنَ اَلسُّوءِ كُلِّهِ فِدَاكَ، وَقَدَّمَنِي قِبَلَكَ. إِنَّ قِبَلَنَا مَشَايِخَ وَعَجَائِزَ يَصُومُونَ رَجَباً مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَكْثَرَ، وَيَصِلُونَ بِشَعْبَانَ وَشَهْرِ رَمَضَانَ، وَرَوَى لَهُمْ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: أَنَّ صَوْمَهُ مَعْصِيَةٌ.
فَأَجَابَ (عليه السلام): «قَالَ اَلْفَقِيهُ: يَصُومُ مِنْهُ أَيَّاماً إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً إِلَّا أَنْ يَصُومَهُ عَنِ اَلثَّلَاثَةِ اَلْأَيَّامِ اَلْفَائِتَةِ، لِلْحَدِيثِ: إِنَّ نِعْمَ اَلْقَضَاءُ رَجَبٌ»(٢٠٥).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٠٤) الاحتجاج (ج ٢/ ص ٣٠٨).
(٢٠٥) الاحتجاج (ج ٢/ ص ٣٠٩ و٣١٠).
↑صفحة ١١٤↑
وَسَأَلَ عَنِ اَلرَّكْعَتَيْنِ اَلْأُخْرَاوَيْنِ قَدْ كَثُرَتْ فِيهِمَا اَلرِّوَايَاتُ، فَبَعْضٌ يَرْوِي أَنَّ قِرَاءَةَ اَلْحَمْدِ وَحْدَهَا أَفْضَلُ، وَبَعْضٌ يَرْوِي أَنَّ اَلتَّسْبِيحَ فِيهِمَا أَفْضَلُ، فَالْفَضْلُ لِأَيِّهِمَا لِنَسْتَعْمِلَهُ؟
فَأَجَابَ: «قَدْ نَسَخَتْ قِرَاءَةُ أُمِّ اَلْكِتَابِ فِي هَاتَيْنِ اَلرَّكْعَتَيْنِ اَلتَّسْبِيحَ، وَاَلَّذِي نَسَخَ اَلتَّسْبِيحَ قَوْلُ اَلْعَالِمِ (عليه السلام): كُلُّ صَلَاةٍ لَا قِرَاءَةَ فِيهَا فَهِيَ خِدَاجٌ إِلَّا لِلْعَلِيلِ، أَوْ [مَنْ] يَكْثُرُ عَلَيْهِ اَلسَّهْوُ فَيَتَخَوَّفُ بُطْلَانَ اَلصَّلَاةِ عَلَيْهِ»(٢٠٦).
وَسَأَلَ عَنِ اَلرَّجُلِ يَعْرِضُ لَهُ اَلْحَاجَةُ مِمَّا لَا يَدْرِي أَنْ يَفْعَلَهَا أَمْ لَا، فَيَأْخُذُ خَاتَمَيْنِ فَيَكْتُبُ فِي أَحَدِهِمَا: نَعَمِ اِفْعَلْ، وَفِي اَلْآخَرِ: لَا تَفْعَلْ، فَيَسْتَخِيرُ اَللهَ مِرَاراً، ثُمَّ يَرَى فِيهِمَا، فَيُخْرِجُ أَحَدَهُمَا، فَيَعْمَلُ بِمَا يَخْرُجُ، فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَاَلْعَامِلُ بِهِ وَاَلتَّارِكُ لَهُ أَهُوَ مِثْلُ اَلْاِسْتِخَارَةِ أَمْ هُوَ سِوَى ذَلِكَ؟
فَأَجَابَ: «اَلَّذِي سَنَّهُ اَلْعَالِمُ(٢٠٧) (عليه السلام) فِي هَذِهِ اَلْاِسْتِخَارَةُ بِالرِّقَاعِ وَاَلصَّلَاةِ»(٢٠٨).
وَسَأَلَ عَنِ اَلرَّجُلِ يَنْوِي إِخْرَاجَ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، وَأَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِهِ، ثُمَّ يَجِدُ فِي أَقْرِبَائِهِ مُحْتَاجاً، أَيَصْرِفُ ذَلِكَ عَمَّنْ نَوَاهُ لَهُ إِلَى قَرَابَتِهِ؟
فَأَجَابَ: «يَصْرِفُهُ إِلَى أَدْنَاهُمَا وَأَقْرَبِهِمَا مِنْ مَذْهَبِهِ، فَإِنْ ذَهَبَ إِلَى قَوْلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٠٦) الاحتجاج (ج ٢/ ص ٣١٣).
(٢٠٧) قد ذكر المجلسي الأوَّل (رحمه الله) في روضة المتَّقين (ج ١٤/ ص ٥٠٢) أنَّ لقب العالم هو لكلِّ المعصومين (عليهم السلام) لا خصوص الكاظم (عليه السلام)، وأنَّ هذا التخصيص اشتباه من بعض المتأخِّرين، فتأمَّل.
(٢٠٨) الاحتجاج (ج ٢/ ص ٣١٤).
↑صفحة ١١٥↑
اَلْعَالِمِ (عليه السلام): لَا يَقْبَلُ اَللهُ اَلصَّدَقَةَ وَذُو رَحِمٍ مُحْتَاجٌ، فَلْيَقْسِمْ بَيْنَ اَلْقَرَابَةِ وَبَيْنَ اَلَّذِي نَوَى حَتَّى يَكُونَ قَدْ أَخَذَ بِالْفَضْلِ كُلِّهِ»(٢٠٩).
أقول: فكلُّ هذا الإرجاع من الحجَّة (عجَّل الله فرجه) لأحاديث آبائه المعصومين (عليهم السلام) مع أنَّه معصوم أيضاً، وقوله كقولهم حجَّة على العباد، ليس إلَّا لتعليم الشيعة على الرجوع إلى الأحاديث المأثورة عن آبائه (عليهم السلام) في الغيبة الكبرى.
والأئمَّة الاثنا عشر (عليهم السلام) كلُّهم نور واحد ومشكاة واحدة، قال هشام ابن سالم (وهو من أجلَّاء أصحاب الصادق (عليه السلام))، وكذلك قال حمَّاد بن عثمان وغيره، قالوا: سمعنا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «حَدِيثِي حَدِيثُ أَبِي، وَحَدِيثُ أَبِي حَدِيثُ جَدِّي، وَحَدِيثُ جَدِّي حَدِيثُ اَلْحُسَيْنِ، وَحَدِيثُ اَلْحُسَيْنِ حَدِيثُ اَلْحَسَنِ، وَحَدِيثُ اَلْحَسَنِ حَدِيثُ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، وَحَدِيثُ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ حَدِيثُ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَحَدِيثُ رَسُولِ اَلله قَوْلُ اَلله (عزَّ وجلَّ)(٢١٠)»(٢١١).
وقال جابر الجعفي (وهو من حواري الباقر (عليه السلام)): قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ اَلْبَاقِرِ (عليه السلام): إِذَا حَدَّثْتَنِي بِحَدِيثٍ فَأَسْنِدْهُ لِي، فَقَالَ: «حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، عَنْ جَبْرَئِيلَ (عليه السلام)، عَنِ اَلله (عزَّ وجلَّ)، وَ كُلُّ مَا أُحَدِّثُكَ بِهَذَا اَلْإِسْنَادِ»، وَقَالَ: «يَا جَابِرُ، لَحَدِيثٌ وَاحِدٌ تَأْخُذُهُ عَنْ صَادِقٍ(٢١٢)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٠٩) المصدر السابق.
(٢١٠) كما قال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم: ٣ و٤)، ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ (الأنعام: ٥٠).
(٢١١) الكافي (ج ١/ ص ٥٣/ باب رواية الكُتُب والحديث.../ ح ١٤).
(٢١٢) إشارة إلى المعصوم (عليه السلام)، كما قال تعالى: ﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ (التوبة: ١١٩)، أي المعصومين (عليهم السلام).
↑صفحة ١١٦↑
خَيْرٌ لَكَ مِنَ اَلدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»(٢١٣).
وروى الكليني (رحمه الله) عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: «لَيْسَ يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْ عِنْدِ اَلله (عزَّ وجلَّ) حَتَّى يَبْدَأَ بِرَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثُمَّ بِأَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، ثُمَّ بِوَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ، لِكَيْلَا يَكُونَ آخِرُنَا أَعْلَمَ مِنْ أَوَّلِنَا»(٢١٤).
وروى الكليني (رحمه الله) عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ، قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (الباقر) (عليه السلام) وَهُوَ بِالمَدِينَةِ، فَقُلْتُ لَهُ: عَلَيَّ نَذْرٌ بَيْنَ اَلرُّكْنِ وَاَلمَقَامِ إِنْ أَنَا لَقِيتُكَ أَنْ لَا أَخْرُجَ مِنَ اَلمَدِينَةِ حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّكَ قَائِمُ آلِ مُحَمَّدٍ أَمْ لَا، فَلَمْ يُجِبْنِي بِشَيْءٍ، فَأَقَمْتُ ثَلَاثِينَ يَوْماً، ثُمَّ اِسْتَقْبَلَنِي فِي طَرِيقٍ، فَقَالَ: «يَا حَكَمُ، وَإِنَّكَ لَهَاهُنَا بَعْدُ؟»، فَقُلْتُ: نَعَمْ، إِنِّي أَخْبَرْتُكَ بِمَا جَعَلْتُ لِله عَلَيَّ، فَلَمْ تَأْمُرْنِي وَلَمْ تَنْهَنِي عَنْ شَيْءٍ وَلَمْ تُجِبْنِي بِشَيْءٍ، فَقَالَ: «بَكِّرْ عَلَيَّ غُدْوَةً اَلمَنْزِلَ»، فَغَدَوْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ (عليه السلام): «سَلْ عَنْ حَاجَتِكَ»، فَقُلْتُ: إِنِّي جَعَلْتُ لِله عَلَيَّ نَذْراً وَصِيَاماً وَصَدَقَةً بَيْنَ اَلرُّكْنِ وَاَلمَقَامِ إِنْ أَنَا لَقِيتُكَ أَنْ لَا أَخْرُجَ مِنَ اَلمَدِينَةِ حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّكَ قَائِمُ آلِ مُحَمَّدٍ أَمْ لَا، فَإِنْ كُنْتَ أَنْتَ رَابَطْتُكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَنْتَ سِرْتُ فِي اَلْأَرْضِ فَطَلَبْتُ اَلمَعَاشَ، فَقَالَ: «يَا حَكَمُ، كُلُّنَا قَائِمٌ بِأَمْرِ اَلله»، قُلْتُ: فَأَنْتَ اَلمَهْدِيُّ؟ قَالَ: «كُلُّنَا نَهْدِي إِلَى اَلله»، قُلْتُ: فَأَنْتَ صَاحِبُ اَلسَّيْفِ؟ قَالَ: «كُلُّنَا صَاحِبُ اَلسَّيْفِ، وَوَارِثُ اَلسَّيْفِ»، قُلْتُ: فَأَنْتَ اَلَّذِي تَقْتُلُ أَعْدَاءَ اَلله، وَيَعِزُّ بِكَ أَوْلِيَاءُ اَلله، وَيَظْهَرُ بِكَ دِينُ اَلله؟ فَقَالَ: «يَا حَكَمُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢١٣) أمالي المفيد (ص ٤٢/ المجلس ٥/ ح ١٠).
(٢١٤) الكافي (ج ١/ ص ٢٥٥/ باب لولا أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) يزدادون لنفد ما عندهم/ ح ٤)؛ ورواه بتفاوت يسير الصفَّار (رحمه الله) في بصائر الدرجات (ص ٤١٢/ ج ٨/ باب ٩/ ح ٢).
↑صفحة ١١٧↑
كَيْفَ أَكُونُ أَنَا وَقَدْ بَلَغْتُ خَمْساً وَأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ وَإِنَّ صَاحِبَ هَذَا اَلْأَمْرِ أَقْرَبُ عَهْداً بِاللَّبَنِ مِنِّي، وَأَخَفُّ عَلَى ظَهْرِ اَلدَّابَّةِ»(٢١٥).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢١٥) الكافي (ج ١/ ص ٥٣٦/ باب أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) كلَّهم قائمون بأمر الله تعالى هادون إليه/ ح ١)، الهداية الكبرى (ص ٢٤٢ و٢٤٣)، إثبات الوصيَّة (ص ١٧٨).
↑صفحة ١١٨↑
الأمر الخامس: الرؤيا ليست مصدراً للتشريع:
إنَّ الرؤيا بعنوان الوحي النبوي ليست مصدراً للتشريع إلَّا للأنبياء والرُّسُل (عليهم السلام) خاصَّة، قال تعالى: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ (الصافَّات: ١٠٢).
وروى السيِّد البحراني (رحمه الله) في (تفسيره)، عن الصدوق (رحمه الله) بسنده عَنْ عَلِيِّ بْنِ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا اَلْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُوسَى اَلرِّضَا (عليه السلام) عَنْ مَعْنَى قَوْلِ اَلنَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أَنَا اِبْنُ اَلذَّبِيحَيْنِ»، قَالَ: «يَعْنِي إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ اَلْخَلِيلِ (عليه السلام)، وَعَبْدَ اَلله بْنَ عَبْدِ اَلمُطَّلِبِ. أَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَهُوَ اَلْغُلَامُ اَلْحَلِيمُ اَلَّذِي بَشَّرَ اَللهُ تَعَالَى بِهِ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام)، ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَا ذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ [الصافَّات: ١٠٢]، وَ لَمْ يَقُلْ لَهُ: يَا أَبَتِ، اِفْعَلْ مَا رَأَيْتَ...» الحديث(٢١٦).
وبهذا المضمون عدَّة روايات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢١٦) تفسير البرهان (ج ٤/ ص ٦١٩/ ح ٩٠١٦/٨)، عن الخصال (ص ٥٥ و٥٦/ ح ٧٨). ورواه بتفاوت يسير الصدوق (رحمه الله) في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج ١/ ص ١٨٩/ باب ١٨/ ح ١).
↑صفحة ١١٩↑
وقال تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً﴾ (المدَّثِّر: ٥٢)، أي يريد كلُّ واحدٍ من هؤلاء الذين لم يؤمنوا أنْ يكون رسولاً يُوحى إليه، أو لعلَّه تفسير لقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَها تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً﴾ (الإسراء: ٩٠ - ٩٣).
وروى الكليني (رحمه الله) بسنده عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا﴾ [مريم: ٥١]، مَا الرَّسُولُ وَمَا اَلنَّبِيُّ؟ قَالَ: «اَلنَّبِيُّ اَلَّذِي يَرَى فِي مَنَامِه وَيَسْمَعُ اَلصَّوْتَ وَلَا يُعَايِنُ اَلمَلَكَ، وَاَلرَّسُولُ اَلَّذِي يَسْمَعُ اَلصَّوْتَ وَيَرَى فِي اَلمَنَامِ وَيُعَايِنُ اَلمَلَكَ»، قُلْتُ: اَلْإِمَامُ مَا مَنْزِلَتُهُ؟ قَالَ: يَسْمَعُ اَلصَّوْتَ وَلَا يَرَى وَلَا يُعَايِنُ اَلمَلَكَ»، ثُمَّ تَلَا هَذِه اَلْآيَةَ: «﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ﴾ [الحجّ: ٥٢]، وَلَا مُحَدَّثٍ»(٢١٧).
وروى (رحمه الله) أيضاً بسنده عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مَرَّارٍ، قَالَ: كَتَبَ اَلْحَسَنُ بْنُ اَلْعَبَّاسِ اَلمَعْرُوفِيُّ إِلَى اَلرِّضَا (عليه السلام): جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَخْبِرْنِي مَا اَلْفَرْقُ بَيْنَ اَلرَّسُولِ وَاَلنَّبِيِّ وَاَلْإِمَامِ؟ قَالَ: فَكَتَبَ أَوْ قَالَ: «اَلْفَرْقُ بَيْنَ اَلرَّسُولِ وَاَلنَّبِيِّ وَاَلْإِمَامِ أَنَّ اَلرَّسُولَ الَّذِي يُنْزَلُ عَلَيْه جَبْرَئِيلُ فَيَرَاهُ وَيَسْمَعُ كَلَامَهُ وَيُنْزَلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢١٧) الكافي (ج ١/ ص ١٧٦/ باب الفرق بين الرسول والنبيِّ والمحدَّث/ ح ١).
↑صفحة ١٢٠↑
عَلَيْه اَلْوَحْيُ وَرُبَّمَا رَأَى فِي مَنَامِهِ نَحْوَ رُؤْيَا إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام)، وَاَلنَّبِيُّ رُبَّمَا سَمِعَ اَلْكَلَامَ وَرُبَّمَا رَأَى اَلشَّخْصَ وَلَمْ يَسْمَعْ، وَاَلْإِمَامُ هُوَ اَلَّذِي يَسْمَعُ اَلْكَلَامَ وَلَا يَرَى اَلشَّخْصَ»(٢١٨).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢١٨) الكافي (ج ١/ ص ١٧٦/ باب الفرق بين الرسول والنبيِّ والمحدَّث/ ح ٢)؛ ورواه بتفاوت الصفَّار (رحمه الله) في بصائر الدرجات (ص ٣٨٩/ ج ٨/ باب ١/ ح ٤).
وقد ورد تحديث الملائكة أولياء الله والمعصومين في القرآن في موارد:
قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (آل عمران: ٤٢ - ٤٧).
وقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ﴾ (مريم: ١٦ - ١٩).
وقال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (القَصَص: ٧)، ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (القَصَص: ١٣).
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾ (هود: ٦٩ - ٧٣).
فهذه مريم وأُمُّ موسى (عليه السلام) وسارة زوجة إبراهيم (عليه السلام) حُدِّثن من قِبَل الملائكة.
↑صفحة ١٢١↑
وبهذا المضمون عدَّة روايات أُخرى.
وروى المجلسي (رحمه الله) عن أمالي الشيخ الطوسي بسنده عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «رُؤْيَا اَلْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ»(٢١٩).
وروى الكليني (رحمه الله) بسنده عَنِ ابْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: قَالَ: «مَا تَرْوِي هَذِه النَّاصِبَةُ؟»، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فِي مَا ذَا؟ فَقَالَ: «فِي أَذَانِهِمْ وَرُكُوعِهِمْ وَسُجُودِهِمْ»، فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَآهُ فِي اَلنَّوْمِ، فَقَالَ: «كَذَبُوا، فَإِنَّ دِينَ اَلله (عزَّ وجلَّ) أَعَزُّ مِنْ أَنْ يُرَى فِي اَلنَّوْمِ»، قَالَ: فَقَالَ لَهُ سَدِيرٌ اَلصَّيْرَفِيُّ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَأَحْدِثْ لَنَا مِنْ ذَلِكَ ذِكْراً، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام): «إِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) لَـمَّا عَرَجَ بِنَبِيِّهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إِلَى سَمَاوَاتِهِ اَلسَّبْعِ...» الحديث، ثمّ ذكر (عليه السلام) تفصيل ذلك(٢٢٠).
وقال العلَّامة المجلسي (رحمه الله): (قد ورد بأسانيد صحيحة عن الصادق (عليه السلام) في حديث الأذان أنَّ «دِينَ اَلله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعَزُّ مِنْ أَنْ يُرَى فِي اَلنَّوْمِ»)، وقال: (المراد أنَّه لا يثبت أصل شرعيَّة الأحكام بالنوم، بل إنَّما هي بالوحي الجلي)(٢٢١).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢١٩) بحار الأنوار (ج ١١/ ص ٦٤/ ح ٤)، عن أمالي الطوسي (ص ٣٣٨/ ح ٦٨٩/٢٩).
(٢٢٠) الكافي (ج ٣/ ص ٤٨٢ - ٤٨٦/ باب النوادر/ ح ١).
(٢٢١) بحار الأنوار (ج ٥٨/ ص ٢٣٧).
↑صفحة ١٢٢↑
وقد اتَّضح أنَّ المقصود من أنَّ الرؤيا ليست مصدراً للشريعة إلَّا للأنبياء (عليهم السلام) خاصَّة أنَّ الرؤيا المشتملة على الأمر والنهي هي أحد أقسام الوحي الإلهي للأنبياء (عليهم السلام)، ومن المعلوم أنَّه مخصوص بمن يُنبَّئ من الله (عزَّ وجلَّ).
أمَّا الرؤيا الصادقة المشتملة على حكاية وقائع مستقبليَّة، أي التي يكون مضمونها الإخبار - بخلاف الرؤيا الأُولى التي يكون مضمونها الإنشاء التشريعي الإلهي -، فهذه أيضاً تحصل للأنبياء والرُّسُل (عليهم السلام)، وهي تكون صادقة دائماً لديهم.
قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ...﴾ الآية (يوسف: ٤ و٥)، وهذه التي فيها التأويل والتعبير.
قال تعالى على لسان يعقوب (عليه السلام) مخاطباً يوسف (عليه السلام): ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ (يوسف: ٦).
وقال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ﴾ (الإسراء: ٦٠).
وقال تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ﴾ (الفتح: ٢٧).
حيث رأى النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذلك عام الحديبيَّة، وهي سنة الستّ من الهجرة، وصدقت العام الذي بعده.
هذا، وقد بحث علماء الكلام (وهو العلم الباحث عن أُصول العقائد) عن طريق معرفة النبيِّ أنَّه مبعوث، واطمئنانه بذلك، وعن كيفيَّة
↑صفحة ١٢٣↑
العصمة في الوحي وتلقِّيه، ومجمل الأدلَّة العقليَّة في ذلك هي بعينها الأدلَّة الدالَّة على ضرورة بعث الله (عزَّ وجلَّ) الرُّسُل والأنبياء (عليهم السلام) لهداية عباده، فهي على ضرورة تأييد الأنبياء (عليهم السلام) وحفظهم وعصمتهم، وفي (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «وَلَقَدْ قَرَنَ اَللهُ بِهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ اَلمَكَارِمِ وَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ اَلْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ»(٢٢٢).
واستفاضت الروايات بأنَّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يزل مؤيَّداً بروح القُدُس، يُكلِّمه، ويسمع صوته، ويرى الرؤيا الصادقة حتَّى بعثه الله نبيًّا ورسولاً.
وقد سأل أصحاب الأئمَّة (عليهم السلام) عن ذلك، فَعَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام): كَيْفَ لَمْ يَخَفْ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فِيمَا يَأْتِيهِ مِنْ قِبَلِ اَلله أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا يَنْزِغُ بِهِ اَلشَّيْطَانُ؟ قَالَ: فَقَالَ: «إِنَّ اَللهَ إِذَا اِتَّخَذَ عَبْداً رَسُولاً أَنْزَلَ عَلَيْهِ اَلسَّكِينَةَ وَاَلْوَقَارَ، فَكَانَ [اَلَّذِي] يَأْتِيهِ مِنْ قِبَلِ اَلله مِثْلُ اَلَّذِي يَرَاهُ بِعَيْنِهِ»(٢٢٣).
وروى الكليني (رحمه الله) بسنده عن بُريد أنَّه سأل أبا جعفر الباقر وأبا عبد الله الصادق (عليهما السلام)، قَالَ: فَمَا الرَّسُولُ وَاَلنَّبِيُّ وَاَلمُحَدَّثُ؟ قَالَ: «اَلرَّسُولُ اَلَّذِي يَظْهَرُ لَه اَلمَلَكُ فَيُكَلِّمُهُ، وَاَلنَّبِيُّ هُوَ اَلَّذِي يَرَى فِي مَنَامِهِ، وَرُبَّمَا اِجْتَمَعَتِ اَلنُّبُوَّةُ وَاَلرِّسَالَةُ لِوَاحِدٍ، وَاَلمُحَدَّثُ اَلَّذِي يَسْمَعُ اَلصَّوْتَ وَلَا يَرَى اَلصُّورَةَ»، قَالَ: قُلْتُ: أَصْلَحَكَ اَللهُ، كَيْفَ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي رَأَى فِي اَلنَّوْمِ حَقٌّ، وَأَنَّهُ مِنَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٢٢) نهج البلاغة (ص ٣٠٠/ الخطبة ١٩٢ المسمَّاة بالقاصعة).
(٢٢٣) تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٢٠١/ ح ١٠٦).
↑صفحة ١٢٤↑
اَلمَلَكِ؟ قَالَ: «يُوَفَّقُ لِذَلِكَ حَتَّى يَعْرِفَهُ، لَقَدْ خَتَمَ اَللهُ بِكِتَابِكُمُ اَلْكُتُبَ، وَخَتَمَ بِنَبِيِّكُمُ اَلْأَنْبِيَاءَ»(٢٢٤).
وروي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «مَا عَلِمَ رَسُولُ اَلله أَنَّ جَبْرَئِيلَ مِنْ عِنْدِ اَلله إِلَّا بِالتَّوْفِيقِ»(٢٢٥).
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ (الإسراء: ١٠٥)، فالوحي إنزال حقٍّ ومعصوم، وفي تلقِّي الرسول إيَّاه حقٌّ ومعصوم، وقال (عزَّ من قائل): ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ (الشعراء: ٢١٠ و٢١١).
إذا تنبَّهت إلى مجمل ما سبق يتَّضح لك أنَّ غير المعصوم من سائر الناس ليس له أيُّ حظٍّ من الرؤيا من النحو الأوَّل، وهي ما يكون فيها إنشاء أيِّ أوامر ونواهي إلهيَّة ونحوها من الأحكام الشرعيَّة، وإنْ توهَّم ذلك متوهِّم فليستيقن بأنَّ ذلك من الشياطين، وقد أشار القرآن الكريم إلى عدَّة من أفعال الشياطين.
فمنها: الهمز، كما في قوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ﴾ (المؤمنون: ٩٧).
ومنها: النزول على الأفَّاك، أي الكذَّاب المفتري الآثم، كما في قوله تعالى: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ (الشعراء: ٢٢١ و٢٢٢).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٢٤) الكافي (ج ١/ ص ١٧٧/ باب الفرق بين الرسول والنبيِّ والمحدَّث/ ح ٤)؛ ورواه بتفاوت يسير الصفَّار (رحمه الله) في بصائر الدرجات (ص ٣٩١/ ج ٨/ باب ١/ ح ١١).
(٢٢٥) تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٢٠١/ ح ١٠٥)، التوحيد للصدوق (ص ٢٤٢/ باب ٣٥/ ح ٢).
↑صفحة ١٢٥↑
ومنها: الاستهواء، كما في قوله تعالى: ﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرضِ حَيْرَانَ﴾ (الأنعام: ٧١).
ومنها: النزغ، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ﴾ (الأعراف: ٢٠٠).
ومنها: المسُّ، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا﴾ (الأعراف: ٢٠١).
ومنها: الأزُّ، كما في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ (مريم: ٨٣).
ومنها: الإلقاء، كما في قوله تعالى: ﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ (الحجّ: ٥٣).
ومنها: الإيحاء، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ (الأنعام: ١٢١).
وغير ذلك من الآيات.
وعن الباقر (عليه السلام)، قال: «لَمَا تَرَوْنَ مَنْ بَعَثَهُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) لِلشَّقَاءِ عَلَى أَهْلِ اَلضَّلَالَةِ مِنْ أَجْنَادِ اَلشَّيَاطِينِ وَأَزْوَاجِهِمْ أَكْثَرُ مِمَّا تَرَوْنَ خَلِيفَةَ اَلله اَلَّذِي بَعَثَهُ لِلْعَدْلِ وَاَلصَّوَابِ مِنَ اَلمَلَائِكَةِ»، قِيلَ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، وَكَيْفَ يَكُونُ شَيْءٌ أَكْثَرَ مِنَ اَلمَلَائِكَةِ؟ قَالَ: «كَمَا شَاءَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ)»، قَالَ اَلسَّائِلُ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، إِنِّي لَوْ حَدَّثْتُ بَعْضَ اَلشِّيعَةِ بِهَذَا اَلْحَدِيثِ لَأَنْكَرُوهُ، قَالَ: «كَيْفَ يُنْكِرُونَهُ؟»، قَالَ: يَقُولُونَ: إِنَّ اَلمَلَائِكَةَ (عليهم السلام) أَكْثَرُ مِنَ اَلشَّيَاطِينِ، قَالَ: «صَدَقْتَ، اِفْهَمْ عَنِّي مَا أَقُولُ، إِنَّه لَيْسَ مِنْ يَوْمٍ وَلَا لَيْلَةٍ إِلَّا وَجَمِيعُ اَلْجِنِّ وَاَلشَّيَاطِينِ تَزُورُ أَئِمَّةَ
↑صفحة ١٢٦↑
اَلضَّلَالَةِ، وَيَزُورُ إِمَامَ اَلْهُدَى عَدَدُهُمْ مِنَ اَلمَلَائِكَةِ حَتَّى إِذَا أَتَتْ لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ فَيَهْبِطُ فِيهَا مِنَ اَلمَلَائِكَةِ إِلَى وَلِيِّ اَلْأَمْرِ خَلَقَ اَللهُ - أَوْ قَالَ: قَيَّضَ اَللهُ - (عزَّ وجلَّ) مِنَ اَلشَّيَاطِينِ بِعَدَدِهِمْ، ثُمَّ زَارُوا وَلِيَّ اَلضَّلَالَةِ، فَأَتَوْه بِالْإِفْكِ وَاَلْكَذِبِ حَتَّى لَعَلَّه يُصْبِحُ فَيَقُولُ: رَأَيْتُ كَذَا وَكَذَا، فَلَوْ سَأَلَ وَلِيَّ اَلْأَمْرِ عَنْ ذَلِكَ لَقَالَ: رَأَيْتَ شَيْطَاناً أَخْبَرَكَ بِكَذَا وَكَذَا حَتَّى يُفَسِّرَ لَهُ تَفْسِيراً، وَيُعْلِمَهُ اَلضَّلَالَةَ اَلَّتِي هُوَ عَلَيْهَا»(٢٢٦).
والهمز كالعصر، والنزغ الجذب للشيء من مقرِّه، والمسُّ كاللمس، والأزُّ كالهزِّ، وهذه الأفعال توردها الشياطين في القلوب بتوسُّط الخواطر والواردات والميول والتجاذب النفسي.
وعن كتاب (أمالي الصدوق) بسنده عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنَّ لِإِبْلِيسَ شَيْطَاناً يُقَالُ لَهُ: هُزَعُ، يَمْلَأُ مَا بَيْنَ اَلمَشْرِقِ وَاَلمَغْرِبِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ يَأْتِي اَلنَّاسَ فِي اَلمَنَامِ»(٢٢٧).
نعم، الرؤيا من القسم الثاني، وهي المتضمِّنة للأخبار والحكاية عن الوقائع المستقبليَّة، فلغير المعصوم حظٌّ يسير منها بحسب تقواه وصدق حديثه ولسانه وصفاء قلبه، فعن الصدوق (رحمه الله) بسنده عن الكاظم، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «اَلرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ: بُشْرَى مِنَ اَلله، وَتَحْزِينٌ مِنَ اَلشَّيْطَانِ، وَاَلَّذِي يُحَدِّثُ بِهِ اَلْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فَيَرَاهُ فِي مَنَامِهِ»، وَقَالَ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «اَلرُّؤْيَا مِنَ اَلله، وَاَلْحُلُمُ مِنَ اَلشَّيْطَانِ»(٢٢٨).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٢٦) الكافي (ج ١/ ص ٢٥٢ و٢٥٣/ باب في شأن إنَّا أنزلناه في ليلة القدر وتفسيرها/ ح ٩).
(٢٢٧) أمالي الصدوق (ص ٢١٠/ ح ٢٣٤/١٨).
(٢٢٨) بحار الأنوار (ج ٥٨/ص ١٩١/ح ٥٨)، عن كتاب التبصرة لعليِّ بن بابويه.
↑صفحة ١٢٧↑
ولا تخفى دلالة الرواية على أنَّ الرؤيا الصادقة التي هي نصيب غير المعصوم هي ما تكون بشرى، أي حاكية ومخبرة، أي من القسم الثاني لا الأوَّل، وهي المتضمِّنة للإنشاء والتشريع.
ومثل ذلك مفاد الرواية عن الباقر (عليه السلام)، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قَالَ: أَتَى رَسُولَ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اَلْبَادِيَةِ لَهُ حَشَمٌ وَجِمَالٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَلله، أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ [يونس: ٦٣ و٦٤]، فَقَالَ: «أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، فَهِيَ اَلرُّؤْيَا اَلْحَسَنَةُ يَرَاهَا اَلمُؤْمِنُ فَيُبَشَّرُ بِهَا فِي دُنْيَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَفِي الْآخِرَةِ﴾، فَإِنَّهَا بِشَارَةُ اَلْمُؤْمِنِ عِنْدَ اَلمَوْتِ يُبَشَّرُ بِهَا عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّ اَللهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ وَلِمَنْ يَحْمِلُكَ إِلَى قَبْرِكَ»(٢٢٩).
وروى الكليني (رحمه الله) بسنده عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي اَلْحَسَنِ (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ اَلْأَحْلَامَ لَمْ تَكُنْ فِيمَا مَضَى فِي أَوَّلِ اَلْخَلْقِ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ»، فَقُلْتُ: وَمَا اَلْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: «إِنَّ اَللهَ (عَزَّ ذِكْرُهُ) بَعَثَ رَسُولاً إِلَى أَهْلِ زَمَانِهِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اَلله وَطَاعَتِهِ، فَقَالُوا: إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَا لَنَا؟ فَوَاَلله مَا أَنْتَ بِأَكْثَرِنَا مَالاً، وَلَا بِأَعَزِّنَا عَشِيرَةً، فَقَالَ: إِنْ أَطَعْتُمُونِي أَدْخَلَكُمُ اَللهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ عَصَيْتُمُونِي أَدْخَلَكُمُ اَللهُ اَلنَّارَ، فَقَالُوا: وَمَا اَلْجَنَّةُ وَاَلنَّارُ؟ فَوَصَفَ لَهُمْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: مَتَى نَصِيرُ إِلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إِذَا مِتُّمْ، فَقَالُوا: لَقَدْ رَأَيْنَا أَمْوَاتَنَا صَارُوا عِظَاماً وَرُفَاتاً، فَازْدَادُوا لَهُ تَكْذِيباً وَبِهِ اِسْتِخْفَافاً،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٢٩) من لا يحضره الفقيه (ج ١/ ص ١٣٣ و١٣٤/ ح ٣٥٣).
↑صفحة ١٢٨↑
فَأَحْدَثَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) فِيهِمُ اَلْأَحْلَامَ، فَأَتَوْهُ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا رَأَوْا وَمَا أَنْكَرُوا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) أَرَادَ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَيْكُمْ بِهَذَا، هَكَذَا تَكُونُ أَرْوَاحُكُمْ إِذَا مِتُّمْ، وَإِنْ بُلِيَتْ أَبْدَانُكُمْ تَصِيرُ اَلْأَرْوَاحُ إِلَى عِقَابٍ حَتَّى تُبْعَثَ اَلْأَبْدَانُ»(٢٣٠).
وإذا عرفت أنَّ الرؤيا التي هي من نحو الإخبار على ثلاثة أقسام: صادقة، وكاذبة، وتخيُّلات، يتَّضح لك عدم دوام الصدق فيها، ففي كتاب (التوحيد) للمفضَّل بن عمر الجعفي، قال له الإمام الصادق (عليه السلام): «فَكِّرْ يَا مُفَضَّلُ فِي اَلْأَحْلَامِ كَيْفَ دَبَّرَ اَلْأَمْرَ فِيهَا، فَمَزَجَ صَادِقَهَا بِكَاذِبِهَا، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ كُلُّهَا تَصْدُقُ لَكَانَ اَلنَّاسُ كُلُّهُمْ أَنْبِيَاءَ، وَلَوْ كَانَتْ كُلُّهَا تَكْذِبُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَنْفَعَةٌ، بَلْ كَانَتْ فَضْلاً لَا مَعْنَى لَهُ، فَصَارَتْ تَصْدُقُ أَحْيَاناً فَيَنْتَفِعُ بِهَا اَلنَّاسُ فِي مَصْلَحَةٍ يَهْتَدِي لَهَا أَوْ مَضَرَّةٍ يَتَحَذَّرُ مِنْهَا، وَتَكْذِبُ كَثِيراً لِئَلَّا يَعْتَمِدَ عَلَيْهَا كُلَّ اَلْاِعْتِمَادِ»(٢٣١).
وعن كتاب (بصائر الدرجات) في قصَّة الحسن بن عبد الله الرافقي (الواقفي) الزاهد العابد، حيث كان يلقاه السلطان فيستقبله بالكلام الصعب يعظه ويأمره بالمعروف، وكان يحتمله لصلاحه، فلم يزل حاله حتَّى اهتدى للمعرفة على يد الإمام الكاظم (عليه السلام) في لقاءات متعدِّدة، وكان يرى الرؤيا الحسنة وتُرى له، ثمّ انقطعت عنه الرؤيا، فرأى ليلة أبا عبد الله (عليه السلام) فيما يرى النائم، فشكى إليه انقطاع الرؤيا، فقال: «لَا تَغْتَمَّ فَإِنَّ اَلمُؤْمِنَ إِذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٣٠) الكافي (ج ٨/ ص ٩٠/ ح ٥٧).
(٢٣١) التوحيد للمفضَّل (ص ٤٣ و٤٤).
↑صفحة ١٢٩↑
رَسَخَ فِي اَلْإِيمَانِ رُفِعَ عَنْهُ اَلرُّؤْيَا»(٢٣٢).
ولعلَّ ذلك مراد ما حكاه الشيخ المفيد (رحمه الله)، قال: (وقد كان شيخي (رضي الله عنه) قال لي: إنَّ كلَّ من كثر علمه واتَّسع فهمه قلَّت مناماته)(٢٣٣).
وعن كتاب (ثواب الأعمال) للصدوق (رحمه الله) بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «ثَلَاثَةٌ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ: مَنْ صَوَّرَ صُورَةً مِنَ اَلْحَيَوَانِ يُعَذَّبُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا، وَالَّذِي يَكْذِبُ فِي مَنَامِهِ يُعَذَّبُ حَتَّى يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَلَيْسَ بِعَاقِدِهِمَا، وَاَلمُسْتَمِعُ مِنْ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ يُصَبُّ فِي أُذُنَيْهِ اَلْآنُكُ وَهُوَ اَلْأُسْرُبُّ (الرصاص)» (٢٣٤).
جواب شبهة: «مَنْ رَآنِي فِي مَنَامِهِ فَقَدْ رَآنِي»:
وبعد هذا كلِّه لعلَّ قائلاً يقول: أليس قد روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال: «مَنْ رَآنِي فِي مَنَامِهِ فَقَدْ رَآنِي، لِأَنَّ اَلشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي، وَلَا فِي صُورَةِ أَحَدٍ مِنْ أَوْصِيَائِي، وَلَا فِي صُورَةِ وَاحِدَةٍ مِنْ شِيعَتِهِمْ»(٢٣٥)، وحينئذٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٣٢) بصائر الدرجات (ص ٢٧٤ و٢٧٥/ ج ٥/ باب ١٣/ ح ٦)؛ ورواه ابن حمزة الطوسي (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص ٤٥٥ و٤٥٦/ ح ٣٨٣/١)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج ٢/ ص ٦٥٠ و٦٥١/ ح ٢).
(٢٣٣) كنز الفوائد (ص ٢١١).
(٢٣٤) ثواب الأعمال (ص ٢٢٣)؛ ورواه بتفاوت البرقي (رحمه الله) في المحاسن (ج ٢/ ص ٦١٦/ ح ٤٤)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج ٦/ ص ٥٢٨/ باب تزويق البيوت/ ح ١٠).
(٢٣٥) من لا يحضره الفقيه (ج ٢/ ص ٥٨٤ و٥٨٥/ ح ٣١٩١)، أمالي الصدوق (ص ١٢٠ و١٢١/ ح ١١١/ ١٠).
↑صفحة ١٣٠↑
كانت رؤيا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو أحد أوصيائه صادقة لا محالة، وهي لا يُفرِّق فيها بين أنْ تكون من القسم الأوَّل وهي ما كان فيها أمر ونهي، أو من القسم الثاني وهي الإخبار عن ما يستقبل من الأُمور.
وهذه المقالة وَهْمٌ فاسد، لجهات عدَّة:
الأُولى: أنَّ أكثر ما روي عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَنْ رَآنِي فِي مَنَامِهِ فَقَدْ رَآنِي» فهو بطُرُق العامَّة لا بطُرُق الخاصَّة الإماميَّة، وأمَّا ما روي بطريق الخاصَّة فالمرحوم العلَّامة المجلسي (رحمه الله) على سعة باعه وتوغُّله في الرواية لم يذكر في كتاب (البحار) في باب رؤية النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأوصياء (عليهم السلام) إلَّا رواية واحدة بهذا المضمون، ثمّ ذكر أنَّه روى المخالفون (أهل السُّنَّة) ذلك بأسانيد عندهم، ولذا قال السيِّد المرتضى (رحمه الله) عندما سُئِلَ عن هذا الخبر: (هذا خبر واحد ضعيف من أضعف أخبار الآحاد، ولا معوَّل على مثل ذلك)(٢٣٦).
وهي ليست على درجة من الاعتبار، وبعبارة أُخرى: إنَّ حجّيَّة الرواية يُشترَط فيها أُمور، منها ما يتعلَّق بالسند والطريق، وهو الأشخاص الذين ينقل كلٌّ منهم عن الآخر حتَّى يصل إلى المعصوم (عليه السلام)، فإنَّهم لا بدَّ أنْ يكونوا عدولاً أو ثقاتاً قد اطمئنَّ إلى صدق لهجتهم، فلا يُقبَل من غير العادل والثقة، قال تعالى: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات: ٦). وكذلك مجهول الحال، فإنَّه لا يمكن الاعتماد عليه في النقل والحديث.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٣٦) رسائل المرتضى (ج ٢/ ص ١٣)، عنه بحار الأنوار (ج ٥٨/ ص ٢١٦).
↑صفحة ١٣١↑
الثانية: أنَّ هذه المسألة، وهي كون الرؤيا مصدراً لاستقاء أحكام الشريعة، من سلك مسائل الأُصول الاعتقاديَّة، فكيف يُعوَّل فيها على خبرٍ واحدٍ ظنِّي؟ إذ لا بدَّ فيها من اليقين والقطع، ولذلك قال العلَّامة المجلسي (تغمَّده الله برحمته): (الظاهر أنَّ هذا من مسائل الأُصول، ولا بدَّ فيه من العلم، ولا يثبت بأخبار الآحاد المفيدة للظنِّ)(٢٣٧).
الثالثة: لو فرضنا اعتبار طريق الرواية، وفرضنا إمكان إثبات مثل هذه المسألة بخبرٍ واحدٍ ظنِّي، فإنَّ ذلك يتمُّ لو كنَّا نحن والرواية على تقدير صحَّة هذه الاستفادة من معنى الرواية، وأمَّا مع ما تقدَّم من الآيات القرآنيَّة والسُّنَّة المستفيضة المتواترة معنًى في أنَّ الرؤيا المتضمِّنة للأمر والنهي من خصائص الأنبياء والمرسَلين (عليهم السلام)، فلا يمكن الاعتماد على هذه الاستفادة من الرواية، ولا برفع اليد عن الدليل القطعي بخبرٍ واحدٍ، ولا يوسوس في ذلك إلَّا من ليس يتحرَّج في دينه، ومن لا يركن إلى أوَّليَّات عقله وفطرته.
الرابعة: توجد روايتان معتبرتان، بل أكثر تدلُّ بالخصوص على عدم صحَّة أنَّ من رآهم في المنام مطلقاً ودوماً فقد رآهم (عليهم السلام)، فقد روى الشيخ الجليل الكشِّي (رحمه الله) في كتابه (معرفة الرجال) عَنْ جِبْرِيلَ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى (العبيدي اليقطيني)، عَنْ عَلِيِّ بْنِ اَلْحَكَمِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اَلله (الصادق) (عليه السلام): «أَخْبِرْنِي عَنْ حَمْزَةَ(٢٣٨) أَيَزْعُمُ أَنْ أَبِي آتِيهِ؟»، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «كَذَبَ وَاَلله مَا يَأْتِيهِ إِلَّا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٣٧) بحار الأنوار (ج ٥٨/ ص ٢٣٨).
(٢٣٨) هو حمزة بن عمارة الزبيدي البربري، وسيأتي حاله في الفصل الثالث.
↑صفحة ١٣٢↑
اَلمُتَكَوِّنُ، إِنَّ إِبْلِيسَ سَلَّطَ شَيْطَاناً يُقَالُ لَهُ: اَلمُتَكَوِّنُ، يَأْتِي اَلنَّاسَ فِي أَيِّ صُورَةٍ شَاءَ، إِنْ شَاءَ فِي صُورَةٍ صَغِيرَةٍ، وَإِنْ شَاءَ فِي صُورَةٍ كَبِيرَةٍ، وَلَا وَاَلله مَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَجِيءَ فِي صُورَةِ أَبِي (عليه السلام)»(٢٣٩).
وروي عَنْ سَعْدِ (بن عبد الله الأشعري)، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ وَاَلْحُسَيْنُ بْنُ سَعِيدٍ (الأهوازي)، عَنِ اِبْنِ أَبِي عُمَيْرٍ. وبطريقك آخر: عَنْ سَعْدِ (بن عبد الله): قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى (العبيدي)، عَنْ يُونُسَ (بن عبد الرحمن) وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ اَلْعِجْلِيِّ، قَالَ: كَانَ حَمْزَةُ بْنُ عُمَارَةَ اَلْزُبَيْدِيُّ (اَلْبَرْبَرِيُّ) لَعَنَهُ اَللهُ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ (الباقر) (عليه السلام) يَأْتِينِي فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، وَلَا يَزَالُ إِنْسَانٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ أَرَاهُ إِيَّاهُ، فَقُدِّرَ لِي أَنِّي لَقِيتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام)، فَحَدَّثْتُهُ بِمَا يَقُولُ حَمْزَةُ، فَقَالَ: «كَذَبَ عَلَيْهِ لَعْنَةُ اَلله، مَا يَقْدِرُ اَلشَّيْطَانُ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي صُورَةِ نَبِيٍّ، وَلَا وَصِيِّ نَبِيٍّ»(٢٤٠).
وهاتان الروايتان وإنْ كان يُحتمَل منهما الرؤية في اليقظة، ولكن ذلك لا يخدش في المطلوب، وهو عدم دوام المطابقة بين ما يعتقده الرائي - سواء في المنام أو اليقظة - أنَّه قد رأى الأئمَّة (عليهم السلام) مع الواقع والحقيقة، وذلك لتلبيس وخداع الشيطان للرائي، وتشكُّل الشيطان (الذي يُسمَّى المتكوِّن) بصور مختلفة يغري الرائي أنَّ تلك الصور هم الأئمَّة (عليهم السلام)، مع أنَّ تلك الصور ليست بصورهم (عليهم السلام)، لأنَّه لا يستطيع التمثُّل والتشكُّل بصورهم (عليهم السلام)، وسيأتي في الفصل اللَّاحق نقل عدَّة روايات بهذا المضمون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٣٩) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٨٩/ ح ٥٣٧).
(٢٤٠) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٩٣/ ح ٥٤٨).
↑صفحة ١٣٣↑
الخامسة: لو رفعنا اليد فرضاً عن ما سبق، فإنَّما يتَّبع ما يرى في الشيء الذي عُلِمَ من الشريعة المقدَّسة صحَّته، أي كان المرئي موافقاً لظاهر الشريعة لا ما كان مخالفاً لها، وذلك لكون منشأ ودليل حجّيَّة الرؤية هي هذه الرواية التي هي واصل لنا من الشريعة، فكيف تعارض الشريعة؟ وهل يمكن للفرع أنْ يستأصل ويبيد الأصل؟
قال الكراجكي (رحمه الله) في كتابه (كنز الفوائد): (وجدت لشيخنا المفيد (رضي الله عنه) في بعض كُتُبه: أنَّ الكلام [في] باب رؤيا المنامات عزيز، وتهاون أهل النظر به شديد، والبليَّة بذلك عظيمة، وصدق القول فيه أصل جليل...)، إلى أنْ قال: (وأمَّا رؤية الإنسان للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو لأحد الأئمَّة (عليهم السلام) في المنام، فإنَّ ذلك عندي على ثلاثة أقسام: قسم أقطع على صحَّته، وقسم أقطع على بطلانه، وقسم أُجوِّز فيه الصحَّة والبطلان فلا أقطع فيه على حالٍ.
فأمَّا الذي أقطع على صحَّته، فهو كلُّ منام رأى فيه النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو أحد الأئمَّة (عليهم السلام) وهو الفاعل لطاعة أو آمر بها، وناهٍ عن معصية أو مبيِّن لقبحها، وقائل لحقٍّ أو داعٍ إليه، وزاجر عن باطل أو ذامٌّ لمن هو عليه.
وأمَّا الذي أقطع على بطلانه، فهو كلُّ ما كان على ضدِّ ذلك، لعلمنا أنَّ النبيَّ والإمام (عليهما السلام) صاحبا حقٍّ، وصاحب الحقِّ بعيد عن الباطل.
وأمَّا الذي أُجوِّز فيه الصحَّة والبطلان، فهو المنام الذي يرى فيه النبيَّ أو الإمام (عليهم السلام) وليس هو آمراً ولا ناهياً، ولا على حالٍ يختصُّ بالديانات(٢٤١)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٤١) يريد بعبارته هذه أنَّ الرؤيا ليس من القسم الأوَّل، وهو ما تضمَّن إنشاء أمر أو نهي أو حكماً شرعيًّا.
↑صفحة ١٣٤↑
مثل أنْ يراه راكباً أو ماشياً أو جالساً ونحو ذلك.
فأمَّا الخبر الذي يُروى عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من قوله: «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ اَلشَّيْطَانَ لَا يَتَشَبَّهُ بِي»، فإنَّه إذا كان المراد به المنام يُحمَل على التخصيص دون أنْ يكون في [كلِّ] حالٍ، ويكون المراد به القسم الأوَّل من الثلاثة الأقسام، لأنَّ الشيطان لا يتشبَّه بالنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في شيء من الحقِّ والطاعات...).
إلى أنْ قال: (وجميع هذه الروايات أخبار آحاد، فإنْ سلمت فعلى هذا المنهاج، وقد كان شيخي (رحمه الله) يقول: إذا جاز من بشر أنْ يدَّعي في اليقظة أنَّه إله كفرعون ومن جرى مجراه مع قلَّة حيلة البشر وزوال اللبس في اليقظة، فما المانع من أنْ يدَّعي إبليس عند النائم بوسوسة له أنَّه نبيٌّ؟ مع تمكُّن إبليس بما لا يتمكَّن منه البشر، وكثرة اللبس المعترض في المنام.
وممَّا يُوضِّح لك أنَّ من المنامات التي يتخيَّل للإنسان أنَّه قد رأى فيها رسول الله والأئمَّة (صلوات الله عليهم) منها ما هو حقٌّ ومنها ما هو باطل، أنَّك ترى الشيعي يقول: رأيت في المنام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومعه أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) يأمرني بالاقتداء به دون غيره، ويُعلِمني أنَّه خليفته من بعده، وأنَّ أبا بكر وعمر وعثمان ظالموه وأعداؤه، وينهاني عن موالاتهم، ويأمرني بالبراءة منهم، ونحو ذلك ممَّا يختصُّ بمذهب الشيعة. ثمّ ترى الناصبي يقول: رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في النوم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، وهو يأمرني بمحبَّتهم، وينهاني عن بغضهم، ويُعلِمني أنَّهم أصحابه في الدنيا والآخرة، وأنَّهم معه في الجنَّة، ونحو ذلك ممَّا يختصُّ بمذهب الناصبة، فتعلم لا محالة أنَّ أحد المنامين حقٌّ والآخر باطل، فأولى
↑صفحة ١٣٥↑
الأشياء أنْ يكون الحقُّ منهما ما ثبت بالدليل في اليقظة على صحَّة ما تضمَّنه، والباطل ما أوضحت الحجَّة عن فساده وبطلانه، وليس يمكن الشيعي أنْ يقول للناصبي: إنَّك كذبت في قولك، إنَّك رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لأنَّه يقدر أنْ يقول له مثل هذا بعينه.
وقد شاهدنا ناصبيًّا تشيَّع، وأخبرنا في حال تشيُّعه بأنَّه يرى منامات بالضدِّ ممَّا كان يراه حال نصبه، فبان بذلك أنَّ أحد المنامين باطل، وأنَّه من نتيجة حديث النفس أو من وسوسة إبليس ونحو ذلك، وأنَّ المنام الصحيح هو لطف من الله تعالى بعبده على المعنى المتقدِّم وصفه.
وقولنا في المنام الصحيح: إنَّ الإنسان رأى في نومه النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنَّما معناه أنَّه كأنْ قد رآه، وليس المراد به التحقُّق في اتِّصال شعاع بصره بجسد النبيِّ، وأيُّ بصر يُدرك به حال نومه؟ وإنَّما هي معانٍ تصوَّرت في نفسه تخيَّل له فيها أمر لطف الله تعالى له به قام مقام العلم، وليس هذا بمنافٍ للخبر الذي روي من قوله: «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي»، لأنَّ معناه: فكأنَّما رآني، وليس يغلط في هذا المكان إلَّا من ليس له من عقله اعتبار)(٢٤٢).
ولهذا بحث الكثير في علم ما اصطُلِحَ عليه بـ(العرفان) عن الفارق بين الإلهام الرحماني والإلهام الشيطاني، وبين الكشف الحقيقي والكشف الكاذب غير الحقيقي، وبين الواردات الرحمانيَّة والملكيَّة والواردات القلبيَّة الشيطانيَّة والجنّيَّة.
فقد ذكر الشارح القيصري في شرحه على (فصوص الحِكَم) لابن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٤٢) كنز الفوائد (ص ٢١٠ - ٢١٣).
↑صفحة ١٣٦↑
العربي في الفصل السادس والسابع من الفصول التي ذكرها في المقدَّمة، قال: (وكما أنَّ النوم ينقسم بأضغاث أحلام وغيرها، كذلك ما يُرى في اليقظة ينقسم إلى أُمور حقيقيَّة محضة واقعة في نفس الأمر، وإلى أُمور خياليَّة صرفة لا حقيقة لها شيطانيَّة، وقد يخالطها الشيطان بيسير من الأُمور الحقيقيَّة ليضلَّ الرائي، لذلك يحتاج السالك إلى مرشد يرشده ويُنجِّيه من المهالك.
والأوَّل إمَّا أنْ يتعلَّق بالحوادث، أو لا. فإنْ كان متعلِّقاً بها، فعند وقوعها كما شاهدها، أو على سبيل التعبير وعدم وقوعها يحصل التمييز بينها وبين الخياليَّة الصرفة، وعبور الحقيقة عن صورتها الأصليَّة إنَّما هو للمناسبات التي بين الصور الظاهرة هي فيها وبين الحقيقة، ولظهورها فيها أسباب كلُّها راجعة إلى أحوال الرائي، وتفصيله يُؤدِّي إلى التطويل.
وأمَّا إذا لم يكن كذلك (أي الرؤيا غير الإخباريَّة بالمستقبليَّات)، فللفرق بينها وبين الخياليَّة الصرفة موازين يعرفها أرباب الذوق والشهود بحسب مكاشفاتهم، كما أنَّ للحكماء ميزاناً يُفرِّق بين الصواب والخطأ، وهو المنطق.
منها: ما هو ميزان عامٌّ، وهو القرآن والحديث المنبئ كلٌّ منهما على الكشف التامِّ المحمّدي (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
ومنها: ما هو خاصٌّ، وهو ما يتعلَّق بحال كلٍّ منهم الفايض عليه من الاسم الحاكم والصفة الغالبة عليه، وسنومي في الفصل التالي (أي السابع) بعض ما يُعرَف به إجمالاً)(٢٤٣).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٤٣) شرح فصوص الحِكَم للقيصري (ص ١٠٠ و١٠١).
↑صفحة ١٣٧↑
أقول: فترى أنَّ الميزان عندهم لكون ما يرد على القلب وما ينكشف له - سواء بالرؤية في المنام، أو في اليقظة، أو بغير الرؤية من الإلهام القلبي وغيره - الميزان بين الحقِّ والحقيقي منه وبين الباطل والشيطاني والخيالي الذي لا واقعيَّة له، هو القرآن الكريم والسُّنَّة المطهَّرة.
وقد برهن الشارح القيصري على ذلك بحسب مصطلح علم العرفان بقوله في الفصل السابع:
(ولـمَّا كان من الكشف الصوري والمعنوي على حسب استعداد السالك ومناسبات روحه وتوجُّه سرِّه إلى كلٍّ من أنواع الكشف، وكانت الاستعدادات متفاوتة والمناسبات متكثِّرة، صارت مقامات الكشف متفاوتة بحيث لا يكاد ينضبط، وأصحُّ المكاشفات وأتمُّها إنَّما يحصل لمن يكون مزاجه الروحاني أقرب إلى الاعتدال التامِّ، كأرواح الأنبياء والكُمَّل من الأولياء (صلوات الله عليهم))(٢٤٤).
ولذا تقرَّر عندهم أنَّ كلَّ كشف فهو يُعرَض على كشف الأنبياء والرُّسُل (عليهم السلام)، فإنْ وافقه فيُعلَم صحَّته وإلَّا فيُعلَم فساده، وأنَّ الكشف المعصوم من الباطل هو كشف الأنبياء (عليهم السلام) المتجلِّي في الكُتُب السماويَّة التي يُبعَثون بها، وكذلك أقوالهم وأفعالهم.
وذكر أيضاً السيِّد حيدر بن عليٍّ الحسيني الأملي (رحمه الله) - والذي وصفه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٤٤) شرح فصوص الحِكَم للقيصري (ص ١١١). وهو يشير إلى ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما سأله بعض اليهود عن تعلُّم الفلسفة، راجع: كلمات مكنونة (ص ٧٨ و٧٩).
↑صفحة ١٣٨↑
القاضي التستري (رحمه الله) في (مجالس المؤمنين) بالعارف المحقِّق الأوحد من أصحابنا الإماميَّة المتألِّهين(٢٤٥) - في كتابه (جامع الأسرار ومنبع الأنوار):
(وأمَّا الإلهام العامُّ فيكون بسبب وغير سبب، ويكون حقيقيًّا وغير حقيقي، فالذي يكون بالسبب ويكون حقيقيًّا فهو بتسوية النفس وتحليتها وتهذيبها بالأخلاق المرضيَّة والأوصاف الحميدة، موافقاً للشرع ومطابقاً للإسلام، لقوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: ٧ و٨]، والذي يكون بغير السبب ويكون غير حقيقي، فهو يكون لخواصِّ النفوس، واقتضاء الولادة والبلدان، كما يحصل للبراهمة والكشايش (القساوسة) والرهبان.
والتمييز بين هذين الإلهامين محتاج إلى ميزان إلهي ومحكٍّ ربَّاني، وهو نظر الكامل المحقِّق والإمام المعصوم والنبيِّ المرسَل، المطَّلع على بواطن الأشياء على ما هي عليه، واستعدادات الموجودات وحقائقها، ولهذا احتجنا بعد الأنبياء والرُّسُل (عليهم السلام) إلى الإمام والمرشد، لقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣]، لأنَّ كلَّ واحدٍ ليس له قوَّة التمييز بين الإلهامين الحقيقي وغير الحقيقي، وبين الخاطر الإلهي والخاطر الشيطاني، وغير ذلك.
والذِّكر هو القرآن أو النبيُّ وأهله، هم أهل بيته من الأئمَّة المعصومين المطَّلعين على أسرار القرآن وحقائقه ودقائقه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٤٥) مجالس المؤمنين (ج ٢/ ص ٤٨١)، وفيه: (سيِّد أفاضل المتألِّهين)؛ وقد اجتمع في سفره من آمل إلى العراق بفخر المحقِّقين ابن العلَّامة الحلِّي (رحمهما الله)، فأجاز له رواية المسائل المدنيَّة (المهنَّائيَّة)، كما ذُكِرَ ذلك في أعيان الشيعة (ج ٦/ ص ٢٧١ - ٢٧٣).
↑صفحة ١٣٩↑
ولقوله تعالى أيضاً تأكيداً لهذا المعنى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: ٥٩]، أي إلى أهل الله تعالى وأهل رسوله.
والآيات الدالَّة على متابعة الكامل والمرشد، الذي هو الإمام المعصوم أو العلماء الورثة من خلفائهم كثيرة، فارجع إليها، لأنَّ هذا ليس موضعها.
فنرجع ونقول: وإنْ تحقَّقت عرفت أيضاً أنَّ الخواطر - التي قسَّموها إلى أربعة أقسام: إلهي، ومَلَكي، وشيطاني، ونفساني - كان سببه ذلك، أي عدم العلم بالإلهامين المذكورين، أعني الحقيقي وغير الحقيقي، لأنَّها كلَّها من أقسام الإلهام وتوابعه)(٢٤٦).
ونقل المتَّقي الهندي صاحب (كنز العُمَّال) في كتابه (البرهان في علامات مهدي آخر الزمان) عن الشيخ أبو الحسن الشاذلي المالكي رئيس الطريقة الشاذلية (الصوفيَّة) أنَّه قال: (إنَّ الله تعالى ضمن العصمة في جانب الكتاب والسُّنَّة، ولم يضمنها في جانب الكشف والإلهام)(٢٤٧).
ونقل عن أبي القاسم القشيري النيشابوري الأشعري الشافعي (الصوفي المفسِّر المحدِّث الفقيه العارف) أنَّه قال: (لا ينبغي للمريد أنْ يعتقد في المشايخ العصمة من الخطأ والزلل)(٢٤٨).
هذا، وقد عقد الشيخ الكليني (رحمه الله) في أُصوله تحت عنوان: أنَّ للقلب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٤٦) جامع الأسرار (ص ٤٥٥ و٤٥٦).
(٢٤٧) البرهان في علامات مهدي آخر الزمان (ص ٦٦).
(٢٤٨) البرهان في علامات مهدي آخر الزمان (ص ٦٥).
↑صفحة ١٤٠↑
أُذُنين ينفث فيهما المَلَك والشيطان، وروى عن الصادق (عليه السلام): «مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا وَلَهُ أُذُنَانِ عَلَى إِحْدَاهُمَا مَلَكٌ مُرْشِدٌ، وَعَلَى اَلْأُخْرَى شَيْطَانٌ مُفْتِنٌ، هَذَا يَأْمُرُهُ وَهَذَا يَزْجُرُهُ، اَلشَّيْطَانُ يَأْمُرُهُ بِالمَعَاصِي، وَاَلمَلَكُ يَزْجُرُهُ عَنْهَا، وَهُوَ قَوْلُ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: ١٧ و١٨]»(٢٤٩).
وقال (عليه السلام): «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَلِقَلْبِهِ أُذُنَانِ فِي جَوْفِهِ، أُذُنٌ يَنْفُثُ فِيهَا اَلْوَسْوَاسُ اَلْخَنَّاسُ، وَأُذُنٌ يَنْفُثُ فِيهَا اَلمَلَكُ، فَيُؤَيِّدُ اَللهُ اَلمُؤْمِنَ بِالمَلَكِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ [المجادلة: ٢٢]»(٢٥٠).
وسأل السيِّد مهنَّا بن سنان العلَّامة الحلِّي (رحمه الله) عن مفاد هذه الرواية، وأنَّه لو فُرِضَ أنَّ الرؤية متضمِّنة للأمر بالشيء أو النهي عن شيء، فهل يتمثَّل ذلك الأمر ويجتنب المنهي أم لا، سيَّما إذا كان خلاف ظاهر الشريعة؟
فأجابه (نوَّر الله ضريحه): (ما يخالف الظاهر فلا ينبغي المصير إليه، وأمَّا ما يوافق الظاهر فالأولى المتابعة من غير وجوب، ورؤيته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يُعطي وجوب اتِّباع المنام)(٢٥١).
السادسة: ما هو مفاد الرواية ودلالتها؟ فقد تعدَّدت الآراء في ذلك:
أ - ما حُكِيَ عن الفيض الكاشاني (رحمه الله) أنَّ معنى الرواية هو من رآني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٤٩) الكافي (ج ٢/ ص ٢٦٦ و٢٦٧/ باب أنَّ للقلب أُذُنين.../ ح ١).
(٢٥٠) الكافي (ج ٢/ ص ٢٦٧/ باب أنَّ للقلب أُذُنين.../ ح ٣)؛ والمراد من القلب هاهنا هو المعنوي (الروح)، لا الصنوبري.
(٢٥١) أجوبة المسائل المهنَّائيَّة (ص ٩٧ و٩٨/ مسألة ١٥٩).
↑صفحة ١٤١↑
أي تحقَّق وتيقَّن من رؤية صورتي، لأنَّه قد رآه في اليقظة، فقد رآه تحقيقاً وحقيقةً، لأنَّ الشيطان لا يتمثَّل بصورته (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(٢٥٢).
وحينئذٍ يكون مفاد الحديث مخصوص بمن شهد زمانه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أو أحد الأئمَّة في ظهورهم (عليهم السلام)، أو من عرف أوصافهم وشمائلهم المنقولة في الكُتُب بدقَّة.
وهذا الإلحاق والتتمَّة من بعض المتأخِّرين، ويشهد له التعليل في الرواية، «لِأَنَّ اَلشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي، وَلَا فِي صُورَةِ أَحَدٍ مِنْ أَوْصِيَائِي»، فإنَّ ذلك يعني حصر الرؤية بصورهم المختصَّة بهم (عليهم السلام)، وهي التي كانوا عليها في حياتهم من شمائلهم الخاصَّة بهم.
ب - ما أفاده السيِّد المرتضى (رحمه الله) في كتاب (الغُرَر والدُّرَر)، وهو: (من رآني في اليقظة فقد رآني على الحقيقة، لأنَّ الشيطان لا يتمثَّل بي لليقظان، فقد قيل: إنَّ الشيطان ربَّما تمثَّل بصورة البشر، وهذا التشبيه أشبه بظاهر ألفاظ الخبر، لأنَّه قال: «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي»، فأثبت غيره رائياً له ونفسه مرئيَّة، وفي النوم لا رائي له في الحقيقة ولا مرئي، وإنَّما ذلك في اليقظة، ولو حملناه على النوم لكان تقدير الكلام: من اعتقد أنَّه يراني في منامه، وإنْ كان غير راءٍ له في الحقيقة، فهو في الحكم كأنَّه قد رآني، وهذا عدول عن ظاهر لفظ الخبر وتبديل لصيغته)(٢٥٣)، انتهى.
أقول: ما أفاده السيِّد (رحمه الله) يُفهَم من الكلام المتقدِّم للشيخ المفيد (رحمه الله)(٢٥٤)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٥٢) راجع: المحجَّة البيضاء (ج ٨/ ص ٣١٨).
(٢٥٣) رسائل المرتضى (ج ٢/ ص ١٣).
(٢٥٤) راجع ما تقدَّم في (ص ١٣٤).
↑صفحة ١٤٢↑
ولكن هذا المفاد ينسجم مع بعض الروايات المنقولة بطُرُق العامَّة، حيث لم يُقيَّد فيها الرؤية بكونها في المنام.
ج - أنَّ المراد هو الزيارة - بالزاي المنقوطة المعجمة -، إذ في كتاب (عيون) للشيخ الصدوق (رحمه الله) وهي الرواية التي نقلها العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في كتاب (البحار)(٢٥٥) ونقلها أيضاً عن (أمالي الصدوق)(٢٥٦): «مَنْ زَارَنِي فِي مَنَامِهِ فَقَدْ زَارَنِي»(٢٥٧) بالزاي المعجمة، نعم في (الأمالي) بالراء غير المعجمة، وحينئذٍ يكون المعنى أن الزيارة في المنام تعدل الزيارة في اليقظة في الثواب.
ويمكن أنْ تُقرَّب هذه النسخة بأنَّ الكلام في ابتداء الرواية كان حول ثواب زيارة الإمام الرضا (عليه السلام).
ولكن نسخة الراء غير المعجمة أنسب بمجموع الرواية.
د - أنَّ المراد هو بيان فضيلة هذه الرؤية، والتشرُّف بهم (عليهم السلام)، وصدق ما يُخبِرون به في المنام إذا رآهم النائم بصورهم الخاصَّة بهم، ويشهد ذلك مورد الرواية التي بطُرُقنا والروايات التي بطُرُق العامَّة، فإنَّ الاستشهاد بـ«مَنْ رَآنِي فِي مَنَامِهِ فَقَدْ رَآنِي، لِأَنَّ اَلشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي، وَلَا فِي صُورَةِ أَحَدٍ مِنْ أَوْصِيَائِي» في الرواية وقع للاستدلال بصدق ما أُخبر به النائم في الرؤيا من قِبَلهم (عليهم السلام).
ثمّ ليُتنبَّه إلى أنَّ الأمر والنهي في الرؤية (تارةً) يكون كتشريع حكم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٥٥) بحار الأنوار (ج ٥٨/ ص ٢٣٤/ ح ١).
(٢٥٦) أمالي الصدوق (ص ١٢٠ و١٢١/ ح ١١١/ ١٠)؛ ورواه (رحمه الله) في من لا يحضره الفقيه (ج ٢/ ص ٥٨٤ و٥٨٥/ ح ٣١٩١)، وفيه: (من رآني في منامه فقد رآني...).
(٢٥٧) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج ١/ ص ٢٨٧ و٢٨٨/ باب ٦٦/ ح ١١).
↑صفحة ١٤٣↑
كلِّي، وأنَّه لا يختصُّ بالنائم بل لسائر المكلَّفين، فهذا ليس إلَّا وحي يختصُّ به الأنبياء (عليهم السلام).
(وتارةً) يكون أمراً جزئيًّا شخصيًّا للنائم خاصَّة لمرَّة واحدة فقط، مثل: ابنِ مسجداً، أو تصدَّق بكذا من مالك، ونحو ذلك، فهذا الذي تقدَّم إنْ وافق الشريعة فلا حرج في المتابعة من دون وجوب شرعي كما أفاده العلَّامة الحلِّي (رحمه الله)، وجزم بصحَّة (الرؤية) الشيخ المفيد (رحمه الله)، وإنْ عارض وخالف الشريعة فلا ينبغي المصير إليه، كما عبَّر بذلك العلَّامة الحلِّي (رحمه الله)(٢٥٨)، وقطع ببطلانه الشيخ المفيد (رحمه الله)(٢٥٩).
ولنختم هذا الأمر برواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أخرجها المجلسي (رحمه الله) عن كتاب (مصباح الشريعة)، قال:
«إِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) مَكَّنَ أَنْبِيَاءَهُ مِنْ خَزَائِنِ لُطْفِهِ وَكَرَمِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَعَلَّمَهُمْ مِنْ مَخْزُونِ عِلْمِهِ، وَأَفْرَدَهُمْ مِنْ جَمِيعِ اَلْخَلَائِقِ لِنَفْسِهِ، فَلَا يُشْبِهُ أَخْلَاقَهُمْ وَأَحْوَالَهُمْ أَحَدٌ مِنَ اَلْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ، إِذْ جَعَلَهُمْ وَسَائِلَ سَائِرِ اَلْخَلْقِ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ حُبَّهُمْ وَطَاعَتَهُمْ سَبَبَ رِضَاهُ، وَخِلَافَهُمْ وَإِنْكَارَهُمْ سَبَبَ سَخَطِهِ، وَأَمَرَ كُلَّ قَوْمٍ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ رَسُولِهِمْ، ثُمَّ أَبَى أَنْ يَقْبَلَ طَاعَةَ أَحَدٍ إِلَّا بِطَاعَتِهِمْ، وَمَعْرِفَةِ حَقِّهِمْ وَحُرْمَتِهِمْ وَوَقَارِهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ وَجَاهِهِمْ عِنْدَ اَلله، فَعَظِّمْ جَمِيعَ أَنْبِيَاءِ اَلله، وَلَا تُنَزِّلْهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَحَدٍ مِنْ دُونِهِمْ، وَلَا تَتَصَرَّفْ بِعَقْلِكَ فِي مَقَامَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ إِلَّا بِبَيَانٍ مُحْكَمٍ مِنْ عِنْدِ اَلله، وَإِجْمَاعِ أَهْلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٥٨) راجع ما مرَّ في (ص ١٤١).
(٢٥٩) راجع ما مرَّ في (ص ١٣٤).
↑صفحة ١٤٤↑
اَلْبَصَائِرِ بِدَلَائِلَ تَتَحَقَّقُ بِهَا فَضَائِلُهُمْ وَمَرَاتِبُهُمْ، وَأَنَّى بِالْوُصُولِ إِلَى حَقِيقَةِ مَا لَهُمْ عِنْدَ اَلله؟ وَإِنْ قَابَلْتَ أَقْوَالَهُمْ وَأَفْعَالَهُمْ بِمَنْ دُونَهُمْ مِنَ اَلنَّاسِ أَجْمَعِينَ فَقَدْ أَسَأْتَ صُحْبَتَهُمْ، وَأَنْكَرْتَ مَعْرِفَتَهُمْ، وَجَهِلْتَ خُصُوصِيَّتَهُمْ بِالله، وَسَقَطْتَ عَنْ دَرَجَةِ حَقِيقَةِ اَلْإِيمَانِ وَاَلمَعْرِفَةِ، فَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ»(٢٦٠).
وليُعلَم أنَّ من خواصِّ النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأوصياء (عليهم السلام) أنَّهم تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، ووردت بذلك الروايات المستفيضة.
كما وللسيِّد المرتضى (رفع الله درجته) تحقيقاً في المقام يكون نهاية للمطاف، قال في كتاب (الغُرَر والدُّرَر):
(اعلم أنَّ النائم غير كامل العقل، لأنَّ النوم ضرب من السهو، والسهو ينفي العلوم، ولهذا يعتقد النائم الاعتقادات الباطلة، لنقصان عقله وفقد علومه. وجميع المنامات إنَّما هي اعتقادات يبتدأ بها النائم في نفسه، ولا يجوز أنْ تكون من فعل غيره فيه في نفسه، لأنَّ من عداه من المحدَّثين - سواء كان بشراً أو ملائكةً أو جنًّا - أجسام، والجسم لا يقدر أنْ يفعل في غيره اعتقاداً ابتداءً، بل ولا شيئاً من الأجناس على هذا الوجه، وإنَّما يفعل ذلك في نفسه على سبيل الابتداء.
وإنَّما قلنا: إنَّه لا يفعل في غيره جنس الاعتقادات متولِّداً، لأنَّ الذي يُعدِّي الفعل من محلِّ القدرة إلى غيرها من الأسباب إنَّما هو الاعتمادات، وليس جنس الاعتمادات ما يُولِّد الاعتقادات، ولهذا لو اعتمد أحدنا على قلب غيره الدهر الطويل ما تولَّد فيه شيء من الاعتقادات، وقد بُيِّن ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٦٠) بحار الأنوار (ج ١١/ ص ٣٧/ ح ٣٤)، عن مصباح الشريعة (ص ٦١ و٦٢).
↑صفحة ١٤٥↑
وشُرِحَ في مواضع كثيرة.
والقديم تعالى هو القادر أنْ يفعل في قلوبنا ابتداءً من غير سبب أجناس الاعتقادات، ولا يجوز أنْ يفعل في قلب النائم اعتقاداً، لأنَّ أكثر اعتقاد النائم جهل، وتناول الشيء على خلاف ما هو به، لأنَّه يعتقد أنَّه يرى ويمشي، وأنَّه راكب وعلى صفات كثيرة، وكلُّ ذلك على خلاف ما هو به، وهو تعالى لا يفعل الجهل، فلم يبقَ إلَّا أنَّ الاعتقادات كلَّها من جهة النائم.
وقد ذُكِرَ في المقالات أن المعروف بـ(صالح قبة) كان يذهب إلى أنَّ ما يراه النائم في منامه على الحقيقة، وهذا جهل منه يضاهي جهل السوفسطائيَّة، لأنَّ النائم يرى أنَّ رأسه مقطوع، وأنَّه قد مات، وأنَّه قد صعد إلى السماء، ونحن نعلم ضرورةً خلاف ذلك كلِّه.
وإذا جاز عند صالح هذا أنْ يعتقد اليقظان في السراب أنَّه ماءً، وفي المردي (خشبة يدفع بها الملَّاح السفينة) إذا كان في الماء أنَّه مكسور، وهو على الحقيقة صحيح، لضرب من الشبهة واللبس، فألَّا جاز ذلك في النائم، وهو من الكمال أبعد، وإلى النقص أقرب؟)(٢٦١)، انتهى كلامه.
وللحكماء والفلاسفة تحقيقات حول أقسام الرؤية بلحاظ عالم الخيال، والعقل، والقوَّة، والواهمة، وغير ذلك، لا يسع المقام لها.
وفي الروايات المأثورة عن أهل بيت النبوَّة ومعدن الرسالة ما يُهتدى به إلى كثير من أبحاث المقام.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٦١) رسائل المرتضى (ج ٢/ ص ٩ و١٠).
↑صفحة ١٤٦↑
الأمر السادس: نبذة من أحوال النُّوَّاب الأربعة في الغيبة الصغرى:
قال الصدوق (رحمه الله): حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ الْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) مَعَ جَمَاعَةٍ فِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْقَصْرِيُّ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ لَهُ: سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَخْبِرْنِي عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام) أَهُوَ وَلِيُّ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَاتِلِهِ، أَهُوَ عَدُوُّ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ الرَّجُلُ: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّطَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) عَدُوَّهُ عَلَى وَلِيِّهِ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ): افْهَمْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ، اعْلَمْ أَنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) لَا يُخَاطِبُ النَّاسَ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ وَلَا يُشَافِهُهُمْ بِالْكَلَامِ، وَلَكِنَّهُ (جلَّ جلاله) يَبْعَثُ إِلَيْهِمْ رُسُلاً مِنْ أَجْنَاسِهِمْ وَأَصْنَافِهِمْ بَشَراً مِثْلَهُمْ، وَلَوْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رُسُلاً مِنْ غَيْرِ صِنْفِهِمْ وَصُوَرِهِمْ لَنَفَرُوا عَنْهُمْ وَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُمْ، فَلَمَّا جَاؤُوهُمْ وَكَانُوا مِنْ جِنْسِهِمْ يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ قَالُوا لَهُمْ: أَنْتُمْ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَلَا نَقْبَلُ مِنْكُمْ حَتَّى تَأْتُونَّا بِشَيْءٍ نَعْجِزُ أَنْ نَأْتِيَ بِمِثْلِهِ فَنَعْلَمَ أَنَّكُمْ مَخْصُوصُونَ دُونَنَا بِمَا لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لَهُمُ المُعْجِزَاتِ الَّتِي يَعْجِزُ الْخَلْقُ عَنْهَا.
↑صفحة ١٤٧↑
فَمِنْهُمْ مَنْ جَاءَ بِالطُّوفَانِ بَعْدَ الْإِنْذَارِ وَالْإِعْذَارِ، فَغَرِقَ جَمِيعُ مَنْ طَغَى وَتَمَرَّدَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَكَانَتْ بَرْداً وَسَلَاماً.
وَمِنْهُمْ مَنْ أَخْرَجَ مِنَ الْحَجَرِ الصَّلْدِ نَاقَةً وَأَجْرَى مِنْ ضَرْعِهَا لَبَناً.
وَمِنْهُمْ مَنْ فُلِقَ لَهُ الْبَحْرُ، وَفُجِّرَ لَهُ مِنَ الْحَجَرِ الْعُيُونُ، وَجُعِلَ لَهُ الْعَصَا الْيَابِسَةُ ثُعْبَاناً تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْرَأَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَأَحْيَا المَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ، وَأَنْبَأَهُمْ بِمَا يَأْكُلُونَ وَمَا يَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ.
وَمِنْهُمْ مَنِ انْشَقَّ لَهُ الْقَمَرُ، وَكَلَّمَتْهُ الْبَهَائِمُ مِثْلُ الْبَعِيرِ وَالذِّئْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَلَمَّا أَتَوْا بِمِثْلِ ذَلِكَ وَعَجَزَ الْخَلْقُ عَنْ أَمْرِهِمْ وَعَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ(٢٦٢) كَانَ مِنْ تَقْدِيرِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَلُطْفِهِ بِعِبَادِهِ وحِكْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ أَنْبِيَاءَهُ (عليهم السلام) مَعَ هَذِهِ الْقُدْرَةِ وَالمُعْجِزَاتِ فِي حَالَةٍ غَالِبِينَ وَفِي أُخْرَى مَغْلُوبِينَ، وَفِي حَالٍ قَاهِرِينَ وَفِي أُخْرَى مَقْهُورِينَ وَلَوْ جَعَلَهُمُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ غَالِبِينَ وَقَاهِرِينَ وَلَمْ يَبْتَلِهِمْ وَلَمْ يَمْتَحِنْهُمْ لَاتَّخَذَهُمُ النَّاسُ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، وَلَمَا عُرِفَ فَضْلُ صَبْرِهِمْ عَلَى الْبَلَاءِ وَالْمِحَنِ وَالْاِخْتِبَارِ.
وَلَكِنَّهُ (عزَّ وجلَّ) جَعَلَ أَحْوَالَهُمْ فِي ذَلِكَ كَأَحْوَالِ غَيْرِهِمْ لِيَكُونُوا فِي حَالِ الْمِحْنَةِ وَالْبَلْوَى صَابِرِينَ، وَفِي حَالِ الْعَافِيَةِ وَالظُّهُورِ عَلَى الْأَعْدَاءِ شَاكِرِينَ، وَيَكُونُوا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ مُتَوَاضِعِينَ غَيْرَ شَامِخِينَ وَلَا مُتَجَبِّرِينَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٦٢) في بعض النُّسَخ: (عجز الخلق من أُمَمهم عن أنْ يأتوا بمثله).
↑صفحة ١٤٨↑
وَلِيَعْلَمَ الْعِبَادُ أَنَّ لَهُمْ (عليهم السلام) إِلَهاً هُوَ خَالِقُهُمْ وَمُدَبِّرُهُمْ، فَيَعْبُدُوهُ وَيُطِيعُوا رُسُلَهُ، وَتَكُونُ حُجَّةُ اللهِ ثَابِتَةً عَلَى مَنْ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِيهِمْ وَادَّعَى لَهُمُ الرُّبُوبِيَّةَ أَوْ عَانَدَ أَوْ خَالَفَ وَعَصَى وَجَحَدَ بِمَا أَتَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ (عليهم السلام)، ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: ٤٢].
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضي الله عنه): فَعُدْتُ إِلَى الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ اِبْنِ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) مِنَ الْغَدِ وَأَنَا أَقُولُ فِي نَفْسِي: أَتَرَاهُ ذَكَرَ مَا ذَكَرَ لَنَا يَوْمَ أَمْسِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ؟ فَابْتَدَأَنِي، فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، لَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفَنِي الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِيَ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ فِي دِينِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) بِرَأْيِي أَوْ مِنْ عِنْدِ نَفْسِي، بَلْ ذَلِكَ عَنِ الْأَصْلِ وَمَسْمُوعٌ عَنِ الْحُجَّةِ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ)(٢٦٣).
قال الشيخ الطوسي (رحمه الله): أَخْبَرَنِي اَلْحُسَيْنُ بْنُ عُبَيْدِ اَلله (أُستاذه)، عَنْ أَبِي اَلْحَسَنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ دَاوُدَ اَلْقُمِّيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَلَامَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَنْفَذَ اَلشَّيْخُ اَلْحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ (رضي الله عنه) كِتَابَ (اَلتَّأْدِيبِ) إِلَى قُمَّ، وَكَتَبَ إِلَى جَمَاعَةِ اَلْفُقَهَاءِ بِهَا، وَقَالَ لَهُمْ: اُنْظُرُوا فِي هَذَا اَلْكِتَابِ، وَاُنْظُرُوا فِيهِ شَيْءٌ يُخَالِفُكُمْ؟ فَكَتَبُوا إِلَيْهِ أَنَّهُ كُلَّهُ صَحِيحٌ، وَمَا فِيهِ شَيْءٌ يُخَالِفُ إِلَّا قَوْلُهُ فِي اَلصَّاعِ فِي اَلْفِطْرَةِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ، وَاَلطَّعَامُ عِنْدَنَا مِثْلُ اَلشَّعِيرِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ صَاعٌ(٢٦٤).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٦٣) كمال الدِّين (ص ٥٠٧ - ٥٠٩/ باب ٤٥/ ح ٣٧)؛ ورواه الصدوق (رحمه الله) في علل الشرائع (ج ١/ ص ٢٤١ - ٢٤٣/ باب ١٧٧/ ح ١)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص ٣٢٤ - ٣٢٦/ ح ٢٧٣)، والراوندي (رحمه الله) في الدعوات (ص ٦٦ - ٦٨/ ح ١٦٤)، والطبرسي (رحمه الله) في الاحتجاج (ج ٢/ ص ٢٨٥ - ٢٨٨).
(٢٦٤) الغيبة للطوسي (ص ٣٩٠/ ح ٣٥٧).
↑صفحة ١٤٩↑
وقال الشيخ الصدوق (رحمه الله): أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَتِّيلٍ، قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا: زَيْنَبُ مِنْ أَهْلِ (آبَةَ) - وَكَانَتْ امْرَأَةَ مُحَمَّدِ بْنِ عِبْدِيلٍ الْآبِيِّ - مَعَهَا ثَلَاثُمِائَةِ دِينَارٍ، فَصَارَتْ إِلَى عَمِّي جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَتِّيلٍ، وَقَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ أُسَلِّمَ هَذَا المَالَ مِنْ يَدِي إِلَى يَدِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ رَوْحٍ، قَالَ: فَأَنْفَذَنِي مَعَهَا أُتَرْجِمُ عَنْهَا، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ (رضي الله عنه) أَقْبَلَ يُكَلِّمُهَا بِلِسَانٍ آبِيٍّ فَصِيحٍ، فَقَالَ لَهَا: (زينب چونا، خويذا، كوابذا، چون استه)(٢٦٥)، وَمَعْنَاهُ: كَيْفَ أَنْتِ؟ وَكَيْفَ كُنْتِ؟ وَمَا خَبَرُ صِبْيَانِكِ؟ قَالَ: فَاسْتَغْنَتْ عَنِ التَّرْجُمَةِ، وَسَلَّمَتِ المَالَ وَرَجَعَتْ(٢٦٦).
وقال الشيخ الطوسي (رحمه الله): أَخْبَرَنِي اَلْحُسَيْنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ، عَنْ أَبِي نَصْرٍ هِبَةِ اَلله بْنِ مُحَمَّدٍ اِبْنِ بِنْتِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي جَعْفَرٍ اَلْعَمْرِيِّ (النائب الثاني في الغيبة الصغرى)، قَالَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ أَبِي جَعْفَرٍ (رضي الله عنه)، قَالَتْ: كَانَ أَبُو اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ (رضي الله عنه) وَكِيلاً لِأَبِي جَعْفَرٍ (رضي الله عنه) سِنِينَ كَثِيرَةً يَنْظُرُ لَهُ فِي أَمْلَاكِهِ، وَيُلْقِي بِأَسْرَارِهِ اَلرُّؤَسَاءَ مِنَ اَلشِّيعَةِ، وَكَانَ خِصِّيصاً بِهِ حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُهُ بِمَا يَجْرِي بَيْنَهُ وَ بَيْنَ جَوَارِيهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ وَأُنْسِهِ.
قَالَتْ: وَكَانَ يَدْفَعُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثِينَ دِينَاراً رِزْقاً لَهُ، غَيْرَ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ اَلْوُزَرَاءِ وَاَلرُّؤَسَاءِ مِنَ اَلشِّيعَةِ - مِثْلِ آلِ اَلْفُرَاتِ وَغَيْرِهِمْ - لِجَاهِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٦٥) لسان آوجي محلِّي، معناه بالفارسيَّة الدارجة اليوم: (چطوري؟ خوشي؟ كجا بودى؟ بچههايت چطورند؟).
(٢٦٦) كمال الدِّين (ص ٥٠٣ و٥٠٤/ ٤٥/ ح ٣٤)؛ ورواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص٣٢١/ ح ٢٦٨)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج ٣/ ص ١١٢١/ ح ٣٨).
↑صفحة ١٥٠↑
وَلِمَوْضِعِهِ وَجَلَالَةِ مَحَلِّهِ عِنْدَهُمْ، فَحَصَّلَ فِي أَنْفُسِ اَلشِّيعَةِ مُحَصَّلاً جَلِيلاً لِمَعْرِفَتِهِمْ بِاخْتِصَاصِ أَبِي إِيَّاهُ وَتَوْثِيقِهِ عِنْدَهُمْ، وَنَشْرِ فَضْلِهِ وَدِينِهِ وَمَا كَانَ يَحْتَمِلُهُ مِنْ هَذَا اَلْأَمْرِ، فَتَمَهَّدَتْ لَهُ اَلْحَالُ فِي طُولِ حَيَاةِ أَبِي إِلَى أَنِ اِنْتَهَتِ اَلْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ فِي أَمْرِهِ وَلَمْ يَشُكَّ فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا جَاهِلٌ بِأَمْرِ أَبِي أَوَّلاً، مَعَ مَا لَسْتُ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَداً مِنَ اَلشِّيعَةِ شَكَّ فِيهِ.
وَقَدْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ بَنِي نَوْبَخْتَ (رحمهم الله) مِثْلِ أَبِي اَلْحَسَنِ اِبْنِ كِبْرِيَاءَ، وَغَيْرِهِ(٢٦٧).
وبنو النوبخت هو البيت الذي ينتمي إليه النائب الثالث في الغيبة الصغرى، وهو أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي (رضوان الله تعالى عليه)، وهذا البيت خرج منه العلماء في الفنون المختلفة سيَّما علم الكلام، فقد تصدَّر هذا البيت رئاسة هذا العلم في الشيعة سنين طويلة، وكذلك في علم النجوم والعلوم الأُخرى.
وقال الطوسي (رحمه الله): أَخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَابَوَيْهِ اَلْقُمِّيِّ (أخي الصدوق محمّد بن عليِّ بن بابويه، وكلا الأخوين وُلِدَا بدعاء الإمام العسكري (عليه السلام)(٢٦٨)، وأبوهما كان وكيلاً له)، قَالَ: حَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ (قُمَّ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ بَابَوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ قُمَّ) مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عِمْرَانَ اَلصَّفَّارُ وَقَرِيبُهُ عَلَوِيَّةُ اَلصَّفَّارُ وَاَلْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ (رحمهم الله)، قَالُوا: حَضَرْنَا بَغْدَادَ فِي اَلسَّنَةِ اَلَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا أَبِي عَلِيُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٦٧) الغيبة للطوسي (ص ٣٧٢/ ح ٣٤٣).
(٢٦٨) كذا؛ والصحيح أنَّهما وُلِدَا بدعاء الإمام المهدي (عجّل الله فرجه).
↑صفحة ١٥١↑
اِبْنُ اَلْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى بْنِ بَابَوَيْهِ، وَكَانَ أَبُو اَلْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلسَّمُرِيُّ (قدّس سرّه) (وهو النائب الرابع في الغيبة الصغرى) يَسْأَلُنَا كُلَّ قَرِيبٍ عَنْ خَبَرِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ (رحمه الله)، فَنَقُولُ: قَدْ وَرَدَ اَلْكِتَابُ بِاسْتِقْلَالِهِ، حَتَّى كَانَ اَلْيَوْمُ اَلَّذِي قُبِضَ فِيهِ، فَسَأَلَنَا عَنْهُ، فَذَكَرْنَا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَنَا: آجَرَكُمُ اَللهُ فِي عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ، فَقَدْ قُبِضَ فِي هَذِهِ اَلسَّاعَةِ.
قَالُوا: فَأَثْبَتْنَا تَأْرِيخَ اَلسَّاعَةِ وَاَلْيَوْمِ وَاَلشَّهْرِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْماً أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْماً وَرَدَ اَلْخَبَرُ أَنَّهُ قُبِضَ فِي تِلْكَ اَلسَّاعَةِ اَلَّتِي ذَكَرَهَا اَلشَّيْخُ أَبُو اَلْحَسَنِ (السمري) (قدّس سرّه)(٢٦٩).
ورواه (رحمه الله) أيضاً عن جَمَاعَةٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى اِبْنِ بَابَوَيْهِ (الصدوق)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو اَلْحَسَنِ صَالِحُ بْنُ شُعَيْبٍ اَلطَّالَقَانِيُّ (رحمه الله) فِي ذِي اَلْقَعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اَلله أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَخْلَدٍ، قَالَ: حَضَرْتُ بَغْدَادَ عِنْدَ اَلمَشَايِخِ (رحمهم الله)(وجهاء وعلماء الطائفة)، فَقَالَ اَلشَّيْخُ أَبُو اَلْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلسَّمُرِيُّ (قدّس سرّه) اِبْتِدَاءً مِنْهُ: رَحِمَ اَللهُ عَلِيَّ بْنَ اَلْحُسَيْنِ بْنِ بَابَوَيْهِ اَلْقُمِّيَّ. قَالَ: فَكَتَبَ اَلمَشَايِخُ تَأْرِيخَ ذَلِكَ اَلْيَوْمِ، فَوَرَدَ اَلْخَبَرُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي ذَلِكَ اَلْيَوْمِ. وَمَضَى أَبُو اَلْحَسَنِ اَلسَّمُرِيُّ (رضي الله عنه) بَعْدَ ذَلِكَ فِي اَلنِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ(٢٧٠).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٦٩) الغيبة للطوسي (ص ٣٩٥ و٣٩٦/ ح ٣٦٦).
(٢٧٠) الغيبة للطوسي (ص ٣٩٤/ ح ٣٦٤)؛ ورواه الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص ٥٠٣/ باب ٤٥/ ح ٣٢)؛ والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج ٢/ ص ٢٦٩)، وابن حمزة الطوسي (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص ٦١٤/ ح ٥٦١/٩)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج ٣/ ص ١١٢٨/ ح ٤٥).
↑صفحة ١٥٢↑
وروى الصدوق (رحمه الله) بسنده عَنْ أَحْمَدَ الدَّاوُدِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي الْقَاسِمِ الْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ)، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ: مَا مَعْنَى قَوْلِ الْعَبَّاسِ لِلنَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إِنَّ عَمَّكَ أَبَا طَالِبٍ قَدْ أَسْلَمَ بِحِسَابِ الْجُمَّلِ - وَعَقَدَ بِيَدِهِ ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ -)؟ فَقَالَ: عَنَى بِذَلِكَ إِلَهٌ أَحَدٌ جَوَادٌ. وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَلِفَ وَاحِدٌ، وَاللَّامَ ثَلَاثُونَ، وَالْهَاءَ خَمْسَةٌ، وَالْأَلِفَ وَاحِدٌ، وَالْحَاءَ ثَمَانِيَةٌ، وَالدَّالَ أَرْبَعَةٌ، وَالْجِيمَ ثَلَاثَةٌ، وَالْوَاوَ سِتَّةٌ، وَالْأَلِفَ وَاحِدٌ، وَالدَّالَ أَرْبَعَةٌ، فَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَسِتُّونَ(٢٧١).
وقال الصدوق (رحمه الله): حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقُمِّيُّ المَعْرُوفُ بِأَبِي عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: كُنْتُ بِبُخَارَى، فَدَفَعَ إِلَيَّ المَعْرُوفُ بِابْنِ جَاوَشِيرَ عَشَرَةَ سَبَائِكَ ذَهَباً وَأَمَرَنِي أَنْ أُسَلِّمَهَا بِمَدِينَةِ السَّلَامِ إِلَى الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ الْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ)، فَحَمَلْتُهَا مَعِي، فَلَمَّا بَلَغْتُ آمُّويَهْ(٢٧٢) ضَاعَتْ مِنِّي سَبِيكَةٌ مِنْ تِلْكَ السَّبَائِكِ، وَلَمْ أَعْلَمْ بِذَلِكَ حَتَّى دَخَلْتُ مَدِينَةَ السَّلَامِ.
فَأَخْرَجْتُ السَّبَائِكَ لِأُسَلِّمَهَا، فَوَجَدْتُهَا قَدْ نَقَصَتْ وَاحِدَةٌ، فَاشْتَرَيْتُ سَبِيكَةً مَكَانَهَا بِوَزْنِهَا وَأَضَفْتُهَا إِلَى التِّسْعِ السَّبَائِكِ. ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ الْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ)، وَوَضَعْتُ السَّبَائِكَ بَيْنَ يَدَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٧١) كمال الدِّين (ص ٥١٩ و٥٢٠/ باب ٤٥/ ح ٤٨)؛ ورواه (رحمه الله) في معاني الأخبار (ص ٢٨٦/ باب معنى إسلام أبي طالب.../ ح ٢).
(٢٧٢) ويقال: آمُّويه - بالفتح وتشديد الميم وسكون الواو وفتح الياء -، وهي آمل المعروف مدينة بطبرستان.
↑صفحة ١٥٣↑
فَقَالَ لِي: خُذْ تِلْكَ السَّبِيكَةَ الَّتِي اشْتَرَيْتَهَا - وَأَشَارَ إِلَيْهَا بِيَدِهِ -، وَقَالَ: إِنَّ السَّبِيكَةَ الَّتِي ضَيَّعْتَهَا قَدْ وَصَلَتْ إِلَيْنَا وَهُوَ ذَا هِيَ، ثُمَّ أَخْرَجَ إِلَيَّ تِلْكَ السَّبِيكَةَ الَّتِي كَانَتْ ضَاعَتْ مِنِّي بِآمُّويَهْ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهَا فَعَرَفْتُهَا.
قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ المَعْرُوفُ بِأَبِي عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيُّ: وَرَأَيْتُ تِلْكَ السَّنَةَ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ امْرَأَةً، فَسَأَلَتْنِي عَنْ وَكِيلِ مَوْلَانَا (عليه السلام) مَنْ هُوَ؟ فَأَخْبَرَهَا بَعْضُ الْقُمِّيِّينَ أَنَّهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ، وَأَشَارَ إِلَيْهَا، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ وَأَنَا عِنْدَهُ، فَقَالَتْ لَهُ: أَيُّهَا الشَّيْخُ، أَيُّ شَيْءٍ مَعِي؟ فَقَالَ: مَا مَعَكِ فَأَلْقِيهِ فِي دِجْلَةَ ثُمَّ ائْتِينِي حَتَّى أُخْبِرَكِ، قَالَ: فَذَهَبَتِ المَرْأَةُ وَحَمَلَتْ مَا كَانَ مَعَهَا فَأَلْقَتْهُ فِي دِجْلَةَ، ثُمَّ رَجَعَتْ وَدَخَلَتْ إِلَى أَبِي الْقَاسِمِ الرَّوْحِيِّ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ)، فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ لِمَمْلُوكَةٍ لَهُ: أَخْرِجِي إِلَيَّ الْحُقَّ، فَأَخْرَجَتْ إِلَيْهِ حُقَّةً، فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: هَذِهِ الْحُقَّةُ الَّتِي كَانَتْ مَعَكِ وَرَمَيْتِ بِهَا فِي دِجْلَةَ، أُخْبِرُكِ بِمَا فِيهَا أَوْ تُخْبِرِينِي؟ فَقَالَتْ لَهُ: بَلْ أَخْبِرْنِي أَنْتَ، فَقَالَ: فِي هَذِهِ الْحُقَّةِ زَوْجُ سِوَارِ ذَهَبٍ، وَحَلْقَةٌ كَبِيرَةٌ فِيهَا جَوْهَرَةٌ، وَحَلْقَتَانِ صَغِيرَتَانِ فِيهِمَا جَوْهَرٌ، وَخَاتَمَانِ أَحَدُهُمَا فَيْرُوزَجٌ وَالْآخَرُ عَقِيقٌ. فَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَ لَمْ يُغَادِرْ مِنْهُ شَيْئاً. ثُمَّ فَتَحَ الْحُقَّةَ فَعَرَضَ عَلَيَّ مَا فِيهَا، فَنَظَرَتِ المَرْأَةُ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: هَذَا الَّذِي حَمَلْتُهُ بِعَيْنِهِ وَرَمَيْتُ بِهِ فِي دِجْلَةَ، فَغُشِيَ عَلَيَّ وَعَلَى المَرْأَةِ فَرَحاً بِمَا شَاهَدْنَاهُ مِنْ صِدْقِ الدَّلَالَةِ.
ثُمَّ قَالَ الْحُسَيْنُ لِي بَعْدَ مَا حَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ: أَشْهَدُ عِنْدَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا حَدَّثْتُ بِهِ أَنَّهُ كَمَا ذَكَرْتُهُ لَمْ أَزِدْ فِيهِ وَلَمْ أَنْقُصْ مِنْهُ، وَحَلَفَ بِالْأَئِمَّةِ
↑صفحة ١٥٤↑
الِاثْنَيْ عَشَرَ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِم) لَقَدْ صَدَقَ فِيمَا حَدَّثَ بِهِ وَمَا زَادَ فِيهِ وَمَا نَقَصَ مِنْهُ(٢٧٣).
وروى الشيخ الطوسي (رحمه الله) عَنِ اِبْنِ نُوحٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو نَصْرٍ هِبَةُ اَلله بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي جِيدٍ اَلْقُمِّيُّ (رحمه الله)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو اَلْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ اَلدَّلَّالُ اَلْقُمِّيُّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ (النائب الثاني) (رضي الله عنه) يَوْماً لِأُسَلِّمَ عَلَيْهِ، فَوَجَدْتُهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ سَاجَةٌ وَنَقَّاشٌ يَنْقُشُ عَلَيْهَا، وَيَكْتُبُ آياً مِنَ اَلْقُرْآنِ، وَأَسْمَاءَ اَلْأَئِمَّةِ (عليهم السلام) عَلَى حَوَاشِيهَا، فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَيِّدِي، مَا هَذِهِ اَلسَّاجَةُ؟
فَقَالَ لِي: هَذِهِ لِقَبْرِي تَكُونُ فِيهِ أُوضَعُ عَلَيْهَا - أَوْ قَالَ: أُسْنَدُ إِلَيْهَا -، وَقَدْ فَرِغْتُ مِنْهُ، وَأَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ أَنْزِلُ فِيهِ فَأَقْرَأُ جُزْءاً مِنَ اَلْقُرْآنِ فِيهِ فَأَصْعَدُ - وَأَظُنُّهُ قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَرَانِيهِ -، فَإِذَا كَانَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا وَكَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا وَكَذَا صِرْتُ إِلَى اَلله (عزَّ وجلَّ) وَدُفِنْتُ فِيهِ وَهَذِهِ اَلسَّاجَةُ مَعِي.
فَلَمَّا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ أَثْبَتُّ مَا ذَكَرَهُ، وَلَمْ أَزَلْ مُتَرَقِّباً بِهِ ذَلِكَ، فَمَا تَأَخَّرَ اَلْأَمْرُ حَتَّى اِعْتَلَّ أَبُو جَعْفَرٍ، فَمَاتَ فِي اَلْيَوْمِ اَلَّذِي ذَكَرَهُ مِنَ اَلشَّهْرِ اَلَّذِي قَالَهُ مِنَ اَلسَّنَةِ اَلَّتِي ذَكَرَهَا، وَدُفِنَ فِيهِ(٢٧٤).
وروى (رحمه الله) بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ اَلْأَسْوَدِ اَلْقُمِّيِّ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ اَلْعَمْرِيَّ (قدّس سرّه) حَفَرَ لِنَفْسِهِ قَبْراً وَسَوَّاهُ بِالسَّاجِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٧٣) كمال الدِّين (ص ٥١٨ و٥١٩/ باب ٤٥/ ح ٤٧).
(٢٧٤) الغيبة للطوسي (ص ٣٦٤ و٣٦٥/ ح ٣٣٢).
↑صفحة ١٥٥↑
لِلنَّاسِ أَسْبَابٌ، وَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَمْرِي، فَمَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَهْرَيْنِ (رَضِيَ اَللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ)(٢٧٥).
وقال الشيخ الطوسي (رحمه الله): أَخْبَرَنَا جَمَاعَةٌ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ هَارُونَ بْنِ مُوسَى (شيخ الطائفة في زمانه)، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ هَمَّامٍ (رَضِيَ اَللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ) (أشهر من أنْ يُعرَّف) أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيَّ (قَدَّسَ اَللهُ رُوحَهُ) جَمَعَنَا قَبْلَ مَوْتِهِ، وَكُنَّا وُجُوهَ اَلشِّيعَةِ وَشُيُوخَهَا، فَقَالَ لَنَا: إِنْ حَدَثَ عَلَيَّ حَدَثُ اَلمَوْتِ فَالْأَمْرُ إِلَى أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ اَلنَّوْبَخْتِيِّ، فَقَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَجْعَلَهُ فِي مَوْضِعِي بَعْدِي، فَارْجِعُوا إِلَيْهِ، وَعَوِّلُوا فِي أُمُورِكُمْ عَلَيْهِ(٢٧٦).
وروى (رحمه الله) أيضاً بسنده إلى أَبِي إِبْرَاهِيمَ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ اَلنَّوْبَخْتِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي أَبِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَعَمِّي أَبُو جَعْفَرٍ عَبْدُ اَلله بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِنَا - يَعْنِي بَنِي نَوْبَخْتَ -: إِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ اَلْعَمْرِيَّ لَـمَّا اِشْتَدَّتْ حَالُهُ اِجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ وُجُوهِ اَلشِّيعَةِ، مِنْهُمْ: أَبُو عَلِيٍّ بْنُ هَمَّامٍ، وَأَبُو عَبْدِ اَلله بْنُ مُحَمَّدٍ اَلْكَاتِبُ، وَأَبُو عَبْدِ اَلله اَلْبَاقَطَانِيُّ، وَأَبُو سَهْلٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ اَلنَّوْبَخْتِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اَلله بْنُ اَلْوَجْنَاءُ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ اَلْوُجُوهِ وَاَلْأَكَابِرِ، فَدَخَلُوا عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ (رضي الله عنه)، فَقَالُوا لَهُ: إِنْ حَدَثَ أَمْرٌ فَمَنْ يَكُونُ مَكَانَكَ؟ فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا أَبُو اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنُ بْنُ رَوْحِ بْنِ أَبِي بَحْرٍ اَلنَّوْبَخْتِيُّ اَلْقَائِمُ مَقَامِي، وَاَلسَّفِيرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٧٥) الغيبة للطوسي (ص ٣٦٥ و٣٦٦/ ح ٣٣٣)؛ ورواه الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص ٥٠٢/ باب ٤٥/ ح ٢٩)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج ٢/ ص ٢٦٨)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج ٣/ ص ١١٢٠/ ح ٣٦).
(٢٧٦) الغيبة للطوسي (ص ٣٧١/ ح ٣٤١).
↑صفحة ١٥٦↑
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ صَاحِبِ اَلْأَمْرِ (عليه السلام)، وَاَلْوَكِيلُ لَهُ، وَاَلثِّقَةُ اَلْأَمِينُ، فَارْجِعُوا إِلَيْهِ فِي أُمُورِكُمْ، وَعَوِّلُوا عَلَيْهِ فِي مُهِمَّاتِكُمْ، فَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، وَقَدْ بَلَّغْتُ(٢٧٧).
وقال الشيخ (رحمه الله): قَالَ اِبْنُ نُوحٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو نَصْرٍ هِبَةُ اَلله اِبْنُ بِنْتِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي جَعْفَرٍ اَلْعَمْرِيِّ، قَالَ: كَانَ لِأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيِّ كُتُبٌ مُصَنَّفَةٌ فِي اَلْفِقْهِ مِمَّا سَمِعَهَا مِنْ أَبِي مُحَمَّدٍ اَلْحَسَنِ (العسكري) (عليه السلام)، وَمِنَ اَلصَّاحِبِ (عليه السلام)، وَمِنْ أَبِيهِ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ وَعَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ اِبْنِ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام)، فِيهَا كُتُبٌ تَرْجَمَتُهَا كُتُبُ اَلْأَشْرِبَةِ.
ذَكَرَتِ اَلْكَبِيرَةُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ أَبِي جَعْفَرٍ (رضي الله عنها) أَنَّهَا وَصَلَتْ إِلَى أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (رضي الله عنه) عِنْدَ اَلْوَصِيَّةِ إِلَيْهِ، وَكَانَتْ فِي يَدِهِ.
قَالَ أَبُو نَصْرٍ: وَأَظُنُّهَا قَالَتْ: وَصَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَبِي اَلْحَسَنِ اَلسَّمُرِيِّ (رَضِيَ اَللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ)(٢٧٨).
وقال (رحمه الله): قَالَ أَبُو اَلْعَبَّاسِ: وَأَخْبَرَنِي هِبَةُ اَلله بْنُ مُحَمَّدٍ اِبْنِ بِنْتِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي جَعْفَرٍ اَلْعَمْرِيِّ (رضي الله عنه)، عَنْ شُيُوخِهِ، قَالُوا: لَمْ تَزَلِ اَلشِّيعَةُ مُقِيمَةً عَلَى عَدَالَةِ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ رَحِمَهُمَا اَللهُ تَعَالَى إِلَى أَنْ تُوُفِّي أَبُو عَمْرو عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ رَحِمَهُ اَللهُ تَعَالَى، وَغَسَّلَهُ اِبْنُهُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ اِبْنُ عُثْمَانَ، وَتَوَلَّى اَلْقِيَامَ بِهِ، وَجُعِلَ اَلْأَمْرُ كُلُّهُ مَرْدُوداً إِلَيْهِ، وَاَلشِّيعَةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى عَدَالَتِهِ وَثِقَتِهِ وَأَمَانَتِهِ، لِمَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنَ اَلنَّصِّ عَلَيْهِ بِالْأَمَانَةِ وَاَلْعَدَالَةِ، وَاَلْأَمْرِ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ فِي حَيَاةِ اَلْحَسَنِ (العسكري) (عليه السلام)، وَبَعْدَ مَوْتِهِ فِي حَيَاةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٧٧) الغيبة للطوسي (ص ٣٧١/ ح ٣٤٢).
(٢٧٨) الغيبة للطوسي (ص ٣٦٣/ ح ٣٢٨).
↑صفحة ١٥٧↑
أَبِيهِ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ، لَا يَخْتَلِفُ فِي عَدَالَتِهِ، وَلَا يَرْتَابُ بِأَمَانَتِهِ، وَاَلتَّوْقِيعَاتُ تَخْرُجُ عَلَى يَدِهِ إِلَى اَلشِّيعَةِ فِي اَلمُهِمَّاتِ طُولَ حَيَاتِهِ بِالْخَطِّ اَلَّذِي كَانَتْ تَخْرُجُ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ عُثْمَانَ، لَا يَعْرِفُ اَلشِّيعَةُ فِي هَذَا اَلْأَمْرِ غَيْرَهُ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَى أَحَدٍ سِوَاهُ.
وَقَدْ نُقِلَتْ عَنْهُ دَلَائِلُ كَثِيرَةٌ، وَمُعْجِزَاتُ اَلْإِمَامِ ظَهَرَتْ عَلَى يَدِهِ، وَأُمُورٌ أَخْبَرَهُمْ بِهَا عَنْهُ زَادَتْهُمْ فِي هَذَا اَلْأَمْرِ بَصِيرَةً، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ اَلشِّيعَةِ.
وقد قدَّمنا طرفاً منها، فلا نُطوِّل بإعادتها، فإنَّ في ذلك كفاية للمنصف إنْ شاء الله تعالى(٢٧٩).
وقال الشيخ الطوسي (رحمه الله) في كتاب (الغيبة): (فأمَّا السفراء الممدوحون في زمان الغيبة، فأوَّلهم: من نصَّبه أبو الحسن عليِّ بن محمّد (الهادي) العسكري، وأبو محمّد الحسن بن عليِّ بن محمّد ابنه (عليهم السلام)، وهو الشيخ الموثوق به أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري (رحمه الله)، وكان أسديًّا...)(٢٨٠)، إلى أنْ قال:
فَأَخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ هَارُونَ بْنِ مُوسَى، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ مُحَمَّدِ بْنِ هَمَّامٍ اَلْإِسْكَافِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اَلله بْنُ جَعْفَرٍ اَلْحِمْيَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ اِبْنُ إِسْحَاقَ بْنِ سَعْدٍ اَلْقُمِّيُّ(٢٨١)، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي اَلْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ (الهادي) (صَلَوَاتُ اَلله عَلَيْهِ) فِي يَوْمٍ مِنَ اَلْأَيَّامِ، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، أَنَا أَغِيبُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٧٩) الغيبة للطوسي (ص ٣٦٢ و٣٦٣/ ح ٣٢٧).
(٢٨٠) الغيبة للطوسي (ص ٣٥٣).
(٢٨١) السند والطريق كلُّهم من أعلام وأجلَّاء الطائفة.
↑صفحة ١٥٨↑
وَأَشْهَدُ، وَلَا يَتَهَيَّأُ لِيَ اَلْوُصُولُ إِلَيْكَ إِذَا شَهِدْتُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَقَوْلَ مَنْ نَقْبَلُ، وَأَمْرَ مَنْ نَمْتَثِلُ؟
فَقَالَ لِي (صَلَوَاتُ اَلله عَلَيْهِ): «هَذَا أَبُو عَمْرٍو اَلثِّقَةُ اَلْأَمِينُ، مَا قَالَهُ لَكُمْ فَعَنِّي يَقُولُهُ، وَمَا أَدَّاهُ إِلَيْكُمْ فَعَنِّي يُؤَدِّيهِ».
فَلَمَّا مَضَى أَبُو اَلْحَسَنِ (الهادي) (عليه السلام) وَصَلْتُ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ اِبْنِهِ اَلْحَسَنِ اَلْعَسْكَرِيِّ (عليه السلام) ذَاتَ يَوْمٍ، فَقُلْتُ لَهُ (عليه السلام) مِثْلَ قَوْلِي لِأَبِيهِ.
فَقَالَ لِي: «هَذَا أَبُو عَمْرٍو اَلثِّقَةُ اَلْأَمِينُ، ثِقَةُ اَلمَاضِي وَثِقَتِي فِي اَلمَحْيَا وَاَلمَمَاتِ، فَمَا قَالَهُ لَكُمْ فَعَنِّي يَقُولُهُ، وَمَا أَدَّى إِلَيْكُمْ فَعَنِّي يُؤَدِّيهُ».
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ هَارُونُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَالَ أَبُو اَلْعَبَّاسِ اَلْحِمْيَرِيُّ: فَكُنَّا كَثِيراً مَا نَتَذَاكَرُ هَذَا اَلْقَوْلَ، وَنَتَوَاصَفُ جَلَالَةَ مَحَلِّ أَبِي عَمْرٍو(٢٨٢).
وروى (رحمه الله) بسنده إلى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَعَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اَلله اَلْحَسَنِيَّيْنِ، قَالَا: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ اَلْحَسَنِ (عليه السلام) بِسُرَّ مَنْ رَأَى وَبَيْنَ يَدَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَشِيعَتِهِ، حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ بَدْرٌ خَادِمُهُ، فَقَالَ: يَا مَوْلَايَ، بِالْبَابِ قَوْمٌ شُعْثٌ غُبْرٌ.
فَقَالَ لَهُمْ: «هَؤُلَاءِ نَفَرٌ مِنْ شِيعَتِنَا بِالْيَمَنِ» فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ يَسُوقَانِهِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى أَنْ قَالَ اَلْحَسَنُ (عليه السلام) لِبَدْرٍ: «فَامْضِ فَائْتِنَا بِعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ اَلْعَمْرِيِّ»، فَمَا لَبِثْنَا إِلَّا يَسِيراً حَتَّى دَخَلَ عُثْمَانُ، فَقَالَ لَهُ سَيِّدُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام): «اِمْضِ يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّكَ اَلْوَكِيلُ وَاَلثِّقَةُ اَلمَأْمُونُ عَلَى مَالِ اَلله، وَاِقْبِضْ مِنْ هَؤُلَاءِ اَلنَّفَرِ اَلْيَمَنِيِّينَ مَا حَمَلُوهُ مِنَ اَلمَالِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٨٢) الغيبة للطوسي (ص ٣٥٤ و٣٥٥/ ح ٣١٥).
↑صفحة ١٥٩↑
ثُمَّ سَاقَ اَلْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَا: ثُمَّ قُلْنَا بِأَجْمَعِنَا: يَا سَيِّدَنَا، وَاَلله إِنَّ عُثْمَانَ لَمِنْ خِيَارِ شِيعَتِكَ، وَلَقَدْ زِدْتَنَا عِلْماً بِمَوْضِعِهِ مِنْ خِدْمَتِكَ، وَأَنَّهُ وَكِيلُكَ وَثِقَتُكَ عَلَى مَالِ اَلله تَعَالَى.
قَالَ: «نَعَمْ، وَاِشْهَدُوا عَلَى أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ سَعِيدٍ اَلْعَمْرِيَّ وَكِيلِي، وَأَنَّ اِبْنَهُ مُحَمَّداً وَكِيلُ اِبْنِي مَهْدِيِّكُمْ»(٢٨٣).
وروى (رحمه الله) بسنده عن جماعة من الشيعة منهم محمّد بن معاوية بن حكيم، والحسن بن أيُّوب بن نوح (في خبر طويل مشهور)، قَالُوا جَمِيعاً: اِجْتَمَعْنَا إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (العسكري) (عليهما السلام) نَسْأَلُهُ عَنِ اَلْحُجَّةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَفِي مَجْلِسِهِ (عليه السلام) أَرْبَعُونَ رَجُلاً، فَقَامَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو اَلْعَمْرِيُّ، فَقَالَ لَهُ: يَا اِبْنَ رَسُولِ اَلله، أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ أَمْرٍ أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي. فَقَالَ لَهُ: «اِجْلِسْ، يَا عُثْمَانُ»، فَقَامَ مُغْضَباً لِيَخْرُجَ، فَقَالَ: «لَا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ»، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنَّا أَحَدٌ إِلَى أَنْ كَانَ بَعْدَ سَاعَةٍ، فَصَاحَ (عليه السلام) بِعُثْمَانَ، فَقَامَ عَلَى قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: «أُخْبِرُكُمْ بِمَا جِئْتُمْ؟». قَالُوا: نَعَمْ، يَا اِبْنَ رَسُولِ اَلله. قَالَ: «جِئْتُمْ تَسْأَلُونِّي عَنِ اَلْحُجَّةِ مِنْ بَعْدِي؟». قَالُوا: نَعَمْ. فَإِذَا غُلَامٌ كَأَنَّهُ قِطَعُ قَمَرٍ أَشْبَهُ اَلنَّاسِ بِأَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَقَالَ: «هَذَا إِمَامُكُمْ مِنْ بَعْدِي، وَخَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ، أَطِيعُوهُ وَلَا تَتَفَرَّقُوا مِنْ بَعْدِي فَتَهْلِكُوا فِي أَدْيَانِكُمْ، أَلَا وَإِنَّكُمْ لَا تَرَوْنَهُ مِنْ بَعْدِ يَوْمِكُمْ هَذَا حَتَّى يَتِمَّ لَهُ عُمُرٌ، فَاقْبَلُوا مِنْ عُثْمَانَ مَا يَقُولُهُ، وَاِنْتَهُوا إِلَى أَمْرِهِ، وَاِقْبَلُوا قَوْلَهُ، فَهُوَ خَلِيفَةُ إِمَامِكُمْ، وَاَلْأَمْرُ إِلَيْهِ» فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ(٢٨٤).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٨٣) الغيبة للطوسي (ص ٣٥٥ و٣٥٦/ ح ٣١٧).
(٢٨٤) الغيبة للطوسي (ص ٣٥٧/ ح ٣١٩)؛ ورواه الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص ٤٣٥/ باب ٤٣/ ح ٢)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج ٢/ ص ٢٥٢).
↑صفحة ١٦٠↑
وقال (رحمه الله): وَأَخْبَرَنَا جَمَاعَةٌ، عَنْ أَبِي اَلْقَاسِمِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قُولَوَيْهِ وَأَبِي غَالِبٍ اَلزُّرَارِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ اَلتَّلَّعُكْبَرِيِّ، كُلِّهِمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ اَلْكُلَيْنِيِّ (رَحِمَهُ اَللهُ تَعَالَى)، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اَلله وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اَلله بْنِ جَعْفَرٍ اَلْحِمْيَرِيِّ(٢٨٥)، قَالَ: اِجْتَمَعْتُ أَنَا وَاَلشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ سَعْدٍ اَلْأَشْعَرِيِّ اَلْقُمِّيِّ، فَغَمَزَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنِ اَلْخَلَفِ.
فَقُلْتُ لَهُ: يَا بَا عَمْرٍو، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ، وَمَا أَنَا بِشَاكٍّ فِيمَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهُ، فَإِنَّ اِعْتِقَادِي وَدِينِي أَنَّ اَلْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ إِلَّا إِذَا كَانَ قَبْلَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ بِأَرْبَعِينَ يَوْماً، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ وَقَعَتِ اَلْحُجَّةُ وَغُلِّقَ بَابُ اَلتَّوْبَةِ، فَلَمْ يَكُنْ يَنْفَعُ ﴿نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً﴾ [الأنعام: ١٥٨]، فَأُولَئِكَ أَشْرَارٌ مِنْ خَلْقِ اَلله (عزَّ وجلَّ)، وَهُمُ اَلَّذِينَ تَقُومُ عَلَيْهِمُ اَلْقِيَامَةُ، وَلَكِنْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَزْدَادَ يَقِيناً، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُحْيِي اَلمَوْتَى، فَقَالَ: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠]، وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَبُو عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي اَلْحَسَنِ (عليه السلام)، قَالَ: سَأَلْتُهُ، فَقُلْتُ لَهُ: لِمَنْ أُعَامِلُ، وَعَمَّنْ آخُذُ، وَقَوْلَ مَنْ أَقْبَلُ؟ فَقَالَ لَهُ: «اَلْعَمْرِيُّ ثِقَتِي، فَمَا أَدَّى إِلَيْكَ فَعَنِّي يُؤَدِّي، وَمَا قَالَ لَكَ فَعَنِّي يَقُولُ، فَاسْمَعْ لَهُ وَأَطِعْ، فَإِنَّهُ اَلثِّقَةُ اَلمَأْمُونُ».
قَالَ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو عَلِيٍّ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا مُحَمَّدٍ اَلْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: «اَلْعَمْرِيُّ وَاِبْنُهُ ثِقَتَانِ، فَمَا أَدَّيَا إِلَيْكَ فَعَنِّي يُؤَدِّيَانِ، وَمَا قَالَا لَكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٨٥) والطريق كلُّه من أعلام الطائفة وشيوخها.
↑صفحة ١٦١↑
فَعَنِّي يَقُولَانِ، فَاسْمَعْ لَهُمَا وَأَطِعْهُمَا فَإِنَّهُمَا اَلثِّقَتَانِ اَلمَأْمُونَانِ»، فَهَذَا قَوْلُ إِمَامَيْنِ قَدْ مَضَيَا فِيكَ.
قَالَ: فَخَرَّ أَبُو عَمْرٍو سَاجِداً وَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: سَلْ، فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ رَأَيْتَ اَلْخَلَفَ مِنْ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)؟ فَقَالَ: إِي وَاَلله، وَرَقَبَتُهُ مِثْلُ ذَا - وَأَوْمَأَ بِيَدَيْهِ -، فَقُلْتُ لَهُ: فَبَقِيَتْ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ لِي: هَاتِ، قُلْتُ: فَالْاِسْمُ.
قَالَ: مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْأَلُوا عَنْ ذَلِكَ، وَلَا أَقُولُ هَذَا مِنْ عِنْدِي، وَلَيْسَ لِي أَنْ أُحَلِّلَ وَأُحَرِّمَ، وَلَكِنْ عَنْهُ (عليه السلام)، فَإِنَّ اَلْأَمْرَ عِنْدَ اَلسُّلْطَانِ أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ (عليه السلام) مَضَى وَلَمْ يُخَلِّفْ وَلَداً، وَقَسَّمَ مِيرَاثَهُ، وَأَخَذَهُ مَنْ لَا حَقَّ لَهُ، وَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ ذَا عِيَالُهُ يَجُولُونَ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَجْسُرُ أَنْ يَتَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ أَوْ يُنِيلَهُمْ شَيْئاً، وَإِذَا وَقَعَ اَلاِسْمُ وَقَعَ اَلطَّلَبُ، فَاتَّقُوا اَللهَ وَأَمْسِكُوا عَنْ ذَلِكَ(٢٨٦).
وروى (رحمه الله) عَنْ جَمَاعَةٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى بْنِ بَابَوَيْهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ هَارُونَ اَلْفَامِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَلله بْنِ جَعْفَرٍ اَلْحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اَلله بْنِ جَعْفَرٍ اَلْحِمْيَرِيِّ، قَالَ: خَرَجَ اَلتَّوْقِيعُ إِلَى اَلشَّيْخِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ اَلْعَمْرِيِّ (قَدَّسَ اَللهُ رُوحَهُ) فِي اَلتَّعْزِيَةِ بِأَبِيهِ (رَضِيَ اَللهُ تَعَالَى عَنْهُ)، وَفِي فَصْلٍ مِنَ اَلْكِتَابِ: «إِنَّا لِله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، تَسْلِيماً لِأَمْرِهِ وَرِضًى بِقَضَائِهِ، عَاشَ أَبُوكَ سَعِيداً وَمَاتَ حَمِيداً، فَرَحِمَهُ اَللهُ وَأَلْحَقَهُ بِأَوْلِيَائِهِ وَمَوَالِيهِ (عليهم السلام)، فَلَمْ يَزَلْ مُجْتَهِداً فِي أَمْرِهِمْ، سَاعِياً فِيمَا يُقَرِّبُهُ إِلَى اَلله (عزَّ وجلَّ) وَإِلَيْهِمْ، نَضَّرَ اَللهُ وَجْهَهُ، وَأَقَالَهُ عَثْرَتَهُ».
وَفِي فَصْلٍ آخَرَ: «أَجْزَلَ اَللهُ لَكَ اَلثَّوَابَ، وَأَحْسَنَ لَكَ اَلْعَزَاءَ، رُزِئْتَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٨٦) الغيبة للطوسي (ص ٣٥٩ - ٣٦١/ ح ٣٢٢).
↑صفحة ١٦٢↑
وَرُزِئْنَا، وَأَوْحَشَكَ فِرَاقُهُ وَأَوْحَشَنَا، فَسَرَّهُ اَللهُ فِي مُنْقَلَبِهِ، وَكَانَ مِنْ كَمَالِ سَعَادَتِهِ أَنْ رَزَقَهُ اَللهُ تَعَالَى وَلَداً مِثْلَكَ يَخْلُفُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ بِأَمْرِهِ، وَيَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ. وَأَقُولُ: اَلْحَمْدُ لِله، فَإِنَّ اَلْأَنْفُسَ طَيِّبَةٌ بِمَكَانِكَ، وَمَا جَعَلَهُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) فِيكَ وَعِنْدَكَ، أَعَانَكَ اَللهُ وَقَوَّاَك، وَعَضَدَكَ وَوَفَّقَكَ، وَكَانَ لَكَ وَلِيًّا وَحَافِظاً وَرَاعِياً وَكَافِياً»(٢٨٧).
أقول: هذا طرف يسير ممَّا ورد في النُّوَّاب الأربعة في الغيبة الصغرى (٢٦٠- ٣٢٩هـ)، ومنه تتنبَّه لمراد الشيخ الطوسي (رحمه الله) حيث يقول: (وَقَدْ نُقِلَتْ عَنْهُ (أي النائب الثاني) دَلَائِلُ كَثِيرَةٌ، وَمُعْجِزَاتُ اَلْإِمَامِ ظَهَرَتْ عَلَى يَدِهِ، وَأُمُورٌ أَخْبَرَهُمْ بِهَا عَنْهُ زَادَتْهُمْ (أي زادت الشيعة) فِي هَذَا اَلْأَمْرِ بَصِيرَةً، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ اَلشِّيعَةِ)(٢٨٨).
ولمراد الشيخ الطبرسي (رحمه الله) حيث يقول: (ولم يقم أحد منهم (أي من الأربعة) بذلك إلَّا بنصٍّ عليه من قِبَل صاحب الأمر (عليه السلام)، ونصب صاحبه الذي تقدَّم عليه، ولم تقبل الشيعة قولهم إلَّا بعد ظهور آية معجزة تظهر على يد كلِّ واحدٍ منهم من قِبَل صاحب الأمر (عليه السلام)، تدلُّ على صدق مقالتهم، وصحَّة بابيَّتهم)(٢٨٩).
أقول: بل النائب الأوَّل والثاني نصَّ عليهما الإمام الحسن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٨٧) الغيبة للطوسي (ص ٣٦١/ ح ٣٢٣)؛ ورواه الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص ٥١٠/ باب ٤٥/ ح ٤١)؛ والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج ٣/ ص ١١١٢/ح ٢٨)، والطبرسي (رحمه الله) في الاحتجاج (ج ٢/ ص ٣٠٠ و٣٠١).
(٢٨٨) الغيبة للطوسي (ص ٣٦٣).
(٢٨٩) الاحتجاج (ج ٢/ ص ٢٩٦ و٢٩٧).
↑صفحة ١٦٣↑
العسكري (عليه السلام) كما تقدَّمت الرواية التي رواها شيخ الطائفة عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، والنائب الأوَّل كان وكيلاً خاصًّا للإمام الهادي (عليه السلام)، ثمّ للإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، ثمّ سفيراً للصاحب (عجَّل الله فرجه).
فليتنبَّه اللبيب إلى كيفيَّة ثبوت سفارة النُّوَّاب الأربعة وبدئها وانتهائها لدى الشيعة وأعلامها وشيوخها، وأنَّ ذلك كان بحضور الإمام العسكري (عليه السلام)، ثمّ تنصيص كلٍّ على الآخر، مع ما ظهر من البراهين والدلائل على أيديهم، ومع مكانتهم العلميَّة والفقهيَّة، وجلالة محلِّهم لدى علماء الطائفة.
* * *
↑صفحة ١٦٤↑
الأمر السابع: ذكر المذمومين الذين ادَّعوا البابيَّة (لعنهم الله):
قال الشيخ الطوسي (رحمه الله) في كتاب (الغيبة):
ذكر المذمومين الذين ادَّعوا البابيَّة (لعنهم الله):
أوّلهم: المعروف بالشريعي:
أَخْبَرَنَا جَمَاعَةٌ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ اَلتَّلَّعُكْبَرِيِّ (هارون بن موسى)، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ مُحَمَّدِ بْنِ هَمَّامٍ، قَالَ: كَانَ اَلشَّرِيعِيُّ يُكَنَّى بِأَبِي مُحَمَّدٍ. قَالَ هَارُونُ: وَأَظُنُّ اِسْمَهُ كَانَ اَلْحَسَنَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي اَلْحَسَنِ عَلِيِّ اِبْنِ مُحَمَّدٍ (الهادي)، ثُمَّ اَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ بَعْدَهُ (عليهما السلام)، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اِدَّعَى مَقَاماً لَمْ يَجْعَلْهُ اَللهُ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَهْلاً لَهُ، وَكَذَبَ عَلَى اَلله وَعَلَى حُجَجِهِ (عليهم السلام)، وَنَسَبَ إِلَيْهِمْ مَا لَا يَلِيقُ بِهِمْ، وَمَا هُمْ مِنْهُ بِرَاءٌ، فَلَعَنَتْهُ اَلشِّيعَةُ وَتَبَرَّأَتْ مِنْهُ، وَخَرَجَ تَوْقِيعُ اَلْإِمَامِ(عليه السلام) بِلَعْنِهِ وَاَلْبَرَاءَةِ مِنْهُ. قَالَ هَارُونُ: ثُمَّ ظَهَرَ مِنْهُ اَلْقَوْلُ بِالْكُفْرِ وَاَلْإِلْحَادِ. قَالَ: وَكُلُّ هَؤُلَاءِ اَلمُدَّعِينَ إِنَّمَا يَكُونُ كَذِبُهُمْ أَوَّلاً عَلَى اَلْإِمَامِ وَأَنَّهُمْ وُكَلَاؤُهُ، فَيَدْعُونَ اَلضَّعَفَةَ بِهَذَا اَلْقَوْلِ إِلَى مُوَالَاتِهِمْ، ثُمَّ يَتَرَقَّى اَلْأَمْرُ بِهِمْ إِلَى قَوْلِ اَلْحَلَّاجِيَّةِ (وهو القول بالحلول، أي حلول الله (عزَّ وجلَّ) - والعياذ بالله - فيهم)، كَمَا اِشْتَهَرَ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ اَلشَّلْمَغَانِيِّ وَنُظَرَائِهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعاً لَعَائِنُ اَلله تَتْرَى(٢٩٠).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٩٠) أقول: وهذا المسير بعينه سار فيه الملعون مدَّعي البابيَّة في إيران في القرن الثالث عشر الهجري، فادَّعى أوَّلاً الوكالة، ثمّ المهدويَّة، ثمّ إلى الأباطيل الأُخرى التي سنوافيك بها في فصل لاحق.
↑صفحة ١٦٥↑
ومنهم: محمّد بن نصير النميري:
قَالَ اِبْنُ نُوحٍ: أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ هِبَةُ اَلله بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ اِبْنُ نُصَيْرٍ اَلنُّمَيْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي مُحَمَّدٍ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام)، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو مُحَمَّدٍ اِدَّعَى مَقَامَ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ أَنَّهُ صَاحِبُ إِمَامِ اَلزَّمَانِ، وَاِدَّعَى لَهُ اَلْبَابِيَّةَ، وَفَضَحَهُ اَلله تَعَالَى بِمَا ظَهَرَ مِنْهُ مِنَ اَلْإِلْحَادِ وَاَلْجَهْلِ وَلَعْنِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ اِبْنِ عُثْمَانَ لَهُ، وَتَبَرِّيهِ مِنْهُ، وَاِحْتِجَابِهِ عَنْهُ. وَاِدَّعَى ذَلِكَ اَلْأَمْرَ بَعْدَ اَلشَّرِيعِيِّ.
قَالَ أَبُو طَالِبٍ اَلْأَنْبَارِيُّ: لَـمَّا ظَهَرَ مُحَمَّدُ بْنُ نُصَيْرٍ بِمَا ظَهَرَ لَعَنَهُ أَبُو جَعْفَرٍ (النائب الثاني أبو جعفر العمري) (رضي الله عنه) وَتَبَرَّأَ مِنْهُ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ، فَقَصَدَ أَبَا جَعْفَرٍ (رضي الله عنه) لِيَعْطِفَ بِقَلْبِهِ عَلَيْهِ أَوْ يَعْتَذِرَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، وَحَجَبَهُ، وَرَدَّهُ خَائِباً.
وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اَلله: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ نُصَيْرٍ اَلنُّمَيْرِيُّ يَدَّعِي أَنَّهُ رَسُولُ نَبِيٍّ، وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ (الهادي) (عليه السلام) أَرْسَلَهُ، وَكَانَ يَقُولُ بِالتَّنَاسُخِ (أي إنَّ أرواح الأموات تحلُّ في أجسام الأحياء)، وَيَغْلُو فِي أَبِي اَلْحَسَنِ (عليه السلام)، وَيَقُولُ فِيهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَيَقُولُ بِالْإِبَاحَةِ لِلْمَحَارِمِ، وَتَحْلِيلِ نِكَاحِ اَلرِّجَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً فِي أَدْبَارِهِمْ، وَيَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اَلتَّوَاضُعِ وَاَلْإِخْبَاتِ وَاَلتَّذَلُّلِ فِي اَلمَفْعُولِ بِهِ، وَأَنَّهُ مِنَ اَلْفَاعِلِ إِحْدَى اَلشَّهَوَاتِ وَاَلطَّيِّبَاتِ، وَأَنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) لَا يُحَرِّمُ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ اَلْحَسَنِ بْنِ اَلْفُرَاتِ يُقَوِّي أَسْبَابَهُ وَيَعْضُدُهُ (أي كان داعيةً له، وناشراً لأُكذوبته).
أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ اِبْنِ
↑صفحة ١٦٦↑
خَاقَانَ أَنَّهُ رَآهُ عِيَاناً وَغُلَامٌ لَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، قَالَ: فَلَقِيتُهُ، فَعَاتَبْتُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا مِنَ اَللَّذَّاتِ، وَهُوَ مِنَ اَلتَّوَاضُعِ لِله وَتَرْكِ اَلتَّجَبُّرِ.
قَالَ سَعْدٌ: فَلَمَّا اِعْتَلَّ مُحَمَّدُ بْنُ نُصَيْرٍ اَلْعِلَّةَ اَلَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا، قِيلَ لَهُ وَهُوَ مُثْقَلُ اَللِّسَانِ: لِمَنْ هَذَا اَلْأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ؟ فَقَالَ بِلِسَانٍ ضَعِيفٍ مُلَجْلَجٍ: أَحْمَدَ، فَلَمْ يَدْرُوا مَنْ هُوَ، فَافْتَرَقُوا بَعْدَهُ ثَلَاثَ فِرَقٍ، قَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّهُ أَحْمَدُ اِبْنُهُ، وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: هُوَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ اَلْفُرَاتِ، وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: إِنَّهُ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي اَلْحُسَيْنِ بْنِ بِشْرِ بْنِ يَزِيدَ، فَتَفَرَّقُوا، فَلَا يَرْجِعُونَ إِلَى شَيْءٍ.
ومنهم: أحمد بن هلال الكرخي:
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ بْنُ هَمَّامٍ: كَانَ أَحْمَدُ بْنُ هِلَالٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي مُحَمَّدٍ (العسكري) (عليه السلام)، فَاجْتَمَعَتِ اَلشِّيعَةُ عَلَى وَكَالَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ (رضي الله عنه) بِنَصِّ اَلْحَسَنِ (عليه السلام) فِي حَيَاتِهِ، وَلَـمَّا مَضَى اَلْحَسَنُ (عليه السلام) قَالَتِ اَلشِّيعَةُ اَلْجَمَاعَةُ لَهُ: أَلَا تَقْبَلُ أَمْرَ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ وَتَرْجِعُ إِلَيْهِ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ اَلْإِمَامُ اَلمُفْتَرَضُ اَلطَّاعَةُ (أي الإمام العسكري (عليه السلام))؟ فَقَالَ لَهُمْ: لَمْ أَسْمَعْهُ يَنُصُّ عَلَيْهِ بِالْوَكَالَةِ، وَلَيْسَ أُنْكِرُ أَبَاهُ - يَعْنِي عُثْمَانَ بْنَ سَعِيدٍ -، فَأَمَّا أَنْ أَقْطَعَ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ وَكِيلُ صَاحِبِ اَلزَّمَانِ فَلَا أَجْسُرُ عَلَيْهِ، فَقَالُوا له: قَدْ سَمِعَهُ غَيْرُكَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ وَمَا سَمِعْتُمْ، وَوَقَفَ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ، فَلَعَنُوهُ وَتَبَرَّءُوا مِنْهُ، ثُمَّ ظَهَرَ اَلتَّوْقِيعُ عَلَى يَدِ أَبِي اَلْقَاسِمِ بْنِ رَوْحٍ بِلَعْنِهِ وَاَلْبَرَاءَةِ مِنْهُ فِي جُمْلَةِ مَنْ لَعَنَ.
ومنهم: أبو طاهر محمّد بن عليّ بن بلال:
وقصَّته معروفة فيما جرى بينه وبين أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري (نضَّر الله وجهه)، وتمسُّكه بالأموال التي كانت عنده للإمام، وامتناعه من
↑صفحة ١٦٧↑
تسليمها، وادِّعائه أنَّه الوكيل حتَّى تبرَّأت الجماعة منه ولعنوه، وخرج فيه من صاحب الزمان (عليه السلام) ما هو معروف.
وَحَكَى أَبُو غَالِبٍ اَلزُّرَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو اَلْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ اِبْنِ يَحْيَى اَلمُعَاذِيُّ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِنَا قَدِ اِنْضَوَى إِلَى أَبِي طَاهِرِ بْنِ بِلَالٍ بَعْدَ مَا وَقَعَتِ اَلْفُرْقَةُ، ثُمَّ إِنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَصَارَ فِي جُمْلَتِنَا، فَسَأَلْنَاهُ عَنِ اَلسَّبَبِ.
قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي طَاهِرِ بْنِ بِلَالٍ يَوْماً وَعِنْدَهُ أَخُوهُ أَبُو اَلطَّيِّبِ وَاِبْنُ حِرْزٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، إِذْ دَخَلَ اَلْغُلَامُ فَقَالَ: أَبُو جَعْفَرٍ اَلْعَمْرِيُّ عَلَى اَلْبَابِ، فَفَزِعَتِ اَلْجَمَاعَةُ لِذَلِكَ، وَأَنْكَرْتُهُ لِلْحَالِ اَلَّتِي كَانَتْ جَرَتْ، وَقَالَ: يَدْخُلُ.
فَدَخَلَ أَبُو جَعْفَرٍ (رضي الله عنه)، فَقَامَ لَهُ أَبُو طَاهِرٍ وَاَلْجَمَاعَةُ، وَجَلَسَ فِي صَدْرِ اَلمَجْلِسِ، وَجَلَسَ أَبُو طَاهِرٍ كَالْجَالِسِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَمْهَلَهُمْ إِلَى أَنْ سَكَتُوا، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا طَاهِرٍ، نَشَدْتُكَ اَلله - أَوْ نَشَدْتُكَ بِالله -، أَلَمْ يَأْمُرْكَ صَاحِبُ اَلزَّمَانِ (عليه السلام) بِحَمْلِ مَا عِنْدَكَ مِنَ اَلمَالِ إِلَيَّ؟ فَقَالَ: اَللَّهُمَّ نَعَمْ، فَنَهَضَ أَبُو جَعْفَرٍ (رضي الله عنه) مُنْصَرِفاً، وَوَقَعَتْ عَلَى اَلْقَوْمِ سَكْتَةٌ، فَلَمَّا تَجَلَّتْ عَنْهُمْ قَالَ لَهُ أَخُوهُ أَبُو اَلطَّيِّبِ: مِنْ أَيْنَ رَأَيْتَ صَاحِبَ اَلزَّمَانِ؟
فَقَالَ أَبُو طَاهِرٍ: أَدْخَلَنِي أَبُو جَعْفَرٍ (رضي الله عنه) إِلَى بَعْضِ دُورِهِ، فَأَشْرَفَ عَلَيَّ مِنْ عُلُوِّ دَارِهِ، فَأَمَرَنِي بِحَمْلِ مَا عِنْدِي مِنَ اَلمَالِ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو اَلطَّيِّبِ: وَمِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ أَنَّهُ صَاحِبُ اَلزَّمَانِ (عليه السلام)؟ قَالَ: قَدْ وَقَعَ عَلَيَّ(٢٩١) مِنَ اَلْهَيْبَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٩١) أقول: فليتنبَّه المؤمنين (رعاهم الله) إلى العبرة من حال المبطل أبي طاهر ابن بلال، فإنَّه مع رؤيته للصاحب (عجّل الله فرجه) لم يرتدع عن كذبه وباطله.
وهكذا الخوارج فإنَّهم شاهدوا أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وعاشوا في عصره، ومع ذلك لم يتَّبعوه ويطيعوه (عليه السلام)، فالعبرة بالإيمان لا بالرؤية لهم (عليهم السلام)، ولذا تلهَّف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على إخوانه في الخطبة المعروفة، فسأل أصحابه: أوَلسنا إخوانك؟ فقال: لا، «بل هم قوم يأتون في آخر الزمان، يؤمنون بسواد على ورق».
وسيأتي في الأمر الثامن ما له صلة بذلك.
↑صفحة ١٦٨↑
لَهُ، وَدَخَلَنِي مِنَ اَلرُّعْبِ مِنْهُ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ صَاحِبُ اَلزَّمَانِ (عليه السلام)، فَكَانَ هَذَا سَبَبَ اِنْقِطَاعِي عَنْهُ.
ومنهم: الحسين بن منصور الحلَّاج:
أَخْبَرَنَا اَلْحُسَيْنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي اَلْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ نُوحٍ، عَنْ أَبِي نَصْرٍ هِبَةِ اَلله بْنِ مُحَمَّدٍ اَلْكَاتِبِ اِبْنِ بِنْتِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي جَعْفَرٍ اَلْعَمْرِيِّ، قَالَ: لَـمَّا أَرَادَ اَللهُ تَعَالَى أَنْ يَكْشِفَ أَمْرَ اَلْحَلَّاجِ وَيُظْهِرَ فَضِيحَتَهُ وَيُخْزِيَهُ، وَقَعَ لَهُ (أي اعتقد) أَنَّ أَبَا سَهْلٍ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَلِيٍّ اَلنَّوْبَخْتِيَّ (رضي الله عنه) مِمَّنْ تُجَوَّزُ عَلَيْهِ مَخْرَقَتُهُ (أي ممَّن تنطلي عليه أُكذوبته)، وَتَتِمُّ عَلَيْهِ حِيلَتُهُ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ يَسْتَدْعِيهِ، وَظَنَّ أَنَّ أَبَا سَهْلٍ كَغَيْرِهِ مِنَ اَلضُّعَفَاءِ فِي هَذَا اَلْأَمْرِ بِفَرْطِ جَهْلِهِ، وَقَدَرَ (أي ظنَّ) أَنْ يَسْتَجِرَّهُ إِلَيْهِ فَيَتَمَخْرَقَ بِهِ وَيَتَسَوَّفَ بِانْقِيَادِهِ عَلَى غَيْرِهِ (أي ظنَّ أنْ يجرَّه إليه فيتَّخذه عضداً وشاهداً على ادِّعائه)، فَيَسْتَتِبَّ لَهُ مَا قَصَدَ إِلَيْهِ مِنَ اَلْحِيلَةِ وَاَلْبَهْرَجَةِ عَلَى اَلضَّعَفَةِ، لِقَدْرِ (أي لمكانة) أَبِي سَهْلٍ فِي أَنْفُسِ اَلنَّاسِ، وَمَحَلِّهِ مِنَ اَلْعِلْمِ وَاَلْأَدَبِ أَيْضاً عِنْدَهُمْ، وَيَقُولُ لَهُ فِي مُرَاسَلَتِهِ إِيَّاهُ: إِنِّي وَكِيلُ صَاحِبِ اَلزَّمَانِ (عليه السلام) - وَبِهَذَا أَوَّلاً كَانَ يَسْتَجِرُّ اَلْجُهَّالَ ثُمَّ يَعْلُو مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ -، وَقَدْ أُمِرْتُ بِمُرَاسَلَتِكَ وَإِظْهَارِ مَا تُرِيدُهُ مِنَ اَلنُّصْرَةِ لَكَ لِتُقَوِّيَ نَفْسَكَ وَلَا تَرْتَابَ بِهَذَا اَلْأَمْرِ.
↑صفحة ١٦٩↑
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو سَهْلٍ (رضي الله عنه) يَقُولُ لَهُ: إِنِّي أَسْأَلُكَ أَمْراً يَسِيراً يَخِفُّ مِثْلُهُ عَلَيْكَ فِي جَنْبِ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدَيْكَ مِنَ اَلدَّلَائِلِ وَاَلْبَرَاهِينِ، وَهُوَ أَنِّي رَجُلٌ أُحِبُّ اَلْجَوَارِيَ وَأَصْبُو إِلَيْهِنَّ، وَلِي مِنْهُنَّ عِدَّةٌ أَتَحَظَّاهُنَّ، وَاَلشَّيْبُ يُبْعِدُنِي عَنْهُنَّ، وَيُبْغِضُنِي إِلَيْهِنَّ، وَأَحْتَاجُ أَنْ أَخْضِبَهُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، وَأَتَحَمَّلُ مِنْهُ مَشَقَّةً شَدِيدَةً لِأَسْتُرَ عَنْهُنَّ ذَلِكَ، وَإِلَّا اِنْكَشَفَ أَمْرِي عِنْدَهُنَّ، فَصَارَ اَلْقُرْبُ بُعْداً، وَاَلْوِصَالُ هَجْراً، وَأُرِيدُ أَنْ تُغْنِيَنِي عَنِ اَلْخِضَابِ، وَتَكْفِيَنِي مَؤُنَتَهُ، وَتَجْعَلَ لِحْيَتِي سَوْدَاءَ، فَإِنِّي طَوْعُ يَدَيْكَ، وَصَائِرٌ إِلَيْكَ، وَقَائِلٌ بِقَوْلِكَ، وَدَاعٍ إِلَى مَذْهَبِكَ، مَعَ مَا لِي فِي ذَلِكَ مِنَ اَلْبَصِيرَةِ، وَلَكَ مِنَ اَلمَعُونَةِ.
فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ اَلْحَلَّاجُ مِنْ قَوْلِهِ وَجَوَابِهِ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ فِي مُرَاسَلَتِهِ، وَجَهِلَ فِي اَلْخُرُوجِ إِلَيْهِ بِمَذْهَبِهِ، وَأَمْسَكَ عَنْهُ، وَلَمْ يَرُدَّ إِلَيْهِ جَوَاباً، وَلَمْ يُرْسِلْ إِلَيْهِ رَسُولاً، وَصَيَّرَهُ أَبُو سَهْلٍ (رضي الله عنه) أُحْدُوثَةً وَضُحْكَةً وَيَطْنِزُ بِهِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ، وَشَهَّرَ أَمْرَهُ عِنْدَ اَلصَّغِيرِ وَاَلْكَبِيرِ، وَكَانَ هَذَا اَلْفِعْلُ سَبَباً لِكَشْفِ أَمْرِهِ، وَتَنْفِيرِ اَلْجَمَاعَةِ عَنْهُ.
وَأَخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى اِبْنِ بَابَوَيْهِ أَنَّ اِبْنَ اَلْحَلَّاجِ صَارَ إِلَى قُمَّ، وَ كَاتَبَ قَرَابَةَ أَبِي اَلْحَسَنِ (أخي الصدوق) يَسْتَدْعِيهِ وَيَسْتَدْعِي أَبَا اَلْحَسَنِ أَيْضاً، وَيَقُولُ: أَنَا رَسُولُ اَلْإِمَامِ وَوَكِيلُهُ.
قَالَ: فَلَمَّا وَقَعَتِ اَلمُكَاتَبَةُ فِي يَدِ أَبِي (رضي الله عنه) (أي أبي الحسن عليِّ بن بابويه القمِّي، والذي كان وكيلاً للعسكري (عليه السلام)) خَرَقَهَا، وَقَالَ لِمُوصِلِهَا إِلَيْهِ: مَا أَفْرَغَكَ لِلْجَهَالَاتِ، فَقَالَ لَهُ اَلرَّجُلُ - وَأَظُنُّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ اِبْنُ عَمَّتِهِ أَوِ اِبْنُ
↑صفحة ١٧٠↑
عَمِّهِ -: فَإِنَّ اَلرَّجُلَ قَدِ اِسْتَدْعَانَا، فَلِمَ خَرَقْتَ مُكَاتَبَتَهُ؟ وَضَحِكُوا مِنْهُ، وَهَزَءُوا بِهِ، ثُمَّ نَهَضَ إِلَى دُكَّانِهِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغِلْمَانِهِ، قَالَ: فَلَمَّا دَخَلَ إِلَى اَلدَّارِ اَلَّتِي كَانَ فِيهَا دُكَّانُهُ نَهَضَ لَهُ مَنْ كَانَ هُنَاكَ جَالِساً غَيْرَ رَجُلٍ رَآهُ جَالِساً فِي اَلمَوْضِعِ، فَلَمْ يَنْهَضْ لَهُ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ أَبِي، فَلَمَّا جَلَسَ وَأَخْرَجَ حِسَابَهُ وَدَوَاتَهُ كَمَا يَكُونُ اَلتُّجَّارُ أَقْبَلَ عَلَى بَعْضِ مَنْ كَانَ حَاضِراً فَسَأَلَهُ عَنْهُ، فَأَخْبَرَهُ، فَسَمِعَهُ اَلرَّجُلُ يَسْأَلُ عَنْهُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: تَسْأَلُ عَنِّي وَأَنَا حَاضِرٌ؟ فَقَالَ لَهُ أَبِي: أَكْبَرْتُكَ أَيُّهَا اَلرَّجُلُ، وَأَعْظَمْتُ قَدْرَكَ أَنْ أَسْأَلَكَ، فَقَالَ لَهُ: تَخْرِقُ رُقْعَتِي وَأَنَا أُشَاهِدُكَ تَخْرِقُهَا، فَقَالَ لَهُ أَبِي: فَأَنْتَ اَلرَّجُلُ إِذًا، ثُمَّ قَالَ: يَا غُلَامُ، بِرِجْلِهِ وَبِقَفَاهُ، فَخَرَجَ مِنَ اَلدَّارِ اَلْعَدُوُّ لِله وَلِرَسُولِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَتَدَّعِي اَلمُعْجِزَاتِ عَلَيْكَ لَعْنَةُ اَلله؟ - أَوْ كَمَا قَالَ -، فَأُخْرِجَ بِقَفَاهُ، فَمَا رَأَيْنَاهُ بَعْدَهَا بِقُمَّ.
ومنهم: ابن أبي العزاقر:
(وهو محمّد بن عليٍّ الشلمغاني، يُكنَّى بأبي جعفر)، أَخْبَرَنِي اَلْحُسَيْنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ نُوحٍ، عَنْ أَبِي نَصْرٍ هِبَةِ اَلله بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ اَلْكَاتِبِ اِبْنِ بِنْتِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي جَعْفَرٍ اَلْعَمْرِيِّ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَتْنِي اَلْكَبِيرَةُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ أَبِي جَعْفَرٍ اَلْعَمْرِيِّ (رضي الله عنه)، قَالَتْ: كَانَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَبِي اَلْعَزَاقِرِ وَجِيهاً عِنْدَ بَنِي بِسْطَامَ، وَذَاكَ أَنَّ اَلشَّيْخَ أَبَا اَلْقَاسِمِ (رَضِيَ اَللهُ تَعَالَى عَنْهُ وَأَرْضَاهُ) كَانَ قَدْ جَعَلَ لَهُ عِنْدَ اَلنَّاسِ مَنْزِلَةً وَجَاهاً، فَكَانَ عِنْدَ اِرْتِدَادِهِ يَحْكِي كُلَّ كَذِبٍ وَبَلَاءٍ وَكُفْرٍ لِبَنِي بِسْطَامَ وَيُسْنِدُهُ عَنِ اَلشَّيْخِ أَبِي اَلْقَاسِمِ، فَيَقْبَلُونَهُ مِنْهُ وَيَأْخُذُونَهُ عَنْهُ، حَتَّى اِنْكَشَفَ ذَلِكَ لِأَبِي اَلْقَاسِمِ (رضي الله عنه) فَأَنْكَرَهُ
↑صفحة ١٧١↑
وَأَعْظَمَهُ وَنَهَى بَنِي بِسْطَامَ عَنْ كَلَامِهِ وَأَمَرَهُمْ بِلَعْنِهِ وَاَلْبَرَاءَةِ مِنْهُ، فَلَمْ يَنْتَهُوا وَأَقَامُوا عَلَى تَوَلِّيهِ، وَذَاكَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّنِي أَذَعْتُ اَلسِّرَّ وَقَدْ أُخِذَ عَلَيَّ اَلْكِتْمَانُ، فَعُوقِبْتُ بِالْإِبْعَادِ بَعْدَ اَلاِخْتِصَاصِ، لِأَنَّ اَلْأَمْرَ عَظِيمٌ لَا يَحْتَمِلُهُ إِلَّا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أَوْ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ أَوْ مُؤْمِنٌ مُمْتَحَنٌ، فَيُؤَكِّدُ فِي نُفُوسِهِمْ عِظَمَ اَلْأَمْرِ وَجَلَالَتَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا اَلْقَاسِمِ (رضي الله عنه)، فَكَتَبَ إِلَى بَنِي بِسْطَامَ بِلَعْنِهِ وَاَلْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَمِمَّنْ تَابَعَهُ عَلَى قَوْلِهِ وَأَقَامَ عَلَى تَوَلِّيهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِمْ أَظْهَرُوهُ عَلَيْهِ، فَبَكَى بُكَاءً عَظِيماً، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ لِهَذَا اَلْقَوْلِ بَاطِناً عَظِيماً، وَهُوَ أَنَّ اَللَّعْنَةَ اَلْإِبْعَادُ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: (لَعَنَهُ اَللهُ) أَيْ بَاعَدَهُ اَللهُ عَنِ اَلْعَذَابِ وَاَلنَّارِ، وَاَلْآنَ قَدْ عَرَفْتُ مَنْزِلَتِي، وَمَرَّغَ خَدَّيْهِ عَلَى اَلتُّرَابِ، وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْكِتْمَانِ لِهَذَا اَلْأَمْرِ.
قَالَتِ اَلْكَبِيرَةُ (رضي الله عنها): وَقَدْ كُنْتُ أَخْبَرْتُ اَلشَّيْخَ أَبَا اَلْقَاسِمِ أَنَّ أُمَّ أَبِي جَعْفَرِ اِبْنِ بِسْطَامَ قَالَتْ لِي يَوْماً وَقَدْ دَخَلْنَا إِلَيْهَا فَاسْتَقْبَلَتْنِي وَأَعْظَمَتْنِي وَزَادَتْ فِي إِعْظَامِي حَتَّى اِنْكَبَّتْ عَلَى رِجْلِي تُقَبِّلُهَا، فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ، وَقُلْتُ لَهَا: مَهْلاً، يَا سِتِّي، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَاِنْكَبَبْتُ عَلَى يَدِهَا.
فَبَكَتْ ثُمَّ قَالَتْ: كَيْفَ لَا أَفْعَلُ بِكِ هَذَا وَأَنْتِ مَوْلَاتِي فَاطِمَةُ؟
فَقُلْتُ لَهَا: وَكَيْفَ ذَاكِ، يَا سِتِّي؟
فَقَالَتْ لِي: إِنَّ اَلشَّيْخَ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ خَرَجَ إِلَيْنَا بِالسِّرِّ.
قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهَا: وَمَا اَلسِّرُّ؟
قَالَتْ: قَدْ أَخَذَ عَلَيْنَا كِتْمَانَهُ، وَأَفْزَعُ إِنْ أَنَا أَذَعْتُهُ عُوقِبْتُ.
قَالَتْ: وَأَعْطَيْتُهَا مَوْثِقاً أَنِّي لَا أَكْشِفُهُ لِأَحَدٍ، وَاِعْتَقَدْتُ فِي نَفْسِي اَلْاِسْتِثْنَاءَ بِالشَّيْخِ (رضي الله عنه)، يَعْنِي أَبَا اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنَ بْنَ رَوْحٍ.
↑صفحة ١٧٢↑
قَالَتْ: إِنَّ اَلشَّيْخَ أَبَا جَعْفَرٍ (ابن أبي العزاقر) قَالَ لَنَا: إِنَّ رُوحَ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اِنْتَقَلَتْ إِلَى أَبِيكِ يَعْنِي أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ (رضي الله عنه)، وَرُوحَ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) اِنْتَقَلَتْ إِلَى بَدَنِ اَلشَّيْخِ أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ، وَرُوحَ مَوْلَاتِنَا فَاطِمَةَ (عليها السلام) اِنْتَقَلَتْ إِلَيْكِ، فَكَيْفَ لَا أُعَظِّمُكِ يَا سِتَّنَا؟
فَقُلْتُ لَهَا: مَهْلاً لَا تَفْعَلِي، فَإِنَّ هَذَا كَذِبٌ، يَا سِتَّنَا.
فَقَالَتْ لِي: هُوَ سِرٌّ عَظِيمٌ، وَقَدْ أَخَذَ عَلَيْنَا أَنَّنَا لَا نَكْشِفُ هَذَا لِأَحَدٍ، فَاللهَ اَللهَ فِيَّ، لَا يَحِلُّ بي اَلْعَذَابُ. وَيَا سِتِّي، فَلَوْ لَا أَنَّكِ حَمَلْتِينِي عَلَى كَشْفِهِ مَا كَشَفْتُهُ لَكِ وَلَا لِأَحَدٍ غَيْرِكِ.
قَالَتِ اَلْكَبِيرَةُ أُمُّ كُلْثُومٍ (رضي الله عنها): فَلَمَّا اِنْصَرَفْتُ مِنْ عِنْدِهَا دَخَلْتُ إِلَى اَلشَّيْخِ أَبِي اَلْقَاسِمِ بْنِ رَوْحٍ (رضي الله عنه)، فَأَخْبَرْتُهُ بِالْقِصَّةِ، وَكَانَ يَثِقُ بِي وَيَرْكَنُ إِلَى قَوْلِي.
فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّةُ، إِيَّاكِ أَنْ تَمْضِيَ إِلَى هَذِهِ اَلمَرْأَةِ بَعْدَ مَا جَرَى مِنْهَا، وَلَا تَقْبَلِي لَهَا رُقْعَةً إِنْ كَاتَبَتْكِ، وَلَا رَسُولاً إِنْ أَنْفَذَتْهُ (إِلَيْكِ)، وَلَا تَلْقَيْهَا بَعْدَ قَوْلِهَا، فَهَذَا كُفْرٌ بِالله تَعَالَى وَإِلْحَادٌ، قَدْ أَحْكَمَهُ هَذَا اَلرَّجُلُ اَلمَلْعُونُ فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ اَلْقَوْمِ، لِيَجْعَلَهُ طَرِيقاً إِلَى أَنْ يَقُولَ لَهُمْ بِأَنَّ اَللهَ تَعَالَى اِتَّحَدَ بِهِ وَحَلَّ فِيهِ، كَمَا يَقُولُ اَلنَّصَارَى فِي اَلمَسِيحِ (عليه السلام)، وَيَعْدُو إِلَى قَوْلِ اَلْحَلَّاجِ (لَعَنَهُ اَللهُ).
قَالَتْ: فَهَجَرْتُ بَنِي بِسْطَامَ، وَتَرَكْتُ اَلمُضِيَّ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ أَقْبَلْ لَهُمْ عُذْراً، وَلَا لَقِيتُ أُمَّهُمْ بَعْدَهَا، وَشَاعَ فِي بَنِي نَوْبَخْتَ اَلْحَدِيثُ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلَّا وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ اَلشَّيْخُ أَبُو اَلْقَاسِمِ وَكَاتَبَهُ بِلَعْنِ أَبِي جَعْفَرٍ اَلشَّلْمَغَانِيِّ وَاَلْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَمِمَّنْ يَتَوَلَّاهُ وَرَضِيَ بِقَوْلِهِ أَوْ كَلَّمَهُ فَضْلاً عَنْ مُوَالَاتِهِ.
↑صفحة ١٧٣↑
ثُمَّ ظَهَرَ اَلتَّوْقِيعُ مِنْ صَاحِبِ اَلزَّمَانِ (عليه السلام) بِلَعْنِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَاَلْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَمِمَّنْ تَابَعَهُ وَشَايَعَهُ وَرَضِيَ بِقَوْلِهِ وَأَقَامَ عَلَى تَوَلِّيهِ بَعْدَ اَلمَعْرِفَةِ بِهَذَا اَلتَّوْقِيعِ.
وله حكايات قبيحة وأُمور فظيعة نُنزِّه كتابنا عن ذكرها، ذكرها ابن نوح وغيره.
وكان سبب قتله أنَّه لـمَّا أظهر لعنه أبو القاسم بن روح (رضي الله عنه)، واشتهر أمره وتبرَّأ منه وأمر جميع الشيعة بذلك، لم يمكنه التلبيس، فقال - في مجلس حافل فيه رؤساء الشيعة، وكلٌّ يحكي عن الشيخ أبي القاسم لعنه والبراءة منه -: أجمعوا بيني وبينه حتَّى آخذ يده ويأخذ بيدي، فإنْ لم تنزل عليه نار من السماء تحرقه وإلَّا فجميع ما قاله فيَّ حقٌّ، ورقي ذلك إلى الراضي - لأنَّه كان ذلك في دار ابن مقلة -، فأمر بالقبض عليه وقتله، فقُتِلَ واستراحت الشيعة منه.
وَقَالَ أَبُو اَلْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ دَاوُدَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ اَلشَّلْمَغَانِيُّ اَلمَعْرُوفُ بِابْنِ أَبِي اَلْعَزَاقِرِ (لَعَنَهُ اَللهُ) يَعْتَقِدُ اَلْقَوْلَ بِحَمْلِ اَلضِّدِّ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَتَهَيَّأُ إِظْهَارُ فَضِيلَةٍ لِلْوَلِيِّ إِلَّا بِطَعْنِ اَلضِّدِّ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَحْمِلُ سَامِعِي طَعْنِهِ عَلَى طَلَبِ فَضِيلَتِهِ، فَإِذاً هُوَ أَفْضَلُ مِنَ اَلْوَلِيِّ، إِذْ لَا يَتَهَيَّأُ إِظْهَارُ اَلْفَضْلِ إِلَّا بِهِ، وَسَاقُوا اَلمَذْهَبَ مِنْ وَقْتِ آدَمَ اَلْأَوَّلِ إِلَى آدَمَ اَلسَّابِعِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: سَبْعُ عَوَالِمَ وَسَبْعُ أَوَادِمَ، وَنَزَلُوا إِلَى مُوسَى وَفِرْعَوْنَ وَمُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَمُعَاوِيَةَ.
وَأَمَّا فِي اَلضِّدِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اَلْوَلِيُّ يَنْصِبُ اَلضِّدَّ وَيَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ،
↑صفحة ١٧٤↑
كَمَا قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ اَلظَّاهِرِ: إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) نَصَبَ أَبَا بَكْرٍ فِي ذَلِكَ اَلمَقَامِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا، وَلَكِنْ هُوَ قَدِيمٌ مَعَهُ لَمْ يَزَلْ.
قَالُوا: وَاَلْقَائِمُ اَلَّذِي ذَكَرُوا أَصْحَابُ اَلظَّاهِرِ أَنَّهُ مِنْ وُلْدِ اَلْحَادِي عَشَرَ فَإِنَّهُ يَقُومُ، مَعْنَاهُ إِبْلِيسُ، لِأَنَّهُ قَالَ: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ [الحجر: ٣٠ و٣١]، فَلَمْ يَسْجُدْ، ثُمَّ قَالَ: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف: ١٦]، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَائِماً فِي وَقْتِ مَا أُمِرَ بِالسُّجُودِ ثُمَّ قَعَدَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: «يَقُومُ اَلْقَائِمُ» إِنَّمَا هُوَ ذَلِكَ اَلْقَائِمُ اَلَّذِي أُمِرَ بِالسُّجُودِ فَأَبَى، وَهُوَ إِبْلِيسُ (لَعَنَهُ اَللهُ).
وَقَالَ شَاعِرُهُمْ (لَعَنَهُمُ اَللهُ):
يَا لَاعِناً لِلضِّدِّ مِنْ عَدِيٍّ * * * مَا اَلضِّدُّ إِلَّا ظَاهِرُ اَلْوَلِيِّ
وَاَلْحَمْدُ لِلْمُهَيْمِنِ اَلْوَفِيِّ * * * لَسْتَ عَلَى حَالٍ كَحَمَّامِيٍّ
وَلَا حِجَامِيٍّ وَلَا جُغْدِيٍّ * * * قَدْ فُقْتَ مِنْ قَوْلٍ عَلَى اَلْفَهْدِيِّ
نَعَمْ وَجَاوَزْتَ مَدَى اَلْعَبْدِيِّ * * * فَوْقَ عَظِيمٍ لَيْسَ بِالمَجُوسِي
لِأَنَّهُ اَلْفَرْدُ بِلَا كَيْفِيٍّ * * * مُتَّحِدٌ بِكُلِّ أَوْحَدِيٍّ
مُخَالِطُ اَلنُّورِيِّ وَاَلظُّلْمِيِّ * * * يَا طَالِباً مِنْ بَيْتِ هَاشِمِيٍّ
وَجَاحِداً مِنْ بَيْتِ كَسْرَوِيٍّ * * * قَدْ غَابَ فِي نِسْبَةِ أَعْجَمِيٍّ
فِي اَلْفَارِسِيِّ اَلْحَسَبِ اَلرِّضِيِّ * * * كَمَا اِلْتَوَى فِي اَلْعُرْبِ مِنْ لَوِيٍّ
وَقَالَ اَلصَّفْوَانِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَلِيٍّ بْنَ هَمَّامٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ
↑صفحة ١٧٥↑
اَلْعَزَاقِرِيَّ اَلشَّلْمَغَانِيَّ يَقُولُ: اَلْحَقُّ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ قُمُصُهُ، فَيَوْمٌ يَكُونُ فِي أَبْيَضَ، وَيَوْمٌ يَكُونُ فِي أَحْمَرَ، وَيَوْمٌ يَكُونُ فِي أَزْرَقَ.
قَالَ اِبْنُ هَمَّامٍ: فَهَذَا أَوَّلُ مَا أَنْكَرْتُهُ مِنْ قَوْلِهِ، لِأَنَّهُ قَوْلُ أَصْحَابِ اَلْحُلُولِ.
وَأَخْبَرَنَا جَمَاعَةٌ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ هَارُونَ بْنِ مُوسَى، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ مُحَمَّدِ اِبْنِ هَمَّامٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ اَلشَّلْمَغَانِيَّ لَمْ يَكُنْ قَطُّ بَاباً إِلَى أَبِي اَلْقَاسِمِ، وَلَا طَرِيقاً لَهُ، وَلَا نَصَبَهُ أَبُو اَلْقَاسِمِ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ وَلَا سَبَبٍ، وَمَنْ قَالَ بِذَلِكَ فَقَدْ أَبْطَلَ، وَإِنَّمَا كَانَ فَقِيهاً مِنْ فُقَهَائِنَا وَخَلَّطَ وَظَهَرَ عَنْهُ مَا ظَهَرَ، وَاِنْتَشَرَ اَلْكُفْرُ وَاَلْإِلْحَادُ عَنْهُ، فَخَرَجَ فِيهِ اَلتَّوْقِيعُ عَلَى يَدِ أَبِي اَلْقَاسِمِ بِلَعْنِهِ وَاَلْبَرَاءَةِ مِنْهُ مِمَّنْ تَابَعَهُ وَشَايَعَهُ وَقَالَ بِقَوْلِهِ.
وَأَخْبَرَنِي اَلْحُسَيْنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ نُوحٍ، عَنْ أَبِي نصْرٍ هِبَةِ اَلله بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اَلله اَلْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ اَلْحَامِدِيُّ اَلْبَزَّازُ اَلمَعْرُوفُ بِغُلَامِ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ جَعْفَرٍ اَلمَعْرُوفُ بِابْنِ زُهُومَةَ اَلنَّوْبَخْتِيِّ - وَكَانَ شَيْخاً مَسْتُوراً -، قَالَ: سَمِعْتُ رَوْحَ بْنَ أَبِي اَلْقَاسِمِ بْنِ رَوْحٍ يَقُولُ: لَمَّا عَمِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ اَلشَّلْمَغَانِيُّ كِتَابَ (اَلتَّكْلِيفِ) قَالَ [اَلشَّيْخُ] يَعْنِي أَبَا اَلْقَاسِمِ (رضي الله عنه): اُطْلُبُوهُ إِلَيَّ لِأَنْظُرَهُ، فَجَاءُوا بِهِ، فَقَرَأَهُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَقَالَ: مَا فِيهِ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ رُوِيَ عَنِ اَلْأَئِمَّةِ إِلَّا مَوْضِعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، فَإِنَّهُ كَذَبَ عَلَيْهِمْ فِي رِوَايَتِهَا (لَعَنَهُ اَللهُ).
وَأَخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ، عَنْ أَبِي اَلْحَسَنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ دَاوُدَ وَأَبِي عَبْدِ اَلله اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى بْنِ بَابَوَيْهِ أَنَّهُمَا قَالَا: مِمَّا أَخْطَأَ مُحَمَّدُ بْنُ
↑صفحة ١٧٦↑
عَلِيٍّ فِي اَلمَذْهَبِ فِي بَابِ اَلشَّهَادَةِ أَنَّهُ رَوَى عَنِ اَلْعَالِمِ (الكاظم) (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا كَانَ لِأَخِيكَ اَلمُؤْمِنِ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَدَفَعَهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ اَلْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ إِلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ، وَكَانَ اَلشَّاهِدُ ثِقَةً رَجَعْتَ إِلَى اَلشَّاهِدِ فَسَأَلْتَهُ عَنْ شَهَادَتِهِ، فَإِذَا أَقَامَهَا عِنْدَكَ شَهِدْتَ مَعَهُ عِنْدَ اَلْحَاكِمِ عَلَى مِثْلِ مَا يَشْهَدُهُ عِنْدَهُ، لِئَلَّا يُتْوَى (يهلك) حَقُّ اِمْرِئٍ مُسْلِمٍ»، وَاَللَّفْظُ لاِبْنِ بَابَوَيْهِ، وَقَالَ: هَذَا كَذِبٌ مِنْهُ، وَلَسْنَا نَعْرِفُ ذَلِكَ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: كَذَبَ فِيهِ.
نسخة التوقيع الخارج في لعنه:
أَخْبَرَنَا جَمَاعَةٌ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ هَارُونَ بْن مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ اِبْنُ هَمَّام، قَالَ: خَرَجَ عَلَى يَدِ الشَّيْخ أَبِي الْقَاسِم الْحُسَيْن بْن رَوْح (رضي الله عنه) فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ فِي لَعْنِ ابْن أَبِي الْعَزَاقِر وَالْمِدَادُ رَطْبٌ لَمْ يَجُفَّ.
وَأَخْبَرَنَا جَمَاعَةٌ، عَن ابْن دَاوُدَ، قَالَ: خَرَجَ التَّوْقِيعُ مِنَ الْحُسَيْن بْن رَوْح فِي الشَّلْمَغَانِيِّ، وَأَنْفَذَ نُسْخَتَهُ إِلَى أبِي عَلِيٍّ بْن هَمَّام فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
قَالَ ابْنُ نُوح: وَحَدَّثَنَا أَبُو الْفَتْح أَحْمَدُ بْنُ ذَكَا مَوْلَى عَلِيِّ بْن مُحَمَّدِ بْن الْفُرَاتِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ بْن هَمَّام بْن سُهَيْلٍ بِتَوْقِيع خَرَجَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَن بْن جَعْفَر بْن إِسْمَاعِيلَ بْن صَالِح الصَّيْمَريُّ: أَنْفَذَ الشَّيْخُ الْحُسَيْنُ بْنُ رَوْح (رضي الله عنه) مِنْ مَحْبَسِهِ فِي دَار المُقْتَدِر إِلَى شَيْخِنَا أَبِي عَلِيٍّ بْن هَمَّام فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَمْلَاهُ أَبُو عَلِيٍّ، وَعَرَّفَنِي أَنَّ
↑صفحة ١٧٧↑
أَبَا الْقَاسِم (رضي الله عنه) رَاجَعَ فِي تَرْكِ إِظْهَارهِ، فَإنَّهُ فِي يَدِ الْقَوْم وَحَبْسِهِمْ، فَأُمِرَ بِإظْهَارهِ وَأَنْ لَا يَخْشَى وَيَأمَنَ، فَتَخَلَّصَ وَخَرَجَ مِنَ الْحَبْس بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، وَالْحَمْدُ للهِ.
التوقيع:
«عَرِّفْ»، قَالَ الصَّيْمَريُّ: «عَرَّفَكَ اللهُ الْخَيْرَ، أَطَالَ اللهُ بَقَاءَكَ وَعَرَّفَكَ الْخَيْرَ كُلَّهُ وَخَتَمَ بِهِ عَمَلَكَ، مَنْ تَثِقُ بِدِينهِ وَتَسْكُنُ إِلَى نِيَّتِهِ مِنْ إِخْوَانِنَا أَسْعَدَكُمُ اللهُ»، وَقَالَ ابْنُ دَاوُدَ: «أَدَامَ اللهُ سَعَادَتَكُمْ مَنْ تَسْكُنُ إِلَى دِينهِ وَتَثِقُ بِنِيَّتهِ جَمِيعاً بِأَنَّ مُحَمَّدَ ابْنَ عَلِيٍّ المَعْرُوفَ الشَّلْمَغَانِيَّ»، زَادَ ابْنُ دَاوُدَ: «وَهُوَ مِمَّنْ عَجَّلَ اللهُ لَهُ النَّقِمَةَ وَلَا أَمْهَلَهُ قَدِ ارْتَدَّ عَن الْإسْلَام وَفَارَقَهُ»، اتَّفَقُوا «وَأَلْحَدَ فِي دِين اللهِ، وَادَّعَى مَا كَفَرَ مَعَهُ بِالْخَالِقِ»، قَالَ هَارُونُ: «فِيهِ بِالْخَالِقِ جَلَّ وَتَعَالَى، وَافْتَرَى كَذِباً وَزُوراً، وَقَالَ بُهْتَاناً وَإِثْماً عَظِيماً»، قَالَ هَارُونُ: «وَأَمْراً عَظِيماً، كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِاللهِ وَضَلُّوا ضَلَالاً بَعِيداً وَخَسِرُوا خُسْراناً مُبِيناً، وَإِنَّنَا قَدْ بَرئْنَا إِلَى اللهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولِهِ وَآلِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ وَرَحْمَتُهُ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْهِمْ بِمَنِّهِ وَلَعَنَّاهُ عَلَيْهِ لَعَائِنُ اللهِ»، اتَّفَقُوا، زَادَ ابْنُ دَاوُدَ: «تَتْرَى، فِي الظَّاهِر مِنَّا وَالْبَاطِن فِي السِّرِّ وَالْجَهْر وَفِي كُلِّ وَقْتٍ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، وَعَلَى مَنْ شَايَعَهُ وَتَابَعَهُ أَوْ بَلَغَهُ هَذَا الْقَوْلُ مِنَّا وَأَقَامَ عَلَى تَوَلِّيهِ بَعْدَهُ، وَأَعْلِمْهُمْ»، قَالَ الصَّيْمَريُّ: «تَوَلَّاكُمُ اللهُ»، قَالَ ابْنُ ذَكَا: «أَعَزَّكُمُ اللهُ، أَنَّا مِنَ التَّوَقِّي»، وَقَالَ ابْنُ دَاوُدَ: «اعْلَمْ أَنَّنَا مِنَ التَّوَقِّي لَهُ»، قَالَ هَارُونُ: «وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّنَا فِي التَّوَقِّي وَالمُحَاذَرَةِ مِنْهُ»، قَالَ ابْنُ دَاوُدَ وَهَارُونُ: «عَلَى مِثْل مَا كَانَ مِمَّنْ تَقَدَّمَنَا لِنُظَرَائِهِ»، قَالَ الصَّيْمَريُّ: «عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ نُظَرَائِهِ»، وَقَالَ
↑صفحة ١٧٨↑
ابْنُ ذَكَا: «عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَنَا لِنُظَرَائِهِ»، اتَّفَقُوا «مِنَ الشَّريعِيِّ وَالنُّمَيْريِّ وَالْهِلَالِيِّ وَالْبِلَالِيِّ وَغَيْرهِمْ، وَعَادَةُ اللهِ»، قَالَ ابْنُ دَاوُدَ وَهَارُونُ: «جَلَّ ثَنَاؤُهُ» وَاتَّفَقُوا «مَعَ ذَلِكَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ عِنْدَنَا جَمِيلَةٌ، وَبهِ نَثِقُ، وَإِيَّاهُ نَسْتَعِينُ، وَهُوَ حَسْبُنَا فِي كُلِّ أُمُورنَا وَنعْمَ الْوَكِيلُ».
قَالَ هَارُونُ: وَأَخَذَ أَبُو عَلِيٍّ هَذَا التَّوْقِيعَ، وَلَمْ يَدَعْ أَحَداً مِنَ الشُّيُوخ إِلَّا وَأَقْرَأَهُ إِيَّاهُ، وَكُوتِبَ مَنْ بَعُدَ مِنْهُمْ بِنُسْخَتِهِ فِي سَائِر الْأَمْصَار، فَاشْتَهَرَ ذَلِكَ فِي الطَّائِفَةِ، فَاجْتَمَعَتْ عَلَى لَعْنِهِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ، وَقُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الشَّلْمَغَانِيُّ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
ذكر أمر أبي بكر البغدادي ابن أخي الشيخ أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) وأبي دلف المجنون:
أَخْبَرَنِي اَلشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اَلله مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اَلنُّعْمَانِ، عَنْ أَبِي اَلْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ بِلَالٍ اَلمُهَلَّبِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا اَلْقَاسِمِ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ قُولَوَيْهِ يَقُولُ: أَمَّا أَبُو دُلَفَ اَلْكَاتِبُ (لَا حَاطَهُ اَللهُ) فَكُنَّا نَعْرِفُهُ مُلْحِداً، ثُمَّ أَظْهَرَ اَلْغُلُوَّ، ثُمَّ جُنَّ وَسُلْسِلَ، ثُمَّ صَارَ مُفَوِّصاً، وَمَا عَرَفْنَاهُ قَطُّ إِذَا حَضَرَ فِي مَشْهَدٍ إِلَّا اِسْتُخِفَّ بِهِ، وَلَا عَرَفَتْهُ اَلشِّيعَةُ إِلَّا مُدَّةً يَسِيرَةً، وَاَلْجَمَاعَةُ تَتَبَرَّأُ مِنْهُ وَمِمَّنْ يُومِي إِلَيْهِ وَيُنَمِّسُ بِهِ(٢٩٢).
وَقَدْ كُنَّا وَجَّهْنَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ اَلْبَغْدَادِيِّ لَـمَّا اِدَّعَى لَهُ هَذَا مَا اِدَّعَاهُ(٢٩٣)، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَحَلَفَ عَلَيْهِ، فَقَبِلْنَا ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا دَخَلَ بَغْدَادَ مَالَ إِلَيْهِ وَعَدَلَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٩٢) نمَّس بالشيء: خدع واحتال به.
(٢٩٣) أي إنَّ أبا دلف المجنون ادَّعى البابيَّة، ونحو ذلك لأبي بكر البغدادي.
↑صفحة ١٧٩↑
عَنِ اَلطَّائِفَةِ وَأَوْصَى إِلَيْهِ لَمْ نَشُكَّ أَنَّهُ عَلَى مَذْهَبِهِ، فَلَعَنَّاهُ وَبَرِئْنَا مِنْهُ، لِأَنَّ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مَنِ اِدَّعَى اَلْأَمْرَ بَعْدَ اَلسَّمُرِيِّ (رحمه الله) فَهُوَ كَافِرٌ مُنَمِّسٌ(٢٩٤) ضَالٌّ مُضِلٌّ، وَبِالله اَلتَّوْفِيقُ.
وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ اَلسُّكَّرِيُّ، قَالَ: لَـمَّا قَدِمَ اِبْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اَلْحَسَنِ بْنِ اَلْوَلِيدِ اَلْقُمِّيُّ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَاَلْجَمَاعَةُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ اَلْبَغْدَادِيِّ وَسَأَلُوهُ عَنِ اَلْأَمْرِ اَلَّذِي حُكِيَ فِيهِ مِنَ اَلنِّيَابَةِ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: لَيْسَ إِلَيَّ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، وَعُرِضَ عَلَيْهِ مَالٌ فَأَبَى، وَقَالَ: مُحَرَّمٌ عَلَيَّ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ إِلَيَّ مِنْ هَذَا اَلْأَمْرِ شَيْءٌ، وَلَا اِدَّعَيْتُ شَيْئاً مِنْ هَذَا، وَكُنْتُ حَاضِراً لِمُخَاطَبَتِهِ إِيَّاهُ بِالْبَصْرَةِ.
وَذَكَرَ اِبْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: اِجْتَمَعْتُ يَوْماً مَعَ أَبِي دُلَفَ، فَأَخَذْنَا فِي ذِكْرِ أَبِي بَكْرٍ اَلْبَغْدَادِيِّ، فَقَالَ لِي: تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ كَانَ فَضْلُ سَيِّدِنَا اَلشَّيْخِ (قَدَّسَ اَللهُ رُوحَهُ وَقُدِّسَ بِهِ) عَلَى أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ وَعَلَى غَيْرِهِ؟ فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَعْرِفُ، قَالَ: لِأَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ قَدَّمَ اِسْمَهُ عَلَى اِسْمِهِ فِي وَصِيَّتِهِ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: فَالمَنْصُورُ (الخليفة العبَّاسي) إِذاً أَفْضَلُ مِنْ مَوْلَانَا أَبِي اَلْحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام)، قَالَ: وَكَيْفَ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ اَلصَّادِقَ (عليه السلام) قَدَّمَ اِسْمَهُ عَلَى اِسْمِهِ فِي اَلْوَصِيَّةِ، فَقَالَ لِي: أَنْتَ تَتَعَصَّبُ عَلَى سَيِّدِنَا وَتُعَادِيهِ، فَقُلْتُ: وَاَلْخَلْقُ كُلُّهُمْ تُعَادِي أَبَا بَكْرٍ اَلْبَغْدَادِيَّ وَتَتَعَصَّبُ عَلَيْهِ غَيْرُكَ وَحْدَكَ، وَكِدْنَا نَتَقَاتَلُ وَنَأْخُذُ بِالْأَزْيَاقِ(٢٩٥).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٩٤) محتال، صاحب حيلة ومكر.
(٢٩٥) في القاموس المحيط (ج ٣/ص ٢٤٣): (زيق القميص - بالكسر -: ما أحاط بالعنق منه).
↑صفحة ١٨٠↑
وأمر أبي بكر البغدادي في قلَّة العلم والمروَّة أشهر، وجنون أبي دُلَف أكثر من أنْ يُحصى لا نُشغِل كتابنا بذلك، ولا نُطوِّل بذكره، وذكر ابن نوح طرفاً من ذلك.
وَرَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ هَارُونُ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اَلرَّحِيمِ اَلْأَبْرَاروريِّ، قَالَ: أَنْفَذَنِي أَبِي عَبْدُ اَلرَّحِيمِ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيِّ (رضي الله عنه) فِي شَيْءٍ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَحَضَرْتُ مَجْلِسَهُ وَفِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ شَيْئاً مِنَ اَلرِّوَايَاتِ وَمَا قَالَهُ اَلصَّادِقُونَ (عليهم السلام) حَتَّى أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ اَلمَعْرُوفُ بِالْبَغْدَادِيِّ اِبْنُ أَخِي أَبِي جَعْفَرٍ اَلْعَمْرِيِّ (رضي الله عنه)، فَلَمَّا بَصُرَ بِهِ أَبُو جَعْفَرٍ (رضي الله عنه) قَالَ لِلْجَمَاعَةِ: أَمْسِكُوا (أي توقَّفوا عن محادثتكم)، فَإِنَّ هَذَا اَلْجَائِيَ لَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكُمْ.
وَحُكِيَ أَنَّهُ تَوَكَّلَ لِلْيَزِيدِيِّ بِالْبَصْرَةِ، فَبَقِيَ فِي خِدْمَتِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً وَجَمَعَ مَالاً عَظِيماً، فَسُعِيَ بِهِ إِلَى اَلْيَزِيدِيِّ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ وَصَادَرَهُ وَضَرَبَهُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ حَتَّى نَزَلَ اَلمَاءُ فِي عَيْنَيْهِ، فَمَاتَ أَبُو بَكْرٍ ضَرِيراً.
وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ هِبَةُ اَلله بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ اَلْكَاتِبُ اِبْنُ بِنْتِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيِّ (رضي الله عنه): إِنَّ أَبَا دُلَفَ مُحَمَّدَ بْنَ مُظَفَّرٍ اَلْكَاتِبَ كَانَ فِي اِبْتِدَاءِ أَمْرِهِ مُخَمِّساً مَشْهُوراً بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ كَانَ تَرْبِيَةَ اَلْكَرْخِيِّينَ وَتِلْمِيذَهُمْ وَصَنِيعَتَهُمْ، وَكَانَ اَلْكَرْخِيُّونَ مُخَمِّسَةً(٢٩٦) لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ اَلشِّيعَةِ، وَقَدْ كَانَ أَبُو دُلَفَ يَقُولُ ذَلِكَ وَيَعْتَرِفُ بِهِ، وَيَقُولُ: نَقَلَنِي سَيِّدُنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٩٦) هم فرقة من الغلاة قالوا: إنَّ الخمسة: سلمان، وأبو ذرٍّ، والمقداد، وعمَّار، وعمرو بن أُميَّة الضمري هم الموكَّلون من قِبَل الربِّ بإدارة مصالح العالم، وسلمان رئيسهم في هذا الأمر. راجع: المقالات والفِرَق (ص ٥٦ - ٦٠/ الرقم ١١١ - ١١٤).
↑صفحة ١٨١↑
اَلشَّيْخُ اَلصَّالِحُ (قَدَّسَ اَللهُ رُوحَهُ، وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ) عَنْ مَذْهَبِ أَبِي جَعْفَرٍ اَلْكَرْخِيِّ إِلَى اَلمَذْهَبِ اَلصَّحِيحِ، يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ اَلْبَغْدَادِيَّ.
وجنون أبي دُلَف وحكايات فساد مذهبه أكثر من أنْ تُحصى، فلا نُطوِّل بذكرها الكتاب هاهنا(٢٩٧)، انتهى ما ذكره الشيخ الطوسي (رحمه الله).
ونقلناه كلَّه مع طوله، لأنَّ ما ذكره من قَصَص المدَّعين للسفارة والوكالة والبابيَّة الكاذبين على الله وعلى حُجَجه (عليهم السلام)، تتكرَّر بين فترة وأُخرى في عصر الغيبة التامَّة الكبرى. كما يقال: التاريخ يعيد نفسه، بل من تأمَّل بعبرة فيما مرَّ من الوقائع التي ذكرها الشيخ (رحمه الله) يجد أنَّ ما يحدث في زمننا هذا من ادِّعاء البابيَّة هو بحذافيره مسلسل الوقائع السابقة من نسبة الأباطيل إلى الأئمَّة (عليهم السلام)، ومن سرقة الأموال، واتِّخاذ الضعفاء والجهلة أنصاراً، والنساء مسرحاً للخرافات والخزعبلات، ومن ينتسب إلى العلم واجهة للغواية، و...
وكما قال شيخ الطائفة في زمانه أبو محمّد هارون بن موسى التلعكبري (رحمه الله)(٢٩٨): (وَكُلُّ هَؤُلَاءِ اَلمُدَّعِينَ إِنَّمَا يَكُونُ كَذِبُهُمْ أَوَّلاً عَلَى اَلْإِمَامِ وَأَنَّهُمْ وُكَلَاؤُهُ، فَيَدْعُونَ اَلضَّعَفَةَ بِهَذَا اَلْقَوْلِ إِلَى مُوَالَاتِهِمْ، ثُمَّ يَتَرَقَّى اَلْأَمْرُ بِهِمْ إِلَى قَوْلِ اَلْحَلَّاجِيَّةِ (القائلين بالحلول، أي الكفر والإلحاد)، كَمَا اِشْتَهَرَ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ اَلشَّلْمَغَانِيِّ وَنُظَرَائِهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعاً لَعَائِنُ اَلله تَتْرَى)(٢٩٩).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٩٧) الغيبة للطوسي (ص ٣٩٧ - ٤١٤).
(٢٩٨) أحد مشايخ الشيخ المفيد (رحمه الله).
(٢٩٩) الغيبة للطوسي (ص ٣٩٧ و٣٩٨).
↑صفحة ١٨٢↑
الأمر الثامن: ثواب الثبات والتمسُّك بالدِّين في الغيبة الكبرى وشدَّة المحنة:
روى الصدوق (رحمه الله) بسنده عن الجواد، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام)، قَالَ: «لِلْقَائِمِ مِنَّا غَيْبَةٌ أَمَدُهَا طَوِيلٌ، كَأَنِّي بِالشِّيعَةِ يَجُولُونَ جَوَلَانَ اَلنَّعَمِ فِي غَيْبَتِهِ، يَطْلُبُونَ اَلمَرْعَى فَلَا يَجِدُونَهُ، أَلَا فَمَنْ ثَبَتَ مِنْهُمْ عَلَى دِينِهِ وَلَمْ يَقْسُ قَلْبُهُ لِطُولِ أَمَدِ غَيْبَةِ إِمَامِهِ فَهُوَ مَعِي فِي دَرَجَتِي يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ»، ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): «إِنَّ اَلْقَائِمَ مِنَّا إِذَا قَامَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، فَلِذَلِكَ تَخْفَى وِلَادَتُهُ وَيَغِيبُ شَخْصُهُ»(٣٠٠).
وروى (رحمه الله) عَنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى اَلرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام) أَنَّهُ قَالَ: «اَلتَّاسِعُ مِنْ وُلْدِكَ يَا حُسَيْنُ هُوَ اَلْقَائِمُ بِالْحَقِّ، اَلمُظْهِرُ لِلدِّينِ، وَاَلْبَاسِطُ لِلْعَدْلِ»، قَالَ اَلْحُسَيْنُ: «فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ؟ فَقَالَ (عليه السلام): إِي وَاَلَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بِالنُّبُوَّةِ وَاِصْطَفَاهُ عَلَى جَمِيعِ اَلْبَرِيَّةِ، وَلَكِنْ بَعْدَ غَيْبَةٍ وَحَيْرَةٍ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا عَلَى دِينِهِ إِلَّا اَلمُخْلِصُونَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٠٠) كمال الدِّين (ص ٣٠٣/ باب ٢٦/ ح ١٤).
↑صفحة ١٨٣↑
اَلمُبَاشِرُونَ لِرَوْحِ اَلْيَقِينِ، اَلَّذِينَ أَخَذَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) مِيثَاقَهُمْ بِوَلَايَتِنَا، وَكَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمَانَ، وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ»(٣٠١).
وروى توقيعاً من صاحب الزمان (عليه السلام) كان خرج إلى العمري (النائب الأوَّل) وابنه (النائب الثاني في الغيبة الصغرى) (رضي الله عنهما)، عن سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللهِ جَعْفَرٌ (رضي الله عنه): وَجَدْتُهُ مُثْبَتاً عَنْهُ (رحمه الله): «وَفَّقَكُمَا اللهُ لِطَاعَتِهِ، وَثَبَّتَكُمَا عَلَى دِينِهِ، وَأَسْعَدَكُمَا بِمَرْضَاتِهِ، انْتَهَى إِلَيْنَا مَا ذَكَرْتُمَا أَنَّ الْمِيثَمِيَّ أَخْبَرَكُمَا عَنِ المُخْتَارِ وَمُنَاظَرَاتِهِ مَنْ لَقِيَ وَاحْتِجَاجِهِ بِأَنَّهُ لَا خَلَفَ غَيْرُ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ(٣٠٢) وَتَصْدِيقِهِ إِيَّاهُ، وَفَهِمْتُ جَمِيعَ مَا كَتَبْتُمَا بِهِ مِمَّا قَالَ أَصْحَابُكُمَا عَنْهُ، وَأَنَا أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْعَمَى بَعْدَ الْجَلَاءِ، وَمِنَ الضَّلَالَةِ بَعْدَ الْهُدَى، وَمِنْ مُوبِقَاتِ الْأَعْمَالِ وَمُرْدِيَاتِ الْفِتَنِ، فَإِنَّهُ (عزَّ وجلَّ) يَقُولُ: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: ١ و٢]، كَيْفَ يَتَسَاقَطُونَ فِي الْفِتْنَةِ، وَيَتَرَدَّدُونَ فِي الْحَيْرَةِ، وَيَأْخُذُونَ يَمِيناً وَشِمَالاً، فَارَقُوا دِينَهُمْ، أَمِ ارْتابُوا، أَمْ عَانَدُوا الْحَقَّ، أَمْ جَهِلُوا مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّادِقَةُ وَالْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ، أَوْ عَلِمُوا ذَلِكَ فَتَنَاسَوْا مَا يَعْلَمُونَ، إِنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ إِمَّا ظَاهِراً وَإِمَّا مَغْمُوراً.
أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا انْتِظَامَ أَئِمَّتِهِمْ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ إِلَى أَنْ أَفْضَى الْأَمْرُ بِأَمْرِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) إِلَى المَاضِي - يَعْنِي الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ (عليهما السلام) -، فَقَامَ مَقَامَ آبَائِهِ (عليهم السلام) يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، كَانُوا نُوراً سَاطِعاً، وَشِهَاباً لَامِعاً، وَقَمَراً زَاهِراً، ثُمَّ اخْتَارَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لَهُ مَا عِنْدَهُ، فَمَضَى عَلَى مِنْهَاجِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٠١) كمال الدِّين (ص ٣٠٤/ باب ٢٦/ ح ١٦).
(٣٠٢) أي لا خلف في الإمامة بعد الإمام العسكري (عليه السلام) غير جعفر الذي كان يدَّعي بالكذب.
↑صفحة ١٨٤↑
آبَائِهِ (عليهم السلام) حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ عَلَى عَهْدٍ عَهِدَهُ، وَوَصِيَّةٍ أَوْصَى بِهَا إِلَى وَصِيٍّ سَتَرَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) بِأَمْرِهِ إِلَى غَايَةٍ، وَأَخْفَى مَكَانَهُ بِمَشِيئَتِهِ لِلْقَضَاءِ السَّابِقِ وَالْقَدَرِ النَّافِذِ، وَفِينَا مَوْضِعُهُ، وَلَنَا فَضْلُهُ، وَلَوْ قَدْ أَذِنَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) فِيمَا قَدْ مَنَعَهُ عَنْهُ وَأَزَالَ عَنْهُ مَا قَدْ جَرَى بِهِ مِنْ حُكْمِهِ لَأَرَاهُمُ الْحَقَّ ظَاهِراً بِأَحْسَنِ حِلْيَةٍ، وَأَبْيَنِ دَلَالَةٍ، وَأَوْضَحِ عَلَامَةٍ، وَلَأَبَانَ عَنْ نَفْسِهِ وَقَامَ بِحُجَّتِهِ، وَلَكِنَّ أَقْدَارَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) لَا تُغَالَبُ، وَإِرَادَتَهُ لَا تُرَدُّ، وَتَوْفِيقَهُ لَا يُسْبَقُ، فَلْيَدَعُوا عَنْهُمُ اتِّبَاعَ الْهَوَى، وَلْيُقِيمُوا عَلَى أَصْلِهِمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، وَلَا يَبْحَثُوا عَمَّا سَتَرَ عَنْهُمْ فَيَأْثَمُوا، وَلَا يَكْشِفُوا سَتْرَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) فَيَنْدَمُوا، وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ الْحَقَّ مَعَنَا وَفِينَا، لَا يَقُولُ ذَلِكَ سِوَانَا إِلَّا كَذَّابٌ مُفْتَرٍ، وَلَا يَدَّعِيهِ غَيْرُنَا إِلَّا ضَالٌّ غَوِيٌّ، فَلْيَقْتَصِرُوا مِنَّا عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ دُونَ التَّفْسِيرِ، وَيَقْنَعُوا مِنْ ذَلِكَ بِالتَّعْرِيضِ دُونَ التَّصْرِيحِ إِنْ شَاءَ اللهُ»(٣٠٣).
وروى (رحمه الله) بسنده عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ مُنْتَظِراً لَهُ كَانَ كَمَنْ كَانَ فِي فُسْطَاطِ الْقَائِمِ (عليه السلام)»(٣٠٤).
وروى (رحمه الله) بسنده عن عبد الحميد الواسطي أنَّه سأل الباقر (عليه السلام)، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ مِتُّ قَبْلَ أَنْ أُدْرِكَ الْقَائِمَ؟ قَالَ: «الْقَائِلُ مِنْكُمْ أَنْ لَوْ أَدْرَكْتُ قَائِمَ آلِ مُحَمَّدٍ نَصَرْتُهُ، كَانَ كَالمُقَارِعِ بَيْنَ يَدَيْهِ بِسَيْفِهِ، لَا بَلْ كَالشَّهِيدِ مَعَهُ»(٣٠٥).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٠٣) كمال الدِّين (ص ٥١٠ و٥١١/ باب ٤٥/ ح ٤٢).
(٣٠٤) كمال الدِّين (ص ٦٤٤/ باب ٥٥/ ح ١)؛ ورواه البرقي (رحمه الله) في المحاسن (ج ١/ ص ١٧٣/ ح ١٤٧)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص ٢٠٦ و٢٠٧/ باب ١١/ ح ١٥).
(٣٠٥) كمال الدِّين (ص ٦٤٤/ باب ٥٥/ ح ٢)؛ ورواه بتفاوت البرقي (رحمه الله) في المحاسن (ج ١/ ص ١٧٣/ ح ١٤٨)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج ٨/ ص ٨٠ و٨١/ ح ٣٧).
↑صفحة ١٨٥↑
وروى (رحمه الله) بسنده عَنْ أَبِي الْحَسَنِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قَالَ: «أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي انْتِظَارُ الْفَرَجِ مِنَ اللهِ (عزَّ وجلَّ)»(٣٠٦).
وروى (رحمه الله) بسنده عن الرضا (عليه السلام): «مَا أَحْسَنَ الصَّبْرَ وَانْتِظَارَ الْفَرَجِ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾ [هود: ٩٣]، ﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ [الأعراف: ٧١]؟ فَعَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَجِيءُ الْفَرَجُ عَلَى الْيَأْسِ، فَقَدْ كَانَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَصْبَرَ مِنْكُمْ»(٣٠٧).
وروى (رحمه الله) بسنده عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليهم السلام)، قَالَ: «المُنْتَظِرُ لِأَمْرِنَا كَالمُتَشَحِّطِ بِدَمِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ»(٣٠٨).
وروى (رحمه الله) بسنده عَنْ عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): الْعِبَادَةُ مَعَ الْإِمَامِ مِنْكُمُ المُسْتَتِرِ فِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ أَفْضَلُ، أَمِ الْعِبَادَةُ فِي ظُهُورِ الْحَقِّ وَدَوْلَتِهِ مَعَ الْإِمَامِ الظَّاهِرِ مِنْكُمْ؟ فَقَالَ: «يَا عَمَّارُ، الصَّدَقَةُ وَاللهِ فِي السِّرِّ [فِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ] أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ فِي الْعَلَانِيَةِ، وَكَذَلِكَ عِبَادَتُكُمْ فِي السِّرِّ مَعَ إِمَامِكُمُ المُسْتَتِرِ فِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ أَفْضَلُ لِخَوْفِكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فِي دَوْلَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٠٦) كمال الدِّين (ص ٦٤٤/ باب ٥٥/ ح ٣)؛ ورواه (رحمه الله) في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج ٢/ ص ٣٩/ ح ٨٧) بتفاوت يسير.
(٣٠٧) كمال الدِّين (ص ٦٤٥/ باب ٥٥/ ح ٥)؛ ورواه الحميري (رحمه الله) في قرب الإسناد (ص ٣٨٠ و٣٨١/ ح ١٣٤٣).
(٣٠٨) كمال الدِّين (ص ٦٤٥/ باب ٥٥/ ح ٦)؛ ورواه الصدوق (رحمه الله) في الخصال (ص ٦٢٥/ حديث أربعمائة)، وفرات الكوفي (رحمه الله) في تفسيره (ص ٣٦٧/ ح ٤٩٩/١٠)، وابن شعبة (رحمه الله) في تُحَف العقول (ص ١١٥).
↑صفحة ١٨٦↑
الْبَاطِلِ وَحَالِ الْهُدْنَةِ مِمَّنْ يَعْبُدُ اللهَ (عزَّ وجلَّ) فِي ظُهُورِ الْحَقِّ مَعَ الْإِمَامِ الظَّاهِرِ فِي دَوْلَةِ الْحَقِّ، وَلَيْسَ الْعِبَادَةُ مَعَ الْخَوْفِ وَفِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ مِثْلَ الْعِبَادَةِ مَعَ الْأَمْنِ فِي دَوْلَةِ الْحَقِّ، اعْلَمُوا أَنَّ مَنْ صَلَّى مِنْكُمْ صَلَاةً فَرِيضَةً وُحْدَاناً مُسْتَتِراً بِهَا مِنْ عَدُوِّهِ فِي وَقْتِهَا فَأَتَمَّهَا كَتَبَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لَهُ بِهَا خَمْساً وَعِشْرِينَ صَلَاةً فَرِيضَةً وَحْدَانِيَّةً، وَمَنْ صَلَّى مِنْكُمْ صَلَاةً نَافِلَةً فِي وَقْتِهَا فَأَتَمَّهَا كَتَبَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لَهُ بِهَا عَشْرَ صَلَوَاتٍ نَوَافِلَ، وَمَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ حَسَنَةً كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا عِشْرِينَ حَسَنَةً، وَيُضَاعِفُ اللهُ حَسَنَاتِ المُؤْمِنِ مِنْكُمْ إِذَا أَحْسَنَ أَعْمَالَهُ وَدَانَ اللهَ (عزَّ وجلَّ) بِالتَّقِيَّةِ عَلَى دِينِهِ وَعَلَى إِمَامِهِ وَعَلَى نَفْسِهِ وَأَمْسَكَ مِنْ لِسَانِهِ أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً كَثِيرَةً، إِنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) كَرِيمٌ»، قَالَ: فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ قَدْ رَغَّبْتَنِي فِي الْعَمَلِ وَحَثَثْتَنِي عَلَيْهِ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَعْلَمَ كَيْفَ صِرْنَا الْيَوْمَ أَفْضَلَ أَعْمَالًا مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ مِنْكُمْ الظَّاهِرِ فِي دَوْلَةِ الْحَقِّ وَنَحْنُ وَهُمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ وَهُوَ دِينُ اللهِ (عزَّ وجلَّ)؟ فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَبَقْتُمُوهُمْ إِلَى الدُّخُولِ فِي دِينِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَإِلَى الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَإِلَى كُلِّ فِقْهٍ وَخَيْرٍ وَإِلَى عِبَادَةِ اللهِ سِرًّا مَعَ عَدُوِّكُمْ مَعَ الْإِمَامِ المُسْتَتِرِ، مُطِيعُونَ لَهُ، صَابِرُونَ مَعَهُ، مُنْتَظِرُونَ لِدَوْلَةِ الْحَقِّ، خَائِفُونَ عَلَى إِمَامِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ مِنَ المُلُوكِ، تَنْظُرُونَ إِلَى حَقِّ إِمَامِكُمْ وَحَقِّكُمْ فِي أَيْدِي الظَّلَمَةِ قَدْ مَنَعُوكُمْ ذَلِكَ وَاضْطَرُّوكُمْ إِلَى حَرْثِ الدُّنْيَا وَطَلَبِ المَعَاشِ مَعَ الصَّبْرِ عَلَى دِينِكُمْ وَعِبَادَتِكُمْ وَطَاعَةِ إِمَامِكُمْ وَالْخَوْفِ مِنْ عَدُوِّكُمْ، فَبِذَلِكَ ضَاعَفَ اللهُ أَعْمَالَكُمْ، فَهَنِيئاً لَكُمْ هَنِيئاً»، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ فَمَا نَتَمَنَّى إِذًا أَنْ نَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ الْقَائِمِ فِي ظُهُورِ الْحَقِّ وَنَحْنُ الْيَوْمَ فِي إِمَامَتِكَ وَطَاعَتِكَ أَفْضَلُ أَعْمَالاً مِنْ أَعْمَالِ أَصْحَابِ دَوْلَةِ الْحَقِّ؟ فَقَالَ:
↑صفحة ١٨٧↑
«سُبْحَانَ اللهِ، أَمَا تُحِبُّونَ أَنْ يُظْهِرَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) الْحَقَّ وَالْعَدْلَ فِي الْبِلَادِ، وَيُحْسِنَ حَالَ عَامَّةِ الْعِبَادِ، وَيَجْمَعَ اللهُ الْكَلِمَةَ، وَيُؤَلِّفَ بَيْنَ قُلُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَا يُعْصَى اللهُ (عزَّ وجلَّ) فِي أَرْضِهِ، وَيُقَامَ حُدُودُ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَيَرُدَّ اللهُ الْحَقَّ إِلَى أَهْلِهِ فَيَظْهَرُوهُ حَتَّى لَا يُسْتَخْفَى بِشَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ مَخَافَةَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ؟ أَمَا وَاللهِ يَا عَمَّارُ لَا يَمُوتُ مِنْكُمْ مَيِّتٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا إِلَّا كَانَ أَفْضَلَ عِنْدَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) مِنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْراً وَأُحُداً، فَأَبْشِرُوا»(٣٠٩).
وروى (رحمه الله) بسنده عن الصادق (عليه السلام): المُنْتَظِرُ لِلثَّانِي عَشَرَ كَالشَّاهِرِ سَيْفَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يَذُبُّ عَنْهُ...، هُوَ المُفَرِّجُ لِلْكَرْبِ عَنْ شِيعَتِهِ بَعْدَ ضَنْكٍ شَدِيدٍ، وَبَلَاءٍ طَوِيلٍ، وَجَزَعٍ وَخَوْفٍ، فَطُوبَى لِمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ»(٣١٠).
وروى الكليني (رحمه الله) بسنده عَنْ يَمَانٍ اَلتَّمَّارِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام) جُلُوساً، فَقَالَ لَنَا: «إِنَّ لِصَاحِبِ هَذَا اَلْأَمْرِ غَيْبَةً اَلمُتَمَسِّكُ فِيهَا بِدِينِه كَالْخَارِطِ لِلْقَتَادِ - ثُمَّ قَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ(٣١١) -، فَأَيُّكُمْ يُمْسِكُ شَوْكَ الْقَتَادِ بِيَدِه؟»، ثُمَّ أَطْرَقَ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ لِصَاحِبِ هَذَا اَلْأَمْرِ غَيْبَةً، فَلْيَتَّقِ اَللهَ عَبْدٌ وَلْيَتَمَسَّكْ بِدِينِهِ»(٣١٢).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٠٩) كمال الدِّين (ص ٦٤٥ - ٦٤٧/ باب ٥٥/ ح ٧).
(٣١٠) كمال الدِّين (ص ٦٤٧/ باب ٥٥/ ح ٨)؛ ورواه النعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص ٩٢/ باب ٤/ ح ٢١)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج ٢/ ص ٢٣٤ و٢٣٥).
(٣١١) أي أشار بيده، والخارط من يضرب بيده على الغصن ثمّ يمدّها إلى الأسفل ليسقط ورقه، والقتاد شجر له شوك.
(٣١٢) الكافي (ج ١/ ص ٣٣٥ و٣٣٦/ باب في الغيبة/ ح ١)؛ ورواه النعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص ١٧٣ و١٧٤/ باب ١٠/ فصل ٣/ ح ١١)، والصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص ٣٤٦ و٣٤٧/ باب ٣٣/ ح ٣٤)، وأبو الصلاح الحلبي (رحمه الله) في تقريب المعارف (ص ٤٣٢)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص ٤٥٥/ ح ٤٦٥).
↑صفحة ١٨٨↑
وروى (رحمه الله) بسنده عن الكاظم (عليه السلام) أنَّه قال: «إِذَا فُقِدَ اَلْخَامِسُ مِنْ وُلْدِ اَلسَّابِعِ فَالله اَلله فِي أَدْيَانِكُمْ، لَا يُزِيلُكُمْ عَنْهَا أَحَدٌ. يَا بُنَيَّ، إِنَّه لَا بُدَّ لِصَاحِبِ هَذَا اَلْأَمْرِ مِنْ غَيْبَةٍ حَتَّى يَرْجِعَ عَنْ هَذَا اَلْأَمْرِ مَنْ كَانَ يَقُولُ بِه، إِنَّمَا هِيَ مِحْنَةٌ مِنَ اَلله (عزَّ وجلَّ) اِمْتَحَنَ بِهَا خَلْقَهُ، لَوْ عَلِمَ آبَاؤُكُمْ وَأَجْدَادُكُمْ دِيناً أَصَحَّ مِنْ هَذَا لَاتَّبَعُوهُ»(٣١٣).
أقول: المقصود من ذيل الرواية ليس التقليد للآباء والأجداد، بل هو التنبيه إلى أنَّ من الآباء والأجداد من كان همُّه وسعيه في البحث عن الحقِّ والدِّين الصحيح، واختيار مثلهم لهذا الدِّين يكون مؤشِّراً لصحَّة هذا الدِّين، وليس ذلك دعوة للتقليد كما قد يُتوهَّم.
وروى (رحمه الله) أنَّ سائلاً سأل الصادق (عليه السلام)، قَالَ: قُلْتُ: إِذَا أَصْبَحْتُ وأَمْسَيْتُ لَا أَرَى إِمَاماً أَئْتَمُّ بِه، مَا أَصْنَعُ؟ قَالَ: «فَأَحِبَّ مَنْ كُنْتَ تُحِبُّ، وَأَبْغِضْ مَنْ كُنْتَ تُبْغِضُ حَتَّى يُظْهِرَه اَللهُ (عزَّ وجلَّ)»(٣١٤).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣١٣) الكافي (ج ١/ ص ٣٣٦/ باب في الغيبة/ ح ٢)؛ ورواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص ١١٣/ ح ١٠٠)، والصدوق (رحمه الله) في علل الشرائع (ج ١/ ص ٢٤٤/ باب ١٧٩/ ح ٣)، والخزَّاز القمِّي (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص ٢٦٨ و٢٦٩)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج ٢/ ص ٢٣٩).
(٣١٤) الكافي (ج ١/ ص ٣٤٢/ باب في الغيبة/ ح ٢٨)؛ ورواه بتفاوت يسير ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص١٢٧/ح ١٢٨)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص ١٦١/باب ١٠/ فصل ٢/ ح ٣)، والصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص ٣٤٨/ باب ٣٣/ ح ٣٧).
↑صفحة ١٨٩↑
وروى النعماني (رحمه الله) في كتاب (الغيبة) عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعِبَادُ مِنَ الله (عزَّ وجلَّ) وَأَرْضَى مَا يَكُونُ عَنْهُمْ إِذَا افْتَقَدُوا حُجَّةَ الله (جَلَّ وَعَزَّ) وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا بِمَكَانِهِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَمْ تَبْطُلْ حُجَّةُ الله (جَلَّ ذِكْرُهُ) وَلَا مِيثَاقُهُ، فَعِنْدَهَا فَتَوَقَّعُوا الْفَرَجَ صَبَاحاً وَمَسَاءً، فَإِنَّ أَشَدَّ مَا يَكُونُ غَضَبُ الله (عزَّ وجلَّ) عَلَى أَعْدَائِهِ إِذَا افْتَقَدُوا حُجَّةَ الله فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ، وَقَدْ عَلِمَ اللهُ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ(٣١٥) لَا يَرْتَابُونَ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَرْتَابُونَ مَا غَيَّبَ حُجَّتَهُ عَنْهُمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى رَأْسِ شِرَارِ النَّاسِ»(٣١٦).
وروى (رحمه الله) عن أبي جعفر (الباقر) (عليه السلام) أنَّه قال: «لَتُمَحَّصُنَّ يَا شِيعَةَ آلِ مُحَمَّدٍ تَمْحِيصَ الْكُحْلِ فِي الْعَيْنِ، وَإِنَّ صَاحِبَ الْعَيْنِ يَدْرِي مَتَى يَقَعَ الْكُحْلُ فِي عَيْنِهِ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى يَخْرُجُ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ يُصْبِحُ الرَّجُلُ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ أَمْرِنَا وَيُمْسِي وَقَدْ خَرَجَ مِنْهَا، وَيُمْسِي عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ أَمْرِنَا وَيُصْبِحُ وَقَدْ خَرَجَ مِنْهَا»(٣١٧).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣١٥) أي الذين كُتِبَ لهم الإيمان في قلوبهم، وأخذ عليهم ميثاق الولاية للأئمَّة (عليهم السلام) في غابر علم الله تعالى.
(٣١٦) الغيبة للنعماني (ص ١٦٥ و١٦٦/ باب ١٠/ فصل ٣/ ح ٢)؛ ورواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص ١٢٣/ ح ١٢٠)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج ١/ ص ٣٣٣/ باب نادر في الغيبة/ ح ١)؛ والصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص ٣٣٧ و٣٣٩/ باب ٣٣/ ح ١٠ و١٦ و١٧)، وأبو الصلاح الحلبي (رحمه الله) في تقريب المعارف (ص ٤٣٠)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص ٤٥٧/ ح ٤٦٨).
(٣١٧) الغيبة للنعماني (ص ٢١٤/ باب ١٢/ ح ١٢)؛ ورواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص ٣٣٩ و٣٤٠/ ح ٢٨٨).
↑صفحة ١٩٠↑
وروى (رحمه الله) عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «وَالله لَتُكْسَرُنَّ تَكَسُّرَ الزُّجَاجِ، وَإِنَّ الزُّجَاجَ لَيُعَادُ فَيَعُودُ كَمَا كَانَ، وَالله لَتُكْسَرُنَّ تَكَسُّرَ الْفَخَّارِ، وَإِنَّ الْفَخَّارَ لَيَتَكَسَّرُ فَلَا يَعُودُ كَمَا كَانَ، وَوَالله لَتُغَرْبَلُنَّ، وَوَالله لَتُمَيَّزُنَّ، وَوَالله لَتُمَحَّصُنَّ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْكُمْ إِلَّا الْأَقَلُّ - وَصَعَّرَ كَفَّهُ -»(٣١٨).
ثمّ قال النعماني (رحمه الله): (فتبيَّنوا - يا معشر الشيعة - هذه الأحاديث المرويَّة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن بعده من الأئمَّة (عليهم السلام)، واحذروا ما حذَّروكم، وتأمَّلوا ما جاء عنهم تأمُّلاً شافياً، وفكِّروا فيها فكراً تنعمونه، فلم يكن في التحذير شيء أبلغ من قولهم: «إنَّ الرجل يصبح على شريعة من أمرنا ويمسي وقد خرج منها، ويمسي على شريعة من أمرنا ويصبح وقد خرج منها»، أليس هذا دليل على الخروج من نظام الإمامة وترك ما كان يعتقد منها إلى تبيان الطريق؟
وفي قوله (عليه السلام): «والله لتكسرنَّ تكسُّر الزجاج وإنَّ الزجاج ليُعاد فيعود كما كان، والله لتكسرنَّ تكسُّر الفخَّار فإنَّ الفخَّار ليتكسَّر فلا يعود كما كان»، فضرب ذلك مثلاً لمن يكون على مذهب الإماميَّة فيعدل عنه إلى غيره بالفتنة التي تعرض له، ثمّ تلحقه السعادة بنظرة من الله فتُبيِّن له ظلمة ما دخل فيه وصفاء ما خرج منه، فيبادر قبل موته بالتوبة والرجوع إلى الحقِّ فيتوب الله عليه ويعيده إلى حاله في الهدى كالزجاج الذي يُعاد بعد تكسُّره فيعود كما كان، ولمن يكون على هذا الأمر فيخرج عنه، ويتمُّ على الشقاء بأنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣١٨) الغيبة للنعماني (ص ٢١٥/ باب ١٢/ ح ١٣)؛ ورواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص ٣٤٠/ ح ٢٨٩).
↑صفحة ١٩١↑
يُدرِكه الموت وهو على ما هو عليه غير تائب منه، ولا عائد إلى الحقِّ، فيكون مثله كمثل الفخَّار الذي يُكسَر فلا يُعاد إلى حاله، لأنَّه لا توبة له بعد الموت ولا في ساعته، نسأل الله الثبات على ما منَّ به علينا، وأنْ يزيد في إحسانه إلينا فإنَّما نحن له ومنه)(٣١٩)، انتهى.
وروى (رحمه الله) عن الكاظم (عليه السلام) أنَّه قال: «مَا يَكُونُ ذَلِكَ (أي ظهور الحجَّة (عجَّل الله فرجه)) حَتَّى تُمَيَّزُوا وَتُمَحَّصُوا، وَحَتَّى لَا يَبْقَى مِنْكُمْ إِلَّا الْأَقَلُّ - ثُمَّ صَعَّرَ كَفَّهُ -»(٣٢٠).
وروى (رحمه الله) عن الرضا (عليه السلام): «وَالله لَا يَكُونُ مَا تَمُدُّونَ إِلَيْهِ أَعْيُنَكُمْ حَتَّى تُمَحَّصُوا وَتُمَيَّزُوا، وَحَتَّى لَا يَبْقَى مِنْكُمْ إِلَّا الْأَنْدَرُ فَالْأَنْدَرُ»(٣٢١).
وفي رواية: «حَتَّى يَشْقَى مَنْ شَقِيَ وَيَسْعَدَ مَنْ سَعِدَ»(٣٢٢).
هذا، والروايات في هذا المجال كثيرة جدًّا تُطلَب من مظانِّها.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣١٩) الغيبة للنعماني (ص ٢١٥ و٢١٦).
(٣٢٠) الغيبة للنعماني (ص ٢١٦/ باب ١٢/ ح ١٤).
(٣٢١) الغيبة للنعماني (ص ٢١٦/ باب ١٢/ ح ١٥).
(٣٢٢) الغيبة للنعماني (ص ٢١٦ و٢١٧/ باب ١٢/ ح ١٦).
↑صفحة ١٩٢↑
لعلَّ قائلاً يقول: ما تفسير ما وقع من خروج كتاب ورد من الناحية المقدَّسة حرسها الله ورعاها على الشيخ المفيد أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان (قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه)؟
وما تفسير ما شاع نقله واستفاض من تشرُّف عدَّة من أساطين الفقهاء والعلماء بلقائه (عجَّل الله فرجه)، حتَّى إن ثُلَّة منهم نقل عنه (عجَّل الله فرجه) بعض الأدعية المسطورة في كُتُب الشيعة؟
وكيف يتَّفق مع ما تسالمت عليه الطائفة من انقطاع السفارة، وأنَّ «مَنِ اِدَّعَى اَلمُشَاهَدَةَ قَبْلَ خُرُوجِ اَلسُّفْيَانِيِّ وَاَلصَّيْحَةِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ»، كما ورد في التوقيع الذي خرج على يد النائب الرابع(٣٢٣).
فتفسير ذلك: أنَّه التبس على القائل معنى السفارة والنيابة الخاصَّة والوكالة والبابيَّة مع ما ذكره من الموارد، ولنُوضِّح الفرق بمثال موجود في يومنا هذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٢٣) قد مرَّ في (ص ٦٨ و٦٩)، فراجع.
↑صفحة ١٩٣↑
وهو الفرق بين سفير دولة ما وبين مواطن كأحد المواطنين لتلك الدولة قد أبلغ من قِبَلها بإيصال رسالة ما إلى جهة معيَّنة، فالسفير للدولة له منصب دائم من قِبَلها لإيصال والقيام بنيابة الدولة وتمثيلها، بخلاف ذلك المواطن الذي اتَّفق أنْ أُمِرَ بإيصال رسالة ما، فإنَّه لم يُنصَّب لمقام معيَّن، ولم يُجعَل ممثِّلاً دائميًّا.
ومن ثَمَّ نقول: الفرق بين الباب والسفير وبين مثل المكاتبة التي تشرَّف بها المفيد (رضوان الله تعالى عليه) هو أنَّ السفير كالنُوَّاب الأربعة في الغيبة الصغرى هو الذي يُنصَّب بنحو دائم كحلقة وصل بين الشيعة والإمام، ويكون على اتِّصال دائم بحيث يوصل من وإلى الحجَّة (عجَّل الله فرجه)، وهو يأتمر في كلِّ صغيرة وكبيرة من أعماله وإجراءاته وتنفيذه في المهامِّ الدِّينيَّة من قِبَل الحجَّة (عجَّل الله فرجه)، وتظهر على يديه دلائل وبراهين على النيابة الخاصَّة من قِبَل الحجَّة (عجَّل الله فرجه)، مع إظهار السفير سفارته لأجلاء الطائفة الإماميَّة، وأين هذا من مثل المكاتبة المذكورة؟
وقد تقدَّم ذكر عدَّة ممَّن كانوا يكتبون الأسئلة ويبعثون بها إلى الحجَّة (عجَّل الله فرجه) عبر النُّوَّاب في الغيبة الصغرى، كأبي جعفر محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري المعروف بمكاتبته للحجَّة (عجَّل الله فرجه) عبر النُّوَّاب الأربعة، ومع ذلك فلم يكن سفيراً ولا نائباً خاصًّا ولا وكيلاً بالمباشرة ولا بالواسطة بل كسائر الفقهاء.
وكذلك عدَّة كثيرة من الفقهاء كاتبوا في الغيبة الصغرى عبر النُّوَّاب الأربعة أو كُتِبَ إليهم.
↑صفحة ١٩٤↑
منهم محمّد بن صالح(٣٢٤)، وإسحاق بن يعقوب(٣٢٥)، ومحمّد بن الصالح(٣٢٦)، والحسن بن الفضل اليماني(٣٢٧)، وعليُّ بن محمّد الشمشاطي(٣٢٨)، وأبو رجاء المصري(٣٢٩)، ومحمّد بن هارون(٣٣٠)، وأبو القاسم بن أبي حليس(٣٣١)، وهارون بن موسى بن الفرات، ومحمّد بن محمّد البصري، ومحمّد بن يزداذ، ومحمّد بن كشمرد(٣٣٢)، وعليُّ بن محمّد بن إسحاق الأشعري(٣٣٣)، وإبراهيم بن محمّد بن الفرج(٣٣٤)، وغيرهم كثير جدًّا، ومع ذلك لم يكونوا وكلاء بالمباشرة ولا بالواسطة.
هذا مع أنَّ الشيخ المفيد (رحمه الله) كُتِبَ إليه من الحجَّة (عجَّل الله فرجه) لأنَّه أرسل كتاباً ثمّ أتاه الجواب، وكيف يُتوهَّم أنَّ الشيخ المفيد (رحمه الله) يدَّعي أنَّه سفير مع أنَّه نفسه (رحمه الله) ذكر في (الرسائل الخمس في الغيبة)(٣٣٥) انقطاع السفارة والنُّوَّاب بموت النائب الرابع في الغيبة الصغرى، وذكر ذلك في كتاب (الإرشاد) في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٢٤) راجع: كمال الدِّين (ص ٤٨٣/ باب ٤٥/ ح ٢).
(٣٢٥) راجع: كمال الدِّين (ص ٤٨٣/ باب ٤٥/ ح ٤).
(٣٢٦) راجع: كمال الدِّين (ص ٤٨٩/ باب ٤٥/ ح ١٢).
(٣٢٧) راجع: كمال الدِّين (ص ٤٩٠/ باب ٤٥/ ح ١٣).
(٣٢٨) راجع: كمال الدِّين (ص ٤٩١/ باب ٤٥/ ح ١٤).
(٣٢٩) راجع: كمال الدِّين (ص ٤٩١ و٤٩٢/ باب ٤٥/ ح ١٥).
(٣٣٠) راجع: كمال الدِّين (ص ٤٩٢/ باب ٤٥/ ح ١٧).
(٣٣١) راجع: كمال الدِّين (ص ٤٩٣/ باب ٤٥/ ح ١٨).
(٣٣٢) راجع: كمال الدِّين (ص ٤٩٣ - ٤٩٧/ باب ٤٥/ ح ١٨).
(٣٣٣) راجع: كمال الدِّين (ص ٤٩٧ و٤٩٨/ باب ٤٥/ ح ١٩).
(٣٣٤) راجع: كمال الدِّين (ص ٤٩٨/ باب ٤٥/ ح ٢٢).
(٣٣٥) وقد تقدَّم نقل كلامه (رحمه الله) في (ص ٦٤)، فراجع.
↑صفحة ١٩٥↑
الفصل الذي عقده للإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه)(٣٣٦)، وفي بقية كُتُبه، ومع أنَّ الشيخ المفيد (رحمه الله) نفسه ذكر عن شيخه أبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه (رحمه الله): (إنَّ عندنا أنَّ كلَّ من ادَّعى الأمر بعد السمري (رحمه الله) فهو كافر منمِّس ضالٌّ مضلٌّ)(٣٣٧).
نعم، الشيخ المفيد (رحمه الله) كبقيَّة الفقهاء العدول له النيابة العامَّة، وهي المرجعيَّة، والتي يستقي الفقيه علمه بالأحكام الشرعيَّة من الكتاب والأخبار المأثورة عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة (عليهم السلام)، كما تقدَّم شرح ذلك في الأمر الثالث من هذا الفصل.
هذا مع أنَّه يصعب الجزم بصدور هذا الكتاب من الناحية المقدَّسة ووروده للشيخ المفيد (رحمه الله)، وذلك لأنَّ الشيخ الطبرسي (رحمه الله) تفرَّد بذكر ذلك في كتابه (الاحتجاج)، ولم يذكر طريقه وسنده إلى الشيخ المفيد (رحمه الله).
أمَّا تفرُّده فلأنَّ الشيخ الطوسي (رحمه الله) وهو تلميذ الشيخ المفيد (رحمه الله) ومن خواصِّه المقرَّبين إليه لم يذكر ذلك في كتابه (الرجال) و(الفهرست) عند ترجمة شيخه المفيد (رحمه الله)، مع أنَّه أثنى عليه بأبلغ الثناء والمدح، ولو كان مثل هذا الكتاب من الناحية المقدَّسة لناسب ذكره في الترجمة، لأنَّه أبلغ شيء في التعريف بمكانة شيخه، كما لم يذكر الشيخ الطوسي (رحمه الله) هذه الواقعة في بقيَّة كُتُبه.
وكذلك الشيخ الجليل أبو العبَّاس أحمد بن عليٍّ النجاشي تلميذ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٣٦) راجع: الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٤٠).
(٣٣٧) قد مرَّ في (ص ٢٧)، فراجع.
↑صفحة ١٩٦↑
الشيخ المفيد (رحمهما الله) لم يذكر ذلك في ترجمة شيخه في (رجاله) مع أنَّه أطرى عليه بأحسن الثناء.
وكذلك لم يُعثَر في كُتُب السيِّد المرتضى عليِّ بن الحسين الموسوي (رحمه الله) على ذكر لهذه الواقعة، مع أنَّ السيِّد يأتي بشيء من الإطراء والمدح لأُستاذه الشيخ المفيد (رحمه الله) عند تصادف ذكر شيخه في كُتُبه.
وكذلك لم يذكر ذلك ابن الحلِّي (رحمه الله) في (سرائره) في المستطرفات في ما استطرفه من كتاب (العيون) و(المحاسن) تصنيف المفيد (رحمه الله)، حيث أتى بترجمة للمفيد (رحمه الله) في البدء فيها من المدح والثناء الجميل.
وكذلك لم يذكر ذلك العلَّامة الحلِّي (رحمه الله) في كتاب (الرجال) عند ترجمة الشيخ المفيد (رحمه الله)، مع أنَّه أطرى عليه بالمدح الجزيل، مع أنَّ العلَّامة الحلِّي (رحمه الله) من أعلام الطائفة في القرن السابع، فهو متأخِّر عن الشيخ الطبرسي (رحمه الله) الذي هو من أعلام القرن السادس.
وكذلك لم يذكر ذلك تقي الدِّين ابن داود الحلِّي (رحمه الله) المعاصر للعلَّامة الحلِّي (رحمه الله) في كتاب (الرجال).
وكذلك لم يذكر ذلك الشيخ أبو الفتح الكراجكي تلميذ المفيد (رحمهما الله)، مع أنَّه كرَّر ذكره في كتابه (كنز الفوائد).
نعم، ذكر ابن شهرآشوب السروي (رحمه الله) في (معالم العلماء): (ولقَّبه بالشيخ المفيد صاحب الزمان (صلوات الله عليه)، وقد ذكرت سبب ذلك في مناقب آل أبي طالب)(٣٣٨)، ولكن لم يُعثَر على ذلك في كتابه (المناقب)، وقد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٣٨) معالم العلماء (ص ١٤٨).
↑صفحة ١٩٧↑
ذكر المصحِّح الذي أشرف على طبع كتاب (المناقب): (وليُعلَم أنَّ الموجود من المناقب في أحوال الأئمَّة (عليهم السلام) إلى العسكري، ولم نعثر على أحوال الحجَّة (عليه السلام) منه، ولا نقله من تقدَّمنا من سدنة الأخبار كالمجلسي (رحمه الله) والشيخ الحرِّ وأمثالهما، وربَّما يُتوهَّم أنَّه لم يُوفَّق لذكر أحواله (عليه السلام)، إلَّا أنَّه قال في (معالم العلماء) في ترجمة المفيد (رحمه الله): إنَّه لقَّبه به صاحب الزمان (عليه السلام)، قال: (وقد ذكرت سبب ذلك في مناقب آل أبي طالب)، والظاهر أنَّه كتبه في جملة أحواله (عليه السلام) في هذا الباب سقط من هذا الكتاب)(٣٣٩).
وعلى أيَّة حالٍ، فابن شهرآشوب تلميذ الشيخ الطبرسي (رحمهما الله) كما ذكر هو ذلك(٣٤٠)، فالمظنون قويًّا أنَّه نقله عن الطبرسي (رحمه الله).
وكذلك ما يُحكى عن (رسالة نهج العلوم) ليحيى بن بطريق الحلِّي (رحمه الله) صاحب كتاب (العمدة في عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار) المتوفَّى سنة (٦٠٠) هجريَّة أنَّه ذكر التوقيعات المذكورة إلى الشيخ المفيد (رحمه الله)، فالمظنون قويًّا أنَّه نقله عن ابن شهرآشوب (رحمه الله)، لأنَّه الراوي عنه(٣٤١)، أو نقله عن الشيخ الطبرسي (رحمه الله).
هذا مع أنَّ ابن إدريس (رحمه الله) ذكر في كتاب (السرائر) في ما استطرفه من كتاب (العيون) و(المحاسن) تصنيف الشيخ المفيد (رحمه الله) أنَّ الذي سمَّاه بهذا اللقب عليُّ بن عيسى الرمَّاني عندما أفحمه المفيد (رحمه الله) وكان في بداية نشوه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٣٩) مناقب آل أبي طالب (ج ٤/ ص ٤٤٦ و٤٤٧)، وإلى ذلك أشار الميرزا النوري (قدّس سرّه) في خاتمة المستدرك (ج ٣/ ص ٢٣٤) في ترجمة المفيد (رحمه الله).
(٣٤٠) معالم العلماء (ص ٦١/ الرقم ١٢٥).
(٣٤١) راجع: الذريعة إلى تصانيف الشيعة (ج ١٥/ ص ٣٣٤/ الرقم ٢١٥٥).
↑صفحة ١٩٨↑
العلمي(٣٤٢)، لا أنَّ هذا اللقب اشتهر به في آخر عمره كما هو مقتضى تاريخ التوقيع، إلَّا أنْ يريد ابن شهرآشوب (رحمه الله) جري هذا اللقب على لسانه الشريف (عجَّل الله فرجه)، وما في ذلك من المدح للمفيد (رضوان الله تعالى عليه).
وأمَّا عدم ذكر الطريق، فلأنَّ الشيخ الطبرسي (رحمه الله) لا يروي مباشرةً عن المفيد (رحمه الله)، بل لا بدَّ من الواسطة، ولم تُذكر في كلامه (رفع الله مقامه).
وهو وإنْ ذكر في أوَّل كتاب (الاحتجاج) حيث يقول: (ولا نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار بإسناده إمَّا لوجود الإجماع عليه، أو موافقته لما دلَّت العقول إليه، أو لاشتهاره في السِّيَر والكُتُب بين المخالف والمؤالف)(٣٤٣).
لكن شيئاً من الأقسام الثلاثة غير متحقِّق لدينا.
أمَّا الإجماع والاتِّفاق، فقد عرفت خلوَّ كُتُب التراجم والرجال المصنَّفة ممَّن هو أقرب زمناً من الشيخ الطبرسي (رحمه الله) من ذلك، ومن ذلك لا يتحقَّق لدينا وجود الشهرة أيضاً في تلك الأعصار(٣٤٤).
وأمَّا الموافقة للدليل العقلي، فلا دليل عقلي في البين على وقوع ذلك.
نعم، الشيخ الطبرسي (رحمه الله) لا محالة قد تحقَّق لديه أحدها، ولكن لم يتحقَّق لدينا كما عرفت.
وهنا إشكال آخر ذكره السيِّد المحقِّق الخوئي (قدّس سرّه) في (المعجم) بقوله:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٤٢) راجع: مستطرفات السرائر (ص ٦٤٨ و٦٤٩).
(٣٤٣) الاحتجاج (ج ١/ ص ١٠).
(٣٤٤) نعم، حكى صاحب لؤلؤة البحرين (رحمه الله) في (ص ٣٥٠)، عن ابن بطريق الحلِّي (رحمه الله) في رسالة نهج العلوم أنَّ التواقيع ترويها كافَّة الشيعة وتتلقَّاها بالقبول، فلاحظ.
↑صفحة ١٩٩↑
(هب أنَّ الشيخ المفيد جزم بقرائن أنَّ التوقيع صدر من الناحية المقدَّسة، ولكن كيف يمكننا الجزم بصدوره من تلك الناحية؟)(٣٤٥).
ووجه هذا الإشكال أنَّ المفيد (رحمه الله) ليس سفيراً خاصًّا وباباً للحجَّة (عجَّل الله فرجه) كي يُجزَم بما قد جزم به المفيد (رحمه الله) أنَّه من الناحية، إذ قد لا يحصل الجزم من تلك القرائن فيما لو علمنا بها.
وهذا بخلاف الحال في السفير والباب الخاصِّ بالحجَّة (عجَّل الله فرجه)، فإنَّ مقتضى سفارته حجّيَّة قوله فيما يُؤدِّيه عن الحجَّة من دون احتمال الخطأ والغفلة، كما ورد في قول الإمام العسكري (عليه السلام) عند تنصيصه على نيابة العمري وابنه: «اَلْعَمْرِيُّ وَاِبْنُهُ ثِقَتَانِ، فَمَا أَدَّيَا إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّيَانِ، ومَا قَالَا لَكَ فَعَنِّي يَقُولَانِ»(٣٤٦)، «فَاقْبَلُوا مِنْ عُثْمَانَ (النائب الأوَّل العمري) مَا يَقُولُهُ، وَاِنْتَهُوا إِلَى أَمْرِهِ، وَاِقْبَلُوا قَوْلَهُ، فَهُوَ خَلِيفَةُ إِمَامِكُمْ، وَاَلْأَمْرُ إِلَيْهِ»(٣٤٧).
ومن ذلك كلِّه يظهر لك تفسير تشرُّف عدَّة من أكابر العلماء والفقهاء والأتقياء بلقاء الحجَّة (عجَّل الله فرجه) وسعادتهم بجمال محضره الشريف، فإنَّ ذلك ليس يعني سفارتهم وبابيَّتهم وأنَّهم منصوبون لذلك.
بل إنَّ ذلك نتيجة الطهارة من الذنوب ومن النزعات الشيطانيَّة والحيوانيَّة، إذ قد ورد في بعض الروايات أنَّ الحاجب بيننا وبين نور
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٤٥) معجم رجال الحديث (ج ١٨/ ص ٢٢٠).
(٣٤٦) قد مرَّ في (ص ٥٨)، فراجع.
(٣٤٧) قد مرَّ في (ص ١٦٠)، فراجع.
↑صفحة ٢٠٠↑
مطلعه الباهر (عليه أفضل صلوات المَلِك القادر) هي ذنوبنا وسيِّئات أعمالنا(٣٤٨).
وقد ذكر الصدوق (رحمه الله) في (كمال الدِّين) عدَّة كثيرة ممَّن تشرَّف بلقائه (عجَّل الله فرجه) في الغيبة الصغرى فترة النُّوَّاب الأربعة(٣٤٩)، ولم تكن تلك العدَّة التي تشرَّفت بلقائه (عجَّل الله فرجه) سفراء ونُوَّاباً.
وأمَّا توافق ذلك مع ما خرج من التوقيع على يد عليِّ بن محمّد السمري النائب الرابع والأخير: «مَنِ اِدَّعَى اَلمُشَاهَدَةَ قَبْلَ خُرُوجِ اَلسُّفْيَانِيِّ وَاَلصَّيْحَةِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ»(٣٥٠).
فلأنَّ معنى التوقيع المبارك كما هو الراجح لدى العلماء هو ادِّعاء النيابة الخاصَّة والسفارة، بقرينة أنَّ التوقيع صدر قرب وفاة السمري (رحمه الله)، حيث إنَّ في أوَّله تعزية الإمام (عجَّل الله فرجه) المؤمنين بموت السمري ما بينه وبين ستَّة أيَّام، ثمّ أمره (عجَّل الله فرجه) بعدم الوصاية إلى أحد يقوم مقامه بعد وفاته، إذ قد وقعت الغيبة التامَّة، وأنَّه لا ظهور حتَّى يأذن الله تعالى ذكره. هذه كلُّها قرائن أنَّ سياق الكلام دالٌّ على تكذيب ادِّعاء النيابة والسفارة بعد السمري (رضوان الله تعالى عليه).
ونصُّ التوقيع كما ذكره الشيخ (رحمه الله) في (الغيبة)، قال: وَأَخْبَرَنَا جَمَاعَةٌ (وهم مشايخه)، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ بَابَوَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٤٨) مثل الرواية التي أخرجها الطبري الشيعي (رحمه الله) في دلائل الإمامة (ص ٥٣٩ - ٥٤٢/ ح ٥٢٢/١٢٦) من مشاهدة ابن مهزيار له (عجّل الله فرجه) عند قوله (عجّل الله فرجه): «فَمَا اَلَّذِي أَبْطَأَ بِكَ عَلَيْنَا؟».
(٣٤٩) راجع: كمال الدِّين (ص ٤٣٤ - ٤٧٩/ باب ٤٣ ذكر من شاهد القائم (عليه السلام) ورآه وكلَّمه).
(٣٥٠) قد مرَّ في (ص ٦٨ و٦٩)، فراجع.
↑صفحة ٢٠١↑
(الصدوق)، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ اَلْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ اَلمُكَتِّبُ (الذي ترحَّم عليه الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين)، قَالَ: كُنْتُ بِمَدِينَةِ اَلسَّلَامِ فِي اَلسَّنَةِ اَلَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا اَلشَّيْخُ أَبُو اَلْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلسَّمُرِيُّ (قدّس سرّه)، فَحَضَرْتُهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِأَيَّامٍ، فَأَخْرَجَ إِلَى اَلنَّاسِ تَوْقِيعاً نُسْخَتُهُ: «بِسْمِ اَلله اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، يَا عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ اَلسَّمُرِيَّ، أَعْظَمَ اَللهُ أَجْرَ إِخْوَانِكَ فِيكَ، فَإِنَّكَ مَيِّتٌ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ سِتَّةِ أَيَّامٍ، فَاجْمَعْ أَمْرَكَ وَلَا تُوصِ إِلَى أَحَدٍ فَيَقُومَ مَقَامَكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ، فَقَدْ وَقَعَتِ اَلْغَيْبَةُ اَلتَّامَّةُ، فَلَا ظُهُورَ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِ اَلله تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ طُولِ اَلْأَمَدِ، وَقَسْوَةِ اَلْقُلُوبِ، وَاِمْتِلَاءِ اَلْأَرْضِ جَوْراً. وَسَيَأْتِي شِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي اَلمُشَاهَدَةَ، أَلَا فَمَنِ اِدَّعَى اَلمُشَاهَدَةَ قَبْلَ خُرُوجِ اَلسُّفْيَانِيِّ وَاَلصَّيْحَةِ فَهُوَ كَذَّابٌ مُفْتَرٍ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله اَلْعَلِيِّ اَلْعَظِيمِ»(٣٥١).
وقد أنبأ (عجَّل الله فرجه) شيعته بمجيء المدَّعين الكذَّابين المفترين، وقد حصل مجيئهم كرَّات ومرَّات ولا زال في يومنا هذا، وهذا الإنباء بالمستقبل من معجزاته (عجَّل الله فرجه). وواضح أنَّ من يدَّعي المشاهدة للحجَّة (عجَّل الله فرجه) ليس غرضه إلَّا إظهار نفسه كوسيط وسفير للحجَّة (عجَّل الله فرجه)، وهذه قرينة أُخرى على أنَّ المعنى المراد في التوقيع المبارك هو ادِّعاء النيابة والسفارة.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٥١) الغيبة للطوسي (ص ٣٩٥/ ح ٣٦٥)؛ ورواه الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص ٥١٦/ باب ٤٥/ ح ٤٤)، والشيخ الطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج ٢/ ص ٢٦٠)، وابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص ٦٠٣ و٦٠٤/ ح ٥٥١/١٥)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج ٣/ ص ١١٢٨ و١١٢٩/ ح ٤٦)، وأحمد بن عليٍّ الطبرسي (رحمه الله) في الاحتجاج (ج ٢/ص ٢٩٧).
↑صفحة ٢٠٢↑
الأمر العاشر: من هم الأبدال والأوتاد؟
ولعلَّ سؤالاً يُطرَح، وهو: أليس الأبدال والأوتاد على درجة من القرب إلى الناحية المقدَّسة، ولعلَّ المقدَّمين منهم على اتِّصال، فكيف يلتئم ذلك مع انقطاع النيابة الخاصَّة؟
فالجواب يتَّضح من خلال استعراض ما ورد من الروايات في ذلك:
منها: ما رواه الصدوق (رحمه الله) بإسناده عن أبي سعيد الخدري في وصيِّة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعليٍّ (عليه السلام)، قَالَ: «يَا عَلِيُّ، عَلَيْكَ بِالْجِمَاعِ لَيْلَةَ اَلْاِثْنَيْنِ، فَإِنَّهُ إِنْ قُضِيَ بَيْنَكُمَا وَلَدٌ يَكُونُ حَافِظاً لِكِتَابِ اَلله، رَاضِياً بِمَا قَسَمَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ). يَا عَلِيُّ، إِنْ جَامَعْتَ أَهْلَكَ...»، إلى أنْ قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «وَإِنْ جَامَعْتَهَا فِي لَيْلَةِ اَلْجُمُعَةِ بَعْدَ اَلْعِشَاءِ اَلْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ يُرْجَى أَنْ يَكُونَ اَلْوَلَدُ مِنَ اَلْأَبْدَالِ إِنْ شَاءَ اَللهُ تَعَالَى»(٣٥٢)، وقد رواه الطبرسي (رحمه الله) في (مكارم الأخلاق)(٣٥٣).
منها: ما رواه الطبرسي (رحمه الله) عَنْ خَالِدِ بْنِ اَلْهَيْثَمِ اَلْفَارِسِيِّ، قَالَ: قُلْتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٥٢) من لا يحضره الفقيه (ج ٣/ ص ٥٥٣ و٥٥٤/ ح ٤٨٩٩)، أمالي الصدوق (ص ٦٦٥/ ح ٨٩٦/١)، علل الشرائع (ج ٢/ ص ٥١٦ و٥١٧/ باب ٢٨٩/ ح ٥).
(٣٥٣) مكارم الأخلاق (ص ٢١١)؛ ورواه أيضاً المفيد (رحمه الله) في الاختصاص (ص ١٣٤ و١٣٥).
↑صفحة ٢٠٣↑
لِأَبِي اَلْحَسَنِ اَلرِّضَا (عليه السلام): إِنَّ اَلنَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّ فِي اَلْأَرْضِ أَبْدَالاً، فَمَنْ هَؤُلَاءِ اَلْأَبْدَالُ؟ قَالَ: «صَدَقُوا، اَلْأَبْدَالُ هُمُ اَلْأَوْصِيَاءُ، جَعَلَهُمُ اَللهُ فِي اَلْأَرْضِ بَدَلَ اَلْأَنْبِيَاءِ، إِذَا رَفَعَ اَلْأَنْبِيَاءَ وَخَتَمَ بِمُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(٣٥٤).
وقال المجلسي (رحمه الله) في بيان هذا الحديث: (ظاهر الدعاء المروي من أُمِّ داود عن الصادق (عليه السلام) في النصف من رجب حيث قال: «اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَاِرْحَمْ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّدٍ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وَرَحِمْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى اَلْأَوْصِيَاءِ، وَاَلسُّعَدَاءِ، وَاَلشُّهَدَاءِ، وَأَئِمَّةِ اَلْهُدَى. اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى اَلْأَبْدَالِ، وَاَلْأَوْتَادِ، وَاَلسُّيَّاحِ، وَاَلْعُبَّادِ، وَاَلمُخْلِصِينَ، وَاَلزُّهَّادِ، وَأَهْلِ اَلْجِدِّ وَاَلْاِجْتِهَادِ...» إلى آخر الدعاء، يدلُّ على مغايرة الأبدال للأئمَّة (عليهم السلام)، لكن ليس بصريح فيها، فيمكن حمله على التأكيد. ويحتمل أنْ يكون المراد به في الدعاء خواصِّ أصحاب الأئمَّة (عليهم السلام)، والظاهر من الخبر نفي ما تفتريه الصوفيَّة من العامَّة، كما لا يخفى على المتتبِّع العارف بمقاصدهم (عليهم السلام))(٣٥٥).
ومنها: ما رواه الكليني (رحمه الله) عن الباقر (عليه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إِنِّي وَاثْنَيْ عَشَرَ(٣٥٦) مِنْ وُلْدِي وَأَنْتَ يَا عَلِيُّ زِرُّ اَلْأَرْضِ، يَعْنِي أَوْتَادَهَا وَجِبَالَهَا، بِنَا أَوْتَدَ اَللهُ اَلْأَرْضَ أَنْ تَسِيخَ بِأَهْلِهَا، فَإِذَا ذَهَبَ اَلْاِثْنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٥٤) الاحتجاج (ج ٢/ ص ٢٣١).
(٣٥٥) بحار الأنوار (ج ٢٧/ ص ٤٨).
(٣٥٦) في الغيبة للطوسي (ص ١٣٨ و١٣٩/ ح ١٠٢): «إِنِّي وَأَحَدَ عَشَرَ مِنْ وُلْدِي»، ويمكن توجيه نسخة الكافي بأنَّ المراد فاطمة وأحد عشر من ولدها (عليهم السلام)، أو يكون عطف «وَأَنْتَ» من عطف الخاصِّ على العامِّ، حيث إنَّه (عليه السلام) ربيب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
↑صفحة ٢٠٤↑
عَشَرَ مِنْ وُلْدِي سَاخَتِ اَلْأَرْضُ بِأَهْلِهَا، وَلَمْ يُنْظَرُوا»(٣٥٧).
وهذه الرواية مطابقة في المضمون للرواية السابقة، ولكن هذا المضمون لا يعارض ما دلَّ على أنَّ الأوتاد والأبدال هم غير الأئمَّة (عليهم السلام)، وذلك لإمكان عموم معناهما، غاية الأمر أنَّه تشكيكي (متفاوت الأفراد) ذو درجات الأعلى والأشرف من أفراده هم الأئمَّة (عليهم السلام)، ولهم آثار تخصُّهم، بخلاف بقيَّة أفراد ومصاديق ذلك المعنى العامِّ، فإنَّ لهم آثاراً أقلّ شأناً.
وحكى الشيخ القمِّي (رحمه الله) في كتابه (سفينة البحار) في عنوان (قطب): (ثمّ اعلم أنَّه قال الكفعمي في حاشية مصباحه: قيل: إنَّ الأرض لا تخلو من القطب، وأربعة أوتاد، وأربعين بدلاً، وسبعين نجيباً، وثلاثمائة وستِّين صالحاً، فالقطب هو المهديُّ (صلوات الله عليه)، ولا تكون الأوتاد أقلّ من أربعة، لأنَّ الدنيا كالخيمة، والمهديُّ (عليه السلام) كالعمود، وتلك الأربعة أطناب، وقد تكون الأوتاد أكثر من أربعة، والأبدال أكثر من أربعين، والنجباء أكثر من سبعين، والصالحون أكثر من ثلاثمائة وستِّين، والظاهر أنَّ الخضر وإلياس (عليهما السلام) من الأوتاد، فهما ملاصقان لدائرة القطب، وأمَّا صفة الأوتاد فهم قوم لا يغفلون عن ربِّهم طرفة عين، ولا يجمعون من الدنيا إلَّا البلاغ، ولا تصدر منهم هفوات البشر، ولا يُشترَط فيهم العصمة، وشُرِطَ ذلك في القطب، وأمَّا الأبدال فدون هؤلاء في المرتبة، وقد تصدر منهم الغفلة، فيتداركونها بالتذكُّر، ولا يتعمَّدون ذنباً، وأمَّا النجباء فهم دون الأبدال،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٥٧) الكافي (ج ١/ ص ٥٣٤/ باب ما جاء في الاثني عشر والنصِّ عليهم (عليهم السلام)/ ح ١٧).
↑صفحة ٢٠٥↑
وأمَّا الصالحون فهم المتَّقون الموصوفون بالعدالة، وقد يصدر منهم الذنب، فيتداركونه بالاستغفار والندم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠١]، ثمّ ذكر أنَّه إذا نقص واحد من أحد المراتب المذكورة وُضِعَ بدله من المرتبة الأدنى، وإذا نُقِصَ من الصالحين وُضِعَ بدله من سائر الناس، والله العالم)(٣٥٨).
وحكى (رحمه الله) في قصَّة إلياس (عليه السلام): (روى الثعلبي، عن رجل من أهل عسقلان أنَّه كان يمشي بالأُردن عند نصف النهار، فرأى إلياس النبيَّ، فسأله: كم من الأنبياء أحياء اليوم؟ قال: أربعة، اثنان في الأرض واثنان في السماء، ففي السماء عيسى وإدريس، وفي الأرض إلياس والخضر، قلت: كم الأبدال؟ قال: ستُّون رجلاً، خسمون منهم من لدن عريش مصر إلى شاطئ الفرات، ورجلان بالمصيصة، ورجل بعسقلان، وسبعة في سائر البلاد، كلَّما أذهب الله تعالى بواحد منهم جاء سبحانه بآخر، بهم يدفع الله عن الناس، وبهم يُمطَرون)(٣٥٩).
ومنها: ما في (نهج البلاغة) من خطبة له (عليه السلام) في صفات المتَّقين: «عِبَادَ اَلله، إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اَلله إِلَيْهِ عَبْداً أَعَانَهُ اَللهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَاسْتَشْعَرَ اَلْحُزْنَ...»، إلى أنْ قال (عليه السلام): «قَدْ أَخْلَصَ لِله فَاسْتَخْلَصَهُ، فَهُوَ مِنْ مَعَادِنِ دِينِهِ، وَأَوْتَادِ أَرْضِهِ»(٣٦٠).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٥٨) سفينة البحار (ج ٧/ ص ٣٣١ و٣٣٢)؛ وقد ذكر السيِّد حيدر الأملي (رحمه الله) في المقدَّمات من كتاب نصِّ النصوص (ص ٢٦١) في التمهيد الثالث بحث الأقطاب والأوتاد والأبدال عند العرفاء والصوفيَّة.
(٣٥٩) سفينة البحار (ج ١/ ص ١١٤).
(٣٦٠) نهج البلاغة (ص ١١٨ و١١٩/ الخطبة ٨٧).
↑صفحة ٢٠٦↑
وقال الشارح البحراني (رحمه الله) في ذيله: (كونه من أوتاد أرضه استعار له لفظ الوتد، ووجه المشابهة كون كلٍّ منهما سبباً لحفظ ما يُحفَظ به، فبالوتد يُحفَظ الموتود، وبالعارف يُحفَظ نظام الأرض واستقامة أُمور هذا العالم)(٣٦١).
ويشهد هذا المدلول لهذه الرواية لعموم المعنى الذي ذكرناه سابقاً، وأنَّه تشكيكي ذو درجات، وأيضاً يُفسِّر مقام الأبدال بأنَّ لهم نتيجة التقوى آثاراً تكوينيَّة مختلفة، لا أنَّ غير الأئمَّة من الأبدال له منصب شرعي وديني خاصٍّ ومعيَّن.
ويُؤيِّد ذلك ما ورد في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ (الكهف: ٨٢)، وما ورد في ذيله عن الباقر والصادق (عليهما السلام)، قَالَا: «يُحْفَظُ اَلْأَطْفَالُ بِأَعْمَالِ آبَائِهِمْ، كَمَا حَفِظَ اَللهُ اَلْغُلَامَيْنِ بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا»(٣٦٢).
وفي رواية أُخرى: «إِنَّ اَللهَ يَحْفَظُ وُلْدَ اَلمُؤْمِنِ لِأَبِيهِ إِلَى أَلْفِ سَنَةٍ، وَإِنَّ اَلْغُلَامَيْنِ كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَبَوَيْهِمَا سَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ»(٣٦٣).
وفي رواية ثالثة: «إِنَّ اَللهَ لَيُصْلِحُ بِصَلَاحِ اَلرَّجُلِ اَلمُؤْمِنِ وُلْدَهُ وَ وُلْدَ وُلْدِهِ، وَيَحْفَظُهُ فِي دُوَيْرَتِهِ وَدُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ، فَلَا يَزَالُونَ فِي حِفْظِ اَلله لِكَرَامَتِهِ عَلَى اَلله، ثُمَّ ذَكَرَ اَلْغُلَامَيْنِ فَقَالَ: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً﴾، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اَللهَ شَكَرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٦١) شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني (ج ٢/ ص ٢٩٥).
(٣٦٢) تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٣٣٨/ ح ٦٥).
(٣٦٣) تفسير العيِّاشي (ج ٢/ ص ٣٣٩/ ح ٧٠).
↑صفحة ٢٠٧↑
صَلَاحَ أَبَوَيْهِمَا لَهُمَا»(٣٦٤).
وفي رواية رابعة أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «إِنَّ اَللهَ لَيَخْلُفُ اَلْعَبْدَ اَلصَّالِحَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَإِنْ كَانَ أَهْلُهُ أَهْلَ سَوْءٍ»، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ اَلْآيَةَ(٣٦٥).
ومن هذا القبيل ما روي عن الباقر (عليه السلام)، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، قَالَ: «ضَاقَتِ اَلْأَرْضُ بِسَبْعَةٍ، بِهِمْ تُرْزَقُونَ، وَبِهِمْ تُنْصَرُونَ، وَبِهِمْ تُمْطَرُونَ، مِنْهُمْ سَلْمَانُ اَلْفَارِسِيُّ، وَاَلْمِقْدَادُ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَعَمَّارٌ، وَحُذَيْفَةُ (رَحْمَةُ اَلله عَلَيْهِمْ)، وَكَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) يَقُولُ: وَأَنَا إِمَامُهُمْ، وَهُمُ اَلَّذِينَ صَلَّوْا عَلَى فَاطِمَةَ (عليها السلام)»(٣٦٦)، أي ببركتهم ويمنهم.
وفي رواية أُخرى: قال (عليه السلام): «هَؤُلَاءِ (المقداد وأبو ذرٍّ وسلمان) اَلَّذِينَ دَارَتْ عَلَيْهِمُ اَلرَّحَى، وَأَبَوْا أَنْ يُبَايِعُوا حَتَّى جَاؤُوا بِأَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مُكْرَهاً فَبَايَعَ»(٣٦٧).
وبهذا التفسير وردت روايات:
منها: ما رواه المجلسي (رحمه الله) عن (مصباح الشريعة) أنَّه قال الصادق (عليه السلام): «اَلتَّقْوَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: تَقْوَى بِالله فِي اَلله، وَهُوَ تَرْكُ اَلْحَلَالِ فَضْلاً عَنِ اَلشُّبْهَةِ، وَهُوَ تَقْوَى خَاصِّ اَلْخَاصِّ. وَتَقْوَى مِنَ اَلله، وَهُوَ تَرْكُ اَلشُّبُهَاتِ فَضْلاً عَنْ حَرَامٍ، وَهُوَ تَقْوَى اَلْخَاصِّ. وَتَقْوَى مِنْ خَوْفِ اَلنَّارِ وَاَلْعِقَابِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٦٤) تفسير العيِّاشي (ج ٢/ ص ٣٣٧/ ح ٦٣).
(٣٦٥) تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٣٣٩/ ح ٦٨).
(٣٦٦) رجال الكشِّي (ج ١/ ص ٣٣ و٣٤/ ح ١٣).
(٣٦٧) تفسير العيَّاشي (ج ١/ ص ١٩٩/ ح ١٤٨)، الكافي (ج ٨/ ص ٢٤٥ و٢٤٦/ ح ٣٤١)، رجال الكشِّي (ج ١/ ص ٢٦ - ٣١/ ح ١٢).
↑صفحة ٢٠٨↑
وَهُوَ تَرْكُ اَلْحَرَامِ، وَهُوَ تَقْوَى اَلْعَامِّ. وَمَثَلُ اَلتَّقْوَى كَمَاءٍ يَجْرِي فِي نَهَرٍ، وَمَثَلُ هَذِهِ اَلطَّبَقَاتِ اَلثَّلَاثِ فِي مَعْنَى اَلتَّقْوَى كَأَشْجَارٍ مَغْرُوسَةٍ عَلَى حَافَّةِ ذَلِكَ اَلنَّهَرِ، مِنْ كُلِّ لَوْنٍ وَجِنْسٍ، وَكُلُّ شَجَرَةٍ مِنْهَا يَسْتَمِصُّ اَلمَاءَ مِنْ ذَلِكَ اَلنَّهَرِ عَلَى قَدْرِ جَوْهَرِهِ وَطَعْمِهِ وَلَطَافَتِهِ وَكَثَافَتِهِ، ثُمَّ مَنَافِعُ اَلْخَلْقِ مِنْ ذَلِكَ اَلْأَشْجَارِ وَاَلثِّمَارِ عَلَى قَدْرِهَا وَقِيمَتِهَا، قَالَ اَللهُ تَعَالَى: ﴿صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ...﴾ اَلْآيَةَ [الرعد: ٤]، فَالتَّقْوَى لِلطَّاعَاتِ كَالمَاءِ لِلْأَشْجَارِ، وَمَثَلُ طَبَائِعِ اَلْأَشْجَارِ وَاَلثِّمَارِ فِي لَوْنِهَا وَطَعْمِهَا مَثَلُ مَقَادِيرِ اَلْإِيمَانِ، فَمَنْ كَانَ أَعْلَى دَرَجَةً فِي اَلْإِيمَانِ وَأَصْفَى جَوْهَراً بِالرُّوحِ كَانَ أَتْقَى، وَمَنْ كَانَ أَتْقَى كَانَتْ عِبَادَتُهُ أَخْلَصَ وَأَطْهَرَ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مِنَ اَلله أَقْرَبَ، وَكُلُّ عِبَادَةٍ غَيْرِ مُؤَسَّسَةٍ عَلَى اَلتَّقْوَى فَهُوَ هَبَاءٌ مَنْثُورٌ، قَالَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ): ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ...﴾ اَلْآيَةَ [التوبة: ١٠٩]، وَتَفْسِيرُ اَلتَّقْوَى تَرْكُ مَا لَيْسَ بِأَخْذِهِ بَأْسٌ حَذَراً عَمَّا بِهِ بَأْسٌ، وَهُوَ فِي اَلْحَقِيقَةِ طَاعَةٌ، وَذِكْرٌ بِلَا نِسْيَانٍ، وَعِلْمٌ بِلَا جَهْلٍ، مَقْبُولٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ»(٣٦٨).
وروى الشيخ الحرَّاني (رحمه الله) في (تُحَف العقول) أنَّه دَخَلَ عَلَى اَلصَّادِقِ (عليه السلام) رَجُلٌ، فَقَالَ (عليه السلام) لَهُ: «مِمَّنِ اَلرَّجُلُ؟»، فَقَالَ: مِنْ مُحِبِّيكُمْ وَمَوَالِيكُمْ، فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ (عليه السلام): «لَا يُحِبُّ اَللهَ عَبْدٌ حَتَّى يَتَوَلَّاهُ، وَلَا يَتَوَلَّاهُ حَتَّى يُوجِبَ لَهُ اَلْجَنَّةَ»، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «مِنْ أَيِّ مُحِبِّينَا أَنْتَ؟»، فَسَكَتَ اَلرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ سَدِيرٌ: وَكَمْ مُحِبُّوكُمْ، يَا اِبْنَ رَسُولِ اَلله؟ فَقَالَ: «عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٦٨) بحار الأنوار (ج ٦٧/ ص ٢٩٥ و٢٩٦/ ح ٤١)، عن مصباح الشريعة (ص ٣٨ و٣٩).
↑صفحة ٢٠٩↑
طَبَقَةٌ أَحَبُّونَا فِي اَلْعَلَانِيَةِ وَلَمْ يُحِبُّونَا فِي اَلسِّرِّ، وَطَبَقَةٌ يُحِبُّونَا فِي اَلسِّرِّ وَلَمْ يُحِبُّونَا فِي اَلْعَلَانِيَةِ، وَطَبَقَةٌ يُحِبُّونَا فِي اَلسِّرِّ وَاَلْعَلَانِيَةِ، هُمُ اَلنَّمَطُ اَلْأَعْلَى، شَرِبُوا مِنَ اَلْعَذْبِ اَلْفُرَاتِ، وَعَلِمُوا تَأْوِيلَ اَلْكِتَابِ، وَفَصْلَ اَلْخِطَابِ، وَسَبَبَ اَلْأَسْبَابِ، فَهُمُ اَلنَّمَطُ اَلْأَعْلَى، اَلْفَقْرُ وَاَلْفَاقَةُ وَأَنْوَاعُ اَلْبَلَاءِ أَسْرَعُ إِلَيْهِمْ مِنْ رَكْضِ اَلْخَيْلِ، مَسَّتْهُمُ اَلْبَأْسَاءُ وَاَلضَّرَّاءُ، وَزُلْزِلُوا وَفُتِنُوا، فَمِنْ بَيْنِ مَجْرُوحٍ وَمَذْبُوحٍ، مُتَفَرِّقِينَ فِي كُلِّ بِلَادٍ قَاصِيَةٍ، بِهِمْ يَشْفِي اَللهُ اَلسَّقِيمَ، وَيُغْنِي اَلْعَدِيمَ، وَبِهِمْ تُنْصَرُونَ، وَبِهِمْ تُمْطَرُونَ، وَبِهِمْ تُرْزَقُونَ، وَهُمُ اَلْأَقَلُّونَ عَدَداً، اَلْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اَلله قَدْراً وَخَطَراً...» الحديث(٣٦٩).
وروى الكليني (رحمه الله) عن الباقر (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ اَللهَ لَيَدْفَعُ بِالمُؤْمِنِ اَلْوَاحِدِ عَنِ اَلْقَرْيَةِ اَلْفَنَاءَ»(٣٧٠).
وَقَالَ (عليه السلام): «لَا يُصِيبُ قَرْيَةً عَذَابٌ وَفِيهَا سَبْعَةٌ مِنَ اَلمُؤْمِنِينَ»(٣٧١).
وروى الشيخ المجلسي (رحمه الله) في (البحار) عن كتاب زيد الزرَّاد، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام): نَخْشَى أَنْ لَا نَكُونَ مُؤْمِنِينَ، قَالَ: «وَلِمَ ذَاكَ؟»، فَقُلْتُ: وَذَلِكَ أَنَّا لَا نَجِدُ فِينَا مَنْ يَكُونُ أَخُوهُ عِنْدَهُ آثَرَ مِنْ دِرْهَمِهِ وَدِينَارِهِ، وَنَجِدُ اَلدِّينَارَ وَاَلدِّرْهَمَ آثَرَ عِنْدَنَا مِنْ أَخٍ قَدْ جَمَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مُوَالَاةُ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)»، قَالَ: «كَلَّا إِنَّكُمْ مُؤْمِنُونَ، وَلَكِنْ لَا تُكْمِلُونَ إِيمَانَكُمْ حَتَّى يَخْرُجَ قَائِمُنَا، فَعِنْدَهَا يَجْمَعُ اَللهُ أَحْلَامَكُمْ، فَتَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ كَامِلِينَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي اَلْأَرْضِ مُؤْمِنُونَ كَامِلُونَ، إِذاً لَرَفَعَنَا اَللهُ إِلَيْهِ، وَأَنْكَرْتُمُ اَلْأَرْضَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٦٩) تُحَف العقول (ص ٣٢٥ - ٣٢٩).
(٣٧٠) الكافي (ج ٢/ ص ٢٤٧/ باب فيما يدفع الله بالمؤمن/ ح ١).
(٣٧١) الكافي (ج ٢/ ص ٢٤٧/ باب فيما يدفع الله بالمؤمن/ ح ٢).
↑صفحة ٢١٠↑
وَأَنْكَرْتُمُ اَلسَّمَاءَ(٣٧٢)، بَلْ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ فِي اَلْأَرْضِ فِي أَطْرَافِهَا مُؤْمِنِينَ مَا قَدْرُ اَلدُّنْيَا كُلِّهَا عِنْدَهُمْ تَعْدِلُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ».
ثمّ ذكر (عليه السلام) أوصافهم بنحو ما ذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) أوصاف المتَّقين في خطبة لهمَّام، ثمّ قال (عليه السلام): «وَا شَوْقَاهْ إِلَى مُجَالَسَتِهِمْ وَمُحَادَثَتِهِمْ، يَا كَرْبَاهْ لِفَقْدِهِمْ، وَيَا كَشْفَ كَرْبَاهْ لِمُجَالَسَتِهِمْ، اُطْلُبُوهُمْ فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ وَاِقْتَبَسْتُمْ مِنْ نُورِهِمْ اِهْتَدَيْتُمْ، وَفُزْتُمْ بِهِمْ فِي اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ، هُمْ أَعَزُّ فِي اَلنَّاسِ مِنَ اَلْكِبْرِيتِ اَلْأَحْمَرِ، حِلْيَتُهُمْ طُولُ اَلسُّكُوتِ، وَكِتْمَانُ اَلسِّرِّ، وَاَلصَّلَاةُ، وَاَلزَّكَاةُ، وَاَلْحَجُّ، وَاَلصَّوْمُ، وَاَلمُوَاسَاةُ لِلْإِخْوَانِ فِي حَالِ اَلْيُسْرِ وَاَلْعُسْرِ...» الحديث(٣٧٣).
ومن ذلك يظهر بوضوح أنَّ الأبدال والأوتاد هم الذين على درجة من الإيمان، وببركتهم ويمنهم ينشر الله تعالى أنواع الخير على أهل الأرض، وهم أحبُّ المؤمنين لدى المعصومين (عليهم السلام)، وأرفعهم منزلةً عندهم وكرامةً، ولكن أين ذلك من جعل المنصب والنيابة الخاصَّة والوساطة بين الإمام المعصوم وبين سائر الناس؟
نعم هم قدوة، وأمثال حيَّة للمؤمن الكامل، والمتَّقي الكريم على الله تعالى ورسوله والأوصياء (صلوات الله عليهم).
وكم فرق بين الاهتداء بهم في طاعاتهم وورعهم وتقواهم، وبين الائتمار والانتهاء لأقوالهم والسماع لأخبارهم عن المعصوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٧٢) أي لأنكرتم حالهما، وأنكر الشيء يقال عندما لا يراه على حاله السابق، وهو كناية عن «لَسَاخَتِ اَلْأَرْضُ وَاَلسَّمَاءُ».
(٣٧٣) بحار الأنوار (ج ٦٤/ ص ٣٥٠ - ٣٥٢/ ح ٥٤).
↑صفحة ٢١١↑
وهذا المقام للإبدال والأوتاد مفتوح بابه لمن أراد بأنْ يجاهد نفسه وهواه، فقد روى الكليني عن الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قَالُوا: يَا رَسُولَ اَلله، نَخَافُ عَلَيْنَا اَلنِّفَاقَ»، قَالَ: «فَقَالَ: وَلِمَ تَخَافُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: إِذَا كُنَّا عِنْدَكَ فَذَكَّرْتَنَا وَرَغَّبْتَنَا وَجِلْنَا وَنَسِينَا اَلدُّنْيَا وَزَهِدْنَا حَتَّى كَأَنَّا نُعَايِنُ اَلْآخِرَةَ وَاَلْجَنَّةَ وَاَلنَّارَ وَنَحْنُ عِنْدَكَ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ وَدَخَلْنَا هَذِهِ اَلْبُيُوتَ وَشَمِمْنَا اَلْأَوْلَادَ وَرَأَيْنَا اَلْعِيَالَ وَاَلْأَهْلَ يَكَادُ أَنْ نُحَوَّلَ عَنِ اَلْحَالِ اَلَّتِي كُنَّا عَلَيْهَا عِنْدَكَ، وَحَتَّى كَأَنَّا لَمْ نَكُنْ عَلَى شَيْءٍ، أفَتَخَافُ عَلَيْنَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نِفَاقاً؟ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): كَلَّا، إِنَّ هَذِهِ خُطُوَاتُ اَلشَّيْطَانِ، فَيُرَغِّبُكُمْ فِي اَلدُّنْيَا، وَاَلله لَوْ تَدُومُونَ عَلَى اَلْحَالَةِ اَلَّتِي وَصَفْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِهَا لَصَافَحَتْكُمُ اَلمَلَائِكَةُ، وَمَشَيْتُمْ عَلَى اَلمَاءِ...» الحديث(٣٧٤).
وهذا بخلاف مقام النيابة والسفارة، فإنَّه باختيار وإرادة من الإمام المعصوم (عليه السلام).
ويجدر التنبيه مع ذلك إلى ما قاله الصادق (عليه السلام) إلى أنَّ الأبدال والكاملين هم أعزُّ من الكبريت الأحمر، أي إنَّهم في منتهى الندرة والقلَّة، فكيف يُعثَر عليهم مع إخفاءهم لحالهم لكيلا يذهب خلوص نيَّاتهم، ولئلَّا يحصل لأنفسهم الاغترار وغير ذلك من مفاسد الاشتهار؟
وهذا من الشواهد على اختلاف مقامهم لمقام النيابة والسفارة.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٧٤) الكافي (ج ٢/ ص ٤٢٣ و٤٢٤/ باب في تنقُّل أحوال القلب/ ح ١)؛ ورواه بتفاوت يسير العيَّاشي (رحمه الله) في تفسيره (ج ١/ ص ١٠٩/ ح ٣٢٧).
↑صفحة ٢١٢↑
الفصل الثالث: في الفِرَق التي انحرفت عن الطائفة الإماميَّة وكيفيَّة انحرافها
↑صفحة ٢١٣↑
وهي كثيرة حتَّى قيل: إنَّ الشيخ الجليل سعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمِّي (رحمه الله) ذكر في كتابه (المقالات والفِرَق) ما يقرب من مائة وأربع عشرة فرقة وبدعة(٣٧٥).
وسرُّ ذلك هو ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما خطب الناس فقال: «إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ اَلْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ، وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اَلله، وَيَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالاً عَلَى غَيْرِ دِينِ اَلله، فَلَوْ أَنَّ اَلْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ اَلْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى اَلمُرْتَادِينَ، وَلَوْ أَنَّ اَلْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ اَلْبَاطِلِ اِنْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ اَلمُعَانِدِينَ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ، وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ، فَيُمْزَجَانِ، فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي اَلشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَيَنْجُو اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اَلله اَلْحُسْنى»(٣٧٦).
وعن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي اَلنَّارِ»(٣٧٧).
الغلاة:
ومن هذه الفِرَق هم الذين غلوا في أمير المؤمنين (عليه السلام)، وزعموا أنَّه ربُّهم، فأمر (عليه السلام) بقتلهم.
وقد رواه الكشِّي (رحمه الله) في كتاب (الرجال) في ترجمة (محمّد بن أبي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٧٥) راجع: المقالات والفِرَق (ص ٥).
(٣٧٦) نهج البلاغة (ص ٨٨/ ح ٥٠).
(٣٧٧) الكافي (ج ١/ ص ٥٦ و٥٧/ باب البِدَع والرأي والمقائيس/ ح ١٢).
↑صفحة ٢١٥↑
زينب)(٣٧٨) بإسناده عَنْ عَبْدِ اَلله بْنِ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَيْنَا عَلِيٌّ (عليه السلام) عِنْدَ اِمْرَأَةٍ مِنْ عَنَزَةَ - وَهِيَ أُمُّ عَمْرٍو - إِذْ أَتَاهُ قَنْبَرُ، فَقَالَ: إِنَّ عَشَرَةَ نَفَرٍ بِالْبَابِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ رَبُّهُمْ، قَالَ: «أَدْخِلْهُمْ»، قَالَ: فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ؟»، فَقَالُوا: إِنَّكَ رَبُّنَا، وَأَنْتَ اَلَّذِي خَلَقْتَنَا، وَأَنْتَ اَلَّذِي تَرْزُقُنَا، فَقَالَ لَهُمْ: «وَيْلَكُمْ لَا تَفْعَلُوا، إِنَّمَا أَنَا مَخْلُوقٌ مِثْلُكُمْ»، فَأَبَوْا أَنْ يَقْلَعُوا، فَقَالَ لَهُمْ: «وَيْلَكُمْ رَبِّي وَرَبُّكُمُ اَللهُ، وَيْلَكُمْ تُوبُوا وَاِرْجِعُوا»، فَقَالُوا: لَا نَرْجِعُ عَنْ مَقَالَتِنَا، أَنْتَ رَبُّنَا وَتَرْزُقُنَا، وَأَنْتَ خَلَقْتَنَا، فَقَالَ: «يَا قَنْبَرُ، آتِنِي بِالْفَعَلَةِ»، فَخَرَجَ قَنْبَرُ، فَأَتَاهُ بِعَشَرَةِ رِجَالٍ مَعَ اَلزُّبُلِ وَاَلمُرُورِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحْفِرُوا لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ، فَلَمَّا حَفَرُوا خَدًّا أَمَرَ بِالْحَطَبِ وَاَلنَّارِ، فَطَرَحَ فِيهِ حَتَّى صَارَ نَاراً تَتَوَقَّدُ، قَالَ لَهُمْ: «وَيْلَكُمْ تُوبُوا وَاِرْجِعُوا»، فَأَبَوْا وَقَالُوا: لَا نَرْجِعُ، فَقَذَفَ عَلِيٌّ (عليه السلام) بَعْضَهُمْ، ثُمَّ قَذَفَ بَقِيَّتَهُمْ فِي اَلنَّارِ، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام):
«إِنِّي إِذَا أَبْصَرْتُ شَيْئاً مُنْكَراً * * * أَوْقَدْتُ نَارِي وَدَعَوْتُ قَنْبَراً»(٣٧٩).
وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «هَلَكَ فِيَّ رَجُلَانِ: مُحِبٌّ غَالٍ، وَمُبْغِضٌ قَالٍ»(٣٨٠).
ومنها: الخطَّابيَّة:
أصحاب أبي الخطَّاب محمّد بن أبي زينب الأسدي الأخدع(٣٨١) الزرَّاد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٧٨) الروايات التي نقلها في هذه الفِرَق جلُّها ذكرها الكشِّي (رحمه الله) في تلك الترجمة.
(٣٧٩) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٩٦/ ح ٥٥٦).
(٣٨٠) نهج البلاغة (ص ٤٨٩/ ح ١١٧).
(٣٨١) وقيل: الأجدع - بالجيم -.
↑صفحة ٢١٦↑
البزَّاز، يُكنَّى تارةً أبا الخطَّاب، وأُخرى أبا الظبيات(٣٨٢)، وأبا إسماعيل (لعنه الله)، وكانوا قد أظهروا الإباحات، وتحليل المحرَّمات، وآل أمرهم إلى الدعوة إلى نبوَّة أبي طالب، وكانوا يدعون الناس إلى أمرهم سرًّا، فبلغ خبرهم عيسى بن موسى، وكان عاملاً للمنصور العبَّاسي على الكوفة، فبعث إليهم رجلاً من أصحابه في خيل ورجَّالة، فكانت بينهم حرب شديدة بالقصب والحجارة والسكاكين كانت مع بعضهم، وجعلوا القصب مكان الرماح، وقد كان أبو الخطَّاب قال لهم: قاتلوهم فإنَّ قصبكم يعمل فيهم عمل الرماح وسائر السلاح، ورماحهم وسيوفهم لا يضرُّكم ولا يعمل فيكم ولا يحتكُّ في أبدانكم، فجعل يُقدِّمهم عشرة عشرة للمحاربة، فلمَّا قُتِلَ منهم نحو ثلاثين رجلاً، صاحوا إليه: يا سيِّدنا، ما ترى في ما يحلُّ بنا من هؤلاء القوم؟ ولا ترى قصبنا يعمل فيهم ولا يُؤثِّر وقد يُكسَر كلُّه؟ وقد عمل فينا وقُتِلَ من ترى منَّا.
فقال لهم: يا قوم، إنْ كان بدا لله فيكم فما ذنبي؟ يا قوم قد بليتم وامتُحِنْتُم وأُذِنَ في قتلكم وشهادتكم، فقاتلوا على دينكم وأحسابكم.
ثمّ إنَّهم قُتِلُوا وقُتِلَ هو وصُلِبَ، فقال بعض أصحابه: إنَّ أبا الخطاب لم يُقتَل، ولا أُسِرَ، ولا قُتِلَ أحد من أصحابه، وإنَّما لبس على القوم وشُبِّه عليهم، وإنَّه قد صير بعد حدث هذا الأمر من الملائكة.
وزعموا أنَّه لا بدَّ من رسولين في كلِّ عصر، ولا تخلو الأرض منهما، واحد ناطق وآخر صامت، فكان محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ناطقاً وعليٌّ صامتاً، وتأوَّلوا في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٨٢) وقيل: أبا الظبيان - بالنون -.
↑صفحة ٢١٧↑
ذلك قول الله: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا﴾ (المؤمنون: ٤٤)، ثمّ ارتفعوا عن هذه المقالة إلى أنْ قال بعضهم: هما آلهة، وتشاهدا بالزور.
ثمّ إنَّهم افترقوا لـمَّا بلغهم أنَّ جعفر بن محمّد (الصادق) (عليه السلام) لعنهم ولعن أبا الخطَّاب وبرئ منه ومنهم، فصاروا أربع فِرَق، وكان أبو الخطَّاب يدَّعي أنَّ جعفر بن محمّد (عليه السلام) قد جعله قيِّمه ووصيَّه من بعده، وأنَّه علَّمه اسم الله الأعظم، ثمّ ترقى إلى أنِ ادَّعى النبوَّة، ثمّ ادَّعى الرسالة، ثمّ ادَّعى أنَّه من الملائكة، وأنَّه رسول الله إلى أهل الأرض، والحجَّة عليهم، وذلك بعد دعواه أنَّه جعفر بن محمّد، وأنَّه يتصوَّر في أيِّ صورة شاء.
وذكر بعض الخطَّابيَّة أنَّ رجلاً سأل جعفر بن محمّد (عليه السلام) عن مسألة وهو بالمدينة، فأجابه فيها، ثمّ انصرف إلى الكوفة فسأل أبا الخطَّاب عنها، فقال له: أوَلم تسألني عن هذه المسألة بالمدينة فأجبتك فيها(٣٨٣)؟
ومنها: الحارثيَّة:
أصحاب عبد الله بن الحارث، وكان أبوه زنديقاً من أهل المدائن، فأبرز لأصحاب عبد الله بن معاوية - الذي قتله أبو مسلم، والذي هو صاحب إحدى الفِرَق الكيسانيَّة وقد مال إليه شُذَّاذ صنوف الشيعة -، فأدخلهم في الغلوِّ والقول بالتناسخ والأظلَّة والدور، وأسند ذلك إلى جابر ابن عبد الله الأنصاري ثمّ إلى جابر بن يزيد الجعفي، فخدعهم بذلك حتَّى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٨٣) راجع: المقالات والفِرَق (ص ٥٠ و٥١/الرقم ١٠١، وص ٨١ و٨٢/الرقم ١٥٨).
↑صفحة ٢١٨↑
ردَّهم عن جميع الفرائض والشرائع والسُّنَن، وادَّعى أنَّ هذا مذهب جابر ابن عبد الله وجابر بن يزيد (رحمهما الله)، فإنَّهما قد كانا من ذلك بريئين(٣٨٤).
ومنهم ومن الكيسانيَّة والعبَّاسيَّة والخرمدينيَّة كان بدء الغلوِّ في القول حتَّى قالوا: إنَّ الأئمَّة آلهة، وإنَّهم أنبياء، وإنَّهم رُسُل، وإنَّهم ملائكة، وهم الذين تكلَّموا بالأظلَّة وفي التناسخ في الأرواح.
وهم أهل القول بالدور في هذا الدار، وإبطال القيامة والبعث والحساب، وزعموا أنْ لا دار إلَّا الدنيا، وأنَّ القيامة إنَّما هي خروج الروح من بدن ودخوله في بدن آخر غيره (وهو معنى الدور) إنْ خيراً فخيراً، وإنْ شرًّا فشرًّا.
وإنَّهم مسرورون في هذه الأبدان أو معذَّبون فيها، والأبدان هي الجنَّات وهي النار، وإنَّهم منقولون في الأجسام الحسنة الإنسيَّة المنعَّمة في حياتهم، ومعذَّبون في الأجسام الرديَّة المشوَّهة من كلاب وقردة وخنازير وحيَّات وعقارب وخنافس وجعلان محوَّلون من بدن إلى بدن معذَّبون فيها، هكذا أبد الأبد، فهي جنَّتهم ونارهم، لا قيامة ولا بعث، ولا جنَّة ولا نار غير هذا على قدر أعمالهم وذنوبهم وإنكارهم لأئمَّتهم ومعصيتهم لهم، فإنَّما تسقط الأبدان وتخرب إذ هي مساكنهم، فتتلاشى الأبدان، وهذا معنى الرجعة عندهم(٣٨٥).
ومنها: المنصوريَّة:
أصحاب أبي منصور العجلي الذي لعنه الإمام الصادق (عليه السلام) ثلاثاً، وهو الذي ادَّعى أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) عرج به إليه، فأدناه منه، وكلَّمه، ومسح يده على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٨٤) راجع: فِرَق الشيعة (ص ٣٤ و٣٥).
(٣٨٥) راجع: فِرَق الشيعة (ص ٣٦ و٣٧).
↑صفحة ٢١٩↑
رأسه، وقال له بالسرياني: أي بُنَيَّ، وذكر أنَّه نبيٌّ ورسول، وأنَّ الله اتَّخذه خليلاً.
وكان أبو منصور من أهل الكوفة من عبد القيس، وله فيها دار، وكان منشأه بالبادية، وكان أُمّيًّا لا يقرأ، فادَّعى بعد وفاة أبي جعفر محمّد بن عليِّ ابن الحسين (الباقر) (عليه السلام) أنَّه فوَّض إليه أمره، وجعله وصيَّه من بعده، ثمّ ترقَّى به الأمر إلى أنْ قال: كان عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) نبيًّا ورسولاً، وكذا الحسن والحسين وعليُّ بن الحسين ومحمّد بن عليٍّ، وأنا نبيٌّ ورسول، والنبوَّة في ستَّة من ولدي يكونون بعدي أنبياء آخرهم القائم.
وكان يأمر أصحابه بخنق من خالفهم وقتلهم بالاغتيال، ويقول: من خالفكم فهو كافر مشرك فاقتلوه فإنَّ هذا جهاد خفي، وزعم أنَّ جبرئيل (عليه السلام) يأتيه بالوحي من عند الله (عزَّ وجلَّ)، وأنَّ الله بعث محمّداً بالتنزيل، وبعثه هو (يعني نفسه) بالتأويل.
فطلبه خالد بن عبد الله القسري فأعياه، ثمّ ظفر عمر الخناق بابنه الحسين بن أبي منصور، وقد تنبَّأ وادَّعى مرتبة أبيه، وجبيت إليه الأموال، وتابعه على رأيه ومذهبه بشر كثير، وقالوا بنبوَّته، فبعث به للمهدي العبَّاسي فقتله في خلافته، وصلبه بعد أنْ أقرَّ بذلك، وأخذ منه مالاً عظيماً، وطلب أصحابه طلباً شديداً، وظفر بجماعة منهم فقتلهم وصلبهم(٣٨٦).
ومنها: أصحاب السري:
قالوا: إنَّه رسول مثل أبي الخطَّاب أرسله جعفر، وقال: إنَّه قويٌّ أمين،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٨٦) راجع: فِرَق الشيعة (ص ٣٨ و٣٩).
↑صفحة ٢٢٠↑
وهو موسى القويُّ الأمين، وفيه تلك الروح، وجعفر هو الإسلام، والإسلام هو السلام، وهو الله (عزَّ وجلَّ)، ونحن بنوا الإسلام، كما قالت اليهود: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ (المائدة: ١٨)(٣٨٧).
ومنها: البيانيَّة:
أصحاب بيان بن سمعان الهندي الذي كان يبيع التبن بالكوفة، ثمّ ادَّعى أنَّ محمّد بن عليِّ بن الحسين (الباقر) (عليه السلام) أوصى إليه، فأخذه خالد ابن عبد الله القسري فقتله وصلبه مدَّة، ثمّ أحرقه، وأخذ معه خمسة عشر رجلاً من أصحابه، فشدَّهم في أطبان القصب، وصبَّ عليهم النفط في مسجد الكوفة، وألهب فيهم النار، فأفلت منهم رجل، فخرج يشتدُّ، ثمّ التفت فرأى أصحابه تأخذهم النار، فكرَّ راجعاً، فألقى نفسه في النار، فاحترق معهم.
وكان بيان يقول هو وأصحابه: إنَّ الله تبارك وتعالى يقول يشبه الإنسان، وهو يفنى ويهلك جميع جوارحه إلَّا وجهه، وتأوَّلوا في ذلك قوله الله: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ (القَصَص: ٨٨).
وزعمت البيانيَّة أنَّ الوصيَّة لعبد الله بن محمّد بن الحنفيَّة بعد غيبة أبيه، وأنَّها وصيَّة استخلاف على الخلق كما استخلف رسول الله على المدينة عليًّا وغيره عند خروجه منها في غزواته، لا استخلاف بعد الموت، وأنَّه حجَّة على الخلق، وعلى الناس تقديمه وطاعته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٨٧) راجع: فِرَق الشيعة (ص ٤٣).
↑صفحة ٢٢١↑
وزعموا أنَّ أبا هاشم (عبد الله بن محمّد) لـمَّا قال: أنا الوصيُّ على بني هاشم وسائر الناس، طاعتي فرض واجب، أردنا قتله، فلمَّا رأى إنكارنا ما ادَّعاه وإنكار الناس ذلك دعا ربَّه أنْ يعطيه آية، وقال: اللَّهُمَّ إنْ كنت صادقاً فلتقع الزهرة في كفِّي، فسقطت في كفِّه، ولقد نظرناها أنَّها في حُقَّة توقد، وأنَّ مكانها من السماء فارغ ما فيه كوكب ولا دونه.
وذكرت هذه الفرقة أنَّ أبا شجاع الحارثي قال له حين دخل عليه الجوسق(٣٨٨) وفيه خطاطيف كثيرة وخفافيش: إنْ كنت صادقاً فأتِ بآية، اجعل الخفَّاش كاسياً بائضاً، والخطاف أمرط ولوداً، فدعا ربَّه، فجعلهما كذلك.
وأنَّه لم يزل من ذلك الخفَّاش والخطاطيف بقيَّة إلى أنْ خرج السودان، قالوا: فاستغرب أبو شجاع ضحكاً، تعجُّباً وسروراً، فضحك لضحكه أبو هاشم، ثمّ بصق في وجهه، فملأ وجهه دُرًّا منظوماً، قالوا: وشكا إليه الخلوف وضعف الباه، فتفل في لهاته، ففاح منه كلطيمة العطَّار، ونفخ في إحليله، فكان يجامع في الليل مائة امرأة(٣٨٩).
وقالوا: إنَّ أبا هاشم (عبد الله بن محمّد) نبيُّ بياناً عن الله (عزَّ وجلَّ)، فبيان نبيٌّ، وتأوَّلوا في ذلك قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدَى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران: ١٣٨).
وادَّعى بيان بعد وفاة أبي هاشم النبوَّة، وكتب إلى أبي جعفر محمّد بن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٨٨) الجوسق: القصر، أو الحصن. راجع: لسان العرب (ج ١٠/ ص ٣٥/ مادَّة جسق).
(٣٨٩) راجع: المقالات والفِرَق (ص ٣٣ - ٣٥/ الرقم ٦٩ و٧١).
↑صفحة ٢٢٢↑
عليِّ بن الحسين (الباقر) (عليه السلام) يدعوه إلى نفسه، والإقرار بنبوَّته، ويقول له: أسلم تسلم وترتق في سلم وتنج وتغنم، فإنَّك لا تدري أين يجعل الله النبوَّة والرسالة، وما على الرسول إلَّا البلاغ، وقد أعذر من أنذر، فأمر أبو جعفر (الباقر) (عليه السلام) رسول بيان فأكل قرطاسه الذي جاء به، وقُتِلَ بيان على ذلك، وصُلِبَ(٣٩٠).
ومنها: أصحاب حمزة بن عمارة الزبيدي البربري:
الذي كان في بدء أمره من الكيسانيَّة (أي الذين قالوا بإمامة محمّد بن الحنفيَّة)، ففارقهم، وكان من أهل المدينة، وادَّعى أنَّه نبيٌّ، وأنَّ محمّد بن الحنفيَّة هو الله، وأنَّ حمزة هو الإمام والنبيُّ، وأنَّه ينزل عليه سبع أسباب من السماء، فيفتح بهنَّ الأرض ويملكها، فتبعه على ذلك أُناس من أهل المدينة وأهل الكوفة، ولعنه أبو جعفر محمّد بن عليِّ بن الحسين (الباقر) (عليه السلام)، وبرئ منه، وكذَّبه، وبرأت منه الشيعة، وتبعه على رأيه رجلان من نهد من أهل الكوفة يقال لأحدهما: صائد، والآخر: بيان بن سمعان (الذي تقدَّم ذكره).
وكان حمزة بن عمارة نكح ابنته، وأحلَّ جميع المحارم، وقال: من عرف الإمام فليصنع ما شاء فلا إثم عليه.
فأصحاب أبي (ابن) كرب وأصحاب حمزة وأصحاب صائد وبيان ينتظرون رجوعهم ورجوع الماضين من أسلافهم، ويزعمون أنَّ محمّد بن الحنفيَّة يُظهِر نفسه بعد الاستتار عن خلقه، فينزل إلى الدنيا، ويكون فيها بين المؤمنين، فهذا معنى الآخرة عندهم(٣٩١).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٩٠) راجع: فِرَق الشيعة (ص ٣٤).
(٣٩١) راجع: المقالات والفِرَق (ص ٣٢ و٣٣/ الرقم ٦٨، وص ٣٤/ الرقم ٧٠)، وفِرَق الشيعة (ص ٢٧ - ٢٩).
↑صفحة ٢٢٣↑
ومنها: المغيريَّة:
أصحاب المغيرة بن سعيد العجلي مولى بجيلة الذي خرج بظاهر الكوفة في إمارة خالد بن عبد الله القسري، فظفر به، وأحرقه وأحرق أصحابه سنة (١١٩هـ)، وكان يكذب على الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، وقد لعنه الإمام الصادق (عليه السلام)، وهم من الفِرَق التي انشعبت من الزيديَّة، وقالوا بإمامة محمّد بن عبد الله بن الحسن، وتولَّوه، وأثبتوا إمامته، فلمَّا قُتِلَ صاروا لا إمام لهم ولا وصيَّ، ولا يُثبِتون لأحدٍ إمامة بعده.
وكان المغيرة قال بهذا القول لـمَّا توفَّى الإمام الباقر (عليه السلام)، وأظهر المقالة بذلك، فبرئت منه الشيعة أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) ورفضوه، فزعم أنَّهم رافضة، وأنَّه هو الذي سمَّاهم بهذا الاسم، ونصب بعض أصحاب المغيرةِ المغيرةَ إماماً، ثمّ تراقَّى الأمر بالمغيرة إلى أنْ زعم أنَّه رسول، وأنَّ جبرئيل يأتيه بالوحي من عند الله، وكان يدَّعي أنَّه يُحيي الموتى، وقال بالتناسخ(٣٩٢).
ومنها: أصحاب بزيع بن موسى الحائك:
الذي لعنه الإمام الصادق (عليه السلام)، قالوا: إنَّ بزيعاً رسول مثل أبي الخطَّاب، أرسله جعفر بن محمّد (عليه السلام)، وشهد بزيع لأبي الخطَّاب بالرسالة، وبرئ أبو الخطَّاب وأصحابه من بزيع(٣٩٣).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٩٢) راجع: فِرَق الشيعة (ص ٥٩ و٦٢ و٦٣).
(٣٩٣) راجع: فِرَق الشيعة (ص ٤٣).
↑صفحة ٢٢٤↑
ومنها: البشيريَّة:
أصحاب محمّد بن بشير مولى بن أسد من أهل الكوفة، وهم فرقة انشقَّت من الواقفة - وهي التي وقفت على الإمام الكاظم (عليه السلام) بعد وفاته، وقالت: إنَّه لم يمت، وإنَّه المهدي الموعود، وإنَّه قد غاب -، وقالوا: إنَّ موسى بن جعفر (عليه السلام) لم يمت، ولم يُحبَس، وإنَّه حيٌّ غائب، وإنَّه القائم المهدي، وإنَّه في وقت غيبته استخلف على الأمر محمّد بن بشير، وجعله وصيًّا، وأعطاه خاتمه، وعلَّمه جميع ما يحتاج إليه رعيَّته، وفوَّض إليه أُموره، وأقامه مقام نفسه، فمحمّد بن بشير الإمام بعده.
وإنَّ محمّد بن بشير لـمَّا تُوفِّي أوصى إلى ابنه سميع بن محمّد بن بشير، فهو الإمام، ومن أوصي إليه سميع فهو الإمام المفترض الطاعة على الأُمَّة إلى وقت خروج موسى وظهوره، فما يلزم الناس من حقوقه في أموالهم وغير ذلك ممَّا يتقرَّبون به إلى الله (عزَّ وجلَّ)، فالفرض عليهم أداؤه إلى هؤلاء إلى قيام القائم.
وكَفَّرُوا القائلين بإمامة الإمام الرضا (عليه السلام)، واستحلُّوا دماءهم وأموالهم.
وقالوا بإباحة المحارم من الفروج، والغلمان، واعتلُّوا في ذلك بقول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً﴾ (الشورى: ٥٠)، وقالوا بالتناسخ(٣٩٤).
وكان محمّد بن بشير صاحب شعبذة ومخاريق، معروفاً بذلك، وكان سبب قتله أنَّه يستعمل الشعبذة والمخاريق للدلالة على أنَّه نبيٌّ، وكان يقول في موسى بالربوبيَّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٩٤) راجع: فِرَق الشيعة (ص ٨٣ و٨٤).
↑صفحة ٢٢٥↑
وكان عنده صورة قد عملها وأقامها شخصاً كأنَّه صورة أبي الحسن (الكاظم) (عليه السلام) في ثياب حرير، وقد طلاها بالأدوية، وعالجها بحيل عملها فيها حتَّى صارت شبيهاً بصورة إنسان، وكان يطويها، فإذا أراد الشعبذة نفخ فيها فأقامها.
وكان يقول لأصحابه: إنَّ أبا الحسن (عليه السلام) عندي، فإنْ أحببتم أنْ تروه وتعلموا أنِّي نبيٌّ فهلمُّوا أعرضه عليكم، فكان يدخلهم البيت والصورة مطويَّة معه، فيقول لهم: هل ترون في البيت مقيماً، أو ترون فيه غيري وغيركم؟ فيقولون: لا، وليس في البيت أحد، فيقول: اُخرجوا، فيخرجون من البيت، فيصير هو وراء الستر، ويسبل بينه وبينهم، ثمّ يُقدِّم تلك الصورة، ثمّ يرفع الستر بينه وبينهم، فينظرون إلى صورة قائمة، وشخص كأنَّه شخص أبي الحسن، لا يُنكِرون منه شيئاً، ويقف هو منه بالقرب، فيريهم من طريق الشعبذة أنَّه يُكلِّمه ويناجيه، ويدنو منه كأنَّه يسارُّه، ثمّ يغمزهم أنْ يتنحَّوا، فيتنحَّون، ويسبل الستر بينه وبينهم، فلا يرون شيئاً.
وكانت معه أشياء عجيبة من صنوف الشعبذة ما لم يروا مثلها، فهلكوا بها، فكانت هذه حاله مدَّة حتَّى رُفِعَ خبره إلى بعض الخلفاء العبَّاسيِّين أنَّه زنديق، فأخذه وأراد ضرب عنقه، فقال: يا أمير المؤمنين، استبقني فإنِّي أتَّخذ لك أشياء يرغب الملوك فيها، فأطلقه.
فكان أوَّل ما اتَّخذ له الدوالي، فإنَّه عمد إلى الدوالي فسوَّاها، وعلَّقها وجعل الزيبق بين تلك الألواح، فكانت تعمل من غير أمره، وظهر عليه التعطيل والإباحات.
↑صفحة ٢٢٦↑
وقد كان الصادق والكاظم (عليهما السلام) يدعوان الله عليه، ويسألانه أنْ يذيقه حرَّ الحديد، فأذاقه الله حرَّ الحديد بعد أنْ عُذِّب بأنواع العذاب(٣٩٥).
ومنها: أصحاب مَعْمَر بن خيثم:
الذي لعنه الإمام الصادق (عليه السلام)، قالوا: إنَّ جعفر بن محمّد هو الله (عزَّ وجلَّ) - وتعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً -، وإنَّما هو نور يدخل في أبدان الأوصياء، فيحلُّ فيها، فكان ذلك النور في جعفر، ثمّ خرج منه فدخل في أبي الخطاب، فصار جعفر من الملائكة، ثمّ خرج من أبي الخطَّاب فدخل في مَعْمَر، وصار أبو الخطَّاب من الملائكة، فمَعْمَر هو الله (عزَّ وجلَّ).
فخرج ابن اللبَّان يدعو إلى مَعْمَر، وقال: إنَّه الله (عزَّ وجلَّ)، وصلَّى له، وصام، وأحلَّ الشهوات كلَّها ما حلَّ منها وما حرم، وليس عنده شيء محرَّم، وقال: لم يخلق الله هذا إلَّا لخلقه، فكيف يكون محرَّماً؟ وأحلَّ الزنا والسرقة وشرب الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير ونكاح الأُمَّهات والبنات والأخوات ونكاح الرجال، ووضع عن أصحابه غسل الجنابة، وقال: كيف أغتسل من نطفة خُلِقْتُ منها؟
وزعم أنَّ كلَّ شيء أحلَّه الله في القرآن وحرَّمه فإنَّما هو أسماء الرجال(٣٩٦).
وروى الكشِّي (رحمه الله) في (رجاله) بإسناده عن الصادق (عليه السلام) فِي قَوْلِ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٩٥) راجع: رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٧٧٤ - ٧٧٧/ ح ٩٠٦ و٩٠٧).
(٣٩٦) راجع: فِرَق الشيعة (ص ٤٤).
↑صفحة ٢٢٧↑
أَثِيمٍ﴾ [الشعراء: ٢٢١ و٢٢٢]، قَالَ: «هُمْ سَبْعَةٌ: اَلمُغِيرَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَبَيَانٌ، وَصَائِدٌ، وَحَمْزَةُ بْنُ عُمَارَةَ اَلْبَرْبَرِيُّ، وَاَلْحَارِثُ اَلشَّامِيُّ، وَعَبْدُ اَلله بْنُ عَمْرِو بْنِ اَلْحَارِثِ، وَأَبُو اَلْخَطَّابِ»(٣٩٧).
وروى (رحمه الله) عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ مُصْعَبٍ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام): أَيُّ شَيْءٍ سَمِعْتَ مِنْ أَبِي اَلْخَطَّابِ؟»، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّكَ وَضَعْتَ [يَدَكَ] عَلَى صَدْرِهِ، وَقُلْتَ لَهُ: «عِهْ وَلَا تَنْسَ»، وَإِنَّكَ تَعْلَمُ اَلْغَيْبَ، وَإِنَّكَ قُلْتَ لَهُ: «هُوَ عَيْبَةُ (مخزن) عَلِمْنَا، وَمَوْضِعُ سِرِّنَا، أَمِينٌ عَلَى أَحْيَائِنَا وَأَمْوَاتِنَا». قَالَ: «لَا وَاَلله مَا مَسَّ شَيْءٌ مِنْ جَسَدِي جَسَدَهُ إِلَّا يَدَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنِّي قُلْتُ: أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ، فَوَاَلله اَلَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ، وَلَا آجَرَنِي اَللهُ فِي أَمْوَاتِي، وَلَا بَارَكَ لِي فِي أَحْيَائِي إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَهُ»(٣٩٨).
وروى (رحمه الله) عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: فَسَلَّمْتُ وَجَلَسْتُ، فَقَالَ لِي: «كَانَ فِي مَجْلِسِكَ هَذَا أَبُو اَلْخَطَّابِ، وَمَعَهُ سَبْعُونَ رَجُلاً، كُلُّهُمْ إِلَيْهِ يَنَالُهُمْ مِنْهُمْ شَيْءٌ رَحِمْتُهُمْ، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِفَضَائِلِ اَلمُسْلِمِ، فَلَا أَحْسُبُ أَصْغَرَهُمْ إِلَّا قَالَ: بَلَى جُعِلْتُ فِدَاكَ، قُلْتُ: مِنْ فَضَائِلِ اَلمُسْلِمِ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ قَارِئٌ لِكِتَابِ اَلله (عزَّ وجلَّ)، وَفُلَانٌ ذُو حَظٍّ مِنْ وَرَعٍ، وَفُلَانٌ يَجْتَهِدُ فِي عِبَادَتِهِ لِرَبِّهِ، فَهَذِهِ فَضَائِلُ اَلمُسْلِمِ، مَا لَكُمْ وَلِلرِّئَاسَاتِ؟ إِنَّمَا اَلمُسْلِمُونَ رَأْسٌ وَاحِدٌ، إِيَّاكُمْ وَاَلرِّجَالُ فَإِنَّ اَلرِّجَالَ لِلرِّجَالِ مَهْلَكَةٌ، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: إِنَّ شَيْطَاناً يُقَالُ لَهُ: اَلمُذْهِبُ، يَأْتِي فِي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٩٧) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٩١/ ح ٥٤٣)؛ ورواه بتفاوت يسير الصدوق (رحمه الله) في الخصال (ص ٤٠٢/ ح ١١١).
(٣٩٨) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٧٩ و٥٨٠/ ح ٥١٥).
↑صفحة ٢٢٨↑
كُلِّ صُورَةٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَأْتِي فِي صُورَةِ نَبِيٍّ وَلَا وَصِيِّ نَبِيٍّ، وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا وَقَدْ تَرَاءَى لِصَاحِبِكُمْ فَاحْذَرُوهُ، فَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ قُتِلُوا مَعَهُ، فَأَبْعَدَهُمُ اَللهُ وَأَسْحَقَهُمْ، إِنَّهُ لَا يَهْلِكُ عَلَى اَلله إِلَّا هَالِكٌ»(٣٩٩).
وروى (رحمه الله) عَنْ عَبْدِ اَلله بْنِ بُكَيْرٍ اَلرَّجَّانِيِّ، قَالَ: ذَكَرْتُ أَبَا اَلْخَطَّابِ وَمَقْتَلَهُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: فَرَقَقْتُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: «أَتَأْسَى عَلَيْهِمْ؟»، فَقُلْتُ: لَا، وَقَدْ سَمِعْتُكَ تَذْكُرُ أَنَّ عَلِيًّا (عليه السلام) قَتَلَ أَصْحَابَ اَلنَّهَرِ، فَأَصْبَحَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ (عليه السلام) يَبْكُونَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام) لَهُمْ: «أَتَأْسَوْنَ عَلَيْهِمْ؟»، قَالُوا: لَا، إِلَّا أَنَّا ذَكَرْنَا اَلْأُلْفَةَ اَلَّتِي كُنَّا عَلَيْهَا، وَاَلْبَلِيَّةَ اَلَّتِي أَوْقَعَتْهُمْ، فَلِذَلِكَ رَقَقْنَا عَلَيْهِمْ، قَالَ: «لَا بَأْسَ»(٤٠٠).
وروى (رحمه الله) عن الكاظم (عليه السلام) أنَّه قال: «إِنَّ أَبَا اَلْخَطَّابِ أَفْسَدَ أَهْلَ اَلْكُوفَةِ، فَصَارُوا لَا يُصَلُّونَ اَلمَغْرِبَ حَتَّى يَغِيبَ اَلشَّفَقُ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، إِنَّمَا ذَاكَ لِلْمُسَافِرِ وَصَاحِبِ اَلْعِلَّةِ»(٤٠١).
وروى (رحمه الله) عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «وَأَمَّا أَبُو اَلْخَطَّابِ، فَكَذَبَ عَلَيَّ، وَقَالَ: إِنِّي أَمَرْتُهُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ اَلمَغْرِبَ حَتَّى يَرَوْا كَوْكَبَ كَذَا يُقَالُ لَهُ: اَلْقُنْدَانِيُّ، وَاَلله إِنَّ ذَلِكَ لَكَوْكَبٌ مَا أَعْرِفُهُ»(٤٠٢).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٩٩) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٨١ و٥٨٢/ ح ٥١٦).
(٤٠٠) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٨٢/ ح ٥١٧).
(٤٠١) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٨٢/ ح ٥١٨).
(٤٠٢) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٤٩٤/ ح ٤٠٧).
↑صفحة ٢٢٩↑
وروى (رحمه الله) عَنِ اَلمُفَضَّلِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله يَقُولُ: «اِتَّقِ اَلسَّفِلَةَ، وَاِحْذَرِ اَلسَّفِلَةَ، فَإِنِّي نَهَيْتُ أَبَا اَلْخَطَّابِ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنِّي»(٤٠٣).
وروى (رحمه الله) عَنْ عِيسَى، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام): «إِيَّاكَ وَمُخَالَطَةَ اَلسَّفِلَةِ، فَإِنَّ اَلسَّفِلَةَ لَا يَئُولُ إِلَى خَيْرٍ»(٤٠٤).
وروى (رحمه الله) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه السلام) يَقُولُ: «لَعَنَ اَللهُ أَبَا اَلْخَطَّابِ، وَلَعَنَ مَنْ قُتِلَ مَعَهُ، وَلَعَنَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَلَعَنَ اَللهُ مَنْ دَخَلَ قَلْبَهُ رَحْمَةٌ لَهُمْ»(٤٠٥).
وروى (رحمه الله) عن الكاظم (عليه السلام) أنَّه قال عندما سُئِلَ عن أبي الخطَّاب: «إِنَّ اَللهَ خَلَقَ اَلْأَنْبِيَاءَ عَلَى اَلنُّبُوَّةِ فَلَا يَكُونُونَ إِلَّا أَنْبِيَاءَ، وَخَلَقَ اَلمُؤْمِنِينَ عَلَى اَلْإِيمَانِ فَلَا يَكُونُونَ إِلَّا مُؤْمِنِينَ، وَاِسْتَوْدَعَ قَوْماً إِيمَاناً، فَإِنْ شَاءَ أَتَمَّهُ لَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ سَلَبَهُمْ إِيَّاهُ، وَإِنَّ أَبَا اَلْخَطَّابِ كَانَ مِمَّنْ أَعَارَهُ اَللهُ اَلْإِيمَانَ، فَلَمَّا كَذَبَ عَلَى أَبِي سَلَبَهُ اَللهُ اَلْإِيمَانَ»(٤٠٦).
وروى (رحمه الله) عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال للمفضَّل بن مزيد عندما ذكر أصحاب أبي الخطَّاب والغلاة، قال له: «يَا مُفَضَّلُ، لَا تُقَاعِدُوهُمْ، وَلَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٠٣) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٨٣/ ح ٥٢٠).
(٤٠٤) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٨٩/ ح ٥٣٦)؛ ورواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج ٥/ ص ١٥٨/ باب من تُكرَه معاملته ومخالطته/ ح ٧)، والصدوق (رحمه الله) في علل الشرائع (ج ٢/ ص ٥٢٧/ باب ٣١١/ ح ١)؛ ورواه الصدوق (رحمه الله) بتفاوت يسير في من لا يحضره الفقيه (ج ٣/ ص ١٦٤/ ح ٣٦٠٥)، وابن شعبة الحرَّاني (رحمه الله) في تُحَف العقول (ص ٣٦٦)، والطوسي (رحمه الله) في تهذيب الأحكام (ج ٧/ ص ١٠/ ح ٣٨/٣٨).
(٤٠٥) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٨٤/ ح ٥٢١).
(٤٠٦) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٨٤/ ح ٥٢٣).
↑صفحة ٢٣٠↑
تُؤَاكِلُوهُمْ، وَلَا تُشَارِبُوهُمْ، وَلَا تُصَافِحُوهُمْ، وَلَا تُوَارِثُوهُمْ»(٤٠٧).
وقال (عليه السلام) عند ذكره الغلاة(٤٠٨): «إِنَّ فِيهِمْ مَنْ يَكْذِبُ حَتَّى إِنَّ اَلشَّيْطَانَ لَيَحْتَاجُ إِلَى كَذِبِهِ»(٤٠٩).
وقال (عليه السلام) للغالية: «تُوبُوا إِلَى اَلله، فَإِنَّكُمْ فُسَّاقٌ كُفَّارٌ مُشْرِكُونَ»(٤١٠).
وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام): «يَا أَبَا مُحَمَّدٍ (كنية أبي بصير)، اِبْرَأْ مِمَّنْ يَزْعَمُ أَنَّا أَرْبَابٌ»، قُلْتُ: بَرِئَ اَللهُ مِنْهُ، فَقَالَ: «اِبْرَأْ مِمَّنْ يَزْعَمُ أَنَّا أَنْبِيَاءُ»، قُلْتُ: بَرِئَ اَللهُ مِنْهُ(٤١١).
وقال (عليه السلام): «إِنَّ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ هَذَا اَلْأَمْرَ لَمَنْ هُوَ شَرٌّ مِنَ اَلْيَهُودِ وَاَلنَّصَارَى وَاَلمَجُوسِ وَاَلَّذِينَ أَشْرَكُوا»(٤١٢)، والمعنى أنَّ بعض من يدَّعي التشيُّع لهو شرٌّ من أُولئك، وذلك بسبب الانحراف والضلال الذي يبتدعه من تلقاء نفسه. ويقال: انتحل الشيء وتنحَّله، ادَّعاه لنفسه، وهو لغيره. ويقال: فلان ينتحل مذهب كذا، إذا انتسب إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٠٧) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٨٦/ ح ٥٢٥).
(٤٠٨) غلا في الأمر غلوًّا: جاوز حدَّه، قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ (النساء: ١٧١)، ومنه غلاء الأسعار. والغلاة فِرَق كثيرة تذهب غالباً إلى وصف الأئمَّة (عليهم السلام) بصفات الأُلوهيَّة - والعياذ بالله -، وقد شدَّد الأئمَّة (عليهم السلام) على شيعتهم التبرِّي من الغلاة، وتكفيرهم، والبُعد عنهم.
(٤٠٩) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٨٧/ ح ٥٢٦)؛ ورواه بتفاوت يسير الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج ٨/ ص ٢٥٤/ ح ٣٦٢).
(٤١٠) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٨٧/ ح ٥٢٧).
(٤١١) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٨٧/ ح ٥٢٩).
(٤١٢) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٨٧/ ح ٥٢٨).
↑صفحة ٢٣١↑
وروى (رحمه الله) عَنْ عَنْبَسَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام): «لَقَدْ أَمْسَيْنَا وَمَا أَحَدٌ أَعْدَى لَنَا مِمَّنْ يَنْتَحِلُ مَوَدَّتَنَا»(٤١٣).
وروى الكشِّي (رحمه الله) أيضاً عَنِ اَلمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه السلام) يَقُولُ: «لَوْ قَامَ قَائِمُنَا بَدَأَ بِكَذَّابِي اَلشِّيعَةِ فَقَتَلَهُمْ»(٤١٤).
وقال الكاظم (عليه السلام): «قَالَ أَبُو عَبْدِ اَلله (الصادق) (عليه السلام): مَا أَنْزَلَ اَللهُ سُبْحَانَهُ آيَةً فِي اَلمُنَافِقِينَ إِلَّا وَهِيَ فِيمَنْ يَنْتَحِلُ اَلتَّشَيُّعَ»(٤١٥).
وروى (رحمه الله) عن الصادق (عليه السلام)، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَقَالَ: اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَبِّي، فَقَالَ مَا لَكَ لَعَنَكَ اَللهُ؟ رَبِّي وَرَبُّكَ اَللهُ، أَمَا وَاَلله لَكُنْتَ مَا عَلِمْتُ لَجَبَاناً فِي اَلْحَرْبِ، لَئِيماً فِي اَلسِّلْمِ»(٤١٦).
وروى (رحمه الله) عَنْ مُصَادِفٍ، قَالَ: لَـمَّا أَتَى اَلْقَوْمُ اَلَّذِينَ أَتَوا بِالْكُوفَةِ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ، فَخَرَّ سَاجِداً، وَأَلْزَقَ جُؤْجُؤَهُ بِالْأَرْضِ، وَبَكَى، وَأَقْبَلَ يَلُوذُ بِإِصْبَعِهِ وَيَقُولُ: «بَلْ عَبْدٌ اَلله، قِنٌّ دَاخِرٌ» مِرَاراً كَثِيرَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَنَدِمْتُ عَلَى إِخْبَارِي إِيَّاهُ، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، وَمَا عَلَيْكَ أَنْتَ مِنْ ذَا؟ فَقَالَ: «يَا مُصَادِفُ، إِنَّ عِيسَى لَوْ سَكَتَ عَمَّا قَالَتِ اَلنَّصَارَى فِيهِ، لَكَانَ حَقًّا عَلَى اَلله أَنْ يُصِمَّ سَمْعَهُ وَيُعْمِيَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤١٣) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٩٦/ ح ٥٥٥)؛ ورواه بتفاوت الصفَّار (رحمه الله) في بصائر الدرجات (ص ١٧٤/ ج ٣/ باب ١٤/ ح ٩).
(٤١٤) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٨٩/ ح ٥٣٣).
(٤١٥) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٨٩/ ح ٥٣٥).
(٤١٦) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٨٩/ ح ٥٣٤).
↑صفحة ٢٣٢↑
بَصَرَهُ، وَلَوْ سَكَتُّ عَمَّا قَالَ فِيَّ أَبُو اَلْخَطَّابِ، لَكَانَ حَقًّا عَلَى اَلله أَنْ يُصِمَّ سَمْعِي وَيُعْمِيَ بَصَرِي»(٤١٧).
ولذا قال (عليه السلام) عندما ذكر أبا الخطَّاب: «اَللَّهُمَّ اِلْعَنْ أَبَا اَلْخَطَّابِ، فَإِنَّهُ خَوَّفَنِي قَائِماً وَقَاعِداً وَعَلَى فِرَاشِي، اَللَّهُمَّ أَذِقْهُ حَرَّ اَلْحَدِيدِ»(٤١٨).
وقال (عليه السلام): «تَرَاءَى وَاَلله إِبْلِيسُ لِأَبِي اَلْخَطَّابِ عَلَى سُورِ اَلمَدِينَةِ أَوِ اَلمَسْجِدِ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: إِيهاً تَظْفَرُ اَلْآنَ، إيهاً تَظْفَرُ اَلْآنَ»(٤١٩).
وروى (رحمه الله) عَنْ حَفْصِ بْنِ عَمْرٍو اَلنَّخَعِيِّ، قَالَ: كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّ أَبَا مَنْصُورٍ حَدَّثَنِي أَنَّهُ رُفِعَ إِلَى رَبِّهِ، وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ: يا پسر (يا بُنَيَّ)، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام): «حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي أَنَّ رَسُولَ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قَالَ: إِنَّ إِبْلِيسَ اِتَّخَذَ عَرْشاً فِيمَا بَيْنَ اَلسَّمَاءِ وَاَلْأَرْضِ، وَاِتَّخَذَ زَبَانِيَةً كَعَدَدِ اَلمَلَائِكَةِ، فَإِذَا دَعَا رَجُلاً فَأَجَابَهُ وَوَطِئَ عَقِبَهُ وَتَخَطَّتْ إِلَيْهِ اَلْأَقْدَامُ (كناية عن الرئاسة للرجال)، تَرَاءَى لَهُ إِبْلِيسُ وَرُفِعَ إِلَيْهِ، وَإِنَّ أَبَا مَنْصُورٍ كَانَ رَسُولَ إِبْلِيسَ، لَعَنَ اَللهُ أَبَا مَنْصُورٍ، لَعَنَ اَللهُ أَبَا مَنْصُورٍ - ثَلَاثاً -»(٤٢٠).
وروى (رحمه الله) عَنْ هِشَامِ بْنِ اَلْحَكَمِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ بَيَاناً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤١٧) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٨٧ و٥٨٨/ ح ٥٣١).
(٤١٨) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٧٥ و٥٧٦/ ح ٤٠٩).
(٤١٩) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٩١/ ح ٥٤٥)؛ قيل: والظاهر أنَّ إبليس قال له ذلك عندما أتى العسكر لقتله، أي لا تتكلَّم بكلمة توبة. أو لعلَّ ذلك في أوائل ضلاله، فوعده بالظفر والرئاسة كي يدفعه في غيِّه بسرعة.
(٤٢٠) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٩٢/ ح ٥٤٦).
↑صفحة ٢٣٣↑
وَاَلسَّرِيَّ وَبَزِيعاً (لَعَنَهُمُ اَللهُ) تَرَاءَى لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ فِي أَحْسَنِ مَا يَكُونُ صُورَةُ آدَمِيٍّ مِنْ قَرْنِهِ إِلَى سُرَّتِهِ»، قَالَ: فَقُلْتُ: إِنَّ بَيَاناً يَتَأَوَّلُ هَذِهِ اَلْآيَةَ: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرضِ إِلهٌ﴾ [الزخرف: ٨٤]، أَنَّ اَلَّذِي فِي اَلْأَرْضِ غَيْرُ إِلَهِ اَلسَّمَاءِ، وَإِلَهُ اَلسَّمَاءِ غَيْرُ إِلَهِ اَلْأَرْضِ، وَأَنَّ إِلَهَ اَلسَّمَاءِ أَعْظَمُ مِنْ إِلَهِ اَلْأَرْضِ، وَأَنَّ أَهْلَ اَلْأَرْضِ يَعْرِفُونَ فَضْلَ إِلَهِ اَلسَّمَاءِ وَيُعَظِّمُونَهُ، فَقَالَ: «وَاَلله مَا هُوَ إِلَّا اَللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إِلَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَإِلَهُ مَنْ فِي اَلْأَرَضِينَ، [قَالَ: هُوَ اَلْإِمَامُ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام): «لَا وَاَلله لَا يَأْوِينِي وَإِيَّاهُ سَقْفُ بَيْتٍ أَبَداً، هُمْ شَرٌّ مِنَ اَلْيَهُودِ وَاَلنَّصَارَى وَاَلمَجُوسِ وَاَلَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَاَلله مَا صَغَّرَ عَظَمَةَ اَلله تَصْغِيرَهُمْ شَيْءٌ قَطُّ، إِنَّ عُزَيْراً جَالَ فِي صَدْرِهِ مَا قَالَتْ فِيهِ اَلْيَهُودُ، فَمَحَا اَللهُ اِسْمَهُ مِنَ اَلنُّبُوَّةِ، وَاَلله لَوْ أَنَّ عِيسَى أَقَرَّ بِمَا قَالَتِ اَلنَّصَارَى لَأَوْرَثَهُ اَللهُ صَمَماً إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ، وَاَلله لَوْ أَقْرَرْتُ بِمَا يَقُولُ فِيَّ أَهْلُ اَلْكُوفَةِ لَأَخَذَتْنِي اَلْأَرْضُ، وَمَا أَنَا إِلَّا عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا أَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ضَرٍّ وَلَا نَفْعٍ»](٤٢١)، كَذَبَ بَيَانٌ (عَلَيْهِ لَعْنَةُ اَلله)، لَقَدْ صَغَّرَ اَللهَ (عزَّ وجلَّ)، وَصَغَّرَ عَظَمَتَهُ»(٤٢٢).
وروى الكشِّي (رحمه الله) عَنِ اِبْنِ سِنَانٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام): «إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ صَادِقُونَ، لَا نَخْلُو مِنْ كَذَّابٍ يَكْذِبُ عَلَيْنَا، فَيُسْقِطُ صِدْقَنَا بِكَذِبِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٢١) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٨٩ و٥٩٠/ ح ٥٣٨)؛ وإدراج ما بين المعقوفتين هنا وإنْ كان من رواية أُخرى ولكنَّها تضمَّنت نفس السؤال عن ذلك حيث قالت به الخطَّابيَّة منهم جعفر ابن واقد ونفر من أصحاب أبي الخطَّاب، فقال (عليه السلام): «لَا وَاَلله لَا يَأْوِينِي...».
(٤٢٢) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٩٢/ ح ٥٤٧).
↑صفحة ٢٣٤↑
عَلَيْنَا عِنْدَ اَلنَّاسِ، كَانَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أَصْدَقَ اَلْبَرِيَّةِ لَهْجَةً، وَكَانَ مُسَيْلِمَةُ يَكْذِبُ عَلَيْهِ. وَكَانَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَصْدَقَ مَنْ بَرَأَ اَللهُ مِنْ بَعْدِ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَكَانَ اَلَّذِي يَكْذِبُ عَلَيْهِ وَيَعْمَلُ فِي تَكْذِيبِ صِدْقِهِ بِمَا يَفْتَرِي عَلَيْهِ مِنَ اَلْكَذِبِ عَبْدَ اَلله بْنَ سَبَإٍ (لَعَنَهُ اَللهُ)، وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اَلله اَلْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليهما السلام) قَدِ اُبْتُلِيَ بِالمُخْتَارِ»، ثُمَّ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اَلله اَلْحَارِثَ اَلشَّامِيَّ وَبَيَانَ، فَقَالَ: «كَانَا يَكْذِبَانِ عَلَى عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ (عليهما السلام)»، ثُمَّ ذَكَرَ اَلمُغِيرَةَ بْنَ سَعِيدٍ، وَبَزِيعاً، وَاَلسَّرِيَّ، وَأَبَا اَلْخَطَّابِ، وَمَعْمَراً، وَبَشَّاراً اَلْأَشْعَرِيَّ، وَحَمْزَةَ اَلزُّبَيْدِيَّ، وَصَائِدَ اَلنَّهْدِيَّ، فَقَالَ: «لَعَنَهُمُ اَللهُ، إِنَّا لَا نَخْلُو مِنْ كَذَّابٍ أَوْ عَاجِزِ اَلرَّأْيِ، كَفَانَا اَللهُ مَئُونَةَ كُلِّ كَذَّابٍ، وَأَذَاقَهُمُ اَللهُ حَرَّ اَلْحَدِيدِ»(٤٢٣).
وَعَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (الباقر) (عليه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «لَعَنَ اَللهُ بُنَانَ اَلْبَيَانِ، وَإِنَّ بُنَاناً (لَعَنَهُ اَللهُ) كَانَ يَكْذِبُ عَلَى أَبِي، أَشْهَدُ أَنَّ أَبِي عَلِيَّ اِبْنَ اَلْحُسَيْنِ كَانَ عَبْداً صَالِحاً»(٤٢٤).
وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (الصادق) (عليه السلام)، قَالَ: «لَعَنَ اَللهُ اَلمُغِيرَةَ بْنَ سَعِيدٍ، إِنَّهُ كَانَ يَكْذِبُ عَلَى أَبِي، فَأَذَاقَهُ اَللهُ حَرَّ اَلْحَدِيدِ. لَعَنَ اَللهُ مَنْ قَالَ فِينَا مَا لَا نَقُولُهُ فِي أَنْفُسِنَا، وَلَعَنَ اَللهُ مَنْ أَزَالَنَا عَنِ اَلْعُبُودِيَّةِ لِله اَلَّذِي خَلَقَنَا، وَإِلَيْهِ مَآبُنَا وَمَعَادُنَا، وَبِيَدِهِ نَوَاصِينَا»(٤٢٥).
وَعَنْ أَبِي يَحْيَى اَلْوَاسِطِيِّ، قَالَ: قَالَ أَبُو اَلْحَسَنِ اَلرِّضَا (عليه السلام): «كَانَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٢٣) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٩٣/ ح ٥٤٩).
(٤٢٤) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٩٠/ ح ٥٤١).
(٤٢٥) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٩٠ و٥٩١/ ح ٥٤٢).
↑صفحة ٢٣٥↑
بَيَانٌ يَكْذِبُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام) فَأَذَاقَهُ اَللهُ حَرَّ اَلْحَدِيدِ، وَكَانَ اَلمُغِيرَةُ اِبْنُ سَعِيدٍ يَكْذِبُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فَأَذَاقَهُ اَللهُ حَرَّ اَلْحَدِيدِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ يَكْذِبُ عَلَى أَبِي اَلْحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام) فَأَذَاقَهُ اَللهُ حَرَّ اَلْحَدِيدِ، وَكَانَ أَبُو اَلْخَطَّابِ يَكْذِبُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام) فَأَذَاقَهُ اَللهُ حَرَّ اَلْحَدِيدِ، وَاَلَّذِي يَكْذِبُ عَلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ فُرَاتٍ»، قَالَ أَبُو يَحْيَى: وَكَانَ مُحَمَّدُ اِبْنُ فُرَاتٍ مِنَ اَلْكُتَّابِ (أي الذين يعملون في ديوان العبَّاسيِّين)، فَقَتَلَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَكَلَةَ»(٤٢٦).
وَعَنِ اِبْنِ أَبِي يَعْفُورٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، فَقَالَ: «مَا فَعَلَ بَزِيعٌ؟»، فَقُلْتُ لَهُ: قُتِلَ، فَقَالَ: «اَلْحَمْدُ لِله، أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ لِهَؤُلَاءِ اَلمُغِيرِيَّةِ شَيْءٌ خَيْراً مِنَ اَلْقَتْلِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَتُوبُونَ أَبَداً»(٤٢٧).
وَعَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام): إِنَّ قَوْماً يَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ آلِهَةٌ، يَتْلُونَ عَلَيْنَا بِذَلِكَ قُرْآناً: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: ٥١]، قَالَ: «يَا سَدِيرُ، سَمْعِي وَبَصَرِي وَشَعْرِي وَبَشَرِي وَلَحْمِي وَدَمِي مِنْ هَؤُلَاءِ بِرَاءٌ، بَرِئَ اَللهُ مِنْهُمْ وَرَسُولُهُ، مَا هَؤُلَاءِ عَلَى دِينِي وَدِينُ آبَائِي، وَاَلله لَا يَجْمَعُنِي وَإِيَّاهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِلَّا وَهُوَ عَلَيْهِمْ سَاخِطٌ»، قَالَ: قُلْتُ: فَمَا أَنْتُمْ، جُعِلْتُ فِدَاكَ؟ قَالَ: «خُزَّانُ عِلْمِ اَلله، وَتَرَاجِمَةُ وَحْيِ اَلله، وَنَحْنُ قَوْمٌ مَعْصُومُونَ، أَمَرَ اَللهُ بِطَاعَتِنَا، وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِنَا، نَحْنُ اَلْحُجَّةُ اَلْبَالِغَةُ عَلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٢٦) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٩١/ ح ٥٤٤).
(٤٢٧) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٩٣ و٥٩٤/ ح ٥٥٠).
↑صفحة ٢٣٦↑
مَنْ دُونَ اَلسَّمَاءِ وَفَوْقَ اَلْأَرْضِ»(٤٢٨).
وَعَنِ اَلمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه السلام) يَقُولُ: «إِيَّاكَ وَاَلسَّفِلَةَ، إِنَّمَا شِيعَةُ جَعْفَرٍ مَنْ عَفَّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ، وَاِشْتَدَّ جِهَادُهُ، وَعَمِلَ لِخَالِقِهِ، وَرَجَا ثَوَابَهُ، وَخَافَ عِقَابَهُ»(٤٢٩).
وَعَنِ اِبْنِ اَلمُغِيرَةِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي اَلْحَسَنِ (عليه السلام) أَنَا وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اَلله بْنِ اَلْحَسَنِ (عليه السلام)، فَقَالَ يَحْيَى: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تَعْلَمُ اَلْغَيْبَ، فَقَالَ: «سُبْحَانَ اَلله، سُبْحَانَ اَلله، ضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِي، فَوَاَلله مَا بَقِيَتْ فِي جَسَدِي شَعْرَةٌ وَلَا فِي رَأْسِي إِلَّا قَامَتْ»، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «لَا وَاَلله مَا هِيَ إِلَّا وِرَاثَةٌ عَنْ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(٤٣٠).
وَقَالَ اَلصَّادِقِ (عليه السلام) عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ اَلتَّنَاسُخِ: «فَمَنْ نَسَخَ اَلْأَوَّلَ؟»(٤٣١).
أقول: شرح الحديث المحقِّق الفيلسوف الميرداماد (رحمه الله)، قال: (قوله (عليه السلام): «فَمَنْ نَسَخَ اَلْأَوَّلَ؟»، إشارة إلى برهان إبطال التناسخ على القوانين الحكميَّة والأُصول البرهانيَّة، تقريره: أنَّ القول بالتناسخ إنَّما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٢٨) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٩٤/ ح ٥٥١)؛ ورواه بتفاوت يسير الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج ١/ ص ٢٦٩ و٢٧٠/ باب في أنَّ الأئمَّة بمن يُشبِهون.../ ح ٦).
(٤٢٩) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٩٤/ ح ٥٥٢)؛ ورواه بتفاوت يسير الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج ٢/ ص ٢٣٣/ باب المؤمن وعلاماته وصفاته/ ح ٩)، والصدوق (رحمه الله) في الخصال (ص ٢٩٥ و٢٩٦/ ح ٦٣)، وفي صفات الشيعة (ص ١١).
(٤٣٠) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٨٧/ ح ٥٣٠).
(٤٣١) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٧٨/ ح ٥١٤).
↑صفحة ٢٣٧↑
يستتبُّ لو قيل بأزليَّة النفس المدبِّرة للأجساد المختلفة المتعاقبة على التناقل والتناسخ، وبلا تناهي تلك الأجساد المتناسخة بالعدد في جهة الأزل، كما هو المشهور من مذهب الذاهبين إليه.
والبراهين الناهضة على استحالة اللَّانهاية العدديَّة بالفعل مع تحقُّق الترتُّب والاجتماع في الوجود (أي البراهين القائمة على إبطال التسلسل وامتداد الأشياء المعدودة التي بينها رابطة العلّيَّة والمعلوليَّة) قائمة هناك بالقسط (أي قائمة بعينها) بحسب متن الواقع المعبَّر عنه بوعاء الزمان أعني الدهر، وإنْ لم يتصحَّح إلَّا الحصول التعاقبي بحسب ظرف السيلان والتدريج والفوت واللحوق أعني الزمان.
فإذن لا محيص لسلسلة الأجساد المترتِّبة من مبدأ متعيَّن هو الجسد الأوَّل في جهة الأزل، يستحقُّ باستعداده المزاجي أنْ يتعلَّق به نفس مجرَّدة تعلُّق التدبير والتصرُّف، فيكون ذلك مناط حدوث فيضانها عن جود المفيض الفيَّاض الحقِّ جلَّ سلطانه.
وإذا انكشف ذلك فقد انصرح أنَّ كلَّ جسد هيولاني بخصوصيَّة مزاجه الجسماني واستحقاقه الاستعدادي يكون مستحقًّا لجوهر مجرَّد بخصوصه يُدبِّره ويتعلَّق به ويتصرَّف فيه ويتسلطن عليه، فليُتثبَّت)(٤٣٢).
أقول: حاصل كلامه أنَّ بعد قيام الأدلَّة البرهانيَّة على إبطال امتداد الأُمور المتسلسلة التي بينها علّيَّة وسببيَّة ومعلوليَّة ومسببيَّة، فلا محالة هناك بداية وجسد أوَّل كانت له قابليَّة وخصوصيَّة يتأهَّل بها لإفاضة الروح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٣٢) رجال الكشِّي (ج ٢/ شرح ص ٥٧٨ و٥٧٩).
↑صفحة ٢٣٨↑
والنفس وخلقها متعلِّقة به من الله (جلَّ وعلا)، وإذا كان هذا حال الجسد الأوَّل فهذه القابليَّة هي بعينها موجودة في الأجساد كلِّها، فتكون كلٌّ منها متأهِّلة لإفاضة وخلق نفس بعدد تلك الأجساد.
وبذلك(٤٣٣) تبطل نظريَّة التناسخ القائلة بأنَّ أرواح الأموات تحلُّ في الأجساد الحيَّة الموجودة من الأطفال أو الكبار أو الحيوانات على تفاصيل كثيرة للقائلين بهذه النظريَّة الباطلة، فقوله (عليه السلام) نقض لتلك النظريَّة، وبرهان أيضاً على إبطالها.
وعن الصادق (عليه السلام) أنَّه قيل له: رُوِيَ عَنْكُمْ أَنَّ اَلْخَمْرَ وَاَلمَيْسِرَ وَاَلْأَنْصَابَ وَاَلْأَزْلَامَ رِجَالٌ، فَقَالَ: «مَا كَانَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) لِيُخَاطِبَ خَلْقَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ»(٤٣٤)، والمعنى أنَّ رواية ذلك عن الأئمَّة (عليهم السلام) إنَّما هي من وضع الكذَّابين عليهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٣٣) أقول: يمكن تقرير معنى الحديث بنحو لا تتأتَّى شبهة التناسخ أيضاً في المعاد الجسماني بالجسم العنصري، إذ لو كان الاستعداد والقابليَّة موجبة لاستحقاق نفس جديدة فكيف الحال في المعاد؟ والتقرير بنحو يدفع تلك الشبهة أيضاً هو أنَّ الباري تعالى لـمَّا كان ذا قدرة غير محدودة، وهي متعلِّقة بما هو ممكن، إذ المحال باطل الذات ولا شيء، ووقوع الشيء دليل إمكانه كما في الجسد الأوَّل، إذ الجسد الأوَّل لا يمكن للخصم فرض التناسخ فيه، فحينئذٍ الباري تعالى أيضاً قادر على خلق نفوس جديدة لبقيَّة الأجساد، هذا في الدار الأُولى، كما أنَّه قادر على إعادة تلك النفوس لأجسادها الأُولى في الدار الآخرة. هذا، ويمكن تتميم التقرير الأوَّل بنحو يدفع تلك الشبهة بأنَّ كلَّ استعداد يستحقُّ نفساً خاصَّة به، وعند الإعادة لذلك البدن يحصل مسانخ الاستعداد السابق المستحقِّ لعين تلك النفس.
(٤٣٤) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٧٨/ ح ٥١٣)؛ ورواه بتفاوت يسير العيَّاشي (رحمه الله) في تفسيره (ج ١/ ص ٣٤١/ ح ١٨٨).
↑صفحة ٢٣٩↑
ومن الغلاة في وقت أبي محمّد العسكري (عليه السلام) عليُّ بن مسعود حسكة الحوار وتلميذه القاسم بن يقطين الشعراني القمّيَّان، وقد روى الكشِّي (رحمه الله) عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ اَلْآدَمِيُّ، قَالَ: كَتَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَبِي اَلْحَسَنِ اَلْعَسْكَرِيِّ (عليه السلام): جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا سَيِّدِي، إِنَّ عَلِيَّ بْنَ حَسَكَةَ يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَائِكَ، وَأَنَّكَ أَنْتَ اَلْأَوَّلُ اَلْقَدِيمُ، وَأَنَّهُ بَابُكَ وَنَبِيُّكَ، أَمَرْتَهُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى ذَلِكَ، وَيَزْعُمُ أَنَّ اَلصَّلَاةَ وَاَلزَّكَاةَ وَاَلْحَجَّ وَاَلصَّوْمَ كُلُّ ذَلِكَ مَعْرِفَتُكَ وَمَعْرِفَةُ مَنْ كَانَ فِيهِ مِثْلُ حَالِ اِبْنِ حَسَكَةَ فِيمَا يَدَّعِي مِنَ اَلْبَابِيَّةِ وَاَلنُّبُوَّةِ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلٌ سَقَطَ عَنْهُ اَلْاِسْتِعْبَاُد بِالصَّلَاةِ وَاَلصَّوْمِ وَاَلْحَجِّ، وَذَكَرَ جَمِيعَ شَرَائِعِ اَلدِّينِ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ كُلِّهِ مَا ثَبَتَ لَكَ، وَمَالَ اَلنَّاسُ إِلَيْهِ كَثِيراً، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَمُنَّ عَلَى مَوَالِيكَ بِجَوَابٍ فِي ذَلِكَ تُنْجِيهِمْ مِنَ اَلْهَلَكَةِ.
قَالَ: فَكَتَبَ (عليه السلام): «كَذَبَ اِبْنُ حَسَكَةَ (عَلَيْهِ لَعْنَةُ اَلله)، وَبِحَسْبِكَ أَنِّي لَا أَعْرِفُهُ فِي مَوَالِيَّ، مَا لَهُ (لَعَنَهُ اَللهُ)؟ فَوَاَلله مَا بَعَثَ اَللهُ مُحَمَّداً وَاَلْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُ إِلَّا بِالْحَنِيفِيَّةِ وَاَلصَّلَاةِ وَاَلزَّكَاةِ وَاَلصِّيَامِ وَاَلْحَجِّ وَاَلْوَلَايَةِ، وَمَا دَعَا مُحَمَّدٌ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إِلَّا إِلَى اَلله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَكَذَلِكَ نَحْنُ اَلْأَوْصِيَاءُ مِنْ وُلْدِهِ عَبِيدُ اَلله، لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، إِنْ أَطَعْنَاهُ رَحِمَنَا، وَإِنْ عَصَيْنَاهُ عَذَّبَنَا، مَا لَنَا عَلَى اَلله مِنْ حُجَّةٍ، بَلِ اَلْحُجَّةُ لِله (عزَّ وجلَّ) عَلَيْنَا وَعَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ، أَبْرَأُ إِلَى اَلله مِمَّنْ يَقُولُ ذَلِكَ، وَأَنْتَفِي إِلَى اَلله مِنْ هَذَا اَلْقَوْلِ، فَاهْجُرُوهُمْ (لَعَنَهُمُ اَللهُ)، وَأَلْجِئُوهُمْ إِلَى ضِيقِ اَلطَّرِيقِ، فَإِنْ وَجَدْتَ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خَلْوَةً فَاشْدَخْ رَأْسَهُ بِالصَّخْرِ»(٤٣٥).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٣٥) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٨٠٤/ ح ٩٩٧)؛ ووجه هدر دم أصحاب ابن حسكة ارتدادهم عن الإسلام كما لا يخفى.
↑صفحة ٢٤٠↑
ومن هذا القبيل الفهري، والحسن بن محمّد بن بابا(٤٣٦)، وفارس بن حاتم القزويني، وقد لعنهما الهادي (عليه السلام)، فروى الكشِّي (رحمه الله) عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اَلله، قَالَ: حَدَّثَنِي اَلْعُبَيْدِيُّ (محمّد بن عيسى)، قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ اَلْعَسْكَرِيُّ اِبْتِدَاءً مِنْهُ: «أَبْرَأُ إِلَى اَلله مِنَ اَلْفِهْرِيِّ، وَاَلْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَابَا اَلْقُمِّيِّ، فَابْرَأْ مِنْهُمَا، فَإِنِّي مُحَذِّرُكَ وَجَمِيعَ مَوَالِيَّ، وَإِنِّي أَلْعَنُهُمَا (عَلَيْهِمَا لَعْنَةُ اَلله)، مُسْتَأْكِلَيْنِ يَأْكُلَانِ بِنَا اَلنَّاسَ، فَتَّانَيْنِ مُؤْذِيَيْنِ، آذَاهُمَا اَللهُ وَأَرْكَسَهُمَا فِي اَلْفِتْنَةِ رَكْساً، يَزْعُمُ اِبْنُ بَابَا أَنِّي بَعَثْتُهُ نَبِيًّا، وَأَنَّهُ بَابٌ (عَلَيْهِ لَعْنَةُ اَلله)، سَخِرَ مِنْهُ اَلشَّيْطَانُ فَأَغْوَاهُ، فَلَعَنَ اَللهُ مَنْ قَبِلَ مِنْهُ ذَلِكَ. يَا مُحَمَّدُ، إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تَشْدَخَ رَأْسَهُ بِالْحَجَرِ فَافْعَلْ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَانِي، آذَاهُ اَللهُ فِي اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ»(٤٣٧).
وروى (رحمه الله) عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، قَالَ: قَرَأْنَا فِي كِتَابِ اَلدِّهْقَانِ وَخَطِّ اَلرَّجُلِ فِي اَلْقَزْوِينِيِّ، وَكَانَ كَتَبَ إِلَيْهِ اَلدِّهْقَانُ يُخْبِرُهُ بِاضْطِرَابِ اَلنَّاسِ فِي هَذَا اَلْأَمْرِ، وَأَنَّ اَلمُوَادِعِينَ قَدْ أَمْسَكُوا عَنْ بَعْضِ مَا كَانُوا فِيهِ لِهَذِهِ اَلْعِلَّةِ مِنَ اَلْاِخْتِلَافِ، فَكَتَبَ: «كَذَّبُوهُ وَهَتَكُوهُ، أَبْعَدَهُ اَللهُ وَأَخْزَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ فِي جَمِيعِ مَا يَدَّعِي وَيَصِفُ، وَلَكِنْ صُونُوا أَنْفُسَكُمْ عَنِ اَلْخَوْضِ وَاَلْكَلَامِ فِي ذَلِكَ، وَتَوَقُّوا مُشَاوَرَتَهُ، وَلَا تَجْعَلُوا لَهُ اَلسَّبِيلَ إِلَى طَلَبِ اَلشَّرِّ، كَفَى اَللهُ مَئُونَتَهُ وَمَئُونَةَ مَنْ كَانَ مِثْلَهُ»(٤٣٨).
وروى (رحمه الله) عن أبي محمّد الرازي أنَّه ورد منه (عليه السلام) كتاب فيه: «وَأَنْ تَجْتَنِبُوا اَلْقَزْوِينِيَّ أَنْ تَدْخُلُوهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي مَا يُمَوِّهُ بِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٣٦) وهذا كان من تلامذة ابن حسكة، كما في رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٨٠٦/ ح ١٠٠١).
(٤٣٧) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٨٠٥/ ح ٩٩٩).
(٤٣٨) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٨١٠/ ح ١٠١٠).
↑صفحة ٢٤١↑
عِنْدَ اَلنَّاسِ، فَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اَللهُ»(٤٣٩).
ومن هذا القبيل أبو السمهري، وابن أبي الزرقاء، فقد روى الكشِّي (رحمه الله) عَنْ إِسْحَاقَ اَلْأَنْبَارِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو جَعْفَرٍ اَلثَّانِي (عليه السلام): «مَا فَعَلَ أَبُو اَلسَّمْهَرِيِّ (لَعَنَهُ اَللهُ) يَكْذِبُ عَلَيْنَا، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ وَاِبْنَ أَبِي اَلزَّرْقَاءِ دَعَاةٌ إِلَيْنَا، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَتَبَرَّأُ إِلَى اَلله (عزَّ وجلَّ) مِنْهُمَا، إِنَّهُمَا فَتَّانَانِ مَلْعُونَانِ...» الحديث(٤٤٠).
وأمَّا المغيرة بن سعيد العجلي الذي كان يكذب على الباقر (عليه السلام)، وقد تقدَّم شطر من حاله(٤٤١)، فقد روى الكشِّي (رحمه الله) في ترجمته عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال يوماً لأصحابه: «لَعَنَ اَللهُ اَلمُغِيرَةَ بْنَ سَعِيدٍ، وَلَعَنَ يَهُودِيَّةً كَانَ يَخْتَلِفُ إِلَيْهَا (أي يتردَّد بالمجيء والذهاب إليها)، يَتَعَلَّمُ مِنْهَا اَلسِّحْرَ وَاَلشَّعْبَذَةَ وَاَلمَخَارِيقَ. إِنَّ اَلمُغِيرَةَ كَذَبَ عَلَى أَبِي (عليه السلام)، فَسَلَبَهُ اَللهُ اَلْإِيمَانَ. وَإِنَّ قَوْماً كَذَبُوا عَلَيَّ، مَا لَهُمْ أَذَاقَهُمُ اَللهُ حَرَّ اَلْحَدِيدِ، فَوَاَلله مَا نَحْنُ إِلَّا عَبِيْدَ اَلَّذِي خَلَقَنَا وَاِصْطَفَانَا، مَا نَقْدِرُ عَلَى ضُرٍّ وَلَا نَفْعٍ، إِنْ رُحِمْنَا فَبِرَحْمَتِهِ، وَإِنْ عُذِّبْنَا فَبِذُنُوبِنَا، وَاَلله مَا لَنَا عَلَى اَلله مِنْ حُجَّةٍ، وَلَا مَعَنَا مِنَ اَلله بَرَاءَةٌ، وَإِنَّا لَمَيِّتُونَ، وَمَقْبُورُونَ، وَمُنْشَرُونَ، وَمَبْعُوثُونَ، وَمَوْقُوفُونَ، وَمَسْئُولُونَ، وَيْلَهُمْ مَا لَهُمْ (لَعَنَهُمُ اَللهُ)، فَلَقَدْ آذَوُا اَللهَ وَآذَوْا رَسُولَهُ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فِي قَبْرِهِ وَأَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ وَفَاطِمَةَ وَاَلْحَسَنَ وَاَلْحُسَيْنَ وَعَلِيَّ بْنَ اَلْحُسَيْنِ وَمُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ (صَلَوَاتُ اَلله عَلَيْهِمْ)، وَهَا أَنَا ذَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ لَحْمُ رَسُولِ اَلله، وَجِلْدُ رَسُولِ اَلله، أَبِيتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٣٩) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٨٠٩ و٨١٠/ ح ١٠٠٩).
(٤٤٠) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٨١١/ ح ١٠١٣).
(٤٤١) راجع ما مرَّ في (ص ٢٢٤).
↑صفحة ٢٤٢↑
عَلَى فِرَاشِي خَائِفاً وَجِلاً مَرْعُوباً، يَأْمَنُونَ وَأَفْزَعُ، وَيَنَامُونَ عَلَى فُرُشِهِمْ وَأَنَا خَائِفٌ سَاهِرٌ وَجِلٌ أَتَقَلْقَلُ بَيْنَ اَلْجِبَالِ وَاَلْبَرَارِي، أَبْرَأُ إِلَى اَلله مِمَّا قَالَ فِيَّ اَلْأَجْدَعُ اَلْبَرَّادُ عَبْدُ بَنِي أَسَدٍ أَبُو اَلْخَطَّابِ (لَعَنَهُ اَللهُ)، وَاَلله لَوِ اُبْتُلُوا بِنَا وَأَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ لَكَانَ اَلْوَاجِبُ أَلَّا يَقْبَلُوهُ، فَكَيْفَ وَهُمْ يَرَوْنِي خَائِفاً وَجِلاً؟ أَسْتَعْدِي اَللهَ عَلَيْهِمْ، وَأَتَبَرَّأُ إِلَى اَلله مِنْهُمْ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي اِمْرُؤٌ وَلَدَنِي رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَمَا مَعِي بَرَاءَةٌ مِنَ اَلله، إِنْ أَطَعْتُهُ رَحِمَنِي، وَإِنْ عَصَيْتُهُ عَذَّبَنِي عَذَاباً شَدِيداً أَوْ أَشَدَّ عَذَابِهِ»(٤٤٢).
وروى (رحمه الله) عَنْ سَلْمَانَ اَلْكِنَانِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «هَلْ تَدْرِي مَا مَثَلُ اَلمُغِيرَةِ؟»، قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: «مَثَلُهُ مَثَلُ بَلْعَمَ»، قُلْتُ: وَمَنْ بَلْعَمُ؟ قَالَ: «اَلَّذِي قَالَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ): ﴿الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [الأعراف: ١٧٥]»(٤٤٣).
وروى الكشِّي (رحمه الله) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قُولَوَيْهِ اَلْقُمِّيِّ (الشيخ الجليل، ووالد أُستاذ المفيد (رحمه الله))، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اَلله (أحد أعلام وشيوخ الطائفة، مرَّ ذكره(٤٤٤))، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى (العبيدي اليقطيني الثقة الجليل)، عَنْ يُونُسَ (بن عبد الرحمن، من أصحاب الرضا (عليه السلام) وثقاته)، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلاً مِنَ اَلطَّيَّارَةِ (الغلاة) يُحَدِّثُ أَبَا اَلْحَسَنِ اَلرِّضَا (عليه السلام) عَنْ يُونُسَ بْنِ ظَبْيَانَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ فِي بَعْضِ اَللَّيَالِي وَأَنَا فِي اَلطَّوَافِ، فَإِذَا نِدَاءٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٤٢) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٤٩١ و٤٩٢/ ح ٤٠٣).
(٤٤٣) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٤٩٤/ ح ٤٠٦)؛ ورواه بتفاوت العيَّاشي (رحمه الله) في تفسيره (ج ٢/ ص ٤٢/ ح ١١٨).
(٤٤٤) راجع ما مرَّ في (ص ٦٠).
↑صفحة ٢٤٣↑
مِنْ فَوْقِ رَأْسِي: يَا يُونُسُ، إِنِّي أَنَا اَللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ اَلصَّلَاةَ لِذِكْرِي، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا ج (كناية عن جبرئيل(عليه السلام))، فَغَضِبَ أَبُو اَلْحَسَنِ (عليه السلام) غَضَباً لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: «اُخْرُجْ عَنِّي لَعَنَكَ اَللهُ، وَلَعَنَ مَنْ حَدَّثَكَ، وَلَعَنَ يُونُسَ بْنَ ظَبْيَانَ أَلْفَ لَعْنَةٍ يَتْبَعُهَا أَلْفُ لَعْنَةٍ كُلُّ لَعْنَةٍ مِنْهَا تُبْلِغُكَ قَعْرَ جَهَنَّمَ، أَشْهَدُ مَا نَادَاهُ إِلَّا شَيْطَانٌ، أَمَا إِنَّ يُونُسَ مَعَ أَبِي اَلْخَطَّابِ فِي أَشَدِّ اَلْعَذَابِ مَقْرُونَانِ، وَأَصْحَابَهُمَا إِلَى ذَلِكَ اَلشَّيْطَانِ مَعَ فِرْعَوْنَ وَآلِ فِرْعَوْنَ فِي أَشَدِّ اَلْعَذَابِ، سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْ أَبِي (عليه السلام)»، قَالَ يُونُسُ (بن عبد الرحمن): فَقَامَ اَلرَّجُلُ مِنْ عِنْدِهِ، فَمَا بَلَغَ اَلْبَابَ إِلَّا عَشْرَ خُطًا حَتَّى صُرِعَ مَغْشِيّاً عَلَيْهِ، وَقَدْ قَاءَ رَجِيعَهُ، وَحُمِلَ مَيِّتاً، فَقَالَ أَبُو اَلْحَسَنِ (عليه السلام): «أَتَاهُ مَلَكٌ بِيَدِهِ عَمُودٌ فَضَرَبَ عَلَى هَامَتِهِ ضَرْبَةً قُلِبَ فِيهَا مَثَانَتُهُ حَتَّى قَاءَ رَجِيعَهُ، وَعَجَّلَ اَللهُ بِرُوحِهِ إِلَى اَلْهَاوِيَةِ، وَأَلْحَقَهُ بِصَاحِبِهِ اَلَّذِي حَدَّثَهُ، بِيُونُسَ بْنِ ظَبْيَانَ، وَرَأَى اَلشَّيْطَانَ اَلَّذِي كَانَ يَتَرَاءَى لَهُ»(٤٤٥).
وفي ختام هذا الفصل نذكر ما رواه الكليني (رحمه الله) في باب (البِدَع والرأي والمقائيس) بإسناده عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «إِنَّ مِنْ أَبْغَضِ اَلْخَلْقِ إِلَى اَلله (عزَّ وجلَّ) لَرَجُلَيْنِ: رَجُلٌ وَكَلَهُ اَللهُ إِلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ اَلسَّبِيلِ، مَشْعُوفٌ بِكَلَامِ بِدْعَةٍ، قَدْ لَهِجَ بِالصَّوْمِ وَاَلصَّلَاةِ، فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنِ اِفْتَتَنَ بِهِ، ضَالٌّ عَنْ هَدْيِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، مُضِلٌّ لِمَنِ اِقْتَدَى بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ، حَمَّالٌ خَطَايَا غَيْرِهِ، رَهْنٌ بِخَطِيئَتِهِ، وَرَجُلٌ قَمَشَ جَهْلاً فِي جُهَّالِ اَلنَّاسِ، عَانٍ بِأَغْبَاشِ اَلْفِتْنَةِ، قَدْ سَمَّاه أَشْبَاه اَلنَّاسِ عَالِماً، وَلَمْ يَغْنَ فِيهِ يَوْماً سَالِماً، بَكَّرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٤٥) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٦٥٧ و٦٥٨/ ح ٦٧٣).
↑صفحة ٢٤٤↑
فَاسْتَكْثَرَ مَا قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ حَتَّى إِذَا اِرْتَوَى مِنْ آجِنٍ وَاِكْتَنَزَ مِنْ غَيْرِ طَائِلٍ جَلَسَ بَيْنَ اَلنَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ مَا اِلْتَبَسَ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ خَالَفَ قَاضِياً سَبَقَهُ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَهُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ كَفِعْلِهِ بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُ، وَإِنْ نَزَلَتْ بِه إِحْدَى اَلمُبْهَمَاتِ اَلمُعْضِلَاتِ هَيَّأَ لَهَا حَشْواً مِنْ رَأْيِهِ، ثُمَّ قَطَعَ بِه، فَهُوَ مِنْ لَبْسِ اَلشُّبُهَاتِ فِي مِثْلِ غَزْلِ اَلْعَنْكَبُوتِ، لَا يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ، لَا يَحْسَبُ اَلْعِلْمَ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَنْكَرَ، وَلَا يَرَى أَنَّ وَرَاءَ مَا بَلَغَ فِيه مَذْهَباً، إِنْ قَاسَ شَيْئاً بِشَيْءٍ لَمْ يُكَذِّبْ نَظَرَهُ، وَإِنْ أَظْلَمَ عَلَيْه أَمْرٌ اِكْتَتَمَ بِهِ، لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِه، لِكَيْلَا يُقَالَ لَهُ: لَا يَعْلَمُ، ثُمَّ جَسَرَ فَقَضَى، فَهُوَ مِفْتَاحُ عَشَوَاتٍ، رَكَّابُ شُبُهَاتٍ، خَبَّاطُ جَهَالَاتٍ، لَا يَعْتَذِرُ مِمَّا لَا يَعْلَمُ فَيَسْلَمَ، وَلَا يَعَضُّ فِي اَلْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ فَيَغْنَمَ، يَذْرِي اَلرِّوَايَاتِ ذَرْوَ اَلرِّيحِ اَلْهَشِيمَ، تَبْكِي مِنْهُ اَلمَوَارِيثُ، وَتَصْرُخُ مِنْه اَلدِّمَاءُ، يُسْتَحَلُّ بِقَضَائِهِ اَلْفَرْجُ اَلْحَرَامُ، وَيُحَرَّمُ بِقَضَائِهِ اَلْفَرْجُ اَلْحَلَالُ، لَا مَلِيءٌ بِإِصْدَارِ مَا عَلَيْهِ وَرَدَ، وَلَا هُوَ أَهْلٌ لِمَا مِنْه فَرَطَ مِنِ اِدِّعَائِهِ عِلْمَ اَلْحَقِّ»(٤٤٦).
ولنعم ما قال بعض الأجلَّة: (إنَّ تلك الفِرَق كانت تتراوح بين شكوك وأوهام عرت بعض البسطاء وانقرضت بموتهم، ومطامع وشهوات صبَّت إليها آحاد استهوتهم النهمة والشَّرَه لاختلاس مال أو حيازة جاه، وهؤلاء بين من ثوَّب إلى الحقِّ بعد الحصول على غايته أو يأسه منها أو توقُّفه للتوبة، ومن قطع معرته حمامه، وأُناس ديف إليهم السمُّ في العسل من قِبَل السياسات الوقتيَّة روماً لتشتيت كلمة الإماميَّة ومحق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٤٦) الكافي (ج ١/ ص ٥٤ - ٥٦/ باب البِدَع والرأي والمقائيس/ ح ٦).
↑صفحة ٢٤٥↑
روعتهم، فاستخفَّهم الجهل بالغايات مع ما جُبِلَ به الإنسان من حبِّ الفخفخة، فقاموا بدعايات باطلة واستحوذوا على نفوس خائرة القوى، لكن سرعان ما قلب عليهم الدهر ظهر المجنِّ لـمَّا تمكَّنت الساسة من الحصول على ضالَّتهم المنشودة، ولم يبقَ لهم في القوم فأُخذوا وقتلوا تقتيلاً، وكانت هناك مجزرة بِدَعهم وأهوائهم.
إلى غير هذه من غايات وأغراض وقتيَّة أسفت بالنفوس الضئيلة إلى هوَّة المذلَّة واللعنة، ولم يعد في الأكثر أنْ يكون المعتنقون لها أفراداً من ساقة الناس، أو عشرات الذنابى، أو لمَّة ممَّن لم يقم المجتمع الدِّيني والبشري له وزناً، وعمَّ الجميع أنْ طوتهم مع عيثهم الأيَّام، وطحنهم بكلكله الجديدان، فعادوا كحديث أمس الدابر)(٤٤٧).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٤٧) فِرَق الشيعة (ص ٧ و٨).
↑صفحة ٢٤٦↑
الفصل الرابع: في تاريخ البابيَّة في إيران
↑صفحة ٢٤٧↑
فقد ادَّعى السيِّد عليّ محمّد بن السيِّد رضا الشيرازي المتولِّد سنة (١٢٣٥هـ) في مدينة شيراز البابيَّة والوساطة بين الإمام الحجَّة الغائب (عجَّل الله فرجه) والناس، ثمّ ترفَّع وادَّعى أنَّه المهدي المنتظَر، ثمّ ادَّعى النبوَّة، ثمّ الأُلوهيَّة. وهي سُنَّة من تقدَّمه في دعوى البابيَّة حيث ترفَّع بهم الأمر إلى الأُلوهيَّة.
وكان قد تُوفِّي عنه والده وهو في السنة الأُولى من عمره، فاهتمَّ به خاله الذي كان يدير تجارة متوسِّطة الحال، وأرسله إلى المكتب - وهو الموضع الذي يُتعلَّم فيه القراءة والكتابة في تلك السنين، وهو بمثابة المدرسة في اليوم الحاضر -، وكان الذي يشرف عليه الشيخ عابد، وكان من الجماعة الشيخيَّة التي تهتمُّ بكثرة بالعلوم الغريبة(٤٤٨) والرياضات النفسيَّة المتنوِّعة ومسائل علم العرفان، ولم يكن الباب الشيرازي يميل إلى التعلُّم، ولكن تحت وطأة خاله واصل الحضور لدى ذلك الشيخ.
وبعد عدَّة سنين اصطحبه خاله إلى مدينة بوشهر، وأوكل إليه بعض الأعمال التجاريَّة.
وكان مع ذلك يزاول الرياضات النفسيَّة الشاقَّة، حيث كان يصعد يوميًّا إلى سطح المنزل الذي قطنه في بوشهر المعروفة بشدَّة الحرارة في الصيف - لكونها من المناطق الحارَّة، وقد تصل درجة حرارتها إلى ما يقرب من خمسين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٤٨) من قبيل علم الحروف، والعزائم، والتسخير للأرواح والجنِّ.
↑صفحة ٢٤٩↑
درجة فوق الصفر في شهر تمُّوز - عدَّة ساعات من الظهيرة يزاول الصلاة والأذكار(٤٤٩)، بل قيل: كان ذلك طوال النهار واقفاً مكشوف الرأس.
وقد سبَّب ذلك نوعاً من الاختلال وفقد التوازن العصبي لديه ممَّا حدا بخاله إلى التفكير بجدٍّ في معالجة هذه الحالة، فلاح له إرسال ابن أُخته في سفر إلى العراق لعلَّ تغيير الهواء يورثه سلامة المزاج، وبإصرار شديد استجاب الباب الشيرازي لذلك، وسافر إلى كربلاء، وهناك حضر بتداوم درس السيِّد كاظم الرشتي الذي كان زعيم جماعة الشيخيَّة حينذاك.
ولم يقطع الباب رياضاته الشاقَّة مدَّة إقامته هناك، ويحكي الميرزا التنكابني في كتاب (القَصَص)(٤٥٠) أنَّه كان يحلق لحيته آنذاك، وربَّما نتفها بالمقراض (الملقط).
ومكث على ذلك ما يقرب من أربع سنين، ثمّ رجع إلى شيراز، وكان يعتقد أنَّ أُستاذه باب الله المقدَّم، كما يُعبِّر بذلك الباب في كُتُبه.
وما أنْ تُوفِّي أُستاذه أخذ تلاميذه في البحث عن من يقوم مقامه، ومن يكون الركن الرابع، وهذا العنوان يعني لديهم الأصل الرابع في أُصول الدِّين التي جعلوا أوَّلها التوحيد، وثانيها النبوَّة، وثالثها الإمامة، ورابعها النائب الخاصُّ الذي يجب تولِّيه والتبرُّؤ من أعدائه، وكان التنافس يدور بين عدَّة منهم مثل: ميرزا حسن جوهر، وميرزا محيط كرماني، وحاجّ محمّد كريم دخان، وملَّا محمّد مامقاني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٤٩) وكان يُكثِر من كتابة الأدعية والمناجاة ونحوها.
(٤٥٠) قَصَص العلماء (ص ٥٦).
↑صفحة ٢٥٠↑
ولكن السيِّد الباب أخذ في التطلُّع إلى ذلك المقام، وبدأ في دعوة تلاميذ أُستاذه إلى نفسه، وسارع إلى الإعلان بأنَّه باب الحجَّة الغائب، وعلى أثر ذلك نشب بينه وبين تلك العدَّة المذكورة سابقاً صراع احتدَّ شيئاً فشيئاً، وحاولت تلك العدَّة ابتداءً أنْ تُثنِي الباب عن ادِّعائه، ولكنَّه قابلهم، بل حاول أنْ يجذبهم إلى بابيَّته، إلى أنْ آل الأمر إلى تبريتهم منه.
وواصل الباب الشيرازي في دعوة البسطاء والسُّذَّج من الناس إلى بابيَّته، وكان يُظهِر إليهم جانباً كبيراً من الزهد والتقشُّف والرياضات النفسيَّة ممَّا يجذب قلوب الكثير من تلك النماذج نحوه. وكان إذا اطمئنَّ بانجذاب شخص إليه يقول له: ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ (البقرة: ١٨٩)، وغالباً ما يقرأ الحديث المشهور: «أَنَا مَدِينَةُ اَلْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا»(٤٥١)، ويُكنِّي بذلك مع إضافة شيء من التلويح إلى أنَّ لكلِّ شيء باباً وواسطةً، وأنَّه هو الواسطة الكبرى، وهو الباب.
كما وبدأ في تفسير سورة يوسف بمنهج تأويلي من الخيالات والأوهام المركَّبة اصطلح عليها بالتأويل الباطن للسورة، والتي لا تنضبط مع أيِّ ميزان من قواعد اللغة العربيَّة، أو القواعد العقليَّة المنطقيَّة، ولا تتَّفق بوجه مع مسلَّمات الدِّين الحنيف.
ثمّ إنَّه نجح في اكتساب ثمانية عشرة من تلامذة أُستاذه، وجعلهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٥١) حديث مستفيض رواه الخاصَّة والعامَّة، فراجع: تفسير القمِّي (ج ١/ ص ٦٨)، وأمالي الصدوق (ص ٤٢٥/ ح ٥٦٠/١)، وتُحَف العقول (ص ٤٣٠)، والمعجم الكبير للطبراني (ج ١١/ ص ٥٥)، ومستدرك الحاكم (ج ٣/ ص ١٢٦ و١٢٧)، والنور المشتعل (ص ٢٢ و٢٣/ ح ٢)، إلى غير ذلك من المصادر.
↑صفحة ٢٥١↑
دعاة ومبلِّغين لبابيَّته، وكانت منهم امرأة تُدعى زرِّين تاج، وسمُّوها (قرَّة العين)، وكان لها النصيب الأوفر في نشر البابيَّة في إيران بسبب جمالها، وبيانها الرائق، وإنشادها للشعر المطرب، وبتوسُّطها انتهجت الفرقة البابيَّة في إيران إباحة المحرَّمات من الزنا والخمر والربا.
ثمّ إنَّه ترفَّع في ادِّعائه من الباب إلى أنَّه المهدي الموعود، وأخذ أصحابه في نشر ذلك، وحبك مسرحيَّة الظهور وعلاماته.
فبدأوا بإشاعة أنَّ الباب الشيرازي قد سافر إلى مكَّة، وأنَّه من هناك يُعلِن عن ظهوره، وسافر أحدهم إلى خراسان، وهو ملَّا بشرويه الذي كان أحد الدهاة في هذه الفرقة(٤٥٢)، ومن ورائه السكرتير في السفارة الروسيَّة في طهران (كينيازدالكوركي)(٤٥٣) الذي تظاهر بالإسلام، وتزوَّج من امرأة مسلمة، ولبس زيَّ رجال الدِّين، والذي كان يتابع بدقَّة حالات الميرزا عليّ محمّد الشيرازي (الباب)، ويُخطِّط لبرامجه، حيث كانت الدولة الروسيَّة تتطلَّع آنذاك إلى حدوث الفتن والضوضاء في إيران، كي ما يسهل عليها احتلال المناطق التي هي مطمع لها، إذ لم تتوفَّق في أخذ كلِّ تلك المناطق من خلال الحرب التي خاضتها مع الدولة القاجاريَّة في إيران حين ذاك، ولذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٥٢) بشرويه من توابع مدينة مشهد بخراسان، وإليها يُنسَب هذا، وقد درس ثماني سنوات لدى السيِّد كاظم الرشتي، ولكنَّه كان بليد الذهن، فلم يترقَّ في الجانب النظري، ولكن في الجانب العملي كان متفِّوقاً.
(٤٥٣) وقد ذكر د. همَّتي في كتابه البابيُّون والبهائيُّون (ص ٣١) أنَّ كتاب (البرنس دالكوركي) تمَّت طباعته، فيمكن قراءة تفاصيل هذه القصَّة، وتأريخ زعماء البهائيَّة (وهي الفرقة التي تولَّدت من البابيَّة)، وأثرهم السياسي، والطريقة التي استعملها السياسيُّون الروس في الإتيان بالباب وأصحابه.
↑صفحة ٢٥٢↑
كانت السفارة الروسيَّة وبعض السفارات الأجنبيَّة الأُخرى كالسفارة البريطانيَّة في تمام الأشواط مساندة لتلك الفرقة البابيَّة، ومحامية عن زعمائها الذين توالوا زعامة البابيَّة كما سيأتي ذكر ذلك.
وسبب سفر ملَّا بشرويه إلى خراسان هو تطبيق أحد علامات الظهور، وهي خروج الخراساني، ويكون (بشرويه) حينئذٍ هو الخراساني.
وكان بدء دعوتهم في مدينة شيراز، ثمّ إلى أصفهان، وثمّ باقي المُدُن الإيرانيَّة، وممن دعوه إلى فرقتهم في شيراز الشيخ أبو تراب (رحمه الله) الذي كان صدر فقهاء شيراز في ذلك الوقت.
وما أنْ سمع بذلك منهم ثارت ثائرته، واشتعل هيجانه، لما عرف من مدى البليَّة والطامَّة التي حلَّت عن قرب، فدعا الشيخ أبو تراب علماء وفقهاء المدينة إلى الاجتماع، ليُطلِعهم بالفتنة التي كشفت عن رأسها.
وتمَّ الاجتماع، وحصل الاتِّفاق على رفع التوصية إلى والي المنطقة حسين خان نظام الدولة التبريزي الذي كان ماضي العزم ذي حنكة وتدبير، وهو بدوره أيضاً أقام مجلساً جمع فيه العلماء ودعاة الباب فاستنطقهم، وأجابوا حينها بكلِّ صراحةٍ وجرأةٍ أنَّهم يدعون إلى الباب، وأبرزوا للملأ الحاضر في المجلس كتاباً للباب الشيرازي التي زعم أنَّها وحي سماوي، فحينها ضجَّ المجلس وارتفعت الأصوات وأفتى العلماء على أثر ذلك بكفرهم ووجوب قتلهم، ولم يتباطأ الوالي في تنفيذ الحكم عليهم، وأرسل شرحاً مفصَّلاً للقضيَّة إلى الحكومة في طهران.
وكان الباب الشيرازي حينها في بوشهر، فاستدعاه الوالي إلى الحضور
↑صفحة ٢٥٣↑
في شيراز برفقة من الحرس، وأمهله عدَّة أيَّام بعد وصوله حتَّى يسكن روعه ويهدأ خوفه.
وكان الباب الشيرازي في مدَّة إقامته في بوشهر قد كتب عدَّة من المؤلَّفات، منها كتاب (البيان)، زاعماً أنَّه المراد من قوله تعالى: ﴿الرَّحْمنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ (الرحمن: ١ - ٤)، وأنَّ كتابه البيان ناسخ للقرآن - والعياذ بالله -، وأنَّ ما فيه هو الشريعة الناسخة الجديدة، وتعمَّد فيه إلى اقتباس النصوص القرآنيَّة مع التغيير بما تشهَّاه من الأحكام والبِدَع والضلالات التي سيأتي ذكرها، والمضحك المبكي أنَّه مملوء بالأغلاط النحويَّة والصرفيَّة وغيرها من قواعد علوم الأدب العربي.
وهذا الأُسلوب الاقتباسي مارسه بكثرة زعماء الفرقة البابيَّة، سواء مع النصوص القرآنيَّة، أو مع الأحاديث النبويَّة، والمرويَّة عن الأئمَّة (عليهم السلام).
ثمّ إنَّ الوالي أحضر الباب ليلاً لديه، وأظهر له عذره في قتل أعوانه، وأنَّه كان مخطئاً في ذلك - وكلُّ هذه المسرحيَّة التي قام بها الوالي استدراج لأخذ الإقرار من الباب على دعاويه -، وأخبره بأنَّ هذا التحوُّل المفاجئ بسبب رؤية رآها في المنام، وكأنَّ الباب قد أتاه وأمسك على رجله اليمنى فاستوى جالساً، وأخذ الباب يخاطبه بأنَّ نور الإيمان يسطع من جبهتك، وبعد ذلك انتبه من النوم.
وما أنْ سمع الباب ذلك من الوالي - الذي تمثَّل بنحو من الارتعاد الجسمي والدموع المفتعلة -، قال: هنيئاً لك يا أمير، إنَّ الذي رأيته لم يكن
↑صفحة ٢٥٤↑
مناماً بل يقظةً، وإنِّي أتيتك في موضع نومك وخاطبتك بذلك، وذلك لمعرفتي بسلامة فطنتك وصفاء شعورك.
وقام الوالي بتقبيل يد الباب والتذلُّل أمامه، وقال له: إنَّ كلَّ ما أملك من عدَّة وعتاد هو قيد أمرك ورهن إشارتك، وما أنا إلَّا ظلٌّ يتبعك، فقال له الباب: هنيئاً لك لاتِّباعك الحقَّ، فقد وصلت إلى مقام كريم وموهبة عظيمة، وإنِّي أعدك بولاية ممالك الروم في المستقبل.
وأخذ الوالي في إظهار السرور والقشعريرة، وقال: يا سيِّدي، إنِّي أتبعك لا لمطمع دنيوي من مال أو جاه وعزَّة، بل للجهاد بين يديك لألتحق بالشهداء الصالحين.
ثمّ إنَّ الوالي بعدما اطمئنَّ إلى وثوق الباب الشيرازي به قرَّر مع العلماء والفقهاء عقد مجلس يحضر الباب فيه ويتمُّ المسرحيَّة، كي يستخرج من الباب بلسانه أمام الملأ دعاويه، ومن جانب آخر قال للباب: يا سيِّدي، إنِّي قد أعددت مجلساً يحضره علماء المدينة، وتحضره أنت كي تدعوهم إلى الإيمان بك وبما تدعو إليه، ومن لا يستجيب منهم لذلك أضرب عنقه بالسيف، فاستطار الباب لذلك فرحاً، واستعدَّ لذلك المجلس، وذهب برفقة أحد أعوانه السيِّد يحيى بن السيِّد جعفر الدارابي المعروف بالكشفي الذي كان من كبار الفرقة البابيَّة، ووالده كان من أعاظم علماء عصره ذي المؤلَّفات المهمَّة.
فابتدأ الباب بالخطاب في المجلس الحافل: يا علماء، ألم يئن لكم أنْ تتحرَّروا من الهوى، وتتَّبعوا الهداية، وتتركوا الضلالة؟ فاسمعوا قولي،
↑صفحة ٢٥٥↑
وأطيعوا أمري، إنَّ نبيَّكم لم يترك لكم غير القرآن، وهذا كتابي (البيان)، فتعالَوا واقرأوه واتلوه لتعلموا أنَّه أفصح من القرآن، وأحكامه ناسخة للقرآن، فاستمعوا لي واقبلوا نصيحتي ما دام السيف في الغماد، وقبل أنْ تُقطَع الرؤوس، واحفظوا دماءكم وأموالكم وأطفالكم، فأطيعوا أمري، وعوا كلامي، فهذه نصيحتي لكم.
هذا والعلماء منصتون لا يُحرِّكون ساكناً، ولا ينطقون ببنت شفة، كما متَّفق عليه مسبقاً.
ثمّ قام الوالي أمام الباب، والتمس منه أنْ يكتب دعاويه على ورقة ليعرضها بيِّنة وبرهان على أهل المجلس لتتمَّ الحجَّة، فكتب الباب عدَّة أسطر بأُسلوب الدعاء، ونهج المناجاة كما هي عادته في كتاباته، فدارت الورقة على أيدي العلماء، ولاحظوا فيها أخطاء شنيعة في الأُسلوب والصياغة الأدبيَّة والأغلاط النحويَّة والصرفيَّة.
وأخذ الباب الشيرازي في الدفاع عن نفسه وتبرير ذلك بأنَّ ذلك ليس من تقصيري، وإنَّما هو من الإلهامات الغيبيَّة والوحي السماوي، فالجهالة ليست فيَّ، فوقعت في المجلس الضوضاء، وارتفعت الأصوات، فمن قائل يفتي بقتله وكفره وخسرانه، ومن قائل يحكم بجنونه واختلال عقله وأنَّه يُعزَّر ويُؤدَّب، وقام الوالي مخاطباً الباب: يا جاهل، يا مغرور، ما هذه البدعة التي أحدثتها، كيف تدَّعي النبوَّة والرسالة أو المهدويَّة وأنت لا تقدر على التعبير عن مرادك بلفظ عربي مستقيم منتظم، ومع هذا الحال تدَّعي أنَّ كلامك أفصح من القرآن وأبلغ؟! وإنِّي أُفكر أنَّ قتلك واجب في
↑صفحة ٢٥٦↑
شريعة الإسلام، ولكن أرى بقرائن حالك أنَّك مختلُّ العقل وفاسد الدماغ، فلا يصحُّ قتلك، ولكنَّك رجل سفيه أبله، ولهذا يجب تعزيرك وتأديبك لعلَّك ترجع عن الضلالة وتعود إلى الهداية.
ثمّ أمر بإخراجه من المجلس وضربه بالفلقة، فأخذ يستغيث ويتوسَّل بالناس لينقذوه، ولكن الضرب المبرح تواصل حتَّى أظهر التوبة والاستغفار.
ثمّ حُمِلَ على حمار طيف به الأسواق والطُّرُقات تشهيراً به - ولكن الباب كان يتوخَّى ويحرص على ذلك ويحبُّ الشهرة أيًّا كانت -، وأُرجع مرَّةً أُخرى إلى المجلس المحتشد، فأخذ الباب بتقبيل يد الشيخ أبي تراب، وكرَّر التوبة والاستغفار، ولكن العلماء أصرُّوا على صعوده المنبر أمام الناس وإعلانه التوبة والرجوع عن الدعاوي السابقة والضلال الذي كان يدعو إليه.
فصعد المنبر قائلاً: لست أنا وكيل القائم الموعود، ولست أنا الواسطة بين الإمام الغائب وبين الناس.
وثمّ طلب منه إمام الجمعة أنْ يحضر يوم الجمعة في مسجد وكيل، وأنْ يُعلِن ذلك مرَّةً أُخرى أمام الناس، وطلب الوالي ضامناً للباب أنْ لا يعود إلى بِدَعِهِ السابقة، فضمنه خاله السيِّد عليّ، وفي يوم الجمعة حضر الباب مسجد وكيل وقال: لعن الله من يرى أنِّي وكيل الإمام الغائب، لعن الله من يرى أنِّي أُنكر وحدانيَّة الله تعالى، لعن الله من يرى أنِّي أُنكر رسالة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لعن الله من يرى أنِّي أُنكر إمامة الأئمَّة (عليهم السلام).
ثمّ نزل عن المنبر، وذهبوا به إلى السجن، ومكث فيه ستَّة أشهر في رفاهية من العيش مع الحدِّ من أيِّ نشاط أو اتِّصال.
↑صفحة ٢٥٧↑
وفي تلك السنة انتشر وباء وطاعون أتى من الهند وأفغانستان جعل الأوضاع في شيراز مضطربة، وفرَّ الكثير إلى القرى النائية خوفاً من العدوى، وكذلك لجأ الوالي ومعاونوه إلى أطراف المدينة، فساد البلد الهرج والمرج، وحينها أُهملت الرقابة على السجن.
فقام والي أصفهان ويُدعى منوچهر خان القرجي الأرمني النصراني باستغلال الفرصة، وأرسل إلى السجن في شيراز بعض معاونيه مع عدد من دعاة البابيَّة الذين كانوا على ارتباط وثيق معه في أصفهان لنشر البابيَّة، وكان يُهيِّئ لهم مختلف الطُّرُق والوسائل لذلك.
وهذا الوالي النصراني الأرمني كان قد وقع أسيراً لدى الدولة الإيرانيَّة آنذاك مع عدد من إخوته في الحروب التي وقعت لها في أرمينيا والقفقاز، وكان هو من الأُمراء هناك.
وبعد وقوعه أسيراً حاول مع إخوته التسلُّل إلى الحكومة والوصول إلى مناصب حسَّاسة فيها كي يتمَّ له الوصول إلى مآربه الحاقدة الدفينة على الإسلام، وأمَّا ارتباطه مع الأيدي الأجنبيَّة فعلى قدم وساق.
وفي هذه الأثناء استفحل نشر البابيَّة في أصفهان من دعاتها، فثارت الغيرة الدِّينيَّة لدى الناس والعلماء في مدينة أصفهان، والتي كانت تعجُّ آنذاك بفحول الفقهاء والعلماء في مختلف الفنون من الحكمة والأُصول والهيأة والكلام وغيرها.
فاجتمع العلماء على أثر تصاعد فتنة البابيَّة للبحث عن التصدِّي لها، وأثناء ذلك حضر الوالي المجلس وخاطب الحُضَّار بأنَّ الباب قد وجَّه أحد
↑صفحة ٢٥٨↑
العلماء إليه دعوة للحضور إلى أصفهان، وإنِّي أخاف من اشتداد الفتنة من ذلك (وكان يُظهِر حاله في منتهى الغمِّ والحزن والتأثُّر)، وإنِّي أقترح لتفادي ذلك بأنْ يستعدَّ إلى استقباله على باب المدينة عدَّة منكم كي يحتووه ويخمدوا بدعته، وهو على أيِّ حالٍ من الفقهاء الذين قَدِمُوا من المشاهد المشرَّفة من العراق، (ويقصد من ذلك أنَّه من المرسوم عندكم الاستقبال في مثل هذه الموارد، حيلةً منه لإجلال مقدم الباب، مع أنَّه ليس له هذه الصفة الذي يُطلِقها عليه الوالي).
وكان يُكثِر من (لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله) في كلامه، وقال: وليقوم الناس بزيارته من مختلف الطبقات، كي يُعلَم جهله وكونه صفر اليدين من الفضل والعلم (وهو يقصد بذلك حصول الترويج والدعاية للباب)، ثمّ اقترح تشكيل ندوة يحضرها المقدَّمين منكم فضلاً كي يحسموا شُبُهاته، وتنقضوا ضلالته، وتُثبِتوا مروقه من الدِّين الإسلامي، وتفتوا بقتله أو حرقه أو تبعيده، وإنِّي لن أُمهله إلَّا بضربة السيف تطير عنقه.
والوالي بهذا التمثيل والصنع حاول إغراء أكثر الحُضَّار مع شيء من التهديد لمن لا يوافق فيهم بالوقوف بجانب الباب، كما اتَّهم في بادئ كلامه أحد العلماء بأنَّه الذي وجَّه الدعوة للحضور إلى أصفهان، ويكون بذلك قد خطَّط للدعاية والنشر ببرنامج وسيع النطاق.
وما أنْ وصل الباب إلى مشارف أصفهان استقبلته هيأة منتخبة تُمثِّل العلماء، وذهبوا به إلى بيت الميرزا السيِّد محمّد الملقَّب بسلطان العلماء، ولكن الباب التزم الصمت عدَّة أيَّام، ولم يُظهِر شيئاً من دعاويه، ولكن العلماء
↑صفحة ٢٥٩↑
دفعوا الناس إلى الإصرار عليه بإظهار مقالته وكتابتها كي يتمَّ معرفة عقائده.
وقبل الباب الشيرازي، فكتب رسالة طويلة في تفسير سورة الكوثر، وكعادته خبط وخلط في الأُسلوب العربي بتركيب متدافع الأطراف معوجِّ البيان مختلٍّ نحواً وصرفاً.
وفوق ذلك استدلَّ فيها على أنَّه المهدي الموعود، وسرعان ما تناقلتها الأيدي وانتشرت، فازداد الصخب والغيض لدى الناس، وواجهوا الوالي بأنْ يفي بما وعد من الإجراءات بحقِّه ومجازاته.
ولكن الوالي احتال مرَّةً أُخرى، وأخذ يماطل ويُؤخِّر، وسبب ذلك توقُّع الوالي متابعة بعض الناس للفرقة البابيَّة، أو لا أقلَّ من إحداث الشكِّ في صفوفهم.
ولكن الهيجان ازداد حماساً، وحذَّر العلماء الوالي بأنْ يفي بما وعده من عقد ندوة للنقاش مع الباب حول شُبُهاته وادِّعائه، وإلَّا فلن يملك الوالي زمام الأُمور أمام الصخب الشعبي.
فاضطرَّ الوالي إلى عقد الندوة بعد مماطلة كثيرة، لمعرفته أنَّ عاقبتها فضيحة الباب، وضياع للمجهود الذي قام به لنشر البابيَّة.
وحضر الندوة جمع كثير من العلماء في مقدَّمتهم الميرزا السيِّد محمّد والشيخ محمّد مهدي كلباسي اللذان كانا متفوِّقين على البقيَّة في الفقه والأُصول، والميرزا حسن بن الملَّا عليّ نوري الذي كانت له الصدارة في الحكمة والفلسفة، وأُجلس الباب في صدر المجلس، وأخذ العلماء بالكلام
↑صفحة ٢٦٠↑
حول دعواه المهدويَّة، والباب ظلَّ صامتاً لا يُحرِّك ساكناً، فبادره الشيخ محمّد مهدي الكلباسي قائلاً: يا سيِّد، لا يخفى عليك أنَّ المسلمين على صنفين:
الأوَّل: وهم الذين يستنبطون أحكام الشريعة الإسلاميَّة من القرآن الحكيم، والسُّنَّة النبويَّة لخاتم النبيِّين، والمأثورة عن الأئمَّة المعصومين (عليهم السلام)، وهذا الصنف يسمُّون بالمجتهدين.
والثاني: هم أُولئك الذين يُقلِّدون المجتهدين في معرفة الأحكام، ويسألونهم عمَّا يجهلونه ويحتاجون إليه كي يرشدوهم، والآن أنت من أيِّ القسمين، وبعبارة أُخرى: أنت مجتهد أم مقلِّد؟
فأجاب الباب: إنِّي لم أُقلِّد أحداً بتاتاً، والعمل بالظنِّ أراه حراماً.
فقال له الشيخ: يا سيِّد، ألَا تعرف أنَّ الطائفة الشيعيَّة تعتقد أنَّ الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) غائب، ولا محالة طريق العلم بالأحكام الشرعيَّة مسدود، ولا بدَّ لنا في كلِّ عصر من الأعصار من تقليد المجتهد الجامع لشرائط الفتوى على طبق القواعد المقرَّرة من الصدر الأوَّل إلى عصرنا الحاضر حتَّى يظهر حجَّة الله قائم آل محمّد المنتظَر فيزيل المفاسد، ويميت البِدَع، ويعيد الشريعة المحمّديَّة التي أتى بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فهذه وظيفتنا، فكيف أنت لا تُقلِّد ولا تعمل بالظنون (الخاصَّة التي قام الدليل على حجّيَّتها لاستنباط الحكم الشرعي)؟ الآن وحيث لا أراك تأتي بحجَّة قبال استدلالي، ولا أراك قد سمعت بأحكام الشريعة الإسلاميَّة، إذاً من أين تعلَّمت الدِّين، ومن أين حصل لك اليقين بالأحكام؟
↑صفحة ٢٦١↑
فاشتعل الباب غيظاً وقال: إنَّك تعلَّمت علم المنقول، وبمنزلة الطفل المبتدئ الذي يتعلَّم (أ ب جـ د)، ولكن مقامي مقام الذِّكر والفؤاد، فلا يصحُّ لك الدخول في هذا البحر اللَّامتناهي ومناقشتي والمناظرة معي في شيء لا تعلمه.
فانبرى له الميرزا حسن النوري الحكيم المشهور قائلاً: يا سيِّد، اثبت في مكانك، وإيَّاك والرجوع عن ادِّعائك، إنَّ الحكماء قد عيَّنوا وقرَّروا للذِّكر وللفؤاد مقاماً ومنزلةً إذا وصل إليها شخص ما يكون محيطاً بكلِّ الأشياء ولا يخفى عليه شيء، فالآن هل قد وصلت إلى هذا المقام والمنزلة؟ وهل وجودك يحيط بكلِّ الأشياء؟
فأجاب الباب بثبات وجرأة: نعم، وجودي هكذا، سَلْ ما بدا لك.
فقال له: يا سيِّد، بيِّن لنا كيفيَّة معجزات الأنبياء، وحصول طيِّ الأرض للأولياء، وكيفيَّة سرعة سير الزمان في عصر السلطان الجائر، وبطؤه في زمان الإمام المهدي الذي وردت به الروايات، نحن وإيَّاك نعدُّ بني أُميَّة وبني العبَّاس حُكَّاماً جائرين وملوكاً ظالمين، وأئمَّة أهل بيت النبوَّة ومعدن الرسالة أئمَّة هادين، وفي هذا الحال يلزم أنْ يكون للزمان سيرين سريع وبطيء، وكيف يمكن ذلك؟!
وأيضاً بعض أئمَّة الجور والعدل كانوا في عصر واحد، ولازم ذلك وقوع سيرين متضادَّين سريع وبطيء في زمانٍ واحدٍ، وكيف يمكن ذلك؟
وأيضاً نحن المسلمون نعتقد أنَّ الأرض تُطوى لأولياء الله وحُجَجه، يعني أنَّ المسافة الطويلة تنطوي لهم (كطيِّ السجلِّ) بطرفة عين مثل ما نقل
↑صفحة ٢٦٢↑
آصف بن برخيا وزير سليمان بطرفة العين عرش ملك بلقيس من سبأ إلى محلِّ إقامة سليمان (فلسطين)، كما قال تعالى: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا﴾ (النمل: ٤٠).
فالآن يا ترى كيف وقع ذلك؟ هل المُدُن والصحارى بين المبدأ والمنتهى للمسير تهبط (خسفاً أو ابتلاعاً)؟ وحينها يتَّصل المبدأ والمنتهى (للسير)، وفي هذه الصورة يلزم انعدام عباد الله والحيوانات والنبات والجمادات حيث الأرض (التي طُويت) قد خُسِفَت بهم، أو أنَّ القطع الأرضيَّة تجتمع وتتداخل؟ وفي هذه الصورة لا بدَّ من اطِّلاع العالم على مثل هذه الحادثة مع أنَّ حتَّى هذه الساعة لم يسمع أحد بهذا، ولم ينتشر خبر بذلك، وفي المستقبل سوف لن ينتشر، أو أنَّ طي الأرض يحصل بنحو الطيران والتحليق؟ وهذا الوجه أيضاً لا يطابق العقل الإنساني، ولا يُؤيِّده برهان عقلي أو نقلي (شرعي)، أجب عن هذه الأسئلة.
فتبسَّم الباب وأجاب: يا حكيم، هل تريد أنْ أرفع النقاب عن وجه المشكل باللسان والبيان، أو بالقلم والبنان أكشف عن هذا السرِّ؟
فقال له: اصنع ما شئت.
فتناول الباب القلم والورقة، وأخذ يكتب مدَّة من الوقت، حتَّى أتى بالطعام فوضع الورقة على سفرة الغذاء وشرع في الأكل.
فلمح الميرزا حسن بطرف عينه الورقة، فتناولها، فقرأها على الحضور، وإذا فيها البسملة وحمد الله والصلاة على النبيِّ، وبعد ذلك دعاء مطوَّل بسبك المناجاة من دون أيِّ إشارة إلى موضوع المناقشة والأسئلة.
↑صفحة ٢٦٣↑
فسكت أهل المجلس حتَّى يحصل الفراغ من الأكل، ثمّ حكم بعضهم بجنونه وفقد توازنه، ومن ذلك البعض الميرزا السيِّد محمّد سلطان العلماء، وحكم البعض الآخر بكفره وارتداده عن الدِّين ووجوب القتل، ومن ذلك البعض الشيخ محمّد مهدي الكلباسي وسائر الفقهاء، ولكن تردَّد مع تمايل إلى الباب مدرِّسان للفقه مشهوران كانا على ارتباط مع الوالي واتِّفاق مسبق معه.
وبعد حكم الأكثر بقتله استدعوا من الوالي إجراءه، فتظاهر بأنَّ تنفيذ هذا الحكم خارج عن صلاحيَّاته، وأنَّ القضية يجب أنْ يُعلَم بها الحكومة المركزيَّة في طهران، وينتظر الأوامر منها بقتله أو لا، ولكي يقلَّ الضغط عليه من العلماء أمر بتقييد الباب بالسلاسل، وذهب به إلى السجن، ولكنَّه أخرجه من السجن ليلاً في الخفاء وأحضره بيته مع المبالغة في الاحترام والتجليل، ثمّ بعث برسالة إلى طهران صاغ عبارتها كما أراد، وذيَّلها بقوله: قتل الباب في هذا الوقت في أصفهان مع تمايل أكثر أهاليها إليه يستوجب خطر الثوران والهيجان، والرأي الصائب أنْ يبقى في السجن حتَّى تنطفئ نائرة الصديق والعدوِّ له، ثمّ تنظر هيأة الدولة في ما هو الصالح وتأمرنا به.
وقد نجحت خطَّته وانطوت خدعته على هيأة الوزراء واستصوبت رأيه.
ومن جانب آخر تزايد دعم الحاكم منوچهر خان القرجي لعليّ محمّد الشيرازي (الباب)، وظهرت نواياه الهادفة إلى ضرب المذهب الشيعي ومحاربة العلماء، فحمل ذلك العلماء على الكتابة إلى الصدر الأعظم (رئيس
↑صفحة ٢٦٤↑
الوزراء) حاجي ميرزا آغاسي، وطالبوه بقمع الفتنة التي تتقنَّع بالإسلام، والتي تدَّعي البابيَّة تارةً، وأُخرى التوبة وإنكار البابيَّة، وإنَّها في توسُّع وانتشار.
فأجابهم برسالة بعثها: أنا في خدمة العلماء الأعلام والفضلاء ذوي العزِّ والاحترام، والمعذرة في تصديعكم حول هذا الشخص الشيرازي الذي سمَّى نفسه باب ونائب (خاصّ) الإمام (عليه السلام) الذي كتبتم عنه، فلأنَّه ضالٌّ مضلٌّ بحسب مقتضيات الدِّين والدولة، فالمورد ضروري التعقيب، ليكون عبرة في المستقبل طبقاً للسياسة الملكيَّة.
وهذا المجنون الجاهل الجعَّال (المفتعل) لم يدَّعِ النيابة فحسب، بل ادَّعى النبوَّة، حيث إنَّه مع كمال الجهل والسخافة كتب كتاباً جمع فيه المزخرفات وسمَّاه قرآناً، مع أنَّ الآية الشريفة ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ (البقرة: ٢٣) دالَّة على استحالة الإتيان بمثل أقصر سورة، و﴿لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ (الإسراء: ٨٨)، فكيف بالقرآن؟!
هذا الجاهل مثلاً بدل ﴿كهيعص﴾ (مريم: ٩)، كتب: (كاف، ها، جيم، دال)، وبهذا النمط من المزخرفات والأباطيل لفَّق كتابه. نعم، إنِّي أكثر اطِّلاعاً على حقيقة حاله، لأنَّ أكثر هذه الجماعة الشيخيَّة تداوم على الطنطنة والشعارات (الهتافات).
وهذا الشقي قد وقع في تلك الخيالات الباطلة، والذي قرَّرت في شأنه أنْ يُحبَس في قلعة (ماكو) حبس الأبد، وأمَّا الذين اتَّبعوه وتمايلوا إليه
↑صفحة ٢٦٥↑
فهم مقصِّرون، وأطلعوني بهم كي يُعزَّرون ويُنبَّهون، دام فضلكم وإفاضاتكم.
ومع ذلك فلم يبعث الحاكم منوچهر خان بالباب إلى قلعة (ماكو) التي تقع في شمال إيران طيلة عدَّة أشهر، والتي مات الحاكم بعدها، وخلفه حاكم آخر يُدعى جرجين الذي سارع بإرسال الباب إلى ماكو، ولكن لجهات سياسيَّة تحيط بذلك الظرف توسَّط دالكوركي السفير الروسي في طهران بنقله من (ماكو) التي هي مدينة على الحدود الروسيَّة إلى قلعة (جهريق)، وأرسل السفير إلى وزير الخارجيَّة الروسي نسلرد مكتوباً قال فيه: باب هو الذي أبعد عن ماكو الحدوديَّة بوساطتي في العام الماضي(٤٥٤).
ولم ينقطع ارتباط البابيَّة بالسيِّد الباب في القلعة، فقد كانوا يبذلون الرشاوي الكثيرة لإقامة الاتِّصال، وكان على رأسهم المدبِّر النشط ملَّا بشرويه وحاج بارفروشي ويحيى الدارابي وقرَّة العين، فالأوَّل في خراسان، والثاني في مازندران (طبرستان)، والثالث في شيراز، والرابعة في قزوين، فكانوا بذلك يقيمون دائرة محيطة بأكثر أرجاء إيران للنشر والدعاية للفرقة البابيَّة.
ثمّ إنَّ الشاه محمّد القاجاري طلب من وليِّ عهده ناصر الدِّين ميرزا أنْ يجمع العلماء والفقهاء والفضلاء والأعيان الأشراف والقُوَّاد وبقيَّة الشخصيَّات المهمَّة في تبريز (المدينة المركزيَّة في منطقة آذربايجان، والتي كانت مقرًّا له)، وأنْ يعقد مجلساً يديره بنفسه لينظر ما يقوله الباب ويدَّعيه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٥٤) ذُكِرَ في كتاب تاريخ جامع بهائيَّت (ص ١٥٢) رقم السند المسلسل بتمامه لتلك الرسالة.
↑صفحة ٢٦٦↑
كي يتقرَّر الإجراء اللازم بحقِّه، وأوصاه بعدم الاستعجال في إصدار الحكم، وعليه الانتظار إلى صدوره من طهران على ضوء التقرير المرسَل.
وعُقِدَ المجلس بحضور الجموع المختلفة، فمن العلماء الحاجّ محمود الملقَّب بنظام العلماء، والملَّا محمّد المامقاني الملقَّب بحجَّة الإسلام، والذي كان رئيس الشيخيَّة في تبريز، ومرَّ سابقاً أنَّه من تلامذة السيِّد كاظم الرشتي، والملَّا باشي الحاجّ ميرزا عبد الكريم، والميرزا عليّ أصغر شيخ الإسلام، والميرزا محسن قاضي، والملَّا باشي ميرزا حسن زنوزي. ومن الشخصيَّات السياسيَّة للدولة محمّد خان زنكنة أمير نظام، ووزير الأمن ميرزا فضل الله علي آبادي نصير الملك، ووزير الخارجيَّة ميرزا جعفر خان معير الدولة، ووزير الماليَّة ميرزا موسى تفرشي، ووزير الداخليَّة ميرزا مهدي خان بيان الملك، وعدَّة كثيرة من هذا الصنف، ثمّ أُتي بالباب عليّ محمّد الشيرازي وأُجلس صدر المجلس.
وأوَّل من افتتح النقاش والبحث نظام العلماء، فخاطب الباب قائلاً: يا سيِّد، اُنظر إلى هذا الكتاب والأوراق التي أضعها الآن بين يديك، والتي كُتِبَت بأُسلوب قرآني ووحي سماوي(٤٥٥)، ونُشِرَت في بلاد إيران في متناول الناس، تأمَّل فيها وأمعن النظر في صفحاتها ثمّ أخبرنا أهي من قولك أنت حقيقةً، أو من أُناس أعداء لك افتروها عليك وكذباً نسبوها إليك؟ ثمّ وضع الكُتُب والأوراق بجانب الباب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٥٥) يشير إلى كتاب البيان الذي ألَّفه الباب بتلفيق من الآيات القرآنيَّة، ومن الحشو الذي زخرفه، فجعله بين الاقتباس والحشو، وسيأتي نماذج من كتابه.
↑صفحة ٢٦٧↑
فأجاب عليّ محمّد الشيرازي: نعم، هذه كُتُب من قِبَل الله.
فقال له نظام العلماء: هل سمَّيت نفسك شجرة طوبى في هذه الكُتُب، ومعنى ذلك أنَّ كلَّ ما جرى على لسانك أو يجري فهو كلام الله؟ وبعبارة أُخرى: أنت تعتقد أنَّ كلامك كلام الله وقول الله؟
فأجاب: الله يرحمك، نعم، أُقسم بالله هو كما تقول.
فقال نظام العلماء: هل تسميتهم لك بـ(الباب) صادرة منك، أو أنَّ الناس خاطبوك بذلك من أنفسهم؟
فأجاب: لا، هي صادرة منِّي، والناس لا يقولون من أنفسهم، هذا الاسم من الله، وأنا باب العلم.
فقال له: في أين، في بيت الكعبة، بيت المقدس، والبيت المعمور؟
فأجاب: في كلِّ مكانٍ إله.
وفي هذه اللحظة نهض وليُّ العهد ناصر الدِّين شاه وقال: يا سيِّد، اعلم أنِّي عاهدت الله أنَّك إنْ قدرت أنْ تُثبِت لنا أنَّك باب العلم فإنِّي سأترك لك منصبي ومقامي، ونفسي سأكون مطيعاً ومنقاداً لك.
ثمّ قال نظام العلماء: يا سيِّد أحسنت، هذا الذي تدَّعيه هو اسم لأمير المؤمنين (عليه السلام)، والذي سمَّاه بذلك هو رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث قال: «أَنَا مَدِينَةُ اَلْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا»(٤٥٦)، وقال عليٌّ (عليه السلام): «سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي»(٤٥٧)، وقال: «هَا إنَّ بَيْنَ جَنْبَيَّ عِلْماً جَمًّا»(٤٥٨).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٥٦) قد مرَّ في (ص ٢٥١)، فراجع.
(٤٥٧) نهج البلاغة (ص ٢٨٠/ ح ١٨٩).
(٤٥٨) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج ٦/ ص ١٣٤).
↑صفحة ٢٦٨↑
فالآن لديَّ بعض من المسائل المعضلة أُريد حلَّها منك، وجملة منها مرتبطة بعلم الطبِّ(٤٥٩).
فأجاب عليّ محمّد الشيرزاي: إنِّي لم أتعلَّم الطبَّ.
فقال له: أسألك عن العلوم الدِّينيَّة، ولكن معرفة جملتها مشروط بفهم معاني الأحاديث والآيات، وذلك الفهم متوقِّف على معرفة علوم منها النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع (علم البلاغة) والمنطق وعلوم أُخرى، فإذاً أسأل عن هذه العلوم المقدَّميَّة، وأبتدأ من علم الصرف.
فأجاب: إنِّي قرأت علم الصرف في صغري.
فقال له: فسِّر لنا هذه الآية الشريفة: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ (الرعد: ١٢)، وبيِّن لنا إعرابها النحوي، وقل لنا شأن نزول سورة الكوثر، ولأيِّ سبب سلَّى الله تعالى نبيَّه بهذه السورة؟
فأجاب: أمهلني.
فقال: ما معنى كلام الإمام عليِّ بن موسى الرضا (عليه السلام) في مجلس المأمون جواباً لسؤاله: ما الدليل لك على خلافة جدِّك عليِّ بن أبي طالب؟ فقال (عليه السلام): «آيَةُ أَنْفُسِنَا»، فقال المأمون: لولا نساءنا، فقال (عليه السلام): «لَوْلَا أَبْنَاءَنَا»(٤٦٠)؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٥٩) كان ديدن أكثر علمائنا القدامى (رحمهم الله) لا يقتصر على دراسة الفقه وأُصوله وما يتعلَّق بطُرُق الاستنباط، بل كانوا إلى جانب ذلك يلمُّون وبشكل معمَّق ببعض العلوم الأُخرى، كالفلك والرياضيَّات وعلم الكلام والفلسفة والتاريخ والطبيعة... إلخ، كالمحقِّق الطوسي والعلَّامة الحلِّي (رحمهما الله).
(٤٦٠) تفسير الميزان (ج ٣/ ص ٢٣٠) بتفاوت يسير.
↑صفحة ٢٦٩↑
فأجاب: هذا ليس بحديث.
فقال له: أيًّا ما كان هو، أليس من أقوال العرب؟ أيضاً فسِّره وبيِّنه.
فأجاب: الرخصة والمهلة.
فقال له: ما معنى الحديث القائل: «لَعَنَ اَللهُ اَلْعُيُونَ فَإِنَّهَا ظَلَمَتِ اَلْعَيْنَ اَلْوَاحِدَةَ»؟
فأجاب: لا أعرف.
فقال له: ماذا يعني: إذا دخل الرجل على الخنثى والخنثى على الأُنثى وجب الغسل على الخنثى دون الرجل والأُنثى؟
سكت الباب ولم يحر بشيء، فقال له نظام العلماء: مؤلَّفاتك تظنُّ أنَّك قد صغتها على وجه فصيح وبليغ، فالآن قل أيُّ نسبة من النَّسَب الأربع بين الفصاحة والبلاغة، ولماذا الشكل الأوَّل (من الأشكال الأربعة في القياس الاقتراني المنطقي) بديهي الإنتاج؟
سكت الباب أيضاً، وعجز عن الجواب.
فقال له: يا سيِّد، سؤال آخر وليس عندي بعده سؤال، لو ظنَّنَّا وسلَّمنا أنَّ هذه العلوم الموجودة لدى البشر كلَّما قيل وقال (مجرَّد ألفاظ)، ولا تنفع البشر بقدر فلس، وها نحن صرفنا النظر عن تلك العلوم، فالعادة التي جرى عليها من قديم الزمان واتَّبعها عقلاء العالم نتَّبعها نحن... وحيث قد اتَّضحت هذه المقدَّمة، فنسألك الآن حيث يُعلَم من كُتُبك وحالاتك أنَّك تدَّعي تارةً الرسالة وأُخرى المهدويَّة وثالثة الولاية، نحن حضرنا هاهنا لنسألك: هل عندك معجزة أو كرامة تكون حجَّة لك على الناس؟
↑صفحة ٢٧٠↑
فأجاب: اُطلب أيَّ شيء تريده.
فقال له: يا سيِّد، لا يخفى عليك أنَّ مَلِك إيران مصاب بمرض النقرس، وهذا المرض صعب العلاج عجز عنه الأطبَّاء، والآن نريد منك أنْ تشافيه من هذا المرض المستعصي.
فأجاب: هذا الفعل غير ممكن.
فقال له ناصر الدِّين شاه: يا سيِّد، هذا الشيخ الذي يناظرك معلِّمي، وهو شخص أدَّبني بالأدب الجميل، ولكنَّه الآن قد ذهبت منه حيويَّة الشباب، ولا يقدر على ملازمتنا في السفر والحضر، فهل تقدر على إعادته شابًّا.
فأجاب: هذا أيضاً محال.
فقال نظام العلماء: أيُّها الناس، اعلموا أنَّ هذا الرجل (يشير إلى الباب الشيرازي) وعاءه خالٍ، ومحتواه فارغ من كلِّ شيء من معقول أو منقول، هو مغرور بالباطل وسفيه وجاهل، وليس عنده أيَّة معجزة أو كرامة، وغير لائق لأدنى احترام.
فأجاب عليّ محمّد الشيرازي وهو غضبان ممَّا قال: يا نظام، ما هذا الكلام الذي تقول؟! أنا الرجل الذي مكثتم ألف سنة تنتظرونه!
فقال له نظام العلماء: هل أنت المهدي والإمام القائم؟
فأجاب: نعم، أنا هو.
فقال له: المهدي النوعي أنت أم المهدي الشخصي؟
فأجاب: أنا عين المهدي الشخصي.
↑صفحة ٢٧١↑
فقال له: ما اسم أبيك، وأُمِّك؟ وأين مكان ولادتك؟
فقال له: اسمي عليّ محمّد، واسم أبي ميرزا رضا البزَّاز، أُمِّي خديجة، محلُّ ولادتي شيراز، خمسة وثلاثون سنة مضت من عمري.
فقال له: اسم مهديِّنا المنتظَر مهدي، واسم أبيه حسن، واسم أُمِّه نرجس، ومحلُّ ولادته سُرَّ من رأى (سامرَّاء)، فكيف تنطبق عليك تلك المشخَّصات؟
فأجاب: الآن أُريك كرامة كي يتَّضح أنِّي صادق فيما أدَّعي.
فقال الحضور بأجمعهم: حبًّا وكرامةً، أظهر كرامتك.
فأجاب: إنِّي أكتب في اليوم ألف بيت - البيت في علم الخطِّ آنذاك خمسين حرفاً -.
فقال الحضور: على فرض أنَّ ما تقوله صحيح، ولكن ذلك ليس بكرامة، لأنَّ كثيراً من الخطَّاطين يشتركون معك في ذلك.
وقال نظام العلماء: إنِّي عند زيارتي للعتبات العاليات (المشاهد المشرَّفة) صادفت كاتباً يكتب في اليوم ألفي بيت، وانتهى أمره إلى العمى. البتَّة أنت أيضاً اُترك هذا العمل وإلَّا فستعمى.
ثمّ جرى بين بقيَّة العلماء وبينه أخذ وردٌّ على هذا المنوال.
وبعد ذلك استدعى ناصر الدِّين ميرزا من العلماء رأيهم في شأن الباب، فأفتى بعضهم بكفره ووجوب قتله، وبعض حكم بسفاهته وجنونه.
ثمّ أمر ناصر الدِّين ميرزا أعوانه بربط الباب وضربه على أقدامه ضرباً
↑صفحة ٢٧٢↑
مبرحاً حتَّى يتوب ويُظهِر الاستغفار من تلك الدعاوي، وبعد ذلك كتب عليّ محمّد الشيرازي ورقة التوبة، وقال فيها:... إنِّي موقن بتوحيد الله (جلَّ ذكره)، ونبوَّة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وولايته، ولساني مقرٌّ بكلِّ ما نزل من عند الله، وآمل رحمته، ولم أرد بتاتاً ما يخالف رضاه، وإذا جرى من قلمي كلمات خلاف رضاه فلم أتعمَّد العصيان، وعلى أيِّ حالٍ فإنِّي مستغفر تائب...، أستغفر الله ربِّي وأتوب إليه من أنْ يُنسَب إليَّ أمر، وبعض المناجاة والكلمات التي جرت على لساني ليست دليلاً على أيَّة أمر، وأعتقد أنَّ مدَّعي النيابة الخاصَّة لحضرة حجَّة الله (عليه السلام) مدَّعٍ مبطل، وهذا العبد لم يكن له ادِّعاء ذلك ولا ادِّعاء آخر...(٤٦١).
وأجاب رسالته علماء تبريز، وجاء فيها:... أقررت بمطالب متعدِّدة، كلٌّ منها توجب وتبعث على ارتدادك، وتوجب قتلك، وتوبة المرتدِّ الفطري لا تُقبَل، والذي أوجب تأخير قتلك هو شبهة خبط دماغك (اختلاله)، وإذا ارتفعت تلك الشبهة فلا تأمُّل في إجراء أحكام المرتدِّ الفطري عليك.
ثمّ إنَّه بعد موت محمّد شاه ومجيء ناصر الدِّين شاه على سدنة الملك، ونصبه للميرزا محمّد تقي الملقَّب بأمير كبير بدل ميرزا آغاسي الصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، وازدياد حدَّة البابيَّة وتشكيلهم لعصابات تهاجم القرى والمُدُن، وارتكابهم لجرائم فظيعة يقشعرُّ الإنسان عند قراءتها مثل الأحداث والوقائع في مازندران (طبرستان)، والوقائع في قلعة الشيخ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٦١) الرسالة بخطِّ يده كانت حتَّى سنة (١٣١٥هـ) في مكتبة المجلس في طهران معلَّقة في قاب، وبعد ذلك فُقِدَت، عن كتاب جامع تاريخ بهائيَّت (ص ١٧٠).
↑صفحة ٢٧٣↑
الطبرسي، والوقائع في زنجان ممَّا لا يدعوا منكراً وحشيَّة إلَّا أتوها بعد التزامهم الإباحات وتحليلهم كلَّ المحرَّمات.
وجعلوا أهالي تلك المناطق تعيش حالة من الخوف والرعب من الإرهاب والسفك للدماء التي مارسوها تخيُّلاً منهم لإنشاء دويلة يُوسِّعون نطاقها شيئاً فشيئاً، أقدم أمير كبير - والذي كان على درجة من الحزم وفطانة التدبير بعكس سابقه آغاسي - على إعدام عليّ محمّد الشيرازي بعد أنْ أعاد الباب إصراره على دعاويه السابقة.
وكان الباب الشيرازي قد نصَّب ميرزا يحيى النوري خليفة له مع معاونة أخيه حسين عليّ النوري، ولقَّب الأوَّل عندهم بالأزل، والثاني ببهاء، وكانا قد اعتُقِلَا من قِبَل الدولة، فتوسَّطت السفارة الروسيَّة والبريطانيَّة لإطلاق سراحهما وإخراجهما مع جماعة من البابيَّة إلى بغداد.
ومكثوا هناك عشر سنين، وأخذوا شيئاً فشيئاً يبتدعون الأحكام كبقيَّة الفِرَق المنحرفة.
ثمّ إنَّ السلطات اضطرَّت إلى إبعادهم إلى جزيرة قبرص، وهناك تنازع الأخوان، فانقسمت البابيَّة إلى الأزليَّة والبهائيَّة(٤٦٢).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٦٢) للاطِّلاع أكثر على تاريخ البابيَّة والبهائيَّة نشير إلى كُتُب منها: كشف الحيل، وتاريخ جامع بهائيَّت، وظهور الحقِّ، وفتنه باب، باللغة الفارسيَّة.
↑صفحة ٢٧٤↑
↑صفحة ٢٧٥↑
وفيها ثلاثة أُمور:
الأمر الأوَّل: في خروج الدجَّال:
فقد روى الصدوق (رحمه الله) عن النزال بن سبرة أنَّه قال: قام الأصبغ بن نباتة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ، مَنِ اَلدَّجَّالُ؟ فَقَالَ: «أَلَا إِنَّ اَلدَّجَّالَ صَائِدُ بْنُ اَلصَّيْدِ، فَالشَّقِيُّ مَنْ صَدَّقَهُ، وَاَلسَّعِيدُ مَنْ كَذَّبَهُ، يَخْرُجُ مِنْ بَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا: أَصْفَهَانُ، مِنْ قَرْيَةٍ تُعْرَفُ بِالْيَهُودِيَّةِ، عَيْنُهُ اَلْيُمْنَى مَمْسُوحَةٌ، وَاَلْعَيْنُ اَلْأُخْرَى فِي جَبْهَتِهِ، تُضِيءُ كَأَنَّهَا كَوْكَبُ اَلصُّبْحِ، فِيهَا عَلَقَةٌ كَأَنَّهَا مَمْزُوجَةٌ بِالدَّمِ، بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ كَافِرٌ، يَقْرَؤُهُ كُلُّ كَاتِبٍ وَأُمِّيٍّ، يَخُوضُ اَلْبِحَارَ، وَتَسِيرُ مَعَهُ اَلشَّمْسُ، بَيْنَ يَدَيْهِ جَبَلٌ مِنْ دُخَانٍ، وَخَلْفَهُ جَبَلٌ أَبْيَضُ يَرَى اَلنَّاسُ أَنَّهُ طَعَامٌ، يَخْرُجُ حِينَ يَخْرُجُ فِي قَحْطٍ شَدِيدٍ، تَحْتَهُ حِمَارٌ أَقْمَرُ، خُطْوَةُ حِمَارِهِ مِيْلٌ، تُطْوَى لَهُ اَلْأَرْضُ مَنْهَلاً مَنْهَلاً، لَا يَمُرُّ بِمَاءٍ إِلَّا غَارَ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ، يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَسْمَعُ مَا بَيْنَ اَلْخَافِقَيْنِ مِنَ اَلْجِنِّ وَاَلْإِنْسِ وَاَلشَّيَاطِينِ، يَقُولُ: إِلَيَّ أَوْلِيَائِي، أَنَا اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلَى، وَكَذَبَ عَدُوُّ اَلله، إِنَّهُ أَعْوَرُ، يَطْعَمُ اَلطَّعَامَ، وَيَمْشِي فِي اَلْأَسْوَاقِ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ (عزَّ وجلَّ) لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَلَا يَطْعَمُ، وَلَا يَمْشِي، وَلَا يَزُولُ، تَعَالَى اَللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيراً، أَلَا وَإِنَّ أَكْثَرَ أَتْبَاعِهِ يَوْمَئِذٍ أَوْلَادُ اَلزِّنَا، وَأَصْحَابُ اَلطَّيَالِسَةِ اَلْخُضْرِ، يَقْتُلُهُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) بِالشَّامِ عَلَى عَقَبَةٍ تُعْرَفُ بِعَقَبَةِ
↑صفحة ٢٧٧↑
أَفِيقٍ لِثَلَاثِ سَاعَاتٍ مَضَتْ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ عَلَى يَدِ مَنْ يُصَلِّي اَلمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ (عليهما السلام) خَلْفَهُ»(٤٦٣).
وروي عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال عن الدجَّال: «أَيُّهَا اَلنَّاسُ، مَا بَعَثَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) نَبِيًّا إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ اَلدَّجَّالَ، وَإِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) قَدْ أَخَّرَهُ إِلَى يَوْمِكُمْ هَذَا، فَمَهْمَا تَشَابَهَ عَلَيْكُمْ مِنْ أَمْرِهِ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، إِنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى حِمَارٍ عَرْضُ مَا بَيْنَ أُذُنَيْهِ مِيلٌ، يَخْرُجُ وَمَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ وَجَبَلٌ مِنْ خُبْزٍ وَنَهْرٌ مِنْ مَاءٍ، أَكْثَرُ أَتْبَاعِهِ اَلْيَهُودُ وَاَلنِّسَاءُ وَاَلْأَعْرَابُ، يَدْخُلُ آفَاقَ اَلْأَرْضِ كُلَّهَا إِلَّا مَكَّةَ وَلَابَتَيْهَا، وَاَلمَدِينَةَ وَلَابَتَيْهَا»(٤٦٤).
وروى الإربلي (رحمه الله) في (كشف الغمَّة) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (في حديث الدجَّال): «يَأْتِي وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابُ اَلمَدِينَةِ، فَيَنْتَهِيَ إِلَى بَعْضِ اَلسِّبَاخِ اَلَّتِي تَلِي اَلمَدِينَةَ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيْرُ النَّاسِ، أَوْ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ، فَيَقُولُهُ لَهُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ اَلدَّجَّالُ اَلَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حَدِيثَهُ، فَيَقُولُ اَلدَّجَّالُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ أَتَشُكُّونَ فِي الْأَمْرِ، فَيَقُولُونَ: لَا، قَالَ: فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يُحْيِيهِ (وذلك خداعاً بالسحر، كما ورد في روايات أُخرى)، فَيَقُولُ حِينَ يُحْيِيهِ: وَاَلله مَا كُنْتُ فِيكَ قَطُّ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي اَلْآنَ»، قَالَ: «فَيُرِيدُ اَلدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ ثَانِياً (أي حقيقة)، فَلَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ»(٤٦٥).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٦٣) كمال الدِّين (ص ٥٢٥ - ٥٢٨/ باب ٤٧/ ح ١)؛ أي على يد الحجَّة (عجّل الله فرجه)، وهو الذي يُصلِّي خلفه عيسى بن مريم (عليه السلام)، كما جاء في روايات الفريقين.
(٤٦٤) كمال الدِّين (ص ٥٢٨ و٥٢٩/ باب ٤٧/ ح ٢)، الخرائج والجرائح (ج ٣/ ص ١١٤٢).
(٤٦٥) كشف الغمَّة (ج ٣/ ص ٢٩١).
↑صفحة ٢٧٨↑
ونُقِلَ في (منتخب الأثر) عن أربعين الخاتون آبادي، عن الصادق، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام)، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حديث فيه خروج الدجَّال، وقرية يخرج منها، وبعض أوصافه، وأنَّه يدَّعي الأُلوهيَّة، وأنَّ في أوَّل يوم من خروجه يتبعه سبعون ألفاً من اليهود، وأولاد الزنا، والمدمنين بالخمر، والمغنِّين، وأصحاب اللهو، والأعراب، والنساء، قال (عليه السلام) في آخره: «فيبيح الزنا واللواط وسائر المناهي حتَّى يباشر الرجال النساء والغلمان في أطراف الشوارع [عرياناً] وعلانية...، ويُسخِّر آفاق الأرض إلَّا مكَّة والمدينة ومراقد الأئمَّة (عليهم السلام)، فإذا بلغ في طغيانه وملأ الأرض من جوره وجور أعوانه يقتله من يُصلِّي خلفه عيسى بن مريم (عليهما السلام)»(٤٦٦).
وروى السيِّد ابن طاوس (رحمه الله) عن الصادق (عليه السلام) في حديث خروج الدجَّال: «من بعد ذلك يخرج الدجَّال من ميسان نواحي البصرة، فيأتي سفوان، ويأتي سنام فيسحرهما ويسحر الناس، فيكونان كالثريد - وما هما بثريد - من الجوع والقحط، إنَّ ذلك لشديد»(٤٦٧).
الأمر الثاني: في علامات ظهور الحجَّة (عجَّل الله فرجه) وعدَّة أصحابه:
قد حدَّد الأئمَّة (عليهم السلام) أمد الغيبة الكبرى التي انقطع الشيعة فيها عن الحجَّة (عليه السلام) بانقطاع النيابة الخاصَّة بموت النائب الرابع عليِّ بن محمّد السمري في نهاية الغيبة الصغرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٦٦) كشف الحقِّ (الأربعون) (ص ١٥٩).
(٤٦٧) الملاحم والفتن (ص ٢٦٦ و٢٦٧/ ح ٣٨٦).
↑صفحة ٢٧٩↑
والتحديد هو بوقوع علامات للظهور وانتهاء الغيبة، وهذه العلامات كثيرة:
منها: ما يقارن عام ظهوره (عجَّل الله فرجه) والسنة التي يخرج فيها بدءاً من مكَّة من بيت الله الحرام يوم العاشر من محرَّم يوم قُتِلَ فيه جدُّه الحسين سيِّد الشهداء وسبط الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويخطب تلك الخُطَب التي طالما تعطَّشت إليها البشريَّة جمعاً والشيعة خصوصاً، ويبدأ بعقد البيعة له، وأوَّل من يبايعه جبرئيل (عليه السلام)، وثمّ عدَّة أصحابه التي هي عدَّة أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر.
ومنها: ما لا يقارن عام الظهور، وإنَّما تشير إلى الاقتراب ليس إلَّا.
والمهمُّ هو القسم الأوَّل، وهي العلامات التي أُطلق عليها في الروايات المأثورة بالعلامات الحتميَّة التي لا بدء فيها.
فقد روى الصدوق (رحمه الله) عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «خَمْسٌ قَبْلَ قِيَامِ اَلْقَائِمِ (عليه السلام): اَلْيَمَانِيُّ، وَاَلسُّفْيَانِيُّ، وَاَلمُنَادِي يُنَادِي مِنَ اَلسَّمَاءِ، وَخَسْفٌ بِالْبَيْدَاءِ، وَقَتْلُ اَلنَّفْسِ اَلزَّكِيَّةِ»(٤٦٨).
وهذه العلامات الخمس:
الأُولى: وهي خروج سيِّد حسيني من نسل الإمام الحسين (عليه السلام)، من ناحية اليمن، ولذا أُطلِقَ عليه اليماني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٦٨) كمال الدِّين (ص ٦٤٩/ باب ٥٧/ ح ١)؛ ورواه بتفاوت يسير ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص ١٢٨/ ح ١٣١)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج ٨/ ص ٣١٠/ ح ٤٨٣)، والصدوق (رحمه الله) في الخصال (ص ٣٠٣/ ح ٨٢)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص ٤٣٦ و٤٣٧/ ح ٤٢٧).
↑صفحة ٢٨٠↑
الثانية: وهي خروج شخص يُدعى عثمان بن عنبسة، من بني أُميَّة، من سلالة أبي سفيان، ولذا أُطلِقَ عليه السفياني من ناحية الشام.
الثالثة: المنادي، وهو جبرئيل (عليه السلام)، يصيح بصيحة من السماء ونداء يسمعه كلُّ العالم كلُّ قوم بلسانهم أنَّ الحجَّة قد ظهر، وأنَّ الحقَّ مع عليٍّ وآله.
الرابعة: الخسف الذي يقع بأرض البيداء قرب المدينة المنوَّرة، والذي يقع بجيش السفياني الذي يُرسِله من الشام لمقاتلة الحجَّة.
الخامسة: قتل النفس الزكيَّة، وهو الشابُّ السيِّد الحسني الذي يبعثه الحجَّة بعد عقد البيعة سرًّا مع العدَّة المخصوصة من أصحابه ليدعو أهل مكَّة ولكنَّهم يقومون بقتله، وروي عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «لَيْسَ بَيْنَ قِيَامِ قَائِمِ آلِ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ قَتْلِ اَلنَّفْسِ اَلزَّكِيَّةِ إِلَّا خَمْسَةَ عَشَرَ لَيْلَةً»(٤٦٩).
وروي عَنْ مَيْمُونٍ اَلْبَانِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي فُسْطَاطِهِ، فَرَفَعَ جَانِبَ اَلْفُسْطَاطِ، فَقَالَ: «إِنَّ أَمْرَنَا قَدْ كَانَ أَبْيَنَ مِنْ هَذِهِ اَلشَّمْسِ»، ثُمَّ قَالَ: «يُنَادِي مُنَادٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ هُوَ اَلْإِمَامُ بِاسْمِهِ، وَيُنَادِي إِبْلِيسُ (لَعَنَهُ اَللهُ) مِنَ اَلْأَرْضِ كَمَا نَادَى بِرَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لَيْلَةَ اَلْعَقَبَةِ»(٤٧٠).
وروي عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «إِنَّ أَمْرَ اَلسُّفْيَانِيِّ مِنَ اَلْأَمْرِ اَلمَحْتُومِ، وَخُرُوجُهُ فِي رَجَبٍ»(٤٧١).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٦٩) كمال الدِّين (ص ٦٤٩/ باب ٥٧/ ح ٢)؛ ورواه بتفاوت يسير الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص ٤٤٥/ ح ٤٤٠)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج ٢/ ص ٢٨١)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج ٣/ ص ١١٦٢).
(٤٧٠) كمال الدِّين (ص ٦٥٠/ باب ٥٧/ ح ٤).
(٤٧١) كمال الدِّين (ص ٦٥٠ و٦٥٢/ باب ٥٧/ ح ٥ و١٥).
↑صفحة ٢٨١↑
وقال (عليه السلام): «اَلصَّيْحَةُ اَلَّتِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَكُونُ لَيْلَةَ اَلْجُمُعَةِ لِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ»(٤٧٢).
وَعَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «يُنَادِي مُنَادٍ بِاسْمِ اَلْقَائِمِ (عليه السلام)»، قُلْتُ: خَاصٌّ أَوْ عَامٌّ؟ قَالَ: «عَامٌّ يَسْمَعُ كُلُّ قَوْمٍ بِلِسَانِهِمْ»، قُلْتُ: فَمَنْ يُخَالِفُ اَلْقَائِمَ (عليه السلام) وَقَدْ نُودِيَ بِاسْمِهِ؟ قَالَ: «لَا يَدَعُهُمْ إِبْلِيسُ حَتَّى يُنَادِيَ فِي آخِرِ اَللَّيْلِ وَيُشَكِّكَ اَلنَّاسَ»(٤٧٣).
وقال (عليه السلام): «صَوْتُ جَبْرَئِيلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ، وَصَوْتُ إِبْلِيسَ مِنَ اَلْأَرْضِ، فَاتَّبِعُوا اَلصَّوْتَ اَلْأَوَّلَ، وَإِيَّاكُمْ وَاَلْأَخِيرَ أَنْ تَفْتَتِنُوا بِهِ»(٤٧٤).
وقال (عليه السلام): «يُنَادِي مُنَادٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ أَوَّلَ اَلنَّهَارِ: أَلَا إِنَّ اَلْحَقَّ فِي عَلِيٍّ وَشِيعَتِهِ، ثُمَّ يُنَادِي إِبْلِيسُ (لَعَنَهُ اَللهُ) فِي آخِرِ اَلنَّهَارِ: أَلَا إِنَّ اَلْحَقَّ فِي اَلسُّفْيَانِيِّ وَشِيعَتِهِ، فَيَرْتَابُ عِنْدَ ذَلِكَ اَلمُبْطِلُونَ»(٤٧٥).
وروى الصدوق (رحمه الله) عن الصادق (عليه السلام) أنَّه سأله رجل من أهل الكوفة: كَمْ يَخْرُجُ مَعَ اَلْقَائِمِ (عليه السلام)؟ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَخْرُجُ مَعَهُ مِثْلُ عِدَّةِ أَهْلِ بَدْرٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً، قَالَ: «وَمَا يَخْرُجُ إِلَّا فِي أُولِي قُوَّةٍ، وَمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٧٢) كمال الدين (ص ٦٥٠ و٦٥٢/ باب ٥٧/ ح ٦ و١٦).
(٤٧٣) كمال الدِّين (ص ٦٥٠ و٦٥١/ باب ٥٧/ ح ٨).
(٤٧٤) كمال الدِّين (ص ٦٥٢/ باب ٥٧/ ح ١٣).
(٤٧٥) كمال الدِّين (ص ٦٥٢/ باب ٥٧/ ح ١٤)؛ ورواه بتفاوت يسير المفيد (رحمه الله) في الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٧١)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص ٤٣٥ و٤٥٤/ ح ٤٢٥ و٤٦١)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج ٢/ ص ٢٧٩)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج ٣/ ص ١١٦١ و١١٦٢/ ح ٦٣).
↑صفحة ٢٨٢↑
تَكُونُ أُولُو اَلْقُوَّةِ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ»(٤٧٦).
وروي عن الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «اِثْنَانِ بَيْنَ يَدَيْ هَذَا اَلْأَمْرِ: خُسُوفُ اَلْقَمَرِ لِخَمْسٍ، وَكُسُوفُ اَلشَّمْسِ لِخَمْسَ عَشْرَةَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُنْذُ هَبَطَ آدَمُ (عليه السلام) إِلَى اَلْأَرْضِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْقُطُ حِسَابُ اَلمُنَجِّمِينَ»(٤٧٧).
وروى النعماني (رحمه الله) في كتاب (الغيبة) عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «اَلنِّدَاءُ مِنَ اَلمَحْتُومِ، وَاَلسُّفْيَانِيُّ مِنَ اَلمَحْتُومِ، وَاَلْيَمَانِيُّ مِنَ اَلمَحْتُومِ، وَقَتْلُ اَلنَّفْسِ اَلزَّكِيَّةِ مِنَ اَلمَحْتُومِ، وَكَفٌّ يَطْلُعُ مِنَ اَلسَّمَاءِ مِنَ اَلمَحْتُومِ»، قَالَ: «وَفَزْعَةٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تُوقِظُ اَلنَّائِمَ، وَتُفْزِعُ اَلْيَقْظَانَ، وَتُخْرِجُ اَلْفَتَاةَ مِنْ خِدْرِهَا»(٤٧٨).
وفي هذه الرواية علامة سادسة من العلامات الحتميَّة، مضافاً إلى الخمس التي تقدَّمت، وهي طلوع كفٍّ من السماء.
وروي عن الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «لَا بُدَّ لِبَنِي فُلَانٍ مِنْ أَنْ يَمْلِكُوا، فَإِذَا مَلَكُوا ثُمَّ اِخْتَلَفُوا تَفَرَّقَ مُلْكُهُمْ، وَتَشَتَّتَ أَمْرُهُمْ، حَتَّى يَخْرُجَ عَلَيْهِمُ اَلْخُرَاسَانِيُّ وَاَلسُّفْيَانِيُّ، هَذَا مِنَ اَلمَشْرِقِ، وَهَذَا مِنَ اَلمَغْرِبِ، يَسْتَبِقَانِ إِلَى اَلْكُوفَةِ كَفَرَسَيْ رِهَانٍ (أي السباق)، هَذَا مِنْ هُنَا، وَهَذَا مِنْ هُنَا، حَتَّى يَكُونَ هَلَاكُ بَنِي فُلَانٍ عَلَى أَيْدِيهِمَا، أَمَا إِنَّهُمْ لَا يُبْقُونَ مِنْهُمْ أَحَداً»، ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): «خُرُوجُ اَلسُّفْيَانِيِّ، وَاَلْيَمَانِيِّ وَاَلْخُرَاسَانِيِّ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ، فِي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٧٦) كمال الدِّين (ص ٦٥٤/ باب ٥٧/ ح ٢٠).
(٤٧٧) كمال الدِّين (ص ٦٥٥/ باب ٥٧/ ح ٢٥).
(٤٧٨) الغيبة للنعماني (ص ٢٦١ و٢٦٢/ باب ١٤/ ح ١١).