متاهات في مدينة الضباب
حوار مع أحمد الكاتب حول الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
المحاورون: سماحة الشيخ محمد السند - سماحة الشيخ علي الكوراني
إعداد وتقديم: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
رقم الإصدار: ١١٠
الطبعة الثانية ١٤٤٣هـ
الفهرس
مقدّمة المركز..................٣
مبدأ الحوار في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)..................٣
تمهيد..................٥
صور الكاتب في عدسة الحوار..................٩
[اشتراك أحمد الكاتب في هجر]..................١١
الإمام الثاني عشر حقيقة تاريخيَّة أم فرضيَّة فلسفيَّة؟..................١٦
العوامل النفسيَّة لنشوء الفرضيَّة (المهدويَّة الاثني عشريَّة)..................٢٠
الشيعة لم يجمعوا على وجود خلف للإمام العسكري (عليه السلام)..................٣٢
عصر الحيرة! وفاة الإمام العسكري (عليه السلام)..................٣٣
ادِّعاء جعفر بن عليٍّ بالإمامة..................٣٤
القائلون بانقطاع الإمامة..................٣٦
المتراجعون..................٣٧
القائلون بمهدويَّة العسكري..................٣٧
المحمّديَّة والنفيسيَّة..................٣٨
الواقفون..................٣٩
الحيارى..................٣٩
الجنينيُّون..................٤٠
القائلون بوجود الولد المسبق (الاثنا عشريُّون)..................٤١
عصر الحيرة..................٤١
بصائر الدرجات سند تاريخي على عقيدة الاثني عشريَّة، يكفي وحده للردِّ على المبطلين!..................٥٠
تصريح النبيِّ والأئمَّة بأنَّ عدد الأئمَّة اثنا عشر، وأنَّهم محدَّثون..................٥٦
نقد الدليل الروائي النقلي..................٦٣
دليل الاثني عشريَّة..................٦٦
المفيد يُضعِّف كتاب سُلَيم..................٧٢
أين الدلالة؟..................٧٥
لا بدَّ من إمام حيّ ظاهر يُعرَف!..................٧٦
نقد الدليل التاريخي (١)..................٧٧
المطلب الأوَّل: تناقض الروايات..................٧٧
رواية حكيمة..................٨٤
نقد الدليل التاريخي (٢)..................٨٦
رواية أبي الأديان البصري..................٨٧
دليل المعاجز على وجود الإمام الثاني عشر..................٩٥
الدليل الإعجازي على وجود المهدي..................٩٥
دليل الإجماع..................٩٧
ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)..................٩٨
إخبار الإمام العسكري بولادة ابنه المهدي (عليهما السلام)..................١٠٠
شهادة القابلة بولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)..................١٠١
من شهد برؤية المهدي من أصحاب الأئمَّة (عليهم السلام) وغيرهم..................١٠٢
شهادة وكلاء المهدي ومن وقف على معجزاته (عجَّل الله فرجه) برؤيته..................١٠٨
ومن غير الوكلاء..................١٠٩
شهادة الخدم والجواري والإماء برؤية المهدي (عجَّل الله فرجه)..................١١٠
تصرُّف السلطة دليل على ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)..................١١١
اعترافات علماء الأنساب بولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)..................١١٤
اعتراف علماء أهل السُّنَّة بولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)..................١١٧
اعتراف أهل السُّنَّة بأنَّ المهدي هو ابن العسكري (عليهما السلام)..................١٢٢
ردًّا على الأخ عبد الحسين البصري..................١٢٧
إلى أحمد الكاتب.. أين الجواب على هذا الدليل؟..................١٣١
النظريَّات المتعدِّدة في تفسير الغيبة..................١٣٢
لماذا الغيبة؟..................١٣٢
١ - نظريَّة الحكمة المجهولة..................١٣٢
٢ - نظريَّة التمحيص..................١٣٣
٣ - نظريَّة الخوف..................١٣٤
المطلب الثاني: أين مكان الغيبة؟..................١٣٦
المطلب الثالث: كم هي مدَّة الغيبة؟..................١٣٧
المطلب الرابع: كيفيَّة التأكُّد من هويَّة المهدي..................١٣٨
المطلب الخامس: علائم الظهور..................١٣٩
مناقشة منهجيَّة لأدلَّة أحمد الكاتب..................١٤٥
الافتراضيَّة الفلسفيَّة نموذجاً..................١٤٥
المحور الأوَّل..................١٤٥
المحور الثاني: نشأة الاجتهاد والفقاهة عند الإماميَّة..................١٤٦
المحور الثالث: هويَّة الأحاديث الإماميَّة نموذج..................١٤٧
المحور الرابع: الاثني عشر في كُتُبنا، نموذج..................١٤٧
المحور الخامس: الإمامة في كُتُب أهل السُّنَّة، نموذج..................١٤٨
المهدي هو محمّد بن الحسن العسكري (عليهما السلام)..................١٦٤
وجوب وجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)..................١٧٢
أحاديث (الخلفاء اثنا عشر)..................١٧٥
كلمة الشيخ الآصفي..................١٩٤
القضيَّة الأُولى..................١٩٤
القضيَّة الثانية..................١٩٥
القضيَّة الثالثة..................١٩٦
١ - حديث الثقلين..................١٩٧
٢ - حديث من مات ولم يعرف إمام زمانه..................١٩٩
الطريق الأوَّل..................٢٠٠
الطريق الثاني..................٢٠١
٣ - حديث أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة..................٢٠٢
٤ - حديث الأئمَّة الاثني عشر..................٢٠٤
الطائفة الثانية..................٢٠٩
تواتر الروايات..................٢١٠
مناقشة كلمة الشيخ الآصفي في مؤتمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)..................٢١٢
الردُّ على ما قاله حول مقالة الآصفي..................٢٤٠
ملاحظة منهجيَّة على أحمد الكاتب في مناقشة الدليل النقلي..................٢٤٨
بطلان دعوى أحمد الكاتب أنَّ حديث الاثني عشر ضعيف عند أهل السُّنَّة..................٢٥٠
المهدي الإمام الثاني عشر..................٢٥٥
مناقشة دليل الاثني (عشريَّة)..................٢٥٧
الردُّ على أحمد الكاتب حول افترائه على الصدوق بأنَّه لا يعتقد بقوَّة بالاثني عشر..................٢٥٨
غيبة الإمام الطويلة دليل تاريخي مضادٌّ على عدم وجوده..................٢٦٤
ملاحظات سريعة على منهجيَّة أحمد الكاتب ونقدها..................٢٧٤
لماذا لا نعرض الرواية التاريخيَّة على التحقيق؟..................٢٨٣
أُمُّ المهدي..................٢٨٥
تاريخ ولادته..................٢٨٦
كيفيَّة ولادته..................٢٨٧
رواية الطوسي لقصَّة ولادة المهدي..................٢٩٠
سرّيَّة الولادة..................٢٩٢
رؤية المهدي في حياة أبيه..................٢٩٣
رؤيته عند وفاة أبيه..................٢٩٦
محاولة القبض على المهدي..................٢٩٨
تعليق على النقاش في الدليل التاريخي..................٢٩٩
الردُّ على النقاش التاريخي..................٣٠٥
كلمة اعتذار من أحمد الكاتب..................٣٠٩
تعليق على الاعتذار..................٣١٣
نشوء الفرضيَّة المهدويَّة في أحضان الغلوِّ والغلاة..................٣١٤
التفسير الباطني..................٣١٧
النميريَّة..................٣٢٠
المخمِّسة..................٣٢١
المفوِّضة..................٣٢٢
لا مبرِّر للغيبة أو الخوف من النظام العبَّاسي الضعيف..................٣٣١
الوضع السياسي العام عشيَّة (الغيبة) وغداتها..................٣٣١
القسم الأوَّل: النظام العبَّاسي..................٣٣١
القسم الثاني: وضع المعارضة..................٣٣٤
الثورات العلويَّة عشيَّة (الغيبة)..................٣٣٥
الثورات الإسماعيليَّة في اليمن وشمال أفريقيا..................٣٣٧
تعاطف الخلفاء العبَّاسيِّين مع العلويِّين..................٣٣٨
الردُّ على إنكار المبرِّر التاريخي..................٣٤٠
لا تواتر ولا إجماع على مهدويَّة الإمام الثاني عشر..................٣٤٤
مهدويَّة الإمام عليٍّ..................٣٤٥
مهدويَّة ابن الحنفيَّة..................٣٤٦
مهدويَّة أبي هاشم..................٣٤٧
مهدويَّة الطيَّار..................٣٤٧
انحصار المهدويَّة في البيت الفاطمي..................٣٤٧
مهدويَّة ذي النفس الزكيَّة..................٣٤٨
مهدويَّة الباقر..................٣٤٩
مهدويَّة الصادق..................٣٤٩
مهدويَّة إسماعيل..................٣٤٩
مهدويَّة الديباج..................٣٥٠
مهدويَّة محمّد بن عبد الله الأفطح..................٣٥٠
مهدويَّة الكاظم..................٣٥١
مهدويَّة محمّد بن القاسم..................٣٥٣
مهدويَّة يحيى بن عمر..................٣٥٣
مهدويَّة محمّد بن عليٍّ الهادي والعسكري..................٣٥٣
مهدويَّة القائم المجهول..................٣٥٤
الردُّ على عدم تواتر روايات أنَّ المهدي هو ابن الحسن العسكري..................٣٥٥
هذا ما قاله الكاتب فما هو ردُّكم عليه؟..................٣٦٣
الشورى نظريَّة أهل البيت، والمهدي وليد نظريَّة الإمامة..................٣٧٠
الإمام عليٌّ والشورى: ..................٣٧٠
الإمام الحسن والشورى..................٣٧٧
الإمام الحسين والشورى..................٣٧٨
اعتزال الإمام زين العابدين..................٣٨٢
انتخاب سليمان بن صُرَد الخزاعي زعيماً للشيعة..................٣٨٣
إمامة محمّد بن الحنفيَّة..................٣٨٣
الردُّ على الكاتب في الشورى..................٣٩١
المحافظة على الإخوة كمسلمين شيعة لأهل البيت (عليهم السلام)..................٤١٦
لماذا تأخَّر الشيعة وتقدَّم غيرهم؟..................٤٢٩
الموقف من عمليَّة الإصلاح الاجتماعي..................٤٢٩
الآثار السلبيَّة لنظريَّة وجود المهدي على الشيعة الاثني عشريَّة..................٤٣٧
نظريَّة التقيَّة والانتظار..................٤٣٧
لماذا اتَّخذ مشايخ الطائفة الأوائل موقفاً سلبيًّا من الاجتهاد وولاية الفقيه؟..................٤٤٤
الموقف السلبي من الاجتهاد..................٤٤٦
المطلب الثاني: الموقف السلبي من ولاية الفقيه..................٤٥٠
الردُّ رقم (١)..................٤٥٦
الردُّ رقم (٢)..................٤٦٦
الردُّ رقم (٢) على الكاتب في نقاشه مع التلميذ..................٤٨٧
الردُّ رقم (١) على الكاتب في نقاشه مع التلميذ..................٥٠١
إلغاء صلاة الجمعة أكبر دليل على سلبيَّة نظريَّة الانتظار..................٥١٥
الموقف من صلاة الجمعة..................٥١٥
الردُّ على الكاتب حول إلغاء صلاة الجمعة..................٥٢٩
الفقهاء المتأخِّرون: الإمام الغائب لا يقوم بمهامِّ الإمامة ولا بدَّ لنا في عصر الغيبة من إمام..................٥٣٥
كيف ولماذا قال الفقهاء بنظريَّة ولاية الفقيه؟..................٥٣٥
تطوير نظريَّة الإمامة..................٥٣٩
الخميني ينقد نظريَّة الانتظار..................٥٤٢
ضرورة الإمامة في عصر الغيبة..................٥٤٣
تجاهل (أحمد الكاتب) لعدَّة محاور أساسيَّة في الحوار..................٥٤٦
كلمة ختاميَّة في الوداع..................٥٥١
الردُّ على الكاتب في كلمته الختاميَّة..................٥٥٦
توضيح وتعقيب على أحمد الكاتب في كلمته الختاميَّة قبل وداعه من شبكة هجر الثقافيَّة..................٥٦٤
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة المركز:
مبدأ الحوار في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام):
قد يتصوَّر البعض أنَّ الانفتاح على الرأي والرأي الآخر هو وليد ما يُسمَّى اليوم بالعولمة ومن نتاجات حوار الثقافات وتلاقح الحضارات.
وأنَّ ما يصاغ اليوم من مناهج لتعدُّديَّة الرأي وحرّيَّة التعبير - لجعل الفيصل الوحيد لتوحيد الرؤى والأفكار هي الكلمة - ما هي إلَّا إفرازات العصرنة والمدنيَّة الحديثة، لذا فهو يحاول أنْ يتشبَّث بهذه المعطيات ويضفي هالة من القدسيَّة على كلِّ ما هو حداثوي غربي ويتنكَّر لواقعه الإسلامي بكلِّ ما يزخر به هذا الواقع من زخم عقائدي وفكر أصيل بحجَّة أنَّه واقع مغلق لا يعترف بالتعدُّد وحرّيَّة التعبير مضافاً إلى سيل من الاتِّهامات الأُخرى مثل أُحاديَّة النظرة والجمود على التراث بكلِّ إسقاطاته من دون تمحيص وغربلة، ولست أدري منشأ هذه الشُّبَه وعلى أيِّ أساس اعتمدت؟ فهذه مدرسة القرآن الناطقة - مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) - تزخر بدحض أمثال هذه الشُّبُهات فهي السبَّاقة إلى الانفتاح، بل إنَّ أحد أهمّ أركانها لتثبيت دعائم أحقّيَّتها وواقعيتها هو الحوار والبيان.
فها هو كتاب (الاحتجاج) بين أيدينا مليء بالرأي والرأي الآخر ومحاولة الوصول إلى الحقيقة عبر الكلمة، وكيف تكون مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) منغلقة أو جامدة أو تحاول تهميش الآخر أو إقصائه أو ازوائه ورفضه؟ وهل يفعل ذلك إلَّا الخالي من الدليل العاري عن البرهان والبعيد عن الحقِّ والحقيقة؟ أمَّا من كان
↑صفحة ٣↑
منهجه البرهان ومدرسته القرآن فبابه مفتوح وصدره رحب للرأي الآخر، كما قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: ١٢٥).
وهكذا كان فالذي بين يديك عزيزي القارئ كتاب هو صورة عن واقع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) التي لا تأبى الحوار، وهو واقع يُكذِّب كلَّ المدَّعيات والأبواق التي تحاول إلقاء التُّهَم بأُحاديَّة وانغلاق هذه المدرسة المعطاء حيث ستجد أمامك سجالاً في إحدى أهمّ المفاصل الفكريَّة والمحاور العقائديَّة الشيعيَّة بل الإسلاميَّة عموماً، ألَا وهي عقيدة المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه).
فالكتاب سجَّل هذه الحواريَّة وعَرَضها بأمانة وصدق للقُرَّاء لبيان عدَّة أُمور:
١ - مصداقيَّة مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وأنَّها تنفتح على الرأي الآخر وتدرسه وتناقشه.
٢ - بيان هشاشة الرأي الآخر وتخبُّطه وجهله بموارد الاستدلال والمنطق السليم.
٣ - إرفاد المكتبة الإسلاميَّة برؤى أصيلة في مبانيها جديدة في طرحها لعلَّ ذلك يساهم في رفع الوعي الثقافي المهدوي ومتطلِّبات العصر.
وأخيراً يتقدَّم مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بالشكر لشبكة هجر الثقافيَّة حيث رعت هذه الحواريَّة القيِّمة، وكذا مؤسَّسة أُمِّ القرى لطباعتها الأُولى للكتاب.
مدير المركز
السيِّد محمّد القبانچي
(١٤٣٠هـ)
↑صفحة ٤↑
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
الحمد لله ربِّ العالمين بارئ الخلائق أجمعين، ثمّ الصلاة والسلام على أشرف الخلائق أجمعين محمّد الهادي الأمين، وعلى آل بيته الطيِّبين الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً، والبراءة واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدِّين.
في الوقت الذي سعى لأنْ ينشر ضلاله ويُروِّج لمعتقده الذي انفرد به بين طوائف المسلمين، سعى لأنْ يبثَّ سمومه وأفكاره - التي لم تبنَ إلَّا على التدليس والتحريف ونكران الحقِّ والحقيقة - في وسط عوامِّ الناس، وتبجَّح بالقول أنَّه ناظر العلماء وأفحمهم، حتَّى صار من يسمع باسمه من العلماء يفرُّ منه خوفاً من مناظرته ومحاورته كما يزعم، وبهذا الادِّعاء قد لبَّس على مجموعة من علماء الوهَّابيَّة الذين خطَّئوا المسلمين قاطبةً في عقائدهم، بل نعتوا المسلمين بالشرك كما في مقدَّمة كتاب (التوحيد) لمحمّد بن عبد الوهَّاب، ورفعوا راية الحرب العلنيَّة على شيعة أهل البيت (عليهم السلام) وعلى التشيُّع، وقد ضلَّلهم بادِّعائه هذا، حتَّى إنَّهم جاؤوا إلى موقع شبكة هجر وألحُّوا على مديرها (حفظه الله) أنْ يفتح مجالاً لهذا الرجل لأنْ يحاور علماء الشيعة الإماميَّة، وذلك تحت حجَّة أنَّ كُتُبه وعقائده وأفكاره مفحمة للشيعة وعقائدهم، بل وخصوص عقيدتهم في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وذلك لأنَّ هذا الرجل قد أثبت - وبحسب ادِّعائه وادِّعائهم - خلاف ما عليه الشيعة من عقيدة المهدي، وقد أثبت حجَّته بالبرهان
↑صفحة ٥↑
والدليل، وكلُّه من كُتُب الشيعة المعتمدة ومن أقوالهم المتناقضة في المهدي - كما يدَّعي -، وأنَّه يملك من الأدلَّة ما يكفي لنسف عقيدة المهدويَّة، بل عقيدة الإمامة عند الشيعة. فهذا ادِّعاؤه ولكن يا ترى هل سيتمكَّن من إثبات ذلك، أم أنَّ دون إثباته خرط القتاد؟
وبدوره مدير شبكة هجر الثقافية عرض هذا الطلب من هؤلاء الوهَّابيَّة - الذين يساندون ويدعمون هذا الرجل مادّيًّا بكلِّ ما للكلمة من معنى، ويدعمونه معنويًّا -، عرضه على جمع من علماء الحوزة العلميَّة منهم سماحة الشيخ عليّ الكوراني وسماحة الشيخ محمّد السند (حفظهما الله تعالى)، فأبديا استعدادهما للحوار معه.
وقد اقترح مدير الشبكة أو بعضهم أنْ تكون لجنة تحكيم تشرف على الحوار، وكان في اللجنة عدد من علماء الوهَّابيَّة، منهم الذين ألحُّوا على الحوار، وشارك في لجنة التحكيم مجموعة من الأكاديميِّين وبعضهم كان يحمل شهادة الدكتوراه، ومعهم شخص أسمى نفسه (مالك الحزين)، وهو الأُستاذ المحترم نائب رئيس جريدة الأهرام. ودور هذه اللجنة تشرف على الحوار وتحافظ على مساره حتَّى لا يخرج عن المحاور المرسومة له، وحتَّى يخرج الحوار بفائدة علميَّة يستفيد منها الباحث والمتتبِّع. أمَّا الغاية عند علماء الوهَّابيَّة كانت واضحة وهي إفحام الشيعة وهزيمتهم في عقر دارهم.
ولكن هل تحقَّق لهؤلاء ما يبغون؟
أم أنَّ السحر انقلب على الساحر، وقد خاب من افترى؟
نعم كان الترقُّب من الجميع والمتابعة من الكثير، وقد شارك في البدء مجموعة من رُوَّاد الشبكة، إلَّا أنَّ مدير الشبكة قد أعلن أنَّ الحوار محصور في جماعة معيَّنة، وذلك حتَّى لا يتشعَّب الحوار ولا يتفرَّع، وبيَّن أنَّ هذه رغبة الطرف المحاور. وبالفعل سارت المحاورات على هذا المنهج الذي رُسِمَ لها.
↑صفحة ٦↑
إنَّه المدعو عبد الزهراء عبد الرسول لاري، المعروف بـ (أحمد الكاتب)، وإنْ أردت التعرُّف عليه فلا تحتاج في ذلك إلى عناء، وإنَّما يكفيك منتدى حوارات ووجدت شخصاً وظيفته القصُّ واللصق (Cut & Past)، وأنَّه لا يعتني بما تقول وإنَّما يهتمُّ فقط بلصق ما عنده، بل وميزة مائزة عنده وهي التدليس العلني على العلماء وعلى من ينقل من كُتُبهم، فاعرف أنَّه هو هذا الرجل، والذي ترك اعتقاده بإمامة أئمَّة الهدى (عليهم السلام)، ولم يعرف كيف يتبنَّى عقيدة أهل سُنَّة الجماعة، حيث أضاع مشيته ولم يتقن المشية الجديدة. وستعرف عزيزي القارئ ما أقول من خلال متابعتك للحوارات، بل ومن النهايات التي غضب فيها عليه وتبرَّأ منه من كان يلح على فتح المجال لمحاورته.
والغريب في هذا الرجل أنَّه يدَّعي العلم ويطالب بالبحث العلمي في الوقت الذي لا يمتُّ بحثه وكلامه للبحث العلمي أصلاً. فكيف يدَّعي أنَّه من أهل العلم والتخصُّص في علم الرجال والحال أنَّه يتيه ويتخبَّط عند مفردة رجاليَّة عندما يكون الكلام عن شخصيَّة روائيَّة بارزة عُرِفَت باسمها تارةً وبكنيتها تارةً أُخرى؟ ولكنَّه حينما يقرأ الرواية التي في طريقها هذا الراوي الذي ذُكِرَ بكنيته يتيه ويضيع ويتخبَّط إلى درجة القول: إنَّ هذا الراوي مجهول ولم يترجم له الرجاليُّون. نعم لا أستغرب من شخص كهذا حيث يُنكِر ما هو مسلَّم عند أهل الحديث، بل وإنَّه يُنكِر قضيَّة متواترة وذلك لأنَّه لا يرتضيها شخصيًّا.
ثمّ وجدت أنَّه لا بدَّ من التعليق على الحوارات التي جرت، وخصوصاً بعد أنْ تابعت مقالاته وتدليساته وافتراءاته فيها، خصوصاً وأنَّ المحاور لم يجد وقتاً لكشف حقيقة تدليسه ومقابلة ما قاله مع الكُتُب المنسوب إليها الكلام، وذلك لأنَّ الحوار كان يقتضي الردَّ السريع والمباشر، فكان المحاورون الفضلاء يردُّون على منهجيَّته الخاطئة وادِّعاءاته الباطلة ونظريَّاته الخاوية، وأخذت أنا على
↑صفحة ٧↑
عاتقي التعليق على كلامه بالردِّ العلمي على أفكاره في مكان، وبالمقابلة مع الكُتُب المنسوب إليها الكلام المُدلَّس في مكان آخر، وبكشف أكاذيبه في مكان ثالث.
* * *
في الختام أُحِبُّ التنويه إلى الأسماء الشخصيَّة لأهل العلم والفضلاء الذين شاركوا في الحوار بأسماء مستعارة. فكان سماحة الشيخ محمّد السند باسم (محمّد منصور)، وكان سماحة الشيخ عليّ الكوراني باسم (العاملي)، وكان (مالك الحزين) هو الأُستاذ نائب مدير تحرير جريدة الأهرام المصريَّة، وقد علَّق على الحوارات وقدَّم له الداعي السيِّد أحمد الماجد. وقد شارك مجموعة من الأسماء لم تُحِبّ ذكر اسمها.
ونسأل الله تبارك وتعالى أنْ يستفيد القارئ الكريم من هذا الحوار حيث ستنكشف له كثير من الحقائق المغيَّبة عنه. وستُفنَّد تلك الشُّبُهات والإشكالات التي عمد البعض على ترويجها وبثِّها على أساس أنَّها إشكالات لا جواب لها. ففي هذه الحوارات إجابة على تلك الشُّبُهات والإشكالات.
نسأل الله تعالى أنْ ينفع بها المؤمنين، إنَّه وليٌّ قدير.
أحمد الماجد
(١٣/ ربيع الثاني/ ١٤٢٩هـ)
قم المقدَّسة
↑صفحة ٨↑
بسم الله الرحمن الرحيم
صور الكاتب في عدسة الحوار:
الأُولى: افتقار النتائج لآليَّات البحث التخصُّصي العلمي حسب كلِّ موضوع يتناوله، فطريقة الاستنتاج المشاهدة وليدة ثقافة سطحيَّة هزيلة من هنا وهناك.
الثانية: اقتطاع نصوص الكلمات من السياق التي هي فيه بنحو تُعطي خلاف مقصود قائلها، وفي الموارد العديدة الأُخرى نرى النقل يخضع لاستيحاء من المصدر المنسوب إليه النقل، بل في العديد من الموارد سيلاحظ القارئ عدم الأمانة في نقل المتن.
الثالثة: تدافع الآراء، فبعضها متأثِّر بالماضي الشيعي، وبعضها بالفقه السلطاني المتحوّل إليه، وبعضها بالبيئة الغربيَّة المعاشة.
الرابعة: الإصرار على رفض الحقائق حتَّى بعد انكشافها بالمصادر والأدلَّة أثناء عمليَّة الحوار.
الخامسة: عدم التقيُّد بالموازين المتَّفق عليها بين الطوائف الإسلاميَّة أثناء عمليَّة استنتاج الرأي.
السادسة: نسبة كثير من الأُمور إلى الواقع الشيعي، التاريخي أو المعاصر، على خلاف ما هو عليه، وتصل درجة ذلك إلى مصادمة البديهيَّات التاريخيَّة وإلى تناقضه في ما ينسبه.
السابعة: اعتماد المنهج الحسِّي المادِّي وتغييب كلِّ ما هو وراء الحسِّ في
↑صفحة ٩↑
رسم الحقائق، والأدهى تجنُّب الدليل القرآني في بناء العقيدة والنظريَّة تارةً أو دليل السُّنَّة المتَّفق عليه تارةً أُخرى.
الثامنة: افتقاد الموضوعيَّة في تصوير الأحداث والوقائع، وعدم التجرُّد عن العواطف، وتهويل بعض الأُمور الجزئيَّة.
* * *
↑صفحة ١٠↑
بمناسبة اشتراك أحمد الكاتب في هجر..
أسئلة تنتظر إجابتك؟
حُرِّر بتاريخ (١٦/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٦:٣٥) صباحاً.
العاملي عضو:
بما أنَّك تُقدِّم نفسك، ويُقدِّمك الذين يتبنَّونك، على أنَّك مفكِّر شيعي وسياسي:
١ - كيف يمكنك علميًّا أنْ تُنكِر إمامة الأئمَّة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام).. ثمّ تكون تابعاً لمذهبهم فقهيًّا؟
٢ - أنت تزعم أنَّ حكم الشورى هو الصيغة التي شرعها الله تعالى ورسوله للحكم بعد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فهل طُبِّقت الشورى في السقيفة، وعند وفاة عمر، ثمّ في تاريخ بني أُميَّة وبني العبَّاس والمماليك والعثمانيِّين؟
وإذا لم تُطبَّق فهل تكون الدولة شرعيَّة، أم تكون خارجة عن الإسلام؟
٣ - أنت تدعو إلى نظام حكم إسلامي يقوم على ولاية الفقيه والشورى، فهل نظام الحكم الذي لا يتوفَّر فيه ذلك غير شرعي ويجب الخروج عليه؟
٤ - ما رأيك بشعار الخليفة عمر وشعار القذَّافي بأنَّ القرآن يكفي عن السُّنَّة، وحسبنا كتاب الله؟
٥ - ثبت في مصادر الشيعة والسَّنَّة أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد بشَّر الأُمَّة بأمر ربِّه باثني عشر إماماً يكونون بعده، فهل يُعقَل أنَّ النبيَّ لم يُبيِّن أسماءهم أو على الأقلّ
↑صفحة ١١↑
اسم الأوَّل منهم، أو أنَّه بيَّن وضاع بيانه؟ ومن هم هؤلاء الذين اختارهم الله من فوق عرشه قادة هداة للأُمَّة؟ سمِّهم لنا من فضلك.
٦ - أنت فارسي، فما رأيك بعلماء الفرس من بني قومك، الذين أسَّسوا المذاهب، ودوَّنوا الصحاح، وأعطوا الشرعيَّة لحُكَّام غير شورائيِّين..
هل كانوا علماء أتقياء مستقلِّين، أم علماء بلاط؟
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٦/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٢:٢٦) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
الأخ العاملي (حفظه الله وهداه): تحيَّة طيِّبة.
وأرجو أنْ تُحسِن الظنَّ بي قليلاً ولو من باب المجاملة وأدب الحوار، إذ لا يوجد من يتبنَّاني، وإذا كنت تعرف أحداً فسمِّه لي وقدِّم الدليل، ولا تلق الكلام على عواهنه.
وأنا مسلم شيعي جعفري والحمد لله، وقد وجدت بعد البحث والتمحيص أنَّ هناك أحاديث وأفكاراً دخيلة في مذهب أهل البيت فرفضتها.
١ - لقد بحثت أحاديث الاثني عشريَّة فلم أجد لها رائحة في التراث الشيعي خلال القرون الثلاثة الأُولى، ولم يذكرها الكُتَّاب الشيعة السابقون، ولم يذكر الشيخ المحدِّث أبو جعفر محمّد بن الحسن بن فروُّخ الصفَّار القمِّي المتوفِّي سنة (٢٩٠) هجريَّة في كتابه: (بصائر الدرجات في فضائل آل محمّد)(١)، وهو من أقدم الكُتُب الشيعيَّة الإماميَّة أيَّ حديث يشير إلى الاثني عشريَّة، بل قال: إنَّ الأئمَّة لم يكونوا يعرفون لمن الأمر بعدهم إلَّا قبل وفاتهم بقليل، وقد برزت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) هذا تدليس واضح من الكاتب وما زلنا في أوَّل البحث، وسيكشف له الإخوة كذبه وتدليسه، فأرجو من القارئ الالتفات إلى ذلك.
↑صفحة ١٢↑
الفكرة في القرن الرابع الهجري، فجمع الشيخ الكليني في (الكافي) بضعة عشر حديثاً، وكان بعضها يشير إلى أنَّ الأئمَّة ثلاثة عشر، وعلى أثر ذلك تكوَّنت فرقة شيعيَّة إماميَّة (ثلاثة عشريَّة)، ولم يكن الشيخ محمّد بن عليٍّ الصدوق متمسِّكاً بقوَّة بهذه الفكرة رغم أنَّه روى بضعة وثلاثين حديثاً. أمَّا تلميذه الخزَّاز صاحب كتاب (كفاية الأثر في النصِّ على الأئمَّة الاثني عشر) فقد جمع مائتي رواية. وقد درستها رواية رواية وراوياً راوياً ولم أجد فيها رواية واحدة صحيحة. ودراستي لها تقع في مائتي صفحة، وهي موجودة لدي في ملفَّات كمبيوتريَّة، وكنت قد أرسلتها منذ سبع سنوات إلى عدد من العلماء في حوزة قم، ونشرتها عن طريق الكمبيوتر ولم أتلقَ أيَّ مناقشة جدّيَّة لها حتَّى الآن.
إنَّ النظريَّة الاثني عشريَّة، أو نظريَّة الإمامة نظريَّة سياسيَّة من صنع المتكلِّمين، ولا ربط لها بالفقه الذي كان يُقدِّمه أهل البيت، والإمام جعفر الصادق بالذات.
٢ - أنا أعتقد أنَّ الشورى هي نظريَّة أهل البيت السياسيَّة بالدرجة الأُولى، وقد طبَّقها أهل البيت أفضل تطبيق، حيث رفض الإمام عليٌّ أنْ يتولَّى الخلافة من غير شورى، كما أنَّه لم يفرض ابنه الإمام الحسن وليًّا للعهد بالقوَّة، كما فعل معاوية، وإنَّما ترك الحرّيَّة للناس الذين انتخبوا الإمام الحسن المجتبى من بعده حبًّا وطواعية، وكذلك انتخب أهل العراق الإمام الحسين، وبعثوا إليه لكي يكون عليهم إماماً، ولم يقل لهم: إنِّي إمام معيَّن من قِبَل الله تعالى، ثمّ انتخب الشيعة في الكوفة بعد مقتله سليمان بن صُرَد الخزاعي قائداً لهم.
ويذكر الشيخ الصدوق في (عيون أخبار الرضا) حديثاً عن الإمام عليِّ بن موسى الرضا، عن أبيه، عن آبائه، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال: «من جاءكم يريد أنْ يُفرِّق الجماعة ويغصب الأُمَّة أمرها ويتولَّى من غير مشورة فاقتلوه، فإنَّ الله (عزَّ وجلَّ) قد أذن ذلك» (المصدر ج ٢/ ص ٦٢).
↑صفحة ١٣↑
٣ - لقد قلت: إنَّ نظريَّة ولاية الفقيه كانت خطوة ثوريَّة متقدِّمة حرَّرت الشيعة من نظريَّة الانتظار السلبيَّة للإمام المهدي المنتظر، وهي مبنيَّة على أساسين: إمَّا النيابة العامَّة للفقهاء عن الإمام المهدي الغائب، وإمَّا الشورى بالانتخاب، أو كليهما معاً. وأعتقد أنَّ الفقيه لا يملك ولاية على الناس إلَّا إذا انتُخِبَ منهم.
٤ - أنَّني أُؤمن بالكتاب والسُّنَّة، والقرآن الكريم لا جدال في سنده، لأنَّه متواتر، وإنَّما النقاش في الأحاديث التي تُنسَب إلى النبيِّ وإلى أهل البيت وما أكثرها، ولا بدَّ من دراستها بعمق ودقَّة.
٥ - لم يثبت في مصادر الشيعة والسُّنَّة أنَّ النبيَّ بشَّر باثني عشر إماماً فقط يكونون من بعده، وإنَّما هناك روايات منسوبة لا تثبت أمام الدرس والتحقيق، فضلاً عن وجود النقاش في دلالتها وهل تدلُّ على حصر الأئمَّة في اثني عشر إماماً؟ ومن هم الأئمَّة أو الخلفاء أو الأُمراء الذين تعنيهم؟
٦ - يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ﴾ (الحجرات: ١١)، ويقول الإمام الصادق: «المؤمن عربي لأنَّ نبيَّه عربي وكتابه المنزل بلسان عربي مبين».
ومع أنِّي لا أجد عيباً في أنْ أكون فارسيًّا أو هنديًّا أو حبشيًّا أو صينيًّا، وأنِّي لا أجد فخراً في أنْ أكون عربيًّا أو قرشيًّا أو عراقيًّا أو سوريًّا أو لبنانيًّا، فإنِّي أسألك ما هو تعريفك للعربي والفارسي. وفيما إذا كنت مسلماً أم عنصريًّا؟ ولماذا تحاول أنْ تجعل من الألقاب سبَّة؟ وأنت الرجل المؤمن.
وإذا أحببت أنْ تعرف هويَّتي في البداية فأنا عبد الرسول اللَّاري، وُلِدْتُ في كربلاء لأبوين هما الحاجّ عبد الزهراء والحاجَّة شكريَّة عبَّاس الهر، وجدِّي هو
↑صفحة ١٤↑
عبد الأمير بن حبيب بن جاسم بن مهدي بن أحمد بن عبد الله بن جاسم بن محمّد بن شيخ عمران من آل مراد من آل الشيخ من بني أسد. وإذا أحببت أنْ تتأكَّد من ذلك فزر مدينة كربلاء حيث تجد مضايف عشيرتي واسأل الشيخ عليّ عبد الحسين شيخ عشائر بني أسد في كربلاء والدكتور حسين عليّ محفوظ.
ولو كنت عراقيًّا لعرفت معاناة الشيعة العراقيِّين العرب الذين دأب بعض الحُكَّام العنصريِّين والطائفيِّين باتِّهامهم بأنَّهم جميعاً فرس ومن أُصول هنديَّة، ومع ذلك فإنَّ النظام العراقي الذي حكم عليَّ بالإعدام عام (١٩٧٤م) لم يستطع أنْ يُشكِّك في هويَّتي العراقيَّة أو العربيَّة.
وأرجو منك في الختام يا أخ عاملي أنْ تذكر لنا اسمك واسم أبيك بصراحة. وشكراً.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٦/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠١:٤٢) مساءً.
العاملي عضو:
أجبت على أسئلتي الستَّة جواباً مجملاً ومنقوضاً.
والنتيجة أنَّك تدَّعي أمرين:
الأوَّل: أنَّ أحاديث البشارة النبويَّة باثني عشر إماماً، لم تصحّ!
والثاني: أنَّ الشيعة لم يعرفوا عقيدة الأئمَّة الاثني عشر قبل القرن الرابع.
والسؤال:
١ - ماذا تصنع بأحاديث الصحاح التي حكم علماء السُّنَّة بها؟
٢ - ماذا تقول عن البشارة الواردة في التوراة لإبراهيم باثني عشر قيِّماً أو إماماً من ذرّيَّة إسماعيل؟ والتي صحَّحها علماء السُّنَّة، وطبَّقوها على البشارة النبويَّة الصحيحة؟
↑صفحة ١٥↑
٣ - إذا أتيناك بنصوص صدرت قبل القرن الثالث تدلُّ على وجود الاعتقاد بالأئمَّة الاثني عشر، وهي صحيحة، هل تعترف بخطئك؟
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٦/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٢:٠٧) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
الأخ العاملي المحترم.
أُفضِّل أنْ يكون الحوار حول النقاط التي طرحتها في رسالتي حول كون الإيمان بالإمام الثاني عشر محمّد بن الحسن العسكري فرضيَّة فلسفيَّة، وليس حقيقة تاريخيَّة، وشكراً.
* * *
الإمام الثاني عشر حقيقة تاريـخيَّة أم فرضيَّة فلسفيَّة؟
حُرِّر بتاريخ (١٦/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٤٨: ٠٩) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
الاعتقاد بوجود الإمام الثاني عشر فرضيَّة فلسفيَّة حادثة، وليست من التشيُّع. التشيُّع حركة تاريخيَّة عريضة تطوَّرت مع الزمن، وتشعَّبت وانتقلت من مرحلة إلى أُخرى، وكان في البداية يعني الولاء لأهل البيت ومناصرتهم سياسيًّا في مقابل الأُمويِّين، ثمّ تطوَّر في القرن الثاني الهجري إلى عدَّة حركات سياسيَّة عبَّاسيَّة وفاطميَّة وحسنيَّة وحسينيَّة وزيديَّة وجعفريَّة وإسماعيليَّة وموسويَّة وواقفيَّة، وكان الإماميَّة فرقة من الفِرَق الشيعيَّة المختلفة، ولكنَّها توقَّفت عند وفاة الإمام الحسن العسكري، في منتصف القرن الثالث الهجري دون أنْ يُخلِّف ولداً ظاهراً، فانقسمت إلى عدَّة فِرَق، قالت إحداها بوجود ولد للإمام العسكري في السرِّ، هو الإمام الثاني عشر محمّد بن الحسن العسكري، الغائب
↑صفحة ١٦↑
المنتظر، وتطوَّرت الفرقة الإماميَّة إلى (اثني عشريَّة) في القرن الرابع الهجري بعد أنْ تمَّ استيراد أحاديث من أهل السُّنَّة، وإضافة أحاديث أُخرى مختلفة تُحدِّد الإمامة في اثني عشر إماماً فقط(٢).
وكما هو واضح من السير التاريخي لتطوُّر النظريَّات الشيعيَّة، فإنَّ رفض النظريَّة الاثني عشريَّة لا يعني بالضرورة رفض النظريَّة الإماميَّة، إذ إنَّ ثَمَّة فِرَقاً شيعيَّة عديدة تؤمن بالنظريَّة الإماميَّة ولا تؤمن بالاثني عشريَّة كالواقفيَّة والفطحيَّة والإسماعيليَّة، وكذلك فإنَّ رفض النظريَّة الإماميَّة لا يعني الخروج من دائرة الشيعة والتشيُّع كما يرفض الزيديَّة والجعفريَّة النظريَّة الإماميَّة، مع أنَّهم في صلب الحركة الشيعيَّة.
وإذا كان التشيُّع باختصار هو الولاء لأهل البيت وأخذ الفقه عن الأئمَّة، وبالخصوص الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) فإنَّ رفض النظريَّة الإماميَّة والنظريَّة الاثني عشرية لا يعني الخروج من التشيُّع(٣).
ومن هنا فإنِّي أستغرب من إصرار البعض على نفي الصفة الشيعيَّة عنِّي، بالرغم من أنِّي أُعلن تمسُّكي بأهل البيت، واتِّباعي للمذهب الجعفري، كما أستغرب قيام البعض بالربط بين الإيمان بالنظريَّة الاثني عشريَّة أو الإماميَّة، والالتزام بالتشيُّع أو الإسلام، بالرغم من أنَّ النظريَّة الإماميَّة وُلِدَت في القرن الثاني الهجري بصورة سرّيَّة(٤)، ولدى قسم صغير من الشيعة، وبعيداً عن أئمَّة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢) يا ترى أو هل أنَّ كُتُب السُّنَّة تصدر بأحاديث اختلقتها في هذا الشأن لتثبيت أحقّيَّة الشيعة وتدين السُّنَّة؟ أم أنَّ فكرة المهدي هي إسلاميَّة سُنّيَّة وشيعيَّة؟ أم أنَّ منهج الكاتب التشكيك في كلِّ حديث صادر عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سواء عن طريق السُّنَّة أم الشيعة؟!
(٣) من قال لك بأنَّ التشيُّع يعني هذا فقط؟ ويا ترى من أين أتيت بهذا التعريف لمذهب التشيُّع؟
(٤) الظاهر أنَّ الكاتب لم يقرأ التاريخ، بل ولم يتصفَّح صفحاته الأُولى، أو أنَّه بدأ بالتدليس الذي سينكشف عمَّا قريب. وأتمنَّى أنْ يثبت الكاتب على هذا المدَّعى الباطل من أنَّ ولادة نظريَّة الإماميَّة في القرن الثاني الهجري.
↑صفحة ١٧↑
أهل البيت (عليهم السلام)، وبالرغم من أنَّ النظريَّة الاثني عشريَّة وُلِدَت في القرن الرابع الهجري، ولم يكن لها أيّ أثر في تاريخ الشيعة في القرون الثلاثة الأُولى(٥).
كما أستغرب إصرار البعض على التمسُّك بالنظريَّة الاثني عشريَّة، والإيمان بوجود الإمام الثاني عشر، وولادته في منتصف القرن الثالث الهجري، واستمرار حياته إلى اليوم(٦)، واعتبار ذلك أساساً من أُسُس المذهب الشيعي، وضرورة من ضروريَّات الدِّين، بالرغم من أنَّ هذه النظريَّة بُنيت على فرضيَّة فلسفيَّة، وروايات باطنيَّة ثابتة، ولم يظهر للإمام الثاني عشر المفترض أيّ أثر منذ أكثر من ألف عام، وهو ما دفع الشيعة منذ قرون إلى التخلِّي عن انتظاره، والتخلِّي عن النظريَّة الإماميَّة التي كانت تُعلِّق الاجتهاد في المسائل الحادثة، وتطبيق الأحكام الشرعيَّة على الإمام المعصوم المعيَّن من قِبَل الله من السلالة العلويَّة الحسينيَّة، ولذا فقد فتح الشيعة باب الاجتهاد في القرن الخامس الهجري (منذ أيَّام الشيخ المفيد والسيِّد المرتضى والشيخ الطوسي)، ثمّ قاموا بعد ذلك في القرون الأخيرة بالسماح للملوك الشيعة بالحكم كالصفويِّين والقاجاريِّين، وقالوا بولاية الفقيه وحلوله محلَّ الإمام في التشريع والقضاء والتنفيذ(٧).
وهذا ما يُؤكِّد انقراض النظريَّة الإماميَّة عمليًّا، ووصولها إلى طريق مسدود بغيبة، أو عدم وجود الإمام المعصوم المعيَّن من قِبَل الله لقيادة الأُمَّة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥) سيتَّضح لك أخي القارئ بطلان هذه الدعوى وما سبق، وما سيأتي من ردِّ الإخوة، وبالخصوص الأخ محمّد منصور.
(٦) لا أدري ما هي دواعي استغرابه، فهل هي بسبب ولادته؟ وهذا ما ستُثبِته الروايات المتواترة الصحيحة، أم استغرابه لطول عمره الشريف (عجَّل الله فرجه)؟ وهذا لا غرابة فيه مع وجود من هم أحياء قبله إلى يومنا هذا، من حُجَج الله كالنبيِّ عيسى (عليه السلام) والنبيِّ إدريس (عليه السلام) وغيرهما، والذي أعمارهم تفوق عمر الحجَّة (عجَّل الله فرجه) بمئات السنين.
(٧) هذا خلط وادِّعاء سيتَّضح بطلانه.
↑صفحة ١٨↑
الإسلاميَّة، وأنَّ الشيعة اليوم في غالبيَّتهم شيعة جعفريَّة، وليسوا بإماميَّة ولا اثني عشرية، وإنْ كان البعض يتوهَّم ذلك(٨).
لقد وُلِدَت النظريَّة الاثني عشرية المرتكزة على الإيمان بوجود وولادة الإمام الثاني عشر محمّد بن الحسن العسكري في أحضان الفلاسفة، والمتكلِّمين، والغلاة، والإخباريَّة، والحشويَّة، والصوفيَّة بعد وفاة آخر إمام من أئمَّة أهل البيت، وهو الحسن العسكري ولم يعرف بها الشيعة قبل ذلك التاريخ، ولا أئمَّة أهل البيت(٩)، وكانت تبتني على افتراضات فلسفيَّة تُحتِّم على الله أنْ يجعل في الأرض إماماً معصوماً معيَّناً من قِبَله، وأنْ يكون ذلك الإمام من نسل الحسن العسكري، بالرغم من أنَّ الإمام العسكري نفسه لم يشر إلى وجود ولد له في حياته، وأوصى عند وفاته بأمواله إلى أُمِّه، ولم يتحدَّث عن وجود ولد في السرِّ أو العلن(١٠)، ولكن الباطنيَّة فسَّروا صمته بالتقيَّة، وادَّعوا وجود ولد له في السرِّ والخفاء، وقالوا: إنَّه الإمام من بعده، وبشَّروا بقرب ظهوره. ومضت قرون ولم يظهر أيُّ أثر له، كما لم يقم بأيِّ دور تشريعي، أو سياسي في هذه الفترة الطويلة(١١).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٨) إنْ كان أحمد الكاتب كذلك، فلا يعني أنَّ الشيعة هم الكاتب أيضاً.
(٩) سينكشف لك أخي القارئ بطلان هذا الادِّعاء الكاذب، والذي لا يستند على أيِّ دليل كما ترى، وإنَّما مجرَّد خاطرات وكلمات أدبيَّة يحاول الكاتب تسطيرها.
(١٠) وكأنَّ الكاتب نسي أو تناسى الظروف الأمنيَّة والسرّيَّة التي كان يعيشها الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في تلك الفترة، والتي كانت بسبب الحصار والمراقبة، والتي فُرِضَت عليه (عليه السلام) من قِبَل النظام العبَّاسي الذي يترقَّب ولادة المهدي (عجَّل الله فرجه).
(١١) إنَّ كان الكاتب يزعم بأنَّه (عجَّل الله فرجه) لم يقم بأيِّ دور تشريعي أو سياسي لكونه غائباً عن الأنظار، فعليه أنْ يُنكِر دور الله (عزَّ وجلَّ)؛ ذلك لأنَّه غير ظاهر، وعليه أنْ يقول مقالة اليهود: ﴿يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ﴾ أي أنَّه انقطع عن الخلق.
↑صفحة ١٩↑
العوامل النفسيَّة لنشوء الفرضيَّة (المهدويَّة الاثني عشريَّة):
إذا قمنا بقراءة الرواية التاريخيَّة لما حدث للشيعة الإماميَّة بعد وفاة الإمام الحسن العسكري سنة (٢٦٠) هجريَّة، وألقينا نظرة على الدليل العقلي الذي قدَّمه ذلك الفريق الذي قال بوجود ولد مخفي للإمام، هو الإمام من بعده وهو المهدي المنتظر، فإنَّنا سنكتشف(١٢) أزمة نظريَّة مرَّ بها ذلك الفريق من الإماميَّة، ممَّن يشترط توارث الإمامة بصورة عموديَّة، وعدم جواز انتقالها إلى أخ أو ابن عمٍّ، واضطراره إمَّا إلى التنازل عن هذا الشرط، أو التسليم بانقطاع الإمامة بعد وفاة العسكري دون خلف، كما هو الظاهر من حياته، أو افتراض وجود ولد له في السرِّ، بالرغم من عدم التصريح به، أو الإعلان عنه، وتفسير هذا الغموض والكتمان بالتقيَّة والخوف من السلطة، بالرغم من عدم وجود مؤشِّرات تستدعي ذلك(١٣).
تقول الرواية التاريخيَّة التي يعترف بها وينقلها المؤرِّخون والمتكلِّمون (الاثنا عشريُّون): إنَّ الإمام العسكري تُوفِّي دون أنْ يُخلِّف ولداً ظاهراً، وأوصى بأمواله إلى أُمِّه المسمَّاة بـ (حديث)، وهذا ما سمح لأخيه جعفر بن عليٍّ الهادي بأنْ يدَّعي الإمامة من بعده ويدعو الشيعة الإماميَّة إلى اتِّباعه كخليفة له، كما اتَّبعوا الإمام موسى بن جعفر بعد وفاة أخيه الأكبر (عبد الله الأفطح) الذي أصبح إماماً لفترة من الوقت بعد الإمام الصادق، ولم ينجب ولداً تستمرُّ الإمامة في عقبه(١٤).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٢) في علم المنطق يقال: إذا كانت الصغرى والكبرى خاطئتين فالنتيجة تكون كذلك. فعدم التسليم بالإمامة السماويَّة وقراءة التاريخ بالمقلوب ممَّا لا شكَّ يُؤدِّي إلى هذه النتيجة التي توصَّل إليها الكاتب.
(١٣) ألم أقل لك: إنَّك لم تقرأ التاريخ؟ بل ولا أشمُّ فيك رائحة الصدق في المدَّعى.
(١٤) إذا كان الاثنا عشريَّة يشكُّون من أزمة إمام كما تدَّعي، فلماذا لم يتبنَّوا إمامة جعفر بن الإمام عليٍّ الهادي الذي ادَّعى الإمامة؛ أم أنَّ القضيَّة شيء آخر؟
↑صفحة ٢٠↑
ويقول النوبختي والأشعري القمِّي والمفيد: إنَّ كثيراً من الشيعة الإماميَّة لبُّوا نداء جعفر وكادوا يجمعون على القول بإمامته؛ وذلك لأنَّ عامَّة الشيعة لم يكونوا يعرفون أحداً غير جعفر من أبناء الإمام الهادي، ولم يكونوا شاهدوا أيَّ ولد للإمام العسكري، وهذا ما تُؤكِّده رواية (أبي الأديان البصري) رسول الإمام العسكري إلى أهل المدائن، الذي كان آخر شخص يُودِّع الإمام، والذي يقول: إنَّ العسكري لم يُخبره باسم خليفته، وإنَّما أعطاه بعض العلامات للتعرُّف عليه، ويقول: إنَّه عاد إلى سامرَّاء يوم وفاة الإمام العسكري، فرأى جعفراً وحوله عامَّة الشيعة، وعلى رأسهم عثمان بن سعيد العمري، وهم يعزُّونه ويُهنِّئونه، وأنَّه ذهب وعزَّاه وهنَّأه كواحد منهم، كما يقول: إنَّ وفداً من شيعة قم قِدَموا في ذلك اليوم إلى سامرَّاء، وسألوا عن الإمام الحسن وعرفوا موته، فقالوا: من نُعزِّي؟ فأشار الناس إلى جعفر، فسلَّموا عليه وعزّوه وهنَّئوه.
وهو ما تُؤكِّده أيضاً رواية (سنان الموصلي) التي تتحدَّث عن قدوم وفد بقيادة أبي عبَّاس محمّد بن جعفر الحميري القمِّي إلى سامرَّاء، بعد وفاة الإمام العسكري، وسؤالهم عنه وعن وارثه، وقول الناس لهم: إنَّ وارثه جعفر بن عليٍّ. وعدم وجود مانع يحول دون القول بإمامته سوى عدم معرفته بعلم الغيب.
وبناءً على ذلك فقد أرسل جعفر إلى أهل قم - التي كانت مركزاً للشيعة يوم ذاك - يدعوهم إلى نفسه، ويُعلِمهم أنَّه القيِّم بعد أخيه. وقد اجتمع أهل قم عند شيخهم (أحمد بن إسحاق) وتداولوا في الموضوع، وقرَّروا إرسال وفد إليه لمناقشته وسؤاله بعض المسائل التي كانوا يسألون آبائه عنها من قبل والتأكُّد من دعواه. كما يقول الخصيبي في (الهداية الكبرى)، والصدوق في (إكمال الدِّين)، والطبرسي في (الاحتجاج)، والصدر في (الغيبة الصغرى).
ممَّا يعني أنَّ أهل قم لم يكونوا يعرفون بوجود للإمام العسكري، ولم
↑صفحة ٢١↑
يكونوا يعرفون هويَّة الإمام الجديد من قبل، ولم يكن يوجد لديهم أيُّ مانع لقبول إمامة جعفر بن عليٍّ، أي إنَّهم لم يكونوا يلتزمون بقانون الوراثة العموديَّة في الإمامة، ويُجيزون إمامة الأخوين.
وكانت العقبة الرئيسيَّة التي حالت دون إيمان بعض الشيعة بإمامة جعفر هو المبدأ القديم المشكوك فيه الرافض لاجتماع إمامين في أخوين بعد الحسن والحسين، وقد طرحه وفد قم على جعفر بن عليٍّ أثناء الحوار، فأجابهم بـ: (إنَّ الله قد بدا له في ذلك)، كما يقول الخصيبي في (الهداية الكبرى)، وتقول بعض الروايات التي ينقلها الصدوق، والطوسي: إنَّ وفد قم طالب جعفراً بالكشف عن كمّيَّة الأموال التي كان يحملها معه وأسماء أصحابها، غيبيًّا، كما كان يفعل أخوه العسكري، وإنَّ جعفراً رفض ذلك الطلب والادِّعاء، واتَّهم الوفد بالكذب على أخيه، وأنكر نسبة علم الغيب إليه.
كما تحاول بعض الروايات أنْ تتَّهم جعفراً بالفسق وشرب الخمر والجهل وإهمال الصلاة وذلك في محاولة لإبطال دعواه في الإمامة، ولكن عامَّة الشيعة لم يأخذوا بتلك الاتِّهامات، ولم يطرحوا مسألة علم الغيب، وقد عزّوه وهنَّئوه بالإمامة، وكانت المشكلة الرئيسيَّة لدى البعض منهم هي مسألة: (الجمع بين الأخوين في الإمامة). وقد ارتكز الطوسي عليها في عمليَّة الاستدلال على نفي إمامة جعفر وافتراض وجود ابن الحسن، وادَّعى عدم الخلاف حولها بين الإماميَّة(١٥).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٥) إنَّ عدم التسليم لجعفر بالإمامة كما تدَّعي لسبب مشكلة رئيسيَّة وهي الجمع بين الأخوين. هذه، إذا كان الشيعة في ورطة وأزمة فلماذا لم يتجاوزوا هذه المشكلة ويحلُّوها بدل أنْ يختاروا أمراً معقَّداً كما هم عليه؟ فهذا إنْ دلَّ فإنَّما يدلُّ على أمر أعمق ولكن من ينظر إلى الأُمور بمنظار سطحي كما تنظر فمن الصعب جدًّا أنْ يصل إلى الحقائق التي تسمو عن هذه الأُمور.
↑صفحة ٢٢↑
وكانت هذه المشكلة قد تفجَّرت في صفوف الشيعة الإماميَّة - لأوَّل مرَّة - بعد وفاة الإمام عبد الله الأفطح بن جعفر الصادق، الذي أجمع فقهاء الشيعة ومشايخهم على القول بإمامته بعد أبيه، ولكنَّه تُوفِّي دون عقب، ممَّا أوقع الشيعة الإماميَّة في أزمة وفرَّقهم إلى ثلاث فِرَق، فمنهم من تمسَّك بمبدأ: (عدم جواز الجمع بين الأخوين في الإمامة)، واضطرَّ إلى افتراض وجود ولد موهوم لعبد الله قال: إنَّ اسمه (محمّد) وهو مخفي، وإنَّه سيظهر في المستقبل، ومنهم من تجاوز هذا المبدأ وأجاز لنفسه الانتقال إلى الأخ إذا لم يكن للإمام السابق ولد، وقال نتيجةً لذلك بإمامة موسى بن جعفر بعد أخيه عبد الله الأفطح، ومنهم من تراجع عن القول بإمامة الأفطح، واستنتج من عدم وجود عقب له: أنَّه لم يكن إماماً وشطب اسمه من قائمة الأئمَّة.
وقد تكرَّرت هذه المشكلة مرَّة أُخرى عند وفاة الإمام الحسن العسكري دون ولد، ممَّا أدَّى إلى اختلاف الشيعة الإماميَّة حول مسألة الخلف إلى عدَّة فِرَق: فمنهم من جمع بين الأخوين وقال بإمامة جعفر بعد أخيه الحسن، ومنهم من تراجع عن القول بإمامة العسكري وقال: (إنَّ القول بإمامة الحسن كان غلطاً وخطأً، وجب علينا الرجوع عنه إلى إمامة جعفر، وإنَّ الحسن قد تُوفِّي ولا عقب له فقد صحَّ عندنا أنَّه ادَّعى باطلاً لأنَّ الإمام بإجماعنا جميعاً لا يموت إلَّا عن خلف ظاهر معروف يوصي إليه ويقيمه مقامه بالإمامة، والإمامة لا ترجع في أخوين بعد الحسن والحسين.. فالإمام لا محالة جعفر بوصيَّة أبيه إليه) كما يقول النوبختي في (فِرَق الشيعة)، والأشعري القمِّي في (المقالات والفِرَق).
ومنهم من أصرَّ على إمامة الحسن والتمسُّك الشديد بذلك المبدأ أو الشعار الرافض للجمع بين الأخوين في الإمامة. وانقسم هؤلاء إلى عدَّة أقسام: فمنهم من قال بمهدويَّة العسكري وغيبته، ومنهم من قال برجوعه إلى الحياة بعد
↑صفحة ٢٣↑
الموت، ومنهم من قال بالفترة، ومنهم من احتار وتوقَّف، وقال: (لم يصحّ عندنا أنَّ للحسن خلفاً، وخفي علينا أمره، ونحن نتوقَّف ونتمسَّك بالأوَّل حتَّى يتبيَّن لنا الآخر، كما أُمرنا: أنَّه إذا هلك الإمام ولم يُعرَف الذي بعده، فتمسَّكوا بالأوَّل حتَّى يتبيَّن لكم الآخر. فنحن نأخذ بهذا ونلزمه، ولا نُنكِر إمامة أبي محمّد ولا موته، ولا نقول: إنَّه رجع بعد الموت، ولا نقطع على إمامة أحد من ولد غيره؛ فإنَّه لا خلاف بين الشيعة: إنَّه لا تثبت إمامة إمام إلَّا بوصيَّة أبيه إليه وصيَّة ظاهرة).
ومنهم من وجد نفسه مضطرًّا لافتراض وجود ولد مخفي للإمام العسكري، وقال: إنَّه الإمام من بعده، وإنَّه المهدي المنتظر، وفسَّر عدم إشارة أبيه إليه في حياته وعدم وصيَّته إليه، وعدم ظهوره من بعده، وغيبته.. فسَّر كلَّ ذلك بالتقيَّة والخوف من الأعداء.
وكان الدافع الرئيسي لهذا القول هو التمسُّك الشديد بقانون الوراثة العموديَّة، وعدم جواز انتقال الإمامة إلى أخوين بعد الحسن والحسين. وبالرغم من أنَّه كان قولاً ضعيفاً ولم يجمع الشيعة الإماميَّة عليه في ذلك الوقت، خلافاً لما ادَّعى الطوسي بعد ذلك بمائتي عام، فإنَّ المتكلِّمين الذين التزموا به، جعلوا منه حجر الزاوية في عمليَّة الاستدلال على وجود (ابن) للإمام الحسن العسكري. وقد نسجوا منه ومن بقيَّة القضايا الفلسفيَّة التي توجب العصمة في الإمام أو توجب النصَّ في أهل البيت دليلاً أسموه بـ (الدليل العقلي، أو الفلسفي).
وقد استعرضنا في الفصل الأوَّل أقوال المتكلِّمين والمؤرِّخين الذين استدلُّوا بالعقل على وجود وولادة محمّد بن الحسن العسكري وكان دليلهم يعتمد على نظريَّة العصمة والنصِّ والوراثة العموديَّة في الإمامة. ولكن دليلهم الوراثة العموديَّة، وذلك لأنَّ الكثير في الحقيقة كان يعتمد فقط على المبدأ الأخير من الشيعة
↑صفحة ٢٤↑
الإماميَّة (الفطحيَّة) الذين كانوا يتَّفقون معهم في الإيمان بالعصمة والنصِّ ويؤمنون بإمامة الحسن العسكري أيضاً، لم يجدوا أنفسهم مضطرِّين للإيمان بوجود ولد له في السرِّ، خلافاً للظاهر، وآمنوا بدلاً من ذلك بإمامة أخيه جعفر بن عليٍّ الهادي؛ لأنَّهم لم يكونوا يؤمنون بقوَّة بضرورة الوراثة العموديَّة وعدم جواز إمامة الأخوين.
إذن.. فإنَّ الدليل العقلي كان أشبه بالافتراض الفلسفي العاري عن الإثبات التاريخي. وكان ذلك يتجلَّى في استناد بعض المتكلِّمين على الحديث الرضوي القائل: «إنَّ صاحب هذا الأمر لا يموت حتَّى يرى ولده من بعده» لإثبات وجود الولد للإمام العسكري، كما ينقل الشيخ الطوسي في (الغيبة).
بالرغم من إمكانيَّة الاستدلال بنفس الحديث لنقض إمامة العسكري، كما فعل قسم من الشيعة الذين تراجعوا عن القول بإمامة العسكري، واتَّخذوا من عدم إنجابه ولداً تستمرُّ الإمامة فيه دليلاً على عدم صحَّة إمامته، كما تراجع الشيعة الموسويَّة، في منتصف القرن الثاني، عن القول بإمامة عبد الله الأفطح؛ لأنَّه لم ينجب، وشطبوا اسمه من قائمة الأئمَّة(١٦).
واعتبر ذلك الفريق من الشيعة التراجع عن إمامة العسكري والقول بإمامة جعفر بعد أبيه الهادي مباشرةً، أهون من افتراض ولد موهوم للعسكري. والغريب أنَّ السيِّد المرتضى علم الهدى يتَّهم الذين قالوا بوجود ولد للإمام عبد الله الأفطح، باللجوء إلى اختراع شخصيَّة وهميَّة اضطراراً من أجل الخروج من الحيرة والطريق المسدود، ولكنَّه يمارس نفس الشيء في عمليَّة افتراض وجود ابن للحسن العسكري، وذلك اضطراراً من أجل الخروج من الحيرة التي عصفت بالشيعة الإماميَّة في منتصف القرن الثالث الهجري.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٦) من يقرأ مقالتك يرى كأنَّ هذا من المسلَّمات والبديهيَّات، ولكن سينكشف للقارئ الكريم أنَّ ما تنسجه ما هو إلَّا كبيت العنكبوت لا يصمد أمام أبسط بيان.
↑صفحة ٢٥↑
ولا بدَّ بعد ذلك من الإشارة إلى أنَّ تسمية عمليَّة الاستدلال النظري على وجود ابن للحسن العسكري، بالدليل (العقلي) هو من باب التسامح والاستعارة، وإلَّا فإنَّه أبعد ما يكون عن الاستدلال العقلي، إذ يعتمد على مجموعة مقولات نقليَّة، وبعضها أخبار آحاد بحاجة إلى إثبات الدلالة والسند كمقولة: (الوراثة العموديَّة وعدم جواز انتقال الإمامة إلى أخوين بعد الحسن والحسين)(١٧).
ومن هنا فقد اعترف الشيخ الصدوق في (إكمال الدِّين) وقال: (إنَّ القول بغيبة صاحب الزمان مبنيٌّ على القول بإمامة آبائه... وإنَّ هذا باب شرعي وليس بعقلي محض).
وهذا يعني أنَّ المناقشة في أيَّة مقدَّمة من مقدَّمات الدليل (العقلي) الطويلة كضرورة العصمة في الإمام، وضرورة النصِّ عليه من الله، وثبوت الإمامة في أهل البيت وانحصارها في البيت الحسيني، وكيفيَّة انتقالها من إمام إلى إمام، ودعاوى بقيَّة الأئمَّة الذين ادَّعوا الإمامة والمهدويَّة، كمحمّد بن الحنفيَّة وابنه أبي هاشم، وزيد بن عليٍّ، ومحمّد بن عبد الله ذي النفس الزكيَّة، وإسماعيل بن جعفر وأبنائه، وعبد الله الأفطح، ومحمّد بن عليٍّ الهادي.. وما إلى ذلك من التفاصيل الجزئيَّة في نظريَّة الإمامة الإلهيَّة، من البداية إلى تلك المقدَّمات تسدُّ الطريق على الوصول إلى فرضيَّة (وجود ابن الحسن العسكري).
ومن هنا كان إثبات وجود (الإمام المهدي محمّد بن الحسن العسكري) بصورة عقليَّة لسائر الناس أو سائر المسلمين، أو سائر الفِرَق الشيعية، أو حتَّى لسائر الفِرَق الإماميَّة التي لم توافق على مبدأ: (الوراثة العموديَّة) صعباً أو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٧) من يسمعك تتكلَّم عن الدلالة والسند، يظنُّ أنَّك ذو باع في الجرح والتعديل، ولكن لا أقول لك إلَّا أنَّنا في بداية الأمر.
↑صفحة ٢٦↑
مستحيلاً.. ولذلك كان علماء الكلام (الاثنا عشريُّون) يمتنعون عن خوض النقاش مع سائر الناس حول إثبات وجود (ابن الحسن) إلَّا بعد التسليم بالمقدَّمات النقليَّة الطويلة السابقة، والإيمان بكلِّ واحدة منها.
وقد قال عبد الرحمن بن قبة الرازي في الردِّ على عليِّ بن أحمد بن بشَّار: (لا نتكلَّم في فرع لم يثبت أصله، وهذا الرجل - ابن الحسن - الذي تجحدون وجوده، فإنَّما يثبت له الحقُّ بعد أبيه.. فلا معنى لترك النظر في حقِّ أبيه والاشتغال بالنظر معكم في وجوده، فإذا ثبت الحقُّ لأبيه، فهذا ثابت ضرورةً عند ذلك بإقراركم، وإنْ بطل أنْ يكون الحقُّ لأبيه فقد آل الأمر إلى ما تقولون، وقد أبطلنا).
وقال السيِّد المرتضى: (إنَّ الغيبة فرع لأصول إنْ صحَّت فالكلام في الغيبة أسهل شيء وأوضحه، إذ هي متوقِّفة عليها، وإنْ كانت غير صحيحة فالكلام في الغيبة صعب غير ممكن)(١٨).
ومع أنَّ التسليم بإمامة الحسن العسكري لا يُؤدِّي بالضرورة إلى التسليم بوجود ولد له، فإنَّ القول بذلك مبنيٌّ على ضرورة استمرار الإمامة الإلهيَّة إلى يوم القيامة وبوجوب توارثها بصورة عموديَّة. وهو ليس إلَّا افتراض وهمي، وظنٌّ بغير علم.
ولذا يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في كتابه (المهدي: الثورة الكبرى): (إنَّ الاستدلال الفلسفي يمكن أنْ يُثبِت قضايا كلّيَّة عامَّة، ولكنَّه لا يستطيع أنْ يضع إصبعه على إنسان في الخارج، ويُثبِت وجوده)(١٩).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٨) الظاهر أنَّ عبارة السيِّد المرتضى (رضي الله عنه) تحتاج إلى شرح بالرغم من بداهتها ليفهمها الكاتب، وأترك التعليقات لاكتفائي بجواب الإخوة المحاورين.
(١٩) خلاصة المقال: أنَّ الكاتب ألقى الكلام على عواهنه، كما أنَّه خلط الحابل بالنابل، ومن الملاحظ أنَّه سرد تاريخاً - زعمه - بصورة أدبيَّة ثقافيَّة، وكأنَّه نسي أنْ يأتي بدليل واحد على مدَّعاه، وما أتى به من أقوال العلماء شاهد على سطحيَّة فهمه وفكره. ولا أدري هل القارئ يصل إلى نتيجة من المقال، أم أنَّ الكاتب إلى الآن لا يدري ماذا يريد؟!
↑صفحة ٢٧↑
حُرِّر بتاريخ (١٦/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٠:٠٥) صباحاً.
العاملي عضو:
هذا كلام فيه عدَّة تُهَم وادِّعاءات ومواضيع مخلوطة، بعضها تاريخي، وبعضها شخصي، وبعضها عقلي..
فحدِّد المسألة التي تريد بحثها، ولا تتكلَّم مخلوطاً موزَّعاً، إنْ كنت تحترم نفسك.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٦/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٠:٤٠) صباحاً.
التلميذ عضو:
الحقُّ ما قاله الأُستاذ العاملي، فخلط الحابل بالنابل حيلة العاجز، فإنْ كنت تريد الحوار والمناقشة، فلا بدَّ من طرح هذه المسائل واحدة واحدة، والجميع هنا على استعداد لدحض جميع إشكالاتك الواهية، ولنبدأ من العنوان فقط، فنحن نُثبِت أنَّ الإمام المهدي حقيقة تاريخيَّة لا فرضيَّة فلسفيَّة مستندين إلى كمٍّ هائل من الأدلَّة لإثبات هذه الحقيقة، ولكن ما هو رأيك أنت أوَّلاً؟ هل المهدي حقيقة تاريخيَّة أم فرضيَّة فلسفيَّة؟ فإنْ كنت اخترت الأُولى، فنحن متَّفقون، وإنِ اخترت الثانية، فهات أدلَّتك على ذلك، والسلام.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٦/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٤:٣٦) مساءً.
محمّد منصور عضو:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أمَّا بعد..
إنَّني شخصيًّا على معرفة بك وأعرف مستواك العلمي والدرجة التي
↑صفحة ٢٨↑
وصلت إليها في العلوم الدِّينيَّة عن قرب، وهي درجة لا تُؤهِّلك الدخول إلى البحوث التخصُّصيَّة في تلك العلوم، وإنْ لم يكن الباب مسدوداً للحوار والنقاش؛ لأنَّ اللازم هو اعتماد المقدَّمات للنتائج بإتقان! فخذ مثلاً يغنيك الأمثلة وهو أنَّك ادَّعيت في كتابك عن الإمام (عليه السلام)، أنَّ (محمّد بن زياد) الذي هو من الرواة أنَّه رجل مهمل لا توثيق له في كُتُب رجال الشيعة، بينما هو اسم (لابن أبي عمير) الذي هو من عمالقة الفقه الشيعي، وكبار زُهَّادهم ومحدِّثيهم!
وما ذكرته من المقال فيه خمسة عشر محوراً لم تتقن بحثه بحسب الموازين العلميَّة التخصُّصيَّة، فمنها ما يرتبط بعلم أُصول الفقه وتفسير الحجّيَّة للعقل والنقل وحدود دائرة كلٍّ منهما، ومنه ما يرتبط بعلم الحديث وضوابط الجرح والتعديل وكيفيَّة توثيق المصادر، ومنها ما يرتبط بعلم الكلام وعلوم المعارف في تفسير الإمامة والإمام، ومنها ما يرتبط بكيفيَّة البحث التاريخي وكيفيَّة اعتماد المصادر فيه.
وإجمالاً قد اعتمدت الألفاظ المذكورة على التهويل بأُسلوب أدبي شاعري والتضخيم في المعاني!
ولقد كنت أعرفك منذ كتابتك في مجلَّة (الشهيد) تمتاز بالكتابة الصحفيَّة الأدبيَّة دون البحوث العلميَّة المعمَّقة!
وأنا على استعداد لعرض تلك المحاور معك تنبيهاً على ضرورة التخصُّص في البحوث العلميَّة ونحن في بدء الألفيَّة الثالثة من تمدُّن البشريَّة، والسلام.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٦/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٢:٠٧) مساءً.
التلميذ عضو:
أحمد الكاتب، الرجاء أنْ تذكر لنا جميع الأدلَّة التي تستند عليها لإثبات أنَّ مسألة الإيمان بالمهدي فرضيَّة فلسفيَّة لا حقيقة تاريخيَّة؟
↑صفحة ٢٩↑
كما نرجو أنْ لا تتجاهل أسئلة الأُستاذ العاملي وتتهرَّب منها، وما دمت أردت الحوار، فلا تلجأ إلى الأساليب الملتوية؛ فما كتبه العاملي واضح لا يحتاج منك إلى ردٍّ.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٦/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٢:٥٤) مساءً.
التلميذ عضو:
أيُّها الكاتب: وإذا أثبتنا لك وبسند صحيح أنَّ الإمام العسكري اعترف أنَّ له ولداً فماذا تقول؟
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٦/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٣:٠٢) مساءً.
العاملي عضو:
الحمد لله الذي كشف جهل مدَّعي العلم أو كذبه أو كليهما.
اُنظروا إلى تأكيده الآنف الذكر، أنَّه لا يوجد في (بصائر الدرجات) حديث عن الأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام)، وانظروا إلى هذين الحديثين الصريحين:
في بصائر الدرجات (ص ٣٣٩):
حدَّثنا أبو طالب، عن عثمان بن عيسى، قال: كنت أنا وأبو بصير ومحمّد بن عمران مولى أبي جعفر بمنزله في مكَّة، قال: فقال محمّد بن عمران: سمعت أبا عبد الله يقول: «نحن اثنا عشر محدَّثاً».
قال له أبو بصير: والله لسمعت من أبي عبد الله؟!
قال: فحلَّفه مرَّة واثنتين أنَّه سمعه.
قال: فقال أبو بصير: كذا سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول.
وفي بصائر الدرجات (ص ٣٤٠):
↑صفحة ٣٠↑
حدَّثنا عليُّ بن حسَّان، عن موسى بن بكر، عن حمران، عن أبي جعفر، قال: قال رسول الله: «من أهل بيتي اثنا عشر محدَّثاً».
فقال له عبد الله بن زيد كان أخا عليٍّ لأُمِّه: سبحان الله كان محدَّثاً؟! كالمنكر لذلك.
فأقبل عليه أبو جعفر فقال: «أمَا والله وإنَّ ابن أُمِّك بعد وقد كان يعرف ذلك».
قال: فلمَّا قال ذلك سكت الرجل، فقال أبو جعفر: «هي التي هلك فيها أبو الخطَّاب، لم يدر تأويل المحدَّث والنبيِّ»!
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٦/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٣:٤٠) مساءً.
عبد الحسين البصري عضو:
أرى كلَّ ما سطره أحمد الكاتب ما هو إلَّا خطأ في المنهجيَّة.
وعليه يجب البحث في الإمامة أوَّلاً، ثمّ البحث فيما ذكره؛ لأنَّها فروع لا بدَّ من إقرار الأُصول لها، وقد أجاد الأخ العاملي في أسئلته. ونحن بانتظار الجواب.
اللَّهُمَّ ثبِّتنا على ولاية محمّد وآل محمّد. اللَّهُمَّ آمين يا ربَّ العالمين.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٦/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٣:٥٧) مساءً.
التلميذ عضو:
إنَّ قول أحمد الكاتب: (إنَّ الأئمَّة لم يكونوا يعرفون لمن الأمر بعدهم إلَّا قبل وفاتهم بقليل) يُكذِّبه الخبر الصحيح الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام)، الذي رواه الكليني والصفَّار عن عمرو بن مصعب وعمرو بن الأشعث وأبي بصير
↑صفحة ٣١↑
وسدير ومعاوية بن عمَّار أنَّ أبا عبد الله (عليه السلام) قال لهم: «أترون أنَّ الموصي منَّا يوصي إلى من يريد، لا والله، ولكنَّه عهد معهود من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى رجل فرجل»، حتَّى انتهى إلى نفسه. وفي لفظ آخر: «إلى أنْ ينتهي إلى صاحب هذا الأمر». والحديث واضح الدلالة على أنَّ الأئمَّة معروفون مشخَّصون، وكلُّ إمام يعرف الإمام الذي يليه، وذلك بعهد من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لا أنَّه يعرف قبل وفاته بقليل لمن الأمر بعده، كما يدَّعي هذا الكاتب.
اُنظر: الكافي (ج ١/ ص ٢٧٧)، وبصائر الدرجات للصفَّار (ص ٤٧٠).
* * *
الشيعة لم يجمعوا على وجود خلف للإمام العسكري (عليه السلام):
حُرِّر بتاريخ (١٦/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١١:٤٣) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
الأخ التلميذ المدافع عن الحقيقة المحترم.
السلام عليكم ورحمة الله.
طبعاً إذا أُثبت لي موضوع وجود ابن للإمام الحسن العسكري فإنِّي سوف أعترف بذلك وأذعن وهذا ما أبحث(٢٠) عنه، وقد سألت ذلك من قبل من كثير من العلماء ولم أجد لديهم جواباً، وبحثت عنه في الكُتُب فوجدت بعض العلماء والجيل الأوَّل يُصرِّح بأنَّ القول به تمَّ عن طريق الفلسفة والعقل والاعتبار والاجتهاد قبل أنْ يتمَّ عن طريق الأدلَّة التاريخيَّة والروايات الصحيحة(٢١).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٠) أرجو أنْ يكون ذلك صحيحاً عندما يعرض الإخوة الأدلَّة القاطعة، والروايات الصحيحة التي تُثبِت ذلك. وممَّا لاحظه القارئ الكريم بأنَّه عُرِضَت عليك الروايات الصحيحة ولم تجب بالنفي أو الإثبات، ولا أدري ماذا يعني ذلك، هل أنَّك سلَّمت بصحَّتها؟ وإذا كان كذلك فلِمَ واصلت نفس الإشكالات، وإذا كانت غير صحيحة فلِمَ لم تردّها؟!
(٢١) هذه دعوى باطلة، وسيتَّضح بطلانها من خلال الحوار.
↑صفحة ٣٢↑
وحتَّى أُلقي عن كاهلك بعض العناء فسأقوم باستعراض مختلف الأدلَّة العقليَّة والنقليَّة والتاريخيَّة الواردة حول الموضوع، وإذا كان لديك أيَّة إضافة فتفضَّل بها مشكوراً(٢٢)، ثمّ أقوم بمناقشتها بعد ذلك دليلاً دليلاً(٢٣).
وأرجو أنْ تفتح لي قلبك وتنظر إلى ما أقول بعين محايدة فإنَّ هدفنا هو ليس التعصُّب لما ورثناه أو قلناه من قبل وإنَّما الوصول إلى الحقيقة وإلى فكر أهل البيت السليم.
ولست أدري فيما إذا كنت قد قمت بدراسة تاريخ الغيبة الصغرى وما حدث في أعقاب وفاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) من حيرة وتفرُّق وضياع لدى الشيعة الإماميَّة.
نحن لا نتحاور الآن في غرفة مغلقة وإنَّما أمام الإخوة القُرَّاء بصورة حيَّة وإذا قلت كلاماً حقًّا ورفضته أنت فسوف يأخذ به القُرَّاء المشاركون. ومن هنا فإنِّي أرجو منك أنْ تبذل قصارى جهودك لتوفير الأدلَّة والبراهين على ما تقول، فربَّما أقنعتني وربَّما أقنعك وإذا لم يقتنع أحدنا برأي الآخر فربَّما يقتنع القُرَّاء المشاركون.
عصر الحيرة! وفاة الإمام العسكري (عليه السلام):
أدَّت وفاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في سامرَّاء سنة (٢٦٠) للهجرة، دون إعلانه عن وجود خلف له، والوصيَّة إلى أُمِّه المسمَّاه بـ (حديث) إلى تفجُّر أزمة عنيفة في صفوف الشيعة الإماميَّة الموسويَّة الذين كانوا يعتقدون بضرورة استمرار الإمامة الإلهيَّة إلى يوم القيامة، وحدوث نوع من الشكِّ والحيرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٢) الكلام كلُّ الكلام في نقل الكاتب والذي سيتَّضح للقارئ الكريم بأنَّه ينقل ما يريد وما ينفعه ويترك ما لا ينفعه، وهو عبارة أُخرى عن التقطيع الذي التزمه الكاتب في النقل.
(٢٣) سنرى هل ستتمُّ هذه المناقشة أم أنَّها مجرَّد ادِّعاء؟
↑صفحة ٣٣↑
والغموض والتساؤل عن مصير الإمامة بعد العسكري، وتفرُّقهم في الإجابة على ذلك إلى أربع عشرة فرقة. كما يقول النوبختي في (فِرَق الشيعة)، وسعد بن عبد الله الأشعري القمِّي في (المقالات والفِرَق)، وابن أبي زينب النعماني في (الغيبة)، والصدوق في (إكمال الدِّين)، والمفيد في (الإرشاد)، والطوسي في (الغيبة)، وغيرهم وغيرهم.
ويقول المؤرِّخون الشيعة: إنَّ جعفر بن عليٍّ الهادي أخا الحسن حاول أنْ يحوز كلَّ تركة الإمام، ولـمَّا اتَّصل خبر وفاة الحسن بأُمِّه وهي في المدينة خرجت حتَّى قَدِمَت (سُرَّ من رأى) وادَّعت الوصيَّة. وثبت ذلك عند القاضي.
ويذكر المؤرِّخون الشيعة أيضاً: أنَّ جارية للإمام العسكري تُسمَّى: (صقيل) ادَّعت أنَّها حامل منه، فتوقَّفت قسمة الميراث. وحمل الخليفة المعتمد الجارية صقيل إلى داره، وأوعز إلى نسائه وخدمه ونساء الواثق ونساء القاضي ابن أبي الشوارب بتعهُّد أمرها والتأكُّد من حملها واستبرائها.. ولم يزل الذين وُكِّلوا بحفظ الجارية ملازمين لها حتَّى تبيَّن لهم بطلان الحمل فقُسِّم ميراث الحسن بين أُمِّه وأخيه جعفر.
ادِّعاء جعفر بن عليٍّ بالإمامة:
ولـمَّا كانت الإمامة تثبت عادةً بالوصيَّة من الإمام السابق للَّاحق، فقد استغلَّ أخو الإمام العسكري جعفر بن عليٍّ الهادي، الذي كان ينافس أخاه على الإمامة في حياته، استغلَّ الفراغ الظاهري بعدم وجود ولد لأخيه وعدم وصيَّته أو إشارته إلى أحد، فادَّعى الإمامة لنفسه وقال للشيعة: مضى أخي ولم يُخلِّف أحداً لا ذَكَراً ولا أُنثى، وأنا وصيُّه، وكتب إلى بعض الموالين في قم - التي كانت مركزاً للشيعة يوم ذاك- يدعوه فيها إلى نفسه، ويُعلِمه أنَّه القيِّم بعد أخيه، ويدَّعي أنَّ عنده من علم الحلال والحرام ما يحتاج إليه غيره وغير ذلك من العلوم كلِّها.
↑صفحة ٣٤↑
وينقل الصدوق في إكمال الدِّين (ص ٤٧٥) حديثاً عن أبي الأديان البصري - الذي يصفه بأنَّه خادم الإمام العسكري ورسوله إلى الشيعة في مختلف الأمصار -: أنَّ عامَّة الشيعة عزّوا جعفراً وهنَّئوه، وكان من ضمنهم (النائب الأوَّل): عثمان بن سعيد العمري.
ويذكر النوبختي والأشعري القمِّي والمفيد(٢٤): أنَّ بعض شيعة الإمام العسكري، اعترفوا بالظاهر، وسلَّموا بعدم وجود ولد للعسكري، وآمنوا بإمامة أخيه جعفر، وذهبوا في ذلك إلى بعض مذاهب الفطحيَّة الذين جمعوا بين إمامة عبد الله وموسى ابني جعفر الصادق، والذين لم يكونوا يشترطون الوراثة العموديَّة دائماً في الإمامة.
وكان رئيس هؤلاء والداعي لهم إلى ذلك رجل من أهل الكوفة يقال له: (عليُّ بن الطاحي الخزَّاز) وعلماء بني فضَّال، وأُخت الفارس بن حاتم بن ماهويه القزويني.
وكاد أهل قم أنْ يستجيبوا لجعفر، لأنَّهم لم يكونوا يعرفون غيره، وقد اجتمعوا إلى شيخهم أحمد بن إسحاق وكتبوا إلى جعفر كتاباً جواباً عن هذه المسائل، طلبوا منه فيها أنْ يجيبهم على عدَّة مسائل قالوا: إنَّ أسلافنا سألوا عنها آباءك وأجابوا عنها بأجوبة وهي عندنا نقتدي بها ونعمل عليها، فأجبنا عنها بمثل ما أجاب عنها آباؤك المتقدِّمون، حتَّى نحمل إليك الحقوق التي كنَّا نحملها إليهم، وأرسلوا وفداً إلى جعفر لمحاورته، فأوصل الكتاب وسأله في البداية عن كيفيَّة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٤) اُنظر (ص ٢١) ترى التباين واضحاً إذ قال هناك: (ويقول النوبختي والأشعري القمِّي والمفيد: إنَّ كثيراً من الشيعة الإماميَّة لبُّوا نداء جعفر وكادوا يجمعون على القول بإمامته...)، ثمّ قال الكاتب في (ص ٢٢): (فرأى جعفراً وحوله عامَّة الشيعة وعلى رأسهم عثمان بن سعيد العمري وهم يعزُّونه ويُهنِّئونه) بينما هنا في هذه الصفحة نسب للنوبختي والأشعري القمِّي والمفيد: (إنَّ بعض شيعة الإمام العسكري اعترفوا بالظاهر وسلَّموا بعدم وجود ولد له وآمنوا بإمامة أخيه جعفر).
↑صفحة ٣٥↑
انتقال الإمامة إليه مع وجود خبر يقول بعدم جواز انتقال الإمامة إلى أخوين بعد الحسن والحسين، فاعتذر جعفر بالبداء من الله، لعدم وجود ولد لأخيه الحسن.
ويقول الخصيبي في (الهداية الكبرى): إنَّ الوفد أقام عليه مدَّة يسأله عن جواب المسائل فلم يجب عنها، ولا عن الكتاب بشيء منه أبداً.
ولكن الصدوق والطوسي والصدر لا يتحدَّثون عن هذه المشكلة البسيطة التي لا تصعب على من يدَّعي الإمامة مثل جعفر(٢٥)، وإنَّما يقولون: إنَّ الوفد سأل جعفراً عن الغيب وطالبه بإخباره عن كمّيَّة الأموال التي يحملها من قم وعن أصحابها، وقال: إنَّ الحسن كان يُخبرهم بذلك، فرفض جعفر التحدُّث بالغيب واستنكر نسبته إلى أخيه.
ويقول الخصيبي: إنَّ جماعة من أهل قم هم: أبو الحسن بن ثوابة، وأبو عبد الله الجمَّال، وأبو عليٍّ الصائغ، والقزويني، كانوا يأخذون الأموال من الشيعة باسم جعفر ويأكلونها ولا يوصلونها إليه ويتَّهمونه بالكذب، ممَّا يشير إلى أنَّ قسماً من شيعة قم قد آمنوا بإمامة جعفر بالفعل وأخذوا يرسلون إليه الأموال.
القائلون بانقطاع الإمامة:
كما يقول النوبختي والأشعري القمِّي والكليني والمفيد والطوسي والصدوق والحرُّ العاملي: إنَّ قسماً من الشيعة الإماميَّة ذهبوا إلى القول بالتوقُّف وانقطاع الإمامة والقول بالفترة كالفترة بين الرُّسُل، وإنَّهم اعتلُّوا في ذلك ببعض الأخبار عن الإمامين الباقر والصادق حول إمكانيَّة ارتفاع الأئمَّة وانقطاع الإمامة، خاصَّةً إذا غضب الله على خلقه، وقالوا: إنَّ هذا عندنا ذلك الوقت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٥) هذا الكلام فاسد إذ جرى نفس الأمر مع جعفر عمّ الإمام الجواد (عليه السلام) وقيل له: أما تستحي أن تفتي وفي الأمّة من هو أعلم منك.. فمشكلة السؤال غير بسيطة إلاَّ لمن يهون عليه أن يدَّعي منصباً ليس له ويجيب بالأجوبة الهراء مدَّعياً العلم وهو أقرب إلى الجهل...
↑صفحة ٣٦↑
المتراجعون:
ويقول المؤرِّخان الشيخان الأوَّلان المعاصران لتلك الفترة النوبختي والأشعري القمِّي:
إنَّ وفاة الإمام الحسن العسكري عن دون ولد ظاهر تستمرُّ الإمامة فيه، أدَّت إلى تراجع بعض الشيعة عن القول بإمامة العسكري نفسه، كما تراجع بعض الشيعة (الموسويَّة) قبل مائة عام، عن القول بإمامة عبد الله الأفطح بن جعفر الصادق، الذي أصبح إماماً بعد أبيه، ولكنَّه لم ينجب ولداً تستمرُّ الإمامة فيه. وقال هؤلاء: إنَّ القول بإمامة الحسن كان غلطاً وخطأً، وجب علينا الرجوع عنه إلى إمامة جعفر، وإنَّ الحسن قد تُوفِّي ولا عقب له، فقد صحَّ عندنا أنَّه ادَّعى باطلاً، لأنَّ الإمام بإجماعنا جميعاً لا يموت إلَّا عن خلف ظاهر معروف يُوصي إليه ويقيمه مقامه بالإمامة، والإمامة لا ترجع في أخوين بعد الحسن والحسين، فالإمام لا محالة جعفر بوصيَّة أبيه إليه.
وكان السبب في تراجع هؤلاء عن القول بإمامة العسكري هو إيمانهم بقانون الوراثة العموديَّة، وعدم جواز انتقال الإمامة إلى أخ أو ابن أخ أو عمٍّ أو ابن عمٍّ.
القائلون بمهدويَّة العسكري:
وقد ذهب قسم آخر من الشيعة إلى إنكار وفاة الإمام الحسن العسكري، والقول بمهدويَّته وغيبته، وذلك بناءً على عدم جواز وفاة الإمام دون ولد معروف ظاهر له، لأنَّ الأرض لا تخلو من إمام، واعتبروا اختفاء الإمام نوعاً من الغيبة عنهم.
ومنهم من اعترف بموته ولكنَّه قال بعودته إلى الحياة مرَّةً أُخرى.. وذلك استناداً إلى حديث حول معنى (القائم): «إنَّه يقوم من بعد الموت»، ويقوم ولا
↑صفحة ٣٧↑
ولد له، وإنْ كان له ولد لصحَّ موته ولا رجوع، لأنَّ الإمامة كانت تثبت لخلفه، ولا أوصى إلى أحد.. فلا شكَّ أنَّه القائم، والحسن بن عليٍّ قد مات لا شكَّ في موته ولا ولد له ولا خلف ولا أوصى إذ لا وصيَّة له ولا وصيَّ.. فلا شكَّ أنَّه القائم وأنَّه حيٌّ بعد الموت. وقالوا: إنَّه قد عاش بعد الموت! وقد رووا: أنَّ القائم إذا بلغ الناس خبر قيامه قالوا: كيف يكون فلان إماماً وقد بليت عظامه؟ فهو اليوم حيٌّ مستتر لا يظهر وسيظهر ويقوم بأمر الناس ويملأ الأرض عدلاً كما مُلِئَت جوراً.
ومنهم من قال: إنَّه سيعود إلى الحياة في المستقبل.. وإنَّما سُمِّي القائم لأنَّه يقوم بعدما يموت.
وقد اختلق هؤلاء أو استوردوا أحاديث بهذا المضمون من بعض الحركات الشيعيَّة الواقفيَّة السابقة.
ويقول الصدوق: إنَّ هؤلاء سمُّوا بالواقفيَّة على الحسن، وقد ادَّعوا: أنَّ الغيبة وقعت به لصحَّة أمر الغيبة عندهم وجهلهم بموضعها.
المحمّديَّة والنفيسيَّة:
وذهب قسم من هؤلاء المتراجعين عن القول بإمامة الحسن العسكري لعدم وجود ولد له، إلى القول بإمامة أخيه محمّد، الذي كان قد تُوفِّي قبل سبع سنوات في حياة أبيه الهادي، فأنكروا وفاة محمّد وقالوا: إنَّ أباه قد أشار إليه ونصبه إماماً ونصَّ على اسمه وعيَّنه - وهذا ما يتَّفق عليه الجميع - ولا يجوز أنْ يشير الإمام بالوصيَّة والإمامة إلى غير إمام.. إذن فإنَّه لم يمت في الحقيقة، كما هو الظاهر، بل إنَّ أباه قد أخفاه (تقيَّةً) كما أخفى الإمام الصادق ابنه إسماعيل - حسب قول الإسماعيليَّة -، وإنَّه المهدي المنتظر.
وعُرِفَت هذه الفرقة بـ (المحمّديَّة).
↑صفحة ٣٨↑
وقال قسم من هذه الفرقة فيما بعد: إنَّ محمّد بن عليٍّ قد تُوفِّي، وإنَّه أوصى إلى غلام لأبيه اسمه (نفيس) ودفع إليه الكُتُب والعلوم والسلاح وما تحتاج إليه الأُمَّة وأوصاه: إذا حدث بي حدث الموت أنْ يُؤدِّي ذلك إلى أخيه جعفر.
وكانت هذه الفرقة تتَّخذ موقفاً عنيفاً من الإمام الحسن العسكري وتُكفِّره وتُكفِّر كلَّ من يقول بإمامته، وتغلو في جعفر، وتدَّعي أنَّه القائم. وقد عُرِفَت هذه الفرقة المتطرِّفة باسم: (النفيسيَّة).
الواقفون:
وفي مقابل هؤلاء المتطرِّفين كان فريق آخر من شيعة الإمام الحسن العسكري يذهب، نتيجة الصدمة والحيرة، إلى إنكار وفاة الإمام، والقول بغيبته ومهدويَّته، وذلك بناءً على عدم جواز وفاة الإمام دون ولد معروف ظاهر، لأنَّ الأرض لا يمكن أنْ تخلو من إمام حسب عقيدتهم.
وانقسم هؤلاء إلى عدَّة فِرَق.. فمنهم من اعترف بموت الإمام الحسن، ولكنَّه قال بعودته إلى الحياة بعد ذلك بوقت قليل، وذلك استناداً إلى حديث حول معنى كلمة (القائم): «إنَّه يقوم من بعد الموت». ومنهم من قال: إنَّه مات ولم يعد إلى الحياة، ولكنَّه سوف يعود في المستقبل.
وقد استورد هؤلاء أحاديث بهذا المضمون من بعض الحركات الشيعيَّة الواقفيَّة السابقة، وسمُّوا بـ (الواقفيَّة على الحسن) وقد ادَّعوا: أنَّ الغيبة وقعت به وأنَّه المهدي المنتظر.
الحيارى:
وقد دفعت أزمة وفاة الإمام العسكري دون ولد ظاهر، بكثير من الشيعة الإماميَّة الذين كانوا يعتقدون باستمرار الإمامة إلى يوم القيامة.. دفعتهم إلى
↑صفحة ٣٩↑
البحث والتمحيص والتفتيش عن ولد يحتمل أنْ يكون الإمام العسكري قد أخفاه لسبب من الأسباب، كالخوف من الأعداء مثلاً، وأحجم بعضهم عن القول بأيِّ شيء انتظاراً لجلاء الأزمة، فلم يقولوا بإمامة جعفر كما لم يقولوا بانقطاع الإمامة، ولم يقولوا بمهدويَّة الحسن العسكري، بل قالوا: لا ندري ما نقول في ذلك.. وقد اشتبه الأمر علينا، فلسنا نعلم أنَّ للحسن بن عليٍّ ولداً أم لا؟ أم الإمامة صحَّت لجعفر أم لمحمّد؟ وقد كثر الاختلاف، إلَّا أنَّا نقول: إنَّ الحسن بن عليٍّ كان إماماً مفترض الطاعة ثابت الإمامة وقد تُوفِّي وصحَّت وفاته، والأرض لا تخلو من حجَّة. فنحن نتوقَّف ولا نقدم على القول بإمامة أحد بعده.. إذ لم يصحّ عندنا أنَّ له خلفاً، وخفي علينا أمره ولا نقطع على إمامة أحد من ولد غيره، فإنَّه لا خلاف بين الشيعة: أنَّه لا تثبت إمامة إمام إلَّا بوصيَّة أبيه إليه وصيَّة ظاهرة.
الجنينيُّون:
وفي غمرة أجواء الشكِّ والحيرة والخلاف والبحث عن الحقيقة هذه، اعتمد بعض الشيعة الإماميَّة على دعوى الجارية (صقيل) أو (نرجس) بالحمل من الحسن، عند وفاته.. وقالوا بولادة ابن له وُلِدَ بعد وفاة الحسن بثمانية أشهر، وإنَّه مستتر لا يُعرَف اسمه ولا مكانه، واستندوا إلى حديث رووه عن الإمام الرضا يقول فيه: «إنَّكم ستبتلون بالجنين في بطن أُمِّه والرضيع».
وذهب قسم من هؤلاء الذين قالوا بوجود الحمل عند الوفاة، إلى ادِّعاء استمرار الحمل في بطن أُمِّه إلى أمد غير منظور، وذلك بصورة إعجازيَّة، وقالوا بحتميَّة ولادة الجارية لولد ذكر تستمرُّ الإمامة فيه وفي ذرّيَّته إلى يوم القيامة!
وبقدر ما كان احتمال الولادة بعد الوفاة أمراً وارداً وممكناً، فإنَّ دعوى استمرار الحمل في البطن ما يشاء الله كانت غير معقولة ومرفوضة جدًّا خاصَّةً
↑صفحة ٤٠↑
وأنَّ الجارية صقيل (أو نرجس) اختفت في زحمة الأحداث، أو تُوفِّيت، ولم يستطع أحد أنْ يشاهدها وينظر إلى نتيجة حملها بعد ذلك.
ولم يكن بعيداً في أجواء الغلوِّ البعيدة عن العقل والعرف أنْ يقول أيُّ فريق بما يشاء من أقوال وفرضيَّات وأوهام.
القائلون بوجود الولد المسبق (الاثنا عشريُّون):
وبالرغم من عدم توصُّل كثير من الشيعة الذين بحثوا عن ولد للعسكري إلى أيَّة نتيجة.. وفيما كانت الحيرة تعصف بعامَّة الشيعة الإماميَّة، والغموض يلفُّ موضوع الخلف، والاختلاف يُمزِّق الناس يميناً وشمالاً.. كان بعض أصحاب الإمام الحسن العسكري يهمسون بتكتُّم شديد بوجود ولد له في السرِّ وُلِدَ قبل وفاته بسنتين أو ثلاث، أو خمس أو ستّ أو ثماني سنين، ويقولون: إنَّهم قد رأوه في حياة أبيه وإنَّهم على اتِّصال به، ويطلبون من عامَّة الشيعة التوقُّف عن البحث والتفتيش عن التصريح باسمه ويُحرِّمون ذلك.
وكانوا يُفسِّرون ادِّعاء الجارية صقيل بوجود الحمل عند وفاة العسكري بأنَّه محاولة منها للتغطية على وجود الولد في السرِّ.
وعُرِفَ هؤلاء الذين قالوا بوجود ولد مغمور للإمام العسكري بالفرقة الاثني عشريَّة.
عصر الحيرة:
وقد كان القول بوجود ولد له قولاً سرّيًّا باطنيًّا قال به بعض أصحاب الإمام العسكري بعد وفاته. ولم يكن الأمر واضحاً وبديهيًّا ومجمعاً عليه بين الشيعة في ذلك الوقت، حيث كان جوٌّ من الحيرة والغموض حول مسألة الخلف يلفُّ الشيعة، ويعصف بهم بشدَّة.
↑صفحة ٤١↑
وقد كتب عدد من العلماء المعاصرين لتلك الفترة كُتُباً تناقش موضوع الحيرة وسُبُل الخروج منها، منهم الشيخ عليُّ بن بابويه الصدوق الذي كتب كتاباً أسماه: (الإمامة والتبصرة من الحيرة).
وقد امتدَّت هذه الحيرة إلى منتصف القرن الرابع الهجري حيث أشار الشيخ محمّد بن عليٍّ الصدوق في مقدَّمة كتابه (إكمال الدِّين) إلى حالة الحيرة التي عصفت بالشيعة، وقال: (وجدت أكثر المختلفين إليَّ من الشيعة قد حيَّرتهم الغيبة، ودخلت عليهم في أمر القائم الشبهة). وذكر الكليني والنعماني والصدوق مجموعة كبيرة من الروايات التي تُؤكِّد وقوع الحيرة بعد غيبة صاحب الأمر واختلاف الشيعة وتشتُّتهم في ذلك العصر واتِّهام بعضهم بعضاً بالكذب والكفر والتفل في وجوههم ولعنهم، وانكفاء الشيعة كما تكفأ السفينة في أمواج البحر وتكسُّرهم كتكسُّر الزجاج أو الفخار.
وقال محمّد بن أبي زينب النعماني في (الغيبة) يصف حالة الحيرة التي عمَّت الشيعة في ذلك الوقت: (إنَّ الجمهور منهم يقول في (الخلف): أين هو؟ وأنَّى يكون هذا؟ وإلى متى يغيب؟ وكم يعيش؟ هذا وله الآن نيِّف وثمانون سنة، فمنهم من يذهب إلى أنَّه ميِّت ومنهم من يُنكِر ولادته ويجحد وجوده بواحدة ويستهزئ بالمصدِّق به، ومنهم من يستبعد المدَّة ويستطيل الأمد ويقول: أيُّ حيرة أعظم من هذه الحيرة التي أخرجت من هذا الأمر الخلق الكثير والجمَّ الغفير؟ ولم يبقَ ممَّن كان فيه إلَّا النزر اليسير، وذلك لشكِّ الناس).
وهذا ما يدلُّ على أنَّ قضيَّة (وجود ابن للإمام العسكري) لم تكن قضيَّة مجمع عليها بين صفوف الشيعة الإمامة في ذلك العصر، وأنَّ دعاوى الإجماع والتواتر والاستفاضة التي يدَّعيها البعض على أحاديث وجود وولادة ومهدويَّة الإمام الثاني عشر (محمّد بن الحسن العسكري) لم يكن لها وجود في ذلك الزمان.
↑صفحة ٤٢↑
ولا بدَّ أنْ نضع علامة استفهام على دعاوى الإجماع والتواتر المتأخِّرة والمناقضة تماماً للتاريخ.. خاصَّةً وأنَّ دعوى الإجماع والتواتر لا تمنع من المراجعة والنقد والتمحيص.. بالإضافة إلى أنَّ الإجماع لا يُشكِّل لدى الشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة حجَّة بديلة عن الأدلَّة العلميَّة.. وحسبما يقول علماء الأُصول: إنَّ الإجماع يمكن أنْ يُؤخَذ به في غياب الدليل الشرعي، فإذا علمنا استناد دعوى معيَّنة على أدلَّة نقليَّة أو عقليَّة فعلينا مراجعة تلك الأدلَّة وعدم التشبُّث بالإجماع. ومن المعروف أنَّ دعوى ولادة الإمام الثاني عشر (محمّد بن الحسن العسكري) تأتي بأدلَّة عقليَّة ونقليَّة وتاريخيَّة.. فلا بدَّ إذن من مراجعتها والتحقُّق بنفسنا منها، وعدم الانسياق وراء المتكلِّمين أو التسليم لدعاواهم وفرضيَّاتهم واجتهاداتهم.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٦/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١١:٤٤) مساءً.
العاملي عضو:
من أوَّل صولة من أقلام أهل الحقِّ، وقف قلم الكاتب، وبهت الحبر المزيَّف الذي يكتب به! ووقفت سفينة المساكين الذين صوَّروه عالماً مفكِّراً، وتعطَّل هدير محرِّكاتها! وأخذوا يحثُّونه ويُشجِّعونه، ويشدُّون في عضده، ويمدُّونه بالـ... ويتغاضون عن تكذيبه لبخاريهم وطعنه في أئمَّتهم..
فأسأل الله تعالى أنْ يجعله عبرةً لمن يُطبِّلون لهم، ممَّن زاغو عن مذهب أهل البيت (عليهم السلام).
وبما أنِّي سوف أعتكف عن الكتابة بعد يومين إنْ شاء الله.. أشعر بارتياح؛ لافتضاح باطله، وأطمئنُّ بأنَّ في كلِّ واحد من الإخوة الأعزَّاء التلميذ والمنصور وجميل الكفاية، لمثله ولمن هو أعلم منه أضعافاً..
↑صفحة ٤٣↑
وحتَّى لا يقال: إنَّ المناقشين احتوشوه فدوَّخوه.. لذا أقترح أنْ يُؤخَذ برأي مشارك، فيكمل كشف خوائه وتناقضه أحد الفاضلين اللذين نصحه مشارك بمناقشتهما (الأخ التلميذ، والأخ موسى العلي) وشكراً.
* * *
وهنا دخل أحد مريدي الشبكة والمتتبِّعين لمواضيعها وهو العضو (مالك الحزين)، وهو أحد نوَّاب رئيس تحرير جريدة الأهرام المصريَّة، وهو من إخواننا السُّنَّة، فقال:
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٢:٢٦) صباحاً.
مالك الحزين عضو:
معذرةً لتطفُّلي على حوار متحضِّر وشديد الجدّيَّة، كهذا الذي يجري بين الإخوة روَّاد هجر من جهة، والأُستاذ أحمد الكاتب من جهة أُخرى، لكن لـمَّا كان حوار كهذا ليس ممَّا يهمُّ الإخوة الشيعة وحدهم، بل يهمُّ عموم الأُمَّة؛ لأنَّ الشيعة رافد أصيل من روافد تراث وحاضر ومستقبل هذه الأُمَّة، فقد سمحت لنفسي بالتنبيه على ملاحظة منهجيَّة، في شكل الحوار، ولا صلة لها بالمضمون، فأهل مكَّة أدرى بشعابها، لكنِّي لاحظت هجوماً يشي بسلفيَّة لا تختلف كثيراً عن سلفيَّة هؤلاء الوهَّابيِّين التي تنتقدونها معي، هذا فضلاً عن موقف عاطفي أتفهَّم دوافعه، وأرجو أنْ تنصتوا لصوت العقل قليلاً، حتَّى تفهموها أيضاً.. الرجل يطرح ما يراه صواباً، ولا أحسبه يُمثِّل طيلة كلِّ هذا الوقت سواء بحسن نيَّة، أو مدفوعاً من أحد أو جهة ما... إذن فلماذا تسعون لهدم واحدة من أبرز وأجمل ما في مذهب آل البيت، ألَا وهي السماحة والنأي عن التكفير بالشُّبُهات...
إنَّني أثق في كبار النفوس والعقول مثل العاملي الفاضل، والتلميذ الأُستاذ (العنيد) في أنْ يمضي الحوار بلُغَةٍ أرقّ، وعلى أرضيَّة من حسن الظنِّ والنوايا،
↑صفحة ٤٤↑
وكلِّي يقين أنَّ الجميع سيتوقَّف أمام هذه الكلمات، ليضرب مثلاً لغيره برقيِّ السلوك وقيمة الحوار.
* * *
ملاحظة مهمَّة إلى الأُستاذ أحمد الكاتب!
وهذا مشرف الشبكة موسى العلي ينتقد الكاتب على إنزال المواضيع من دون إعارة أيِّ اهتمام للنقاش، فيقول:
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠١:٤٢) صباحاً.
موسى العلي هجر:
الأُستاذ أحمد الكاتب.
بعد التحيَّة والاحترام.
بعد ملاحظتي المواضيع التي طُرِحَت منك، والنقاشات الدائرة بينك وبين الإخوان أُسجِّل هنا ملاحظة مهمَّة للوصول إلى الهدف الذي من أجله كان الحوار!
والملاحظة هي أنْ تدخل في الحوار والنقاش مع الإخوة في النقاط التي طرحتها وتريد طرحها.
وأمَّا تشتيت الهدف فهو غير مقبول، وليس مجدياً طرحك للمواضيع الكثيرة، علماً أنَّها موجودة في كتابك!
إنَّما الهدف هو الحوار المركَّز المثمر، وليس تكثير طرح المواضيع!
حدِّد موضوعاً وناقشه، وأمَّا بهذه الطريقة فغير صحيح!
تحياتي لك.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٢:٣٤) صباحاً.
مالك الحزين عضو:
أرى ملاحظة الأخ موسى العلي للأُستاذ أحمد الكاتب في موضعها تماماً..
↑صفحة ٤٥↑
وأرجوه أنْ يلتزم بإيقاف هذا السيل من الموضوعات المتفرِّدة، وقصر الحوار على مسألة بعينها، والحفاظ على التسلسل المنطقي للموضوع محلِّ المناقشة، أو الحوار، وأُكرِّر أسفي ثانيةً للتدخُّل.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٤:٣٦) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
شكراً أُستاذ مالك الحزين على ملاحظاتك القيِّمة، وقد استطرقت في ذكر المواضيع والأدلَّة المختلفة؛ بناءً على طلب الأخ الأُستاذ التلميذ، الذي طلب منِّي ذكر جميع الأدلَّة التي تستند عليها لإثبات أنَّ مسألة الإيمان بالمهدي فرضيَّة فلسفيَّة لا حقيقة تاريخيَّة، ولكن الأخ العاملي الذي أرجو منه أنْ يهدأ قليلاً، ولا يعتقد أنِّي أُحاول هدم المذهب الشيعي، وليفترض ولو جدلاً أنِّي أُحاول إصلاحه، وإزالة بعض الأفكار الدخيلة فيه، ولا حاجة له للانتقام والثأر، وتحويل النقاش كلَّ مرَّة إلى قضايا شخصيَّة، والتحدُّث عن تاريخي المثقل بالفعَّاليَّة المدانة شرعيًّا وإنسانيًّا، وما إلى ذلك من شعارات فعَّاليَّة خارج الموضوع بالمرَّة، كأنَّنا في ساحة معركة شخصيَّة.
الأُستاذ عبد الحسين طلب تحويل النقاش إلى بحث موضوع الإمامة، وقال: إنَّ لديه ملاحظات منهجيَّة على الحوار، وكأنَّه يريد أنْ يُثبِت وجود الإمام الثاني عشر بإثبات موضوع الإمامة، وهذا منهج قديم، سلكه كثير من العلماء السابقين، وهو ما كنت أعنيه بالقول: إنَّ الاستدلال على وجود الإمام الثاني عشر تمَّ فلسفيًّا وعقليًّا بالدرجة الأُولى، في حين لا يمكن التحدُّث عن الاثني عشريَّة أو الإمامة إلَّا بعد إثبات وجود الثاني عشر، وإلَّا فإنَّ عدد الأئمَّة يصبح أحد عشر، أو يجب أنْ نضيف إليهم آخرين. ولذا أُفضِّل أنْ يتركَّز الحوار على موضوع إثبات وجود الإمام تاريخيًّا.
↑صفحة ٤٦↑
الأخ العزيز العاملي ذكر وجود روايات في كتاب (بصائر الدرجات) تتحدَّث عن الاثني عشريَّة، وقد راجعت الكتاب مرَّة أُخرى ولم أجد تلك الروايات في ذلك المكان من الكتاب، فأرجو منه أنْ يذكر لي الطبعة ومكان الطبع، فالنسخة التي لدي هي من منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، في قم، إيران، وسنة الطباعة هي (١٤٠٤هـ)، مع تصحيح وتعليق الحاجّ ميرزا كوچه باغي التبريزي، وأنا لا أدَّعي العصمة عن الخطأ، وأطلب من الإخوان أنْ يدلُّوني على ما لديهم من روايات بدقَّة، أرجو ونظراً لأنَّ الحوار اتَّخذ من البداية صفة الانفعال العاطفي، فأخذ البعض يُطلِق صفة الصحَّة على بعض الروايات جزافاً دون ذكر الأدلَّة والتفاصيل، وهذا ليس أُسلوباً علميًّا في الحوار، كما أنَّ التشكيك الاعتباطي، وتضعيف أيَّة رواية بلا دليل هو كذلك أُسلوب غير علمي.
في معرض ردِّه عليَّ ذكر الأخ العاملي ضعف رواية الصفَّار، ونسبها إليَّ، وإنَّما نقلتها من كتاب (بصائر الدرجات) للصفَّار، من الجزء العاشر، باب الوقت الذي يعرف الإمام الأخير ما عند الأوَّل، الحديث رقم (٣): حدَّثنا يعقوب بن يزيد، عن عليِّ بن أسباط، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله، قال: قلت: الإمام متى يعرف إمامته وينتهي الأمر إليه؟ قال: «في آخر دقيقة من حياة الأوَّل».
في الجزء التاسع، باب (٢١)، في الإمام متى يعلم أنَّه إمام، حديث رقم (١): عن صفوان بن يحيى، قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): أخبرني عن الإمام متى يعلم أنَّه إمام، حين يبلغه أنَّ صاحبه قد مضى، أو حين يمضي، مثل أبي الحسن قُبِضَ ببغداد، وأنت هاهنا؟ قال: «يعلم ذلك حين يمضي صاحبه».
* * *
↑صفحة ٤٧↑
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٧:٣٠) صباحاً.
العاملي عضو:
١ - نسخة بصائر الدرجات التي نقلت لك منها: منشورات مؤسَّسة الأعلمي بطهران، تحقيق العلَّامة الحجَّة ميرزا محسن كريم ياغي، طبع مطبعة الأحمدي بطهران سنة (١٤٠٤هـ).
٢ - والروايات التي جعلتها دليلاً على أنَّ الشيعة لم يكونوا يعرفون الأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام) أجنبيَّة عن الموضوع، ولكنَّك لم تفهمها مع الأسف، فهي تُبيِّن كيف أنَّ الإمام منهم يعرف نفسه، وتنزل عليه خشية من الله خاصَّة، ونور إلهي بمجرَّد موت الإمام السابق، وهو أمر يُؤكِّد عقيدة الشيعة بالاثني عشر (عليهم السلام)، وأنَّ واحدهم يعرف نفسه عمليًّا عندما تبدأ إمامته بفيض إلهي خاصٍّ عليه.
٣ - قال الصفَّار (رحمه الله) في بصائر الدرجات (ص ٤٨٦): باب في الإمام متى يعلم أنَّه إمام:
١ - حدَّثنا محمّد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى، قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): أخبرني عن الإمام متى يعلم أنَّه إمام، حين يبلغه أنَّ صاحبه قد مضى، أو حين يمضي، مثل أبي الحسن (عليه السلام) قُبِضَ ببغداد، وأنت هاهنا؟ قال: «يعلم ذلك حين يمضي صاحبه». قلت: بأيِّ شيء؟ قال: «يُلهِمه الله ذلك».
٢ - حدَّثنا محمّد بن عيسى، عن قارن، عن رجل، إنَّه كان رضيع أبي جعفر (عليه السلام)، قال: بينا أبو الحسن (عليه السلام) جالس مع مودَّب له يُكنَّى أبا زكريَّا، وأبو جعفر (عليه السلام) عندنا أنَّه ببغداد، وأبو الحسن يقرأ من اللوح إلى مؤدَّبه إذ بكى بكاءً شديداً، سأله المؤدَّب: ما بكاؤك؟ فلم يجبه، فقال: «ائذن لي بالدخول»، فأذن له، فارتفع الصياح والبكاء من منزله، ثمّ خرج إلينا فسألنا عن البكاء، فقال: «إنَّ أبي قد توفَّى الساعة»، فقلنا: بما علمت؟ قال: «فأدخلني من إجلال الله ما لم أكن
↑صفحة ٤٨↑
أعرفه قبل ذلك، فعلمت أنَّه قد مضى»، فتعرَّفنا ذلك الوقت من اليوم والشهر، فإذا هو قد مضى في ذلك الوقت.
٣ - حدَّثنا محمّد بن أحمد، عن بعض أصحابنا، عن معاوية بن حكيم، عن أبي الفضل الشيباني، عن هارون بن الفضل، قال: رأيت أبا الحسن (عليه السلام) في اليوم الذي تُوفِّي فيه أبو جعفر (عليه السلام)، فقال: «إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون مضى أبو جعفر»، فقيل له: وكيف عرفت ذلك؟ قال: «تداخلني ذلَّة لله لم أكن أعرفها». انتهى.
فهل هذا إلَّا نقيض ما أردت إثباته؟! فاتَّق الله يا أحمد، فكلُّنا نموت.. وتعمَّق فيما تقرأ، ولا تحكم بظنونك، وتُشكِّك بها أهل الحقِّ.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٩:٥٦) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
إذا كانت نسختك عن كتاب (بصائر الدرجات) للصفَّار تختلف عن نسختي، فأرجو أنْ تعطيني رقم الجزء، ورقم الباب، ورقم الحديث حول الاثني عشريَّة حتَّى أُطابقه مع الكتاب الموجود لدي، إذا كان صحيحاً ما تقول. وشكراً، أحمد الكاتب.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١١:٠٠) مساءً.
العاملي عضو:
راجع الجزء السابع من تجزئة بصائر الدرجات، الباب الخامس، والأبواب التي بعده..
ولعمري يا أحمد لقد تعجَّبت من أحكامك الهوائيَّة على (بصائر الدرجات)، الذي هو سند تاريخي قيِّم، يُقنِع كلَّ باحث منصف بأنَّ عقيدة
↑صفحة ٤٩↑
الأئمَّة الاثني عشر كانت موجودة ومؤكَّداً عليها من النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثمّ من عليٍّ والأئمَّة (عليهم السلام)، بل كانت معاشة عند شيعتهم ورواتهم، ومؤلَّفاً فيها الرسائل والكُتُب، قبل ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وبعدها..
وسأُوافيك بنماذج منه، لا يمكن تفسيرها إلَّا بعقيدة الأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام).
* * *
بصائر الدرجات سند تاريـخي على عقيدة الاثني عشريَّة، يكفي وحده للردِّ على المبطلين!
حُرِّر بتاريخ (١٨/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٢:٠٧) صباحاً.
كتابان في موضوع أحمد الكاتب لم يتدبَّرهما، فظلمهما أو رآهما حجَّة تدحض باطله فأنكر ما فيهما!
كتاب (كفاية الأثر في النصِّ على الأئمَّة الاثني عشر).. وسوف نتحدَّث عن قيمته العلميَّة ومحتواه..
وكتاب (بصائر الدرجات)، للحسن الصفَّار القمِّي (رحمه الله)، المتوفَّى سنة (٢٩٠) هجريَّة - يعني في الغيبة الصغرى -، ولعلَّه ألَّف كتابه قبل وفاته بسنوات عديدة.. ولو قرأه أيُّ منصفٍ، حتَّى لو كان مستشرقاً، لقال: إنَّ الكتاب يتحدَّث عن مذهب الشيعة الاثني عشريَّة وأئمَّتهم وخصائصهم التي يعتقدها الشيعة اليوم ويعيشونها!
هذا الكتاب ادَّعى أحمد الكاتب أنَّه ليس فيه ولا نصٌّ على عقيدة الاثني عشر! وقد استخرجت له منه نصَّين صريحين، وفيه الكثير، فتعجَّب، وأخذ يسأل عن النسخة التي عندي!
وأكتفي هنا بأنْ أُقدِّم فهرس أبواب هذا الكتاب(٢٦)، ليرى كلُّ من له بصيرة أنَّ فهرسه وحده يكفي لمن تأمَّله للردِّ على أمثال أحمد الكاتب!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٦) اقتصرنا على فهرس الجزء السابع والعاشر فقط من كتاب بصائر الدرجات.
↑صفحة ٥٠↑
الجزء السابع:
باب (١): فيه ذكر الحديث الذي علَّم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليًّا (عليه السلام)، (ص ٣١٣).
باب (٢): في الإمام بأنَّه إنْ شاء أنْ يعلمَ العلمَ عَلمْ، (ص ٣١٥).
باب (٣): ما يُفعَل بالإمام من النكت والقذف والنقر في قلوبهم وأُذُنهم، (ص ٣١٦).
باب (٤): فيه تفسير الأئمَّة لوجود علومهم الثلالة، وتأويل ذلك، (ص ٣١٨).
باب (٥): في الأئمَّة، أنَّهم (عليهم السلام) محدَّثون مفهَّمون، (ص ٣١٩).
باب (٦): في أنَّ المحدِّث كيف صفته وكيف يصنع به وكيف يُحدِّث الأئمَّة؟ (ص ٣٢١).
باب (٧): ما يلقى شيء يوماً بيوم وساعة بساعة ممَّا يحدث، (ص ٣٢٤).
باب (٨): في الأئمَّة (عليهم السلام) ورثوا العلم من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعن عليِّ بن أبي طالب، وأنَّ الحكم يُقذَف في صدورهم ويُنكَت في آذانهم، (ص ٣٢٦).
باب (٩): في الأئمَّة، أنَّهم يتكلَّمون على سبعين وجهاً، في كلِّها المخرج، ويفتون بذلك، (ص ٣٢٨).
باب (١٠): في الأئمَّة، أنَّهم يعرفون الزيادة والنقصان في الأرض، من الحقِّ والباطل، (ص ٣٣١).
باب (١١): في الأئمَّة، أنَّهم يتكلَّمون الألسن كلَّها، (ص ٣٣٣).
باب (١٢): في الأئمَّة (عليهم السلام)، أنَّهم يعرفون الألسن كلَّها، (ص ٣٣٧).
باب (١٣): في الأئمَّة، أنَّهم يقرأون الكُتُب التي نزلت على الأنبياء باختلاف ألسنتهم، التوراة والإنجيل وغير ذلك، (ص ٣٤٠).
↑صفحة ٥١↑
باب (١٤): في الأئمَّة، أنَّهم يعرفون منطق الطير، (ص ٣٤١).
باب (١٥): في الأئمَّة (عليهم السلام)، أنَّهم يعرفون منطق البهائم ويعرفونهم ويجيبونهم إذا دعوهم، (ص ٣٤٧).
باب (١٦): في الأئمَّة (عليهم السلام)، أنَّهم يعرفون منطق المسوخ ويعرفونهم، (ص ٣٥٠).
باب (١٧): في الأئمَّة أنَّهم المتوسِّمون في الأرض، وهم الذين ذكر الله في كتابه أنَّهم يعرفون الناس بسيماهم، (ص ٣٦١).
باب (١٨): في الإمام، أنَّه يحتاج من معرفة أصحابه إلى أحد، ولا يقبل قول أحد فيهم لمعرفة فيهم، (ص ٣٦١).
باب (١٩): ما جاء عن الأئمَّة من أحاديث رسول الله التي صارت إلى العامَّة، وما خصُّوا به من دونهم، (ص ٣٦٢).
باب (٢٠): في الأئمَّة (عليهم السلام) من يشبهون ممَّن مضى قبلهم، (ص ٣٦٥).
جمع الأحاديث في الجزء السابع: (١٩٩).
الجزء العاشر:
باب (١): في الأئمَّة، أنَّهم يعلمون العهد من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الوصيَّة إلى الذين من بعده، (ص ٤٧٠).
باب (٢): في الأئمَّة، أنَّهم يعلمون إلى من يوصون قبل موتهم، ممَّا يعلمهم الله، (ص ٤٧٣).
باب (٣): في الإمام، أنَّه يعرف من يكون بعده قبل موته، (ص ٤٧٤).
باب (٤): في الإمام الذي يُؤدِّي إلى الإمام الذي يكون من بعده، (ص ٤٧٥).
باب (٥): الوقت الذي يعرف الإمام الأخير ما عند الأوَّل، (ص ٤٧٧).
↑صفحة ٥٢↑
باب (٦): في الأئمَّة، أنَّهم لو وجدوا من يحتمل عنهم، لأعطوهم علماً لا يحتاجون إلى نظر في حلال وحرام ممَّا في عندهم، (ص ٤٧٨).
باب (٧): في الأئمَّة أنَّ بعضهم من بعض، وعلمهم بالحلال والحرام واحد، (ص ٤٧٩).
باب (٨): في الأئمَّة، في أنَّ الحجَّة والطاعة والعلم والأمر والنهي والشجاعة واحد، ولرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعليٍّ (عليه السلام)، (ص ٤٨٠).
باب (٩): في الأئمَّة، أنَّهم يعرفون متى يموتون، ويعلمون ذلك قبل أنْ يأتيهم الموت عليهم، (ص ٤٨٠).
باب (١٠): الأرض لا تخلو من الحجَّة وهم الأئمَّة (عليهم السلام)، (ص ٤٨٤).
باب (١١): في الأئمَّة أنَّ الأرض لا تخلو منهم، ولو كان في الأرض اثنان، لكان أحدهما الحجَّة، (ص ٤٨٧).
باب (١٢): أنَّ الأرض لا تبقى بغير إمام؛ فلو بقيت لساخت، (ص ٤٨٨).
باب (١٣): في الأئمَّة، إذا مضى منهم إمام يعرف الذي بعده، (ص ٤٨٩).
باب (١٤): في الأئمَّة، أنَّ الخلق الذي خلف المشرق والمغرب يعرفونهم ويؤتونهم ويبرئون من أعدائهم، (ص ٤٩٠).
باب (١٥): في أنَّ الأئمَّة إذا دخلوا على سلطان وأحبُّوا أنْ يحال بينهم وبينه ففعلوا، (ص ٤٩٤).
باب (١٦): في الأئمَّة أنَّهم الذين ذكرهم الله يعرفون أهل الجنَّة والنار، (ص ٤٩٥).
باب (١٧): في الأئمَّة، أنَّهم كلَّمهم غير الحيوانات، (ص ٥٠١).
↑صفحة ٥٣↑
باب (١٨): النوادر في الأئمَّة (عليهم السلام) وأعاجيبهم، (ص ٥٠٥).
باب (١٩): في أئمَّة آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّ المستحقَّ الذي في أيدي الناس من العلوم هو الذي خرج من عندهم، وما كان من الرأي والقياس من الباطل؛ فمن عند أنفسهم، (ص ٥١٨).
باب (٢٠): في التسليم لآل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيما جاء عنهم، (ص ٥٢٠).
باب (٢١): فيه شرح أُمور النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة في أنفسهم، والردُّ على من غلا بجهلهم، ما لم يعرفوا من معنى أقاويلهم، (ص ٥٢٦).
باب (٢٢): فيمن لا يعرف الحديث، فردَّه، (ص ٥٣٧).
جمع الأحاديث في الجزء العاشر: (٢٣٨).
هذا هو الكتاب الذي زعم أحمد الكاتب أنَّه ليس فيه ذكر لعقيدة الأئمَّة الاثني عشر، وأنَّ هذه العقيدة اخترعوها فيما بعد! فبالله عليكم إذا أعطينا فهرس هذا الكتاب إلى باحث منصف من السيخ أو النصارى أو اليهود.. وسألناه عمَّ يتحدَّث هذا الكتاب؟ ألَا يقول: إنَّه يتحدَّث عن عقيدة الشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة، الموجودة اليوم؟!
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٨/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٢:١٣) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
الأخ العاملي المحترم.
تمهَّل قليلاً واهدأ أخي العزيز. أنا لم أُناقش عقائد الشيعة في كتاب (بصائر الدرجات) للصفَّار، وإنَّما قلت حسب قرائتي للكتاب: إنَّه لم يذكر موضوع الاثني عشريَّة، أي أنَّ الأئمَّة اثنا عشر، لأنَّها لم تكن قد نشأت بعد، ورويت لي روايتين نسبتهما إلى الكتاب، وذكرت بعض الصفحات، فراجعت الكتاب ولم
↑صفحة ٥٤↑
أعثر على أيِّ حديث يتحدَّث عن موضوع الاثني عشريَّة! فعسى أنْ أكون مشتبهاً، أو لم ألحظ الروايات، وطلبت منك أنْ تدلَّني على الجزء، والباب، ورقم الحديث الذي يتحدَّث عن الاثني عشر لأُطابقه مع النسخة التي لدي.
وإذا كنت قد نقلت الروايات عن حافظتك، فلا عيب في أنْ تقول ذلك، وتعترف بأنَّه لا يوجد في الكتاب الذي أُلِّف في القرن الثالث الهجري، أيُّ ذكر للموضوع، وشكراً. أخوك أحمد الكاتب.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٨/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٨:٥٥) صباحاً.
العاملي عضو:
أجبتك أنَّ الروايتين اللتين تنصَّان على الأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام)، هما في (بصائر الدرجات)، وهما في الباب الخامس من الجزء السابع من تجزئة الكتاب، ويوجد غيرهما.. وأعطيتك طبعة الكتاب، وهذا فهرسه أمامك أعلاه..
كما أرجو أنْ تلاحظ نصَّ الأحاديث وتترك المكابرة.
كما أنِّي طلبت منك أنْ تجيب الأخ التلميذ الذي ردَّ عليك من يومين، وتواصل البحث معه؛ لأنِّي سأنقطع عن الكتابة، فلم تفعل!
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٩/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٢:٢٤) صباحاً.
العاملي عضو:
هذا ما تيسَّر لي كتابته قبل سفري حول الكتاب التاريخي القيِّم (بصائر الدرجات).
ادَّعى أحمد الكاتب: أنَّ عقيدة الأئمَّة الاثني عشر من عترة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قد اختُرِعَت في القرن الرابع، يعني في سنة (٣٠٠) هجريَّة وما بعدها! زاعماً أنَّها لم يكن لها وجود في قبل ذلك! واستشهد بكتاب (بصائر الدرجات) الذي تُوفِّي
↑صفحة ٥٥↑
مؤلِّفه سنة (٢٩٠) هجريَّة، مدَّعياً أنَّه لا توجد فيه حتَّى رواية واحدة عن الأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام)! ولكنَّك تذهل عندما تجد أنَّ كتاب (بصائر الدرجات) على عكس ما ادِّعاه تماماً، وأنَّ محوره الأساسي تدوين الأحاديث في مجموع الأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام) وصفاتهم، وخصائصهم، وإلهامهم... إلخ.
ومع أنَّ موضوع الكتاب ليس عددهم وتسميتهم، ولكنَّه تضمَّن أحاديث صريحة في ذلك، من أبرزها حديث عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يُفسِّر بشارته الصحيحة عند المسلمين باثني عشر إماماً من بعده، ويقول: إنَّهم من عترته، وإنَّهم جميعاً مهديُّون من الله (تعالى) تحفُّهم الملائكة!
ومن الواضح أنَّ نقض كلام الكاتب وإثبات بطلانه لا يتوقَّف على البحث السندي في شيء من روايات (بصائر الدرجات)، لأنَّا لو فرضنا باطلاً أنَّ جميع رواياته غير صحيحة، فإنَّ تدوينها قبل القرن الرابع دليل على أنَّ فكرة الإمامة الشيعيَّة وعقيدة الاثني عشرية كانت موجودة، وليست مخترعة بعد ذلك، كما ادَّعى زوراً!
وفيما يلي مجموعة من أحاديث (بصائر الدرجات)، يلمس كلُّ منصف أنَّها تتحدَّث عن مجموعة مترابطة من أئمَّة أهل البيت النبوي، وأنَّها جميعاً تُفسِّر البشارة النبويَّة التي أجمع المسلمون على روايتها:
تصريح النبيِّ والأئمَّة بأنَّ عدد الأئمَّة اثنا عشر، وأنَّهم محدَّثون:
قال في بصائر الدرجات (باب ٥/ ص ٣٣٩):
٢ - حدَّثنا أبو طالب، عن عثمان بن عيسى، قال: كنت أنا، وأبو بصير، ومحمّد بن عمران مولى أبي جعفر بمنزله بمكَّة، قال: فقال محمّد بن عمران: سمعت أبا عبد الله يقول: «نحن اثنا عشر محدَّثاً»، قال له أبو بصير: والله لسمعت من أبي عبد الله (عليه السلام) قال؟ فحلَّفه مرَّة واثنتين أنَّه سمعت، قال أبو بصير: كذا سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول.
↑صفحة ٥٦↑
٤ - حدَّثنا عليُّ بن حسَّان، عن موسى بن بكر، عن حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله: «من أهل بيتي اثنا عشر محدَّثاً»، فقال له عبد الله بن زيد - كان أخا عليٍّ لأُمِّه -: سبحان الله كان محدَّثاً، كالمنكر لذلك، فأقبل عليه أبو جعفر (عليه السلام)، فقال: «أمَا والله وإنَّ ابن أُمِّك بعد وقد كان يعرف ذلك»، قال: فلمَّا قال ذلك سكت الرجل، فقال أبو جعفر: «هي التي هلك فيها أبو الخطَّاب لم يدرِ تأويل المحدَّث والنبيِّ».
٥ - حدَّثنا عبد الله، عن الحسن بن موسى الخشَّاب، عن ابن سماعة وعليِّ ابن الحسين بن رباطة، عن ابن أُذينه، عن زرارة، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «الاثنا عشر الأئمَّة من آل محمّد كلُّهم محدَّث من ولد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وولد عليٍّ (عليه السلام)، فرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعليٌّ (عليه السلام) هما الوالدان»، فقال عبد الرحمن ابن زيد وذكر ذلك، وكان أخاً لعليِّ بن الحسين لأُمِّه، فضرب أبو جعفر (عليه السلام) فخذه، فقال: «أمَّا ابن أُمِّك كان أحدهم»، انتهى.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٨/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٢:٢٣) مساءً.
التلميذ عضو:
↑صفحة ٥٧↑
٦ - ير: عليُّ بن حسَّان، عن موسى بن بكر، عن حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «من أهل بيتي اثنا عشر محدَّثاً»، فقال له عبد الله بن زيد - كان أخا عليٍّ لأُمِّه -: سبحان الله كان محدَّثاً؟ كالمنكر لذلك(٢٧)، فأقبل عليه أبو جعفر (عليه السلام) فقال: «أمَا والله إنَّ ابن أُمِّك بعد قد كان يعرف ذلك»، قال: فلمَّا قال ذلك سكت الرجل، فقال أبو جعفر (عليه السلام): «هي التي هلك فيها أبو الخطَّاب لم يدرِ تأويل المحدَّث والنبيِّ».
الرمز (ير) هو يرمز إلى كتاب (بصائر الدرجات)، فهذه الرواية نقلها العلَّامة المجلسي عن كتاب (بصائر الدرجات)، وقد أشار المعلَّق على بحار الأنوار في حاشية (ص ٦٨/ ج ٢٦) إلى مصدر الرواية، وهو كتاب بصائر الدرجات (ص ٩٢) كما هو واضح في الصورة أدناه، فهل سيدَّعي أحمد الكاتب بعد هذا عدم وجود روايات تشير إلى اثني عشر إماماً في كتاب (بصائر الدرجات)؟
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٨/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٣:٢٤) مساءً.
العاملي عضو:
أحسنت أيُّها الأخ التلميذ، وقد كتبت له نصَّ بعض الأحاديث ورقم بابها وصفحتها، وفي (بصائر الدرجات) أحاديث متعدِّدة عن الاثني عشر، وقد نشرت فهرسه، ومع ذلك ما زال صاحبنا يكابر.
أستودعك الله أيُّها الأخ الفاضل؛ لأنِّي سأنقطع عن الكتابة إلى ما بعد العيد - إنْ شاء الله -. وأرجو أنْ تهتمَّ في ردِّ شُبُهاته ودحض أباطيله، ولولا وجودك ووجود بعض الفضلاء لألغيت برنامجي الذي سيُبعدني عن الشبكة.. والله معكم.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٧) أي قال ذلك كالمنكر له.
↑صفحة ٥٨↑
حُرِّر بتاريخ (١٨/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٠:٣٨) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
الأخ العاملي المحترم.
إنَّك كلَّ مرَّة تقول سوف أغادر وتعاود الحوار، وقد سألتك في المرَّة السابقة ما هو رقم الجزء والباب ورقم الحديث الذي يتحدَّث عن الاثني عشر ولم تعطني ذلك ورحت تستعرض فهرس الكتاب وأفكار المذهب حول الإمامة.
وأنا مستعدٌّ للاعتراف بذلك إذا دللتني عليه. أُريد نصَّ الحديث من نفس الكتاب، لا ما يُسنَد إليه في كُتُب أُخرى رجاءً؛ لأنَّك كما تعلم كثرة الخطأ والسهو والنسيان، حتَّى لا نقول: النسبة غير الدقيقة.
وفي كتاب (بحار الأنوار) فصل خاصٌّ عن الأحاديث التي نُسِبَت إلى كتاب سُلَيم بن قيس الهلالي ولا توجد في الكتاب.
أيُّها الأخ العاملي، لقد نقلت بعض الأحاديث عن كتاب (بصائر الدرجات) وذكرت أرقاماً للصفحات، ولم يكن نقلك دقيقاً، فأرجو أنْ تعيد النظر وتعطيني الرقم الدقيق أو تعترف بأنَّك نقلت الأحاديث من الذاكرة واختلطت عليك الأُمور وسوف أقبل اعتذارك.
صحيح أنَّ الإنسان في حالات الانفعال ومحاولة الاستدلال بأيِّ شيء قد يرتبك وتختلط عليه الأُمور، وإذا لم يكن تقيًّا فإنَّه يختلق الروايات، وينسبها إلى الله والأنبياء والأئمَّة الصالحين، وهذه مشكلة الكثير من الروايات التي وُضِعَت في أجواء الصراع الطائفي، ومحاولة كلِّ فريق مساندة رأيه، حتَّى ذهب بعض الغلاة باختلاق آيات قرآنيَّة وتضمينها معاني أو نصوصاً تُؤيِّد نظريَّاتهم، وتجد منها كثيراً في (الكافي) و(تفسير القمِّي) وغيرهما من الكُتُب التي صدرت في
↑صفحة ٥٩↑
تلك الفترة المشحونة بالصراع. وهذا ما يدعونا إلى إعادة النظر في الأحاديث والحذر والشكِّ، وعدم تقبُّل أيَّة رواية إلَّا بعد دراستها من كلِّ النواحي، ولا يكفي أنْ تُعتَبر الرواية صحيحة في منطق أصحاب المذهب.
هل تقبل الروايات التي يوردها أصحاب المذاهب الأُخرى في تمجيد أئمَّتهم؟ وهي روايات صحيحة في عرفهم ومنطقهم؟ أم تقول بضرورة عرضها على الدارس المحايد الباحث الموضوعي؟
من المؤكَّد أنَّك تقول ذلك، وإلَّا كان يجب عليك قبول كلِّ ما يدَّعيه الآخرون وهذا مشكل جدًّا.
إذن، فاقبل أنَّ بعض الروايات بحاجة إلى دراسة من خارج المذهب، ومن كلِّ الظروف المحيطة بها، ومقارنتها بروايات أُخرى وأحداث أُخرى.
الأخ التلميذ يسألني فيما إذا كانت بعض الروايات صحيحة في منطق الاثني عشريَّة. وقبل أنْ أدخل في التفاصيل معه أقول له: لا بدَّ من دراسة الروايات، والروايات التاريخيَّة بصورة مستقلَّة، وملاحظة أجواء الصراع وتدعيم كلِّ طرف لرأيه ومذهبه بما يشتهي من روايات.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٨/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١١:١١) مساءً.
العاملي عضو:
ماذا تريدني أنْ أصنع يا أحمد؟ قدَّمت لك نصَّ الروايات من نفس (بصائر الدرجات)، مع رقم الصفحة، وهويَّة نسختي، ورقم الجزء بتجزئة البصائر وهو السابع، ورقم الباب وهو الخامس، ونشرت فهرس الكتاب، وهو بالعناوين التي وضعها له مؤلِّفه (رحمه الله).. كلُّ هذا يوم أمس.. وكلُّه موجود في موضوع أسئلتي التي يجري معك النقاش فيها.. وفي موضوعي عن كتاب (بصائر الدرجات) الذي رأيته وعلَّقت عليه!
↑صفحة ٦٠↑
وبعدها طالبتني وما زلت تطالب وتقول: هل نقلتها من حفظك؟ وتنصحني بأنْ أتَّقي الله تعالى وأعترف بخطئي في النقل!
وهوِّن عليك، فأنا مسافر إنْ شاء الله، ولكن قبل سفري سأُذكِّرك بجواهر لم تعرف قيمتها من كتاب (بصائر الدرجات)، إنْ شاء الله. ولعلَّك تقول لي: تنقل من حفظك، ولا وجود لها في الكتاب!
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٩/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٢:١٠) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
أيُّها الأخ العاملي المحترم.
لقد طلبت منك إعطائي رقم الجزء، والباب، ورقم الحديث.
ولم أُشكِّك فيك، وقلت: أنا على استعداد لتقبُّل رأيك. وقد راجعت الكتاب الآن، ووجدت الحديث الذي ذكرته، وهو ضمن أحاديث مغالية تتحدَّث عن تحريف القرآن الكريم.
وبعض هذه الأحاديث مرسَل، وبعضها مرويٌّ عن الغلاة والضعفاء؛ ولذا لا يلتزم الشيعة بالقول بتحريف القرآن الكريم، ولا يقولون بزيادته ولا بنقصانه(٢٨). وشكراً على أيِّ حالٍ.
ولكن بحث موضوع الاثني عشريَّة لا يعتمد فقط على هذا الكتاب، أو ذاك وقد يكون بدأ في أواخر القرن الثالث، وكان الشيخ الصدوق، وهو في أواسط القرن الرابع الهجري لا يعتقد بقوَّة بالاثني عشرية، ويقول في إكمال الدِّين (ص ٧٧): إنَّ عدد الأئمَّة اثنا عشر، والثاني عشر هو الذي يملأ الأرض قسطاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٨) وما دخل هذا بالروايات الصحيحة التي نقلها الأخ العاملي من الكتاب، أم أنَّ هذا أُسلوب جديد تتبعه في منهجك لتضعيف الحديث؟!
↑صفحة ٦١↑
وعدلاً، ثمّ يكون بعده ما يذكره من كون إمام بعده، أو قيام القيامة، ولسنا مستعبدين في ذلك إلَّا بالإقرار باثني عشر إماماً واعتقاد كون ما يذكره الثاني عشر (عليه السلام) بعده.
وذكر رواية أُخرى في نفس الصفحة عن عبد الله بن الحارث، قال: قلت لعليٍّ (عليه السلام): يا أمير المؤمنين، أخبرني بما يكون من الأحداث بعد قائمكم. قال: «ذلك شيء موكول إليه، وإنَّ رسول الله عهد إليَّ أنْ لا أُخبر به إلَّا الحسن والحسين».
وعلى أيِّ حالٍ، فإنَّ موضوع الاثني عشريَّة يصحُّ ويثبت لو استطعنا إثبات وجود الإمام الثاني عشر وولادته، وإلَّا فقد نُطبِّق الرواية على أئمَّة آخرين كأنْ نضيف الإمام عبد الله الذي مسحه البعض من قائمة الأئمَّة، أو الإمام زيد بن عليٍّ فتصبح القائمة اثني عشر، ولا نحتاج لنفترض وجود وولادة الإمام محمّد بن الحسن العسكري.
والبحث طويل في موضوع الاثني عشريَّة، وأنا مستعدٌّ للبحث فيه من كلِّ جوانبه، ولكن بعد الانتهاء من موضوع إثبات ولادة الإمام الثاني عشر بالأدلَّة التاريخيَّة وليس الفلسفيَّة.
وأرجو أنْ تراجع مناقشة كلمة الشيخ الآصفي(٢٩) في مؤتمر الإمام المهدي، وتُعلِّق عليها، ففيها شيء من الحديث عن الاثني عشريَّة، ومحاولته الاستدلال بأحاديثها على ولادة المهدي.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٩/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٢٣:٠١) مساءً.
التلميذ عضو:
الحمد لله أنَّك اعترفت أيُّها الكاتب بوجود الرواية في كتاب (بصائر
↑صفحة ٦٢↑
الدرجات)، بعد أنْ كنت تُنكِر ذلك وتدَّعي عدم وجودها، وباقي كلامك يأتي عليه الردُّ والحوار سجال بيننا.
* * *
نقد الدليل الروائي النقلي:
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠١:٤١) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
لسنا بحاجة لمناقشة الاستدلال بالقرآن الكريم، أو الأحاديث العامَّة التي تتحدَّث عن (المهدي) أو (القائم)، من دون تحديد هويَّة ذلك الشخص.. فإنَّ هدف دراستنا ليس نفي مبدأ خروج المهدي في المستقبل من الأساس.. وإنَّما نهدف إلى القول: إنَّ شخصاً باسم (محمّد بن الحسن العسكري) لم يُولَد ولم يُوجَد بعد، وبالتالي فإنَّ تلك الآيات أو الأحاديث العامَّة، لا تُثبِت ولادة ذلك الإنسان أو وجوده، بالرغم من إمكانيَّة المناقشة في دلالة الآيات الكريمة على الموضوع.
أمَّا الروايات الواردة حول (الغيبة) و (الغائب)، فهي أيضاً لا تتحدَّث عن (غائب) بالتحديد.. ولا تذكر اسم (محمّد بن الحسن العسكري)، ولا تشير إلى غيبته بالخصوص.. وبالتالي فإنَّها لا يمكن أنْ تُشكِّل دليلاً على (غيبة الحجَّة بن الحسن)؛ لأنَّه لم يُولَد بعد.. ولم يغب.. وهي لا تتحدَّث عن أمر قبل وقوعه، حتَّى يكون ذلك إعجازاً ودليلاً على صحَّة الغيبة، كما قال الشيخ الصدوق.
ولا توجد في تلك الروايات أيَّة دلالة على ما ذهب إليه المتكلِّمون؛ لأنَّها لم تتضمَّن الإخبار بالشيء قبل كونه كما قال الشيخ الطوسي، ولم يحصل أيُّ إخبار مسبق من جهة علَّام الغيوب.. وذلك لأنَّ تلك الروايات كانت موجودة من قبل، وتتحدَّث عن أشخاص آخرين كانوا موجودين فعلاً، وادُّعيت لهم المهدويَّة وغابوا في الشعاب والجبال والسجون، كمحمّد بن الحنفيَّة ومحمّد بن عبد الله بن
↑صفحة ٦٣↑
الحسن (ذي النفس الزكيَّة)، والإمام موسى الكاظم (عليه السلام).. وقد حدث في ظلِّ غيبتهم أنْ تفرَّق شيعتهم واختلفوا واحتاروا.. وقد صنع أصحابهم تلك الروايات من وحي الواقع، ولأهداف خاصَّة، وبالذات الشيعة الواقفيَّة الذين كانوا يؤمنون بقوَّة بمهدويَّة الإمام الكاظم، ولـمَّا اعتقله الرشيد قالوا بغيبته، ولـمَّا تُوفِّي الإمام رفضوا الاعتراف بوفاته، وادَّعوا هروبه من السجن وغيبته غيبة كبرى لا يُرى فيها، واعتبروا مرحلة السجن غيبة صغرى. وقد كانت الغيبة الكبرى أطول من الغيبة الصغرى؛ لأنَّها امتدَّت بلا حدود. وكان الواقفيَّة قد استعاروا أحاديث الغيبة ممَّن سبقهم من الحركات المهدويَّة، وطبَّقوها على الإمام الكاظم.
وإذا توقَّفنا عند الرواية التي يذكرها النعماني حول الغيبة، والتي يقول عنها: (لو لم يكن يُروى في الغيبة إلَّا هذا الحديث، لكان فيها كفاية لمن تأمَّلها)، لوجدنا أنَّها تتحدَّث عن الوفاة والقتل والذهاب لإمام موجود ومعروف سابقاً..
بينما يحتاج هو - أي النعماني - أنْ يُثبِت وجود (الإمام محمّد بن الحسن العسكري) أوَّلاً، حتَّى يستطيع أنْ ينسب إليه تلك الأفعال لاحقاً(٣٠).
لقد كان المتكلِّمون في البداية (في القرن الثالث الهجري) يحاولون إثبات صحَّة فرضيَّة (وجود الإمام الثاني عشر ابن الحسن)، ولم يكونوا يتحدَّثون عن (المهدي والمهدويَّة)، إذ إنَّهم كانوا بحاجة إلى إثبات وجود العرش قبل إثبات النقش.. ولكن الأزمة التي وقعوا فيها بعد القول بوجود (ابن الحسن)، وهي: (عدم ظهور الإمام للقيام بمهمَّات الإمامة) دفعتهم إلى البحث والتنقيب في تراث الفِرَق الشيعيَّة القديمة، كالكيسانيَّة والواقفيَّة، والتفتيش عن مخرج للأزمة والحيرة، ووجدوا في أحاديث المهدويَّة القديمة أفضل حلٍّ للخروج من أزمة عدم الظهور، ودليلاً جديداً على إثبات فرضيَّة (وجود ابن الحسن) في نفس الوقت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٩) راجع نصَّ كلمة الشيخ الآصفي في صفحة (١٩٣)، وراجع مناقشة أحمد الكاتب لها في صفحة (٢١١).
(٣٠) الأجدر بك أنْ تذكر الرواية ليقرأها القارئ ونرى هل تُفهَم كما فهمتها.
↑صفحة ٦٤↑
ومن هنا فقد تطوَّرت الفرضيَّة التي كانت مهتمَّة بإثبات (وجود الإمام الثاني عشر) إلى الحديث عن (مهدويَّته)، وأصبح الحديث يدور حول (وجود الإمام المهدي بن الحسن العسكري)، وذلك انطلاقاً من حالة الفراغ والغيبة وعدم المشاهدة، والاستنتاج منها: أنَّ الشخص المفترض أنَّه الإمام والذي لا يُشاهد: هو المهدي صاحب الغيبة، وأنَّ سبب عدم مشاهدته هو: الغيبة!
وإذا كان يصحُّ الاستدلال بتلك الروايات على مهدويَّة الأئمَّة السابقين المعروفين الذين غابوا في السجون أو الشعاب أو في سائر أنحاء الأرض، فإنَّه لا يمكن الاستدلال بها على صحَّة فرضيَّة (وجود ابن الحسن).. وذلك لأنَّ وجوده كان موضع شكٍّ واختلاف بين أصحاب الإمام الحسن العسكري، وإنَّ عمليَّة الاستدلال بها على (مهدويَّة ابن الحسن) بحاجة أوَّلاً إلى الاستدلال على وجوده، وإثبات ذلك قبل الحديث عن إمامته ومهدويَّته وغيبته وما إلى ذلك.
وإنَّ الاستدلال بالغيبة على الوجود، بدون إثبات ذلك من قبل، يشبه عمليَّة الاستدلال على وجود ماء في إناء، بالقول: إنَّ الماء لا رائحة له ولا لون.. ونحن لا نشمُّ رائحة ولا نرى لوناً في هذا الإناء.. إذن فإنَّ فيه ماء! إذا كان ذلك لا يجوز إلَّا بعد إثبات وجود شيء سائل في الإناء ثمّ القول: إنَّ هذا السائل ليس له لون ولا رائحة.. فإذن هو ماء، فإنَّ عمليَّة إثبات وجود (ابن الحسن) كذلك تحتاج أوَّلاً إلى إثبات وجوده وإمامته ومهدويَّته.. ثمّ إثبات غيبته، لا أنْ يتمَّ عكس الاستدلال، فيُتَّخذ من المجهول والعدم و(الغيبة) دليلاً على إثبات الوجود والإمامة والمهدويَّة لشخص لا يزال موضع بحث ونقاش!
إذن فلا يمكن في الحقيقة الاستدلال بأحاديث (الغيبة) العامَّة والغامضة والضعيفة على إثبات وجود (الإمام محمّد بن الحسن العسكري).
وقد حاول بعض المنظِّرين لموضوع (الغيبة) أنْ يستشهدوا بحديث الغيبتين
↑صفحة ٦٥↑
الصغرى والكبرى ليُثبِتوا صحَّة (نظريَّة وجود ابن الحسن)، ولكن حكاية (الغيبتين) نفسها لم تثبت في التاريخ، ولا يوجد عليها دليل سوى موضوع (النيابة الخاصَّة) التي ادَّعاها بعض الأشخاص، وهي لم تثبت لهم في ذلك الزمان، وكان الشيعة القائلون بوجود (ابن الحسن) يختلفون فيما بينهم حول صحَّة ادِّعاء هذا الشخص أو ذاك بالنيابة الخاصَّة التي كان قد ادَّعاها حوالي عشرين شخصاً أكثرهم من الغلاة.
ومن هنا فإنَّ الحدَّ الفاصل بين الغيبتين: الصغرى والكبرى كان حدًّا وهميًّا لم يثبت في التاريخ. ويلاحظ أنَّ الاستشهاد بـ (الغيبتين) قد ابتدأه النعماني في منتصف القرن الرابع الهجري، بعد انتهاء عهد (النوَّاب الخاصِّين)، ولم يشر إليه من سبقه من المؤلِّفين حول (الغيبة) الذين اكتفوا بالإشارة إلى الغيبة الواحدة.
وقد اعترف السيِّد المرتضى علم الهدى والشيخ الطوسي لدى الحديث عن أسباب الغيبة: أنَّ من الضروري أوَّلاً بحث موضوع الوجود والإمامة لـ (ابن الحسن العسكري) قبل الحديث عن الغيبة وأسبابها.
وقالا: إنَّ من شكَّ في إمامة ابن الحسن يجب أنْ يكون الكلام معه في نصِّ إمامته، والتشاغل بالدلالة عليها، ولا يجوز مع الشكِّ فيها أنْ نتكلَّم في سبب الغيبة؛ لأنَّ الكلام في الفرع لا يسوغ إلَّا بعد إحكام الأُصول.
دليل الاثني عشريَّة:
وهذا دليل متأخِّر.. بدأ المتكلِّمون يستخدمونه بعد أكثر من نصف قرن من الحيرة، أي في القرن الرابع الهجري، ولم يكن له أثر في القرن الثالث عند الشيعة الإماميَّة، حيث لم يشر إليه الشيخ عليُّ بن بابويه الصدوق في كتابه: (الإمامة والتبصرة من الحيرة)، كما لم يشر إليه النوبختي في كتابه: (فِرَق الشيعة)، ولا سعد ابن عبد الله الأشعري القمِّي في: (المقالات والفِرَق).. وذلك لأنَّ النظريَّة (الاثني
↑صفحة ٦٦↑
عشريَّة) طرأت على الإماميَّة في القرن الرابع، بعد أنْ كانت النظريَّة الإماميَّة ممتدَّة إلى آخر الزمان بلا حدود ولا حصر في عدد معيَّن، كما هو الحال عند الإسماعيليِّين والزيديَّة.. لأنَّها كانت موازية لنظريَّة الشورى وبديلاً عنها.. فما دام في الأرض مسلمون ويحتاجون إلى دولة وإمام، وكان محرَّماً عليهم اللجوء إلى الشورى والانتخاب - كما تقول النظريَّة الإماميَّة - كان لا بدَّ أنْ يُعيِّن الله لهم إماماً معصوماً منصوصاً عليه.. فلماذا إذن يحصر عدد الأئمَّة في اثني عشر واحداً فقط؟
من هنا لم يكن الإماميُّون يقولون بالعدد المحدود في الأئمَّة، ولم يكن حتَّى الذين قالوا بوجود (الإمام محمّد بن الحسن العسكري) يعتقدون في البداية أنَّه خاتم الأئمَّة، وهذا النوبختي يقول في كتابه (فِرَق الشيعة): (إنَّ الإمامة ستستمرُّ في أعقاب الإمام الثاني عشر إلى يوم القيامة). (اُنظر: المصدر: الفرقة التي قالت بوجود ولد للعسكري).
تشير روايات كثيرة يذكرها الصفَّار في (بصائر الدرجات) والكليني في (الكافي) والحميري في (قرب الإسناد) والعيَّاشي في (تفسيره)، والمفيد في (الإرشاد) والحرُّ العاملي في (إثبات الهداة)، وغيرهم وغيرهم.. إلى أنَّ الأئمَّة أنفسهم لم يكونوا يعرفون بحكاية القائمة المسبقة المعدَّة منذ زمان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعدم معرفتهم بإمامتهم أو بإمامة الإمام اللَّاحق من بعدهم إلَّا قرب وفاتهم، فضلاً عن الشيعة أو الإماميَّة أنفسهم الذين كانوا يقعون في حيرة واختلاف بعد وفاة كلِّ إمام، وكانوا يتوسَّلون لكلِّ إمام أنْ يُعيِّن اللَّاحق بعده ويُسمِّيه بوضوح لكي لا يموتوا وهم لا يعرفون الإمام الجديد.
يروي الصفَّار في (بصائر الدرجات/ باب أنَّ الأئمَّة يعلمون إلى من يوصون قبل وفاتهم ممَّا يعلمهم الله) حديثاً عن الإمام الصادق يقول فيه: «ما مات عالم حتَّى يعلمه الله إلى من يوصي»، كما يرويه الكليني في (الكافي)، ويروي أيضاً
↑صفحة ٦٧↑
عنه (عليه السلام): «لا يموت الإمام حتَّى يعلم من بعده فيُوصي إليه» وهو ما يدلُّ على عدم معرفة الأئمَّة من قبل بأسماء خلفائهم، أو بوجود قائمة مسبقة بهم. وقد ذهب الصفَّار والصدوق والكليني أبعد من ذلك فرووا عن أبي عبد الله أنَّه قال: «إنَّ الإمام اللَّاحق يعرف إمامته وينتهي إليه الأمر في آخر دقيقة من حياة الأوَّل»(٣١).
ونتيجةً لذلك فقد طُرِحَت عدَّة أسئلة في حياة أهل البيت، وهي: كيف يعرف الإمام إمامته إذا مات أبوه بعيداً عنه في مدينة أُخرى؟ وكيف يعرف أنَّه إمام إذا كان قد أوصى إلى جماعة؟ أو لم يوصِ أبداً؟ وكيف يعرف الناس أنَّه أصبح إماماً؟ خاصَّةً إذا تنازع الإخوة الإمامة وادَّعى كلُّ واحد منهم الوصيَّة، كما حدث لعدد من الأئمَّة في التاريخ.
روى الكليني حديثاً عن أحد العلويِّين هو عيسى بن عبد الله بن محمّد بن عمر بن عليِّ بن أبي طالب، قال قلت لأبي عبد الله:
إنْ كان كونٌ - ولا أراني الله ذلك - فبمن أأتمُّ؟ قال: فأومأ إلى ابنه موسى، قلت: فإنْ حدث بموسى حدث فمن أأتمُّ؟ قال: «بولده»، قلت: فإنْ حدث بولده حدث، وترك أخاً كبيراً وابناً صغيراً فبمن أأتمُّ؟ قال: «بولده»، ثمّ قال: «هكذا أبداً». قلت: فإنْ لم أعرفه ولا أعرف موضعه؟ قال: «تقول: اللَّهُمَّ إنِّي أتولَّى من بقي من حُجَجك من ولد الإمام الماضي، فإنَّ ذلك يجزيك إنْ شاء الله».
وهذا الحديث يدلُّ على عدم وجود قائمة مسبقة بأسماء الأئمَّة من قبل، وعدم معرفة علوي إمامي مثل عيسى بن عبد الله بها، وإمكانيَّة وقوعه في الحيرة والجهل، ولو كانت القائمة موجودة من قبل لأشار الإمام إليها(٣٢).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣١) لو أطلعتنا على هذا الحديث لكان أبلغ في دعواك.
(٣٢) هذه الرواية تُثبِت خلاف مدَّعاك من أنَّ الإمام لا يعرف من بعده إلَّا عند موته، فكيف أنَّ الإمام الصادق (عليه السلام) يُخبِر عن اسم الإمام اللَّاحق وهو الكاظم موسى بن جعفر (عليه السلام) مع أنَّ الإمام لم يكن في آخر دقيقة من حياته أو آخر عمره؟
↑صفحة ٦٨↑
وبسبب غموض هويَّة الأئمَّة اللَّاحقين لجماهير الشيعة والإماميَّة، فقد كانوا يسألون الأئمَّة دائماً عن الموقف الواجب اتِّخاذه عند وفاة أحد الأئمَّة.
ينقل الكليني وابن بابويه والعيَّاشي حديثاً عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله، قال: قلت له: إذا حدث للإمام حدث كيف يصنع الناس؟ قال: «يكونون كما قال الله تعالى: ﴿فَلَوْ لَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٢]».
قلت: فما حالهم؟ قال: «هم في عذر ما داموا في الطلب، وهؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر حتَّى يرجع إليهم أصحابهم».
وهناك رواية أُخرى مشابهة عن زرارة بن أعين الذي ابتُلي بهذه المشكلة، ومات بُعَيد وفاة الإمام الصادق، ولم يكن يعرف الإمام الجديد، فوضع القرآن على صدره وقال: (اللَّهُمَّ اشهد أنِّي أُثبت من يقول بإمامته هذا الكتاب). وقد كان زرارة من أعظم تلاميذ الإمامين الباقر والصادق، ولكنَّه لم يعرف خليفة الإمام الصادق، فأرسل ابنه عبيد الله إلى المدينة لكي يستطلع له الإمام الجديد، فمات قبل أنْ يعود إليه ابنه ومن دون أنْ يعرف من هو الإمام(٣٣)؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٣) إنَّ الكاتب لو تأمَّل في الحديث قليلاً لما نقله؛ لأنَّه عليه لا له وذلك:
أوّلاً: أنَّ الحديث يُثبِت ضرورة وجود إمام في كلِّ زمان، هذا ولو سلَّمنا جدلاً بأنَّ زرارة لا يعرف اسم الإمام اللَّاحق ولا نسبه، إلَّا أنَّه لم يُنكِر إمامة الإمام الذي لا بدَّ أنْ يكون في كلِّ زمان بنصِّ القرآن الذي أشهده زرارة في الرواية.
ثانياً: أنَّ زرارة بعث بابنه ليرى من الإمام هل يُؤذَن له في كشف الأمر أم يلتزم بالتقيَّة؟ وهذا ما يُخبِر به الإمام الرضا (عليه السلام) في الصحيح الذي يرويه الصدوق في (إكمال الدِّين) في نفس الصفحة التي يذكر فيها خبر زرارة الذي نقله الكاتب وغضَّ البصر عن هذه الصحيحة التي نقلها الشيخ أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا عليُّ بن إبراهيم بن هاشم، قال: حدَّثني محمّد ابن عيسى بن عبيد، عن إبراهيم بن محمّد الهمداني (رضي الله عنه)، قال: قلت للرضا (عليه السلام): يا ابن رسول الله، أخبرني عن زرارة هل كان يعرف حقَّ أبيك (عليه السلام)؟ فقال: «نعم»، فقلت له: فلِمَ بعث ابنه عبيداً ليتعرَّف الخبر إلى من أوصى الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام)؟ فقال: «إنَّ زرارة كان يعرف أمر أبي (عليه السلام) ونصَّ أبيه عليه وإنَّما بعث ابنه ليتعرَّف من أبي (عليه السلام) هل يجوز له أنْ يرفع التقيَّة في إظهار أمره ونصَّ أبيه عليه، وأنَّه لـمَّا أبطأ عنه ابنه طولب بإظهار قوله في أبي (عليه السلام) فلم يُحِبّ أنْ يقدم على ذلك دون أمره، فرفع المصحف وقال: اللَّهُمَّ إنَّ إمامي من أثبت هذا المصحف إمامته من ولد جعفر بن محمّد (عليه السلام)». توثيق الرواية: كمال الدِّين وتمام النعمة/ الشيخ الصدوق (ج ١/ ص ٧٥) نشر مؤسَّسة النشر الإسلامي.
ثالثاً: أنَّ التواتر على أقسام وقد بيَّنه الأخ محمّد منصور فيما سيأتي، راجع ملاحظة سريعة على منهجيَّة أحمد الكاتب ونقدها.
↑صفحة ٦٩↑
وتقول روايات عديدة يذكرها الكليني في (الكافي)، والمفيد في (الإرشاد)، والطوسي في (الغيبة): إنَّ الإمام الهادي أوصى في البداية إلى ابنه السيِّد محمّد، ولكنَّه تُوفِّي في حياة أبيه، فأوصى للإمام الحسن وقال له: «لقد بدا لله في محمّد كما بدا في إسماعيل.. يا بنيَّ أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً، أو نعمةً».
وإذا كانت روايات القائمة المسبقة بأسماء الاثني عشر صحيحة وموجودة من قبل، فلماذا لم يعرفها الشيعة الإماميَّة الذين اختلفوا واحتاروا بعد وفاة الإمام الحسن العسكري، ولم يشر إليها المحدِّثون أو المؤرِّخون الإماميَّة في القرن الثالث الهجري؟
إنَّ نظريَّة (الاثني عشريَّة) لم تكن مستقرَّة في العقل الإمامي حتَّى منتصف القرن الرابع الهجري.. حيث أبدى الشيخ محمّد بن عليٍّ الصدوق شكَّه بتحديد الأئمَّة في اثني عشر إماماً فقط، وقال: لسنا مستعبدين في ذلك إلَّا بالإقرار باثني عشر إماماً، واعتقاد كون ما يذكره الثاني عشر بعده(٣٤).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٤) روى الشيخ الصدوق في (كمال الدِّين) وغيره الكثير من الروايات التي تذكر عدَّة الأئمَّة (عليهم السلام) وروى الروايات التي تقول باثني عشر مهديًّا بعد المهدي، وفسَّرها بما ذكره الإمام الصادق (عليه السلام) من أنَّهم شيعة الأئمَّة وأعضادهم. وننقل هذه الرواية التي يذكرها الشيخ في كتاب (معاني الأخبار) عن الإمام الصادق (عليه السلام): قيل له: يا ابن رسول الله، سمعت عن أبيك أنَّه قال: «يكون بعد القائم اثنا عشر مهديًّا». فقال: «إنَّما قال: اثنا عشر مهديًّا ولم يقل: اثنا عشر إماماً، ولكنَّهم قوم من شيعتنا يدعون الناس إلى موالاتنا ومعرفة حقِّنا». نقلاً عن كشكول المحقِّق البحراني (ج ٣/ ص ١٨٩).
↑صفحة ٧٠↑
ونقل الكفعمي في (المصباح) عن الإمام الرضا (عليه السلام) الدعاء التالي حول (صاحب الزمان): «... اللَّهُمَّ صلِّ على ولاة عهده والأئمَّة من بعده».
وروى الصدوق عدَّة روايات حول احتمال امتداد الإمامة بعد الثاني عشر، وعدم الاقتصار عليه، وكان منها رواية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حول غموض الأمر بعد القائم، وأنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد عهد إليه: أنْ لا يخبر أحداً بذلك إلَّا الحسن والحسين، وأنَّه قال: «لا تسألوني عمَّا يكون بعد هذا، فقد عهد إليَّ حبيبي أنْ لا أُخبر به غير عترتي».
وروى الطوسي في (الغيبة): أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال لعليٍّ: «يا عليُّ، إنَّه سيكون بعدي اثنا عشر إماماً، ومن بعدهم اثنا عشر مهديًّا، فأنت يا عليُّ أوَّل الاثني عشر إماماً... ثمّ يكون من بعده اثنا عشر مهديًّا».
وعندما نشأت فكرة تحديد عدد الأئمَّة، بعد القول بوجود وغيبة (محمّد بن الحسن العسكري)، كاد الشيعة الإماميَّة يختلفون فيما بينهم حول تحديد عددهم باثني عشر أو ثلاثة عشر، إذ برزت في ذلك الوقت روايات تقول بأنَّ عدد الأئمَّة ثلاثة عشر، وقد نقلها الكليني في (الكافي)، ووُجِدَت في الكتاب الذي ظهر في تلك الفترة ونُسِبَ إلى سُلَيم بن قيس الهلالي، حيث تقول إحدى الروايات: إنَّ النبيَّ قال لأمير المؤمنين: «أنت واثنا عشر من ولدك أئمَّة الحقِّ». وهذا ما دفع هبة الله بن أحمد بن محمّد الكاتب، حفيد أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري، الذي كان
↑صفحة ٧١↑
يتعاطى (الكلام) لأنْ يُؤلِّف كتاباً في الإمامة، يقول فيه: إنَّ الأئمَّة ثلاثة عشر، ويضيف إلى القائمة المعروفة (زيد بن عليٍّ) كما يقول النجاشي في (رجاله)(٣٥).
وقد ذكر المؤرِّخ الشيعي المسعودي (تُوفِّي سنة ٣٤٥هـ) في (التنبيه والإشراف): (إنَّ أصل القول في حصر عدد الأئمَّة باثني عشر ما ذكره سُلَيم بن قيس الهلالي في كتابه).
وكان كتاب سُلَيم قد ظهر في بداية القرن الرابع الهجري، وتضمَّن قائمة بأسماء الأئمَّة الاثني عشر، التي يقول عنها: إنَّها كانت معروفة منذ عهد رسول الله وإنَّه هو الذي قد أعلنها من قبل. وأدَّى ظهور هذا الكتاب إلى تكوُّن الفرقة (الاثني عشريَّة) في القرن الرابع الهجري.. ثمّ بدأ الرواة يختلقون الروايات شيئاً فشيئاً، ولم يذكر الكليني في (الكافي) سوى سبع عشرة رواية، ثمّ جاء الصدوق بعده بخمسين عاماً ليزيدها إلى بضع وثلاثين رواية.. ثمّ يأتي تلميذه الخزَّاز ليجعلها مائتي رواية(٣٦)!
المفيد يُضعِّف كتاب سُلَيم:
وكان اعتماد الكليني والنعماني والصدوق في قولهم بالنظريَّة (الاثني عشريَّة) على كتاب سُلَيم الذي وصفه النعماني بأنَّه من الأُصول التي يرجع إليها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٥) هذه الروايات مع ضعف سندها ليس مفادها زيادة العدد في الأئمَّة، وإنَّما تُبيِّن وجود مصطفين ليس لهم مقام الإمامة، كمريم بنت عمران (عليها السلام)، ويكفي أنْ تلحظ الفارق في الرواية بين (اثنا عشر إماماً واثنا عشر مهديًّا)، مضافاً إلى وجود روايات عديدة ومستفيضة بل متواترة في رجعة الأئمَّة (عليهم السلام) قبل وفاة الإمام الثاني عشر.
(٣٦) إذا اختلق علماء الشيعة الاثني عشريَّة هذه الروايات، فماذا تقول - يا مسيء الأدب - في روايات الاثني عشر الموجودة في كُتُب الحديث لعلماء السُّنَّة، كالبخاري ومسلم والإمام ابن حنبل وغيرهم، فهل هي من اختلاق علماء الشيعة أيضاً؟ وهل هي من القرن الرابع الهجري يا متتبِّع؟!
↑صفحة ٧٢↑
الشيعة ويُعوِّلون عليها(٣٧)، ولكن عامَّة الشيعة في ذلك الزمان كانوا يشكُّون في وضع واختلاق كتاب سُلَيم، وذلك لروايته عن طريق (محمّد بن عليٍّ الصيرفي أبي سمينة) الكذَّاب المشهور، و(أحمد بن هلال العبرتائي) الغالي الملعون، وقد قال ابن الغضائري: (كان أصحابنا يقولون: إنَّ سُلَيماً لا يُعرَف ولا ذكر له... والكتاب موضوع لا مريَّة فيه، وعلى ذلك علامات تدلُّ على ما ذكرنا...).
وقد ضعَّف الشيخ المفيد (كتاب سُلَيم) وقال: (إنَّه غير موثوق به ولا يجوز العمل على أكثره، وقد حصل فيه تخليط وتدليس، فينبغي للمتديِّن أنْ يتجنَّب العمل بكلِّ ما فيه ولا يُعوِّل على جملته والتقليد لروايته، وليفزع إلى العلماء فيما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٧) هذا كذب وافتراء منك يا كاتب؛ لأنَّهم ينقلون عن الأُصول الأربعمائة وغيرها من مئات مصادر الكُتُب الروائيَّة الشيعيَّة التي استقصى منها الشيخ في الفهرست، والنجاشي في فهرسته أيضاً وغيرها من المصادر، وإنْ أردت بعض مصادر الحديث من كُتُب السُّنَّة، فإليك بعضها: مسند أحمد (ج ٥/ ص ٨٩ و٩٠ و٩٢)، مستدرك الحاكم (ج ٤/ ص ٥٠١)، مجمع الزوائد (ج ٥/ ص ١٩٠)، كنز العُمَّال (ج ٦/ ص ٢٠١ و٢٠٦)، صحيح البخاري (ج ٩/ ص ١٠١)، صحيح مسلم (ج ٢/ ص ١٩٢)، تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص ١٠)، صحيح الترمذي (ج ٢/ ص ٣٥)، والعديد غيرها فإنْ شئت المزيد، فراجع إحقاق الحقِّ وملحقاته، والعبقات، والغدير للأميني، وكُتُب السيِّد عبد الحسين شرف الدِّين وغيرها.
وأمَّا كذبك بأنَّ الكليني والنعماني والصدوق اعتمدوا في قولهم بالنظريَّة الاثني عشرية على كتاب سُلَيم بن قيس، فهذا كذب بيِّن لأدنى متتبِّع، فأمَّا الكليني فلم نعثر على رواية ذكرها في النصِّ على الأئمَّة (عليهم السلام) وأسمائهم وعدَّتهم استخرجها عن كتاب سُلَيم بن قيس، بل الموجود من غيره من كُتُب الإماميَّة، وأمَّا النعماني فقد ذكر طُرُقاً عديدة من كُتُب أُخرى وذكر من كتاب سُلَيم بن قيس، مع العلم أنَّ طريق النعماني إلى نسخة سُلَيم لا تنحصر بأبان بن أبي عيَّاش. كما أنَّ الصدوق في أجوبته للزيديَّة (كتاب كمال الدِّين) ذكر طُرُقاً أُخرى، ولم يحصرها بكتاب سُلَيم بن قيس، وقال: إنَّه خبر قد روته طبقات الإماميَّة بالشهرة والاستفاضة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فضلاً عن العامَّة. وكذا الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة قد ذكر طُرُقه إلى العديد من الكُتُب غير كتاب سُلَيم في باب الروايات في الاثني عشر. هذا غير ما ذكره هؤلاء الأعلام (قدّس سرّهم) من روايات بطُرُق أُخرى متواترة دالَّة على كبرى الإمامة.
↑صفحة ٧٣↑
تضمَّنه من الأحاديث ليوقفوه على الصحيح منها والفاسد). (المفيد: أوائل المقالات وشرح اعتقادات الصدوق)(٣٨).
وانتقد المفيدُ الصدوقَ على نقله الكتاب واعتماده عليه وعزَّا ذلك إلى منهج الصدوق الإخباري، وقال عنه: (إنَّه على مذهب أصحاب الحديث في العمل على ظواهر الألفاظ والعدول عن طُرُق الاعتبار، وهذا رأي يضرُّ صاحبه في دينه ويمنعه المقام عليه عن الاستبصار).
ومن هنا فقد اعترض الزيديَّة على الإماميَّة وقالوا: إنَّ الرواية التي دلَّت على أنَّ الأئمَّة اثنا عشر قولٌ أحدثه الإماميَّة قريباً، وولَّدوا فيه أحاديث كاذبة، واستشهدوا على ذلك بتفرُّق الشيعة بعد وفاة كلِّ إمام إلى عدَّة فِرَق، وعدم معرفتهم للإمام بعد الإمام، وحدوث البداء في إسماعيل ومحمّد بن عليٍّ، وجلوس عبد الله الأفطح للإمامة وإقبال الشيعة إليه وحيرتهم بعد امتحانه، وعدم معرفتهم الكاظم حتَّى دعاهم إلى نفسه، وموت الفقيه زرارة بن أعين دون معرفته بالإمام.
وقد نقل الصدوق اتِّهاماتهم للإماميَّة بإحداث النظريَّة (الاثني عشريَّة) في وقت متأخِّر، ولم ينفِ التهمة ولم يردّ عليها، وإنَّما برَّر ذلك بالقول: (إنَّ الإماميَّة لم يقولوا: إنَّ جميع الشيعة بما فيهم زرارة كانوا يعرفون الأئمَّة الاثني عشر)، ثمّ انتبه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٨) إنَّ في تمام نقلك تدليساً وافتراءً وأباطيلَ لم تراع فيها الخشية من الله (عزَّ وجلَّ)، ولم تراع أدنى أمانة في النقل. فقد ذكر الشيخ المفيد في كتابه (تصحيح الاعتقاد) في آخر الكتاب تحت عنوان في الأحاديث المختلفة ما نصُّه، قال: (وأمَّا ما تعلَّق به أبو جعفر (قدّس سرّه) من حديث سُلَيم الذي رجع فيه إلى الكتاب المضاف إليه برواية أبان بن أبي عيَّاش، فالمعنى فيه صحيح). ثمّ ذكر أنَّ الصحيح التفصيل في العمل بروايات ذلك الكتاب. هذا كما ترى شأنه شأن بقيَّة كُتُب الروايات في لزوم العمل برواياتها على طبق الموازين لا مطلقاً، ولم يطعن على الشيخ الصدوق بشيء، إنَّما انتقد بعض المطالب التي لا يتحمَّلها بعض الناس والتي أوردها الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) حيث تُسبِّب ارتجاعاً عليهم وتشكُّل معانيها على أفهامهم. فكم هي الفاصلة بين هذا وما دلَّسته، كما هي عادتك في النقل من المصادر.
↑صفحة ٧٤↑
الصدوق إلى منزلة زرارة وعدم إمكانيَّة جهله بأيِّ حديث من هذا القبيل، وهو أعظم تلامذة الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)، فتراجع عن كلامه وقال باحتمال علم زرارة بالحديث وإخفائه للتقيَّة، ثمّ عاد فتراجع عن هذا الاحتمال وقال: (إنَّ الكاظم قد استوهبه من ربِّه لجهله بالإمام؛ لأنَّ الشاكَّ فيه على غير دين الله).
وهذا ما يناقض دعوى الخزَّاز في (كفاية الأثر) والطوسي في (الغيبة) بتواتر أحاديث (الاثني عشرية) عن طريق الشيعة، ويُثبِت أنْ لا أساس لها من الصحَّة في الأجيال الأُولى، وخاصَّة في عهود الأئمَّة من آل البيت (عليهم السلام) حيث لم يكن يوجد لها أيُّ أثر، خاصَّةً أنَّ الطوسي لم يذكر الكُتُب الشيعيَّة القديمة التي زعم أنَّها تتحدَّث عن (الاثني عشرية)، وقد تهرَّب الخزَّاز من مناقشة تهمة الوضع المتأخِّر، وحاول أنْ ينفي تهمة الوضع من قِبَل الصحابة والتابعين لأهل البيت. في حين أنَّ التهمة لم تكن موجَّهة إلى الصحابة والتابعين لأهل البيت، وإنَّما إلى بعض الرواة المتأخِّرين الذين اختلقوا كتاب سُلَيم في عصر الحيرة. من أمثال (أبي سمينة)، و(العبرتائي)، و(عليِّ بن إبراهيم القمِّي).
أين الدلالة؟
هذا وإنَّ معظم الأحاديث التي تتحدَّث عن حصر الأئمَّة في اثني عشر، وكذلك جميع الأحاديث الواردة عن طريق السُّنَّة لا تذكر أسماء الأئمَّة أو الخلفاء أو الأُمراء بالتفصيل.. وإنَّ الأحاديث السُّنّيَّة بالذات لا تحصرهم في اثني عشر، وإنَّما تشير إلى وقوع الهرج بعد الثاني عشر من الخلفاء، كما في رواية الطوسي عن جابر بن سمرة، أو تتحدَّث عن النصر للدِّين، أو لأهل الدِّين، حتَّى مضيِّ اثني عشر خليفة.
ولو أخذنا بنظريَّة الشيعة الإماميَّة الفطحيَّة الذين لا يشترطون الوراثة العموديَّة في الإمامة، لأصبح الإمام الحسن العسكري هو الإمام الثاني عشر، بعد
↑صفحة ٧٥↑
الإقرار بإمامة عبد الله الأفطح بن الصادق، أو الاعتراف بإمامة زيد بن عليٍّ، الذي اعترف به قسم من الإماميَّة.
إذن.. فإنَّ الاستدلال بأحاديث (الاثني عشريَّة) العامَّة والغامضة والضعيفة دون وجود دليل علمي على ولادة (محمّد بن الحسن العسكري) هو نوع من الافتراض والظنِّ والتخمين.. وليس استدلالاً علميًّا قاطعاً..
لا بدَّ من إمام حيّ ظاهر يُعرَف!
أمَّا الدليل النقلي الأخير القائل بضرورة وجود الإمام في كلِّ عصر، وعدم جواز خلو الأرض من حجَّة.. فهو دليل ينقض نفسه بنفسه، إذ ما معنى الإمام والحجَّة؟ وما الفائدة منهما؟ أليس لهداية الناس وإدارة المجتمع وتنفيذ الأحكام الشرعيَّة؟ فكيف يمكن للإمام الغائب - على فرض وجوده - أنْ يقوم بكلِّ ذلك؟ وإذا كان الإمام الغائب يقوم بمهمَّة الإمامة والحجّيَّة، فلماذا شعر الفقهاء بالحاجة إلى الإمام والحجَّة في عصر الغيبة؟
وإذا كان الهدف من وجوده هو إدارة الكون كما يقول بعض الغلاة، فإنَّ الله سبحانه وتعالى لديه ملائكة كثيرون يقومون بذلك..
وقد ردَّ الإمام عليُّ بن موسى الرضا (عليه السلام) على الواقفيَّة الذين قالوا بغيبة أبيه (الإمام الكاظم) بأنَّه لا بدَّ من إمام حيّ ظاهر، يعرفه الناس ويرجعون إليه! وقال: إنَّ الحجَّة لا تقوم لله على خلقه إلَّا بإمام حيّ يُعرَف، ومن مات بغير إمام مات ميتة جاهليَّة.. إمام حيّ يعرفه.. وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «من مات، وليس له إمام يسمع له ويطيع، مات ميتة جاهليَّة».
وقال الإمام الرضا لأحد الواقفيَّة: «من مات وليس عليه إمام حيّ ظاهر، مات ميتة جاهليَّة»، فسأله مستوضحاً مركِّزاً على كلمة (إمام حيّ) فأكَّد له مرَّة أُخرى: (إمام حيّ).
↑صفحة ٧٦↑
إنَّ منشأ هذه الفكرة هي المقدَّمة الأُولى العقليَّة لنظريَّة الإمامة، والمقصود منها: ضرورة وجود عموم الإمام - أي الرئيس - في الأرض، وعدم جواز بقاء المجتمع بلا حكومة، أيَّة حكومة وأيَّ إمام.. وإذا كانت قد تطوَّرت إلى ضرورة وجود (الإمام المعصوم المعيَّن من قِبَل الله)، فإنَّ الإصرار عليها والاستنتاج منها: وجود (الإمام محمّد بن الحسن العسكري) واستمرار حياته إلى اليوم، هو أيضاً نوع من الافتراض والظنِّ والتخمين.
فأين هو الإمام المعلِّم الهادي والمطبِّق لأحكام الله الذي يحافظ على الشريعة من الزيادة والنقصان؟
وحتَّى لو صحَّت تلك الأحاديث، فقد يكون الإمام شخصاً آخر.. إذا لم يكن المقصود به مطلق الإمام أو مطلق الحجَّة والعالم بأحكام الدِّين.
* * *
نقد الدليل التاريـخي (١)
وهذا موضوع آخر من كتابه يسطره على صفحة الحوار، بعنوان نقد الدليل التاريخي، وقد أنزله على الشبكة بعد ستٍّ وعشرين دقيقة من إنزال موضوعه السابق، وكأنَّما يريد إنزال مواضيعه كلِّها من دون أنْ يُناقَش في كلِّ موضوع، ونسي أنَّه على شبكة حوار وليس على شاشة التلفاز؛ فبدأ موضوعه بقوله:
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٢:٠٧) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
المطلب الأوَّل: تناقض الروايات:
أعتقد أنَّ القارئ العادي لا يحتاج إلى أنْ يتجشَّم عناء درس علم الرواية والدراية حتَّى يُقيِّم تلك الروايات التاريخيَّة الواردة حول مولد (الإمام محمّد بن
↑صفحة ٧٧↑
الحسن العسكري) أو أنْ يكون من العلماء المختصِّين في التاريخ.. فإنَّ المؤلِّفين الذين أوردوا تلك الروايات في كُتُبهم أراحوا أنفسهم من تهمة الاعتماد على هكذا روايات ضعيفة، وقالوا في البداية: إنَّنا نُثبِت وجود (الإمام الثاني عشر) بالطُّرُق الفلسفيَّة الاعتباريَّة النظريَّة، ولسنا بحاجة إلى الروايات التاريخيَّة، وإنَّما نأتي بها من باب الإسناد والتعضيد والتأييد، وألقوا عن أنفسهم عبء المناقشة العلميَّة لتلك الروايات والتأكُّد من سندها والنظر إلى متنها(٣٩).
وأعتقد أنَّهم كانوا يوردونها من باب (الغريق يتشبَّث بكلِّ قشَّة)، وإلَّا فإنَّهم أعرف الناس بضعفها وهزالها.. ولو كانت فرقة أُخرى تستشهد بهكذا روايات على وجود أئمَّة لها أو أشخاص من البشر.. لسخروا منها واستهزءوا بعقولها واتَّهموها بمخالفة المنطق والعقل والظاهر.. كما فعل متكلِّمو الفرقة الاثني عشريَّة في مناقشتهم لفريق من الشيعة الإماميَّة الفطحيَّة الذين ادَّعوا وجود ولد مكتوم للإمام عبد الله الأفطح بن جعفر الصادق(٤٠)، وقالوا: إنَّ اسمه محمّد وإنَّه المهدي المنتظر، وزعموا ولادته في السرِّ واختباءه في اليمن.. وذلك اعتماداً على مبدأ ضرورة استمرار الإمامة في الأعقاب وأعقاب الأعقاب وعدم جواز انتقالها إلى أخوين بعد الحسن والحسين (عليهما السلام).. وقال الشيعة الاثنا عشريَّة عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٩) أوّلاً: هذه إساءة أدب منك لأُسلوب الحوار الذي طالبت بأنْ لا يكون تجريحاً وإثارةً. ثانياً: ما سيُثبِته الحوار معك عكس ما تدَّعيه تماماً، ولن تتمكَّن من الردِّ على رواية واحدة ولن تتمكَّن من الطعن فيها، فهذا يعني كذب مدَّعاك هنا، كما يعني تدليسك الواضح على القارئ الذي أردت إيهامه بصحَّة دعواك.
(٤٠) اعلم أنَّ أكثر الفطحيَّة إلَّا من شذَّ منهم يعتقدون بإمامة الأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام)، غاية الأمر أنَّهم يضيفون إلى ذلك عبد الله بن جعفر، وبعد موته رجعوا إلى موسى بن جعفر (عليه السلام)، فمن ثَمَّ كان فقههم أقرب شيء إلى فقه الإماميَّة الاثني عشريَّة، فكانوا يحتجُّون بروايات الأئمَّة لاعتقادهم بإمامتهم أيضاً.
↑صفحة ٧٨↑
ذلك الفريق من الشيعة الفطحيَّة: إنَّهم اخترعوا وجود شخص وهمي لا وجود له هو: (الإمام المهدي محمّد بن عبد الله الأفطح) نتيجةً لوصولهم إلى طريق مسدود(٤١).
إنَّ من يطَّلع على التراث الشيعي العلمي الضخم في مجال الرواية والدراية، ويرى اعتناء العلماء - منذ القرون الأُولى - بتقييم الرواة ودراسة الأحاديث وغربلتها وتمييز القويِّ من الضعيف.. يُدرك مدى الأهمّيَّة التي يوليها العلماء الشيعة لبناء الأحكام الشرعيَّة على أُسُس علميَّة متينة، وعدم قبولهم بجواز بناء مسائل الدِّين على الأوهام والفرضيَّات والإشاعات والأساطير. ولكن المراقب المحايد يصاب بالدهشة لإهمال العلماء طوال التاريخ لدراسة الروايات التاريخيَّة الواردة حول إثبات ولادة ووجود (الإمام الثاني عشر محمّد بن الحسن العسكري)، واعتمادهم في ذلك على قاعدة ما أنزل الله بها من سلطان، تقول: (الضعيف يُقوِّي بعضه بعضاً)، واعتبار مسألة الولادة والوجود أمراً مفروغاً منه مسلَّماً لا يحتاج إلى مراجعة أو نقاش.. وهذا ما أدَّى بهم إلى ترديد تلك الروايات بلا تمعُّن ولا تفكير.. تماماً، كما كان يفعل غلاة الإخباريِّين.
ومن المعروف أنَّ الإخباريِّين الأوائل كانوا يتلقَّفون كلَّ رواية بلا دراسة، ولا تمحيص.. ثمّ تطوَّروا فأخذوا يُميِّزون بين الروايات.
وثمّ ولدت الحركة الأُصوليَّة التي راحت تُقسِّم الأحاديث إلى صحيح، وحسن وقوي وضعيف.. إلَّا أنَّ هذا التطوُّر لم يشمل الروايات التاريخيَّة الواردة حول موضوع (ولادة الإمام الثاني عشر)، حيث نرى الشيخ الطوسي الذي ألَّف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤١) الفرق بين الاثني عشريَّة والفطحيَّة، ما أثبتته الفرقة الاثني عشريَّة ثابت بالقرآن والسُّنَّة النبويَّة الشريفة، من طُرُق العامَّة والخاصَّة، وهذا ما سيتَّضح، وأمَّا ما قالته الفطحية، فلم يستند على دليل يا متتبِّع!
↑صفحة ٧٩↑
(الفهرست) و(الرجال) في علم الرجال، ينقل تلك الروايات عن رجال يُضعِّفهم في كُتُبه، وذلك بسبب الحاجة إلى تلك الروايات لبناء نظريَّات كلاميَّة معيَّنة.
لقد أنفق محقِّق كبير، مثل السيِّد مرتضى العسكري سنوات طويلة من عمره، لكي يُثبِت في مجلَّدين أو ثلاثة: أنَّ عبد الله بن سبأ أُسطورة وهميَّة اختلقها بعض المؤرِّخين؛ لكي يتَّهموا بأخذ نظريَّة الوصيَّة في الإمامة من الإسرائيليِّين، وبذل السيِّد العسكري جهوداً مضنية، ودرس عشرات الكُتُب التاريخيَّة؛ لكي ينفي قصَّة وجود عبد الله بن سبأ ودوره في الفكر الشيعي، ولكنَّه لم يبذل واحداً بالمائة أو بالألف من تلك الجهود ليبحث حقيقة (وجود الإمام الثاني عشر) أو يدرس تلك الروايات التي تتحدَّث عن ولادته.. ولم يتوقَّف عندها في كتاب من كُتُبه، وهو الذي اكتشف وجود (مائة وخمسين صحابي مختلق)!
بعد كلِّ ذلك.. يمكنني القول بعدم وجود قضيَّة مهملة أو معرض عنها في التراث الشيعي، كقضيَّة (وجود الإمام المهدي وولادته)، ولا توجد قضيَّة خارج البحث والاجتهاد مثل تلك القضيَّة.. وعندما قمت بدراستها بالصدفة، أو بالأحرى بتوفيق من الله تعالى، وعرضت نتيجة دراستي على العلماء والمجتهدين والمفكِّرين لأكثر من خمسة أعوام، وجدت الكثير منهم يتهرَّب من قراءة الدراسة ويمتعض نفسيًّا من مجرَّد البحث فيها، كأنَّها تحاول أنْ توقظَهُ من الاستغراق في حلم جميل.. وقد تأكَّدت من وجود حالة نفسيَّة عقائديَّة تحول دون ممارسة البحث العلمي، أو نقد تلك الروايات التاريخيَّة..
إنَّ بعض المثقَّفين من عامَّة الناس يتلذَّذ بنقد عقائد الفِرَق الأُخرى، والاستهزاء برجالها الضعاف الوضَّاعين ورواياتها غير المعقولة، ولكنَّه عندما يتعلَّق الأمر بقضيَّة تخصُّ طائفته، فإنَّه يغمض عينيه ويتذرَّع بالجهل وعدم
↑صفحة ٨٠↑
الاختصاص، ويرفض أنْ يشغل عقله قليلاً، ويُفضِّل أنْ ينام على ما ورثه من خرافات وأساطير.
قبل أنْ نناقش تلك الروايات التاريخيَّة متناً وسنداً.. ينبغي أنْ نشير إلى أنَّ هذه الروايات لم تكن معروفة في فترة ما يُسمَّى بـ (الغيبة الصغرى) حيث لم ينقلها المؤلِّفون الذين اعتقدوا بوجود الإمام الثاني عشر، وكتبوا حول ذلك في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، كالنوبختي في (فِرَق الشيعة)، وسعد بن عبد الله الأشعري القمِّي في (المقالات والفِرَق)، وعليِّ بن بابويه الصدوق في (الإمامة والتبصرة من الحيرة)، ومحمّد بن أبي زينب النعماني في (الغيبة)، وحتَّى الشيخ الكليني الذي حاول أنْ يجمع أيَّة قصَّة أو رواية حول الموضوع، وذكر قصَّة الرجل الهندي (سعيد بن أبي غانم) الذي سافر من كشمير بحثاً عن الإمام المهدي، ولكنَّه لم يذكر كثيراً من تلك القَصص التي سجَّلها من بعده الشيخ محمّد ابن عليٍّ الصدوق في (إكمال الدِّين)، أو الشيخ المفيد في (الإرشاد) و(الفصول)، أو الشيخ الطوسي في (الغيبة).
ومن المعروف أنَّ الشيخ الصدوق (الابن) جاء بعد حوالي مائة سنة من وفاة الإمام العسكري.. وأنَّ الشيخ الطوسي تُوفِّي بعد قرنين من ذلك التاريخ.. ولكنَّهما راحا يُسجِّلان كلَّ ما يسمعان من حكايات وإشاعات وأساطير تتعلَّق بولادة (محمّد بن الحسن العسكري)، ويُرسِلان أو ينقلان عن عدد من الغلاة والضعاف والمجاهيل والمختلقين.
وكما رأينا فقد كانت تلك الأدلَّة التاريخيَّة تختلف فيما بينها اختلافاً فاحشاً وكبيراً بدءاً من تحديد هويَّة أُمِّ (محمّد بن الحسن) المفترضة، ومروراً بتاريخ ولادته، وانتهاءً بأدقّ التفاصيل.. حيث اختلفت في اسم والدته بين الجارية نرجس، أو سوسن، أو صقيل، أو خمط، أو ريحانة، أو ملكية، أو الحرَّة مريم بنت
↑صفحة ٨١↑
زيد العلويَّة، وأنَّها جارية وُلِدَت في بيت بعض أخوات الإمام الهادي.. أو اشتُرِيَت من سوق الرقيق في بغداد(٤٢)..
واختلفت تلك الروايات في تحديد تاريخ الولادة في اليوم والشهر والسنة.. واختلفت تبعاً لذلك في تحديد عمره عند وفاة أبيه بين سنتين أو ثماني سنوات(٤٣).
واختلفت في طريقة الحمل في الرحم أم في الجنب، وفي الولادة من الفرج أم من الفخذ! واختلفت الروايات في تحديد لونه بين البياض والسمرة، واختلفت في طريقة نموِّه بين الطريقة العاديَّة المتعارفة، والقول بأنَّه كان يبدو عند وفاة أبيه بهيأة صبيٍّ، وبين الطريقة اللَّاطبيعية.. واختلفت في هذه الطريقة بين النموِّ السريع في اليوم مثل النموِّ خلال سنة اعتياديَّة، أو النموِّ في اليوم مثل النموِّ في أُسبوع.. والنموِّ في الأُسبوع مثل النموِّ خلال شهر.. والنموِّ في شهر مثل النموِّ خلال سنة. وبناءً على ذلك فإنَّه كان يبدو قبل وفاة أبيه بهيأة رجل كبير قد يبلغ سبعين عاماً.. بحيث لم تتعرَّف عليه عمَّته حكيمة، واستغربت من أمر الإمام الحسن لها بالجلوس بين يديه.
واختلفت في أمر التكتُّم عليه.. فقالت رواية: إنَّ حكيمة ودَّعت الإمام الحسن في أعقاب ولادة ابنه وانصرفت إلى منزلها، وعندما اشتاقت له بعد ثلاثة أيَّام رجعت ففتَّشت عنه في غرفته؛ فلم تجد له أثراً ولا سمعت له ذكراً، فكرهت أنْ تسأل ودخلت على أبي محمّد فبدأها بالقول: «هو يا عمَّة في كنف الله أحرزه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٢) وهذا كما تنقل كُتُب التاريخ الاختلاف في أسماء أجداد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فهل هذا يعني تكذيب الأمر؟ ثمّ إنَّه كما نبَّهنا وسيأتي من أنَّ الظروف الأمنيَّة التي كانت تحيط الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ألزمت بأنْ يكون الأمر كذلك.
(٤٣) لو سلَّمنا بذلك جدلاً، فهذا لا يعني عدم الولادة، فالسُّنَّة مثلاً أو الشيعة ينقلون تواريخ وروايات متعدِّدة على ولادة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهي تختلف في التاريخ والتفاصيل الأُخرى، وهل هذا يدعو للشكِّ في أصل وجوده (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أم أنَّه ينبغي ملاحظة الرواية التي تقع على طبق الموازين فيُعمَل بها؟
↑صفحة ٨٢↑
وستره حتَّى يأذن الله له، فإذا غيَّب الله شخصي وتوفَّاني ورأيت شيعتي قد اختلفوا، فأخبري الثقات منهم وليكن عندكِ مستوراً وعندهم مكتوماً، فإنَّ وليَّ الله يُغيِّبه الله عن خلقه ويحجبه عن عباده فلا يراه أحد حتَّى يُقدِّم له جبرائيل فرسه».
وقالت رواية أُخرى: إنَّ حكيمة كانت تشاهد ابن الحسن كلَّ أربعين يوماً، وإنَّها لم تزل تراه إلى أنْ أصبح رجلاً.
وقالت روايات أُخرى: إنَّ الإمام الحسن العسكري أعلن عن ولادة ابنه وأرسل إلى بعض أصحابه بكبش ليعقُّوا عنه، وإنَّه عرضه على مجموعة من أصحابه، وإنَّه كتب إلى أحمد بن إسحاق القمِّي بذلك.. وإنَّه أخرج ابنه وأراه إيَّاه عند زيارته له في (سُرَّ من رأى)، وإنَّ عدداً من الخدم والأصحاب شاهدوا بالصدفة أو بالعمد ابن الإمام الحسن، وهو جالس في غرفة أو يمشي في الدار.
واختلفت الروايات بين ذكر الخوف من السلطة للقبض عليه، وبين الاطمئنان التامِّ إلى حدِّ الخروج للصلاة على جثمان أبيه واستقبال الوفود في دار أبيه.
واختلفت الروايات حول علم الأصحاب والخدم بوجود ابن للإمام العسكري، فقال بعضها بأنَّ الخدم والأصحاب المقرَّبين كانوا يعلمون بوجوده، وإنَّهم قد شاهدوه.. وقال بعضها: إنَّهم فوجئوا به عند ظهوره للصلاة على جثمان أبيه وعدم معرفته إلَّا بالعلامات العديدة.
واختلفت الروايات حول نضجه العقلي، فقال بعضها: إنَّه سجد لحظة ولادته وتشهَّد بالشهادتين وصلَّى وسلَّم على آبائه واحداً وحداً، وقرأ آيات من القرآن المجيد.. وقال بعضها: إنَّه كان وهو غلام يلعب برُمَّانة ذهبيَّة ويصدُّ أباه عن كتابة ما يريد(٤٤)!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٤) لا تدافع بين مقتضيات البدن بحسب السنِّ علوّ الروح كما هو الشأن في عيسى (عليه السلام)، إذ آتاه الله الكتاب والحكمة صبيًّا، في حين يرضع من المراضع ويكون في حضن الحواضن.
↑صفحة ٨٣↑
رواية حكيمة:
تقول رواية الصدوق عن حكيمة: إنَّ نرجس لم يكن بها أيُّ أثر للحمل، وإنَّها لم تكن تعرف ذلك، وقد استغربت عندما قالت لها حكيمة: إنَّها ستلد تلك الليلة، وقالت: يا مولاتي ما أرى شيئاً من هذا! وإنَّ حكيمة نفسها استغربت عندما أخبرها الإمام الحسن بولادة ابن له في ليلة النصف من شعبان وتساءلت: مَنْ أُمُّه؟ وعندما قال لها: «نرجس»، قالت: جعلني الله فداك ما بها من أثر. وعندما اقترب الفجر ولم يظهر أيُّ أثر دخل الشكُّ في قلب حكيمة.
تقول الرواية: إنَّ حكيمة أقبلت تقرأ القرآن على نرجس، فأجابها الجنين من بطن أُمِّه، يقرأ مثلما تقرأ، وسلَّم عليها، ممَّا أثار فزعها، ومع ذلك تقول الرواية: إنَّ حكيمة أخذتها فترة ولم تشهد عمليَّة الولادة، وفي رواية أُخرى: إنَّ نرجس غُيِّبت عن حكيمة، فلم ترَها، كأنَّه ضُرِبَ بينها وبينها حجاب، ممَّا أثار استغرابها ودفعها إلى الصراخ واللجوء إلى أبي محمّد.
ولا تذكر رواية الصدوق ما ذكره الطوسي في إحدى رواياته(٤٥): أنَّ حكيمة وجدت على ذراع الوليد مكتوباً: ﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾ (الإسراء: ٨١)، بالرغم من تقدُّم الصدوق على الطوسي، ولكن الصدوق ينفرد بذكر الطيور التي حلَّقت فوق رأس الوليد، وقول الحسن لطير منها: «احمله واحفظه وردَّه إلينا في كلِّ أربعين يوماً»(٤٦).
ويتَّفق الاثنان (الصدوق والطوسي) على تكلُّم الوليد والتشهُّد بالشهادتين،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٥) قلنا: إنَّ تعدُّد حكاية الزوايا المختلفة للحدث أمر دارج في كلِّ الروايات التاريخيَّة في كُتُب التاريخ أو الحديث.
(٤٦) لو رجعت إلى القرآن الكريم فإنَّه ينقل زوايا متعدِّدة في القصَّة الواحدة لا يذكرها في الآية والسورة الأُخرى، فهل هذا يعني اختلاف الأمر، أم إنَّه نقل زاوية أُخرى؟
↑صفحة ٨٤↑
والصلاة على النبيِّ والأئمَّة السابقين، والسلام على أُمِّه وأبيه، كما يتَّفق الاثنان أيضاً: على أنَّ الوليد غاب بعد ذلك واختفى، وأنَّ عمَّته لم تجد له أثراً ولا سمعت له ذكراً.
وكلُّ هذه الأُمور غريبة لم تُعرَف عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولا عن أحد من الأئمَّة السابقين (عليهم السلام).. وهي من مقولات الغلاة وأساطيرهم(٤٧)، ولا علاقة لها بالشيعة الجعفريَّة أو الإماميَّة الذين جعلوا النصَّ طريقاً للتعرُّف على الإمام الجديد، ولم يذكروا شيئاً من تلك الأُمور الخارقة للطبيعة.
وقد ذكر الله (عزَّ وجلَّ) قصَّة تكلُّم النبيِّ عيسى (عليه السلام) في المهد أمام الناس بصورة إعجازيَّة لكي ينفي عن أُمِّه تهمة الزنا، ويُثبِت ولادته بصورة غير طبيعيَّة، وليست هناك حاجة لإحداث المعجزة والأُمور الخارقة للعادة مع ولادة (الإمام الثاني عشر). وإذا كان لا بدَّ للمعجزة أنْ تحدث.. فلا بدَّ أنْ تحدث أمام الناس لكي يطَّلعوا عليها ويؤمنوا برسالتها.. ولا يمكن أنْ تحدث بصورة سرّيَّة لا يطَّلع عليها أحد.. فما الفائدة منها(٤٨)؟
لقد كان هناك شكٌّ في أساس ولادة ابن للحسن العسكري، وإذا كانت هناك إمكانيَّة لحدوث أمر خارق للعادة، فإنَّه كان يمكن أنْ يحدث لإثبات أمر الولادة.. وحفظ الوليد من السوء مثلاً.. وهذا ما لم يحدث.
ويلاحظ أنَّ جميع الروايات التي تتحدَّث عن ولادته سرًّا وغيبته بين أجنحة الطيور التي هي الملائكة، لم تشر إلى وجود خوف من السلطة، وإلى أنَّه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٧) بل لو راجعت روايات السُّنَّة والشيعة في ولادة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأيَّام نشأته في الطفولة لرأيت من الآيات الإلهيَّة ما هو أغرب عند حسِّك المادِّي، وكذلك الحال في ولادة عليٍّ والحسنين (عليهم السلام).
(٤٨) هذا خلط بين الكرامات لأولياء الله وحُجَجه وبين المعاجز، وإلَّا فهزُّ مريم للنخلة تلك الشجرة الصلبة وتساقط الرطب المخلوق للساعة إعجاز أمام مرأى من؟ بل هو كرامة لأولياء الله.
↑صفحة ٨٥↑
المهدي المنتظر.. ولو كان قد وُلِدَ حقًّا لكان من الأفضل أنْ يُعلِن الإمام العسكري عن ولادته بحيث يراه جميع الناس ويتأكَّدوا من وجوده وخلافته لأبيه.. وإذا حاولت السلطة العبَّاسيَّة أنْ تُلقي القبض عليه أو تقتله فإنَّه يختفي بقدرة الله وبصورة إعجازيَّة..
وتقول الرواية المنسوبة إلى حكيمة: إنَّ الإمام الحسن العسكري كان يعلم بصورة غيبية بجنس الجنين وأنَّه ذَكَر.. كما تقول: إنَّه كان يعلم غيبيًّا بما تُفكِّر به عمَّته حكيمة التي شكَّت في قوله، وقال لها: «لا تعجلي يا عمَّة». كما تشير إلى علم الإمام الحسن باقتراب أجله وقوله لعمَّته: «عن قريب تفقدوني»، وكذلك علم الإمام المهدي بالغيب وإجابته على أسئلة حكيمة قبل أنْ تبدأ بها.. وكلُّ هذه أُمور تخالف عقيدة الشيعة الجعفريَّة والإماميَّة وتتَّفق مع نظريَّات الغلاة والمنحرفين عن أهل البيت (عليهم السلام)(٤٩)، إذ إنَّ هناك حديثاً مشهوراً لدى الشيعة عن أئمَّتهم يأمر بضرب أيِّ حديث يتعارض مع القرآن عرض الجدار.
إذن فإنَّ كلَّ هذه التساؤلات والإشكالات والمآخذ تُضعِّف الرواية المنسوبة إلى حكيمة، وتُسقِطها عن الحجّيَّة والوثوق وتقرب من كونها أُسطورة حاكها الغلاة والمتطرِّفون.
* * *
نقد الدليل التاريـخي (٢)
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٢:١٠) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٩) قال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ (الجنّ: ٢٦ و٢٧)، ولعلَّ الآية عند الكاتب من وضع الغلاة الباطنيَّة.
↑صفحة ٨٦↑
رواية أبي الأديان البصري:
وهي رواية انفرد بها الصدوق في (إكمال الدِّين) عن رجل مختلق أو موهوم لم يذكر اسمه ولا اسم أبيه ولا عشيرته: (أبو الأديان البصري)، وقال(٥٠): إنَّه أحد خُدَّام الإمام وحامل كُتُبه ورسوله إلى الأمصار وجامع أمواله... ومع ذلك فلم يعرفه أحد ولم يشر إلى وجوده أيُّ مؤرِّخ آخر.
وبالرغم من المكانة التي يعطيها إيَّاه الصدوق، فإنَّ الراوي (أبا الأديان) يعترف في نفس الرواية بأنَّ الإمام العسكري لم يُخبره بهويَّة الإمام من بعده، وجهله بوجود ابن للإمام، ويقول أيضاً بأنَّ عامَّة الشيعة بما فيهم عقيد والسمَّان (عثمان بن سعيد)، والبصري نفسه عزّوا جعفر بن عليٍّ وهنَّئوه، ولم يكونوا يعرفون من هو الإمام بعد العسكري، أرادوا أنْ يصلُّوا خلف جعفر.
وتعتمد الرواية من بدايتها إلى نهايتها على عنصر (علم الإمام بالغيب)، حيث يقول الراوي في البداية: إنَّ الإمام الحسن قال له: «امض إلى المدائن، فإنَّك ستغيب خمسة عشر يوماً وتدخل إلى (سُرَّ من رأى) يوم الخامس عشر وتسمع الواعية في داري وتجدني على المغتسل»، وكلُّ ذلك من علم الغيب الذي لا يعلمه إلَّا الله، حيث يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَا ذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ (لقمان: ٣٤).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٠) هذا تدليس من الكاتب، إذ لم يصفه الصدوق بأنَّ أبا الأديان خادمٌ، وإنَّما الذي وصفه هو أبو الحسن عليُّ بن محمّد حباب، والذي روى عن حباب هو محمّد بن الحسين بن عبَّاد، ومع ذلك الصدوق لم يرتضِ هذه الرواية حيث قال: ووجدت مثبتاً في بعض الكُتُب المصنَّفة في التواريخ ولم أسمعه إلَّا عن محمّد بن الحسين بن عبَّاد...، وعبارة الصدوق صريحة في عدم اعتماده على هذه الرواية وإنَّما ذكرها استطراداً في ذيل الباب، إذ لا قرينة نافية أو مثبتة على هذه الرواية. والعجيب أنَّ الكاتب ترك بقيَّة روايات الباب المعتبرة التي اعتمدها الصدوق وتشبَّث بخصوص هذه الرواية، مع أنَّ دأب المحدِّثين في كُتُبهم تذييل كلِّ باب في نهايته بذكر روايات مؤيِّدة لا تكون هي مورد اعتمادهم الأساس.
↑صفحة ٨٧↑
وتقول الرواية: إنَّ الإمام القادم المجهول سوف يطالب البصري، دون أنْ يعرفه من قبل، بجواب كُتُب الإمام العسكري، كما تقول بأنَّه سوف يُخبِر بما في الهميان. وأنَّ صبيًّا خرج بعد تكفين العسكري ودفع جعفراً وصلَّى على أبيه، ثمّ قال للبصري: «هات جوابات الكُتُب التي معك»، فدفعها إليه. وفي تلك الأثناء جاء وفد من شيعة قم والجبال، فسألوا عن الإمام العسكري فأخبروهم بوفاته، فقالوا: من نُعزِّي؟ فأشار الناس إلى جعفر بن عليٍّ، فسلَّموا عليه وعزُّوه وهنَّئوه..
ولم يُوضِّح البصري لماذا لم يدلّهم هو إلى الإمام الجديد ولماذا لم يشر قادة الشيعة الذين صلُّوا - لتوهم - خلف الصبيِّ إليه، إذا كان قد حدث ذلك حقًّا وفعلاً؟
وعلى أيِّ حالٍ، فإنَّ الراوي (أبا الأديان البصري) يقول: وفد قم لم يعترضوا على تعيين جعفر كإمام بعد أخيه، ولم يحتجُّوا بضرورة الوراثة العموديَّة، وإنَّما قالوا بأنَّ معهم كُتُباً وأموالاً وطلبوا من جعفر أنْ يُخبر بصورة غيبية ممَّن هي الكُتُب والأموال(٥١).. فقام جعفر ينفض أثوابه ويقول: تريدون منَّا أنْ نعلم الغيب؟! فخرج الخادم وقال: معكم كُتُب فلان وفلان وهميان فيه ألف دينار وعشرة دنانير مطليَّة، فدفعوا إليه الكُتُب والمال وقالوا: الذي وجَّه بك لأخذ ذلك هو الإمام.
ولم يقل الصدوق في هذه الرواية: إنَّ وفد قم عرفوا هويَّة الإمام أو رأوه أو التقوا به(٥٢). ولكنَّه يقول في رواية أُخرى: إنَّ الوفد سار مع الخادم ودخل على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥١) هذا شاهد عن تمنُّع القميِّين عن التسليم بإمامة جعفر، ولذلك لم يُسلِّموه ما أتوا به.
(٥٢) إلى الآن لا يريد أنْ يفهم الكاتب طبيعة تعدُّد روايات التاريخ للحادثة الواحدة من زوايا متعدِّدة، إذ على منهجه سوف تتساقط السور القرآنيَّة الحاكية لحادثة واحدة من زوايا متعدِّدة، مع أنَّ كلَّ راوٍ ينقل الزاوية التي ركَّز عليها في الحدث الواحد.
↑صفحة ٨٨↑
الإمام القائم، وهو قاعد على سرير كأنَّه فلقة قمر عليه ثياب خضر، فسلَّم الوفد عليه، وردَّ عليهم السلام، ثمّ قال: جملة من المال كذا وكذا.. حمل فلان كذا وحمل فلان كذا.. ولم يزل يصف حتَّى وصف الجميع، ثمّ وصف حال الوفد وثيابه وما كان معه من الدواب.
وبالرغم من أنَّ المسألة ليست عسيرة جدًّا.. حيث يمكن لأيِّ شخص أنْ يندسَّ بين الوفد ويطَّلع على حاله أو يتَّفق مع رئيس الوفد ويُخبر البقيَّة بالتفاصيل.. فإنَّ رواية أبي الأديان البصري تعتبر ذلك من علم الغيب، وأنَّه يُشكِّل دلالة على إمامة الرجل (أو الصبيِّ) القاعد على السرير، وإمامته، دون أنْ تقول كيف تعرَّف الوفد على هويَّة الرجل، وهل قال لهم: إنَّه ابن الإمام العسكري.. أم لا؟
وكما هو واضح.. فإنَّ هذه الرواية لا تذكر شيئاً عن الخوف والإرهاب المحيط بالشيعة والإمام الجديد، بل تقول: إنَّ الخليفة العبَّاسي المعتمد وقف إلى جانب الوفد في خلافهم مع جعفر وأنَّه أرسل لهم حرساً يحمونهم في الطريق، وتنسى الرواية التي تقول: إنَّ السلطات العبَّاسيَّة كبست دار الإمام العسكري وفتَّشته بحثاً عن وجود ولد له.
وإذا كان الإمام فعلاً خائفاً ومتكتماً ومستوراً فلماذا يخرج للصلاة على أبيه؟ ولماذا يجلس في بيته ويستقبل الوفود على مقربة من عيون السلطة(٥٣)؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٣) أمَّا أنَّ الخليفة تعاضد مع أهل قم فتدليس في مفاد الرواية، إذ في الرواية أنَّ جعفراً مدَّعي الإمامة هو الذي جرجر وفد قم إلى السلطة العبَّاسيَّة، فقام الوفد بإخفاء حقيقة ما جاءوا إليه وأظهروا للسلطة العبَّاسيَّة أنَّ ما في أيديهم أمانات عاديَّة لأشخاص معيَّنين، وأنَّ لأصحابها علامات لا يُعطي وفد قم الأمانات لأحد إلَّا لمن يعرف تلك العلامات كما في تعريفه اللقطة، وبهذه الطريقة تخلَّص وفد قم من السلطة العبَّاسيَّة، وأمَّا الإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه) فقد التقى بخادمه كما في الرواية خارج سامرَّاء، فلا أدري إلى كم يُدلِّس الكاتب بلا خجل.
↑صفحة ٨٩↑
هذا، وإنَّ المعروف والثابت تاريخيًّا أنَّ أبا عيسى المتوكِّل هو الذي صلَّى على جثمان الإمام العسكري وشيعته عاصمة الخلافة(٥٤) (سُرَّ من رأى) التي أغلقت أبوابها عن بكرة أبيها وضجَّت بالبكاء والعويل.
ويبدو أنَّ هذه الحكاية قد نشأت في قم في مرحلة متقدِّمة، لإثبات وجود خلف للإمام العسكري.. قبل أنْ تتطوَّر وتنشأ نظريَّة مهدويَّة ذلك الخلف(٥٥).. وذلك لأنَّ مسألة إثبات الخلف تختلف وتسبق زمنيًّا مسألة إثبات صفة المهدويَّة له، وقد كان الناس مشغولين في البداية بإثبات المسألة الأُولى، ولم تنشأ المسألة الثانية (المهدويَّة) إلَّا في وقت متأخِّر بعد سنين طويلة، انطلاقاً من حالة الغيبة وعدم الوجدان للإمام، فاعتبر البعض ذلك علامة من علامات المهدي وقال: إذن فإنَّه المهدي المنتظر.
ومن هنا فإنَّ واضعي الحكاية لم يأخذوا في حسبانهم الخوف من السلطات وتفتيش الشرطة عنه، فتحدَّثوا عن خروج الصبيِّ للصلاة على أبيه واستقبال الوفود في داره.
وقد ذكرنا إلى جانب تلك الرواية روايتين أُخريين هما رواية إسماعيل بن عليٍّ النوبختي الذي يقول: إنَّه زار الإمام العسكري قبيل ساعة من وفاته فطلب الإمام من خادمه (عقيد) أنْ يأتيه بابنه، وأنَّه جاء به إليه فقال له: «أبشر يا بنيَّ فأنت صاحب الزمان...». ورواية: المجموعة من الأصحاب الذين قالوا: إنَّ الإمام العسكري عرض عليهم ابنه وقال لهم: «هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم.. أمَا إنَّكم لا ترونه بعد يومكم هذا...».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٤) الظاهر أنَّ الكاتب استخرج هذا من كتاب ألف ليلة وليلة، فأين برهانه العلمي؟! وأين مصدره الذي نقل عنه؟!
(٥٥) وهنا بدأ الكاتب يرسم الخواطر الخياليَّة من دون مادَّة إثبات.
↑صفحة ٩٠↑
والرواية الأُولى تتناقض مع رواية أبي الأديان البصري الذي يقول فيها: إنَّ (عقيداً) كان يجهل وجود ولد للإمام العسكري(٥٦)، ولذلك طلب من أخيه جعفر أنْ يُصلِّي عليه، بينما تقول الرواية الأُولى: إنَّ (عقيداً) جاء بالصبيِّ لأبيه أمام إسماعيل بن عليٍّ النوبختي.
ومن الجدير بالذكر أنَّ النوبختي لا يشير بنفسه إلى هذه القصَّة ويقول: إنَّه عرف بوجود ابن للحسن عن طريق الاستدلال النظري، كما ينقل عنه الصدوق في كتابه إكمال الدِّين (ص ٩٢) عن كتاب النوبختي: (التنبيه)(٥٧).
أمَّا الرواية الثانية فتتناقض أيضاً مع رواية أبي الأديان البصري التي تنفي معرفة كبار الأصحاب بوجود ابن للحسن العسكري، بما فيهم السمَّان (عثمان بن سعيد العمري) و(حاجز الوشَّاء) الذي تساءل من جعفر: من الصبيُّ؟ لنقيم عليه الحجَّة، فقال: والله ما رأيته قطُّ ولا أعرفه(٥٨)!
ومن المعروف.. أنَّ السمَّان العمري وحاجز الوشَّاء ادَّعيا (النيابة الخاصَّة والوكالة عن الحجَّة بن الحسن) بعد ذلك، فمتى رأوه؟ ومتى أخذوا الوكالة منه؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٦) ليس في رواية أبي الأديان أنَّه يجهل، وإنَّما فيه مداراة عقيد وغيره من أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام) في العلن أمام السلطة العبَّاسيَّة إلَّا جعفر.
(٥٧) المنقول في تلك الصفحة عن النوبختي هو الاستدلال لإثبات وجوده للآخرين لا لنفسه. كما أنَّه لم يستدلّ بالأدلَّة النظريَّة وإنَّما أنكر اشتراط المعرفة بوجود شيء، كوجود الله والنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واستخلافه لعليٍّ (عليه السلام) اشتراطها بالمشاهدة الحسّيَّة عندنا في الزمن المتأخِّر، فإنَّ المعرفة بوجود تلك الأشياء إنَّما هي بالأدلَّة والأخبار المتواترة من دون مشاهدة حسّيَّة.
(٥٨) ليس في رواية أبي الأديان جهل كبار الأصحاب وإنَّما الذي فيها تخفِّيهم في السطح العلني أمام السلطة العبَّاسيَّة وكتمانهم على أمر الحجَّة، وليس استفهام الحاجز عن جهل وإنَّما هو استدراج لجعفر واستنكار عليه بالتعريض، وكأنَّ الكاتب يريد أنْ يُحلِّل ويُلصِق بالرواية ما يروق له بعيداً عن ألفاظ الرواية كما هي عادته دائماً.
↑صفحة ٩١↑
وهناك نقطة أُخرى: هي أنَّ الرواية الثانية تقول: إنَّ الإمام العسكري قال لأصحابه بعد أنْ عرض عليهم ابنه: «أما إنَّكم لا ترونه بعد يومكم هذا»، فكيف ظهر بعد ذلك وصلَّى على جثمان أبيه واستقبل الوفود(٥٩)؟
وكلُّ هذه الروايات تتناقض مع الرواية الأُولى المرويَّة عن حكيمة والتي يقول فيها الإمام العسكري: إنَّها لن تراه بعد يوم ولادته، حيث تعود كلُّ رواية فتنقض الرواية السابقة(٦٠).
وهذا ما يدلُّ على أنَّ الفريق الذي اخترع وجود ولد للإمام العسكري خلافاً للظاهر والحقيقة.. وبناءً على مقولات فلسفيَّة واهية، كعدم جواز انتقال الإمامة إلى أخوين بعد الحسن والحسين، وضرورة استمرار الأمانة في الأعقاب وأعقاب الأعقاب.. أنَّ هذا الفريق راح يختلق القَصص والحكايات والأساطير عن مولد ابن الحسن واللقاء به في حياة أبيه ومشاهدته عند وفاته. ولـمَّا كانت الروايات مختلفة ولا تُعبِّر عن الحقيقة ومصنوعة من قِبَل رجال مختلفين، فقد جاءت الروايات متناقضة ومختلفة في أدقِّ التفاصيل، وتُعبِّر كلُّ واحدة منها عن أفكار واضعها النفسيَّة الخاصَّة، كما جاءت محفوفة بالمعاجز والأُمور الخارقة للعادة، ومنطوية على دعوى علم الأئمَّة بالغيب، وهذه دعوى تناقض القرآن الكريم الذي يُصرِّح: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ﴾ (النمل: ٦٥)، ويقول: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٩) ليس في الرواية الثانية الأربعون الذين هم من أعيان الطائفة هم نفس وفد قم الذين كانوا من عوامِّ الشيعة، كما أنَّه ليس في رواية صلاته وجود أُولئك الأربعين. كما أنَّ عدم الرؤية بمعنى نفي التمكُّن من رؤيته، كما هو الحال في حضور الأئمَّة (عليهم السلام).
(٦٠) ليس في رواية حكيمة أنَّه لن تراه، وإنَّما الموجود فيها أنَّ الحجَّة سيغيب عن الأنظار ويستتر، لا أنَّها هي لا تراه. بل على العكس، إذ فيها أنَّها كانت تراه صباحاً ومساءً وتُخبر الشيعة بأجوبة المسائل.
↑صفحة ٩٢↑
ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ...﴾ (الجنّ: ٢٦ و٢٧)، وتحاول تفسير ظاهرة الغيبة المحيِّرة والمناقضة لنظريَّة الإمامة الإلهيَّة واللطف الإلهي.
إنَّ الرواية التاريخيَّة الظاهريَّة تقول: إنَّ الإمام الحسن العسكري لم يشر إلى وجود ولد له، وعندما أحسَّ بالوفاة استدعى القاضي ابن أبي الشوارب، وأوصى أمامه بأمواله وممتلكاته إلى أُمِّه (حديث)، وقد ادَّعت جارية له اسمها (نرجس) بأنَّها حامل منه أملاً في عتقها؛ لأنَّها كانت ستصبح (أُمُّ ولد) وتُعتَق من نصيب ابنها.. وربَّما كانت الدورة الشهريَّة قد تأخَّرت عليها فظنَّت نفسها أنَّها حامل.. وقد أرجأ القاضي قسمة التركة واهتمَّ بالجارية، ونقلها إلى نساء الخليفة المعتمد وأمر باستبرائها، أي التحقُّق من ادِّعائها الحمل.. ثمّ لم يتبيَّن عليها أيُّ شيء(٦١).
وكان بعض الشيعة الإماميَّة الذين لم يقولوا بإمامة جعفر بن عليٍّ قد أُصيبوا بأزمة فكريَّة وحيرة فتشبَّث بعضهم بقشَّة نرجس، وقال: إنَّها ولدت بعد ذلك.. وقال بعضهم: إنَّها لم تلد ولم نرَ ذلك.. ولكنَّها سوف تلد عندما يأذن الله، وإنَّ الجنين بقى في بطنها مدَّة طويلة بصورة إعجازيَّة.. وقال بعض آخر: إنَّها ادَّعت الحمل لتغطية على ولدها الذي ولدته من قبل.. وقال آخرون أقوالاً أُخرى مشابهة.
وراح الذين ادَّعوا وجود الولد من قبل ينسجون الإشاعات والأساطير بصورة سرّيَّة خافتة ليُضِلُّوا بها البسطاء ويستفيدوا من ورائها الأموال.. ولم يُصدِّق العلماء والمحقِّقون الأوائل بتلك الإشاعات.. ثمّ جاء الشيخ الصدوق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦١) هذه الرواية المزعوم ثبوتها وقطعيَّتها عند الكاتب من دون مستند لهي أدلّ دليل على استنفار الدولة العبَّاسيَّة قواها لمراقبة تولُّد الإمام الثاني عشر المهدي الموعود بالنصر والظفر على الجاهلين، ولذا أبقوا والدته سنتين.
↑صفحة ٩٣↑
بعد مائة عام والشيخ الطوسي بعد مائتي عام ليُسجِّلوا تلك القَصص والأساطير دون أنْ يُحقِّقوا بمصادرها وأسنادها، ودون أنْ يعتمدوا عليها كثيراً.. وكانوا يشعرون بضعفها وهزالها فقالوا في البداية: إنَّنا نعتمد على الدليل العقلي (الفلسفي) لإثبات وجود (ابن الحسن) ونأتي بتلك القَصص من باب المعاضدة والتأييد(٦٢)..
ثمّ جاء من بعدهم من المؤرِّخين (الإخباريِّين) فنقلوا تلك القَصص الأُسطوريَّة كأنَّها حقائق تاريخيَّة لا تقبل المناقشة والحوار.
ومع أنَّ الله سبحانه وتعالى يطالبنا بالأخذ بالرواية الظاهريَّة(٦٣) النافية لوجود ولد للإمام الحسن العسكري، ولا يحاسبنا ولا يسألنا بالأخذ بالرواية السرّيَّة الباطنيَّة المتناقضة والمحفوفة بالخرافات والأساطير.. وأنَّنا لسنا ببعد ذلك، وبعدما تبيَّن ما فيها من ضعف كبير، بحاجة إلى دراسة سندها ومعرفة الرواة الناقلين لها.. فإنَّنا بالرغم من ذلك سوف نلقي نظرة على سندها لننظر من أين جاء بها أُولئك المؤرِّخون، ولنزداد معرفةً ويقيناً بضعف هذه الروايات التي لعبت دوراً كبيراً في التاريخ الإسلامي وفي بناء الفكر السياسي الشيعي عبر التاريخ.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦٢) لا أدري لِـمَ لا يراعي الكاتب الأمانة العلميَّة؟ فإنَّ من يطلب الحقيقة ويدَّعي الحقَّ لا حاجة له إلى استعمال النسبة المخالفة للواقع، فإنَّ الصدوق (رضي الله عنه) قد عقد في (إكمال الدِّين) ما يقرب من (٥٨) باباً حشدها بالروايات للتدليل على وجود الإمام المنتظر كما ذكر ذلك في مقدَّمة كتابه. وكذا الطوسي (رضي الله عنه). والنعماني في غيبته. نعم في الإشكالات العقليَّة التي ذكروها عن خصوم الإماميَّة في كبرى الإمامة الإلهيَّة أجابوا بالأدلَّة العقليَّة والقرآنيَّة والروايات المتواترة جميعاً، لا في الصغرى من وجود الإمام المنتظر (عجَّل الله فرجه).
(٦٣) لم يذكر الكاتب لهذه الرواية سنداً ولا مصدراً كما نبَّهنا عليه سابقاً في قبال الروايات المتواترة على الولادة.
↑صفحة ٩٤↑
دليل المعاجز على وجود الإمام الثاني عشر
أحمد الكاتب عضو:
الدليل الإعجازي على وجود المهدي:
وبالإضافة إلى الأدلَّة العقليَّة والنقليَّة والتاريخيَّة على وجود (محمّد بن الحسن العسكري) فإنَّ المؤيِّدين لهذه النظريَّة يوردون دليلاً رابعاً هو (المعاجز) التي يقولون: إنَّ (النوَّاب الأربعة) كانوا يقومون بها أو (علم الغيب) الذي كانوا يتحدَّثون عنه.
وقد استعرضنا كثيراً من تلك (المعاجز) في أثناء الحديث عن الروايات التاريخيَّة حول ولادة (ابن الحسن) ووجوده في الفصل الماضي(٦٤)، وسوف نقوم الآن باستعراض (المعاجز) التي قدَّمها (النوَّاب الأربعة: عثمان بن سعيد العمري، ومحمّد بن عثمان، والحسين بن روح النوبختي، وعليُّ بن محمّد السمري) وكلاء (الإمام المهدي) في فترة: (الغيبة الصغرى) التي امتدَّت حوالي سبعين عاماً من (٢٦٠) للهجرة إلى (٣٢٩) تاريخ وفاة (النائب الرابع).
وقد ذكر الشيخ المفيد في (الإرشاد) قصَّة محمّد بن إبراهيم بن مهزيار، الذي شكَّك في وجود (الإمام المهدي) بعد وفاة الإمام العسكري، والذي يقول: إنَّ أباه قد أوصى إليه بمال جليل وأمره أنْ يتَّقي الله فيه ويُسلِّمه لخليفة الإمام العسكري، فقال في نفسه: أحمل هذا المال إلى بغداد وأكتري داراً على الشطِّ ولا أُخبر أحداً بشيء، فإنْ وضح لي شيء كوضوحه في أيَّام أبي محمّد أنفدته، وإلَّا أنفقته في ملاذي وشهواتي، فقَدِمَ بغداد واكترى داراً على الشطِّ وبقي أيَّاماً فإذا برقعة مع رسول، وفيها: يا محمّد معك كذا وكذا... حتَّى قصَّ عليه جميع ما معه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦٤) هذا واضح من أنَّ الكاتب يُنزِّل كتابه الذي كان يتضمَّن هذه الفصول.
↑صفحة ٩٥↑
وذكر ما في جملتها شيئاً لم يحط به علماً فسلَّم المال إلى الرسول، وبقي أيَّاماً ثمّ خرج إليه إعلان بنصبه (وكيلاً) مقام أبيه.
وذكر الكليني والمفيد والطوسي أمثلة كثيرة على معاجز النوَّاب، وعلمهم بالغيب، كدليل على ارتباطهم بالإمام المهدي، وعلى وجود المهدي وارتباطه بالسماء.
منها: قيام الإمام برفع جمل وما عليه في السماء.
ومنها: نهي المهدي لرجل عن ختان ابنه، وموت الطفل بعد ذلك بقليل.
ومنها: نهي رجل عن السفر في البرِّ والبحر وأمره بالإقامة بالكوفة، وخروج القراصنة وقطَّاع الطُّرُق على القوافل في ذلك الوقت.
ومنها: قصَّة معرفة العمري بموضع أمانة نسيها الرسول بين أمتعته، مع عدم حمل الرسول لأيَّة تذكرة أو كتاب حول الموضوع.
ومنها: إخبار العمري بتاريخ وفاته في اليوم والشهر والسنة.
ومنها: إخبار العمري الناس بالأجوبة العجيبة، وإخباره لرجل بتفاصيل خلاف سرِّي بينه وبين زوجته.
ومنها: قدرة النائب الثالث: الحسين بن روح النوبختي على قراءة رسالة بيضاء ومعرفته بمحتوياتها، والإجابة عليها بسرعة.
ومنها: إخبار عليِّ بن بابويه الصدوق بولادة ولدين صالحين له في المستقبل.
ومنها: إخبار النوبختي لعدد من الناس بحلِّ قضاياهم في المستقبل بالتحديد وبالتفصيل، وبموت بعض الأشخاص في أوقات محدَّدة من قبل.
ومنها: معرفة النوبختي باللغات الأجنبيَّة والتكلُّم بها، من دون تعلُّم، بالمعجزة.
↑صفحة ٩٦↑
ومنها: إخبار النائب الرابع السمري، لأصحابه، وهو في بغداد، بنبأ وفاة عليِّ بن الحسين بن بابويه في قم في نفس اليوم.
ومنها: إخبار الشيعة بتاريخ وفاته بعد ستَّة أيَّام.
ومنها: إخبار الوكيل القاسم بن العلاء بقرب وفاته بعد أربعين يوماً، وإرجاع بصره إليه بعد فقده لمدَّة طويلة، وإخباره ببقاء ولده وعدم موته كإخوته السابقين.
ومنها: علم النوَّاب بمصدر الأموال التي كانت ترد إليهم.
ومنها: إخبار محمّد بن زياد الصيمري بوفاته وموته في الوقت المحدَّد.
ويشير الطوسي إلى دليل المعاجز ويعتبره: دليلاً على إمامة ابن الحسن وثبوت غيبته ووجود عينه؛ لأنَّها أخبار تضمَّنت الإخبار بالمغيَّبات وبالشيء قبل كونه على وجه خارق للعادة لا يعلم ذلك إلَّا من أعلمه الله على لسان نبيِّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ووصل إليه من جهة مَنْ دلَّ على صدقه؛ لأنَّ المعجزات لا تظهر على يد الكذَّابين، وإذا ثبت ذلك دلَّ على وجود من أسندوا ذلك إليه.
دليل الإجماع:
بعد الدليل الفلسفي (العقلي، أو الاعتباري والدليل الروائي النقلي) والدليل التاريخي، ودليل (المعاجز الغيبيَّة) الخارقة للعادة.. بعد كلِّ ذلك، يأتي دليل الإجماع الذي يشير إليه بعض القائلين بنظريَّة وجود (محمّد بن الحسن العسكري) وولادته.
وكان أوَّل من أشار إلى دليل الإجماع هو سعد بن عبد الله الأشعري القمِّي في المقالات والفِرَق (ص ١٠٦).
ونقل الشيخ الصدوق عن النوبختي: أنَّ الشيعة أجمعوا جميعاً على أنَّ الإمام الحسن العسكري قد خلَّف ولداً هو الإمام، وقال: إنَّ كلَّ من قال بإمامة الأحد
↑صفحة ٩٧↑
عشر من آباء القائم ألزمه القول بإمامة الثاني عشر، لنصوص آبائه عليه باسمه ونسبه، وإجماع شيعتهم على القول بإمامته، وإنَّه القائم الذي يظهر بعد غيبة طويلة فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً. (إكمال الدِّين: ص ٤٤ و٩٣)، وهو ما يتبادر إلى الأذهان اليوم، حيث يحتجُّ الكثير من الناس بأنَّ قضيَّة وجود (الإمام المهدي محمّد بن الحسن العسكري) هي من الأُمور المجمع عليها بين صفوف الشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة على الأقلّ.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٢:١٨) صباحاً.
موسى العلي هجر:
للأسف أيُّها الكاتب أنت لا تريد الحوار! طريقتك في إنزال المواضيع ما أسهلها! ولكن الحوار هو المهمُّ أيُّها الكاتب!
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٢:٣٤) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
سوف أتفرَّغ الآن لمناقشة أيِّ موضوع يختاره الإخوان من المواضيع التي طرحتها للنقاش، وحاولت أنْ أُدمِّر الأدلَّة المختلفة النقليَّة والعقليَّة والتاريخيَّة، وأُناقشها بعد ذلك؛ لأنَّ بعض الإخوة تساءل عن الأدلَّة المختلفة، وذكر وجودها وقد جئت له بها؛ فإذا أراد مناقشتها، فإنَّه يسهل عليه ذلك.
وليست لدينا عجلة لكي نناقش كلَّ الأُمور في ليلة واحدة.
* * *
ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٧:٥٥) صباحاً.
عبد الحسين البصري عضو:
↑صفحة ٩٨↑
لسنا بحاجة إلى ما يُبيِّن ولادة الإمام المهدي ويُثبِتها تاريخيًّا بعد أنْ عرفنا اتِّفاق كلمة المسلمين على أنَّه من أهل البيت، وأنَّ ظهوره يكون في آخر الزمان، وعرفنا أيضاً النتيجة التي انتهى إليها البحث في طوائف نسب الإمام المهدي، وهي أنَّه لا مجال للشكِّ في كون المهدي الإمام الثاني عشر من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو محمّد بن الحسن بن عليِّ بن محمّد بن عليِّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (عليهم السلام)، وأنَّه حسيني الأب حسني الأُمِّ من جهة فاطمة بنت الحسن السبط أُمِّ الإمام الباقر محمّد بن عليِّ بن الحسين (عليهم السلام).
وهذا يعني أنَّ البحث عن ولادة الإمام المهدي وبيان ثبوتها شرعاً بحث غير طبيعي لولا وجود بعض الملابسات التاريخيَّة حول ولادته (عجَّل الله فرجه)، كادِّعاء عمِّه جعفر الكذَّاب بعدم وجود خلف لأخيه العسكري (عليه السلام)، وقيام السلطة الحاكمة بتسليم تركة الإمام العسكري بعد وفاته لأخيه جعفر الكذَّاب أخذاً بادِّعائه الباطل فيما رواه علماء الشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة أنفسهم، ولم يروه غيرهم قطُّ إلَّا من طُرُقهم، وفي هذا وحده كفاية للمنصف المتدبِّر، إذ كيف يروي الشيعة أمراً ويعتقدون بخلافه لو لم يثبت لهم زيف هذا الأمر وبطلانه؟!
إنَّه من قبيل رواياتهم إنكار معاوية منزلة عليٍّ (عليه السلام) من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم). فإنكار معاوية ثابت، ومنزلة عليٍّ (عليه السلام) ثابتة؛ وثبات كليهما عند الشيعة لا يخالجه شكٌّ؛ لأنَّه على نحو اليقين، فكذلك إنكار جعفر الكذَّاب ثابت عندهم، وتصرُّف السلطة على وفق ادِّعائه ثابت أيضاً، وفي مقابل هذا ثبوت ولادة المهدي بالإقرار والعيان، ما بعدهما من برهان.
ولكن من يقتات على موائد الغرب مع انحرافه، لا يبعد منه استغلال تلك الملابسات، وإثارتها بثوب جديد موشى بألوان (التصحيح).
ولأجل هذا نقول: إنَّ ولادة أيِّ إنسان في هذا الوجود تثبت بإقرار أبيه،
↑صفحة ٩٩↑
وشهادة القابلة، وإنْ لم يرَه أحد قطُّ غيرهما، فكيف لو شهد المئات برؤيته، واعترف المؤرِّخون بولادته وصرَّح علماء الأنساب بنسبه، وظهر على يديه ما عرفه المقرَّبون إليه، وصدرت منه وصايا وتعليمات، ونصائح وإرشادات، ورسائل وتوجيهات، وأدعية وصلوات، وأقوال مشهورة، وكلمات مأثورة، وكان وكلاؤه معروفين، وسفراؤه معلومين، وأنصاره في كلِّ عصر وجيل بالملايين.
ولعمري، هل يريد من استغلَّ تلك الملابسات، وأنكر ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أكثر من هذا لإثبات ولادته، أم تراه يقول بلسان الحال للمهدي، كما قال المشركون بلسان المقال لجدِّه النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَها تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً﴾ (الإسراء: ٩٠ - ٩٣).
اللَّهُمَّ إنَّا لا نرجو هداية من عرف الحقَّ وتمسَّك بالباطل؛ لأنَّ من لا يقدر على الانتفاع بضياء الشمس، فهو على الانتفاع بنور القمر أعجز، وإنَّما نطمح إلى إيصال الحقِّ إلى جاهله، وتقوية الإيمان به عند من ضعف في قلبه، فنقول:
إخبار الإمام العسكري بولادة ابنه المهدي (عليهما السلام):
ويدلُّ عليه الخبر الصحيح عن محمّد بن يحيى العطَّار، عن أحمد بن إسحاق، عن أبي هاشم الجعفري، قال: قلت لأبي محمّد (عليه السلام): جلالتك تمنعني من مسألتك فتأذن لي أنْ أسألك؟ فقال: «سَلْ»، قلت: يا سيِّدي، هل لك ولد؟ فقال: «نعم»، فقلت: فإنْ حدث بك حدث فأين أسأل عنه؟ قال: «بالمدينة»(٦٥).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦٥) أُصول الكافي (ج ١/ ص ٣٢٨/ باب ٧٦/ ح ٢).
↑صفحة ١٠٠↑
والخبر الصحيح عن عليِّ بن محمّد، عن محمّد بن عليِّ بن بلال، قال: خرج إليَّ من أبي محمّد قبل مضيِّه بسنتين يُخبرني بالخلف من بعده، ثمّ خرج إليَّ من قبل مضيِّه بثلاثة أيَّام يُخبرني بالخلف من بعده(٦٦).
والمراد بعليِّ بن محمّد هو الثقة الأديب الفاضل ابن بندار، وأمَّا عن محمّد ابن عليِّ بن بلال فإنَّه من الوثاقة والجلالة أشهر من نار على علم بحيث كان يراجعه من مثل أبي القاسم الحسين بن روح (رضي الله عنه)، كما هو معلوم عند أهل الرجال.
شهادة القابلة بولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
وهي السيِّدة العلويَّة الطاهرة حكيمة بنت الإمام الجواد وأُخت الإمام الهادي وعمَّة الإمام العسكري (عليهم السلام). وهي التي تولَّت أمر نرجس أُمِّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في ساعة الولادة(٦٧)، وصرَّحت بمشاهدة الإمام الحجَّة بعد مولده(٦٨)، وقد ساعدتها بعض النسوة في عمليَّة الولادة، منهنَّ جارية أبي عليٍّ الخيزراني التي أهداها إلى الإمام العسكري (عليه السلام) فيما صرَّح بذلك الثقة محمّد بن يحيى(٦٩)، ومارية، ونسيم خادمة الإمام العسكري (عليه السلام)(٧٠).
ولا يخفى أنَّ ولادات المسلمين لا يطَّلع عليها غير النساء القوابل، ومن يُنكِر هذا فعليه أنْ يُثبِت لنا مشاهدة غيرهنَّ لأُمِّه في مولده!
هذا، وقد أجرى الإمام العسكري (عليه السلام) السُّنَّة الشريفة بعد ولادة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦٦) أُصول الكافي (ج ١/ ص ٣٢٨/ باب ٧٦/ ح ١).
(٦٧) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٢٤/ باب ٤٢/ ح ١ و٢)، والغيبة للطوسي (ص ٢٣٤ و٢٠٤).
(٦٨) أُصول الكافي (ج ١/ص ٣٣٠/باب ٧٧/ح ٣)، وكمال الدِّين (ج ٢/ص ٤٣٣/باب ٤٢/ح ١٤).
(٦٩) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٣١/ باب ٤٢/ ح ٧).
(٧٠) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٣٠/ باب ٤٢/ ح ٥)، والغيبة للطوسي (ص ٢١١ و٢٤٤).
↑صفحة ١٠١↑
المهدي (عجَّل الله فرجه) فعقَّ عنه بعقيقة(٧١) كما يفعل الملتزمون بالسُّنَّة حينما يرزقهم الله من فضله مولوداً.
من شهد برؤية المهدي من أصحاب الأئمَّة (عليهم السلام) وغيرهم:
شهد برؤية الإمام المهدي في حياة أبيه العسكري (عليهما السلام) وبإذن منه عدد من أصحاب العسكري وأبيه الهادي (عليهما السلام)، كما شهد آخرون منهم ومن غيرهم برؤية الإمام المهدي بعد وفاة أبيه العسكري (عليهما السلام) وذلك في غيبته الصغرى التي ابتدأت من سنة (٢٦٠هـ) إلى سنة (٣٢٩هـ)، ولكثرة من شهد على نفسه بذلك سوف نقتصر على ما ذكره المشايخ المتقدِّمون وهم: الكليني (ت ٣٢٩هـ) الذي أدرك الغيبة الصغرى بتمامها تقريباً، والصدوق (ت ٣٨١هـ) وقد أدرك من الغيبة الصغرى أكثر من عشرين عاماً، والشيخ المفيد (ت ٤١٣هـ)، والشيخ الطوسي (ت ٤٦٠هـ)، ولا بأس بذكر اليسير جدًّا من رواياتهم الخاصَّة في تسمية من رآه (عليه السلام)، ثمّ الاكتفاء ببيان أسماء المشاهدين للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، مع تعيين موارد رواياتهم في كُتُب المشايخ الأربعة لأجل الاختصار.
فمن تلك الروايات: ما رواه الكليني في (أُصول الكافي) بسند صحيح: عن محمّد بن عبد الله ومحمّد بن يحيى جميعاً، عن عبد الله بن جعفر الحميدي، قال: اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو (رحمه الله) عند أحمد بن إسحاق، فغمزني أحمد بن إسحاق أنْ أسأله عن الخلف، فقلت له: يا أبا عمرو: إنِّي أُريد أنْ أسألك عن شيء وما أنا بشاكٍّ فيما أُريد أنْ أسألك عنه...، إلى أنْ قال بعد إطراء العمري وتوثيقه على لسان الأئمَّة (عليهم السلام): فخرَّ أبو عمرو ساجداً وبكى ثمّ قال: سَلْ حاجتك. فقلت له: أنت رأيت الخلف من بعد أبي محمّد (عليه السلام)؟ فقال: إي والله ورقبته مثل ذا - وأومأ بيده -،
↑صفحة ١٠٢↑
فقلت له: فبقيت واحدة، فقال لي: هات، فقلت: فالاسم؟ قال: محرَّم عليكم أنْ تسألوا عن ذلك، ولا أقول هذا من عندي، فليس لي أنْ أُحلِّل وأُحرِّم، ولكن عنه (عليه السلام)، فإنَّ الأمر عند السلطان: أنَّ أبا محمّد مضى ولم يُخلِّف ولداً وقسَّم ميراثه وأخذه من لاحق له فيه، وهو ذا عياله يجولون ليس أحد يجسر أنْ يتعرَّف إليهم أو ينيلهم شيئاً، وإذا وقع الاسم وقع الطلب، فاتَّقوا الله وأمسكوا عن ذلك(٧٢).
ومنها: ما رواه في (الكافي) بسند صحيح: عن عليِّ بن محمّد وهو ابن بندار الثقة، عن مهران القلانسي الثقة، قال: قلت للعمري: قد مضى أبو محمّد؟ فقال لي: قد مضى ولكن خلَّف فيكم من رقبته مثل هذه - وأشار بيده -(٧٣).
ومنها: ما رواه الصدوق بسند صحيح عن أجلَّاء المشايخ، قال: حدَّثنا محمّد بن الحسن (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا عبد الله بن جعفر الحميري، قال: قلت لمحمّد بن عثمان العمري (رضي الله عنه): إنِّي أسألك سؤال إبراهيم ربَّه (جلَّ جلاله) حين قال: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠]، فأخبرني عن صاحب هذا الأمر هل رأيته؟ قال: نعم، وله رقبة مثل ذي - وأشار بيده إلى عنقه -(٧٤).
ومنها: ما رواه الصدوق في (كمال الدِّين)، قال: وحدَّثنا أبو جعفر محمّد بن عليٍّ الأسود (رضي الله عنه)، قال: سألني عليُّ بن الحسين بن موسى بن بابويه (رضي الله عنه) بعد موت محمّد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) أنْ أسأل أبا القاسم بن روح أنْ يسأل مولانا صاحب الزمان (عليه السلام) أنْ يدعو الله (عزَّ وجلَّ) أنْ يرزقه ولداً ذَكَراً قال: فسألته، فأنهى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧١) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٣١ و٤٣٢/ باب ٤٢/ ح ٦ و١٠).
(٧٢) أُصول الكافي (ج ١/ ص ٣٢٩ و٣٣٠/ باب ٧٧/ ح ١)، ورواه الصدوق بسند صحيح عن أبيه ومحمّد بن الحسن عن عبد الله بن جعفر الحميري، كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٤١/ باب ٤٣/ ح ١٤).
(٧٣) أُصول الكافي (ج ١/ ص ٣٢٩/ باب ٧٦/ ح ٤، وج ١/ ص ٣٣١/ باب ٧٧/ ح ٤).
(٧٤) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٣٥/ باب ٤٣/ ح ٣).
↑صفحة ١٠٣↑
ذلك، ثمّ أخبرني بعد ذلك بثلاثة أيَّام أنَّه قد دعا لعليِّ بن الحسين وأنَّه سيُولَد له ولد مبارك ينفع الله به وبعده أولاد. ثمّ قال الصدوق بعد ذلك: (قال مصنِّف هذا الكتاب (رضي الله عنه): كان أبو جعفر محمّد بن عليٍّ الأسود (رضي الله عنه)، كثيراً ما يقول لي - إذا رآني أختلف إلى مجلس شيخنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضي الله عنه)، وأرغب في كُتُب العلم وحفظه -: ليس بعجب أنْ تكون لك هذه الرغبة في العلم، وأنت ولدت بدعاء الإمام (عليه السلام))(٧٥).
ومنها: ما رواه الشيخ الطوسي في كتاب (الغيبة) عن أجلَّاء هذه الطائفة وشيوخها قال: وأخبرني محمّد بن محمّد بن النعمان، والحسين بن عبد الله، عن أبي عبد الله محمّد بن أحمد الصفواني، قال: أوصى الشيخ أبو القاسم (رضي الله عنه) إلى أبي الحسن عليِّ بن محمّد السمري (رضي الله عنه) فقام بما كان إلى أبي القاسم (السفير الثالث) فلمَّا حضرته الوفاة، حضرت الشيعة عنده وسألته عن الموكِّل بعده ولمن يقوم مقامه، فلم يُظهِر شيئاً من ذلك، وذكر أنَّه لم يُؤمَر بأنْ يُوصي إلى أحد بعده في هذا الشأن(٧٦).
ولا يخفى أنَّ مقام السمري مقام أبي القاسم الحسين بن روح في الوكالة عن الإمام تتطلَّب رؤيته في كلِّ أمر يحتاج إليه فيه، ومن هنا تواتر ما خرج على يد السفراء الأربعة الذين ذكرناهم في هذه الروايات من وصايا وإرشادات وأوامر وكلمات الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)(٧٧).
وهناك روايات أُخرى كثيرة صريحة برؤية السفراء الأربعة كلٌّ في زمان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧٥) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٥٠٢/ باب ٤٥/ ح ٣١).
(٧٦) كتاب الغيبة للطوسي (ص ٣٩٤/ ح ٣٦٣).
(٧٧) وقد جمعت هذه الأُمور في ثلاث مجلَّدات مطبوعة بعنوان (المختار من كلمات الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)) تأليف الشيخ محمّد الغروي.
↑صفحة ١٠٤↑
وكالته للإمام المهدي وكثير منها بمحضر من الشيعة وها نحن نشير إلى أسماء من رآه (عجَّل الله فرجه)، وهم:
إبراهيم بن إدريس أبو أحمد(٧٨).
وإبراهيم بن عبدة النيسابوري(٧٩).
وإبراهيم بن محمّد التبريزي(٨٠).
وإبراهيم بن مهزيار أبو إسحاق الأهوازي(٨١).
وأحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري(٨٢)، ورآه مرَّة أُخرى مع سعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري (من مشايخ والد الصدوق والكليني)(٨٣).
وأحمد بن الحسين بن عبد المَلِك أبو جعفر الأزدي، وقيل: الأوْدي(٨٤).
وأحمد بن محمّد بن المطَهَّر أبو عليٍّ من أصحاب الهادي والعسكري (عليهما السلام)(٨٥).
وأحمد بن هلال أبو جعفر العبرتائي الغالي الملعون، وكان معه جماعة منهم: عليُّ بن بلال، ومحمّد بن معاوية بن حكيم، والحسن بن أيُّوب بن نوح، وعثمان بن سعيد العمري (رضي الله عنه) إلى تمام أربعين رجلاً(٨٦).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧٨) الكافي (ج ١/ ص ٣٣١/ باب ٧٧/ ح ٨)، والإرشاد للمفيد (ج ٢/ ص ٢٥٣)، وكتاب الغيبة للطوسي (ص ٢٦٨/ ح ٢٣٢، وص ٣٥٧/ ح ٣١٩).
(٧٩) الكافي (ج ١/ ص ٣٣١/ باب ٧٧/ ح ٦)، والإرشاد (ج ٢/ ص ٣٥٢)، والغيبة للطوسي (ص ٢٦٨/ ح ٢٣١).
(٨٠) الغيبة للطوسي (ص ٢٢٦ و٢٥٩).
(٨١) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٤٥/ باب ٤٣/ ح ١٩).
(٨٢) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٣٨٤/ باب ٣٨/ ح ١).
(٨٣) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٥٦/ باب ٤٣/ ح ٢١).
(٨٤) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٤٤/ باب ٤٣/ ح ١٨)، والغيبة للطوسي (ص ٢٥٣/ ح ٢٢٣).
(٨٥) الكافي (ج ١/ ص ٣٣١/ باب ٧٧/ ح ٥)، والإرشاد (ج ٢/ ص ٣٥٢)، والغيبة للطوسي (ص ٢٦٩/ ح ٢٣٣).
(٨٦) الغيبة للطوسي (ص ٣٥٧/ ح ٣١٩).
↑صفحة ١٠٥↑
وإسماعيل بن عليٍّ النوبختي أبو سهل(٨٧).
وأبو عبد الله بن صالح(٨٨).
وأبو محمّد الحسن بن وجناء النصيبي(٨٩).
وأبو هارون، من مشايخ محمّد بن الحسن الكرخي(٩٠).
وجعفر الكذَّاب عمُّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) رأى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مرَّتين(٩١).
والسيِّدة العلويَّة الطاهرة حكيمة بنت الإمام محمّد بن عليٍّ الجواد (عليهما السلام)(٩٢).
والزهري، وقيل: الزهراني، ومعه العمري (رضي الله عنه)(٩٣).
ورشيق صاحب المادراي(٩٤).
وأبو القاسم النوبختي (رضي الله عنه)(٩٥).
وعبد الله السوري(٩٦).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٨٧) الغيبة للطوسي (ص ٢٧٢/ ح ٢٣٧).
(٨٨) الكافي (ج ١/ ص ٣٣١/ باب ٧٧/ ح ٧)، والإرشاد (ج ٢/ ص ٣٥٢).
(٨٩) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٣٢/ باب ٤٣/ ح ١٧).
(٩٠) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٣٢/ باب ٤٣/ ح ٩، وج ٢/ ص ٤٣٤/ باب ٤٣/ ح ١).
(٩١) الكافي (ج ١/ ص ٣٣١/ باب ٧٧/ ح ٩)، وكمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٤٢/ باب ٤٣/ ح ١٥)، والإرشاد (ج ٢/ ص ٣٥٣)، والغيبة للطوسي (ص ٢١٧/ ح ٢٤٨).
(٩٢) الكافي (ج ١/ ص ٣٣١/ باب ٧٧/ ح ٣)، وكمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٢٤/ باب ٤٢/ ح ١ و٢)، والإرشاد (ج ٢/ ص ٣٥١)، والغيبة للطوسي (ص ٢٣٤/ ح ٢٠٤ و٢٠٥، وص ٢٣٩/ ح ٢٠٧).
(٩٣) الغيبة للطوسي (ص ٢٧١/ ح ٢٣٦).
(٩٤) الغيبة للطوسي (ص ٢٤٨/ ح ٢١٨).
(٩٥) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٥٠٢/ باب ٤٥/ ح ٦١)، والغيبة للطوسي (ص ٣٢٠/ ح ٢٦٦، وص ٣٢٢/ ح ٢٦٩).
(٩٦) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٤١/ باب ٤٣/ ح ١٣).
↑صفحة ١٠٦↑
وعمرو الأهوازي(٩٧).
وعليُّ بن إبراهيم بن مهزيار الأهوازي(٩٨).
وعليُّ بن محمّد الشمشاطي، رسول جعفر بن إبراهيم اليماني(٩٩).
وغانم أبو سعيد الهندي(١٠٠).
وكامل بن إبراهيم المدني(١٠١).
وأبو عمرو عثمان بن سعيد العمري (رضي الله عنه)(١٠٢).
ومحمّد بن أحمد الأنصاري أبو نعيم الزيدي، وكان معه في مشاهدة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه): أبو عليٍّ المحمودي، وعلَّان الكليني، وأبو الهيثم الديناري، وأبو جعفر الأحول الهمداني، وكانوا زهاء ثلاثين رجلاً فيهم السيِّد محمّد بن القاسم العلوي العقيقي(١٠٣)، والسيِّد الموسوي محمّد بن إسماعيل بن الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) وكان أسنّ شيخ في عصره من ولد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(١٠٤).
ومحمّد بن جعفر أبو العبَّاس الحميري على رأس وفد من شيعة مدينة قم(١٠٥).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٩٧) الكافي (ج ١/ ص ٣٢٨/ باب ٧٦/ ح ٣، وج ١/ ص ٣٣٢/ باب ٧٧/ ح ١٢)، والإرشاد (ج ٢/ ص ٣٥٣)، والغيبة للطوسي (ص ٢٣٤/ ح ٢٠٣).
(٩٨) الغيبة للطوسي (ص ٢٢٨/ ح ٢٦٣).
(٩٩) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٩١/ باب ٤٥/ ح ١٤).
(١٠٠) الكافي (ج ١/ ص ٥١٥/ باب ١٢٥/ ح ٣)، وكمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٣٧/ باب ٤٣/ بعد الحديث ٦).
(١٠١) الغيبة (ص ٢٤٧/ ح ٢١٦).
(١٠٢) الكافي (ج ١/ ص ٣٢٩/ باب ٧٦/ ح ١ و٤، وج ١/ ص ٣٣١/ باب ٧٧/ ح ٤)، والإرشاد (ج ٢/ ص ٣٥١)، والغيبة للطوسي (ص ٣٥٥/ ح ٣١٦).
(١٠٣) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٧٠/ باب ٧٣/ ح ٢٤)، والغيبة للطوسي (ص ٢٥٩/ ح ٢٢٧).
(١٠٤) الكافي (ج ١/ ص ٣٣٠/ باب ٧٧/ ح ٢)، والإرشاد (ج ٢/ ص ٣٥١)، والغيبة للطوسي (ص ٢٦٨/ ح ٢٣٠).
(١٠٥) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٧٧/ باب ٤٣/ بعد الحديث ٦).
↑صفحة ١٠٧↑
ومحمّد بن صالح بن عليِّ بن محمّد بن قنبر الكبير مولى الإمام الرضا (عليه السلام)(١٠٦).
ومحمّد بن عثمان العمري (رضي الله عنه)(١٠٧)، وكان قد رآه مع أربعين رجلاً بإذن الإمام العسكري (عليه السلام)، وكان من جملتهم: معاوية بن حكيم، ومحمّد بن أيُّوب بن نوح(١٠٨)، ويعقوب بن منقوش(١٠٩)، ويعقوب بن يوسف الضرَّاب الغسَّاني(١١٠)، ويوسف بن أحمد الجعفري(١١١).
شهادة وكلاء المهدي ومن وقف على معجزاته (عجَّل الله فرجه) برؤيته:
لقد ذكر الصدوق من وقف على معجزات الإمام المهدي ورآه من الوكلاء وغيرهم مع تسمية بلدانهم وقد أشرنا إلى بعضهم، وقد بلغوا من الكثرة حدًّا يمتنع معه اتِّفاقهم على الكذب لاسيّما وهم من بلدان شتَّى، وإليك بعضهم:
فمن بغداد: العمري، وابنه، وحاجز، والبلالي، والعطَّار.
ومن الكوفة: العاصمي.
ومن أهل الأهواز: محمّد بن إبراهيم بن مهزيار.
ومن أهل قم: أحمد بن إسحاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٠٦) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٤٢/ باب ٤٣/ ح ١٥)، حدَّث عن رؤية جعفر الكذَّاب للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وظاهره أنَّه رآه أيضاً، ولكن صريح الكافي أنَّه لم يرَه (عليه السلام) ولكنَّه رأى من رآه وهو جعفر الكذَّاب. الكافي (ج ١/ ص ٣٣١/ باب ٧٧/ ح ٩).
(١٠٧) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٣٣/ باب ٤٢/ ح ١٣، وج ٢/ ص ٤٣٥/ باب ٤٣/ ح ٣، وج ٢/ ص ٤٤٠/ باب ٤٣/ ح ٩ و١٠، وج ٢/ ص ٤٤١/ باب ٤٣/ ح ١٤).
(١٠٨) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٣٥/ باب ٤٣/ ح ٢).
(١٠٩) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٣٧/ باب ٤٣/ ح ٥).
(١١٠) الغيبة للطوسي (ص ٢٧٣/ ح ٢٣٨).
(١١١) الغيبة للطوسي (ص ٢٥٧/ ح ٢٢٥).
↑صفحة ١٠٨↑
ومن أهل همدان: محمّد بن صالح.
ومن أهل الريِّ: البسَّامي، والأسدي (محمّد بن أبي عبد الله الكوفي).
ومن أهل آذربيجان: القاسم بن العلاء.
ومن أهل نيسابور: محمّد بن شاذان.
ومن غير الوكلاء:
من أهل بغداد: أبو القاسم بن أبي حليس، وأبو عبد الله الكندي، وأبو عبد الله الجنيدي، وهارون القزَّاز، والنيلي، وأبو القاسم بن دبيس، وأبو عبد الله بن فروُّخ، ومسرور الطبَّاخ مولى أبي الحسن (عليه السلام)، وأحمد ومحمّد ابنا الحسن، وإسحاق الكاتب من بني نوبخت وغيرهم.
ومن همدان: محمّد بن كشمرد، وجعفر بن حمدان، ومحمّد بن هارون بن عمران.
ومن الدينور: حسن بن هارون، وأحمد بن أُخَيَّة، وأبو الحسن.
ومن أصفهان: ابن باشاذالة.
ومن الصميرة: زيدان.
ومن قم: الحسن بن النضر، ومحمّد بن محمّد، وعليُّ بن محمّد بن إسحاق، وأبوه، والحسن بن يعقوب.
ومن أهل الريِّ: القاسم بن موسى، وابنه، وأبو محمّد بن هارون، وعليُّ بن محمّد، ومحمّد بن محمّد الكليني، وأبو جعفر الرفَّاء.
ومن قزوين: مرداس، وعليُّ بن أحمد.
ومن نيسابور: محمّد بن شعيب بن صالح.
ومن اليمن: الفضل بن يزيد، والحسن بن الفضل بن يزيد، والجعفري، وابن الأعجمي، وعليُّ بن محمّد الشمشاطي.
↑صفحة ١٠٩↑
ومن مصر: أبو رجاء وغيره.
ومن نصيبين: أبو محمّد الحسن بن الوجناء النصيبي.
كما ذكر أيضاً من رآه (عليه السلام) من أهل شهرزور، والصيمرة، وفارس وقابس، ومرو(١١٢).
شهادة الخدم والجواري والإماء برؤية المهدي (عجَّل الله فرجه):
كما شاهد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من كان يخدم أباه العسكري (عليه السلام) في داره مع بعض الجواري والإماء، كطريف الخادم أبي نصر(١١٣)، وخادمة إبراهيم بن عبدة النيسابوري التي شاهدت مع سيِّدها الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)(١١٤)، وأبي الأديان الخادم(١١٥)، وأبي غانم الخادم الذي قال: وُلِدَ لأبي محمّد (عليه السلام) ولد فسمَّاه محمّداً، فعرضه على أصحابه يوم الثالث، وقال: «هذا صاحبكم من بعدي، وخليفتي عليكم، وهو القائم الذي تمتدُّ إليه الأعناق بالانتظار، فإذا امتلأت الأرض جوراً وظلماً خرج فملأها قسطاً وعدلاً»(١١٦).
وشهد بذلك أيضاً: عقيد الخادم(١١٧)، والعجوز الخادمة(١١٨)، وجارية أبي عليٍّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١١٢) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٤٢ و٤٤٣/ باب ٤٣/ ح ١٦).
(١١٣) الكافي (ج ١/ ص ٣٣٢/ باب ٧٧/ ح ١٣)، وكمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٤١/ باب ٤٣/ ح ١٢)، والإرشاد (ج ٢/ ص ٣٥٤)، والغيبة للطوسي (ص ٢٤٦/ ح ٢١٥)، وفيه: (ظريف) بدلاً عن (طريف).
(١١٤) الكافي (ج ١/ ص ٣٣١/ باب ٧٧/ ح ٦)، والإرشاد (ج ٢/ ص ٣٥٢)، والغيبة للطوسي (ص ٢٦٨/ ح ٢٣١).
(١١٥) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٧٥/ باب ٤٢/ بعد الحديث ٢٥).
(١١٦) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٣١/ باب ٤٢/ ح ٨).
(١١٧) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٧٤/ باب ٤٣/ بعد الحديث ٢٥)، والغيبة للطوسي (ص ٢٧٢/ ح ٢٣٧).
(١١٨) الغيبة للطوسي (ص ٢٧٣ - ٢٧٦/ ح ٢٣٨).
↑صفحة ١١٠↑
الخيزراني التي أهداها إلى الإمام العسكري (عليه السلام)(١١٩)، ومن الجواري اللواتي شهدن برؤية الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه): نسيم(١٢٠)، ومارية(١٢١).
كما شهد بذلك مسرور الطبَّاخ مولى أبي الحسن (عليه السلام)(١٢٢)، وكلُّ هؤلاء قد شهدوا بنحو ما شهد به أبو غانم الخادم في بيت العسكري (عليه السلام).
تصرُّف السلطة دليل على ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
وُلِدَ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في شهر ربيع الآخر سنة (٢٣٢هـ)، وقد عاصر ثلاثة من سلاطين بني العبَّاس، وهم: المعتز (ت٢٥٥هـ)، والمهتدي (ت ٢٥٦هـ)، والمعتمد (ت ٢٧٩هـ).
وقد كان المعتمد شديد التعصُّب والحقد على آل البيت (عليهم السلام) ومن تصفَّح كُتُب التاريخ المشهورة كالطبري وغيره، واستقرأ ما في حوادث سنة (٢٥٧هـ) و(٢٥٨هـ) و(٢٥٩هـ) و(٢٦٠هـ)، وهي السنوات الأُولى من حكمه، عَلِمَ مدى حقده على أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام).
ولقد عاقبه الله في حياته، إذ لم يكن في يده شيء من ملكه حتَّى إنَّه احتاج إلى ثلاثمائة دينار فلم ينلها، ومات ميتة سوء، إذ ضجر منه الأتراك فرموه في رصاص مذاب باتِّفاق المؤرِّخين.
ومن مواقفه الخسيسة أمْرُهُ شرطته بعد وفاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) مباشرةً بتفتيش داره تفتيشاً دقيقاً والبحث عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) والأمر بحبس جواري أبي محمّد (عليه السلام) واعتقال حلائله يساعدهم بذلك جعفر الكذَّاب طمعاً في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١١٩) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٣١/ باب ٤٢/ ح ٧).
(١٢٠) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٤١/ باب ٤٣/ ح ١١).
(١٢١) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٣٠/ باب ٤٢/ ح ٥)، وفي هذا المورد شاهدته (عجَّل الله فرجه) نسيم مع مارية.
(١٢٢) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٤٢/ باب ٤٣/ ح ١٦).
↑صفحة ١١١↑
أنْ ينال منزلة أخيه العسكري (عليه السلام) في نفوس شيعته، حتَّى جرى بسبب ذلك - كما يقول الشيخ المفيد - على مخلفي أبي محمّد (عليه السلام) كلُّ عظيمة من اعتقال، وحبس، وتهديد، وتصغير، واستخفاف، وذلٍّ(١٢٣).
كلُّ هذا والإمام المهدي في الخامسة من عمره الشريف، ولا يهمُّ المعتمد العبَّاسي العمر بعد أنْ عرف هذا الصبيَّ هو الإمام الذي سيهدم عرش الطاغوت؛ نظراً لما تواتر من الخبر بأنَّ الثاني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) سيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً بعدما مُلِئَت ظلماً وجوراً.
فكان موقفه من مهدي الأُمَّة كموقف فرعون من نبيِّ الله موسى (عليه السلام) الذي ألقته أُمُّه - خوفاً عليه - في اليمِّ صبيًّا، وبعض الشرِّ أهون من بعض.
ولم يكن المعتمد العبَّاسي قد عرف هذه الحقيقة وحده وإنَّما عرفها من كان قبله كالمعتزِّ والمهتدي؛ ولهذا كان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) حريصاً على أنْ لا ينتشر خبر ولادة المهدي إلَّا بين الخلَّص من شيعته ومواليه (عليه السلام)، مع أخذ التدابير اللازمة والاحتياطات الكافية لصيانة قادة التشيُّع من الاختلاف بعد وفاته (عليه السلام)، إذ أوقفهم بنفسه على المهدي الموعود مرَّات عديدة وأمرهم بكتمان أمره لمعرفة الطواغيت بأنَّه (الثاني عشر) الذي ينطبق عليه حديث جابر بن سمرة الذي رواه القوم وأدركوا تواتره، وإلَّا فأيُّ خطر يُهدِّد كيان المعتمد في مولود يافع لم يتجاوز من العمر خمس سنين؟! لو لم يُدرك أنَّه هو المهدي المنتظر الذي رسمت الأحاديث المتواترة دوره العظيم بكلِّ وضوح، وبيَّنت موقفه من الجبابرة عند ظهوره.
ولو لم يكن الأمر على ما وصفناه فلماذا لم تقتنع السلطة بشهادة جعفر الكذَّاب وزعمه بأنَّ أخاه العسكري (عليه السلام) مات ولم يُخلِّف ولداً؟ أمَا كان بوسع
↑صفحة ١١٢↑
السلطة أنْ تُعطي جعفراً الكذَّاب ميراث أخيه العسكري (عليه السلام) من غير ذلك التصرُّف الأحمق الذي يدلُّ على ذعرها وخوفها من ابن الحسن (عليه السلام)؟!
قد يقال: بأنَّ حرص السلطة على إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه هو الذي دفعها إلى التحرِّي عن وجود الخلف لكي لا يستقلَّ جعفر الكذَّاب بالميراث وحده بمجرَّد شهادته! فنقول: ومع هذا، فإنَّه ليس من شأن السلطة الحاكمة آنذاك أنْ تتحرَّى عن هذا الأمر بمثل هذا التصرُّف المريب، بل كان على السلطة أنْ تحيل دعوى جعفر الكذَّاب إلى أحد القضاة، لاسيّما وأنَّ القضيَّة من قضايا الميراث التي يحصل مثلها كلَّ يوم مرَّات، وعندها سيكون بوسع القاضي التحقيق واستدعاء الشهود كأُمِّ الإمام العسكري (عليه السلام)، ونسائه وجواريه والمقرَّبين إليه من بني هاشم، ثمّ يستمع إلى أقوالهم ويُثبِت شهاداتهم، ثمّ يصدر الحكم على ضوء ما بيديه من شهادات، أمَّا أنْ تنفرد السلطة بنفسها ويصل الأمر إلى أعلى رجل فيها، وبهذه السرعة، ولـمَّا يُدفَن الإمام الحسن (عليه السلام)، وخروج القضيَّة عن إرادة دائرة القضاء مع أنَّها من اختصاصاته، ومن ثَمَّ مداهمة الشرطة لمن في بيت الإمام العسكري (عليه السلام) بعد وفاته مباشرة، كلُّ ذلك يدلُّ على تيقُّن السلطة من ولادة الإمام المهدي وإنْ لم ترَه، لما سبق من علمهم بثاني عشر أهل البيت كما أشرنا إليه؛ ولهذا جاءت للبحث عنه لا بعنوان إعطاء ميراث العسكري (عليه السلام) لمن يستحقُّه من بعده، وإنَّما للقبض عليه والفتك به بعد أنْ لم يجدوا لذلك سبيلاً في حياة أبيه العسكري (عليه السلام).
ولهذا كان الخوف على حياته الشريفة من أسرار غيبته (عليه السلام)، كما مرَّ عليك في إخبار آبائه الكرام (عليهم السلام) عنها قبل وقوعها بعشرات السنين.
اعترافات علماء الأنساب بولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
لا شكَّ في أنَّ الرجوع إلى أصحاب كلِّ فنٍّ ضرورة، والأولى بصدد ما نحن فيه، هم علماء الأنساب، وإليك بعضهم:
↑صفحة ١١٣↑
١ - النسَّابة الشهير أبو نصر سهل بن عبد الله بن داود بن سليمان البخاري من أعلام القرن الرابع الهجري، كان حيًّا سنة (٣٤١هـ)، وهو من أشهر علماء الأنساب المعاصرين لغيبة الإمام المهدي الصغرى التي انتهت سنة (٣٢٩هـ).
قال في (سرِّ السلسلة العلويَّة): (وولد عليّ بن محمّد التقي (عليه السلام): الحسن بن عليٍّ (عليه السلام) من أُمِّ ولد نوبيَّة تُدعى: ريحانة، ووُلِدَ سنة إحدى وثلاثين ومائتين وقُبِضَ سنة ستِّين ومائتين بسامرَّاء، وهو ابن تسع وعشرين سنة.. وولد عليّ بن محمّد التقي (عليه السلام) جعفراً، وهو الذي تُسمِّيه الإماميَّة جعفر الكذَّاب، وإنَّما تُسمِّيه الإماميَّة بذلك؛ لادِّعائه ميراث أخيه الحسن (عليه السلام) دون ابنه القائم الحجَّة (عجَّل الله فرجه). لا طعن في نسبه)(١٢٤).
٢ - السيِّد العمري النسَّابة المشهور من أعلام القرن الخامس الهجري، قال ما نصُّه: (ومات أبو محمّد (عليه السلام) وولده من نرجس (عليها السلام) معلوم عند خاصَّة أصحابه وثقات أهله وسنذكر حال ولادته والأخبار التي سمعناها بذلك، وامتُحِنَ المؤمنون بل كافَّة الناس بغيبته، وشره جعفر بن عليٍّ إلى مال أخيه وحاله فدفع أنْ يكون له ولد، وأعانه بعض الفراعنة على قبض جواري أخيه...)(١٢٥).
٣ - الفخر الرازي الشافعي (ت ٦٠٦هـ)، قال في كتابه (الشجرة المباركة في أنساب الطالبيَّة) تحت عنوان: أولاد الإمام العسكري (عليه السلام) ما هذا نصُّه: (أمَّا الحسن العسكري الإمام (عليه السلام) فله ابنان وبنتان: أمَّا الابنان، فأحدهما: صاحب الزمان (عليه السلام)، والثاني موسى درج في حياة أبيه. وأمَّا البنتان: ففاطمة درجت في حياة أبيها، وأُمُّ موسى درجت أيضاً)(١٢٦).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٢٣) الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٣٦).
(١٢٤) سرُّ السلسلة العلويَّة لأبي نصر البخاري (ص ٣٩).
(١٢٥) المجدي في أنساب الطالبين (ص ١٣٠).
(١٢٦) الشجرة المباركة في أنساب الطالبيَّة للفخر الرازي (ص ٧٨ و٧٩).
↑صفحة ١١٤↑
٤ - المروزي الأزورقاني (ت بعد سنة ٦١٤هـ) فقد وصف في كتاب (الفخري) جعفر ابن الإمام الهادي في محاولته إنكار ولد أخيه بالكذَّاب(١٢٧)، وفيه أعظم دليل على اعتقاده بولادة الإمام المهدي.
٥ - السيِّد النسَّابة جمال الدِّين أحمد بن عليٍّ الحسيني المعروف بابن عَنِبَه (ت ٨٢٨هـ) قال في (عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب): (أمَّا عليٌّ الهادي فيُلقَّب العسكري لمقامه بسُرَّ من رأى، وكانت تُسمَّى العسكر، وأُمُّه أُمُّ ولد، وكان في غاية الفضل ونهاية النبل، أشخصه المتوكِّل إلى سُرَّ من رأى فأقام بها إلى أنْ تُوفِّي، وأعقب من رجلين، هما:
الإمام أبو محمّد الحسن العسكري (عليه السلام)، وكان من الزهد والعلم على أمر عظيم، وهو والد الإمام محمّد المهدي (عليه السلام وصلوات الله عليه) ثاني عشر الأئمَّة عند الإماميَّة، وهو القائم المنتظر عندهم من أُمِّ ولد اسمها نرجس.
واسم أخيه أبو عبد الله جعفر الملقَّب بالكذَّاب؛ لادِّعائه الإمامة بعد أخيه الحسن)(١٢٨).
وقال في الفصول الفخريَّة (مطبوع باللغة الفارسية) ما ترجمته: (أبو محمّد الحسن الذي يقال له: العسكري، والعسكر هو سامرَّاء، جلبه المتوكِّل وأباه إلى سامرَّاء من المدينة، واعتقلهما. وهو الحادي عشر من الأئمَّة الاثني عشر، وهو والد محمّد المهدي (عليه السلام)، ثاني عشرهم)(١٢٩).
٦ - النسَّابة الزيدي السيِّد أبو الحسن محمّد الحسيني اليماني الصنعاني من أعيان القرن الحادي عشر، ذكر في المشجَّرة التي رسمها لبيان نسب أولاد أبي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٢٧) الفخري في أنساب الطالبين (ص ٧).
(١٢٨) عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب (ص ١٩٩).
(١٢٩) الفصول الفخريَّة (في الأنساب) للنسَّابة جمال الدِّين أحمد بن عنبه (ص ١٣٤ و١٣٥).
↑صفحة ١١٥↑
جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (عليهم السلام)، وتحت اسم الإمام عليٍّ التقي المعروف بالهادي (عليه السلام) خمسة من البنين وهم: الإمام العسكري، الحسين، موسى، محمّد، عليٌّ. وتحت اسم الإمام العسكري (عليه السلام) مباشرةً كتب: (محمّد بن) وبإزائه: (منتظر الإماميَّة)(١٣٠).
٧ - محمّد أمين السويدي (ت ١٢٤٦هـ) قال في (سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب): (محمّد المهدي: وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين، وكان مربوع القامة، حسن الوجه والشعر، أقنى الأنف، صبيح الجبهة)(١٣١).
٨ - النسَّابة المعاصر محمّد ويس الحيدري السوري قال في (الدُّرَر البهيَّة في الأنساب الحيدريَّة والأُويسيَّة) في بيان أولاد الإمام الهادي (عليه السلام): (أعقب خمسة أولاد: محمّد وجعفر والحسين والإمام الحسن العسكري وعائشة. فالحسن العسكري أعقب محمّد المهدي صاحب السرداب). ثمّ قال بعد ذلك مباشرةً وتحت عنوان: (الإمامان محمّد المهدي والحسن العسكري):
(الإمام الحسن العسكري: وُلِدَ بالمدينة سنة (٢٣١هـ)، وتُوفِّي بسامراء سنة (٢٦٠هـ). الإمام محمّد المهدي: لم يذكر له ذرّيَّة ولا أولاد له أبداً)(١٣٢).
ثمّ علَّق في هامش العبارة الأخيرة بما هذا نصُّه: (وُلِدَ في النصف من شعبان سنة (٢٥٥هـ)، وأُمُّه نرجس، وُصِفَ فقالوا عنه: ناصع اللون، واضح الجبين، أبلج الحاجب، مسنون الخدِّ، أقنى الأنف، أشمّ، أروع، كأنَّه غصن بان، وكأنَّ غرَّته كوكب دُرِّي، في خدِّه الأيمن خال كأنَّه فتات مسك على بياض الفضَّة، وله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٣٠) روضة الألباب لمعرفة الأنساب للنسَّابة الزيدي السيِّد أبي الحسن محمّد الحسيني اليماني الصنعاني (ص ١٠٥).
(١٣١) سبائك الذهب للسويدي (ص ٣٤٦).
(١٣٢) الدُّرَر البهيَّة في الأنساب الحيدريَّة والأُويسيَّة (ص ٧٣/ ط ١٤٠٥هـ/ طبع حلب سوريا).
↑صفحة ١١٦↑
وفرة سمحاء تطالع شحمة أُذُنه، ما رأت العيون أقصد منه ولا أكثر حسناً وسكينةً وحياءً)(١٣٣).
وبعد، فهذه هو أقوال علماء الأنساب في ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وفيهم السُّنِّي والزيدي إلى جانب الشيعي، وفي المثل: أهل مكَّة أعرف بشعابها.
اعتراف علماء أهل السُّنَّة بولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
هناك اعترافات ضافية سجَّلها الكثير من أهل السُّنَّة بأقلامهم بولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وقد قام البعض باستقراء هذه الاعترافات في بحوث خاصَّة، فكانت متَّصلة الأزمان، بحيث لا تتعذَّر معاصرة صاحب الاعتراف اللَّاحق لصاحب الاعتراف السابق بولادة المهدي (عجَّل الله فرجه)، وذلك ابتداءً من عصر الغيبة الصغرى للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) (٢٦٠هـ - ٣٢٩هـ) وإلى الوقت الحاضر.
وسوف نقتصر على ذكر بعضهم ومن أراد التوسُّع في ذلك فعليه مراجعة الاستقراءات السابقة لتلك الاعترافات(١٣٤)، وهم:
١ - ابن الأثير الجزري عزُّ الدِّين (ت ٦٣٠هـ) قال في كتابه (الكامل في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٣٣) هامش الدُّرَر البهيَّة (ص ٧٣ و٧٤).
(١٣٤) راجع كتاب الإيمان الصحيح للسيِّد القزويني، وكتاب الإمام المهدي في نهج البلاغة للشيخ مهدي فقيه إيماني، وكتاب من هو الإمام المهدي للتبريزي، وكتاب إلزام الناصب للشيخ عليّ اليزدي الحائري، وكتاب الإمام المهدي للأُستاذ عليّ محمّد دخيل، وكتاب دفاع عن الكافي للسيِّد ثامر العميدي. وقد ذكر الكتاب الأخير مائة وثمانية وعشرين شخصاً من أهل السُّنَّة من الذين اعترفوا بولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مع ترتيبهم بحسب القرون، فكان أوَّلهم أبا بكر بن هارون الروياني (ت ٣٠٧هـ) في كتابه المسند (مخطوط)، وآخرهم الأُستاذ المعاصر يونس أحمد السامرَّائي في كتابه (سامراء في أدب القرن الثالث الهجري)، ساعدت جامعة بغداد على طبعه سنة (١٩٦٨م). اُنظر دفاع عن الكافي (ج ١/ ص ٥٦٨ - ٥٩٢) تحت عنوان: الدليل السادس: اعترافات أهل السُّنَّة.
↑صفحة ١١٧↑
التاريخ) في حوادث سنة (٢٦٠هـ): (وفيها تُوفِّي أبو محمّد العلوي العسكري، وهو أحد الأئمَّة الاثني عشر على مذهب الإماميَّة، وهو والد محمّد الذي يعتقدونه المنتظر)(١٣٥).
٢ - ابن خلِّكان (ت ٦٨١هـ) قال في (وفيات الأعيان): (أبو القاسم محمّد ابن الحسن العسكري بن عليٍّ الهادي بن محمّد الجواد المذكور قبله، ثاني عشر الأئمَّة الاثني عشر على اعتقاد الإماميَّة المعروف بالحجَّة... كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين)، ثمّ نقل عن المؤرِّخ الرحَّالة ابن الأزرق الفارقي (ت ٥٧٧هـ) أنَّه قال في (تاريخ ميافارقين): (إنَّ الحجَّة المذكور وُلِدَ تاسع شهر ربيع الأوَّل سنة ثمان وخمسين ومائتين، وقيل: في ثامن شعبان سنة ستٍّ وخمسين، وهو الأصحّ)(١٣٦).
أقول: الصحيح في ولادته (عجَّل الله فرجه) هو ما ذكره ابن خلِّكان أوَّلاً، وهو يوم الجمعة منتصف شهر شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، وعلى ذلك اتَّفق جمهور الشيعة، وقد أخرجوا في ذلك روايات صحيحة في ذلك مع شهادة أعلامهم المتقدِّمين، وقد أطلق هذا التاريخ الشيخ الكليني المعاصر للغيبة الصغرى بكاملها تقريباً إطلاق المسلَّمات وقدَّمه على الروايات الواردة بخلافه، فقال في باب مولد الصاحب (عليه السلام): (وُلِدَ (عليه السلام) لنصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين)(١٣٧).
وقد روى الصدوق (ت ٣٨١هـ) عن شيخه محمّد بن محمّد بن عصام الكليني، عن محمّد بن يعقوب الكليني، عن عليِّ بن محمّد بن بندار قال: (وُلِدَ الصاحب (عليه السلام) للنصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين)(١٣٨).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٣٥) الكامل في التاريخ (ج ٧/ ص ٢٧٤) في آخر حوادث سنة (٢٦٠هـ).
(١٣٦) وفيات الأعيان (ج ٤/ ص ١٧٦/ الرقم ٥٦٢).
(١٣٧) أُصول الكافي (ج ١/ ص ٥١٤/ باب ١٢٥).
(١٣٨) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤٣٠/ باب ٤٢/ ح ٤).
↑صفحة ١١٨↑
والكليني لم ينسب قوله إلى عليِّ بن محمّد لشهرته وحصول الاتِّفاق عليه.
٣ - الذهبي (ت ٧٤٨هـ) اعترف بولادة المهدي (عجَّل الله فرجه) في ثلاثة من كُتُبه، ولم نتتبَّع كُتُبه الأُخرى.
قال في كتابه (العبر): (وفيها - أي: في سنة (٢٥٦هـ) - وُلِدَ محمّد بن الحسن بن عليٍّ الهادي بن محمّد الجواد بن عليٍّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق العلوي الحسيني، أبو القاسم الذي تُلقِّبه الرافضة الخلف الحجَّة، وتُلقِّبه بالمهدي، والمنتظر، وتُلقِّبه بصاحب الزمان، وهو خاتمة الاثني عشر)(١٣٩).
وقال في (تاريخ دول الإسلام) في ترجمة الإمام الحسن العسكري: (الحسن ابن عليِّ بن محمّد بن عليٍّ الرضا بن موسى بن جعفر الصادق، أبو محمّد الهاشمي الحسيني، أحد أئمَّة الشيعة الذين تدَّعي الشيعة عصمتهم، ويقال له: الحسن العسكري؛ لكونه سكن سامرَّاء، فإنَّها يقال لها: العسكر. وهو والد منتظر الرافضة، تُوفِّي إلى رضوان الله بسامرَّاء في ثامن ربيع الأوَّل سنة ستِّين ومائتين وله تسع وعشرون سنة، ودُفِنَ إلى جانب والده.
وأمَّا ابنه محمّد بن الحسن الذي يدعوه الرافضة القائم الخلف الحجَّة، فوُلِدَ سنة ثمان وخمسين، وقيل: سنة ستٍّ وخمسين)(١٤٠).
وقال في (سِيَر أعلام النبلاء): (المنتظر الشريف أبو القاسم محمّد بن الحسن العسكري بن عليٍّ الهادي بن محمّد الجواد بن عليٍّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن زين العابدين بن عليِّ بن الحسين الشهيد ابن الإمام عليِّ بن أبي طالب، العلوي، الحسيني خاتمة الاثني عشر سيِّداً)(١٤١).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٣٩) العِبَر في خبر من غبر (ج ٣/ ص ٣١).
(١٤٠) تاريخ دول الإسلام الجزء الخاصِّ في حوادث ووفيات (٢٥١ - ٢٦٠هـ) (ص ١١٣/ الرقم ١٥٩).
(١٤١) سِيَر أعلام النبلاء (ج ١٣/ ص ١١٩/ الرقم ٦٠).
↑صفحة ١١٩↑
أقول: ما يعنينا من رأي الذهبي في ولادة الإمام المهدي فقد بيَّنَّاه، وأمَّا عن اعتقاده بالمهدي، فهو كما في جميع أقواله الأُخرى كان ينتظر - كغيره - سراباً كما أوضحناه في من يعتقد بكون المهدي (محمّد بن عبد الله).
٤ - ابن الوردي (ت ٧٤٩هـ) قال في ذيل تتمَّة المختصر المعروف بـ (تاريخ ابن الوردي): (وُلِدَ محمّد بن الحسن الخالص سنة خمس وخمسين ومائتين)(١٤٢).
٥ - أحمد بن حجر الهيثمي الشافعي (ت ٩٧٤هـ) قال في كتابه (الصواعق المحرقة) في آخر الفصل الثالث من الباب الحادي عشر ما هذا نصُّه: (أبو محمّد الحسن الخالص، وجعل ابن خلِّكان هذا هو العسكري، وُلِدَ سنة اثنتين وثلاثين ومائتين... مات بسُرَّ من رأى، ودُفِنَ عند أبيه وعمِّه، وعمره ثماني وعشرون سنة، ويقال: إنَّه سُمَّ أيضاً، ولم يُخلِّف غير ولده أبي القاسم محمّد الحجَّة، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين لكن أتاه الله فيها الحكمة، ويُسمَّى القائم المنتظر، قيل: لأنَّه سُتِرَ بالمدينة وغاب فلم يُعرَف أين ذهب)(١٤٣)، انتهى.
٦ - الشبراوي الشافعي (ت ١١٧١هـ) صرَّح في كتابه (الإتحاف) بولادة الإمام المهدي محمّد بن الحسن العسكري (عليهما السلام) في ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين من الهجرة(١٤٤).
٧ - مؤمن بن حسن الشبلنجي (ت ١٣٠٨هـ) اعترف في كتابه (نور الأبصار) باسم الإمام المهدي، ونسبه الشريف الطاهر، وكنيته، وألقابه في كلام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٤٢) نقله عنه مؤمن بن حسن الشبلنجي الشافعي في نور الأبصار (ص ١٨٦).
(١٤٣) الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي (ص ٢٠٧/ ط ١، وص ١٢٤/ ط ٢، وص ٣١٣ و٣١٤/ ط ٣).
(١٤٤) الإتحاف بحبِّ الأشراف (ص ٦٨).
↑صفحة ١٢٠↑
طويل إلى أنْ قال: (وهو آخر الأئمَّة الاثني عشر على ما ذهب إليه الإماميَّة)، ثمّ نقل عن (تاريخ ابن الوردي) ما تقدَّم برقم (٤)(١٤٥).
٨ - خير الدِّين الزركلي (ت ١٣٩٦هـ) قال في كتابه (الأعلام) في ترجمة الإمام المهدي المنتظر: (محمّد بن الحسن العسكري الخالص بن عليٍّ الهادي أبو القاسم، آخر الأئمَّة الاثني عشر عند الإماميَّة.. وُلِدَ في سامرَّاء ومات أبوه وله من العمر خمس سنين.. وقيل في تاريخ مولده: ليلة نصف شعبان سنة (٢٥٥هـ)، وفي تاريخ غيبته، سنة (٢٦٥هـ))(١٤٦).
أقول: ابتداء تاريخ الغيبة الصغرى هو (٢٦٠هـ) باتِّفاق الشيعة أجمع وسائر من أرَّخ لتاريخ الغيبة في ما أطلعنا عليه. ولعلَّ ما ورد في الأعلام من غلط المطبعة؛ لأنَّ الزركلي لم يكتب سنة الغيبة كتابةً بل رقماً، واحتمال الغلط في طباعة الأرقام ممكن جدًّا.
إلى غير هذا من الاعترافات الكثيرة الأُخرى التي لا يسعها البحث.
اعتراف أهل السُّنَّة بأنَّ المهدي هو ابن العسكري (عليهما السلام):
هناك اعترافات أُخرى من علماء أهل السُّنَّة بخصوص كَوْن المهدي الموعود بظهوره في آخر الزمان إنَّما هو محمّد بن الحسن العسكري (عليهما السلام) الإمام الثاني عشر من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم أئمَّة للمسلمين جميعاً لا للروافض وحدهم كما يدَّعيه البعض مع الأسف الشديد، وكأنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أوصى (الروافض) وحدهم بالتمسُّك بالثقلين كتاب الله وعترته أهل بيته (عليهم السلام)!
وعلى أيَّة حال فإنَّنا سوف نذكر بعض من أنصف وصرَّح بالحقيقة، وهم:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٤٥) نور الأبصار (ص ١٨٦).
(١٤٦) الأعلام (ج ٦/ ص ٨٠).
↑صفحة ١٢١↑
١ - محيي الدِّين بن العربي (ت ٦٣٨هـ): صرَّح بهذه الحقيقة في كتابه (الفتوحات المكّيَّة) في الباب السادس والستِّين وثلاثمائة في المبحث الخامس على ما نقله عنه عبد الوهَّاب بن أحمد الشعراني الشافعي (ت ٩٧٣هـ) في كتابه (اليواقيت والجواهر)، كما نقل قوله الحمزاوي في (مشارق الأنوار)، والصبَّان في (إسعاف الراغبين)، ولكن من يدَّعي الحفاظ على التراث سوَّلت له نفسه حذف هذا الاعتراف من طبعات الكتاب، إذ لا يوجد في الباب المذكور - كما تتبَّعته بنفسي - ما نقله الشعراني عنه، فقال: (وعبارة الشيخ محيي الدِّين في الباب السادس والستِّين وثلاثمائة من الفتوحات: واعلموا أنَّه لا بدَّ من خروج المهدي (عليه السلام)، ولكن لا يخرج حتَّى تمتلئ الأرض جوراً وظلماً فيملؤها قسطاً وعدلاً، ولو لم يكن من الدنيا إلَّا يوم واحد طوَّل الله تعالى ذلك اليوم حتَّى يلي ذلك الخليفة، وهو من عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، من ولد فاطمة (عليها السلام)، وجدُّه الحسين ابن عليِّ بن أبي طالب، ووالده حسن العسكري ابن الإمام عليٍّ النقي...)(١٤٧).
٢ - كمال الدِّين محمّد بن طلحة الشافعي (ت ٦٥٢هـ) قال في كتابه (مطالب السؤول): (أبي القاسم محمّد بن الحسن الخالص بن عليٍّ المتوكِّل بن القانع بن عليٍّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليٍّ زين العابدين بن الحسين الزكي بن عليٍّ المرتضى أمير المؤمنين بن أبي طالب، المهدي، الحجَّة، الخلف الصالح، المنتظر عليهم السلام ورحمة الله وبركاته). ثمّ أنشد أبياتاً، مطلعها:
فهذا الخلف الحجَّة قد أيَّده الله * * * هذا منهج الحقِّ وآتاه سجاياه(١٤٨)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٤٧) اليواقيت والجواهر للشعراني (ج ٢/ ص ١٤٣/ مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر لسنة (١٣٧٨هـ/ ١٩٥٩م)).
(١٤٨) مطالب السؤول (ج ٢/ ص ٧٩/ باب ١٢).
↑صفحة ١٢٢↑
٣ - سبط ابن الجوزي الحنبلي (ت ٦٥٤هـ) قال في (تذكرة الخواصِّ) عن الإمام المهدي: (هو محمّد بن الحسن بن عليِّ بن محمّد بن عليِّ بن موسى الرضا بن جعفر بن محمّد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (عليهم السلام)، وكنيته أبو عبد الله، وأبو القاسم، وهو الخلف الحجَّة، صاحب الزمان، القائم، المنتظر، والتالي، وهو آخر الأئمَّة)(١٤٩).
٤ - محمّد بن يوسف أبو عبد الله الكنجي الشافعي (المقتول سنة ٨٦٥هـ)، قال في آخر صفحة من كتابه (كفاية الطالب) عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ما نصُّه: (مولده بالمدينة في شهر ربيع الآخر، من سنة اثنين وثلاثين ومائتين، وقُبِضَ يوم الجمعة لثمان خلون من شهر ربيع الأوَّل سنة ستِّين ومائتين، وله يومئذٍ ثمان وعشرون سنة، ودُفِنَ في داره بسُرَّ من رأى في البيت الذي دُفِنَ فيه أبوه، وخلَّف ابنه وهو الإمام المنتظر (صلوات الله عليه). ونختم الكتاب ونذكره مفرداً).
ثمّ أفرد لذكر الإمام المهدي محمّد بن الحسن العسكري (عليه السلام) كتاباً أطلق عليه اسم: (البيان في أخبار صاحب الزمان)، وهو مطبوع في نهاية كتابه الأوَّل (كفاية الطالب)، وكلاهما بغلاف واحد، وقد تناول في البيان أُموراً كثيرة كان آخرها إثبات كون المهدي حيًّا باقياً منذ غيبته إلى أنْ يملأ الدنيا بظهوره في آخر الزمان قسطاً وعدلاً، كما مُلِئَت ظلماً وجوراً(١٥٠).
٥ - نور الدِّين عليُّ بن محمّد بن الصبَّاغ المالكي (ت ٨٥٥هـ) عنون الفصل الثاني عشر من كتابه (الفصول المهمَّة) بعنوان: في ذكر أبي القاسم الحجَّة، الخلف الصالح، ابن أبي محمّد الحسن الخالص، وهو الإمام الثاني عشر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٤٩) تذكرة الخواصِّ (ص ٣٦٣).
(١٥٠) البيان في أخبار صاحب الزمان (ص ٢٥١/ باب ٢٥).
↑صفحة ١٢٣↑
وقد احتجَّ بهذا الفصل بقول الكنجي الشافعي: (وممَّا يدلُّ على كون المهدي حيًّا باقياً منذ غيبته إلى الآن، وأنَّه لا امتناع في بقائه كبقاء عيسى بن مريم والخضر وإلياس من أولياء الله، وبقاء الأعور الدجَّال، وإبليس اللعين من أعداء الله، هو الكتاب والسُّنَّة)، ثمّ أورد أدلَّته على ذلك من الكتاب والسُّنَّة، مفصَّلاً تاريخ ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ودلائل إمامته وطرفاً من أخباره، وغيبته، ومدَّة قيام دولته الكريمة، وذكر كنيته، ونسبه، وغير ذلك ممَّا يتَّصل بالإمام المهدي محمّد بن الحسن العسكري (عليهما السلام)(١٥١).
٦ - الفضل بن روزبهان (ت بعد ٩٠٩هـ). قال في كتابه: (إبطال الباطل) كلاماً جليلاً بحقِّ أهل البيت ثمّ قال: (ونعم ما قلت فيهم منظوماً):
سلامٌ على المصطفى المجتبى * * * سلام على السيِّد المرتضى
سلام على ستِّنا فاطمة * * * من اختارها الله خير النسا
سلام من المسك أنفاسه * * * على الحسن الألمعي الرضا
سلام على الأورعي الحسين * * * شهيد يرى جسمه كربلا
سلام على سيِّد العابدين * * * عليِّ بن الحسين المجتبى
سلام على الباقر المهتدى * * * سلام على الصادق المقتدى
سلام على الكاظم الممتحن * * * رضي السجايا إمام التقى
سلام على الثامن المؤتمن * * * علي الرضا سيِّد الأصفيا
سلام على المتَّقي التقي * * * محمّد الطيِّب المرتجى
سلام على الأريحي النقي * * * عليّ المكرم هادي الورى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٥١) الفصول المهمَّة لابن الصبَّاغ المالكي (ص ٢٠٠ - ٢٨٧).
↑صفحة ١٢٤↑
سلام على السيِّد العسكري * * * إمام يجهز جيش الصفا
سلام على القائم المنتظر * * * أبا القاسم العرم نور الهدى
سيطلع كالشمس في غاسق * * * ينجيه من سيفه المنتقى
قوي يملأ الأرض من عدله * * * كما مُلِئَت جور أهل الهوى
سلام عليه وآبائه * * * وأنصاره، ما تدوم السما(١٥٢)
٧ - شمس الدِّين محمّد بن طولون مؤرِّخ دمشق (ت ٩٥٣هـ) قال في كتابه (الأئمَّة الاثنا عشر) عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه): (كانت ولادته (رضي الله عنه) يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، ولـمَّا تُوفِّي أبوه المتقدِّم ذكره (رضي الله عنه) كان عمره خمس سنين)(١٥٣).
ثمّ ذكر الأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام) وقال: وقد نظمتهم على ذلك فقلت:
عليك بالأئمَّة الاثني عشر * * * من آل بيت المصطفى خير البشر
أبو تراب، حسن، حسين * * * وبغض زين العابدين شين
محمّد الباقر كم علم درى؟ * * * والصادق ادع جعفراً بين الورى
موسى هو الكاظم، وابنه عليّ * * * لقبه بالرضا وقدره عليّ
محمّد التقي قلبه معمور * * * عليّ النقي درُّه منثور
عسكري الحسن المطهَّر * * * محمّد المهدي سوف يظهر(١٥٤)
٨ - أحمد بن يوسف أبو العبَّاس القرماني الحنفي (ت ١٠١٩هـ) قال في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٥٢) دلائل الصدق للمظفَّر (ج ٢/ ص ٥٧٤ و٥٧٥) من المبحث الخامس، علماً بأنَّ الشيخ محمّد حسن المظفَّر نقل في كتابه (دلائل الصدق) كتاب (إبطال الباطل) بتمامه.
(١٥٣) الأئمَّة الاثنا عشر لابن طولون الحنفي (ص ١١٧).
(١٥٤) الأئمَّة الاثنا عشر (ص ١١٨).
↑صفحة ١٢٥↑
كتابه (أخبار الدُّوَل وآثار الأُوَل) في الفصل الحادي عشر: في ذكر أبي القاسم محمّد الحجَّة الخلف الصالح:
(وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين، آتاه الله فيها الحكمة كما أُوتيها يحيى (عليه السلام) صبيًّا. وكان مربوع القامة، حسن الوجه والشعر، أقنى الأنف، أجلى الجبهة... واتَّفق العلماء(١٥٥) على أنَّ المهدي هو القائم في آخر الوقت، وقد تعاضدت الأخبار على ظهوره، وتظاهرت الروايات على إشراق نوره، وستسفر ظلمة الأيَّام والليالي بسفوره، وينجلي برؤيته الظلم انجلاء الصبح عن ديجوره، ويسير عدله في الآفاق فيكون أضوأ من البدر المنير في مسيره)(١٥٦).
٩ - سليمان بن إبراهيم المعروف بالقندوزي الحنفي (ت ١٢٧٠هـ) كان القندوزي (رحمه الله) من علماء الأحناف المصرِّحين بولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وأنَّه هو القائم المنتظر، وقد مرَّت أقواله واحتجاجاته كثيراً في هذا البحث، ولا بأس بذكر قوله: (فالخبر المعلوم المحقَّق عند الثقات أنَّ ولادة القائم (عليه السلام) كانت ليلة الخامس عشر من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين في بلدة سامرَّاء).
ونكتفي بهذا القدر، على أنَّ ما تركناه من أسماء العلماء الذين قالوا بولادة الإمام المهدي، أو الذين صرَّحوا بكونه هو المهدي الموعود المنتظر في آخر الزمان هم أضعاف ما ذكرناه، وقد أشرنا فيما تقدَّم إلى الاستقراءات السابقة التي اعتنت باعترافاتهم وسجَّلت أقوالهم.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٥٥) اُنظر إلى قوله: (واتَّفق العلماء) وقارن بما يدَّعيه أنصاف المتعلِّمين وبعض المغرَّر بهم من مزاعم باطلة تحت شعارات التصحيح.
(١٥٦) أخبار الدُّوَل وآثار الأُوَل للقرماني (ص ٣٥٣ و٣٥٤/ الفصل ١١).
↑صفحة ١٢٦↑
ردًّا على الأخ عبد الحسين البصري:
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٩:٣٥) مساءً.
أحمد الكاتب:
الأخ عبد الحسين البصري المحترم:
قلت: لسنا بحاجة إلى ما يُبيِّن ولادة الإمام ويُثبِتها تاريخيًّا بعد أنْ عرفنا أنَّه من أهل البيت وأنَّ ظهوره يكون في آخر الزمان، واعترفت بوجود ملابسات تاريخيَّة حول ولادته وادِّعاء عمِّه جعفر بعدم وجود ولد لأخيه.
إذن إنَّها قصَّة خفيَّة قابلة للإنكار وخلاف الظاهر من حياة الإمام العسكري، وإلَّا فإنَّ يزيد بن معاوية لم يستطع إنكار وجود ولد للإمام الحسين هو عليُّ بن الحسين.
فكيف حصل لك القطع واليقين بوجود ابن للحسن العسكري؟ ومن أين(١٥٧)؟
قلت أيضاً: إنَّ ثبوت ولادة المهدي حصلت بالإقرار والعيان وما بعدهما من برهان، وذلك بإقرار أبيه وشهادة القابلة وإنْ لم يرَه أحد غيرهما، وإنَّ القابلة صرَّحت بمشاهدته.
اُنظر أخي الكريم: إنَّ ولادة طفل ووجوده على مسرح الحياة بين أهله وإخوانه وأبويه لا يحتاج إلى إقرار ولا إلى شهادة القابلة أيضاً. ولكنَّك تنسب ولداً لا أثر له في التاريخ إلى إنسان لم يدَّعه في حياته وتُسمِّي ذلك إقراراً؟ ثمّ تنسب الشهادة إلى قابلة لم ترَها ولم تتأكَّد منها(١٥٨) ولم تُحقِّق في الرواية المنسوبة إليها ولم تدرسها بدقَّة.
والرواية ذكرتها أنا في القسم الخاصِّ بالأدلَّة التاريخيَّة ودرستها جيِّداً فأرجوك أنْ تراجعها قبل أنْ تتقبَّلها على عواهنها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٥٧) بعد كلِّ ما قدَّمه الأخ البصري من روايات تسأله من أين حصل اليقين؟ إنَّه لعجيب منك ذلك!
(١٥٨) أو هل رأيت من هم قبلك ممَّن ادَّعى الغير وجودهم لتطمئنَّ بذلك، أم أنَّك رأيت القابلة التي ولَّدت أُمَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو أيّ شخصيَّة تاريخيَّة لتثبت لك ذلك؟!
↑صفحة ١٢٧↑
إنَّ الرواية المنسوبة إلى حكيمة - بالإضافة إلى ضعف سندها - تقول بأنَّ نرجس الأُمَّ المفترضة للمهدي لم يكن بها أثر للحمل أبداً، وأنَّها لم تكن تعرف ذلك وقد استغربت عندما قالت لها حكيمة: إنَّها سوف تلد هذه الليلة، وقالت: يا مولاتي ما أرى شيئاً من هذا، وإنَّ حكيمة نفسها استغربت عندما أخبرها الإمام الحسن بولادة ابن له في ليلة النصف من شعبان وتساءلت: من أُمُّه؟ وعندما قال لها: نرجس، قالت: جعلني الله فداك ما بها أثر. وعندما اقترب الفجر ولم يظهر أيُّ أثر دخل الشكُّ إلى قلب حكيمة.
ومع ذلك تقول الرواية: إنَّ حكيمة أخذتها فترة ولم تشهد عمليَّة الولادة، وفي رواية أُخرى أنَّ نرجس غُيِّبت؛ فلم ترَها كأنَّه ضُرِبَ بينها وبينها حجاب؛ ممَّا أثار استغرابها ودفعها إلى الصراخ واللجوء إلى أبي محمّد، ثمّ لم ترَ الوليد في الصباح ولا في الأيَّام الأُخرى.
ومع أنَّ كلَّ هذه الأُمور غريبة ولم تُعرَف عن ولادة الرسول الأعظم، فإنَّها تثير احتمال أنْ تكون الولادة حلماً شاهدته حكيمة في المنام إنْ ثبتت الرواية إليها وهي في موضع شكٍّ كبير، وهو ما يُؤكِّد أنَّها من نسج خيال الغلاة.
ثمّ يا أخ عبد الحسين:
إنَّك تقول: إنَّ أبا هاشم الجعفري لم يعرف بوجود ابن للعسكري وسأل عنه العسكري، فقال له: اسأل عنه في المدينة، والجعفري علوي من أهل البيت ومن المقرَّبين ولم يدَّع مشاهدته في حياة أبيه.
وإذا كان الإمام العسكري قد عقَّ عن ابنه وأعلن خبر ولادته، فلماذا ادِّعاء السرّيَّة والكتمان وافتراض الخوف الشديد(١٥٩)؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٥٩) ومن قال بأنَّ الإمام العسكري (عليه السلام) عقَّ عن ابنه في العلن الظاهر بحيث عرف كلُّ الناس بذلك؟ أو هل العقُّ عن ابنه (عجَّل الله فرجه) ينافي السرّيَّة؟
↑صفحة ١٢٨↑
أمَّا تشبُّثك بأقوال النوَّاب الخاصِّين وكان عددهم كبيراً أكثر من أربعة(١٦٠)، فقد كانت لهم مصالح مادّيَّة حيث كانوا يأخذون الأموال من الشيعة ويدَّعون إيصالها إلى الإمام؛ ولذا فإنَّ شهادتهم مجروحة وقولهم فيه شكٌّ وليس بحجَّة.
والأغرب من كلِّ ذلك أنَّك وبعض المتأخِّرين من الكُتَّاب، تحاول أنْ تستشهد بأقوال علماء متأخِّرين من السُّنَّة في القرون المتأخِّرة.
ولست أدري هل كانوا يؤمنون بوجود المهدي واستمرار حياته بصورة إعجازيَّة، كما يؤمن الاثنا عشريَّة، ولماذا لا يصبحون شيعة إذن؟ أو أنَّهم كانوا ينقلون قول الشيعة الاثني عشريَّة من غير إيمان وقولهم لا يفيد. ثمّ ما هو دليلهم؟ وما هو سندهم؟ وعلى أيِّ أساس بنوا قولهم وهو لم يثبت عند الشيعة(١٦١)؟ وهل يجوز أنْ نُقلِّدهم في قضيَّة عقائديَّة تاريخيَّة نختلف نحن فيها(١٦٢)؟ ألَا تحتمل أنْ يكون لهم مصلحة في تضليل الشيعة وتخديرهم وإبعادهم عن الحياة السياسيَّة؟ لماذا لا تتساءل عن دوافع الخليفة العبَّاسي الناصر بالله لكي يحفر سرداب سامرَّاء عميقاً ويشيع أنَّ المهدي الثاني عشر مختبئ في السرداب؟ أليس لكي يضحك على الشيعة ويخدرهم(١٦٣)؟ وهل تؤمن أنت اليوم بأُسطورة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٦٠) أمَّا النوَّاب المباشرون الخاصُّون فأربعة، وأمَّا غير المباشرين فعدَّتهم تصل إلى العشرات.
(١٦١) أين اختلفت الشيعة في ولادته؟ وإنْ وقع اختلاف، فمن فئة قليلة منهم في بعض من ادَّعى النيابة الخاصَّة.
(١٦٢) الكاتب تارةً يحصر الدليل في مسألة وجود القائم بالتاريخ ويتشدَّد في الحصر على الدليل التاريخي، وإلَّا فأيُّ قضيَّة تاريخيَّة ذكرها المؤرِّخون سواء المقاربون لتلك القضيَّة والواقعة أو البعيدون عنها زمناً قد ذكروا أسانيد متَّصلة لنقل تلك الواقعة، فإذا كان تطابق جميع المؤرِّخين على أمر لا يورث للكاتب إذعاناً بوقوع تلك الواقعة فلا قضيَّة تاريخيَّة حينئذٍ يمكن إثباتها.
(١٦٣) قد ذكرنا فيما سبق أنَّ استنفار الدولة العبَّاسيَّة منذ عهد الهادي والعسكري (عليهما السلام) تحسُّباً للبشارة النبويَّة المتواترة بين المسلمين بخروج المهدي من ذرّيَّته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليقمع الظالمين، مع ما رواه الفريقان من أنَّ عدَّة الأئمَّة اثنا عشر، ومن ثَمَّ فرضت الدولة الإقامة الجبريَّة على العسكريَّين وحبست زوجة العسكري - نرجس - بعد وفاته سنتين. مضافاً إلى كثير من اللقطات لفِرَق الشرطة والعيون التي هاجمت بيت الإمام العسكري. وكلامه من أنَّ الناصر بالله أقام القبَّة على السرداب مبنيٌّ على دعوى الكاتب أنَّ الدولة العبَّاسيَّة سياستها ليِّنة مع البيت العلوي، وأنَّها قد بنت صرح الأُخوَّة والصلح معهم، ومن ثَمَّ يميل الكاتب نفسيًّا إلى إقدام الناصر العبَّاسي على مثل ذلك.
↑صفحة ١٢٩↑
السرداب، أم تتبرَّأ منها(١٦٤)؟
وأخيراً أودُّ الإشارة إلى أنَّ بعض الإخوة المشاركين في هذا الحوار استكثروا عليَّ وضع بعض الملفات من كتابي في مواقع الحوار لغرض الاستفادة منها والاعتماد عليها في الحوار، ومع ذلك فإنَّهم لا يجدون حرجاً في نقل كُتُب من مواقع أُخرى متخصِّصة بالدفاع عن المهدي دون أنْ يستوعبوها جيِّداً أو يناقشوها بدقَّة أو يُفكِّروا بتناقضاتها.
لقد ألقيت عن كاهلكم مؤونة نقل تلك الكُتُب وذكرت لكم جميع الروايات النقليَّة والتاريخيَّة الواردة حول الموضوع تقريباً، أرجوكم النظر فيها قبل أنْ تتجشَّموا عناء نقل الكُتُب الأُخرى من هنا وهناك(١٦٥).
* * *
إلى أحمد الكاتب.. أين الجواب على هذا الدليل؟
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٠:٤٩) مساءً.
عبد الحسين البصري عضو:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٦٤) إنَّه ليس معنى الغيبة كما أشرنا سابقاً بمعنى الحبس في صندوق كما يسرح ذلك في خيال الكاتب، وإنَّما هي بمعنى خفاء الهويَّة مع الوجود بشكل طبيعي في البشر قائماً بعهدة الوظائف الإلهيَّة.
(١٦٥) الاعتماد على نقلك لا ينفعنا أيَّ شيء، إذ إنَّك لم تنقل إلَّا الضعيف، هذا أوَّلاً، وثانياً حتَّى في نقلك لم تراعِ أدنى مراتب الأمانة في النقل، إذ إنَّك اعتمدت على نسجك الخاصِّ وفهمك الغريب وتدليسك المعهود، وهذا ما سيكتشفه القارئ بنفسه عندما يرى نصَّك والنصَّ الصحيح الذي ننقله من نفس المصدر الذي تنقل منه.
↑صفحة ١٣٠↑
لم أرَ لك تعليقاً على الخبر الصحيح عن محمّد بن يحيى العطَّار، عن أحمد بن إسحاق، عن أبي هاشم الجعفري، قال: قلت لأبي محمّد (عليه السلام): هل لك ولد؟ فقال: «نعم»، فقلت: فإنْ حدث بك حدث فأين أسأل عنه؟ قال: «بالمدينة».
والخبر الصحيح عن عليِّ بن محمّد، عن محمّد بن عليِّ بن بلال، قال: خرج إليَّ من أبي محمّد قبل مضيِّه بسنتين يُخبرني بالخلف من بعده، ثمّ خرج إليَّ من قبل مضيِّه بثلاثة أيَّام يُخبرني بالخلف من بعده.
والمراد بعليِّ بن محمّد هو الثقة الأديب الفاضل ابن بندار، وأمَّا عن محمّد بن عليِّ بن بلال، فإنَّه من الوثاقة والجلالة أشهر من نار على علم، بحيث كان يراجعه من مثل أبي القاسم الحسين بن روح (رضي الله عنه)، كما هو معلوم عند أهل الرجال.
مع أنِّي أوردته في موضوعي: ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وأورده الأخ التلميذ في ردِّه على نفيك: أنْ يكون هناك ابن للإمام الحسن العسكري.
* * *
النظريَّات المتعدِّدة في تفسير الغيبة:
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠١: ٠٦) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
لماذا الغيبة؟
بعد تقديم جميع الأدلَّة العقليَّة والنقليَّة والتاريخيَّة على وجود (محمّد بن الحسن العسكري) وولادته في منتصف القرن الثالث الهجري؛ فإنَّ غيبته عن الأنظار وعدم خروجه وتصدِّيه لقيادة الأُمَّة الإسلاميَّة والاضطلاع بمهامِّ الإمامة، يُشكِّل تحدّياً كبيراً للقائلين بوجوده، ولذلك كان عليهم أنْ يُفسِّروا سرَّ الغيبة. وقد قدَّموا عدَّة نظريَّات في تفسير ظاهرة الغيبة المحيِّرة، وهي كما يلي:
↑صفحة ١٣١↑
١ - نظريَّة الحكمة المجهولة:
وقد مال الشيخ الصدوق إلى هذه النظريَّة في (إكمال الدِّين)، وحتَّم وجود حكمة في غيبة الإمام، انطلاقاً من آثار حكمة الله في حُجَجه المتقدِّمين، وقال: إنَّ إيماننا بعصمة الإمام المهدي يقتضي منَّا التسليم بوجود حكمة وراء غيبته.
وقد نفى السيِّد المرتضى علم الهدى ضرورة معرفة سبب الغيبة على وجه التعيين، وكفاية علم الجملة بوجود سبب ما للغيبة، مع الإيمان بعصمة الإمام، واعتبر العلم في ذلك كالعلم بمراد الله من الآيات المتشابهات في القرآن الكريم.
وهكذا قال الشيخ الطوسي بضرورة افتراض سبب لغيبة (صاحب الزمان) واستتاره، والقول بوجود حكمة مسوِّغة وإنْ لم نعلمها مفصَّلاً، كما يتمُّ افتراض أسباب وحِكَم لخلق الله (عزَّ وجلَّ) للبهائم والمؤذيات والصور القبيحة وإيلام الأطفال، وإنْ لم نعلم وجه حكمتها بالتفصيل، وقال: (إذا علمنا إمامته بدليل، وعلمنا عصمته بدليل آخر، وعلمناه غاب، حملنا غيبته على وجه يطابق عصمته، فلا فرق بين الموضعين).
وقال الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء في (أصل الشيعة وأُصولها): (إنَّ السؤال عن الحكمة ساقط إذا قامت البراهين على وجوب وجود الإمام في كلِّ عصر، وإنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة، وإنَّ وجوده لطف وتصرُّفه لطف آخر)، واعتبر المقام أدقّ وأغمض من ذلك، كما اعترف بجهل الحكمة وعدم الوصول إلى حاقِّ المصلحة.
٢ - نظريَّة التمحيص:
وهناك نظريَّة أُخرى في تفسير (غيبة الإمام) هي نظرية (التمحيص) أي تمحيص الشيعة وتمييزهم وغربلتهم، من أجل التعرُّف على حقيقة إيمانهم بالمهدي وصبرهم على البلاء. وقد روى الصدوق والطوسي روايات عديدة في هذا
↑صفحة ١٣٢↑
المضمون عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)، ويتحدَّث بعض تلك الروايات عن عدم ظهور صاحب الأمر إلَّا بعد ذهاب ثلثي الناس، وعدم بقاء أحد إلَّا القليل، وعن غربلة الشيعة كما يغربل الزوان من القمح.
وتقول رواية منها: «إنَّه لا بدَّ لصاحب هذا الأمر من غيبة يغيبها، حتَّى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به، إنَّما هي محنة من الله امتحن بها خلقه، وإنَّ عقولكم تصغر عن هذا الأمر وأحلامكم عن حمله، ولكن إنْ تعيشوا تُدركوه».
وتُشبِّه رواية أُخرى منها غيبة الإمام المهدي بإبطاء العقوبة التي استنزلها نوح من السماء، حتَّى أخذت طوائف من المؤمنين به ترتدُّ طائفة بعد أُخرى.. وكذلك القائم فإنَّه تمتدُّ أيَّام غيبته؛ ليصرح الحقُّ عن محضه ويصفو من الكدر بارتداد كلِّ من كانت طينته خبيثة من الشيعة الذين يُخشى عليهم النفاق، إذا أحسُّوا بالاستخلاف والتمكين والأمن المنتشر في عهد القائم.
ولكن لم يأخذ بهذه النظريَّة سوى الصدوق، وقد أهملها المفيد والمرتضى والطوسي. وإنْ كانوا قد ذكروا بعض الروايات المتضمِّنة لها، وفسَّر الطوسي تلك الروايات الواردة حول امتحان الشيعة في حال الغيبة بأنَّها تعني اتِّفاق ذلك في أثنائها لا أنَّه سبب لها.
٣ - نظريَّة الخوف:
وهذه أقوى نظريَّة في تفسير سبب الغيبة، وقد روى الكليني في (الكافي) والصدوق في (إكمال الدِّين) مجموعة روايات عن الإمام الصادق (عليه السلام) تشير إلى أنَّ سبب الغيبة هو الخوف على الحياة والتقيَّة.
وقال الشيخ المفيد في (الإرشاد): (خلَّف الحسن ابنه المنتظر لدولة الحقِّ وكان قد أخفى مولده، وستر أمره لصعوبة الوقت وشدَّة طلب سلطان الزمان له واجتهاده في البحث عن أمره، وما شاع من مذهب الإماميَّة فيه وعُرِفَ من انتظارهم له، فلم يُظهر ولده في حياته ولا عرفه الجمهور بعد وفاته).
↑صفحة ١٣٣↑
واعتبر المفيد أنَّ الظروف المحيطة بغيبة (الإمام المهدي) أصعب بكثير من الظروف التي أحاطت بالأئمَّة السابقين من أهل البيت، الذين لم يختفوا عن الأنظار، وكانوا يتحصَّنون بالتقيَّة، وأنَّ سلاطين الزمان كانوا يعلمون قيام المهدي بالسيف؛ ولذلك كانوا أحرص على ملاحقته واستيصال شأفته، وأنَّ السبب الذي كان يمنعه من الخروج هو قلَّة الأعوان والأنصار.
وأكَّد السيِّد المرتضى في (الشافي): أنَّ سبب غيبته إخافة الظالمين له ومنعهم يده عن التصرُّف فيما جُعِلَ إليه التدبير والتصرُّف فيه، فإذا حيل بينه وبين مراده سقط عنه فرض القيام بالإمامة(١٦٦)، وإذا خاف على نفسه وجبت غيبته ولزم استتاره.
وقال الكراجكي في (كنز الفوائد): (إنَّ السبب في غيبة الإمام إخافة الظالمين له وطلبهم بسفك دمه وإعلام الله أنَّه متى أبدى شخصه لهم قتلوه، ومتى قدروا عليه أهلكوه، وإنَّما يلزمه القيام بواجباته بشرط التمكُّن والقدرة وعدم المنع والحيلولة وإزالة المخافة على النفس والمهجة، فمتى لم يكن ذلك فالتقيَّة واجبة، والغيبة عند الأسباب الملجئة إليها لازمة؛ لأنَّ التحرُّر من المضارِّ واجب عقلاً وسمعاً).
وحصر الطوسي أسباب الغيبة في الخوف، وقال: لا علَّة تمنع من ظهوره (عليه السلام) إلَّا خوفه على نفسه من القتل؛ لأنَّه لو كان غير ذلك لما ساغ له الاستتار، وكان يتحمَّل المشاقَّ والأذى، فإنَّ منازل الأئمَّة وكذلك الأنبياء (عليهم السلام) إنَّما تعظم منزلتهم لتحمُّلهم المشاقَّ العظيمة في ذات الله.
ولكن لماذا يخاف الإمام (محمّد بن الحسن) على نفسه من القتل، وقد خرج الإمام الحسين وضحَّى بنفسه في كربلاء؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٦٦) ليس في تعبير المرتضى سقوط الإمامة، وإنَّما الذي في العبارة سقوط وظيفة تشكيل الحكم في الظاهر.
↑صفحة ١٣٤↑
إنَّ السيِّد المرتضى والشيخ الطوسي والكراجكي يجيبون على ذلك بالقول: إنَّ أحداً من البشر لا يقوم مقام الإمام المهدي؛ لأنَّه آخر الأئمَّة؛ ولأنَّ مصلحة المكلَّفين مقصورة عليه!
وهذا الجواب يفترض عدَّة أُمور، هي:
١ - تحديد مهدويَّة الإمام الثاني عشر من قِبَل الأئمَّة السابقين، والإشارة إليه من قبل.
٢ - وجود أزمة سياسيَّة وعداوة وخوف لدى السلطات العبَّاسيَّة من المهدي، ووجود خوف شديد وأعظم لدى الإمام من المخاوف التي كانت في عصور الأئمَّة السابقين في ظلِّ الحُكَّام الأُمويِّين والعبَّاسيِّين.
٣ - خاتميَّة الإمام الثاني عشر للأئمَّة وانحصار الإمامة فيه.
٤ - تحريم التقيَّة للمهدي قبل قيامه وظهوره.
فإذا قلنا: إنَّ الأئمَّة السابقين لم يُحدِّدوا هويَّة المهدي من قبل، فلا حاجة له للغيبة منذ ولادته. وإذا ثبت أنَّ العلاقة بين أهل البيت والعبَّاسيِّين في تلك الفترة كانت طبيعيَّة وإيجابيَّة ولا يوجد فيها ضغط أو توتُّر سياسي، فلا حاجة أيضاً إلى الغيبة. وإذا قلنا: إنَّ الإمام الثاني عشر هو واحد من الأئمَّة وليس آخرهم - كما كان الإماميُّون يعتقدون في البداية وحتَّى نهاية القرن الثالث -، فلا توجد ضرورة للغيبة؛ لأنَّ الأئمَّة السابقين كانوا جميعاً معرَّضين للقتل ولم يغيبوا. وإذا قلنا: إنَّ الإمام الثاني عشر (المهدي) يجوز له استخدام التقيَّة كسائر الأئمَّة فرضاً، فإنَّه كان بمقدوره أنْ ينفي هويَّته ومهدويَّته إلى أنْ يظهر، ولم يكن بحاجة إلى الغيبة منذ ولادته(١٦٧).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٦٧) وهذا هو معنى الغيبة الذي نعتقده من أنَّه حيٌّ حاضر بيننا، إلَّا أنَّه نجهل هويَّته، وبمفاد هذا روي أنَّه عند ظهوره يقول كلُّ الناس: إنَّ هذا الذي قد رأيناه من قبل ولم نعرف أنَّه المهدي.
↑صفحة ١٣٥↑
المطلب الثاني: أين مكان الغيبة(١٦٨)؟
إنَّ معظم الروايات التي تتحدَّث عن (المهدي محمّد بن الحسن العسكري) تشير إلى أنَّه كان في بيت أبيه في (سُرَّ من رأى)، عاصمة الخلافة العبَّاسيَّة يومذاك، وأنَّ الذين شاهدوه في حياة أبيه شاهدوه فيها، وتقول بعض الروايات: إنَّه خرج للصلاة على جثمان أبيه الذي تُوفِّي ودُفِنَ في (سامرَّاء)، وإنَّه التقى بعد ذلك بوفد قم الذي جاء يبحث عن الإمام الجديد، وإنَّه ظلَّ مقيماً في البيت إلى أعوام طويلة، حتَّى دهمته قوَّات المعتضد فغاب في (السرداب). وقد بنى الخليفة العبَّاسي الناصر بالله قبَّة على ذلك السرداب، لا تزال موجودة حتَّى اليوم، ويزورها الشيعة من كلِّ مكان، وهي القبَّة المعروفة بقبَّة سرداب الغيبة، في جوار قبر الإمامين الهادي والعسكري في مدينة سامرَّاء شمالي بغداد.
ويورد الشيخ المفيد في (الإرشاد) قصَّة رجل اسمه (عليّ بن الحسين) يقول: إنَّه زار الإمام المهدي في بيته في سامرَّاء، وجلس عنده ثلاثة أيَّام، كما يذكر قصَّة (الحسن بن الفضل) الذي يقول: إنَّه ورد العسكر (أي سامرَّاء)، فبعث إليه الإمام المهدي صُرَّة فيها دنانير.
وينقل المفيد عن الحسن بن عبد الحميد أنَّه شكَّ في أمر أحد وكلاء المهدي، واسمه (حاجز بن يزيد)، فذهب إلى العسكر، فخرج إليه ما يُؤكِّد صحَّة دعوى ذلك الوكيل وينهاه عن الشكِّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٦٨) ولا أرى إلَّا أنَّ الكاتب يسبح في خيال أنَّ الغيبة صندوق قد أُودع فيه شخص وأُقفل عليه إلى وقت الظهور، مع أنَّا قد بيَّنَّا أنَّ الغيبة عند الشيعة هي استتار الهويَّة لا استتار الشخص.
↑صفحة ١٣٦↑
المطلب الثالث: كم هي مدَّة الغيبة؟
وكانت مدَّة الغيبة في بداية القول بها تتأرجح بين أيَّام وشهور أو سنين لا تتجاوز عدد أصابع اليدين، كما تقول روايات كثيرة يذكرها الكليني في (الكافي) والطوسي في (الغيبة)(١٦٩).
بينما كان بعض الروايات يقول: إنَّها ستطول حوالي ثلاثين أو أربعين عاماً.
أشارت بعض الروايات التي نقلها النعماني في (الغيبة) إلى تحديد مدَّة الغيبة جدًّا وحداثة عمر الإمام المهدي عند الظهور، وقد فسَّرها النعماني بحداثة عمره وقت إفضاء الإمامة إليه.
ونقل الطوسي رواية أُخرى عن الإمام الباقر (عليه السلام): «إنَّ صاحب هذا الأمر لا يتجاوز الأربعين».
وقالت روايات أُخرى: إنَّ عمره قد يجاوز المائة والعشرين.
وروى الطوسي في (الغيبة) عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «ما تُنكِرون أنْ يمدَّ الله لصاحب هذا الأمر في العمر كما مدَّ لنوح في العمر؟». وردَّ على من استشكل حول طول مدَّة الغيبة وخروجها عن العادة، بأنَّ الأمر ليس على ما قالوه، ولو صحَّ لجاز أنْ ينقض الله العادة لضرب من المصلحة.
واستشهد الصدوق والطوسي بغيبات موسى بن عمران، ويوسف بن يعقوب، ويونس بن متَّى، وأصحاب الكهف، وصاحب الحمار، ونوح، وسلمان الفارسي، والدجَّال، ولقمان بن عاد، وربيع بن ضبع، ويعرب بن قحطان، الذين قالوا: إنَّهم غابوا عن أقوامهم لفترات من الزمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٦٩) في تلك الروايات قد أُشير إلى أنَّه ثمّ يفعل الله ما يشاء؛ فإنَّ له بداءات وإرادات وغايات ونهايات، ممَّا يدلُّ على إمكان وقوع البداء في مدَّة الغيبة.
↑صفحة ١٣٧↑
المطلب الرابع: كيفيَّة التأكُّد من هويَّة المهدي(١٧٠):
وعلى أيِّ حالٍ فإنَّ الغيبة الطويلة أدَّت وتُؤدِّي إلى مشكلة موضوعيَّة، وهي: كيفيَّة التعرُّف على المهدي بعد الظهور، والتأكُّد من هويَّته، ولم تكن هذه المشكلة مطروحة في البداية وخاصَّة في عصر (الغيبة الصغرى)، ولكنَّها بدأت تفرض نفسها مع توالي الزمان.. ومرور الأعوام. وقد كانت مدار بحث ونقاش بين الرافضين والقائلين بوجود المهدي، في ذلك الوقت. وقد تصدَّى الشيخ الصدوق لمناقشتها، وقال ردًّا على المعتزلة والمعارضين الذين كانوا يغمزون من هذه القناة: (إنَّه قد يجوز بنقل من تجب بنقله الحجَّة من أوليائه، وقد يجوز أنْ يُظهر معجزاً يدلُّ على ذلك، وهذا الجواب الثاني هو الذي نعتمد عليه ونجيب الخصوم به، وإنْ كان الأوَّل صحيحاً).
وقد أشار المفيد والطوسي إلى هذا الموضوع: (مشكلة التعرُّف على المهدي والتأكُّد من هويَّته عند الظهور) بذكر مجموعة كبيرة من المعاجز والآيات الكونيَّة الغريبة التي تسبق الظهور كعلامات على قيامه، وعالج السيِّد المرتضى علم الهدى المشكلة في معرض مناقشته لإمكانيَّة الظهور المؤقَّت أثناء فترة الغيبة، فاشترط ظهور آيات تدلُّ على صدقه.
المطلب الخامس: علائم الظهور:
يذكر الكليني في (الكافي)، والصدوق في (إكمال الدِّين)، و(عيون أخبار الرضا)، والمفيد في (الإرشاد)، والطوسي في (الغيبة)، والعيَّاشي في (تفسيره): مجموعة من الروايات تربط بين الظهور وبين حدوث علائم سماويَّة، تتعلَّق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٧٠) قد أشارت روايات أهل البيت من الأئمَّة السابقين على حتميَّة وقوع علامات متَّصلة بسنوات ظهوره دالَّة عليه، وتلك الروايات قبل وقوع الغيبة وقبل تطاولها. والاحتياج في العلامات للتدليل على الهويَّة جارٍ في ظهور عيسى (عليه السلام) كذلك.
↑صفحة ١٣٨↑
بتوقُّف حركة الأفلاك، وتغيُّر في قوانينها، وما شابه من المعاجز غير الطبيعيَّة، كركود الشمس وقت الزوال إلى وقت العصر، وخروج صدر رجل ووجهه في عين الشمس، وكذلك وقوع الكسوف والخسوف بصورة غير طبيعيَّة، ككسوف الشمس في النصف من شهر رمضان وخسوف القمر في آخره. أو تكلُّم العَلَم والسيف مع (الإمام المهدي) ومناداته بعدم جواز القعود بعد ذلك الوقت. فيخرج ويقتل أعداء الله حيث ثقفهم، ويقيم حدود الله ويحكم بحكم الله.
إضافةً إلى قصَّة طلوع الشمس من المغرب(١٧١)، وطلوع نجم بالمشرق يضيء، كما يضيء القمر، وخروج جراد في أوانه وغير أوانه، وخروج العبيد عن طاعة أسيادهم وقتلهم مواليهم، ومسخ لقوم من أهل البدع حتَّى يصيروا قردةً وخنازير، وغلبة العبيد على بلاد السادات، ونداء من السماء يسمعه أهل الأرض كلُّهم، كلُّ أهل لغة بلغتهم، وأموات يُنشَرون من القبور حتَّى يرجعوا إلى الدنيا فيتعارفون فيها ويتزاورون.
ويذكر المفيد: أنَّ جبرائيل ينزل إلى القائم لمبايعته عند الظهور، ويقول الطوسي: إنَّ أصحاب القائم سوف يُنقَلون إلى مقرِّ المهدي من بيوتهم بصورة إعجازيَّة كلمح البصر!
ويتحدَّث المفيد عن بعض العلائم الكونيَّة التي سوف تحدث عند ظهور (المهدي) كامتداد طول اليوم إلى عشرة أضعاف ليكون (٢٤٠ ساعة)!
وهذا ما يُفسِّره الطوسي بحديث مشابه، حيث يقول: (إذا قام القائم.. يأمر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٧١) قد ذكرت بعض الإذاعات نبأ عن مصادر علميَّة دوليَّة تفيد أنَّه بسبب ذوبان القطب الجنوبي واستمرار ذلك سيتسبَّب ذلك في اختلال في مركز الثقل في الأرض ممَّا يُؤدِّي إلى انقلاب الشمالي إلى الجنوبي، والجنوبي إلى موضع الشمالي، وبالتالي انعكاس اتِّجاه دوران الأرض وطلوع الشمس من المغرب.
↑صفحة ١٣٩
الله الفلك في زمانه فيبطئ في دوره، حتَّى يكون اليوم في أيَّامه كعشرة من أيَّامكم، والشهر كعشرة أشهر، والسنة كعشر سنين من سنيكم).
ويروي الكليني حديثاً عن الإمام الباقر (عليه السلام) يتنبَّأ فيه باستعمال الشيعة لطريقة (التلفون التلفازي) في التحدُّث مع القائم ومشاهدته عن بعد، ومن مختلف الأقطار. وذلك عند ظهوره.
وتقول بعض الروايات: إنَّ القائم إذا قام أشرقت الأرض بنور ربِّها واستغنى العباد عن ضوء الشمس، وذهبت الظلمة، ويُعمّر الرجل في ملكه حتَّى يُولَد له ألف ولد ذَكَر لا يُولَد فيهم أُنثى!
وأخيراً تتحدَّث الروايات الواردة حول ظهور المهدي عن مدَّة ملكه، فتقول إحداها: إنَّه سيحكم سبع سنين تكون أشبه بسبعين سنة من سنيننا. وتقول رواية أُخرى: إنَّ القائم يملك ثلاثمائة وتسع سنين، كما لبث أهل الكهف في كهفهم، ولكن رواية ثالثة تقول: إنَّه يحكم تسعة عشر عاماً فقط.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩)، (٠١:٣٦) صباحاً.
العاملي عضو:
أوَّلاً: هذا الموضوع يصرخ بتدليس صاحبه. والدليل عليه أنَّه ثبت عند السُّنِّيين في صحاحهم أنَّ الأعور الدجَّال قد وُلِدَ في زمن الخليفة عمر، وأنَّه حيٌّ يُرزَق وغائب حتَّى يخرج. ولهم تفسيرات كثيرة في غيابه.
فهل يصحُّ القول: إنَّ تعدُّد تفاسيرهم في غيبة الدجَّال دليل على عدم ولادته؟!
ثانياً: لو أنَّك حقَّقت في أحاديث غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عند المسلمين السُّنَّة والشيعة، لرأيت فيها صحاحاً قبل ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
↑صفحة ١٤٠↑
ثالثاً: خلطك المواضيع دليل على تدليسك، فقل: إنِّي أحصيت أحاديث الغيبة، وحاضر لمناقشتها وأطرح واحداً أو خمسة منها!
رابعاً: ما هو التأثير العلمي لتفاوت أحاديث علامات الظهور، أو كذب بعضها على أحاديث الغيبة؟! أم هو حبُّ الحشو والتخبيص؟!
* * *
إلى الأخ العاملي:
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٣:٣٩) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
الأخ العاملي (حفظه الله):
تحيَّة طيِّبة، وبعد:
فمن السهل إطلاق الاتِّهام بالتدليس والكذب بصورة عامَّة، ومن الصعب إثباته ووضع النقاط على الحروف، وأراك مستعجلاً في الردِّ ولا ضرورة لذلك، ويمكنك أنْ تتمهَّل عدَّة أيَّام لتدرس تاريخ تلك الفترة وتردَّ بهدوء، وأنا مستعدٌّ لاستماع رأيك بكلِّ إمعان.
ولا توجد لدي معركة شخصيَّة معك، كما لا يمكن أنْ نحسم الصراع على صفحات هذا الموقع في يوم واحد.
أرجو أنْ تذكر لي النصوص الصريحة الصحيحة التي تُؤكِّد أنَّ الإمام الحسن العسكري أرى أصحابه ولده في حياته؟
وقد ذكرت لك عدَّة روايات في فصل الأدلَّة التاريخيَّة على ولادة الإمام ومشاهدته؛ فراجعه أوَّلاً وانظر هل هي الأدلَّة التي تقصدها أم غيرها؟ وإذا كانت غيرها فتفضَّل بذكرها لنا مشكوراً.
أمَّا إذا كنت تقصد نفس الروايات التي ذكرتها أنا، فأرجو أنْ تُبيِّن لي هل قمت بدراستها ودراسة سندها وتقييمها، أم اعتبرتها صحيحة اعتباطاً؟
↑صفحة ١٤١↑
قلت: إنَّ الشيعة لم يجمعوا على ولادة ابن الإمام الحسن العسكري واختلفوا حول وجوده، لأنَّ الحالة كانت غير طبيعيَّة ولم يكن الولد ظاهراً، وكان الإمام الحسن العسكري نفسه قد أنكر وجود ولد له وأوصى إلى أُمِّه، وكانت هناك بالطبع رواية تتحدَّث عن ولادته سرًّا والتقاء بعض الأصحاب به، وهذا ما يدعونا إلى الشكِّ والتوقُّف ودراسة شهادة النوَّاب الأربعة وغيرهم الذين ادَّعوا مشاهدتهم للإمام المهدي واللقاء به، وهل كانوا صادقين أم يدَّعون بلا دليل؟ خاصَّةً وأنَّ الشيعة في أيَّامهم شكُّوا بصدقهم وكذب بعضهم بعضاً في دعاوى النيابة الخاصَّة.
والمسألة ليست مسألة شهود، واحد أو اثنين أو ثلاثة؛ لأنَّها كانت مسألة غامضة ومعقَّدة.
ويبدو أنَّك تعترف بأنَّ القول بولادة الإمام الثاني عشر وولادته كان سرّيًّا خلاف الظاهر، ولكنَّك تفترض وجود ظروف سرّيَّة محيطة بها دفعت الإمام العسكري إلى إخفاء أمر الولادة وإنكارها في الظاهر، وهذا التحليل من تحليلات الباطنيَّة الذين كانوا يرفضون وفاة بعض الأئمَّة ويفترضون ولادة بعض. وإذا كنت تقبل هذا الافتراض، فلماذا لا تقبل بقضيَّة ولادة الإمام محمّد بن عبد الله الأفطح، التي قال بها قسم من الشيعة الفطحيَّة وادَّعوا كذلك وجود ظروف شديدة أجبرت الإمام عبد الله الأفطح على إخفاء ولده في اليمن وأنَّه المهدي المنتظر؟
وإذا كنت تقبل ذلك الافتراض فهل تقبل مثلاً أنَّ المَلِك فيصل الثاني في العراق الذي قُتِلَ قبل أنْ يتزوَّج، ولم يُعرَف وجود ولد له في حياته ليرثه في الملك، ومع ذلك فقد برز مؤخَّراً شابٌّ في لندن وادَّعى أنَّه ابن المَلِك فيصل الثاني وقال: إنَّ أباه قد تزوَّج سرًّا؛ لأنَّه كان يعرف سوف تقوم ثورة في العراق وتقتل العائلة
↑صفحة ١٤٢↑
المالكة فأراد أنْ يحافظ عليه فأخفاه، هل تقبل قوله لو جاء بشاهد أو شاهدين وتعطيه الملك؟ ألَا تحتمل أنْ يكون الشهود قد رتَّبوا القصَّة لينتزعوا الملك من دعاة الملكيَّة الآخرين؟ وهل تقبل كلَّ ادِّعاء خطير بسهولة؟
إنَّ تشكيك السُّنَّة بالنوبختي لا يُضعِّفه؛ لأنَّهم يُشكِّكون بكثير من رواه الشيعة ومؤرِّخيهم، ولكن هل لديك تشكيك من الشيعة به؟
قلت: إنِّي دلَّست في قصَّة وفد قم، وقد ذكرتها كما جاءت في الكُتُب المختلفة. هل يمكن أنْ تذكر القصَّة بالكامل خلافاً لما ذكرتها أنا؟
وأخيراً قلت: إنَّ عدم الظهور لا يدلُّ على عدم الوجود. وإذا قبلنا قولك هذا فإنَّه على الأقلّ لا يُشكِّل حجَّة لأحد، ولا يستطيع الله أنْ يحتجَّ على أحد؛ لأنَّ الحجَّة لم تكن بيِّنة ولا بالغة، ولله الحجَّة البالغة على عباده، فإذا كان وجود الإمام الثاني عشر ملفوفاً بالغموض والشكِّ، فإنَّه لا يصبح حجَّة على أحد.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٢:٣٦) صباحاً.
العاملي عضو:
كتاب عبد الرسول لاري مبذول، وهو يُرسِله لمن يريد ولا يريد..
فإنْ واصل نشره في هجر وملأ به صفحاتها، ثمّ هرب من النقاش ممسكاً بيد مشارك.. فأين هدف هجر من الحوار والنقاش؟!
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٤:٤٤) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
لا تزال أيُّها الأخ العاملي المحترم منفعلاً، وتستخدم عبارات خارج الموضوع وتحاول أنْ تثأر وتنتقم ولا تريد أنْ تتحاور.
↑صفحة ١٤٣↑
تفضَّل وأثبت صحَّة الأحاديث التي تُثبِت ولادة الإمام الثاني عشر تاريخيًّا.
حاول قبل ذلك أنْ تقرأ ردودي على تلك الروايات، ونقدي لها وتبيان ما بها من ضعف وإرسال يُخرجها عن درجة أخبار الآحاد، ويُلحقها بالإشاعات.
لقد قلت مراراً: إنَّ القول بوجود الإمام الثاني عشر تمَّ بناءً على مقولات فلسفيَّة بالدرجة الأُولى، وليس على روايات تاريخيَّة ثابتة، وذلك بعد وقوع الشيعة الإماميَّة في حيرة في أعقاب وفاة الإمام الحسن العسكري، فإذا كان لديك كلام تردُّ به على هذا الموضوع، فتفضَّل ونحن ننتظر ولا داعي للاستعجال وخذ ما تريد من الأيَّام، وشكراً.
* * *
مناقشة منهجيَّة لأدلَّة أحمد الكاتب:
الافتراضيَّة الفلسفيَّة نموذجاً:
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٦:٢٠) صباحاً.
محمّد منصور زائر:
هناك بعض الملاحظات على منهجك في متابعة القضايا التاريخيَّة، وعلى الأخصّ المسألة المطروحة هاهنا وهي: (ولادة الحجَّة المنتظر (عجَّل الله فرجه)).
المحور الأوَّل:
المجازفة في العناوين والمصطلحات، مثل أنْ تعنون أو تُسمِّي نظريَّة الإماميَّة الاثني عشرية الإلهيَّة بالافتراض الفلسفي أو العقلي.. وذلك لتثبيت الاعتراض عليهم بعدم وجود دليل نقلي لديهم على ذلك، وأنَّك لا تعتدُّ بمثل الدليل العقلي في هكذا موضع.
وأوَّل تناقض يظهر في ثنايا كلامك وأعطاف بيانك هو رميك لهم، وطعنك فيهم باتِّباعهم للحشويَّة والإخباريَّة منهجاً وتطبيقاً.
↑صفحة ١٤٤↑
وبكلمة: نراك مطالباً بتحكيم المنهج العقلي في قراءة النصِّ ولزوم الاعتماد عليه، ثمّ تردُّ الأدلَّة بأنَّها ليست عقليَّة، بل نقليَّة هشَّة. وهذا كلُّه تذبذب وتدافع نتيجة عدم وضوح المنهج العلمي الدقيق اللازم اتِّباعه في البحث العقائدي فإنَّ لكلٍّ من العقل والنقل مساحة في البحث، تماماً كما ذكرت لك في الكلام المتقدِّم.. ومحصَّلة الكلام أنَّ تفسير حجّيَّة العقل والنقل كلٌّ منهما في حاجة إلى تخصُّص في العلوم ذات العلاقة والارتباط الوثيق، مثل: العلوم العقليَّة، وأُصول الفقه... كما يبدو أنَّك متحامل على علمي الفلسفة والكلام وما عداها من البحوث العقليَّة ولا غرو في ذلك، فمثلها يحتاج إلى تخصُّص وإحاطة.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٦:٤٧) صباحاً.
محمّد منصور زائر:
المحور الثاني: نشأة الاجتهاد والفقاهة عند الإماميَّة:
ادَّعيت أنَّ قضيَّة الاجتهاد والفقاهة مرهونة تاريخيًّا بالقرن الرابع الهجري، وهذه المرَّة الأُخرى التي تجانب فيها الدقَّة والاستقصاء التاريخي ممَّا جعلك ترمي الكلام على عواهنه.
وللتوضيح يكفيك أنْ تتحرَّى المنهج العلمي لا العاطفي بالأزمات النفسيَّة والهياج العاطفي المتوتِّر، فنطلب إليك أنْ تراجع كتاباً واحداً فقط وهو رجال الكشِّي عندما يروي روايةً عن نصب هارون العبَّاسي عيناً رقيبة له (جاسوسة) على الشيعة في الكوفة، وكيف قد وافته عيونه بتقارير، منها أنَّ الشيعة في الكوفة أضحت متعدِّدة، فبعضهم يتبع ذلك الفقيه الشيعي زرارة (زراريَّة)، والبعض الآخر تابع لأبي بصير (بصيريَّة)، وثالثة هي أتباع هشام بن الحَكَم (هشاميَّة)، وإلى ما هنالك من التقارير التي تعكس وجود بيوت فتيا ومرجعيَّة
↑صفحة ١٤٥↑
للطائفة في رتبة متأخِّرة عن الإمامين الصادقين (عليهما السلام)، حتَّى إنَّ هذين الإمامين أمرا بعض أصحابهما بالتصدِّي لفتيا الناس.
وثَمَّة مصدر آخر قد يتاح لك مراجعته هو كتاب مواقيت الصلاة في صلاة الظهر، فهناك تتعرَّف على اختلاف أصحابهما في الفتيا، والذي ليس وراءه إلَّا اختلاف الأفهام اختلافاً مشروعاً للأحاديث التي تلقّوها عن الأئمَّة يداً بيد؛ فأين هذا من القرن الرابع؟!
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٧:١٠) صباحاً.
محمّد منصور زائر:
المحور الثالث: هويَّة الأحاديث الإماميَّة نموذج:
لاحظنا أنَّك تعيب على الإماميَّة مشاربهم في الحديث، وأنَّهم لا يصمدون على جهة فيتَّبعون أحاديث الباطنيَّة حيناً، والحشويَّة آخر، والظاهريَّة حيناً ثالثاً...
ولا زلت بهذا في وحل التناقض، فإنَّك لا تزن منهج البحث العلمي في هذا الميدان الواسع، وأنَّ الميزان ليس المادّيَّة الحسّيَّة لا ولا الغيب المطلق، بل تتوفَّر عناصره من الشهادة والغيب والظهور وتأويل مثل المتشابه بالمحكم فكان كلُّ ذلك ممَّا لا بدَّ منه.
ولكن عذرك هو عدم اطِّلاعك التخصُّصي على العلوم الدِّينيَّة في بعض جوانبها كميزان حجّيَّة الظهور وحدودها في علم الأُصول الفقهي. وميزان حجّيَّة التأويل في فنِّ التفسير القرآني، وكذا نشأة الغيب والشهادة في المعارف وغيرها.. ما دعاك إلى استحداث رؤية خاطئة في تصوُّراتك للمنهج الإمامي في هذا السبيل.
* * *
↑صفحة ١٤٦↑
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٧:٣٨) صباحاً.
محمّد منصور زائر:
المحور الرابع: الاثني عشر في كُتُبنا، نموذج:
وكذلك ألفيناك متخبِّطاً في توثيقاتك التاريخيَّة والدِّينيَّة، مثل دعواك بأنَّ كُتُب الإماميَّة طرًّا خالية من أيِّ إشارة إلى عدد الاثني عشر قبل القرن الثالث؟!
فما أدري - وأخالك لا تدري - كم من الكُتُب المتقدِّمة على هذا التاريخ أو المقارنة له قد ذكرت وتيمَّنت بذكر هذا العدد؟ وعلى سبيل المثال لا الحصر فهذا هو تفسير عليِّ بن إبراهيم، وتفسير الجارودي، ومسائل عليِّ بن جعفر، ومحاسن البرقي، ودعائم الإسلام، والأشعثيَّات، وقرب الإسناد، وأصل زيد الزرَّاد، وأصل زيد النرسي، وابن قولويه في كامل الزيارات، و... و...
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٧:٥٨) صباحاً.
محمّد منصور زائر:
المحور الخامس: الإمامة في كُتُب أهل السُّنَّة، نموذج:
وكذلك خرجت علينا بما لا صلة له بذوق التحقيق والتدقيق، فادَّعيت أنَّ ما تحويه كُتُب أبناء العامَّة من الأحاديث على إمامتهم غير معتدٍّ بها عندك. كما في كتابك حول المهدي (عجَّل الله فرجه)! وهذا ممَّا يُضحِك؛ لأنَّ الخير والفضل فيما شهدت به الخصوم، إذ إنَّه أبعد عن شبهة الدسِّ والوضع... وإنَّما أنكرت ذلك بادئ بدء؛ لأنَّك غير مطَّلع على موازين حجّيَّة الخبر، وكيف تتصاعد نسبة المطابقة للواقع في الخبر بحسب نظريَّة حساب الاحتمال الرياضي، وهو بحث في علمي أُصول الفقه والدراية. وعذرك أنْ لست بمتخصِّص، بل ولا مطَّلع على ذلك، والأعجب دعواك بلزوم دراسة الأحاديث مع هذه الدرجة الدنيا التي أنت عليها من المعرفة
↑صفحة ١٤٧↑
لموازين حجّيَّة الخبر، ولكن أقول لك: هل أنَّ البحث العلمي بحسب التشهِّي والانفعال النفسي؟!
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٣: ٢٣) صباحاً.
التلميذ عضو:
الأخ أحمد الكاتب، وعليك السلام ورحمة الله.
أقول لك: إنَّ طلب الحقيقة هو هدفنا، والوصول إليها هو مرادنا ومبتغانا، والحمد لله ربِّ العالمين أنَّ حقيقة هذه المسألة هي واضحة جليَّة لنا، وما دمت تطلب منَّا إثبات وجود ابن للإمام أبي محمّد الحسن بن عليٍّ العسكري عن طريق الأدلَّة التاريخيَّة والروايات الصحيحة، لا عن طريق الدليل الفلسفي العقلي أو الاجتهادي، فها أنا ذا أُثبت لك ومن خلال الروايات الصحيحة الدليل على ذلك لعلِّي بذلك أدفع عن ذهنك الشبهة التي علقت به، وأجلي عن بصرك الظلمة التي لولاها لأبصرت الحقيقة، فأقول: لقد اعترف الإمام العسكري (عليه السلام) بوجود ولد له من خلال إخباره أحد خواصِّ شيعته بذلك، ورد ذلك في الخبر الصحيح الذي رواه الشيخ الكليني (عليه الرحمة) في كتابه (الكافي) في المجلد الأوَّل (ص ٣٢٨) قال: عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن إسحاق، عن أبي هاشم الجعفري، قال: قلت لأبي محمّد (عليه السلام): جلالتك تمنعني من مسألتك فتأذن لي أنْ أسألك؟ فقال: «سَلْ»، فقلت: يا سيِّدي، هل لك ولد؟ فقال: «نعم»، فقلت: فإنْ حدث بك حدث فأين أسأل عنه؟ قال: «بالمدينة».
وأنت كما ترى هذه الرواية الصحيحة تُثبِت وجود ولد للإمام العسكري (عليه السلام)، والرواية هذه صحيحة سنداً لا غبار عليها من هذه الناحية، وقد صرَّح بذلك الشيخ المجلسي (عليه الرحمة) في مرآة العقول (ج ٤/ ص ١).
↑صفحة ١٤٨↑
كما أنَّ إشاعة الخبر بأنَّ الإمام الحسن العكسري (عليه السلام) لم يخلف ولداً إنَّما هي مسألة مقصودة حفاظاً على الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من السلطان العبَّاسي.
وورد ذلك أيضاً في الخبر الصحيح، الذي رواه العلَّامة الشيخ الكليني في (الكافي)، قال: محمّد بن عبد الله ومحمّد بن يحيى جميعاً، عن عبد الله بن جعفر الجعفري، قال: اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو (رحمه الله) عند أحمد بن إسحاق، فغمزني أحمد بن إسحاق أن أسأله عن الخلف، فقلت له: يا أبا عمرو، إنِّي أُريد أنْ أسألك عن شيء، وما أنا بشاكٍّ فيما أُريد أنْ أسألك عنه، فإنَّ اعتقادي وديني أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة إلَّا إذا كان قبل يوم القيامة بأربعين يوماً، فإذا كان ذلك رُفِعَت الحجَّة وأُغلق باب التوبة فلم يكُ ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً؛ فأُولئك أشرار خلق الله (عزَّ وجلَّ)، وهم الذين تقوم عليهم القيامة، ولكنَّني أحببت أنْ أزداد يقيناً، وأنَّ إبراهيم (عليه السلام) سأل ربَّه (عزَّ وجلَّ) أنْ يريه كيف يحيي الموتى، ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠]، وقد أخبرني أبو عليٍّ أحمد بن إسحاق، عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: سألته وقلت: من أعامل أو عمَّن آخذ وقول من أقبل؟ فقال له: «العمري ثقتي فما أدَّى عنِّي فعنِّي يُؤدِّي وما قال لك عنِّي فعنِّي يقول، فاسمع له وأطع فإنَّه الثقة المأمون»، وأخبرني أبو عليٍّ أنَّه سأل أبا محمّد (عليه السلام) عن مثل ذلك، فقال له: «العمري وابنه ثقتان، فما أدَّيا عنِّي فعنِّي يُؤدّيان، وما قالا لك فعنِّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنَّهما الثقتان المأمونان»، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك. قال: فخرَّ أبو عمرو ساجداً وبكى، ثمّ قال: سَلْ حاجتك. فقلت له: أنت رأيت الخلف من بعد أبي محمّد (عليه السلام)؟ قال: إي والله ورقبته مثل ذا - وأومأ بيده -، فقلت له: فبقيت واحدة، فقال لي: هات، قلت: فالاسم؟ قال: محرَّم عليكم أنْ تسألوا عن ذلك، ولا أقول هذا من عندي فليس لي أنْ أُحلِّل ولا أُحرِّم ولكن عنه (عليه السلام)، فإنَّ الأمر عند السلطان أنَّ أبا محمّد مضى ولم
↑صفحة ١٤٩↑
يُخلِّف ولداً، وقسَّم ميراثه وأخذه من لا حقَّ له فيه، وهو ذا عياله يجولون ليس أحد يجسر أنْ يعترف إليهم أو ينيلهم شيئاً، وإذا وقع الاسم وقع الطلب، فاتَّقوا الله وأمسكوا عن ذلك. (اُنظر: مرآة العقول: ج ٤/ ص ٦ و٧).
وهذه الرواية كما ترى أيُّها الكاتب صريحة أوَّلاً في وجود ابن للإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، كما هي واضحة الدلالة على أنَّ إشاعة عدم وجود ابن للإمام (عليه السلام) مسألة مقصودة حفاظاً على إمام العصر (أرواحنا فداه) من السلطات الحاكمة في ذلك الزمان من الوصول إليه والقضاء عليه، كما أنَّها أيضاً صريحة في أنَّ القسمة لميراث الإمام (عليه السلام) تمَّت على غير وجهها الصحيح، فأخذ من لا حقَّ فيه منه.
فماذا بعد هذا؟ هل ستقول: إنَّ الشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة يستدلُّون على وجود ابن للإمام العسكري بالأدلَّة العقليَّة والفلسفيَّة؟ فهل هذه أدلَّة فلسفيَّة أيُّها الكاتب؟ علماً أنَّ الدليل العقلي أيضاً يُؤيِّد هذا الدليل النقلي، وبهذا قد انتقض الكثير ممَّا أوردته.
ولكي لا يتشعَّب الموضوع ويكون النقاش في نقاط كثيرة ومتشعِّبة أكتفي بهذا الردِّ على بعض ما أوردته في ردِّك عليَّ. منتظراً تعليقك على ردِّي هذا إنْ كان لك ردٌّ عليه. وهناك ملاحظة ينبغي أنْ أُلفت نظرك إليها، فقد أكثرت الإشارة ونسبت بعض الأقوال إلى بعض علماء الشيعة، ولكنَّك لم تذكر نصَّ قولهم، كما أنَّك أيضاً تشير إلى المصدر دون ذكر رقم الصفحة أو المجلَّد والصفحة، فنرجو منك تدارك ذلك في ردودك ومواضيعك القادمة.
* * *
إلى أحمد الكاتب: ما هو محور النقاش الذي تريده؟
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٦:١٩) مساءً.
موسى العلي هجر:
↑صفحة ١٥٠↑
الأُستاذ أحمد الكاتب:
بعد التحيَّة والاحترام: بعد ملاحظتي للمقالات التي طرحتها، وهي كلُّها موجودة في كتابك حيث المواضيع المتشعِّبة والمتداخلة معاً، وهذا لا فائدة منه.
ونحن نريد منك أنْ تُركِّز على محور للمناقشة، هل تريد أنْ تناقش في الإمامة الإلهيَّة وهل هي عهد من الله؟ أو تريد أنْ تناقش في كون الأئمَّة اثني عشر؟ أو تريد أنْ تناقش في مصاديق الأئمَّة؟ أو تريد أنْ تناقش في خصوص ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)؟ أو تريد أنْ تناقش في استمراريَّة الإماميَّة إلى قيام الساعة؟
وهكذا... ينبغي عليك أنْ تُحدِّد المحور المراد مناقشته وتذكر لنا أقوى اعتراض لديك في الموضوع من دون زيادة استعراض، لكي يتركَّز البحث والحوار الجادُّ والمثمر.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٠:١٥) مساءً.
موسى العلي هجر:
الرجاء من الأُستاذ أحمد الكاتب تحديد المحور الذي يريد نقاشه في شبكة هجر لكي يتركَّز البحث ويكون أكثر فائدةً، وشكراً.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٠:٤٠) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
الأخ موسى العلي المحترم:
لقد حدَّدت موضوع النقاش في أوَّل رسالة أرسلتها إليك، وقلت: لنبدأ حديثنا حول ولادة الإمام الثاني عشر محمّد بن الحسن العسكري، وقدَّمت أنَّ
↑صفحة ١٥١↑
الدليل الأوَّل والأقوى هو الدليل الفلسفي؛ ولذا فقد كانت النظريَّة أساساً فرضيَّة فلسفيَّة، وأنَّ الأحاديث والروايات التي تحدَّثت عن ظهور مهدي عامٌّ لا تحمل دليلاً على ولادته، وأنَّ القَصص التي تحدَّثت عن مشاهدته في حياة أبيه وفي عصر الغيبة الصغرى هي حكايات ضعيفة غير موثَّقة ومتناقضة.
وبالتالي فنحن نبحث عن الدليل التاريخي لإثبات ولادته ووجوده بعد سقوط الدليل الفلسفي عن أنْ يكون دليلاً شرعيًّا، ولكن بعض الإخوة أخذوا يناقشون أُموراً بعيدة جدًّا عن الموضوع، ويحاولون مناقشتي شخصيًّا بالتهجُّم الشخصي عليَّ، كما أنَّ بعضهم ذهب ونقل كُتُباً من مواقع أُخرى، وأنزلها دون اعتراض، وقد كان السبب في نقلي بعض الفصول من كتابي هو عرض الفكرة والمناقشة وإشارتي إلى ذكري الأدلَّة الروائيَّة والتاريخيَّة ومناقشتها.
وأنا لست مستعجلاً ولا أُريد من المحاور أنْ يردَّ على ما في الفصول الأُخرى مجتمعة مرَّة واحدة، ولكن وضعتها للاستفادة قبل الردِّ.
والآن إذا كنتم تُحِبُّون تركُّز البحث حول الدليل التاريخي الذي يشتمل على رؤية ابن الإمام العسكري في حياة أبيه أو مشاهدته بعد وفاته في الغيبة الصغرى، فأهلاً وسهلاً.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٨/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٢:٢٠) مساءً.
العاملي عضو:
محورك الأصلي يا أحمد إذن هو: إثبات ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وقد بدأ معك الأخ التلميذ في هذا الموضوع بالذات من البارحة ولم تجب على موضوعه!
أيُّها (الأُستاذ الباحث الكاتب) تفضَّل وتنازل، وابدأ البحث في موضوعك الأصلي مع (التلميذ)، ودع عنك التوزُّع والانشغال في الموضوعات الأُخرى، واترك - إنْ شئت أيضاً - أسئلتي وبحثنا في (بصائر الدرجات).
↑صفحة ١٥٢↑
وأشكرك أنَّك سبَّبت لي أنْ أبحث كنوز (بصائر الدرجات) و(كفاية الأثر)، ولعلِّي أُوافيك بشيء منها بعد شهر رمضان، حيث سأعتكف عن الكتابة فيما بقي منه، إنْ شاء الله.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١١:١٣) مساءً.
التلميذ عضو:
الأخ الكاتب، لا زلت أنتظر منك الردَّ على ما أوردته أعلاه إنْ كان لك ردٌّ على ذلك، حيث أثبتنا لك هنا أنَّ الدليل النقلي موجود وصحيح أيضاً عند الشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة على وجود ابن للإمام العسكري (عليه السلام)، كما أنَّ الدليل التاريخي - أعني ذكر الكثير من الكُتَّاب والمؤلِّفين من علماء الفريقين وجود مولود للإمام العسكري - موجود، فقط ننتظر منك ملاحظاتك وردودك على ما أوردناه أعلاه. نرجو عدم تجاهل ذلك.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٨/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٠:٤٩) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
التلميذ الموقَّر:
تحيَّة طيِّبة..
هناك أحاديث كثيرة، رواها بعض أصحاب الإمام العسكري، وخاصَّة النوَّاب الأربعة الذين ادَّعوا النيابة الخاصَّة حول وجود الإمام الثاني عشر، وقد اعتمد الشهيد السيِّد محمّد باقر الصدر (رحمه الله) على دعوى النوَّاب الأربعة في إثبات وجود الإمام المهدي، واستبعد أنْ يكذب هؤلاء، وبالطبع فإنَّ الفرقة الاثني عشريَّة روت قَصصاً وأحاديث عن بعض الرجال في تلك الفترة، وهي تعتبرهم
↑صفحة ١٥٣↑
ثقات وتأخذ برواياتهم كأبي هاشم الجعفري، والقمِّي صاحب التفسير المشهور، ومن الطبيعي أنْ يُصحِّح الشيخ المجلسي رواية أبي هاشم الجعفري.
ولكن النظر إلى روايات الفرقة القائلة بوجود الولد، من الخارج، - مع اعتراف الجميع بأنَّ الإمام العسكري كان في الظاهر ينفي وجود ولد له، وأنَّه أوصى بأمواله إلى أُمِّه ولم يوصِ إلى أحد - يلقي بظلال من الشكِّ على مجمل الرواية التي تدَّعي وجود الولد في السرِّ، وذلك لأنَّ أمر الإمامة الإلهيَّة التي يجب على جميع الخلق الإيمان بها والطاعة للإمام لا يكون سرّيًّا ومجهولاً وقابلاً للتشكيك.
لقد برَّر أصحاب النظريَّة قولهم بوجود ظروف صعبة قاسية لم تسمح للإمام العسكري كشف ولده، في حين كانت الدولة العبَّاسيَّة أيَّام المعتمد العبَّاسي في أضعف حالاتها وكانت الثورات الشيعيَّة في كلِّ مكان، ولدي بحث خاصٌّ حول هذا الموضوع إذا أحببتم أعرضه لكم الآن.
ومن السهل جدًّا على أيِّ عضو في الفرقة المعيَّنة التي ادَّعت وجود الولد أنْ يحبك الروايات ويدَّعي بعد وفاة الإمام العسكري أنَّ الإمام أخبره بوجود ولد له وأنَّه نائب عنه، خاصَّة وأنَّ الجعفري كان من أركان نظريَّة وجود الولد ويقال: إنَّه ادَّعى النيابة أيضاً.
لقد نسج أصحاب الإمام عبد الله الأفطح بعد وفاته كثيراً من الروايات التي تحدَّثت عن وجود ولد له في السرِّ، وأنَّه المهدي المنتظر، وأنَّهم نوَّابه، فلماذا لا نُصدِّقهم مع أنَّهم ثقات عند جماعتهم؟ وكذلك نسج الواقفيَّة روايات كثيرة عن استمرار حياة الكاظم ونفي وفاته، وأنَّه المهدي المنتظر، فلماذا لا نُصدِّقهم مع أنَّهم يُعتَبرون ثقات عند جماعتهم؟ لأنَّنا ببساطة نشكُّ في قولهم خلاف الظاهر والمعتاد.
↑صفحة ١٥٤↑
ولكنَّنا اعتدنا أنْ نقبل روايات النوَّاب الأربعة وأصحابهم بدون نقاش مثل باب التقليد.
ولكنَّنا عندما نعرف أنَّ النائب الثالث الحسين بن روح النوبختي كان يلجأ إلى علماء قم؛ لتصحيح كتب الشلمغاني الذي انشقَّ عنه وادَّعى النيابة الخاصَّة عن الإمام المهدي والتأكُّد منها، نعرف أنَّه لم يكن يملك أيَّة رابطة مع الإمام المهدي، وبالتالي فإنَّ ادِّعاءه بوجود رجل وراء الستر يصبح مشكوكاً به.
وعندما نعرف أنَّ الكليني كتب كتابه (الكافي) الذي سيكون رمزاً للشيعة طوال ألف عام وأكثر، في عهد النائب الرابع، وأنَّه مع ذلك تضمَّن كثيراً من الروايات الموضوعة كالروايات التي تتحدَّث عن تحريف القرآن أو التي تتضمَّن بعض الأساطير، نعرف أنَّه كتبه بعيداً عن أيَّة رعاية أو لطف إلهي، ولم يكن هناك أيُّ اتِّصال لمدَّعي النيابة السمري بالإمام المهدي، وبالتالي فإنَّ قوله وادِّعاءه بوجود إمام غائب يصبح أيضاً موضع شكٍّ وتساؤل.
لقد تساءل الشيخ حسن الفريد زميل الإمام الخميني عن السرِّ وراء عدم سؤال الكليني من السمري وبالتالي من الإمام المهدي عن التكليف حول الخُمُس ولمن يُعطى في عصر الغيبة؟
لقد ادَّعى النوَّاب الخاصُّون اجتراح معاجز عديدة وادَّعوا العلم بالغيب أو هكذا نُسِبَ إليهم لتأكيد ارتباطهم بالإمام المهدي، وادُّعيت معاجز كثيرة حول ولادة الإمام ونموِّه وحفظه، فإذا كان حقًّا قد وُلِدَ وكان الله يريد أنْ يحفظه، فلماذا لم يُظهره أمام الناس فترة من الزمن حتَّى يراه الناس جميعاً ثمّ يُخفيه بقدرته، ويُنجيه ويحفظه من أنْ يناله الأعداء حتَّى يقطع الشكَّ بوجوده؟
لقد ذكرت أنا عدداً كبيراً من الروايات والقَصص النقليَّة والتاريخيَّة التي تحدَّثت عن ولادة ابن الحسن، ولست أدري هل ألقيت نظرة عليها أو رأيت
↑صفحة ١٥٥↑
عناوينها على الأقلّ وهي موجودة في موقع الحوار، ولكنِّي لم أُؤمن بها؛ لأنِّي وجدتها ضعيفة ومتناقضة وغير مسندة.
ولم أثق بصورة مطلقة بروايات فريق واحد من الشيعة الإماميَّة ادَّعى أمراً سرّيًّا، وكانت له مصلحة في ذلك، في حين أخذت بروايات عامَّة الإماميَّة الذين بحثوا عن الولد؛ فلم يجدوه وقد ذكرها النوبختي في (فِرَق الشيعة) والأشعري القمِّي في (المقالات والفِرَق). وكان قولهم أقرب إلى الظاهر.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٨/ ١٢/ ١٩٩٩)، (٠٧:٠٠) مساءً.
التلميذ عضو:
أحمد الكاتب المحترم..
أوَّلاً: إبطالاً لادِّعائك بأنَّ الشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة ليس لديهم رواية واحدة صحيحة، تُثبِت وجود ابن للإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، ذكرت لك روايتين صحيحتين تدلَّان على ذلك، ولـمَّا لم تجد حيلة في ردِّهما وإثبات عدم صحَّتهما، لجأت إلى سرد كلام محشو للتهرُّب من الحقيقة والإذعان بما صحَّ في الروايتين، وحاولت أنْ تأتي بأدلَّة ظننت أنَّها تفي بالغرض في دفع الحقيقة التي تشيران إليها.
سأُثبت لك في النقاط التالية وهن أدلَّتك هذه وضعفها، ونحن هنا لا نريد منك إلَّا أنْ تجيب على هذا السؤال بدون لف أو دوران أو حشو كلام زائد لا طائل من ورائه، والسؤال هو: هل هاتان الروايتان صحيحتان سنداً حسب نظر علماء الشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة أم لا؟ أرجو عدم تجاهل الجواب على هذا السؤال في ردِّك الآتي إنْ شاء الله تعالى.
ثانياً: لقد طلبت منك سابقاً أنْ تُوثِّق أقوالك بذكر المصدر الذي تنقل منه
↑صفحة ١٥٦↑
أو تستند إليه في أقوالك مع الإشارة إلى رقم المجلَّد والصفحة، وهذا ما لم تفعله في ردِّك أعلاه عليَّ، فأُكرِّر طلبي هنا مرَّةً أُخرى.
ثالثاً: يُفهَم من ردِّك أعلاه أنَّك تتَّهم ثقات بعض الأئمَّة (عليهم السلام)، وبالخصوص النوَّاب الأربعة بوضع الروايات، وحسب قولك: (حبك الروايات)، وما هذا منك إلَّا رجماً بالغيب، أليس هذا قولاً بغير علم، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ﴾ (الإسراء: ٣٦)؟ أليس هذا افتراء على هؤلاء الأجلَّاء، مع ورود الدليل الصحيح على جلالتهم ونزاهتهم ووثاقتهم؟ أليس هذا من البهتان المحرَّم في الشريعة الإسلاميَّة؟ فهل لديك دليل صحيح على أنَّ هؤلاء قاموا بوضع هذه الروايات؟ إذا كان عندك الدليل على ذلك، فنرجو أنْ تتحفنا به.
رابعاً: قلت: (ولكنَّنا عندما نعرف أنَّ النائب الثالث الحسين بن روح النوبختي كان يلجأ إلى علماء قم لتصحيح كُتُب الشلمغاني الذي انشقَّ عنه وادَّعى النيابة الخاصَّة عن الإمام المهدي والتأكُّد منها نعرف أنَّه لم يكن يملك أيَّة رابطة مع الإمام المهدي، وبالتالي فإنَّ ادِّعاءه بوجود رجل وراء الستر يصبح مشكوكاً به).
أقول: لكي تصل إلى هذه النتيجة - أنَّ الحسين بن روح لم يكن يملك أيَّة رابطة مع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وأنَّ ادِّعاءه بوجود رجل وراء الستر مشكوك به - عليك أوَّلاً أنْ تتأكَّد وتعرف - كما تقول - من صحَّة أنَّ الحسين بن روح النوبختي كان يلجأ إلى علماء قم لتصحيح كُتُب الشلمغاني، فما هو مصدر قولك هذا؟ وما مدى صحَّته ووثاقة رجال سند هذا النقل؟ نرجو أنْ تُخبرنا بذلك.
خامساً: قلت: (... لقد ذكرت عدداً من الروايات النقليَّة والتاريخيَّة التي تحدَّثت عن ولادة ابن الحسن، ولست أدري هل ألقيت نظرة عليها أو رأيت عناوينها على الأقلّ وهي موجودة في موقع الحوار ولكنِّي لم أُؤمن بها؛ لأنِّي وجدتها ضعيفة ومتناقضة غير مسندة).
↑صفحة ١٥٧↑
أقول: ولكنَّك لم تنقل الروايات الصحيحة المسندة وتجاهلتها مدلِّساً على القارئ بذلك حيث لم تنقل الروايتين الصحيحتين المذكورتين أعلاه، وهما - كما قلناه - صريحتان في إثبات وجود ابن للإمام الحسن العسكري، ولا غبار على صحَّتهما، ولو كنت منهجيًّا وموضوعيًّا غير مغرض في دعواك، لما كانت لك مندوحة من نقلهما وحتَّى مناقشتهما على الأقلّ ولو بالمغالطة.
سادساً: كما يُفهَم من كلامك أنَّك تحاول أنْ تُفهِم القارئ الكريم أنَّ كلا الروايتين واردتان عن طريق النوَّاب، مع أنَّ إحداهما واردة عن طريق أحد خواصِّ الأئمَّة (عليهم السلام)، من غير النوَّاب وهو أبو هاشم الجعفري، كما أنَّك بقولك: (ومن الطبيعي يُصحِّح الشيخ المجلسي رواية أبي هاشم الجعفري) تحاول أنْ توهم القارئ أنَّ هذا الرجل لم يُوثِّقه إلَّا المجلسي (عليه الرحمة)، وهو ليس كذلك قد وثَّقه غير المجلسي من الفقهاء والعلماء الكثيرون، فقد وثَّقه النجاشي والشيخ الطوسي، بل أقول جازماً: إنَّه ثقة عند الجميع بالاتِّفاق، اُنظر مثلاً في ترجمته نقد الرجال للتفريشي (ج ٢/ ص ٢١).
سابعاً: ومن الغريب قولك: (وعندما نعرف أنَّ الكليني كتب (الكافي) الذي سيكون رمزاً للشيعة طوال ألف عام وأكثر في عهد النائب الرابع، وأنَّه مع ذلك تضمَّن كثيراً من الروايات الموضوعة، كالروايات التي تتحدَّث عن تحريف القرآن أو التي تتضمَّن بعض الأساطير، نعرف أنَّه كتبه بعيداً عن أيَّة رعاية أو لطف إلهي، ولم يكن هناك أيُّ اتِّصال لمدَّعي النيابة السمري بالإمام المهدي، وبالتالي فإنَّ قوله وادِّعاءه بوجود إمام غائب يصبح أيضاً موضع شكٍّ وتساؤل)، فما أدري ما علاقة تأليف الكليني لكتاب (الكافي) ووجود بعض الروايات الضعيفة فيه بمسألة وجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وقول السمري بذلك؟
ثامناً: أمَّا مسألة اختلاف الشيعة من بعد وفاة الإمام العسكري، ونكران
↑صفحة ١٥٨↑
البعض وجود ابن للإمام العسكري (عليه السلام) وولادة الإمام المهدي، فإنَّما هو أمر طبيعي للتكتُّم والسرّيَّة والإخفاء لولادة الإمام (عجَّل الله فرجه)، ونتيجةً لما أُشيع بين الناس من عدم وجود خلف للإمام، وذلك بهدف المحافظة على الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من السلطات الحاكمة في ذلك الزمان، ولم يكن أمر ولادته مشهوراً بين الناس لهذا الأمر، بل إنَّ الذي علم بذلك هم بعض خواصِّ وثقات الإمام العسكري (عليه السلام)، ومسألة خفاء ولادة الإمام (عجَّل الله فرجه) ممَّا ورد ضمن الروايات الكثيرة، منها ما رواه الشيخ الصدوق (عليه الرحمة) بسند صحيح، قال: عن محمّد بن الحسن بن الوليد، عن محمّد بن الحسن الصفَّار، عن يعقوب بن يزيد، عن أيُّوب بن نوح، قال: قلت للرضا (عليه السلام): إنَّا لنرجو أنْ تكون صاحب هذا الأمر، وأنْ يردَّه الله (عزَّ وجلَّ) إليك من غير سيف، فقد بويع لك، وضُرِبَت الدراهم باسمك. فقال (عليه السلام): «ما منَّا أحد اختلفت إليه الكُتُب وسُئِلَ عن المسائل وأشارت إليه الأصابع وحُمِلَت إليه الأموال إلَّا اغتيل أو مات على فراشه، حتَّى يبعث الله (عزَّ وجلَّ) لهذا الأمر رجلاً خفي المولد والمنشأ وغير خفي في نسبه». (اُنظر: كمال الدِّين وتمام النعمة: ج ٢/ ص ٣٧٠)، والخبر صريح في أنَّ ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ستُحاط بالخفاء والكتمان.
ويقول النوبختي الذي هو من أعلام القرن الثالث في كتابه (فِرَق الشيعة)، يقول في (ص١١١): (... وقد رُويت أخبار كثيرة أنَّ القائم تخفى على الناس ولادته ويخمل ذكره ولا يُعرَف إلَّا أنَّه لا يقوم حتَّى يظهر ويُعرَف أنَّه إمام ابن إمام ووصيٌّ ابن وصيٍّ يؤتمُّ به قبل أنْ يقوم، ومع ذلك فلا بدَّ من أنْ يعلم أمره ثقاته وثقات أبيه وإنْ قلُّوا ولا ينقطع من عقب الحسن بن عليٍّ (عليه السلام) ما اتَّصلت أُمور الله (عزَّ وجلَّ) ولا ترجع إلى الإخوة ولا يجوز ذلك...).
وحتَّى مسألة إنكار ولادة المهدي (عجَّل الله فرجه) من قِبَل البعض ممَّا لم تهمله الروايات
↑صفحة ١٥٩↑
الواردة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، فقد روى الشيخ الصدوق (عليه الرحمة) في كتابه كمال الدِّين وتمام النعمة (ج ٢/ ص ٣٦٠) بسند صحيح أيضاً، قال: حدَّثنا أبي (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا سعد بن عبد الله، قال: حدَّثنا الحسن بن موسى الخشَّاب، عن العبَّاس بن عامر القصباني، قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) يقول: «صاحب هذا الأمر من يقول الناس: لم يُولَد بعد».
وروى الشيخ الكليني في كتابه (الكافي) بسند صحيح أيضاً قال: عن عليِّ ابن إبراهيم، عن الحسن بن موسى الخشَّاب، عن عبد الله بن موسى، عن عبد الله ابن بكير، عن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ للغلام غيبة قبل أنْ يقوم»، قال: قلت: ولِـمَ؟ قال: «يخاف - وأومأ بيده إلى بطنه -»، ثمّ قال: «يا زرارة وهو المنتظر الذي يُشَكُّ في ولادته، منهم من يقول: مات أبوه بلا خلف، ومنهم من يقول: حمل، ومنهم من يقول: إنَّه وُلِدَ قبل موت أبيه بسنتين، وهو المنتظر غير أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يُحِبُّ أنْ يمتحن الشيعة، فعند ذلك يرتاب المبطلون...». (اُنظر: أُصول الكافي: ج ١/ ص ٣٣٧).
ونرجو أنْ لا تكون أيُّها الكاتب من المرتابين في أمر ولادته حتَّى لا تكون من المبطلين.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٩/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٠:٤٥) صباحاً.
التلميذ عضو:
أرجو منك يا أحمد الكاتب أنْ تردَّ وتجيب على الأسئلة.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٩/ ١٢/ ١٩٩٩)، (٠٢:٤٦) مساءً.
التلميذ عضو:
↑صفحة ١٦٠↑
إلى أحمد الكاتب..
إليك رواية ثالثة صحيحة سنداً تدلُّ على وجود خلف للإمام أبي محمّد الحسن العسكري (عليه السلام) رواها الشيخ الكليني (عليه الرحمة) في كتابه الكافي (ج ١/ ص ٣٢٨)، قال: عن عليِّ بن محمّد، عن محمّد بن عليِّ بن بلال، قال: خرج إليَّ أبو محمّد قبل مضيِّه بسنتين يُخبرني بالخلف من بعده، ثمّ خرج إليَّ من قبل مضيِّه بثلاثة أيَّام يُخبرني بالخلف من بعده.
والرواية صريحة واضحة في أنَّ الإمام (عليه السلام) له خلف وعقب، وهي واضحة أيضاً في أنَّه أرشد بعض خواصِّ شيعته وثقاته إلى الخلف من بعده، وهو ابنه الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه). فهل ستُنكِر بعد هذا وجود الدليل الروائي الصحيح على ذلك؟ أم ستدَّعي أنَّها محبوكة أيضاً وتفتري على الثقات؟
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٠/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٢:٥٩) صباحاً.
التلميذ عضو:
إلى أحمد الكاتب..
إليك هذه الرواية الرابعة الدالَّة على وجود ابن للإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وأنَّه هو المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه)، فقد روى الشيخ الصدوق (عليه الرحمة) في كتابه كمال الدِّين وتمام النعمة (ص ٣٧٢) وفي كتابه عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج ٢/ ص ٢٦٥) قال: حدَّثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا عليُّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد السلام بن صالح الهروي، قال: سمعت دعبل بن عليٍّ الخزاعي يقول: أنشدت مولاي الرضا عليَّ بن موسى (عليه السلام) قصيدتي التي أوَّلها:
مدارس آيات خلت من تلاوة * * * ومنزل وحي مقفر العرصاتِ
↑صفحة ١٦١↑
فلمَّا انتهيت إلى قولي:
خروج إمام لا محالة خارج * * * ويجزي على النعماء والنقماتِ
بكى الرضا (عليه السلام) بكاءً شديداً، ثمّ رفع رأسه إليَّ فقال لي: «يا خزاعي، نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين، فهل تدري من هذا الإمام، ومتى يقوم؟»، فقلت: لا، إلَّا أنِّي سمعت بخروج إمام منكم يُطهِّر الأرض من الفساد ويملؤها عدلاً كما مُلِئَت جوراً. فقال: «يا دعبل، الإمام بعدي محمّد ابني، وبعد محمّد ابنه عليٌّ، وبعد عليٍّ ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجَّة القائم، المنتظر في غيبته، المطاع في ظهوره، لو لم يبقَ من الدنيا إلَّا يوم واحد لطوَّل الله (عزَّ وجلَّ) ذلك اليوم، حتَّى يخرج فيملأ الأرض عدلاً كما مُلِئَت جوراً.
وأمَّا: (متى) فإخبار عن الوقت، فقد حدَّثني أبي، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام) أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قيل له: يا رسول الله، متى يخرج القائم من ذرّيَّتك؟ فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): مثله مثل الساعة التي ﴿لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً﴾ [الأعراف: ١٨٧]».
والرواية واضحة الدلالة على وجود ابن للإمام الحسن العسكري، وأنَّه الإمام بعد أبيه، وأنَّه هو الحجَّة القائم المنتظر، ورجال سند الرواية ثقات عدا دعبل بن عليٍّ الخزاعي فإنَّه لم يرد فيه توثيق حسب اطِّلاعي، ولكن لا يضرُّ ذلك؛ لأنَّ دعبل بن عليٍّ مات (سنة ٢٤٥هـ) أيَّام المتوكِّل العبَّاسي؛ فاحتمال أنَّه هو واضع هذه الرواية بعيد جدًّا، بل مستحيل؛ لأنَّه لم يعش إلى المرحلة التي أعقبت وفاة الإمام العسكري لتكون له المصحلة في وضع مثل هذه الرواية واختلاقها على لسان الإمام الرضا (عليه السلام)؛ ليُؤيِّد به فرقة أو مذهباً أو مسلكاً معيَّناً.
وعليه فالرواية سند قوي، ودليل واضح جلي على ما يذهب إليه الشيعة الإماميَّة من القول بولادة ابن للإمام الحسن العسكري، وأنَّه هو المهدي المنتظر (عليه السلام).
↑صفحة ١٦٢↑
فهذا دليل روائي تاريخي آخر يدحض حجَّتك وينسف ما تذهب إليه من ادِّعاء أنَّ الإمام الحسن العسكري لم يُولَد له ولد ونفيك ولادة الحجَّة (عجَّل الله فرجه).
* * *
وبعد أربعة أيَّام من مقالة العضو التلميذ التي ذكر فيها النقاط الثماني يدخل على الكاتب من جديد ليُفتِّش عنه أين ذهب ولِـمَ لَمْ يُجب على كلامه؟
فقال التلميذ:
حُرِّر بتاريخ (٢٢/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٢:٠٧) صباحاً.
التلميذ عضو:
أين الجواب يا أحمد الكاتب على هذه الأدلَّة؟ ما زلت منها متهرِّباً!
* * *
وفي اليوم الخامس يدخل العضو التلميذ ويقول بعبارة صريحة:
حُرِّر بتاريخ (٢٣/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٢:٤٩) مساءً.
التلميذ عضو:
إذا لم تُجب ولم تردّ إلى الآن أيُّها الكاتب، فنسأل هنا: هل أنت طالب للحقيقة؟! لا أظنُّ ذلك أبداً.
* * *
المهدي هو محمّد بن الحسن العسكري (عليهما السلام):
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٦:٥٥) صباحاً.
مالك الأشتر:
والصلاة والسلام على محمّد وآله المظلومين..
سوف نذكر تحت هذا العنوان بعض النصوص التي لا تقبل تأويلاً لدلالتها على شخص الإمام المهدي والإخبار بغيبته قبل وقوعها، وهي:
↑صفحة ١٦٣↑
١ - ما رواه الصدوق بسند صحيح، عن محمّد بن الحسن بن الوليد، عن محمّد بن الحسن الصفَّار، عن يعقوب بن يزيد، عن أيُّوب بن نوح قال: قلت للرضا (عليه السلام): إنَّا لنرجو أنْ تكون صاحب هذا الأمر، وأنْ يردَّه الله (عزَّ وجلَّ) إليك من غير سيف، فقد بويع لك، وضُرِبَت الدراهم باسمك، فقال (عليه السلام): «ما منَّا أحد اختلفت إليه الكُتُب، وسُئِلَ عن المسائل، وأشارت إليه الأصابع، وحُمِلَت إليه الأموال، إلَّا اغتيل أو مات على فراشه، حتَّى يبعث الله (عزَّ وجلَّ) لهذا الأمر رجلاً خفي المولد والمنشأ وغير خفي في نسبه»(١٧٢).
وفي هذا الحديث إشارة إلى ما أحاط ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من أُمور لا يعلمها إلَّا خاصَّة أبي محمّد الحسن بن عليٍّ العسكري (عليه السلام)؛ ولهذا جاء في الخبر الصحيح: «إنَّ المهدي هو من يقول الناس: لم يُولَد بعد».
فقد روى الصدوق بسند صحيح جدًّا، قال: حدَّثنا أبي (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا سعد بن عبد الله، قال: حدَّثنا الحسن بن موسى الخشَّاب، عن العبَّاس بن عامر القصباني، قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) يقول: «صاحب هذا الأمر من يقول الناس: لم يُولَد بعد»(١٧٣).
٢ - ما رواه المقدسي الشافعي في (عقد الدُّرَر) عن الباقر (عليه السلام): «يكون هذا الأمر في أصغرنا سنًّا»(١٧٤). وفيه إشارة إلى الإمام المهدي محمّد بن الحسن العسكري (عليه السلام).
٣ - ما رواه الكليني بسند صحيح: عن عليِّ بن إبراهيم، عن محمّد بن الحسين، عن ابن أبي نجران، عن فضالة بن أيُّوب، عن سدير الصيرفي، قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٧٢) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٣٧٠/ باب ٣٥/ ح ١).
(١٧٣) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٣٦٠/ باب ٣٤/ ح ٢)، وأخرجه من طُرُق أُخرى أيضاً في نفس الباب.
(١٧٤) عقد الدُّرَر (ص ١٨٨/ باب ٦).
↑صفحة ١٦٤↑
سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ في صاحب هذا الأمر شبهاً من يوسف (عليه السلام)...»، إلى أنْ قال: «فما تُنكِر هذه الأُمَّة أنْ يفعل الله (جلَّ وعزَّ) بحجَّته كما فعل بيوسف، أنْ يمشي في أسواقهم، ويطأ بُسُطهم حتَّى يأذن الله في ذلك كما أذن ليوسف، قالوا: أإنَّك لأنت يوسف؟ قال: أنا يوسف»(١٧٥).
٤ - في (ينابيع المودَّة): عن الإمام الرضا (عليه السلام): «الخلف الصالح من ولد الحسن بن عليٍّ العسكري هو صاحب الزمان وهو المهدي (سلام الله عليهم)».
وقد صرَّح القندوري في (الينابيع) بوجود هذا الحديث في كتاب (الأربعين) لأبي نعيم الأصبهاني(١٧٦).
٥ - وفيه: عن الإمام الرضا (عليه السلام): «إنَّ الإمام من بعدي ابني محمّد، وبعد محمّد ابنه عليٌّ، وبعد عليٍّ ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجَّة القائم، وهو المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً، وأمَّا متى يقوم؟ فإخبار عن الوقت، لقد حدَّثني أبي، عن آبائه، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال: مثله كمثل الساعة لا تأتيكم إلَّا بغتة»(١٧٧).
٦ - وفي (أُصول الكافي) بسند صحيح: عن عليِّ بن إبراهيم، عن الحسن ابن موسى الخشَّاب، عن عبد الله بن موسى، عن عبد الله بن بكير، عن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ للغلام غيبة قبل أنْ يقوم»، قال: قلت: ولِـمَ؟ قال: «يخاف - وأومأ بيده إلى بطنه -»، ثمّ قال: «يا زرارة، وهو المنتظر الذي يُشَكُّ في ولادته منهم من يقول: مات أبوه بلا خلف، ومنهم من يقول: حمل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٧٥) أُصول الكافي (ج ١/ ص ٣٣٦/ باب ٨٠/ ح ٤).
(١٧٦) ينابيع المودَّة (ج ٣/ ص ١١٥ و١١٦/ باب ٨٠)، مصرِّحاً بنقله عن (فرائد السمطين) للحمويني الشافعي.
(١٧٧) المصدر السابق.
↑صفحة ١٦٥↑
(أي مات أبوه وهو حمل في بطن أُمِّه)؛ ومنهم من يقول: إنَّه وُلِدَ قبل موت أبيه بسنتين. وهو المنتظر غير أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يُحِبُّ أنْ يمتحن الشيعة، فعند ذلك يرتاب المبطلون، يا زرارة...» إلخ(١٧٨).
٧ - وفي (أُصول الكافي): عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن ابن محبوب، عن إسحاق بن عمَّار، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «للقائم غيبتان: إحداهما قصيرة، والأُخرى طويلة، والغيبة الأُولى لا يعلم بمكانه فيها إلَّا خاصَّة شيعته، والأُخرى لا يعلم بمكانه فيها إلَّا خاصَّة مواليه»(١٧٩).
وهذا الخبر لا ريب في صدوره عن الإمام الصادق (عليه السلام) لوثاقة رواته جميعاً، ودلالته على الإمام المهدي بن الحسن العسكري أبين من ضوء الشمس في رابعة النهار.
٨ - وفي (كمال الدِّين) بسند صحيح: حدَّثنا أبي (رضي الله عنه)، حدَّثنا عبد الله بن جعفر الحميري، عن أيُّوب بن نوح، عن محمّد بن أبي عمير، عن جميل بن درَّاج، عن زرارة: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «يأتي على الناس زمان يغيب عنهم إمامهم»، فقلت له: ما يصنع الناس في ذلك الزمان؟ قال: «يتمسَّكون بالأمر الذي هم عليه حتَّى يتبيَّن لهم»(١٨٠).
٩ - وفي (أُصول الكافي): عن عليِّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيُّوب الخزَّاز، عن محمّد بن مسلم، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنْ بلغكم عن صاحب هذا الأمر غيبة فلا تُنكِروها»(١٨١).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٧٨) أُصول الكافي (ج ١/ ص ٣٣٧/ باب ٨٠/ ح ٥)، وانظر: كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٣٤٢/ باب ٣٣/ ح ٢٤، وج ٢/ ص ٣٤٦/ باب ٣٣/ ح ٣٢) بسند آخر، والأوَّل أجود.
(١٧٩) أُصول الكافي (ج ١/ ص ٣٤٠/ باب ٨٠/ ح ١٩).
(١٨٠) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٣٥٠/ باب ٣٣/ ح ٤٤).
(١٨١) أُصول الكافي (ج ١/ ص ٣٣٨/ باب ٨٠/ ح ١٠)، وأخرجه في نفس الباب من طريق صحيح عن عدَّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن عليِّ بن الحَكَم، عن محمّد بن مسلم (ج ١/ ص ٣٤٠/ ح ١٥).
↑صفحة ١٦٦↑
أقول: لم يغب من الأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام) سوى المهدي بالاتِّفاق، وهو لم يكن مولوداً في زمان صدور هذا الحديث، ولهذا جاء التأكيد فيه على غيبته بعد ولادته.
وقد أخرجه الكليني بسندين معتبرين لا شائبة فيهما أصلاً باتِّفاق علماء الشيعة أجمع.
١٠ - وفي (كمال الدِّين): حدَّثنا أبي ومحمّد بن الحسن (رضي الله عنهما)، قالا: حدَّثنا سعد ابن عبد الله وعبد الله بن جعفر الحميري وأحمد بن إدريس، قالوا: حدَّثنا أحمد بن محمّد بن عيسى ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطَّاب ومحمّد بن عبد الجبَّار وعبد الله بن عامر بن سعد الأشعري، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن محمّد بن المساور، عن المفضَّل بن عمر الجعفي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «إيَّاكم والتنويه، أمَا والله ليغيبنَّ إمامكم سنيناً من دهركم، ولتمحصنَّ حتَّى يقال: مات أو هلك بأيِّ وادٍ سلك؟ ولتدمعنَّ عليه عيون المؤمنين، ولتكفؤنَّ كما تكفأ السُّفُن في أمواج البحر، ولا ينجو إلَّا من أخذ الله ميثاقه وكتب في قلبه الإيمان وأيَّده بروح منه...»(١٨٢).
ورجال الحديث قبل محمّد بن المساور كلُّهم من أجلَّاء الرواة وثقاتهم بلا خلاف، وأمَّا محمّد بن مساور فقد مات سنة (١٨٣هـ) وحاله غير معلوم، وفي وثاقة المفضَّل كلام، ولكن الحديث شاهد صدق على أمانتهما في نقله لما فيه من إخبار معجز تحقَّق بعد وفاة ابن المساور بسبعة وسبعين عاماً لوقوع الغيبة فعلاً في سنة (٢٦٠هـ).
وقد أخرجه الكليني بسند صحيح إلى محمّد بن المساور، عن المفضَّل أيضاً(١٨٣)، وممَّا يقطع بصدوره الأحاديث الكثيرة جدًّا عن أهل البيت بهذا المعنى: كصحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٨٢) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٣٤٧/ باب ٣٣/ ح ٣٥).
(١٨٣) أُصول الكافي (ج ١/ ص ٣٣٦/ باب ٨٠/ ح ٣).
↑صفحة ١٦٧↑
عبد الله بن سنان الذي رواه الصدوق عن أبيه ومحمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، عن الصفَّار، عن العبَّاس بن معروف، عن عليِّ بن مهزيار، عن الحسن بن محبوب، عن حمَّاد بن عيسى، عن إسحاق بن جرير، عن عبد الله بن سنان، قال: دخلت أنا وأبي على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: «فكيف أنتم إذا صرتم في حال لا ترون فيها إمام هدى ولا علماً يُرى...»(١٨٤).
١١ - وفي (أُصول الكافي): عدَّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن أبيه محمّد بن عيسى، عن ابن بكير، عن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ للقائم غيبة قبل أنْ يقوم، إنَّه يخاف - وأومأ بيده إلى بطنه -» يعني القتل(١٨٥)، والسند من أصحّ الأسانيد بلا خلاف.
١٢ - وفي (عقد الدُّرَر) للمقدسي الشافعي: عن الإمام الحسين السبط الشهيد (عليه السلام) قال: «لصاحب هذا الأمر - يعني الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) - غيبتان، إحداهما تطول، حتَّى يقول بعضهم: مات، وبعضهم: قُتِلَ، وبعضهم: ذهب...»(١٨٦).
وقد مرَّ نظير هذا - بسند صحيح - في الحديث رقم (٦ و٧)، فراجع.
١٣ - وفي (كمال الدِّين): حدَّثنا أبي ومحمّد بن الحسن (رضي الله عنهما)، قالا: حدَّثنا سعد بن عبد الله وعبد الله بن جعفر الحميري، قالا: حدَّثنا أحمد بن الحسين بن عمر بن يزيد، عن الحسين بن الربيع المدائني(١٨٧)، قال: حدَّثنا محمّد بن إسحاق، عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٨٤) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٣٤٨/ باب ٣٣/ ح ٤٠).
(١٨٥) أُصول الكافي (ج ١/ ص ٣٤٠/ باب ٨٠/ ح ١٨)، وأخرجه الصدوق بسند صحيح على الأصحّ من وثاقة محمّد بن عليٍّ ماجيلويه في كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤١٨/ باب ٤٤/ ح ١٠).
(١٨٦) عقد الدُّرَر (ص ١٧٨/ باب ٥).
(١٨٧) أورده في الكافي (ج ١/ ص ٣٤١/ باب ٨٠/ ح ٣٣): (... عن أحمد بن الحسن، عن عمر بن يزيد، عن الحسن بن الربيع الهمداني)، والظاهر صحَّته، لعدم رواية سعد والحميري عن أحمد بن الحسين بن عمر بن يزيد، بل روى سعد في مواضع كثيرة عن أحمد بن الحسن، والمراد به ابن عليِّ ابن فضَّال الفطحي الثقة، وأمَّا عن عمر بن يزيد فسواء كان هو الصيقل أو بيَّاع السابري، فإنَّ وفاته قبل الغيبة بعشرات السنين.
↑صفحة ١٦٨↑
أسيد بن ثعلبة، عن أُمِّ هانئ، قالت: لقيت أبا جعفر محمّد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (عليهم السلام)، فسألته عن هذه الآية: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ﴾ (التكوير: ١٥ و١٦)، قال: «إمام يخنس في زمانه عند انقضاء من علمه سنة ستِّين ومائتين، ثمّ يبدو كالشهاب الوقَّاد في ظلمة الليل، فإنْ أدركتِ ذلك قرَّت عينكِ»(١٨٨).
ويُلاحَظ في سند الحديث أنَّ أحمد بن الحسين بن عمر بن يزيد ثقة بالاتِّفاق ومن قبله كذلك، وهو قد روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام)، كما صرَّح بهذا النجاشي في ترجمته، وأمَّا من بعده فإنَّ إثبات صدقهم في خصوص هذا الخبر، هو تقدُّم وفاتهم لما في الخبر من إعلام معجز تحقَّق بعد وفاتهم، وورد بنقل الثقات عنهم، فالخبر شاهد على صدقهم.
١٤ - وفي (كمال الدِّين) بسند صحيح، قال: حدَّثنا محمّد بن الحسن(رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا سعد بن عبد الله، قال: حدَّثنا أبو جعفر محمّد بن أحمد العلوي، عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: سمعت أبا الحسن صاحب العسكر (عليه السلام) يقول: «الخلف من بعدي ابني الحسن، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟»، فقلت: ولِـمَ جعلني الله فداك؟ فقال: «لأنَّكم (لا ترون شخصه)، ولا يحلُّ لكم ذكره باسمه»، قلت: فكيف نذكره؟ قال: «قولوا: الحجَّة من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(١٨٩).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٨٨) كمال الدِّين (ج ١/ ص ٣٢٤/ باب ٣٢/ ح ١)، وأخرجه في نفس الباب عن أُمِّ هانئ، عن الإمام الباقر (عليه السلام) (ج ١/ ص ٣٣٠/ باب ٣٢/ ح ١٥) باختلاف يسير.
(١٨٩) كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٣٨١/ باب ٣٧/ ح ٥)، والكافي (ج ١/ ص ٣٢٨/ باب ٧٥/ ح ٣).
↑صفحة ١٦٩↑
وهذا السند حجَّة لوثاقة رجاله، والعلوي الذي فيه هو من مشايخ الشيعة الأجلَّاء، كما يُعلَم من رجال النجاشي في ترجمة العمركي البوفكي(١٩٠).
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٩/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٩:٣٢) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
هناك فرق كبير بين ولادة النبيِّ موسى (عليه السلام) بعيداً عن عيون السلطة الفرعونيَّة، أو ولادة النبيِّ إبراهيم (عليه السلام) كذلك، وظهورهما بعد فترة قصيرة وفي مرحلة سابقة على قيامهما بمهامِّ النبوَّة، ورؤية الناس لهما، وبين غيبة الإمام محمّد ابن الحسن العسكري الذي لم يشاهد منذ ولادته المفترضة، حتَّى اليوم بالرغم من إصرار المتكلِّمين الإماميَّة على عدم جواز خلو الأرض من إمام معصوم دقيقة واحدة، وها هي الأرض خالية من الإمام المعصوم منذ أكثر من ألف ومائة وخمسين عاماً، وها هم الشيعة بدون أيِّ اتِّصال منذ ذلك الحين.
ليس المهمُّ أنْ يكون هناك إمام أو ملك في ملكوت السماوات والأرض، وإنَّما المطلوب أنْ يظهر ويؤمَّ الناس ويقودهم لتطبيق الشريعة، وهذا هو الهدف من فلسفة الإمام.
وهناك أحاديث كثيرة عن الإمام الرضا (عليه السلام) يحاجج الواقفيَّة الذين قالوا بغيبة ومهدويَّة والده الإمام موسى الكاظم يقول لهم فيها: إنَّ الحجَّة لا تقوم لله على خلقه إلَّا بإمام حيّ يُعرَف. ومن مات وليس له إمام يسمع له ويطيع مات ميتة جاهليَّة... إمام حيّ يعرفه.. إمام حيّ يعرفه(١٩١).
والشيعة في عصر الغيبة لا يعرفون إمامهم ولا يستطيعون الارتباط به أو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٩٠) رجال النجاشي (ص ٣٠٣/ الرقم ٨٢٨).
(١٩١) بيَّنَّا هذا المطلب فيما سبق، فللقارئ الكريم أنْ يراجع.
↑صفحة ١٧٠↑
طاعته أو نصرته أو الحديث معه بصورة يضيع فيها معنى الإمامة، وهي القيادة والاتِّباع والطاعة(١٩٢).
* * *
وجوب وجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٧:١٧) صباحاً.
مالك الأشتر عضو:
والصلاة والسلام على محمّد وأهل بيته المظلومين..
حديث: «من مات ولم يعرف إمام زمانه»، سُجِّل هذا الحديث - بألفاظ مختلفة وكلُّها ترجع إلى معنى واحد ومقصد فارد - في أُمَّهات كُتُب الحديث السُّنّيَّة والشيعيَّة، ويكفي على ذلك اتِّفاق البخاري ومسلم - من أهل السُّنَّة - على روايته(١٩٣)، والكليني، والصدوق، ووالده، والحميري، والصفَّار - من الشيعة الإماميَّة - على روايته أيضاً(١٩٤)، وقد أخرجه كثيرون بطُرُق لا طاقة على استقصائها(١٩٥).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٩٢) إنَّ عدم رؤية شخصه المبارك لا يعني عدم المعرفة، كما هو واضح.
(١٩٣) صحيح البخاري (ج ٥/ ص ١٣/ باب الفتن)، صحيح مسلم (ج ٦/ ص ٢١ و٢٢/ ح ١٨٤٩).
(١٩٤) أُصول الكافي (ج ١/ ص ٣٠٣/ ح ٥، وج ١/ ص ٣٠٨/ ح ١ - ٣، وج ١/ ص ٣٧٨/ ح ٢)، وروضة الكافي (ج ٨/ ص ١٢٩/ ح ١٢٣)، كمال الدِّين (ج ٢/ ص ٤١٢ و٤١٣/ باب ٣٩/ ح ١٠ و١١ و١٢ و١٥)، الإمامة والتبصرة (ص ٢١٩/ ح ٦٩ - ٧١)، قرب الإسناد (ص ٣٥١/ ح ١٢٦٠)، بصائر الدرجات (ص ٢٥٩/ ح و٥٠٩ و٥١٠).
(١٩٥) اُنظر: مسند أحمد (ج ٢/ ص ٨٣، وج ٣/ ص ٤٤٦، وج ٤/ ص ٩٦)، مسند أبي داود الطيالسي (ص ٢٥٩)، المعجم الكبير للطبراني (ج ١٠/ ص ٣٥٠/ ح ١٠٦٨٧)، مستدرك الحاكم (ج ١/ ص ٧٧)، حلية الأولياء (ج ٣/ ص ٢٢٤)، الكنى والأسماء (ج ٢/ ص ٣)، سُنَن البيهقي (ج ٨/ ص ١٥٦ و١٥٧)، جامع الأُصول (ج ٤/ ص ٧)، شرح صحيح مسلم للنووي (ج ١٢/ ص ٤٤٠)، تلخيص المستدرك للذهبي (ج ١/ ص ٧٧ و١٧٧)، مجمع الزوائد للهيثمي (ج ٥/ ص ٢١٨ و٢١٩ و٢٢٣ و٢٢٥ و٣١٢)، تفسير ابن كثير (ج ١/ ص ٥١٧). كما أخرجه الكشِّي في رجاله (ص ٢٣٥/ ح ٤٢٨) في ترجمة سالم بن أبي حفصة.
↑صفحة ١٧١↑
إذن الحديث ممَّا لا مجال لأحد أنْ يناقش في سنده، وإنْ توهَّم الشيخ أبو زهرة فعدَّه من روايات الكافي فحسب(١٩٦)!
والحديث كما ترى في تخريجه لا يبعد القول بتواتره، وهو لا يحتمل التأويل ولا صرف دلالته الواضحة على وجوب معرفة الإمام الحقِّ على كلِّ مسلم ومسلمة، وإلَّا فإنَّ مصيره ينذر بنهاية مهولة.
ومن ادَّعى أنَّ المراد بالإمام الذي من لا يعرفه سيموت ميتة جاهليَّة هو السلطان أو الحاكم، أو المَلِك، ونحو ذلك وإنْ كان فاسقاً ظالماً! فعليه أنْ يُثبِت بالدليل أنَّ معرفة الظالم الفاسق من الدِّين أوَّلاً، وأنْ يُبيِّن للعقلاء الثمرة المترتِّبة على وجوب معرفة الظالم الفاسق بحيث يكون من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهليَّة.
وعلى أيَّة حالٍ، فالحديث يدلُّ على وجود إمام حقٍّ في كلِّ عصر وجيل، وهذا لا يتمُّ إلَّا مع القول بوجود الإمام المهدي الذي هو حقٌّ ومن ولد فاطمة (عليها السلام) كما تقدَّم. وممَّا يُؤيِّده:
حديث: «إنَّ الأرض لا تخلو من قائم لله بحجَّة»، وهذا الحديث قد احتجَّ به الطرفان أيضاً وأوردوه من طُرُق عدَّة(١٩٧).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٩٦) الإمام الصادق لأبي زهرة (ص ١٩٤).
(١٩٧) أورد هذا الحديث الإسكافي المعتزلي في المعيار والموازنة (ص ٨١)، وابن قتيبة في عيون الأخبار (ص ٧)، واليعقوبي في تاريخه (ج ٢/ ص ٤٠٠) وابن عبد ربِّه في العقد الفريد (ج ١/ ص ٢٦٥)، وأبو طالب المكِّي في قوت القلوب في معاملة المحبوب (ج ١/ ص ٢٢٧)، والبيهقي في المحاسن والمساوئ (ص ٤٠)، والخطيب في تاريخه (ج ٦/ ص ٤٧٩) في ترجمة إسحاق النخعي، والخوارزمي الحنفي في المناقب (ص ١٣)، والرازي في مفاتيح الغيب (ج ٢/ ص ١٩٢)، وابن أبي الحديد في شرح النهج كما سيأتي، وابن عبد البرِّ في المختصر (ص ١٢)، والتفتازاني في شرح المقاصد (ج ٥/ ص ٢٤١)، وابن حجر في فتح الباري بشرح صحيح البخاري (ج ٦/ ص ٣٨٥).
وقد أخرجه الكليني من طُرُق عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في أُصول الكافي (ج ١/ ص ١٣٦/ ح ٧، وج ١/ ص ٢٧٠/ ح ٣، وج ١/ ص ٢٧٤/ ح ٣)، والصدوق في كمال الدِّين (ج ١/ ص ٢٨٧/ باب ٢٥/ ح ٤، وج ١/ ص ٢٨٩ - ٢٩٤/ باب ٢٦/ ح ٢) من طُرُق كثيرة، وص ٣٠٢/ باب ٢٦/ ح ١٠).
↑صفحة ١٧٢↑
وقد رواه كميل بن زياد النخعي الجليل الثقة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) كما في (نهج البلاغة)، قال (عليه السلام) - بعد كلام طويل -: «اللَّهُمَّ بلى! لا تخلو الأرض من قائم لله بحجَّة».
وعدم خلو الأرض من قائم لله بحجَّة لا يتمُّ مع فرض عدم ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وقد تنبَّه لهذا ابن أبي الحديد حتَّى قال في شرح هذه العبارة: (كي لا يخلو الزمان ممَّن هو مهيمن لله تعالى على عباده، ومسيطر عليهم. وهذا يكاد يكون تصريحاً بمذهب الإماميَّة، إلَّا أنَّ أصحابنا يحملونه على أنَّ المراد به الأبدال)(١٩٨).
وقد فهم ابن حجر العسقلاني منه أنَّه إشارة إلى مهدي أهل البيت (عليهم السلام) فقال ما نصُّه: (وفي صلاة عيسى (عليه السلام) خلف رجل من هذه الأُمَّة مع كونه في آخر الزمان، وقرب قيام الساعة دلالة للصحيح من الأقوال: إنَّ الأرض لا تخلو من قائم لله بحجَّة)(١٩٩).
أقول: وممَّا يُقرِّب دلالة العبارة في (النهج) على الإمام المهدي هو ما اتَّصل بها من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا نصُّه: «يا كميل بن زياد، إنَّ هذه القلوب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٩٨) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج ١٨/ ص ٣٥١).
(١٩٩) فتح الباري شرح صحيح البخاري (ج ٦/ ص ٣٨٥).
↑صفحة ١٧٣↑
أوعية فخيرها أوعاها، فاحفظ عنِّي ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالم ربَّاني، ومتعلِّم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كلِّ ناعق يميلون مع كلِّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق...»، إلى أنْ قال (عليه السلام): «اللَّهُمَّ بلى! لا تخلو الأرض من قائم لله بحجَّة، إمَّا ظاهراً مشهوراً، وإمَّا خائفاً مغموراً؛ لئلَّا تبطل حُجَج الله وبيِّناته»(٢٠٠).
ومن هنا جاء في الحديث الصحيح عن الحسين بن أبي العلاء الخفَّاف، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تكون الأرض ليس فيها إمام؟ قال: «لا»... الحديث(٢٠١).
وإذا ما أُضيف هذا إلى حديث الثقلين، وحديث من مات، وحديث (الخلفاء اثنا عشر) الآتي، عُلِمَ أنَّ الإمام المهدي لو لم يكن مولوداً حقًّا لوجب أنْ يكون من سبقه حيًّا إلى قيام الساعة، ولكن لا أحد يقول من المسلمين بحياة إمام غير المهدي (عجَّل الله فرجه) ثاني عشر أهل البيت وهم من عيَّنت الصحاح عددهم، وبيَّنت كُتُب المناقب أسماءهم.
أحاديث (الخلفاء اثنا عشر):
أخرج البخاري بسنده عن جابر بن سمرة، قال: سمعت النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: «يكون اثنا عشر أميراً»، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنَّه قال: «كلُّهم من قريش»(٢٠٢).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٠٠) شرح نهج البلاغة للشيخ محمّد عبده (ج ٤/ ص ٦٩١/ ح ٨٥)، وشرح ابن أبي الحديد (ج ١٨/ ص ٣٥١).
(٢٠١) أُصول الكافي (ج ١/ ص ١٣٦/ ح ١/ باب أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة)، وسند الحديث هو: (عدَّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن أبي عمير، عن الحسين بن أبي العلاء، عن الإمام الصادق (عليه السلام)).
(٢٠٢) صحيح البخاري (ج ٤/ ص ١٦٤/ كتاب الأحكام/ باب الاستخلاف)، وأخرجه الصدوق عن جابر بن سمرة أيضاً في كمال الدِّين (ج ١/ ص ٢٧٢/ ح ١٩)، والخصال (ج ٢/ ص ٤٦٩ و٤٧٥).
↑صفحة ١٧٤↑
وفي صحيح مسلم: «ولا يزال الدِّين قائماً حتَّى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلُّهم من قريش»(٢٠٣).
وفي مسند أحمد بسنده عن مسروق، قال: كنَّا جلوساً عند عبد الله بن مسعود وهو يقرأ القرآن، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن! هل سألتم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كم يملك هذه الأُمَّة من خليفة؟ فقال عبد الله: ما سألني عنها أحد منذ قَدِمْتُ العراق قبلك، ثمّ قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال: «اثنا عشر كعدَّة نقباء بني إسرائيل»(٢٠٤).
ويستفاد من هذه الأحاديث أُمور، وهي:
١ - أنَّ عدد الأُمراء أو الخلفاء لا يتجاوز الاثني عشر، وكلُّهم من قريش بلا خلاف. وهذا العدد ينطبق تماماً مع ما تعتقده الشيعة بعدد الأئمَّة، وهم كلُّهم من قريش.
قد يقال: إنَّ التعبير بـ (الأُمراء أو الخلفاء) لا ينطبق مع واقع الأئمَّة (عليهم السلام)، والجواب واضح جدًّا؛ لأنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنَّما أراد بذلك الإمرة والاستخلاف باستحقاق، وحاشاه أنْ يقصد بذلك معاوية ويزيد ومروان وأمثالهم الذين لعبوا ما شاؤوا بمقدَّرات الأُمَّة، بل المراد بالخليفة هو من يستمدُّ سلطته من الشارع المقدَّس، ولا ينافي ذلك ذهاب السلطنة منهم في واقعها الخارجي لتسلُّط الآخرين عليهم.
ولهذا جاء في (عون المعبود في شرح سُنَن أبي داود) ما نصُّه: (قال التوربشتي: السبيل في هذا الحديث وما يتعقَّبه في هذا المعنى أنَّه يحمل على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٠٣) صحيح مسلم (ج ٢/ ص ١١٩/ كتاب الإمارة/ باب الناس تبع لقريش)، أخرجه من تسعة طُرُق.
(٢٠٤) مسند أحمد (ج ٥/ ص ٩٠ و٩٣ و٩٧ و١٠٠ و١٠٦ و١٠٧)، وأخرجه الصدوق عن ابن مسعود في كمال الدِّين (ج ١/ ص ٢٧٠/ ح ١٦).
↑صفحة ١٧٥↑
المقسطين منهم، فإنَّهم هم المستحقُّون لاسم الخليفة على الحقيقة ولا يلزم أنْ يكونوا على الولاء، وإنْ قُدِّر أنَّهم على الولاء، فإنَّ المراد منه المسمَّون بها على المجاز، كذا في المرقاة)(٢٠٥).
٢ - أنَّ هؤلاء الاثني عشر معيَّنون بالنصِّ كما هو مقتضى تشبيههم بنقباء بني إسرائيل، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً﴾ (المائدة: ١٢).
٣ - أنَّ هذه الأحاديث تفترض عدم خلو الزمان من الاثني عشر جميعاً، وأنَّه لا بدَّ من وجود أحدهم ما بقي الدِّين إلى أنْ تقوم الساعة.
وقد أخرج مسلم في صحيحه وبنفس الباب ما هو صريح جدًّا بهذا، إذ ورد فيه: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان»(٢٠٦).
وهو كما ترى ينطبق تمام الانطباق على ما تقوله الشيعة بأنَّ الإمام الثاني عشر (المهدي) حيٌّ كسائر الأحياء، وأنَّه لا بدَّ من ظهوره في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً على وفق ما بشَّر به جدُّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وغير خافٍ على أحد أنَّ أهل السُّنَّة لم يتَّفقوا قطُّ على تسمية الاثني عشر، حتَّى إنَّ بعضهم اضطرَّ إلى إدخال يزيد بن معاوية ومروان وعبد المَلِك ونحوهم وصولاً إلى عمر بن عبد العزيز لأجل اكتمال نصاب الاثني عشر(٢٠٧)!
وهو بلا أدنى شكٍّ تفسير خاطئ غير منسجم مع نصِّ الحديث. إذ يلزم منه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٠٥) عون المعبود (ج ١١/ ص ٢٦٢/ شرح الحديث ٤٢٥٩).
(٢٠٦) صحيح مسلم (ج ٢/ ص ١٢١).
(٢٠٧) اُنظر أقوالهم في كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي (ج ١/ ص ١٣ - ١٥ من القسم الأوَّل)، وتفسير ابن كثير (ج ٢/ ص ٣٤) عند تفسير الآية (١٢) من سورة المائدة، وشرح العقيدة الطحاويَّة (ج ٢/ ص ٧٣٦)، وشرح الحافظ ابن القيِّم على سُنَن أبي داود (ج ١١/ ص ٢٦٣/ شرح الحديث ٤٢٥٩)، والحاوي للفتاوي (ج ٢/ ص ٨٥).
↑صفحة ١٧٦↑
خلو جميع العصور بعد عصر عمر بن عبد العزيز من الخليفة، بينما المفروض أنَّ الدِّين لا يزال قائماً بوجودهم إلى قيام الساعة.
إنَّ أحاديث الخلفاء اثنا عشر تبقى بلا تفسير لو تخلَّينا عن حملها على هذا المعنى، لبداهة أنَّ السلطنة الظاهريَّة قد تولَّاها من قريش أضعاف العدد المنصوص عليه في هذه الأحاديث فضلاً عن انقراضهم أجمع وعدم النصِّ على أحد منهم - أُمويِّين أو عبَّاسيِّين - باتِّفاق المسلمين.
وبهذا الصدد يقول القندوزي الحنفي: (قال بعض المحقِّقين: إنَّ الأحاديث الدالَّة على كون الخلفاء بعده (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اثني عشر قد اشتهرت من طُرُق كثيرة، فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان عُلِمَ أنَّ مراد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من حديثه هذا، الأئمَّة اثنا عشر من أهل بيته وعترته، إذ لا يمكن أنْ يُحمَل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه لقلَّتهم عن اثني عشر، ولا يمكن أنْ نحمله على الملوك الأُمويِّين لزيادتهم على اثني عشر، ولظلمهم الفاحش إلَّا عمر بن عبد العزيز، ولكونهم غير بني هاشم؛ لأنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «كلُّهم من بني هاشم»، في رواية عبد المَلِك، عن جابر، وإخفاء صوته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في هذا القول يُرجِّح هذه الرواية؛ لأنَّهم لا يُحسِنون خلافة بني هاشم. ولا يمكن أنْ يُحمَل على الملوك العبَّاسيَّة؛ لزيادتهم على العدد المذكور، ولقلَّة رعايتهم...).
ويُؤيِّد هذا المعنى - أي أنَّ مراد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الأئمَّة الاثنا عشر من أهل بيته - ويُرجِّحه حديث الثقلين.
ولا يخفى أنَّ حديث (الخلفاء اثنا عشر) قد سبق التسلسل التاريخي للأئمَّة الاثني عشر وضُبِطَ في كُتُب الصحاح وغيرها قبل تكامل الواقع الإمامي، فهو ليس انعكاساً لواقع وإنَّما هو تعبير عن حقيقة ربَّانيَّة نطق بها من لا ينطق عن الهوى، فقال: «الخلفاء بعدي اثنا عشر»، ليكون ذلك شاهداً ومصدِّقاً لهذا الواقع
↑صفحة ١٧٧↑
المبتدئ بأمير المؤمنين عليٍّ والمنتهي بالإمام المهدي (عليهم السلام)، وهو التطبيق الوحيد المعقول لذلك الحديث.
فالصحيح إذن أنْ يُعتَبر الحديث من دلائل النبوَّة في صدقها عن الإخبار بالمغيَّبات، أمَّا محاولات تطبيقه على من عُرفوا بنفاقهم وجرائمهم وسفكهم للدماء من الأُمويِّين والعبَّاسيِّين وغيرهم، فهو يخالف الحديث مفهوماً ومنطوقاً، على الرغم ممَّا في ذلك من إساءة بالغة إلى مقام النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إذ يعني ذلك أنَّه أخبر ببقاء الدِّين إلى زمان عمر بن عبد العزيز مثلاً، لا إلى أنْ تقوم الساعة.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٩:٥١) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
الأخ مالك الأشتر المحترم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
ذكرت رواية أيُّوب بن نوح وسؤاله من الإمام الرضا حول احتمال مهدويَّته وقيامه، وهي تكشف عن عدم تحديد هويَّة المهدي من قبل، وذلك لأنَّ الشيعة كانوا دائماً يسألون الأئمَّة الآخرين كالباقر والصادق والكاظم عن احتمال قيامهم، وكان هناك من يعتقد بمهدويَّتهم وغيبتهم بعد وفاتهم(٢٠٨).
حديثنا ليس عن الإمام المهدي وإنَّما عن وجود ولد للإمام العسكري الذي كان يُنكِر علناً وجود ولد له، وقد أيَّدت هذا الموضوع بنقل الروايات التي تقول: إنَّه خفي الولادة والمنشأ، وإنَّ المهدي من يقول الناس: إنَّه لم يُولَد بعد، ووجود الشكِّ في ولادته(٢٠٩).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٠٨) إنْ كنت تقصد عوامَّ الشيعة فقد بيَّنَّا ذلك، وإنْ كنت تقصد وجوه الطائفة فالأمر ليس كذلك، وقد بيَّنَّا في تعليقاتنا السابقة وما سيأتي.
(٢٠٩) وهذا ما بيَّنَّاه في تعليقاتنا وما أثبته الإخوة في مناقشاتهم وآتيناهم بالأدلَّة الصحيحة، وما سيُبيِّنه الإخوة كذلك في مناقشتهم.
↑صفحة ١٧٨↑
كلُّ تلك الروايات تشير إلى كون مسألة الولادة غير ثابتة ولا واضحة كوضوح الشمس واختلاف الشيعة الإماميَّة في ذلك.
ولست أدري كيف تصف الأحاديث التي تتَّفق مع نظريَّتك بسهولة بالصحَّة والسند الصحيح، من دون تحقيق رغم تناقضها مع روايات أُخرى(٢١٠)؟
حاولت أنْ تستدلَّ على وجود ابن الحسن بغيبته.. وكان عليك في البداية أنْ تتأكَّد من ولادته ووجوده أوَّلاً ثمّ تنسب الغيبة له كما نُسِبَت الغيبة إلى محمّد بن الحنفيَّة والإمام الكاظم وأئمَّة آخرين.
ألَا تحتمل أنَّ بعض الأحاديث التي ذكرتها ورأيت فيها دلالة واضحة كوضوح الشمس هي مختلقة في زمان لاحق ومنسوبة إلى رواة ثقات سابقين؟ خاصَّة وأنَّ سوق الاختلاق من أجل تدعيم الرأي الخاصِّ كانت رائجة تلك الأيَّام.
لقد ذكرت رواية تتحدَّث عن استفسار الشيعة في حالات غموض الأئمَّة وعدم معرفتهم وقول الإمام لهم: «تمسَّكوا بالأمر الذي أنتم عليه حتَّى يتبيَّن لكم من بعده»، وهذه الرواية تُحتِّم الوقوف عند الإمام العسكري حتَّى يتبيَّن الأمر بعده، كما فعل قسم من الشيعة الإماميَّة، وعدم افتراض ولد له من عند أنفسنا بلا دليل قاطع، كما فعل البعض الآخر من الإماميّة وليس كلُّهم ولا كلُّ الشيعة(٢١١).
أمَّا حديث: «من مات ولم يعرف إمام زمانه»، ومحاولتك الاستدلال به على وجود الإمام الثاني عشر وقولك: (إنَّ الحديث يدلُّ على وجود إمام حقٍّ في كلِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢١٠) هلَّا أتيت بتلك الروايات التي تتناقض معها، أم أنَّه كعادتك تلقي الكلام على عواهنه وتُرسِله إرسال المسلَّمات، فهل هذا هو الدقَّة العلميَّة التي تدَّعيها؟
(٢١١) لا أدري لِـمَ لم يردّ الكاتب على الروايات الصحيحة السند التي أثبتها الإخوة في النقاش، فإنْ كانت ضعيفة ولم تثبت لِـمَ لم يردّها، وإنْ كانت صحيحة كما هي كذلك فلِمَ يعيد الكرَّة تلو الأُخرى بالاستفسار غير المبرِّر؟
↑صفحة ١٧٩↑
عصر وجيل وهذا لا يتمُّ إلَّا مع القول بوجود الإمام المهدي، وإذا أُضيف هذا إلى حديث الثقلين وحديث الخلفاء اثنا عشر عُلِمَ أنَّ الإمام المهدي لو لم يكن مولوداً حقًّا، لوجب أنْ يكون من سبقه حيًّا إلى قيام الساعة، وإنَّ هذه الأحاديث تفترض عدم خلو الزمان من الاثني عشر جميعاً وأنَّه لا بدَّ من وجودهم ما بقي الدِّين إلى أنْ تقوم الساعة).
إنَّ قولك هذا يدلُّ على وجود أزمة فكريَّة وحيرة لدى من كان يؤمن بتلك الأحاديث واضطراره إلى افتراض وجود ولد للإمام العسكري، كما فعل ذلك قسم من الشيعة الإماميَّة الذي افترض وجود ولد للإمام العسكري بعد وفاته دون أنْ يملك دليلاً قويًّا على وجوده.
ولكنَّك نسيت جزءاً من الدليل ذكره السابقون، وتشبَّثوا به ولم تنتبَّه إليه وهو ضرورة استمرار الإمامة في الأعقاب وأعقاب الأعقاب إلى يوم القيامة وعدم جواز انتقالها إلى أخ أو ابن أخ أو عمٍّ أو ابن عمٍّ، أي الإيمان بقانون الوراثة العموديَّة في الإمامة، وإلَّا إذا لم تكن تؤمن بهذا القانون كالشيعة الإماميَّة الفطحيَّة الذين كانوا يجيزون الانتقال إلى الإخوة فكان بإمكانك الانتقال إلى جعفر بن عليٍّ الهادي الذي ادَّعى الإمامة بعد أخيه وكما انتقل الشيعة الموسويَّة من القول بإمامة عبد الله الأفطح بن جعفر الصادق إلى أخيه موسى بعد أنْ تُوفِّي ولم يعقب ولداً تستمرُّ الإمامة في عقبه.
اُنظر أيُّها الأخ الكريم يا مالك الأشتر إنَّك تحاول أنْ تستدلَّ على وجود ابن للإمام العسكري بمجموعة نظريَّات فلسفيَّة وأحاديث عامَّة ضعيفة السند(٢١٢)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢١٢) وأيُّ نظريَّة فلسفية أثبت بها الأخ مالك الأشتر ولادة الحجَّة؟! وإذا كانت الروايات الصحاح التي أتى بها الأخ الأشتر ضعيفة أليس من الجدير بك يا كاتب بيان وجه الضعف بدلاً من أنْ تلقي الكلام على عواهنه؟
↑صفحة ١٨٠↑
ولا تسلك الطريق الصحيح الطبيعي الذي يستند إلى الظاهر والتاريخ، وهذا هو أهمّ دليل للقائلين بوجود الولد.
ومن هنا أدعوك إلى إعادة النظر في مسألة وجود الإمام الثاني عشر ودراسة القَصص والروايات الأُخرى التي جاءوا بها لتأكيد نظريَّتهم وتدعيمها.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٨/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١١:١٤) صباحاً.
مالك الأشتر عضو:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أيُّها القُرَّاء الكرام لقد فرض السيِّد موسى العلي وفَّقه ووفَّقنا الله علينا جميعاً أنْ لا نناقش أحمد الكاتب ما عدا العزيزين التلميذ ومحمّد منصور، وذلك لعلَّه بسبب معرفته الشخصيَّة بعلمهما وفَّقهم الله.
وباعتباره هو صاحب هذا المنتدى فأحببت أنْ لا أتجاوز هذا القرار؛ لأنَّ هذا ملكه وهو حرُّ التصرُّف فيه.
ولكن لـمَّا رأيت أنَّ الكاتب قد ردَّ عليَّ في موضوعي هذا، رأيت أنَّه لزاماً عليَّ أنْ أردَّ عليه ويكون هذا هو الردُّ الأخير، كي لا يظنَّ الكاتب وغيره أنَّنا تهرَّبنا من ردوده، وإنْ شاء الكاتب بعد ذلك في الاستمرار معنا، فليتفضَّل إلى شبكة لنك، ونحن بعون الله ولطفه مستعدُّون.
الإجابة:
أعتقد أنِّي بيَّنت بموضوع مستقلٍّ وجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
أمَّا خفاء ولادة الإمام (عجَّل الله فرجه) فنقول: إنَّ له (عجَّل الله فرجه) بإبراهيم وموسى أُسوة، فقد خفيت ولادتهم عن الناس ولم يعرفهم إلَّا الخواصّ جدًّا.
وقولك: إنَّ روايات ولادته غير ثابتة. غير صحيح وإنَّما هو كلام تلقيه وسنُثبِت لك في نهاية الحديث أنَّ كُتُب السُّنَّة وعلماءهم روت ولادته (عجَّل الله فرجه).
↑صفحة ١٨١↑
أمَّا قولك: ولست أدري كيف تصف الأحاديث التي تتَّفق مع نظريَّتك بسهولة بالصحَّة والسند الصحيح من دون تحقيق رغم تناقضها مع روايات أُخرى؟
فنقول: لقد روينا ما اتَّفق عليه العلماء بالسند، وأنَّهم هم الذين أقرُّوا صحَّة هذه الروايات وأسانيدها.
أمَّا أنَّك تأتي وتقول: هذه غير صحيحة، عليك أنْ تُثبِت صحَّة كلامك، لا أنْ ترمي الكلام على عواهنه.
لعلَّ سوق الاختلاق من أجل تدعيم الرأي يكون من الشيعة (وطبعاً هذا غير صحيح)، ولكن ما رأيك بعلماء السُّنَّة الذين رووا ولادته ووجوده (عجَّل الله فرجه)؟
وقولك بالنسبة لحديث الثقلين، ومن مات و...
نقول لك: يا كاتب لا توجد عندنا أزمة فكريَّة، والأحاديث صحيحة صريحة واضحة كوضوح الشمس، وقد روتها السُّنَّة قبل الشيعة، وإلَّا كيف تُفسِّر: (لن يفترقا)، و(من مات ولم يعرف إمام زمانه)، و(الأئمَّة اثنا عشر).
أنا لا أستدلُّ بوجود الإمام بفلسفة فارغة أو أحاديث ضعيفة؟ لقد قلت: إنَّ هذه الأحاديث صحيحة، وعليك أنْ تُثبِت ضعف ما أتيتك به، ولا تنسى على فرض ضعف هذه الأحاديث (وهذا محال) فإنَّ كثرة طُرُقها تجعلها بمرتبة الصحَّة (أو إنَّك ناسٍ لهذا الشيء).
وإليك جملة من علماء السُّنَّة الذين قالوا بولادته (عجَّل الله فرجه) كما نقلها الأخ البصري وفَّقه الله...(٢١٣).
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٩:٣٣).
أحمد الكاتب عضو:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢١٣) راجع من صفحة (٩٨) إلى (١٢٦).
↑صفحة ١٨٢↑
الأخ محمّد منصور (حفظه الله)، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
١ - أفترض فيك العلم والخبرة والاختصاص والتحقيق والاطِّلاع والهدوء النفسي والحياد ومعرفة الموازين والاجتهاد، وربَّما الأُستاذيَّة العليا كما تدَّعي، أشكرك على ملاحظاتك، ولكن اسمح لي بالقول: إنَّ الشعارات العامَّة لا تفيد، ولا بدَّ من وضع النقاط على الحروف وذكر المصادر والروايات، هل تؤمن بأنَّ المهدي لا يزال يعيش في سرداب سامرَّاء؟
ثمّ إنَّ بحثنا الآن ليس عن الإمامة وإنَّما هو حول وجود الإمام الثاني عشر وولادته(٢١٤).
٢ - لا أتحامل على الفلسفة والكلام بشكل مطلق، وإنَّما أقول: إنَّ الدليل الأوَّل والأقوى الذي يورده المتكلِّمون الاثنا عشريُّون على وجود ابن للإمام العسكري كان دليلاً فلسفيًّا نظريًّا اعتباريًّا اجتهاديًّا عقليًّا(٢١٥)، وهذا لا يجوز في عمليَّة إثبات وجود إنسان في الخارج كما يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في كتابه: (المهدي الثورة الكبرى).
ومع ذلك فإنَّه لم يكن دليلاً عقليًّا محضاً خالصاً بحيث يستطيع أيُّ إنسان عاقل أنْ يتوصَّل إليه ببساطة، وإنَّما هو مبنيٌّ على سلسلة مقدَّمات نقليَّة، كضرورة الوراثة العموديَّة لانتقال الإمامة من إمام إلى آخر، وهذا ما لم يثبت من القرآن الكريم ولا من السُّنَّة المطهَّرة ولا من أحاديث أهل البيت الصحيحة، حيث كان كبار العلماء الشيعة كبني فضَّال في الكوفة فطحيَّة، أي لا يؤمنون بقانون الوراثة العموديَّة، ولم يعرفه علماء قم الذين كادوا يقولون بإمامة جعفر بن عليٍّ الهادي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢١٤) وكيف يمكن الانتقال إلى الصغرى قبل إثبات الكبرى، أم أنَّه جائز في منطقك إثبات الصغرى أوَّلاً ثمّ الانتقال إلى الكبرى؟!
(٢١٥) بل هو دليل نقلي صحيح لا تصل إليه يد الشكِّ والريب، وهذا ما ثبت وما سيثبت من الأدلَّة التي يعرضها الإخوة المناقشون.
↑صفحة ١٨٣↑
٣ - لقد كان الاجتهاد مغلقاً ومحرَّماً عند الشيعة الإماميَّة في زمان الأئمَّة؛ لأنَّهم كانوا يعتقدون بنزول العلم الإلهي على الأئمَّة ويأخذون على المذاهب الأُخرى القول بجواز الاجتهاد، ولم يكن عامَّة الشيعة في القرون الأُولى إماميَّة ولذا كانوا يعتقدون بجواز الاجتهاد وينظرون إلى أئمَّة أهل البيت على أساس أنَّهم علماء رواة ناقلون للسُّنَّة الصحيحة أو مجتهدون، وليسوا بأنبياء.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٨/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٤٨: ٠٨) صباحاً.
(جميل ٥٠) زائر:
الأخ الكاتب: السلام عليكم.
هنا ثلاث نقاط:
الأُولى: لقد خبطت خبط عشواء في المزج بين الكبريات والصغريات أو تجاهل المقدَّم في بحث المؤخَّر، وهذا لا يستقيم حسب الوضع المنطقي للدليل، وكلام الأخ الفاضل: محمّد منصور وافٍ في توجيه معلوماتك من هذه الناحية.
الثانية: أ - هل تريد من سؤالك للأخ: هل تؤمن بأنَّ المهدي لا يزال يعيش في سرداب سامرَّاء، أنَّ هذا كان ضمن الشعارات العامَّة أو أنَّه مبدأ عقائدي عند الاثني عشريَّة؟!
والحال أنَّه لا هذا ولا ذاك، ولكن هذا وأمثاله من الأساليب يعد ملامح خاصَّة لا زالت تنتشر في واجهة أبحاثك للأسف الشديد، ومن الطبيعي أنْ تُسبِّب الظنَّ فيك بشيء معيَّن من قِبَل القارئ الفطن.
ب - تقول: إنَّه دليل نظري اعتباري عقلي واجتهادي عقلي. والسؤال كيف تجمع بين كون الشيء اعتباريًّا وعقليًّا أو اجتهاديًّا وعقليًّا يا أخي؟!
وإنْ كان مرادك أنَّهم في الكبرى أرادوا ذلك فهذا غير مفهوم من خلال عرضهم المسألة، وعليه لا يتمُّ اعتبارك مطَّلع على أصل القضيَّة بشكل جيِّد.
↑صفحة ١٨٤↑
ج - ولا ينقضي العجب منك وأنت تتَّهم القائلين بالمهدي (عجَّل الله فرجه) بالأغراض السياسيَّة بينما تتمسَّك ببعض المنحرفين عن الجادة ولا تبحث عمَّا إذا كان الغرض لهم سياسيًّا أو من سوء العاقبة وبالنتيجة التمسُّك بالحثالات والفِرَق الضالَّة يكون في الغالب الأعمِّ إذا لم يشفع بالدراسة الخاصَّة التي تضع النقاط على الحروف في حدِّ زعمك. يكون من باب خلط الدعوى بالدليل، أو يكون دالًّا ومشيراً إلى إعوجاج في السليقة؛ لأنَّنا نشاهد في البحاثين من يتعشَّق بسِيَر الشاذِّين على كلِّ صعيد ويُكثِر الاستشهاد بهم! ومن هنا كان لا بدَّ من أنْ تتنبَّه حضرتك إلى أنَّ الاستدلال بوجود فِرَق لم تؤمن أو أنكرت واستنكرت بادئ الأمر وخاتمته، تمسُّك بما لا ينفي ولا يُثبِت.
وإلَّا لو كان شأن الدليل الفطري والعقلي عدم تخلُّف أحد عنه لتمَّ قياسه بمعاوية ويزيد و... و... فإنَّهم لم يسلموا بالإمامة رغم وضوح الدليل النصِّي فيهم فضلاً عن العقلي وأنت تفترض أنَّ الدليل النصِّي أقوى، فما تقول؟!
وإلى هذا الحدِّ فهل يكون الانحراف أو الانطواء على ما يضادُّ المعتقد في نفسه دليلاً على نقضه؟!
د - أمَّا الاجتهاد فقد أعطى في ذلك الأخ المنصور (حفظه الله) ما يعينك على تصحيح تصوُّراتك في هذا الخضمِّ، ولكن أين أنت عن حقيقة الأمر، والعجب أنَّ هذه القضيَّة أصبحت من أوَّليَّات الثقافة الأُصوليَّة في الحوزات العلميَّة، وقد أعطى الشهيد الصدر بحثاً استشرافيًّا مغنياً في معالمه الجديدة ومقدَّمة حلقاته الأُصوليَّة، مضافاً على نشريَّات أُخرى وكتابات وافرة كمًّا وكيفاً تلك التي تنتهي بالقارئ إلى أنَّ الاجتهاد لم ينكفئ يوماً عند الإماميَّة، غاية الأمر قد دخلت أوساطه بعض النزعات اللفظيَّة فقط!
الثالثة: لقد وضعنا باختيارك واختيار القُرَّاء بحثاً مستقلًّا من محاضرة
↑صفحة ١٨٥↑
العلَّامة الآصفي (حفظه الله)(٢١٦)، وهو يُركِّز على النقطة التي توجَّهنا إليها بادئ النقاش، وهي مسألة الدليل النقلي على أصل القضيَّة (ولادة الحجَّة (عجَّل الله فرجه)). وكذلك ما أتاك به الأخ الفاضل التلميذ، والذي خاطبته أنت أوَّلاً، فمتى نرى العناية منك بذلك؟
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٩/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠١:١٣) صباحاً.
محمّد منصور زائر:
أوَّلاً: قولك: إنَّ بحثنا ليس عن الإمامة بل عن وجود الثاني عشر، فالترتيب المنطقي للبحث اللازم مراعاته لتكون النتائج علميَّة لا مقالات صحفيَّة، هو تسلسل البحث بدءاً من الإمامة ومعناها عند الطائفة الإماميَّة وحقيقة ما يدَّعون من معناها وحقيقتها، ثمّ يتفرَّع على ذلك بحث وجود الثاني عشر، وقد كنت تطالب بالترتيب المنطقي، هذا مع أنَّ المتصفِّح لمقالاتك يرى أنَّك تارةً تشكل على مفهوم حقيقة الإمامة وأنَّه كيف يلتئم مع الغياب والغيبة، فهذا كرٌّ على ما فررت منه، ومن ثَمَّ نصحت في البدء على مراعاة النهج التخصُّصي، لا الأدب الصحفي.
ثانياً: أستغرب من التناقض في النقطة الثانية التي ذكرتها بما لا يتجاوز الأسطر، فإنَّك تزعم أنَّ دليل وجود ابن للعسكري دليل فلسفي نظري عقلي، ثمّ تقول: إنَّه ليس دليلاً عقليًّا محضاً، بل بعض المقدَّمات نقليَّة، ومن الثابت في العلم التخصُّصي كعلم الكلام أو علم أُصول الفقه أنَّ الدليل الذي يعتمد على مقدَّمة نقليَّة ولو واحدة لا يكون إلَّا دليلاً نقليًّا، غاية الأمر أنَّ دلالته بتوسُّط القرينة العقليَّة ولو النظريَّة فإنَّه يكون من باب دلالة الاقتضاء، نظير قوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢١٦) راجع نصَّ المحاضرة في صفحة (١٩٣).
↑صفحة ١٨٦↑
وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً﴾ (الأحقاف: ١٥)، وقوله كذلك: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ (البقرة: ٢٣٣)، فإنَّ استفادة أقلّ الحمل، وهو ستَّة أشهر بتوسُّط القرينة العقليَّة المنظمَّة للدليل النقلي.
هذا مع أنَّ الأدلَّة العقليَّة التي استند إليها الإماميَّة العديد منها عقلي محض كقاعدة العناية الفلسفيَّة، وقاعدة اللطف الكلاميَّة، وغيرها من القواعد التي تحتاج إلى إتقان تخصُّصي، وهناك أدلَّة نقليَّة محضة لديهم، وهناك أدلَّة مركَّبة من عقليَّة ونقليَّة.
وأراك هاهنا قد اعترضت على الوراثة العموديَّة لانتقال الإمامة، وهو بحث في أصل معنى الإمامة لا في خصوص وجود الإمام الثاني عشر، وهذا ما نبَّهتك عليه في النقطة الأُولى أنْ لا مفرَّ لك من البحث في الأساس كترتيب منطقي لا عشوائي، ولا أُريد الخوض في معنى الوراثة في الإمامة قبل أنْ نُحدِّد مركز البحث وإلَّا لوافيتك بما يريده القرآن الكريم من الوراثة في الإمامة.
وأمَّا استشهادك بكلام الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في كتابه، فيا ليتك من أهل التخصُّص لتعرف معنى أنَّ الاستدلال على كبرى الإمامة بدليل عقلي غاية ما يثبت ضرورة وجود إمام في الخارج، ولكنَّه لا يُشخِّص الموجود ويُميِّزه لنا، والفرق بين الأمرين هو أنَّ الكبرى العقليَّة تُثبِت وجود إمام معصوم في الخارج حيًّا معاصراً لنا، إلَّا أنَّ الدليل العقلي لا يُشخِّص اسمه ولا نسبه، إلَّا أنَّه يُثبِت استمرار الإمامة وبقاء وجود إمام معصوم ما مع البشر، ولكنِّي لا أظنُّ اتِّضاح الفرق لك، لأنَّه كما يبدو أنَّك لم تتصفَّح كتاباً في العلوم العقليَّة بدراسة تخصُّصيَّة، وأمَّا البساطة في الأدلَّة العقليَّة فليس هي ضابطة صحَّة الدليل العقلي كما هو الحال في العلوم الأُخرى فإنَّ الأدلَّة النظريَّة التخصُّصيَّة ليس من شرط صحَّتها فهم غير ذوي الاختصاص، نعم هناك أدلَّة عقليَّة مبسَّطة ذكرها الإماميَّة وذلك لهداية
↑صفحة ١٨٧↑
عامَّة المكلَّفين، بحيث لا تحتاج إلى مؤونة علميَّة بالغة، فاشتراط البساطة في صحَّة الدليل العقلي جهل بأُصول المباحث العلميَّة والعقليَّة.
ثالثاً: هاهنا عاودت النقض والاعتراض على حقيقة مفهوم الإمامة، وتخيَّلت أنَّها إمَّا نبوَّة أو فقاهة كبقيَّة الفقهاء أو الرواة، وفاتتك حقيقة ما تزعمه الطائفة الإماميَّة في حقيقة معنى الإمامة من أنَّها أمر ثالث.
فأراك قد كررت على ما فررت منه، فإنَّك تزعم أنَّ البحث في وجود الإمام الثاني عشر لا في الإمامة.
ولكن تسلسل البحث المنطقي يضطرُّك إلى العودة في البحث إلى ما هو متقدِّم رتبةً، وهو البحث في حقيقة معنى الإمامة في القرآن الكريم والسُّنَّة النبويَّة الشريفة ثمّ البحث فيما يتفرَّع على ذلك من العدد ووجود الإمام الثاني عشر.
ثمّ إنَّك لم تعرف الفرق بين الاجتهاد الذي يمارسه علماء الإماميَّة وبين الاجتهاد الذي يمارسه علماء السُّنَّة، فهو يحتاج إلى دراسة باب الاجتهاد والتقليد في علم أُصول الفقه، وإذا أتقنت الفرق فسيتَّضح لك أنَّ فقهاء أصحاب الأئمَّة كانوا يجتهدون ويفتون بملكة الفقاهة بعد الاستناد إلى فهمهم من نصوص أئمَّتهم بتخصيص العامِّ وتقييد المطلق وتقديم النصِّ على الظاهر والمستفيض على الآحاد إلى غير ذلك من مراحل عمليَّة الاستنباط التي تحتاج في الإلمام بها إلى تخصُّص.
وقد ألَّف (زرارة) و(الفضل بن شاذان) رسالتين في اجتماع الأمر والنهي، وكذلك في الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدِّه، وأمرهم أئمَّتهم بالفتاوى كما ذكر ذلك النجاشي في رجاله في ترجمة (أبان بن تغلب) من أصحاب الباقر أنَّه أمره أنْ يجلس في المسجد ويفتي الناس ولم يكن أمراً بالرواية للناس، وفرق بين الدراية والفتيا من جهة، وبين الرواية عند أهل التخصُّص ويكفيك ملاحظة عشرات
↑صفحة ١٨٨↑
الروايات في كتاب الوسائل، كتاب القضاء، أبواب كيفيَّة الحكم من أمرهم (عليهم السلام) أصحابهم بالفتيا بموازين مدرسة أهل البيت وما رووه أيضاً عنهم (عليهم السلام) من قولهم: «علينا إلقاء الأُصول وعليكم التفريع»(٢١٧)، وقولهم: «لا يكون الرجل منكم فقيهاً حتَّى يعرف معاريض كلامنا»(٢١٨)، وقولهم: «إنَّ الرجل لا يكون فقيهاً حتَّى يكون ملهماً»، والإلهام هو الفهم لا الرواية.
والحاصل أنَّ تشتيت جهات البحث هنا عشوائيَّة غير علميَّة!
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٩/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١١:٠٠) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
الأخ الكريم الأُستاذ محمّد منصور المحترم.
تحيَّة طيِّبة..
اتَّفقنا على تركيز البحث حول وجود الإمام الثاني عشر محمّد بن الحسن العسكري، والأدلَّة التي تتوفَّر على إثبات وجوده تنقسم إلى عقليَّة اعتباريَّة فلسفيَّة كما يُطلِقون عليها، وأدلَّة نقليَّة روائيَّة، وأدلَّة تاريخيَّة، وغيرها كالمعاجز والإجماع.
أنا لم أُسمِّ الدليل العقلي بالعقلي وإنَّما سمَّاه به المتكلِّمون، وهم قالوا: إنَّه دليل عقلي غير محض؛ لاشتماله على مقدَّمات نظريَّة، وقد نقلت لك قول الصدوق.
الدليل العقلي المحض الذي يثبت لعامَّة العقلاء بغضِّ النظر عن دينهم أو مذهبهم، وهذا الدليل المسمَّى بالعقلي لا يثبت حتَّى للشيعة الإماميَّة الذين لا يؤمنون بقانون الوراثة العمودي كالفطحيَّة، وبالتالي فهو في حقيقته ليس دليلاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢١٧) وسائل الشيعة (ج ١٨/ ص ٤١/ باب ٧/ ح ٥١).
(٢١٨) معاني الأخبار (ص ٢/ باب معنى الاسم/ ح ٣).
↑صفحة ١٨٠↑
عقليًّا ما عدا المقدَّمة الأُولى التي ينسونها أثناء البحث وهي ضرورة وجود الإمام في الأرض وعدم خلو الأرض من إمام أي حاكم يُنظِّم أُمور الحياة ثمّ يضيفون إليه شرطاً آخر وهو ضرورة أنْ يكون الإمام معصوماً بناءً على مقدَّمات نقليَّة ويتسلسلون حتَّى يصلوا إلى إثبات وفاة الإمام العسكري ونفي القول بعودته إلى الحياة مرَّةً أُخرى وأنْ تكون الإمامة مستمرَّة إلى يوم القيامة وأنَّها لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين. وهذه مقدَّمة نقليَّة، فيكون المجموع دليلاً عقليًّا ولكنَّه غير محض.
يقول السيِّد المرتضى علم الهدى في كتاب رسالة في الغيبة (ص ٢ و٣): إنَّ العقل يقتضي بوجوب الرياسة في كلِّ زمانٍ، وأنَّ الرئيس لا بدَّ أنْ يكون معصوماً... وإذا ثبت هذان الأصلان فلا بدَّ من القول إنَّه صاحب الزمان بعينه. ولأنَّ هذا الدليل غير عقلي محض فإنَّه يصعب إقناع الآخرين به إلَّا إذا سلَّموا بجميع المقدَّمات النقليَّة. يقول السيِّد المرتضى في المصدر السابق (ص ٢): إنَّ الغيبة فرع لأُصول إنْ صحَّت فالكلام في الغيبة أسهل شيء وأوضحه، إذ هي متوقِّفة عليها، وإنْ كانت غير صحيحة فالكلام في الغيبة صعب غير ممكن.
وهذا ما يُؤكِّد عدم وجود دليل عقلي محض على ولادة ووجود ابن للإمام العسكري. ورفض الشيخ ناصر مكارم الشيرازي اتِّخاذ العقل طريقاً لإثبات وجود إنسان في الخارج.
وبدلاً من أنْ تجرَّ البحث إلى موضوع الإمامة المفصَّل، أرجو أنْ تُبيِّن رأيك: كيف تؤمن بوجود الإمام الثاني عشر؟ بالأدلَّة الفلسفيَّة العقليَّة الاعتباريَّة الاجتهاديَّة الظنّيَّة؟ أم بالأدلَّة الروائيَّة؟ أم بالدليل التاريخي؟ وهل درست الروايات التي تتحدَّث عن ولادته ومشاهدته؟ وما هو رأيك بها؟
* * *
↑صفحة ١٩٠↑
حُرِّر بتاريخ (١٩/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٩:١٦) مساءً.
محمّد منصور عضو:
إلى الكاتب..
تعقيباً على ردِّك، إليك هذه النقاط التالية:
١ - أنَّ الأدلَّة العقليَّة الفلسفيَّة تغاير الأدلَّة الاعتباريَّة مغايرة شاسعة، بل إنَّ الأدلَّة النقليَّة القطعيَّة في المعارف الاعتقاديَّة أيضاً لا تشمل أدلَّة اعتباريَّة، والحاصل أنَّ بين العلوم الحقيقيَّة والعلوم الاعتباريَّة بوناً شاسعاً يعرفه أهل التخصُّص في العلوم الإسلاميَّة، وإذا كنت لا تُميِّز بين الأمرين فكيف تخوض فيهما؟
٢ - لا يوجد متكلِّم من متكلِّمي المسلمين يُسمِّي الدليل العقلي لاشتماله على مقدَّمات نظريَّة أنَّه دليل عقلي غير محض، بل يسمُّونه دليلاً عقليًّا نظريًّا، وأمَّا تعريف الدليل العقلي غير المحض فهو الدليل الذي يتركَّب من مقدَّمات نقليَّة وعقليَّة، فلا أرى إلَّا وقد دخلت معك في شرح ألف باء علم الكلام.
٣ - ضرورة وجود إمام في الأرض وعدم خلو الأرض من إمام، كقضيَّة يحكم بها كلٌّ من العقل النظري والعقل العملي لا تغاير ضرورة عصمة الإمام، والضرورة الثانية ليس الدليل عليها النقل فقط بل العقل المحض أيضاً، وقد قال بضرورة العصمة أفلاطون - لاحظ كتاب (أفلاطون في الإسلام) مع تعليق الدكتور عبد الرحمن بدوي - وسقراط وأرسطو في كُتُبهم في المدينة الفاضلة والسياسة، وقال به ابن سينا في كتاب (الشفاء) آخر كتاب الإلهيَّات وقبله الفارابي في كتاب (المدينة الفاضلة)، وهذه القضيَّة العقليَّة التي يحكم به العقل مستقلّاً عن الاستعانة بمقدَّمات نقليَّة دليل عقلي محض غير مركَّب من دليل من سنخ آخر، وهذه القضيَّة كما قد نبَّهتك من قبل بمفردها كفيلة في إثبات ضرورة وجود إمام
↑صفحة ١٩١↑
حيّ معاصر لنا وامتناع خلو الأرض من إمام ما حجَّة للذات الإلهيَّة على خلقه، نعم هذا الدليل بمفرده يتكفَّل تشخيص اسم ونسب هذا الإمام، لا أنَّه يتكفَّل إثبات وجوده فعلاً في العصر الحاضر وفي كلِّ الأعصار، وهذا ما يريده ويعنيه الشيخ ناصر مكارم، وقد أوضحت ذلك لك من قبل إنْ كنت تتذوَّق المباحث التخصُّصيَّة.
وأمَّا تشخيص اسم ونسب ذلك الإمام، فلا بدَّ من دليل آخر إمَّا عقلي كالمعجزة أو نقلي. فتارةً الدليل يضطرُّك إلى الإذعان على نحو التفصيل بأنَّ صاحب الاسم والنسب المعيَّن هو الحجَّة لله تعالى في أرضه في هذا العصر.
وهذا ما أراده وقال به السيِّد المرتضى في السطرين الأوَّلين اللذين ذكرتهما أنت عنه.
٤ - دعواك أنَّ صعوبة إقناع الآخرين بذلك الدليل العقلي يعني أنَّه غير عقلي محض، دعوى لا صحَّة لها، إذ مدار العقلي المحض ليس على سهولة أو صعوبة قناعة الآخرين، وأمَّا اشتمال دليل عقلي على مقدَّمات نقليَّة فيما إذا كان دليلاً عقليًّا مركَّباً غير محض فلا يستلزم صعوبة إقناع الآخرين، إذا افترض أنَّ تلك المقدَّمات النقليَّة هي من طُرُق الآخرين المسلَّم بها عندهم.
٥ - أمَّا الإيمان بوجود الإمام الثاني عشر فكما استشهدت أنت بكلام السيِّد المرتضى أنَّ غيبته ونسبه واسمه فرع أصل بحث الإمامة الإلهيَّة، وكما ذكرت ونبَّهتك على ذلك من قبل، وأنت بنفسك تُشكِّك في مقالاتك على الإماميَّة بأنَّ النقش فرع ثبوت العرش، فكيف لا تلتزم أنت بنفسك وتبصر بأنَّ البحث في وجوده فرع البحث في حقيقة الإمامة الإلهيَّة وثبوتها، هذا إذا أردت بحثاً علميًّا وتطلب الحقيقة، وأمَّا إذا كان القصد التطبيل والزعاق، فذلك شأن آخر.
ثمّ إنَّك لا تفتأ تُسمِّي الأدلَّة الفلسفيَّة العقليَّة بالأدلَّة الاعتباريَّة الاجتهاديَّة
↑صفحة ١٩٢↑
الظنّيَّة، ولعمري إنَّ المبتدئ من طلبة العلوم الدِّينيَّة الإسلاميَّة يُميِّز بين السنخين والقسمين من الأدلَّة وافتراق العلوم الاعتباريَّة القانونيَّة ونحوها عن العلوم الحقيقيَّة، وأمَّا الأدلَّة على الإمامة الإلهيَّة وعلى وجوده فتنقسم إلى أقسام، وكذلك حال طوائف الروايات النقليَّة من الفريقين، ومن الخاصَّة، ولا أراك إلَّا وخضت في الفرع ثمّ تعاود بالإشكال على أدلَّته بعدم التسليم بالأصل، فحري بك ابتداء البحث وفق التسلسل العلمي، وهيَّا بك إلى الجادَّة المستقيمة، ولا تزغ.
* * *
كلمة الشيخ الآصفي:
حُرِّر بتاريخ (١٨/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٢:٣٤) صباحاً.
(جميل ٥٠) عضو:
كلمة سماحة العلَّامة الآصفي التي ألقاها في مؤتمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فبدأ الكلام بقوله تعالى:
﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: ١٠٥).
بين يدينا ثلاث قضايا، يتلو بعضها بعضاً.
القضيَّة الأُولى:
الانقلاب الكوني الشامل الذي يشير إليه القرآن في أكثر من موقع:
يقول تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾ (النور: ٥٥).
ويقول تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ (القَصص: ٥ و٦).
↑صفحة ١٩٣↑
ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: ١٠٥).
ويتمُّ هذا الانقلاب عندما يتحكَّم المستكبرون في حياة الناس، ويستضعفون عباد الله ويسلبون الناس قِيَمهم وعقولهم وضمائرهم، ويشيعون الفساد في حياتهم، وتصل البشريَّة إلى طريق مسدود، عندئذٍ تتدخَّل الإرادة الإلهيَّة، وتُحوِّل القوَّة والسلطان من أيدي الظالمين المستكبرين إلى أيدي الصالحين المستضعفين.
وقد تكرَّر هذا الانقلاب في التاريخ، ومن ذلك ما حدث في تاريخ بني إسرائيل عندما استكبر فرعون وأفسد في الأرض.
يقول تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القَصص: ٤).
وهذه هي الحتميَّة الأُولى، وهي انقلاب القوَّة من المستكبرين الظالمين إلى المستضعفين الصالحين، وهو انقلاب شامل في القِيَم والمواقع والقوَّة والسيادة، وهي سُنَّة من سُنَن الله الحتميَّة.
القضيَّة الثانية:
إنَّ الذي يقود هذا الانقلاب الكوني الشامل، هو المهدي من ذرّيَّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقد وردت في ذلك روايات صحيحة بلغت حدَّ التواتر.
وهذه هي القضيَّة الثانية التي يُقرِّرها الحديث النبوي، ويتَّفق عليها المسلمون، كما كانت القضيَّة الأُولى حكم القرآن الشريف، وليس في هذا شكٌّ ولا ذاك.
وقد بلغت أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه) حدًّا لا مكان للتشكيك فيه.
↑صفحة ١٩٤↑
القضيَّة الثالثة:
إنَّ المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) - الذي أخبر عنه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - هو محمّد بن الحسن العسكري بن عليٍّ الهادي (عليهم السلام)، وُلِدَ سنة (٢٥٥هـ) بسامرَّاء، ثمّ غيَّبه الله تعالى، وهو الذي يُرسِله الله حيث يشاء لإنقاذ الناس من الظلم، وإزالة الشرك من على وجه الأرض، وتقرير التوحيد وعبوديَّة الإنسان له، وتحكيم شريعة الله وحدوده في حياة الناس. وهو الذي يقود هذا الانقلاب الكوني الشامل الواسع، في انتقال القوَّة من الطبقة المترفة المستكبرة الفاسدة إلى الطبقة الصالحة المستضعفة: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القَصص: ٥).
وقد تواترت الرواية عن أهل البيت (عليهم السلام) بأنَّ المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) الذي بشَّر به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو ابن الحسن العسكري، والثاني عشر من أهل البيت (عليهم السلام).
وحديثنا اليوم يتركَّز حول هذه النقطة بالذات.
ومخاطبنا في هذا البحث أُولئك الذين يؤمنون بحجّيَّة حديث أهل البيت (عليهم السلام)، ويبحثون عن أدلَّة كافية وواضحة وصريحة في الإثبات العلمي لما يدَّعيه الإماميَّة من تعيين وتشخيص المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه).
فإنَّ الاختلاف بين الشيعة الإماميَّة (الاثني عشريَّة) وبين سائر الفِرَق الإسلاميَّة ليس في أصل قضيَّة (المهدويَّة). فإنَّ المسلمين مجمعون - إلَّا من شذَّ منهم - في الإيمان بأنَّ الله تعالى قد ادَّخر المهدي (عجَّل الله فرجه) من أهل بيت الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لإنقاذ البشريَّة وللانقلاب الكوني الكبير في حياة الناس... ليس في ذلك شكٌّ، والروايات النبويَّة في ذلك صحيحة ومتواترة، وإنَّما الخلاف بين الشيعة الإماميَّة (الاثني عشرية) وغيرهم من المسلمين في التشخيص والتعيين فقط.
فإنَّ الشيعة الإماميَّة (الاثني عشريَّة) يذهبون قولاً واحداً إلى أنَّ الإمام
↑صفحة ١٩٥↑
المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) هو محمّد بن الحسن العسكري بن عليٍّ الهادي المولود سنة (٢٥٥هـ)، وقد غيَّبه الله تعالى لحكمة يعرفها، وهو الذي ادَّخره الله تعالى لنجاة البشريَّة، وبشَّر به الأنبياء والكُتُب الإلهيَّة من قبل، بينما يذهب الآخرون إلى أنَّ المهدي الذي بشَّر به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يُولَد بعد، أو وُلِدَ في عهد قريب.
والأدلَّة التي نستدلُّ بها على إثبات عقيدة الإماميَّة (الاثني عشريَّة) في تشخيص وتعيين الإمام المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) على طائفتين:
الطائفة الأُولى: هي الروايات العامَّة التي لا تخصُّ الإمام (عجَّل الله فرجه) إلَّا أنَّها تنطبق بصورة قهريَّة على عقيدة الإماميَّة في المهدي (عجَّل الله فرجه)، ولا نعرف توجيهاً ولا تفسيراً لها إذا أسقطنا من حسابنا عقيدة الإماميَّة في هذا الموضوع، وهذه الروايات صحيحة بالتأكيد، وبعضها بالغ حدَّ التواتر في المصادر الإماميَّة من ناحية رجال السند في مختلف طبقاته، ولا مجال للمناقشة فيها من حيث الإسناد. والإيمان بصحَّة هذه الأحاديث يُؤدِّي إلى الإثبات العلمي والقطعي لعقيدة الإماميَّة في تشخيص وتعيين الإمام المنتظر (عجَّل الله فرجه)، وذلك بسبب تطابقها أوَّلاً مع ما هو المعروف عند الإماميَّة - كما سوف نرى ذلك إنْ شاء الله - ولانتفاء حالة أُخرى تصلح أنْ تكون مصداقاً وتفسيراً لهذه الأحاديث ثانياً.
ونتيجة هاتين النقطتين (المطابقة والانحصار)، هي التطبيق القهري والحتمي لهذه الأحاديث على عقيدة الإماميَّة في تشخيص الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
١ - حديث الثقلين:
وأوَّل حديث نعتمده في هذا المجال حديث الثقلين، الذي صحَّ واستفاضت وتواترت روايته عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأجمع على تصحيحه المحدِّثون من كلِّ الفِرَق الإسلاميَّة، وليس من علماء المسلمين ممَّن يحترم علمه يشكُّ في صحَّة هذا الحديث وصدوره عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
↑صفحة ١٩٦↑
ويكفي أنْ يكون من رواة هذا الحديث مسلم في الصحيح، والترمذي والدارمي في السُّنَن، وأحمد بن حنبل في مواضع عديدة وكثيرة من المسند، والنسائي في الخصائص، والحاكم في المستدرك، وأبو داود وابن ماجة في السُّنَن، وغيرهم ممَّا لا يمكن إحصاؤهم في هذا المقال... وطُرُقه في كُتُب الإماميَّة أكثر من أنْ تُحصى في هذه الوجيزة(٢١٩).
ولفظ الحديث، كما في أغلب هذه المصادر: «أيُّها الناس إنَّما أنا بشر أوشك أنْ أُدعى فأُجيب، وإنِّي تارك فيكم الثقلين، وهما كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض؛ فلا تسبقوهم فتهلكوا، ولا تُعلِّموهم فإنَّهم أعلم منكم».
والحديث صريح في:
١ - أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يترك من بعده خليفتين هما القرآن وأهل بيته لهداية الأُمَّة.
٢ - وأنَّهما باقيان لن يفترقا عن بعض إلى يوم القيامة.
٣ - والتمسُّك بهما معاً يعصم الأُمَّة من الضلال.
وإذا ضممنا النقطة الأُولى: «إنِّي تارك فيكم الثقلين» إلى النقطة الثانية: «وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض»، استنتجنا أصلاً هامًّا وهو وجود حجَّة وإمام من أهل البيت (عليهم السلام) في كلِّ زمانٍ، لا يفترق عن كتاب الله قطُّ.
يقول ابن حجر في (الصواعق): (وفي أحاديث الحثِّ على التمسُّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهِّل منهم للتمسُّك إلى يوم القيامة، كما أنَّ الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض، كما يأتي، ويشهد لذلك الخبر السابق: «في كلِّ خلف من أُمَّتي عدول من أهل بيتي»)(٢٢٠).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢١٩) ومن أراد التفصيل فليرجع إلى العبقات، وإحقاق الحقِّ وملاحقه، والغدير للأميني، وكُتُب السيِّد شرف الدين (رضي الله عنه) وغيرها من الكُتُب التي تُثبِت ذلك.
(٢٢٠) الصواعق المحرقة (ص ١٤٩/ دار المحمّديَّة بمصر).
↑صفحة ١٩٧↑
ولا شكَّ في دلالة الحديث على بقاء حجَّة من أهل البيت إماماً للناس...
وليس لهذا الحديث تفسير أو تطبيق غير ما يعتقده الإماميَّة من وجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وحياته وبقائه وعصمته وإمامته على المسلمين.
وإذا أسقطنا هذا الأمر عن الاعتبار، لم نجد تطبيقاً وتفسيراً له قطُّ في هذه القرون من حياة المسلمين. فليس في المسلمين اليوم، ولا قبل اليوم من يدَّعي أنَّه أعلم الناس، وأنَّ على الناس أنْ يتَّبعوه ولا يتقدَّموه، وأنْ يتعلَّموا منه ولا يُعلِّموه، كما في نصِّ الحديث الشريف الذي لا يختلف فيه من يعبأ بقوله ورأيه من علماء المسلمين.
وإذا قيل: فما نفع إمام غائب عن الناس للناس؟
نقول: إنَّ الله تعالى لم يُطلِعنا من أسرار غيبه إلَّا على القليل، وما أخفى الله من علمه عنَّا كثير، وما عرفنا منه قليل. وقد أخبرنا الصادق الأمين (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ببقاء حجَّة من أهل بيته في الناس على وجه الأرض إلى يوم القيامة؛ فنتعبَّد بحديثه، ونحيل علم ما لا نعلم إلى من يعلم... وليس كلُّ ما في شريعة الله مفهوماً معروفاً لنا، وما يخفى علينا من أسرار دين الله أكثر ممَّا نعلم بأضعاف مضاعفة.
٢ - حديث من مات ولم يعرف إمام زمانه:
رواه مسلم في الصحيح في كتاب الإمارة، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن (ج ٦/ ص ٢٢)، ولفظ الحديث: عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليَّة».
وروى البخاري في الصحيح عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهليَّة». (صحيح البخاري، كتاب الفتن، الباب الثاني).
ورواه أحمد في المسند عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولفظ الحديث: «من مات وليس عليه طاعة مات ميتة جاهليَّة». (مسند أحمد: ج ٣/ ص ٤١٦).
↑صفحة ١٩٨↑
ورواه الطيالسي في المسند (ص ٢٥٩/ ط حيدر آباد) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «من مات بغير إمام مات ميتة جاهليَّة».
ورواه الحاكم في (المستدرك)، ولفظ الحديث: «من مات وليس عليه إمام جماعة فإنَّ موتته جاهلية»، وصحَّحه الحاكم على شرط الشيخين البخاري ومسلم.
ورواه الذهبي في تلخيص المستدرك (ج ١/ ص ٧٧)، وصحَّحه على شرط الشيخين رغم تشدُّد الذهبي في تصحيح أحاديث (المستدرك).
ورواه الهيثمي في (مجمع الزوائد) بأسانيد كثيرة وألفاظ عديدة (ج ٥/ ص ٢١٨ - ٢٢٥).
وطُرُق الحديث وألفاظه كثيرة تبلغ حدَّ الاستفاضة. وقد علمنا أنَّ بعضها صحيح كما شهد به الذهبي.
وروى الحديث ثقات المحدِّثين من أصحابنا الإماميَّة، وطُرُقهم إليه كثيرة وطائفة منها صحيحة، وهي في الجملة قريبة من التواتر، وقد عقد المجلسي (رحمه الله) له باباً في (بحار الأنوار)، روى فيه أربعين حديثاً في هذا المعنى بألفاظ متقاربة. (بحار الأنوار: الجزء ٢٣/ ص ٧٦ - ٩٣) تحت عنوان: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليَّة). ونذكر مثالاً طريقين:
الطريق الأوَّل:
رواية البرقي في المحاسن بسند معتبر عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): «إنَّ الأرض لا تصلح إلَّا بإمام. ومن مات ولم يعرف إمامه مات ميتة جاهليَّة»(٢٢١). (المحاسن للبرقي: ص ١٥٣ و١٥٤، بحار الأنوار: ج ٢٣/ ص ٧٦). والسند معتبر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٢١) رجال السند كلُّهم ثقات. والسند يبدأ بالبرقي، (عن ابن فضَّال) وهو ثقة، عن (حمَّاد بن عثمان) وهو ثقة كذلك، عن أبي اليسع عيسى بن السري، وهو ثقة من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام).
↑صفحة ١٩٩↑
الطريق الثاني:
روى الكشِّي في (الرجال ص ٢٦٦ و٢٦٧): عن ابن أحمد، عن صفوان، عن أبي اليسع، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) حدِّثني عن دعائم الإسلام، فقال: «شهادة أنْ لا إله إلَّا الله...» إلى أنْ قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «من مات ولا يعرف إمام زمانه، مات ميتة جاهليَّة»(٢٢٢).
ورجال السند كلُّهم ثقات.
ولسنا نحتاج إلى توثيق السند في أمثال هذه الروايات التي تظافرت روايتها عن الطريقين(٢٢٣)، والروايات واضحة الدلالات صحيحة السند، وهي تدلُّ على الحقائق التالية:
١ - أنَّ الأرض لا تصلح إلَّا بإمام.
٢ - ولا بدَّ في كلِّ زمانٍ أنْ يعرف الإنسان إمام زمانه.
٣ - ولا بدَّ من طاعة الإمام لكلِّ أحد في كلِّ زمانٍ، ولا يجوز لأحد أنْ يخرج عن طاعة إمام زمانه.
٤ - ومن يَمُتْ وليس عليه إمام يَمُتْ ميتة جاهليَّة.
٥ - ومن يَمُتْ وليس في عنقه بيعة لإمام يَمُتْ ميتة جاهليَّة.
وهذه الحقائق تُثبِت جميعاً أنَّ سُنَّة الله تعالى قد اقتضت وجود إمام عدل في كلِّ زمانٍ، قد فرض الله طاعته على الناس، ولم يأذن بالخروج عن طاعته؛ فهي حكم شرعي يستبطن تقريراً لسُنَّة إلهيَّة. أمَّا الحكم فهو وجوب طاعة الإمام في كلِّ زمان، وأمَّا السُّنَّة الإلهية التي يستبطنها هذا الحكم؛ فهو وجود إمام في كلِّ زمانٍ، وإلَّا فكيف يطلب الله تعالى من الإنسان أنْ لا يموت إلَّا وهو في طاعة إمام زمانه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٢٢) بحار الأنوار (ج ٢٣/ ص ٩٠)، ورجال الكشي (ص ٢٦٦ و٢٦٧).
(٢٢٣) فهي مستفيضة إنْ لم نقل: متواترة.
↑صفحة ٢٠٠↑
وعلى عهدته البيعة له، غير ناقض ولا ناكث لها، وغير جاهل به؛ فإذا خرج عن الطاعة أو نكث البيعة أو جهل به مات ميتة جاهليَّة، بهذه الدرجة من التغليظ والتشديد في الجزاء والعقوبة.
ومن نافلة القول أنْ نقول: إنَّ الحُكَّام الظلمة وأئمَّة الكفر والذين يحاربون الله ورسوله لا يكونون مصداقاً للإمام الذي يفرض الله على الناس معرفته وطاعته في كلِّ زمانٍ، وقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ (هود: ١١٣)، ﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ (الشعراء: ١٥١ و١٥٢)، و﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾ (النساء: ٦٠).
وبعد هذا الإيضاح نقول: إنَّ التفسير الوحيد لهذه الروايات هو ما تعرفه الإماميَّة وتعتقد به من استمرار الإمامة في أهل البيت (عليهم السلام)، منذ وفاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام). وأيُّ فرض آخر لا يستطيع أنْ يُقدِّم تفسيراً معقولاً لهذه الروايات، إلَّا أنْ نقول بوجوب الطاعة لكلِّ برٍّ وفاجر، كما يقول به بعض الناس.
ولسنا نعتقد أنَّ الطاعة التي تساوي الإسلام، ويساوي خلافها الجاهليَّة هي طاعة هؤلاء الذين أمرنا الله تعالى بعدم الركون إليهم والكفر بهم.
٣ - حديث أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة:
روى هذا الحديث من أصحابنا الإماميَّة محدِّثون ثقات، مثل المحمّدين الثلاثة الكليني، الصدوق، وأبي جعفر الطوسي (رحمهم الله) بطُرُق كثيرة تبلغ حدَّ التواتر في مختلف طبقات إسناده، وقد عقد له الكليني محمّد بن يعقوب في كتاب الحجَّة من الكافي باباً بهذا العنوان (ج ١/ ص ١٧٨).
كما عقد العلَّامة المجلسي في (بحار الأنوار) باباً بعنوان (الاضطرار إلى الحجَّة، وأنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة)، وهو الباب الأوَّل من المجلَّد السابع من
↑صفحة ٢٠١↑
الكتاب ذكر فيه (١١٨) حديثاً بهذا المضمون، وفيما يلي نذكر نماذج من هذه الروايات:
ذكر الكليني في (الكافي، كتاب الحجَّة، باب أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة): عن عدَّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن عمير، عن الحسين بن أبي العلاء، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تكون الأرض ليس فيها إمام؟ قال: «لا». قلت: يكون إمامان؟ قال: «إلَّا وأحدهما صامت». (أُصول الكافي: ج ١/ ص ١٧٨). والسند تامٌّ لا يتطرَّق إليه الشكُّ.
وروى الكليني عن عليِّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمّد بن أبي عمير، عن منصور بن يونس وسعدان بن مسلم، عن إسحاق بن عمَّار، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال سمعته يقول: «إنَّ الأرض لا تخلو إلاَّ وفيها إمام»(٢٢٤). (الكافي: ج ١/ ص ١٧٨). والسند تامٌّ، والرواية معتبرة كذلك.
وروى الكليني عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن عليِّ بن الحَكَم، عن ربيع بن محمّد المسلِّي، عن عبد الله بن سليمان العامري، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «ما زالت الأرض إلَّا ولله فيها الحجَّة». (الكافي: ج ١/ ص ١٧٨). والسند تامٌّ، والرواية معتبرة أيضاً، ورواة الحديث ثقات(٢٢٥).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٢٤) والرواية معتبرة من حيث السند ورواتها كلُّهم ثقات، وأمَّا إبراهيم بن هاشم والد عليِّ بن إبراهيم، فقد رجَّح العلَّامة في (الخلاصة) الأخذ بروايته، وأكثر ابنه عليُّ بن إبراهيم من الرواية عنه في التفسير، وقد التزم في مقدَّمة التفسير بالرواية عن الثقات فقط، وصرَّح ابن طاوس عند ذكر رواية من أمالي الصدوق في سندها إبراهيم بن هاشم بأنَّ رواة الحديث ثقات بالاتِّفاق، وهو أوَّل من نشر حديث الكوفيِّين في قم، وتلقَّوه عنه بالقبول، رغم اشتهار القمّيِّين بالتشدُّد في قبول الحديث، ولا يتردَّد فقهاؤنا في الأخذ برواياته، يقول السيِّد الخوئي (رحمه الله): (لا ينبغي الشكُّ في وثاقة إبراهيم بن هاشم).
(٢٢٥) أمَّا عليُّ بن الحَكَم، فقد وثَّقه فقهاؤنا لوقوعه في إسناد كتاب التفسير لعليِّ بن إبراهيم القمِّي.
↑صفحة ٢٠٢↑
وروى الكليني عن عليِّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس بن مسكان، عن أبي بصير، عن أحدهما (عليهما السلام)، قال: قال: «إنَّ الله لم يدع الأرض بغير عالم». (الكافي: ج ١/ ص ١٧٨). والسند تامٌّ، والرواية معتبرة كذلك.
وروى الكليني عن الحسين بن محمّد، عن معلَّى بن محمّد، عن الوشَّاء، قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام): هل تبقى الأرض بغير إمام؟ قال: «لا». قلت: إنَّا نروي أنَّها لا تبقى إلَّا أنْ يسخط الله (عزَّ وجلَّ) على العباد؟ قال: «لا تبقى، إذاً لساخت»(٢٢٦). (الكافي: ج ١/ ص ١٧٩). والسند تامٌّ، والرواية معتبرة.
وروى الشريف الرضي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في (نهج البلاغة) ما له علاقة بذلك. قال (عليه السلام): «لا تخلو الأرض من قائم لله بحجَّة إمَّا ظاهراً مشهوراً، وإمَّا خائفاً مغموراً، لئلَّا تبطل حُجَج الله وبيِّناته».
هذه طائفة واسعة من الروايات تبلغ حدَّ التواتر، وجملة منها تامَّة من حيث السند، كما أشرنا إلى بعضها من كتاب الكافي، وهي صريحة بأنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة لله ظاهراً أو مغموراً، والحجَّة في كلمات أهل البيت (عليهم السلام) مصطلح معروف لمن يألف كلماتهم (عليهم السلام)، وهذه الأحاديث لا تحتاج إلى تعليق كثير وتأمُّل وتوقُّف، فهي صريحة في ضرورة وجود الإمام في كلِّ زمانٍ، ولا تفسير لهذه الروايات بغير ما تعرفه الشيعة الإماميَّة وتعتقده من وجود الإمام وحياته وغيبته، وإذا أسقطنا هذا الأمر من الاعتبار، فلا نجد تفسيراً لهذه الروايات البتَّة، وهي كثيرة، بالغة حدَّ التواتر.
٤ - حديث الأئمَّة الاثني عشر:
روى البخاري في (الصحيح، كتاب الأحكام) عن جابر بن سمرة، قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٢٦) والسند معتبر تامٌّ، وحسين بن محمّد الأشعري الثقة شيخ الكليني، ومعلَّى بن محمّد هو البصري وروى في تفسير القمِّي فهو ثقة، والوشَّاء هو الحسن بن عليِّ بن زياد، قال البرقي عنه: (لا ينبغي الشكُّ في وثاقته).
↑صفحة ٢٠٣↑
سمعت النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: «يكون اثنا عشر أميراً»، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنَّه قال: «كلُّهم من قريش».
وروى مسلم في (الصحيح، كتاب الإمارة، باب أنَّ الناس تبع لقريش) عن جابر بن سمرة، قال: سمعت النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: «لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً»، ثمّ تكلَّم النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بكلمة خفيت عليَّ، فسألت أبي: ماذا قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ فقال: كلُّهم من قريش(٢٢٧).
وروى مسلم في (الصحيح، كتاب الإمارة، باب أنَّ الناس تبع لقريش) عن جابر بن سمرة يقول: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: «لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة»، ثمّ قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ماذا قال؟ فقال: كلُّهم من قريش(٢٢٨).
وروى أيضاً مسلم في (الصحيح) في نفس الكتاب ونفس الباب عن جابر ابن سمرة، قال: دخلت مع أبي على النبيِّ، فسمعته يقول: «إنَّ هذا الأمر لا ينقضي حتَّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة»، ثمّ تكلَّم بكلام خفي عليَّ، فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلُّهم من قريش(٢٢٩).
وروى الترمذي في (السُّنَن، كتاب الفتن، باب ما جاء في الخلفاء) عن جابر ابن سمرة، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يكون من بعدي اثنا عشر أميراً»، ثمّ عقَّب على ذلك بقوله، قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح(٢٣٠).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٢٧) صحيح مسلم (ج ٦/ ص ٣/ باب أنَّ الناس تبع لقريش/ كتاب الإمارة/ ح ٦/ ط دار الفكر).
(٢٢٨) صحيح مسلم ( ٦/ ص ٣/ باب أنَّ الناس تبع لقريش/ كتاب الإمارة/ ح ٨/ ط دار الفكر).
(٢٢٩) صحيح مسلم (ج ٦/ ص ٣/ باب أنَّ الناس تبع لقريش/ كتاب الإمارة/ ح ٥/ ط دار الفكر).
(٢٣٠) سُنَن الترمذي (ج ٤/ ص ٥٠١/ ط مصطفى البابي الحلبي).
↑صفحة ٢٠٤↑
وروى أبو داود في (السُّنَن) عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لا يزال هذا الدِّين عزيزاً إلى اثني عشر خليفة»، فكبَّر الناس، وضجُّوا، ثمّ قال كلمة خفيت عليَّ، قلت لأبي: يا أبه، ما قال؟ قال: كلُّهم من قريش(٢٣١).
وروى الحاكم في (المستدرك، في كتاب معرفة الصحابة) عن جابر، قال: كنت عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فسمعته يقول: «لا يزال أمر هذه الأُمَّة ظاهراً حتَّى يقوم اثنا عشر خليفة».
وروى أحمد بن حنبل في المسند هذا الحديث عن جابر من أربع وثلاثين طريقاً (ج ٥/ ص ٨٦ و٨٧ و٨٩ و٩٠ و٩٢ و٩٣ و٩٤ و٩٥ و٩٦ و٩٧ و٩٨ و٩٩ و١٠٠ و١١٠ و١٠٦ و١٠٧ و١٠٨).
وروى أبو عوانة هذا الحديث في مسنده (ج ٤/ ص ٣٩٦ و٣٩٨ و٣٩٩)، وابن كثير في البداية والنهاية (ج ٦/ ص ٢٤٨)، والطبراني في المعجم الكبير (ص ٩٤ و٩٧)، والمناوي في كنوز الحقائق (ص ٢٠٨)، والسيوطي في تاريخ الخلفاء (ص ٦١)، والعسقلاني في فتح الباري (ج ١٣/ ص ١٧٩)، والبخاري في التاريخ الكبير (ج ٢/ ص ١٥٨)، والخطيب في تاريخ بغداد (ج ١٤/ ص ٣٥٣)، والعيني في شرح البخاري (ج ٢٤/ ص ٢٨١)، والحافظ الحَسَكاني في شواهد التنزيل (ج ١/ ص ٤٥٥)، والقسطلاني في إرشاد الساري (ج ١٠/ ص ٣٢٨)، وغيرهم من المحدِّثين والحُفَّاظ.
وروى هذا الحديث أصحابنا الإماميَّة بطُرُق كثيرة لا نجد ضرورة في سردها على نحو التفصيل أو الإجمال.
ولدينا مجموعة من النقاط في هذا الحديث:
١ - لا إشكال في أنَّ حديث الاثني عشر خليفة قد صدر عن رسول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٣١) سُنَن أبي داود (ج ٢/ ص ٤٢١/ ط مصطفى البابي الحلبي/ ١٣٧١هـ/ أوَّل كتاب المهدي).
↑صفحة ٢٠٥↑
الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقد رواه الفريقان بطُرُق كثيرة، ويكفي أنَّ البخاري ومسلم من السُّنَّة والكليني والصدوق من الشيعة من رواة هذا الحديث.
٢ - والحديث ظاهر في أنَّ الأُمراء المذكورين في هذه الرواية أُمراء الحقِّ، ليسوا أئمَّة الظلم والجور، من أمثال معاوية ويزيد والوليد والمتوكِّل وأضرابهم.
٣ - وأنَّ عدَّتهم اثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل.
يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً﴾ (المائدة: ١٢).
٤ - ولا يخلو منهم زمان.
ولا نعرف لهذه الأحاديث بمجموعها تطبيقاً قطُّ غير الأئمَّة الاثني عشر المعروفين عند الشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة، وآخرهم المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه)، وهو الإمام الثاني عشر.
ولو رأينا التمحُّل الذي يتمحَّله علماء كبار، من أمثال السيوطي في ترتيب الاثني عشر أميراً بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لاطمأنَّ القلب إلى أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يرد غير الأئمَّة الاثني عشر من أهل بيته الأبرار الطاهرين (عليهم السلام). ولقد أحسن محمود أبو رية في التعليق على التوجيه الذي وجَّه به السيوطي هذه الرواية، فقال عنه: (ورحم الله من قال عن السيوطي: إنَّه حاطب ليل). فلا نعرف تطبيقاً قطُّ ينطبق بالتمام وبدقَّة على هذه الروايات في غير عقيدة الشيعة الإماميَّة، وبضمنها ولادة الإمام (عجَّل الله فرجه) وغيبته. ولو أسقطنا هذا الواقع من الحساب لم يبقَ تفسير لهذه الروايات التي هي من أنباء الغيب التي أخبر عنها وبشَّر بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
هذه أربع طوائف من الروايات، لا يتطرَّق إليها الشكُّ من حيث السند، ولا من حيث الدلالة في معانيها ومضامينها. وتنطبق على ما تعتقده الإماميَّة وتعرفه من إمامة الأئمَّة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) وولادة الإمام الثاني عشر وغيبته وظهوره بعد ذلك انطباقاً تامًّا.
↑صفحة ٢٠٦↑
وينحصر الانطباق عليهم، فلا نعرف لهذه الروايات تطبيقاً آخر في تاريخنا المعاصر والقديم غيرهم. فلم يدَّعِ غيرهم لنفسه العصمة، ولم يقل غيرهم: إنَّه حجَّة الله على الخلق، وإمام، طاعته هدى ودين، ومخالفته ضلال وجاهليَّة، ولم يدَّعِ غيرهم أنَّهم هم المقصودون بالأئمَّة الاثني عشر، وأنَّهم هم الثقل الآخر المقارن للقرآن، المذكور في حديث الثقلين.
وهذا المعنى بالضرورة يُؤدِّي إلى الانطباق القهري لهذه الروايات عليهم (عليهم السلام).
وفيما يلي توضيح لهذا الاستدلال:
١ - يقول أهل البيت (عليهم السلام): إنَّهم هم حُجَج الله تعالى على خلقه المنصوص عليهم من جانب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإنَّهم هم الثقل الأصغر الذي قرنه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالقرآن، وإنَّهم هم الأئمَّة الاثنا عشر الذين أخبر عنهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وطاعتهم من طاعة الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومخالفتهم جاهليَّة وضلال، وهم حلقات متَّصلة من وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى أنْ تقوم الساعة، لم تخلُ منهم الأرض ولم يخلُ منهم زمان، كما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
٢ - ولم يحص عليهم أحد تناقضاً ومخالفةً في القول والعمل، ولم ينقصهم أحد ممَّن يعبأ بقوله ولم يتجرَّأ أحد على النيل منهم من علماء المسلمين... وهؤلاء الأبرار لم يكونوا في زوايا الإهمال والنسيان، وإنَّما كانوا يعيشون في حواضر المسلمين وفي أوساطهم، وقد تلقَّى عنهم كبار فقهاء المسلمين العلم والفقه.
٣ - ولا نعرف في تاريخ المسلمين من يدَّعي لنفسه هذه الادِّعاءات من العصمة والحجّيَّة وإمامة الدِّين والدنيا وأنَّه لا يخلو منهم زمان ولا تخلو الأرض من حجَّة منهم، وأنَّه من الأئمَّة الاثني عشر الذي بشَّر وأخبر عنهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)... لا نعرف أحداً يقول هذه المقالة غيرهم.
↑صفحة ٢٠٧↑
هذه النقاط الثلاث إذا ضممناها إلى الطوائف الأربع من الروايات المتقدِّمة أنتجت بالضرورة الإثبات اليقيني العلمي لمذهب أهل البيت (عليهم السلام).
ونُقرِّب ذلك بمثال قضائي يعرفه القضاة: لو أنَّ أحداً عثر على مال في دار معيَّنة لا يدخلها غير نفر معدود، ولا يدخلها غيرهم، فادَّعاه أحدهم، لا يعرف الناس له تناقضاً أو كذباً أو خيانةً في القول والعمل، ولم يدَّعِه غيره ممَّن يتردَّد على هذه الدار من هؤلاء النفر المعدود، فبالضرورة يحكم القاضي بعائديَّة المال إلى المدَّعي مع عدم وجود ادِّعاء معارض، ومع انتفاء أمارات الكذب عن المدَّعي، وليس يحتاج إلى بيِّنة أو يمين أو وسيلة أُخرى من وسائل الإثبات القضائي بالضرورة.
وواقع أهل البيت (عليهم السلام) في التاريخ الإسلامي بالقياس إلى الأخبار الصحيحة التي أخبر عنها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، يشبه إلى حدٍّ ما هذا المثال القضائي. ولذلك قلنا: إنَّ انطباق هذه الروايات على الأئمَّة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام)، ومنهم الإمام الثاني عشر الغائب المنتظر، انطباق قطعي وضروري، ولا يحتاج إلى جهد علمي بقدر ما يحتاج إلى رؤية صافية غير مثقلة بالشكوك والأهواء والعصبيَّات أعاذنا الله منها.
الطائفة الثانية:
الروايات التي تخصُّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهي في الغالب واردة عن أهل البيت (عليهم السلام). وقد علمنا أنَّ مخاطبنا في هذا البحث هم الذين يعتقدون بحجّيَّة حديث أهل البيت (عليهم السلام)، ويعتقدون أنَّ حديث أهل البيت هو امتداد ورواية لحديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وسوف نستعرض إنْ شاء الله خلال هذه النقطة من البحث طائفة من الروايات الصحيحة الواردة عن طريق أهل البيت (عليهم السلام)، في تشخيص وتعيين الإمام (عجَّل الله فرجه) وولادته وغيبته وظهوره.
↑صفحة ٢٠٨↑
تواتر الروايات:
وأوَّل ما نستند إليه في هذه الروايات، هو تواتر الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، في أنَّ المهدي (عجَّل الله فرجه) هو الثاني عشر من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، والتاسع من ذرّيَّة الحسين (عليه السلام)، وابن الحسن العسكري بن عليٍّ الهادي (عليهم السلام)، المولود بسامرَّاء سنة (٢٥٥هـ).
وقد روينا هذه الروايات من كُتُب القدماء من أصحابنا مثل الكافي لمحمّد ابن يعقوب الكليني المتوفَّى (٣٢٩هـ)، وغيبة النعماني لتلميذ الكليني، وكامل الزيارات لجعفر بن محمّد بن قولويه المتوفَّى سنة (٣٦٨هـ)، وكمال الدِّين وتمام النعمة، وكتاب الأمالي، وكتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، وعلل الشرائع لأبي جعفر محمّد بن عليٍّ الصدوق بن بابويه القمِّي المتوفَّى سنة (٣٨١هـ)، وكفاية الأثر في النصوص على الأئمَّة الاثني عشر للخزَّاز الرازي القمِّي من تلاميذ الصدوق، وكتاب الإرشاد لأبي عبد الله محمّد بن النعمان المفيد المتوفَّى (٤١٣هـ)، وكتاب الغيبة لأبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (٤٦٠هـ)، ودلائل الإمامة للطبري المعاصر للشيخ الطوسي، وغيرهم من قدماء أصحابنا المعروفين بالدقَّة في الرواية والنقل.
وهذه الروايات تبلغ بالتأكيد حدَّ التواتر في أصحابنا القدماء في جميع طبقات إسنادها، وفي مختلف أدوار المعصومين (عليهم السلام).
وقد جمع طرفاً من هذه الروايات السيِّد صدر الدِّين الصدر في كتابه (المهدي)، والتجليل التبريزي في كتابه، والصافي الكلبايكاني في (منتخب الأثر)، والشيخ عليّ الكوراني في (معجم أحاديث المهدي).
والذي يراجع هذه الأحاديث بأسانيدها لا يشكُّ في تواتر هذه الأحاديث في مختلف طبقات إسنادها ممَّن أسميناهم من المحدِّثين القدماء إلى المعصومين (عليهم السلام).
↑صفحة ٢٠٩↑
وإنْ لم تكن أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه) في كُتُب الشيعة الإماميَّة بالغة حدَّ التواتر، فليس لدينا حديث متواتر في المجاميع الحديثيَّة.
وتعريف التواتر ما يمتنع معه تواطؤ الرواة على انتحال الرواية.
يقول الشهيد (رحمه الله) في الدراية في تعريف التواتر: (هو ما بلغت رواته في الكثرة مبلغاً أحالت العادة تواطؤهم على الكذب، واستمرَّ ذلك في جميع الطبقات).
والتواتر من الطُّرُق القطعية إلى السُّنَّة، وحجيَّته ثابتة بالفعل.
وإذا بلغ الحديث حدَّ التواتر، فمن نافلة القول البحث الروائي عن صحَّة طُرُق الحديث.
والآن ننتقل إلى الحديث عن الروايات الصحيحة الواردة في إمامة وغيبة وظهور الإمام محمّد بن الحسن العسكري بن عليٍّ الهادي (عليهم السلام) من طُرُق أهل البيت (عليهم السلام).
ملاحظة: أعتذر عن إتمام البحث فلم يسعني الوقت لإتمامه، وأرجو أنْ أُوفَّق قريباً لإتمامه إنْ شاء الله(٢٣٢).
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٨/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠١:٢٢) صباحاً.
التلميذ عضو:
نعم إنَّنا نطالب أحمد الكاتب بالردِّ على هذا البحث القيِّم للشيخ الجليل الآصفي (أطال الله في عمره وبارك فيه) إذا كانت له القدرة والاستطاعة لمناقشة هذا البحث والردِّ عليه، ونتمنَّى أنْ يكون ردُّه ردًّا موضوعيًّا لا حشواً للكلام.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٣٢) أمَّا بحثنا في الروايات فهو مستمرٌّ، وسيُثبِت الإخوة المتحاورون ما لم يسع سماحة الشيخ الوقت لإثباته.
↑صفحة ٢١٠↑
مناقشة كلمة الشيخ الآصفي في مؤتمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
حُرِّر بتاريخ (١٨/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٩:٤٥) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
أشكر الأخ جميل على ما تفضَّل به من نقل كلمة الشيخ محمّد مهدي الآصفي في مؤتمر الإمام المهدي، وكنت أنتظر هذه الكلمة منذ زمان لأنِّي تحدَّثت مع الشيخ الآصفي هاتفيًّا عندما زار لندن قبل سنوات وطلبت منه اللقاء والبحث حول موضوع دراستي حول المهدي قبل أنْ أنشرها فرفض اللقاء بشدَّة ووعدني بكتابة ردٍّ عليَّ. وكنت أتمنَّى من عالم جليل مثله أنْ يُرحِّب بصاحب وجهة نظر مخالفة له يقول: إنَّه درس جميع الروايات(٢٣٣) ولديه ملاحظات عليها فيسمعها ثمّ يقوم بنقضها بما لديه من معلومات أو يُرحِّب بنظريَّته إذا عجز عن الردِّ عليها، ولكن الشيخ الآصفي رفض مجرَّد اللقاء والحوار معي.
وعلى أيِّ حالٍ فإنَّ الشيخ الآصفي حاول إثبات وجود الإمام محمّد بن الحسن العسكري من خلال أربعة مداخل تندرج كلُّها تحت إطار الأدلَّة الفلسفيَّة والروائيَّة النقليَّة، ولم يتطرَّق إلى الدليل التاريخي أو دليل المعاجز كما فعل المتكلِّمون المتقدِّمون الذين افترضوا وجود ابن للإمام الحسن العسكري عن طريق الاجتهاد والفلسفة، بعد وقوعهم في أزمة فكريَّة في عصر الحيرة ومحاولتهم للخروج منها بافتراض وجود ولد للإمام العسكري بالرغم من عدم وجود دليل تاريخي قاطع وخلافاً للظاهر من حياة الإمام العسكري نفسه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٣٣) هذا ادِّعاء كاذب منك يا كاتب، وذلك لأنَّ الإخوة سردوا لك عدَّة روايات صحيحة في ولادة المهدي (عجَّل الله فرجه) ولم تردّ عليهم إلى الآن، بل لن تردَّ عليهم أبداً كما سيرى القارئ الكريم بنفسه، فكيف تدَّعي أنَّك درست جميع الروايات، والحال أنَّك لم تعرض إلَّا الضعيف منها، ونسيت أنْ تذكر الصحيح والمعتبر و...؟!
↑صفحة ٢١١↑
حاول الشيخ الآصفي في البداية أنْ يدخل إلى الموضوع من أحاديث المهدي العامَّة والأحاديث الخاصَّة المرويَّة عن أهل البيت بأنَّه الإمام الثاني عشر ابن الإمام العسكري.
وقال: إنَّ الروايات العامَّة لا تخصُّ الإمام إلَّا أنَّها تنطبق بصورة قهريَّة على عقيدة الإماميَّة في المهدي، ولا نعرف توجيهاً ولا تفسيراً لها إذا أسقطنا من حسابنا عقيدة الإماميَّة في الموضوع. وقال: إنَّ الإيمان بهذه الأحاديث يُؤدِّي إلى الإثبات العلمي والقطعي لعقيدة الإماميَّة في تشخيص وتعيين الإمام المنتظر، وذلك بسبب تطابقها أوَّلاً مع ما هو المعروف عند الإماميَّة ولانتفاء حالة أُخرى تصلح أنْ تكون مصداقاً وتفسيراً لها ثانياً، ونتيجة هاتين النقطتين (المطابقة والانحصار) هي التطبيق القهري والحتمي لهذه الأحاديث على عقيدة الإماميَّة في تشخيص الإمام المهدي.
وادَّعى الآصفي التواتر على ذلك وقال: إنَّ الشيعة الإماميَّة يذهبون قولاً واحداً إلى أنَّ الإمام المهدي هو محمّد بن الحسن العسكري المولود سنة (٢٥٥هـ).
ثمّ انتقل الشيخ الآصفي إلى الاستدلال بحديث الثقلين: «إنِّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض» ليستنتج منه أصلاً هامًّا - كما يقول - وهو وجود حجَّة وإمام من أهل البيت في كلِّ زمانٍ ولا يفترق عن كتاب الله قطُّ.
ويقول: ليس لهذا الحديث تفسير أو تطبيق غير ما يعتقده الإماميَّة من وجود الإمام المهدي وحياته وبقائه وعصمته وإمامته على المسلمين. ويُؤكِّد: إذا أسقطنا هذا الأمر عن الاعتبار لم نجد تطبيقاً وتفسيراً له قطُّ في هذه القرون من حياة المسلمين.
↑صفحة ٢١٢↑
ثمّ يتوقَّف الشيخ الآصفي عند هذا السؤال: ما نفع إمام غائب عن الناس للناس؟
ويجيب: إنَّ الله تعالى لم يُطلِعنا من أسرار غيبه إلَّا على القليل وما أخفى الله علمه عنَّا كثير وما عرفنا منه قليل. وقد أخبرنا الصادق الأمين (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ببقاء حجَّة من أهل بيته في الناس على وجه الأرض إلى يوم القيامة فنتعبَّد بحديثه، ونحيل علم ما لا نعلم إلى من يعلم... وليس كلُّ ما في شريعة الله مفهوماً معروفاً لنا، وما يخفى علينا من أسرار دين الله أكثر ممَّا نعلم بأضعاف مضاعفة.
بعد ذلك يقوم الشيخ الآصفي بالاستدلال بحديث: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليَّة»، ليستنتج: أنَّ الأرض لا تصلح إلَّا بإمام، ولا بدَّ في كلِّ زمانٍ أنْ يعرف الإنسان إمام زمانه، ولا بدَّ من طاعة الإمام، وأنَّ من يمتْ وليس عليه إمام مات ميتة جاهليَّة، ويقول: إنَّ هذه الحقائق تُثبِت جميعاً أنَّ سُنَّة الله تعالى اقتضت وجود إمام عادل في كلِّ زمانٍ قد فرض الله طاعته على الناس ولم يأذن بالخروج عن طاعته، ومن نافلة القول: إنَّ الحُكَّام الظلمة وأئمَّة الكفر لا يكونون مصداقاً للإمام الذي يفرض الله طاعته ومعرفته على الناس في كلِّ زمانٍ.
ويقول: إنَّ التفسير الوحيد لهذه الروايات هو ما تعرفه الإماميَّة وتعتقد به من استمرار الإمامة في أهل البيت منذ وفاة رسول الله إلى اليوم وعدم انقطاع الإمامة بوفاة الحسن العسكري، وإنَّ أيَّ فرض آخر لا يستطيع أنْ يُقدِّم تفسيراً معقولاً لهذه الروايات إلَّا أنْ نقول بوجوب الطاعة لكلِّ برٍّ وفاجر.
ثمّ ينتقل الشيخ الآصفي إلى الاستدلال بحديث: أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة، وأنَّ الله لم يدع الأرض بغير عالم، وأنَّ الأرض لا بدَّ لها من إمام، ليستنتج: ضرورة وجود الإمام في كلِّ زمانٍ، ويقول: لا تفسير لهذه الروايات بغير ما تعرفه
↑صفحة ٢١٣↑
الشيعة الإماميَّة وتعتقده من وجود الإمام وحياته وغيبته، وإذا أسقطنا هذا الأمر من الاعتبار فلا نجد تفسيراً لهذه الروايات البتَّة.
وأخيراً يلجأ الشيخ الآصفي إلى أحاديث (الأئمَّة اثنا عشر)، ويقول: لا إشكال في أنَّها صدرت عن رسول الله، فقد رواها الفريقان، وهي ظاهرة في أنَّ الأُمراء المذكورين في الرواية أُمراء الحقِّ وليس أئمَّة الظلم والجور، وإنَّ عدَّتهم اثنا عشر ولا يخلو منهم زمان.
ويُعلِّق: لا نعرف لهذه الأحاديث تطبيقاً غير الأئمَّة الاثني عشر المعروفين عند الشيعة الإماميَّة الاثني عشرية وآخرهم المهدي المنتظر الثاني عشر، إذ لا نعرف تطبيقاً قطُّ ينطبق بالتمام والدقَّة على هذه الروايات غير عقيدة الشيعة الإماميَّة وبضمنها ولادة الإمام وغيبته، وإذا أسقطنا هذا الواقع من الحساب لم يبقَ تفسير لهذه الروايات.
ويقول بعد ذلك: هذه أربع طوائف من الروايات لا يتطرَّق إليها الشكُّ من حيث السند ولا من حيث الدلالة في معانيها ومضامينها، وتنطبق على ما تعتقده الإماميَّة وتعرفه من إمامة الأئمَّة الاثني عشر وولادة الإمام الثاني عشر وغيبته وظهوره انطباقاً تامًّا. وينحصر الانطباق عليهم فلا نعرف لهذه الروايات تطبيقاً آخر في تاريخنا المعاصر والقديم غيرهم، فلم يدَّعِ غيرهم لنفسه العصمة، وهذا ينتج بالضرورة الإثبات اليقيني العلمي لمذهب أهل البيت. ولذلك قلنا: إنَّ انطباق هذه الروايات على الأئمَّة الاثني عشر ومنهم الإمام الثاني عشر الغائب المنتظر انطباق قطعي وضروري.
ثمّ ينتقل الشيخ الآصفي إلى طائفة أُخرى من الروايات الواردة عن أهل البيت والتي تخصُّ الإمام المهدي، ويخاطب الذين يعتقدون بحجّيَّة حديث أهل البيت وأنَّهم امتداد لرسول الله، فيقول: إنَّ الروايات التي تُسمِّي المهدي وأنَّه
↑صفحة ٢١٤↑
الثاني عشر من أئمَّة أهل البيت والتاسع من ذرّيَّة الحسين وابن الإمام العسكري روايات متواترة في جميع طبقات أسنادها، ويقول: إنْ لم تكن أحاديث المهدي في كُتُب الشيعة والسُّنَّة بالغة حدَّ التواتر فليس لدينا حديث متواتر في المجامع الحديثيَّة. ويُعرِّف التواتر بأنَّه ما يمتنع معه تواطؤ الرواة على انتحال الرواية.
وعندما يتنقل الشيخ الآصفي إلى الحديث عن الروايات الواردة حول إمامة وغيبة وظهور الإمام محمّد بن الحسن العسكري يعتذر عن إتمام البحث لعدم اتِّساع الوقت لإتمامه ويرجو أنْ يُوفَّق لإتمامه في المستقبل القريب.
ومع ذلك لم يشر إلى بحث ولادة ووجود محمّد بن الحسن العسكري.
هذه خلاصة لمداخلة الشيخ الآصفي في مؤتمر الإمام المهدي الذي لم أعرف أين عُقِدَ؟ ومتى؟ وكنت أفترض في أيِّ مؤتمر جادٍّ أنْ يدعو أصحاب النظريَّات المتقابلة للحوار، وكنت أتمنَّى أنْ أُشارك في هذا المؤتمر لأنِّي كنت قد وجَّهت دعوة إلى الحوزة العلميَّة في قم قبل سبع سنوات لعقد هكذا مؤتمر لمناقشة نظريَّتي ولم أسمع منها أيَّ جواب، حتَّى إنَّ الشيخ الآصفي لم يشر إلى وجود بحث مضادٍّ يعتمد على أحاديث أهل البيت والتراث الشيعي التاريخي، خوفاً من لفت الانتباه إلى وجود أحمد الكاتب وكتابه، مع أنَّ من المفروض في أيِّ باحث علمي جادٍّ أنْ يدرس مختلف النظريَّات ويُعلِّق عليها ويردَّها، ولا أعتقد أنَّه لم يسمع بكتابي وقد حدَّثته مباشرةً وطلبت منه الردَّ والتعليق.
وعلى رغم أنِّي ناقشت هذين الدليلين في كتابي وفي فصلين خاصَّين، فإنِّي أعتقد أنَّ الشيخ الآصفي لم يستدلّ لهما بصورة جيِّدة، إذ أغفل أهمّ الفقرات التي استند إليها المتكلِّمون السابقون الذين استدلُّوا بهما على فرضيَّة وجود الإمام المهدي.
ادَّعى الشيخ الآصفي وجود تواتر في الرواية عن أهل البيت بأنَّ المهدي
↑صفحة ٢١٥↑
المنتظر هو ابن الحسن العسكري والثاني عشر من أهل البيت. وهو ادِّعاء غير صحيح بالمرَّة، إذ إنَّ فكرة المهدويَّة خلال القرون الثلاثة الأُولى كانت عامَّة وغامضة وغير محدَّدة في أحد من الأئمَّة، ولذلك كان عامَّة الشيعة وخواصِّ الأئمَّة وبعض الأئمَّة أنفسهم يتوقَّعون أنْ يكونوا هم القائمين بالأمر، وقد اعتقد عامَّة الشيعة ما عدا فئة قليلة بأنَّ الإمام الكاظم هو المهدي المنتظر، وقالوا: إنَّه غاب غيبتين الأُولى في السجن والثانية بعد هروبه من السجن، حيث إنَّهم لم يعترفوا بوفاته ودفنه.
وإذا راجعنا الروايات الواردة عن أهل البيت والتي تتناقض مع مهدويَّة الإمام الثاني عشر يتَّضح عدم وجود أيَّة إشارة فضلاً عن وجود إجماع في القرون الأُولى حول مهدويَّة الإمام الثاني عشر. وهذا ما يُؤكِّد على افتراض المهدويَّة للإمام الثاني عشر، واختلاق الروايات بعد حين. فضلاً عن أنَّه لا يجوز نسبة صفة المهدويَّة لرجل لم تثبت ولادته بعد، أو الحديث عن غيبته وظهوره في المستقبل.
قال الشيخ الآصفي: إنَّ الشيعة الإماميَّة يذهبون قولاً واحداً إلى أنَّ الإمام المهدي المنتظر هو محمّد بن الحسن العسكري.
وقد خلط في ذلك بين فِرَق الشيعة الإماميَّة المختلفة كالإسماعيليَّة والواقفيَّة والفطحيَّة والمحمّديَّة الذين قالوا بأئمَّة مهديِّين آخرين، ولم يلاحظ أنَّ شيعة الإمام العسكري أنفسهم انقسموا إلى أربع عشرة فرقة، ومنهم من قال بمهدويَّته وغيبته، ولم يقل بمهدويَّة محمّد بن الحسن العسكري إلَّا فرقة واحدة من عشرات الفِرَق الإماميَّة والشيعيَّة والإسلاميَّة التي قالت بنظريَّات أُخرى عبر التاريخ.
ثمّ حاول الشيخ الآصفي أنْ يجتهد في تطبيق الأحاديث العامَّة التي تتحدَّث عن ظهور مهدي غير محدَّد الهويَّة على الإمام محمّد بن الحسن العسكري،
↑صفحة ٢١٦↑
وقال: إنَّها تنطبق بصورة قهريَّة على عقيدة الإماميَّة في المهدي. وهذا غير صحيح أوَّلاً، وهو ظنٌّ وافتراض ثانياً.
وإذا لم يكن الآصفي يعرف توجيهاً لتلك الأحاديث فكيف يُطبِّقها على إنسان لم تثبت ولادته ولا وجوده بعد؟ فإنَّ ذلك أبعد الفرضيَّات.
وهل يملك هو علماً من الله؟ أو نصًّا صريحاً من القرآن الكريم أو النبيِّ الأعظم حتَّى يقطع أنَّه فلان؟ ولماذا لا يفترض أنَّ الله سوف يخلق إنساناً في المستقبل ويُكلِّفه بهذه المهمَّة؟ إذن فلا مطابقة ولا انحصار ولا حتم ولا قهر في دلالة الأحاديث العامَّة حول المهدي على ابن الحسن العسكري.
كذلك حاول الشيخ الآصفي الاجتهاد في أحاديث أُخرى وعصرها واستخراج معانٍ غير واضحة منها، كحديث الثقلين الذي يقول فيه الرسول الأعظم: إنَّ الكتاب والعترة لن يفترقا حتَّى يردا عليه الحوض. وبالرغم من أنَّنا لا نملك عمليًّا سوى الكتاب مرجعاً نرجع إليه منذ ألف ومائة سنة على الأقلّ ولم يخرج أيُّ رجل من العترة لكي يُفسِّر لنا آية أو يذكر لنا حكماً أو يحلَّ لنا مشكلة، فإنَّ المقصود من كلمة العترة غامض وعامٌّ غير صريح بأسماء الأئمَّة، وقد استخدمه العبَّاسيُّون لتثبيت حكمهم بدعوى أنَّهم من العترة، والعترة هم أقرباء الرجل حسب اللغة.
ونتيجة لغياب الركن الثاني المفترض (العترة)، فقد لجأ الشيعة الإماميَّة إلى الاجتهاد وأصبح لديهم حُجَج الإسلام وآيات الله وهم من غير العترة. وربَّما كان المقصود من العترة هم الأئمَّة السابقين وتراثهم وليس بالضرورة أنْ يكون واحد منهم موجوداً طوال التاريخ إلى يوم القيامة، وهم بالتأكيد لم يفترقوا عن الكتاب. ولكن الشيخ الآصفي يحاول أنْ يستنتج قسراً من هذه الرواية وجود حجَّة وإمام من أهل البيت في كلِّ زمانٍ وأنْ يفترض وجود الإمام محمّد بن الحسن العسكري افتراضاً محضاً.
↑صفحة ٢١٧↑
إذا كانت لدى الشيخ الآصفي مشكلة نظريَّة سبَّبت له الحيرة كما سبَّبت الحيرة لبعض الشيعة الإماميَّة بعد وفاة الإمام الحسن العسكري، فلكي يخرج منها عليه إمَّا أنْ يعيد النظر بسند تلك الروايات أو مفاهيمها، أو يبحث عن أيِّ شيء آخر قبل أنْ يفترض وجود شخص لم يظهر في التاريخ لا في حياة أبيه ولا بعد وفاته.
علماً بأنَّ الشيعة الإماميَّة الإسماعيليَّة (البهرة) يعتقدون أيضاً بوجود إمام مخفي ومستور ولكنَّهم يقولون بأنَّه يعيش عمراً طبيعيًّا ويتوفَّى ويُوصي إلى أبنائه الذين لا يتَّصل بهم إلَّا شيخ الإسماعيليَّة الأكبر النائب الخاصُّ عن الإمام الغائب.
فلماذا يرفض الشيخ الآصفي النظريَّة الإسماعيليَّة ولا يبحث عن تطبيق الحديث لدى أئمَّتهم المعصومين في نظريَّتهم المستمرِّين على قيد الحياة حسب ادِّعاءاتهم؟
إنَّ معنى الإمام وفلسفته في الفكر الإمامي هو المطبِّق للدِّين والقائد والمنفِّذ والخليفة والحاكم وهو ما يعنونه بقولهم: لا بدَّ في الأرض من إمام، وإلَّا فإنَّ الله (عزَّ وجلَّ) لديه ملائكة كثيرون، وهو ليس بحاجة إلى أحد لكي يحفظ الكون كما يقول بعض الغلاة، إذن فإنَّ الغيبة الطويلة تتناقض مع مهمَّة الإمامة وفلسفتها، ولا يجوز أنْ نُحتِّم على الله أنْ يُعيِّن إماماً من عنده للأُمَّة ثمّ نقول: إنَّا لا نعرف ما هو وجه الحكمة في اختفاء هذا الإمام. إذن لماذا افترضنا وجوب تعيين الإمام ورفضنا أنْ تقوم الأُمَّة باختيار الإمام العادل؟
إنَّ مثل الشيخ الآصفي كمثل من يقول بضرورة تعيين الدولة شرطيًّا للمرور في تقاطع طُرُق، ثمّ يقول: إنَّ الشرطي غائب، وعندما نسأله عن الحكمة من وراء غيبة الشرطي الذي ترك الشوارع في حالة اضطراب، يقول: إنَّ علم ذلك عند الدولة، أو إنَّه يُنظِّم السير من وراء حجاب.
↑صفحة ٢١٨↑
إمَّا أنْ يكون وجود الشرطي المعيَّن من قِبَل الدولة ضروريًّا أو لا يكون، ولا يعقل أنْ نقول: إنَّه ضروري، وإنَّه معيَّن، ولكنَّه غائب، وعلم ذلك عند الله، أو لا بدَّ أنْ نريح أنفسنا بالقول: إنَّ على البلديَّة أنْ تنتخب شرطيًّا لتنظيم السير، وإنَّ ذلك من أعمالنا، وليس من أعمال المَلِك أو رئيس الوزراء.
ويمضي الشيخ الآصفي في استدلالاته الفلسفيَّة الافتراضيَّة الاجتهاديَّة على وجود ابن الإمام العسكري، فيستعين بحديث: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليَّة»، ويقول: إنَّ التفسير الوحيد له هو ما تعرفه الإماميَّة وتعتقد به من استمرار الإمامة في أهل البيت منذ وفاة رسول الله، وإنَّ أيَّ فرض آخر لا يستطيع أنْ يُقدِّم تفسيراً معقولاً لهذه الرواية إلَّا أنْ نقول بوجوب الطاعة لكلِّ برٍّ وفاجر.
ونقول للعلَّامة الجليل والمفكِّر الإسلامي الكبير آية الله الشيخ محمّد مهدي الآصفي:
أوَّلاً: أنَّه بقوله هذا يعترف ضمنيًّا بأنَّه يقوم بعمليَّة افتراض.
وثانياً: أنَّ الفرض المعقول الآخر هو لا هذا ولا ذاك، وإنَّما هو الطاعة للإمام العادل، كما هو الحال في الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة مثلاً، حسبما يعتقد الشيخ، وهل الإمام هناك معصوم؟ أو جائر؟ أو أمر بين أمرين؟ لماذا تقفز على الفرضيَّات الأُخرى المعقولة وتحصرها بالحاكم الجائر أو الإمام المعصوم ثمّ تفترض وجوده وولادته؟
إنَّ المتكلِّمين السابقين الذين استدلُّوا بهذه الرواية على ضرورة وجود الإمام المعصوم المعيَّن من قِبَل الله واستمرار الإمامة في ولد الحسن العسكري، اعتمدوا على فقرة مهمَّة في عمليَّة الاستدلال أهملها الشيخ الآصفي وهي ضرورة استمرار الإمامة وراثيًّا بصورة عموديَّة وعدم جواز انتقالها إلى أخ أو عمٍّ أو ابن
↑صفحة ٢١٩↑
عمٍّ، ولذا فإنَّ قسماً من شيعة الإمام الحسن العسكري الذين لم يكونوا يؤمنون بحتميَّة هذا القانون لم يجدوا بأساً بالقول بإمامة جعفر بن عليٍّ الهادي، كما قال قسم من الشيعة سابقاً بإمامة موسى بن جعفر بعد وفاة أخيه الإمام عبد الله الأفطح، ولم يضطرُّوا إلى افتراض وجود ولد للإمام عبد الله الأفطح.
إضافةً إلى أنَّه يمكن تطبيق الحديث على أئمَّة الشيعة الإماميَّة الإسماعيليَّة المختبئين اليوم، فلماذا ترفض ذلك؟
هناك تفاسير عديدة للرواية وتطبيقات مختلفة، فلماذا تختار تفسيراً معيَّناً وترفض التفاسير والتأويلات الأُخرى؟
ونصل إلى أحاديث (الاثني عشريَّة) التي حاول الشيخ الآصفي أنْ يعتمد عليها مناهل استنتاج وجود الإمام الثاني عشر وافتراض حياته إلى اليوم.
وقد ادَّعى الشيخ الآصفي صفة التواتر على تلك الأحاديث بالرغم من أنَّها ضعيفة عند السُّنَّة وغير محدَّدة ولا واضحة، وهي أضعف عند الشيعة ومختلقة كلُّها في القرن الرابع الهجري عند تأسيس الفرقة الاثني عشريَّة ولم يكن لها أيُّ وجود عند الشيعة في القرون الثلاثة الأُولى.
وهي مع ذلك تتعارض مع أحاديث كثيرة تُؤكِّد على استمرار الإمامة إلى يوم القيامة دون تحديد بعدد معيَّن، كما تتعارض تماماً مع نظريَّة البداء التي كان يستند إليها بعض الأئمَّة أو بعض الشيعة الإماميَّة في تغيير شخص الإمام الذي يخلف أباه بعد وفاة أخيه المعيَّن من قبل، كما حدث مع إسماعيل بن جعفر الصادق والإمام محمّد بن عليٍّ الهادي اللذين توفَّيا في حياة والديهما فانتقل الشيعة الإماميَّة إلى أخويهما من بعدهما.
وقد روى الصفَّار والكليني والمفيد والطوسي عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: كنت عند أبي الحسن العسكري وقت وفاة ابنه أبي جعفر
↑صفحة ٢٢٠↑
وقد كان أشار إليه ودلَّ عليه، وإنِّي لأُفكِّر في نفسي أقول: هذه قصَّة أبي إبراهيم وقصَّة إسماعيل، فأقبل إليَّ أبو الحسن وقال: «نعم يا أبا هاشم بدا لله في أبي جعفر وصيَّر مكانه أبا محمّد كما بدا لله في إسماعيل بعدما دلَّ عليه أبو عبد الله ونصبه، وهو كما حدَّثتك نفسك وأنكره المبطلون.. أبو محمّد ابني الخلف من بعدي عنده ما تحتاجون إليه ومعه آلة الإمامة والحمد لله». (الكليني/ الكافي: ج ١/ ص ٣٢٨، والطوسي/ الغيبة: ص ٥٥ و١٣٠، والمفيد/ الإرشاد: ص ٣١٧، والمجلسي/ بحار الأنوار: ج ٥٠/ ص ٢٤١).
وروى الصفَّار والكليني والمفيد والطوسي حديثاً عن الإمام الهادي يقول فيه لابنه الحسن: «يا بنيَّ، أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً». (الصفَّار/ بصائر الدرجات: ص ٤٧٣، والكليني/ الكافي: ج ١/ ص ٣٢٦ و٣٢٨، والمفيد/ الإرشاد: ص ٣٣٧، والطوسي/ الغيبة: ص ١٢٢).
وإذا صحَّت فرضاً أحاديث (الاثني عشريَّة) فيمكن أنْ نحسب الإمام عبد الله الأفطح أو زيد بن عليٍّ ونكمل القائمة ولا نحتاج إلى افتراض وجود ولد للإمام العسكري دون دليل.
إنَّ ذلك الاستدلال من الشيخ الآصفي يُسمِّيه المتكلِّمون: الدليل العقلي أو الاعتباري أو الفلسفي، وهو كما يُلاحَظ يقوم على مقدَّمات نقليَّة وظنون وتأويلات تعسُّفيَّة وليس دليلاً عقليًّا محضاً، بحيث يستطيع أيُّ إنسان عاقل أنْ يتوصَّل إليه. وهو دليل افتراضي ظنِّي لا يستطيع أنْ يُثبِت وجود إنسان في الخارج.
يضيف الشيخ الآصفي إليه دليلاً آخر هو الدليل الروائي الذي يتضمَّن أحاديث تشير إلى أنَّ المهدي هو الثاني عشر أو التاسع من ولد الحسين أو ابن الحسن العسكري ويدَّعي صفة التواتر على تلك الأحاديث. ورغم أنَّه يُعرِّف
↑صفحة ٢٢١↑
التواتر بأنَّه ما يمتنع معه تواطؤ الرواة على انتحال الرواية وما بلغت رواته في جميع الطبقات من الكثرة بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب، إلَّا أنَّه يتقبَّل الروايات دون تمحيص أو بحث ودون مقارنتها مع أحداث التاريخ والأجواء السياسيَّة المحيطة بها والصراعات الطائفيَّة التي أدَّت إلى اختلاقها، ويرفض الإشارة ولو من بعيد إلى حدوث الاختلاف والحيرة لدى الشيعة الإماميَّة من أصحاب الإمام العسكري، وتفرُّقهم إلى أربع عشرة فرقة وعدم معرفة كبار القوم بتلك الأحاديث في الزمن الأوَّل وتعزيتهم لجعفر وتهنئتهم له بالإمامة بعد وفاة أخيه، ولا يلتفت إلى احتمال الوضع والكذب في فترة متأخِّرة، وخاصَّة من قِبَل الفرقة الاثني عشريَّة التي وُلِدَت في القرن الرابع الهجري واختلقت كلَّ تلك الروايات لتدعيم مذهبها.
وهذا غريب جدًّا من باحث بسيط فضلاً عمَّن يدَّعي العلم والاجتهاد وهو ما يُفسِّر التهرُّب من الحوار الجدِّي وإقامة المؤتمرات العلميَّة الحرَّة المحايدة من أجل بحث هكذا أُمور.
وعندما يصل الشيخ الآصفي إلى بحث وجود الإمام المهدي وولادته عن طريق الأدلَّة العلميَّة التاريخيَّة يعتذر عن إتمام البحث بحجَّة عدم توفُّر الوقت، وهذا يصحُّ إنْ كان طُلِبَ منه الحديث فجأةً، أمَّا وأنَّه قد أعدَّ لبحثه إعداداً مسبقاً، فإنَّه يبدو أقرب إلى العذر من أجل التهرُّب من مناقشة الأدلَّة التاريخيَّة بما يتضمَّن اعترافاً بضعفها وأُسطوريَّتها.
لهذا أستطيع أنْ أقول وأُكرِّر القول: إنَّ الإيمان بوجود الإمام محمّد بن الحسن العسكري كان فرضيَّة فلسفيَّة ظنّيَّة اجتهاديَّة أكثر ممَّا كان حقيقة تاريخيَّة ثابتة.
ومن هنا لا بدَّ أنْ نعيد النظر فيها حتَّى نعيد ترتيب أوراقنا الداخليَّة
↑صفحة ٢٢٢↑
وعلاقاتنا الخارجيَّة ولا نجعل من قضيَّة الإمام المهدي قصَّة نتناحر عليها إلى يوم القيامة.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٠/ ١٢/ ١٩٩٩)، (٠٩:١٠) مساءً.
محمّد منصور عضو:
عدم مراعاة أحمد الكاتب للحقيقة والصدق والورع في نقاشه للأحاديث الأربعة التي جاءت في مقالة الشيخ محمّد مهدي الآصفي، وذلك عبر الملاحظات التالية:
١ - تخيُّله أنَّ الاستدلال بالأحاديث الأربعة وهي حديث الثقلين، وأنَّ الأئمَّة من قريش اثنا عشر، وأنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة، وأنَّ من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليَّة أو لم يبايع إماماً مات ميتة جاهليَّة، ونحوها من الأحاديث التي تُثبِت أصل ضرورة وجود إمام معصوم من عترة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في كلِّ عصر، وإنْ لم تُعيِّن اسمه ونسبه أي تُشخِّص المصداق، وأنَّ إثبات ضرورة وجود المصداق ادَّعى أنَّ هذا النمط من الاستدلال لم يستدلّ به علماء الإماميَّة المتقدِّمون، وهذا ادِّعاء خلاف الواقع، وقد قاله مع علمه بوجوده في كُتُبهم التي ذكر اسم كثير منها في مقالاته متعمِّداً لطمس الحقيقة، فهذا النعماني قد استدلَّ بها في كتاب (الغيبة)، والصدوق في (إكمال الدِّين)، والشيخ الطوسي في (الغيبة)، والكليني في (الكافي)، وغيرهم في بقيَّة الكُتُب.
٢ - دعواه أنَّ الاستدلال بهذه الأحاديث الأربعة لإثبات وجود الإمام استدلال فلسفي عقلي، ولعمري أنَّك لا تُميِّز معنى الدليل الفلسفي فكيف تلهج به؟ ولا يمكنك درك أنَّ هذه الأحاديث تُثبِت ضرورة وجود إمام حيّ معصوم من العترة قرشي في كلِّ عصر حتَّى تقوم القيامة، لاحتجاجك بالإصرار على
↑صفحة ٢٢٣↑
رفض النظر إلى الحقيقة والواقع. ولماذا الخلط المتكرِّر بين أصل ضرورة وجود الإمام الحيِّ في كلِّ عصر، وخصوص ولادة الإمام الثاني عشر؟ فإنَّ القضيَّة الكبرويَّة إذا تمَّت سهل البحث عن الفرع كما نقلت أنت بنفسك ذلك عن السيِّد المرتضى مستشهداً بكلامه.
٣ - ادَّعى عدم وجود دليل قاطع تاريخي على وقوع ولادة الإمام الثاني عشر، وهذا الإشكال إنَّما يُذكَر بعد الفراغ من إمامة الأئمَّة السابقين (عليهم السلام)، وإذا سُلِّمت إمامتهم فالأدلَّة التاريخيَّة على ولادته توجب القطع بذلك، فهذا النعماني يذكر في كتابه (الغيبة) المؤلَّف من الروايات عن الرواة الثقات عن الجواد والرضا والكاظم والصادق والباقر والسجَّاد والحسين والأمير (عليهم السلام) دالَّة على ولادته من الحسن العسكري بن عليٍّ الهادي بن محمّد الجواد، وهذه الروايات صدرت عن الأئمَّة السابقين قبل تولُّده بقرنين إلى نصف قرن، ورواها عنهم الثقات، فهي بغضِّ النظر عن كونها دليلاً روائيًّا نقليًّا هي ملحمة تاريخيَّة إعجازيَّة على ولادته، وقد عنونها النعماني في باب (ما روي في غيبته) في فصول عديدة جمع فيها ما يقارب من الواحد والخمسين حديثاً، أكثر فيها من الرواة الثقات، وعقد باباً آخر في الأمر بالانتظار للفرج عند غيبة الإمام الثاني عشر ذكر فيه سبعة عشر حديثاً عن الأئمَّة السابقين (عليهم السلام) بقرنين إلى نصف قرن، وهي أيضاً ملحمة تاريخيَّة إعجازيَّة تُنبئ بوقوع الغيبة.
وذكر باباً آخر تحت عنوان (التمحيص في الغيبة) ذكر فيه عشرين حديثاً، وهي أيضاً ملحمة تاريخيَّة إعجازيَّة. وكذلك صنع الصدوق في كتابه (إكمال الدِّين) وذكر نظير هذه الأبواب، بل زاد عليها بطُرُق عن النبيِّ ثمّ عن كلِّ واحدٍ من الأئمَّة (عليهم السلام)، فقد أورد باباً في النصوص النبويَّة عن الله تعالى وذكر أربعة أحاديث، أورد باباً في تنصيص النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على إمامة الثاني عشر بن الحسن
↑صفحة ٢٢٤↑
العسكري وأورد فيه سبعة وثلاثين حديثاً، ثمّ ذكر باباً بإخبار النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن غيبة الإمام الثاني عشر بن الإمام الحادي عشر وأورد فيه ثمانية أحاديث، ثمّ باباً في النصوص عن عليٍّ (عليه السلام) وأورد فيه تسعة عشر حديثاً في غيبة الإمام الثاني عشر بن الحسن العسكري، باب في نصِّ السيِّدة الزهراء (عليها السلام) وأورد فيه حديث اللوح بأسماء الأئمَّة الاثني عشر، ثمّ ذكر باباً آخر بعده وأورد فيه طُرُقاً أُخرى لحديث اللوح، ثمّ باباً آخر عن الحسين (عليه السلام) وأورد فيه خمسة أحاديث، ثمّ عن السجَّاد (عليه السلام) وأورد فيه تسعة أحاديث في غيبة الإمام الثاني عشر بن الحسن العسكري (عليهما السلام)، ثمّ عن الباقر (عليه السلام) وأورد فيه سبعة عشر حديثاً في ذلك، ثمّ عن الصادق (عليه السلام) وأورد فيه سبعة وخمسين حديثاً، ثمّ عن الكاظم (عليهما السلام) وأورد فيه خمسة أحاديث في ذلك، ثمّ عن الرضا (عليه السلام) وأورد فيه سبعة أحاديث، ثمّ عن الجواد وأورد فيه ثلاثة أحاديث، ثمّ عن الهادي وأورد فيه عشرة أحاديث، ثمّ عن العسكري وأورد فيه تسعة أحاديث، ثمّ ذكر باباً في ولادة الإمام الثاني عشر وأورد فيه خمسة عشر حديثاً، ثمّ أورد أبواباً متَّصلة بذلك وأورد فيها ما يزيد على الخمسة عشر حديثاً، هذا ما ذكره الصدوق في كتاب (إكمال الدِّين) فضلاً عن بقيَّة كُتُبه التي أورد فيها أحاديث منتشرة عن غيبة الإمام الثاني عشر بن الحسن العسكري ككتاب (من لا يحضره الفقيه) و(التوحيد) و(عيون الأخبار) و(المعاني) و(الأمالي) و(الخصال) و(ثواب الأعمال وعقاب الأعمال).
وأمَّا الطوسي فقد أورد أبواباً في كتاب الغيبة مماثلة لما بوَّبه النعماني، وأمَّا الكليني في أُصول الكافي فقد ذكر باباً في مولد الإمام الثاني عشر وأورد فيه واحداً وثلاثين حديثاً في ذلك، ثمّ ذكر باباً في النصِّ على الاثني عشر بأسمائهم وأورد فيه عشرين حديثاً فيه عدَّة صحاح وموثَّقات، هذا فضلاً عن ما في تفسير عليِّ بن إبراهيم الذي كان من أصحاب الهادي (عليه السلام)، وما في تفسير العيَّاشي المقارب
↑صفحة ٢٢٥↑
لذلك عصراً، وما في كتاب المحاسن للبرقي من أصحاب الجواد والهادي (عليهما السلام)، وما في كتاب (قرب الإسناد) لعبد الله بن جعفر الحميري، وما في الأُصول الأربعمائة التي وصلت إلى أصحاب الكُتُب الأربعة وغيرهم والتي استخرجوا منها رواياتهم وأشاروا إليها في المشيخة وغيرها.
وقد أورد الشيخ المفيد في كتابه (الإرشاد) في باب النصِّ على الصاحب، واعتمد على النصوص التي وردت في إمامته، وعلى الأحاديث المستفيضة الأُخرى في غيبته قبل وجوده، ثمّ ذكر باباً في ما جاء من النصِّ على إمامته وأورد ثلاثة عشر نصًّا أغلبها من الصحاح والمعتبرات، وقال: (وأمثال هذه الأخبار في معنى ما ذكرناه كثيرة)، ثمّ أورد باباً فيمن رآه ورأى معجزاته أورد فيه عشرات الأحاديث كما ذكر مثل هذا الباب عدَّة من الأصحاب.
لكن الكاتب يشكل على كلِّ ذلك تارةً بأنَّ التراث الروائي للطائفة الإماميَّة مختلق موضوع، وأنَّ علماء الإماميَّة في القرن الثالث وضَّاعون، فإذا أُجيب بأنَّ هذا يعني إنكارك للتولِّي لأهل البيت (عليهم السلام) ومتابعتهم وإمامتهم، يشكل تارةً بأنَّه تابع لأهل البيت ومتولٍّ لهم وآخذ للفقه عنهم، فإذا أُجيب بأنَّ التولِّي والمتابعة والأخذ منهم لا يصحُّ إلَّا بالقول بإمامتهم وإلَّا فلما تخصيص التولِّي والمتابعة لأخذ الفقه عنهم، أشكل بأنَّ الإمامة بالشورى، فإذا أُجيب بالآيات والروايات الواردة في طُرُق العامَّة على إمامتهم كحديث الثقلين والاثني عشر وغيرهما أشكل بأنَّ الطُّرُق ضعيفة عند العامَّة، فإذا أُجيب بأنَّ طُرُق العامَّة صحيحة عندهم ذكروها في صحاحهم كما جمع ذلك صاحب العبقات في كتابه من علماء الإماميَّة والأميني في كتاب (الغدير) والسيِّد المرعشي في (ملحقات إحقاق الحقِّ) والسيِّد عبد الحسين شرف الدِّين في (المراجعات) وغيرهم في بقيَّة الكُتُب المختصَّة لجميع طُرُق العامَّة الصحيحة التي ألَّفها علماء ومتكلِّمو الإماميَّة أشكل بأنَّ الاثني عشر
↑صفحة ٢٢٦↑
قد أنقضوا ولها تفسير عند العامَّة، أو أنَّ العترة كيف يُعقَل وجوب التمسُّك بها عدل القرآن مع الغيبة، فإذا أجيب بأنَّ الغيبة ليس عدم وجود إمام وإنَّما تستُّره في القيام بوظائفه في الخفاء - كما سيأتي شرح ذلك مفصَّلاً - يشكل بأنَّ بقيَّة فِرَق الشيعة تدَّعي الحقَّ لنفسها، فإذا أُجيب بأنَّ مقتضى إمامة عليٍّ والحسنين التنصيص على السجَّاد ثمّ بقيَّة الاثني عشر، والعدد المزبور الثابت بطُرُق العامَّة لا يقول به إلَّا الإماميَّة الاثني عشريَّة، أشكل أنَّ ذلك اعتبار ظنِّي اجتهادي، فإذا أُجيب بأنَّ ذلك تلازم عقلي، أشكل لا أُسلِّم بذلك، فإذا أُجيب بأنَّ ضرورة وجود إمام حيّ في كلِّ عصر مدلول طوائف من الأحاديث المتواترة بين الفريقين، أشكل لا أحتجُّ بأحاديث أهل السُّنَّة كما ذكر ذلك في آخر كتابه حول المهدي، هذا ولقد ذكر ولادة ابن الحسن العسكري ما يزيد على سبعة وثلاثين من علماء السُّنَّة في كُتُبهم(٢٣٤).
٤ - التفافه عن البحث في القضيَّة الكبرويَّة القائلة بوجود إمام من العترة وهم الثقل الثاني، وأنَّ الأئمّة من قريش اثنا عشر، مع أنَّه أنكر أحاديث العدد قبل القرن الثالث الهجري، وأنَّ من مات ولم يعرف الإمام أو لم يبايعه مات ميتة جاهليَّة. وبدأ في البحث في مصداق الثاني عشر وتولُّده، مع أنَّ دعاواه بكون عقيدة المهدويَّة لم تكن واضحة عند الإماميَّة قبل القرن الثالث تنكُّر منه أمام الحقيقة، وهي وجود أحاديث العدد المرويَّة من الفريقين، ففي طُرُق العامَّة في صحاحهم العدد الاثنا عشر، ومن طريق الخاصَّة ما رواه الأصحاب في كُتُبهم كما أشرنا إليه، نعم هو يطعن على الطائفة الإماميَّة أنَّهم مختلقون يختلقون الكُتُب والأحاديث.
ومنشأ هذا الجرح هو ولاؤهم لآل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهل ما فعله بنو أُميَّة وبنو العبَّاس لواحد واحد من الأئمَّة أمرٌ يمكن إزالته من صفحة التاريخ مع أنَّهم بعد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٣٤) راجع موضوع عبد الحسين البصري من صفحة (٩٨) إلى (١٢٦).
↑صفحة ٢٢٧↑
الحسين (عليه السلام) لم يكونوا في العلن يمارسون الإثارة السياسيَّة الآحنة؟ وهل فتئ بنو أُميَّة وبنو العبَّاس من مساجلة عترة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الأئمَّة، في شتَّى المجالات العلميَّة، وجنَّدوا لهم رجالات العلم من المسلمين ومن أهل الكتاب اليهود والنصارى وعلماء الهند والترك والروم وغيرهم، بل حشَّدوا لهم المرتاضين وعلماء العلوم الغريبة وأصحاب الفنون لإسكاتهم في أيِّ مجالٍ من العلوم والمهارات الفنّيَّة والصناعات بغية إسقاطهم عن أعين الناس، وهل يخفى هذا في كلِّ كُتُب التواريخ المؤلَّفة من المسلمين ومن غير المسلمين؟
٥ - يدأب جاهداً لتكثير فِرَق الشيعة في قبال الطائفة الإماميَّة الاثني عشريَّة، والظاهر أنَّ عدد أتباع الطائفة المترامية الأطراف الضاربة بكلكلها في الأرض في مقابل أهل السُّنَّة لم يملأ عينيه، ولعلَّه يقول: هذا اختلاق؛ وضعه زيف الحسِّ.
٦ - خلطه المتكرِّر بين دلالة الأحاديث المتقدِّمة على وجود إمام حيّ في كلِّ عصر، ويُؤطِّر النقاش أنَّ بحثه في خصوص ولادة الإمام الثاني عشر، مع أنَّ طعونه كلَّها راجعة إلى الطعن في الإمامة الإلهيَّة وإمامة عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد خرج ذلك من فلتات لسانه في بعض كلماته في ما يصدره من نشرة الشورى وأنَّ المشروعيَّة هو ما قد حصل في السقيفة.
٧ - أشكل على حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين بإشكال يؤول إلى معنى الإمامة الإلهيَّة، بأنَّه كيف يتمُّ مفاد الحديث من التمسُّك بالعترة مع أنَّه لا رجل من العترة بمقدار (١١٠٠) سنة يحلُّ للأُمَّة الإسلاميَّة مشاكلها ويُفسِّر لهم آيات الكتاب؟ كما يشكل بأنَّ الحديث ليس فيه تصريح بأسماء مع أنَّ انطباق العترة على عليِّ بن أبي طالب وفاطمة والحسنين (عليهم السلام) ضروري عند السُّنَّة والشيعة، وأنَّهم العترة في سائر الأحاديث المتواترة بين الفريقين، كعنوان أهل
↑صفحة ٢٢٨↑
البيت وعترة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيتي ونحوها، ثمّ تسلسل ذلك إلى الحسن العسكري وابنه المنتظر. وعلَّه يحسب العترة كبيت من الهند أو السند، وأمَّا عدم رجل من العترة فسيأتي توضيح ذلك وتوهُّمه في معنى الغيبة.
٨ - تخيُّله أنَّ اجتهاد الأصحاب من الطائفة الإماميَّة هو اجتهاد أهل السُّنَّة، وأنَّهم بدأوا يمارسونه في الغيبة، وهو لا يُحسِن الفرق بين الاجتهادين، وأنَّ اجتهاد الإماميَّة منصبٌّ على فهم نصوص القرآن والسُّنَّة النبويَّة وسُنَّة المعصومين من آل محمّد بتخصيص العامِّ وتقييد المطلق وتقديم الدليل الوارد على المورود والحاكم على المحكوم أو الترجيح بين المتعارضين أو تحليل عناصر الظهور اللفظي أو التنسيق بين القضايا المستفادة من النصوص، بنحو التشجير القانوني والتفريع الهرمي وغير ذلك من مراحل عمليَّة الاجتهاد والاستنباط لدى الإماميَّة، وأنَّ الباقر (عليه السلام) أمر أبان بن تغلب وغيرهم من أصحابه - كما في رجال النجاشي وغيره - بالجلوس في المسجد والفتيا، ويكفيه ملاحظة كتاب (الوسائل، كتاب القضاء، أبواب كيفيَّة الحكم)، ليلاحظ عشرات الموارد التي أمر أئمَّة آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أصحابهم الفتيا - وفق موازين مدرسة أهل البيت -، وكذا كتاب رجال الكشِّي من أصحاب الباقر والصادق (عليهما السلام) في الفتيا؛ لاختلاف فهمهم في الاستفادة من النصوص، وأبواب الحجِّ، أبواب أقسام الحجِّ... وأنَّ زرارة والفضل بن شاذان ألَّفا رسالتين في اجتماع الأمر والنهي، وأنَّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدِّه، وكذا كتاب (الكافي، كتاب الطلاق للعدَّة)، حيث نقل الكليني ما يقرب من ثلاث صفحات من كلام الفضل بن شاذان في تخطئة العامَّة من عدم التمييز بين الحكم الوضعي من شرائط صحَّة الطلاق والحكم التكليفي.
٩ - دعواه عدم دلالة حديث الثقلين على تأييد وجود الإمام (عجَّل الله فرجه)، وأنَّه ربَّما مضى الأئمَّة ويكفي في التمسُّك بتراثهم الروائي، وغفل عن أنَّ مقتضى هذا
↑صفحة ٢٢٩↑
الإشكال هو التسليم بإمامة العترة كعِدل للقرآن الكريم، فهم عِدل الكتاب، وهم حجَّة الله على العباد حجَّة الكتاب، ولازم ذلك هو التسليم بكلِّ ما روي عنهم (عليهم السلام)، من ذلك ما روي في نصوصهم على الإمام الثاني عشر ابن الحسن العسكري وأنَّه يغيب، كما غفل عن معنى التمسُّك بهم بمعيَّة القرآن في كلِّ الأعصار وما يستجدُّ من الأوضاع والحوادث، وعن معنى معيَّة الثقلين المؤبَّدة حتَّى الورود على الحوض يوم القيامة من استلزام ذلك وجود كلٍّ من وجود الكتاب ووجود العترة ليصحَّ التمسُّك بوجودهما، وأنَّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تارك كلّ منهما في المسلمين الباقي إلى يوم القيامة. وغفل عن معنى غيبة الإمام وجعلها تساوي العدم بينما هي التستُّر والخفاء في العمل وفي القيام بالوظيفة الإلهيَّة كما فسَّرتها أحاديث الإماميَّة وعلماء الإماميَّة كالصدوق والمفيد والطوسي والمرتضى وغيرهم، وسيأتي توضيح ذلك ببسط أكثر.
١٠ - دعواه أنَّ الإمام الثاني عشر لم يظهر في التاريخ ولم يرتبط به أحد، فإذا واجه كُتُب الطائفة الإماميَّة المشحونة المليئة بذلك طعن عليهم بالاختلاق أنَّهم مختلقون وضَّاعون متَّهمون في دينهم وعقيدتهم يبتدعون في الدِّين، وهذا طعن في عقيدة الإمامة الإلهيَّة وإمامة عليِّ بن أبي طالب، وأنَّ الدِّين لم ينزل في بيوت محمّد وآل محمّد (عليهم السلام)، بل نزل في سمرقند أو منطقة لار أو محافظة لورستان ونحوها.
١١ - ثمّ إنَّه يطالب الشيخ الآصفي بالبحث والتحرِّي عن تطبيق حديث الثقلين على الإسماعليليَّة، وقد غفل عن أنَّ هذا الطلب ينطوي على التسليم بإمامة العترة، وأنَّ البحث عن الانطباق بحثه الصدوق والطوسي والنعماني والمفيد والمرتضى وغيرهم، ودلَّلوا عليه بمناهج استدلاليَّة تصل إلى أربعة عشر منهجاً، منه أحاديث العدد الاثني عشر بين الفريقين، ومنه صحَّة دعوة الأعلميَّة في العلوم والأكمليَّة في الفضائل في الاثني عشر دون أئمَّة الإسماعيليَّة أو الزيديَّة ونحوهم.
↑صفحة ٢٣٠↑
١٢ - إشكاله على مفاد الأحاديث وعلى الإماميَّة أنَّ الإمام لديهم هو المطبِّق والمنفِّذ للدِّين الحاكم، والغيبة تتناقض مع مهمَّة الإمام، وهذا الإشكال سببه الغفلة عن معنى الغيبة عند الإماميَّة وعن معنى الإمامة لديهم، والشكُّ بأنَّ تعيين الله تعالى لإمام لا يُحتَّم على الله تعالى، ثمّ أشكل بما هو السبب في رفض الإماميَّة لنظريَّة الشورى.
وقد أفصح عن صلب إشكالاته ومآلها أنَّها منصبَّة ومتركِّزة على معنى الإمامة الإلهيَّة وعلى إمامة عليِّ بن أبي طالب في الدرجة الأُولى، والحال أنَّ الغيبة لا تُفسَّر لدى الإماميَّة في نصوص وفي كلمات علمائهم بمعنى عدم وجود الإمام وتعطيل دوره ونشاطه في القيام بالوظيفة الإلهيَّة الملقاة عليه؛ لأنَّ الغيبة بمعنى الاستتار والخفاء والسرّيَّة في القيام بالدور والوظيفة الإلهيَّة الملقاة على عهدة الإمام.
ومن بديهيَّات الأدبيَّات السياسيَّة في الجامعات الأكاديميَّة الحديثة والمراكز التعليميَّة الحديثة أنَّ القوى السياسيَّة في العالم وفي أيَّة دولة هي القوى التي تقوم نشاطاتها في الخفاء والسرّيَّة كقوى المخابرات الدوليَّة والتنظيمات السرّيَّة كالمافيا وقوى المال وغيرها وكالتنظيمات السرّيَّة السياسيَّة المعارضة، وهذا العرف والسُّنَّة البشريَّة السياسيَّة لم تكن وليدة هذا العصر بل عصور سابقة، فلا ملازمة بين القيام بالوظائف السياسيَّة والاجتماعيَّة الملقاة على شخص وجماعة وبين القيام بها بصورة علنيَّة ظاهرة في الحسِّ، فأكثر القوى التي تدير العالم المعاصر هذا اليوم ليست الدول والحكومات العلنيَّة حتَّى في الدول الكبرى، بل هي المؤسَّسات والشبكات السرّيَّة المخابراتيَّة أو الماليَّة في السلاح والنفط وغيرها والغفلة عن نفوذ القوى واستحكامها في المراحل التكتيكيَّة للعمل السياسي يساوي السرّيَّة والخفاء والتستُّر، فهذا القرآن الكريم يُحدِّثنا عن رجال الغيب من منظومة الأبدال
↑صفحة ٢٣١↑
والأوتاد والسُّيَّاح المتَّفق على وجودهم بين أكثر علماء المسلمين في سورة الكهف في قصَّة موسى مع الخضر: ﴿فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً * قالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾ (الكهف: ٦٥ - ٦٨).
فيُنبِّئنا القرآن في هذه السورة وغيرها من السور على وجود عبَّاد بشريِّين مزوَّدين بالعلم اللدنِّي والرحمة الخاصَّة الإلهيَّة يقومون بالوظائف السرّيَّة الإلهيَّة والدور الخفي الذي يُؤثِّر على منعطفات حادَّة في المجتمع البشري، والقيادة لدفَّة المسيرة البشريَّة إلى الغرض الحقِّ، كما تُنبئنا قصَّة آدم وإخضاع الملائكة كلِّهم أجمعين في سبع سور من القرآن الكريم على أنَّ سُنَّة الله تعالى إمامة خليفة الله في أرضه إمامته للملائكة كلِّهم، وأنَّه مزوَّد بعلم الأسماء كلِّها، وهذه بديهيَّات قرآنيَّة، والإمامة في تعريفها في القرآن والروايات وكلمات علماء الإماميَّة ليست مقصورة على التطبيق للدِّين والتنفيذ والحكم بصورة علنيَّة ظاهرة في السطح العياني، بل هي تشمل صورة السرّيَّة والخفاء والتستُّر، وقد أشار إلى ذلك المفيد والمرتضى والطوسي وابن طاوس وبحر العلوم والمقدَّس الأردبيلي للحديث عن أبي الحسن عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام).
وأمَّا إشكاله بأنَّ ضرورة تعيين الله تعالى إماماً للبشريَّة هو تحتيم على الله، فغفلة عن أنَّ هذا ضرورة عن الله تعالى لا ضرورة على الله تعالى، وأنَّ هذا يعني عدم عزل الله تعالى وحاكميَّته وإرادته ومشيئته عن تدبير النظام الاجتماعي السياسي للبشر، وأنَّ الله أحكم الحاكمين، وأنَّ الله هو الوليُّ بالأصل، وأنَّ الولاية له، وهو الحقُّ، وأنَّ يديه مبسوطتان في تدبير النظام السياسي والاجتماعي والنظام الفكري والمعنوي والروحي وغيرها من أنظمة المجتمع البشري، وليست يده
↑صفحة ٢٣٢↑
مغلولة ولا محجوبة عن تدبير نظام المجتمع البشري، وأنَّه الحاكم الأوَّل في حكومة البشر التنفيذيَّة والقضائيَّة فضلاً عن التشريع هو الله تعالى كما هو الشأن في حكومة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) التي يستعرض سيرتها القرآن الكريم في سوره، حيث كان الحاكم السياسي الأوَّل والقاضي الأوَّل فيها هو الله تعالى في الخطوات ذات المهمَّة الانعطافيَّة لحكومة الرسول في المدينة ومن ثَمَّ في الجزيرة العربيَّة، فالمنفِّذ المباشر بإرادته ومشيئته في حكومة الرسول الإلهيَّة هو الله تعالى، وهذا ما تعنيه مدرسة أهل البيت من أنَّ نصب الإمام المعصوم المزوَّد بالعلم اللدنِّي وعلم الأسماء كلِّها يُؤهِّله لمعرفة إرادات الله تعالى ومشيئاته في تدبير نظام المجتمع فيكون الله تعالى الحاكم السياسي الأوَّل والإمام خليفته ونائبه.
١٣ - ثمّ إنَّه ذكر مثالاً لإشكاله بأنَّ ضرورة نصب إمام مع غيبته مثل القول بضرورة تعيين الدولة شرطيًّا للمرور في تقاطع الطُّرُق والشوارع، ثمّ إنَّ الشرطي غائب، وإنَّ الحكمة في ترك الشوارع فوضى يرجع علمه إلى الدولة. فإمَّا أنْ يكون وجود الشرطي المعيَّن ضرورة أو لا، ولا يُعقَل أنْ نقول: ضروري وهو غائب وإنَّ علم ذلك عند الله تعالى، بل لا بدَّ من نصب شرطي آخر من البلديَّة تنتخبه، وإنَّ الانتخاب من أعمالنا وليس من شؤون الحاكم والمَلِك ورئيس الوزراء.
وقد غفل أنَّ ذلك يستلزم تحجيم سلطة الحاكم والمَلِك والرئيس الأوَّل وهو الله تعالى، وتعطيل لسلطته المطلقة وولايته النافذة لكلِّ شيء، كما قد غفل أنَّ الغيبة ليست بمعنى العدم وعدم النشاط وعدم القيام بالوظيفة الإلهيَّة في السرِّ والخفاء والتستُّر، وأنَّ القيام بالحكومة في نظام البشر يُتوصَّل إليه بالحكومة الخفيَّة كما في حكومة المخابرات الدوليَّة في الدول العظمى هي الحاكمة على الحكومات العلنيَّة الظاهرة في السطح في الدول العظمى في هذا العصر، وغفل عن أنَّ
↑صفحة ٢٣٣↑
الشرطي في تقاطع الطُّرُق في هذا العصر يُستعاض عنه بأجهزة المراقبة السرّيَّة في تقاطع الشوارع وفي الشوارع الكبيرة بين المُدُن وأنَّها أنجح في ضبط المرور، وقد استُعيض عنه برجال المرور السرّيِّين بألبسة مدنيَّة في هذا العصر لإحكام ضبط المرور من مخالفات السوَّاق.
١٤ - وأشكل على مفاد حديث: «من مات ولم يعرف إمام زمانه...» بإمكان انطباقه على الإمام العادل غير المعصوم، وعدم انحصاره بالانطباق على المعصوم بعد عدم انطباقه على الإمام الفاجر الظالم، وقد غفل عن أنَّ الحديث يُرتِّب ميتة الجاهليَّة على عدم معرفة الإمام، وأيُّ إمام هذا الذي من مات ولا يعرفه يموت ميتة جاهليَّة؟ وليس من مات ولم يتَّبعه بل من مات ولم يعرفه أي يعتقد بإمامته، وهل الاعتقاد بإمامة العادل غير المعصوم تُخرج الإنسان عن ميتة الإسلام؟
١٥ - دعواه أنَّ أسانيد الأحاديث ضعيفة عند السُّنَّة، ولا أدري لِـمَ لا يحترم الكاتب عقل القُرَّاء؟ إذ مصادر هذه الأحاديث التي نقلها الشيخ الآصفي الثلاثة منها هو صحاح السُّنَّة وكُتُبهم المعتمدة الأُخرى، هذا فضلاً عن المصادر المذكورة في كتاب (ملحقات إحقاق الحقِّ) للسيِّد المرعشي وكتاب (عبقات الأنوار) للسيِّد اللكهنوي وغيرها من كُتُب الكلام عند الإماميَّة التي أشارت إلى مصادر الأحاديث في كُتُب أهل السُّنَّة الصحاح والمعتمدة، وكذا كُتُب السيِّد عبد الحسين شرف الدِّين وكُتُب العلَّامة الحلِّي وغيرها.
١٦ - دعواه تعارض الأحاديث غير المحدِّدة للأئمَّة بعدد وبين الأحاديث المحدِّدة لهم بالعدد الاثني عشر كما في الأئمَّة من قريش اثنا عشر الذي رواه أهل السُّنَّة والشيعة، وهذه غفلة عن أبسط عمليَّات الاستظهار وقراءة النصوص يعرفها عامَّة الناس فضلاً عن علماء القانون البشري بالجمع والتقييد والتخصيص. ولا أدري لِـمَ لا يراعي الكاتب عقل القارئ؟
↑صفحة ٢٣٤↑
١٧ - إشكاله على روايات البداء في شخص الإمام وفي تفسير شخص الإمام، وقد غفل عن أنَّ البداء لدى مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ليس بمعنى التغيير الحقيقي والنسخ الحقيقي، بل بمعنى الإبداء والإظهار بعدما كان في تخيُّل الناس الأمر على غير ما هو في أُمِّ الكتاب لدى الله تعالى، وقد كتب الإماميَّة في ذلك كُتُباً شرحوا فيها ذلك، وأنَّ البداء موجود في عقيدة المسملين بتسميات أُخرى كما في حجب الدعاء القضاء المبرم الإلهي ومنع الصدقة البلاء المحتم المقدَّر ونحوها بمعنى النسخ غير الحقيقي وإجراء ما هو في أُمِّ الكتاب، والغريب غفلته عن نصوص الاثني عشر عن النبيِّ والأئمَّة السابقين في طُرُق السُّنَّة والشيعة.
١٨ - إنكاره لتواتر روايات المهدي من ذرّيَّة رسول الله بين المسلمين، أي إنكار أصل ظهور المهدي ولو في آخر الزمان، وأنَّها ضعيفة في طُرُق الشيعة وطُرُق السُّنَّة، وأنَّها مختلقة اختلقتها السياسة العبَّاسيَّة وصراعات القوى عند المسلمين، وقد غفل عن أنَّ خطورة هذا الإنكار أنَّه إنكار لضرورة من ضروريَّات المسلمين، وأنَّ هذا طعن في تراث كلِّ المسلمين من السُّنَّة النبويَّة من صحاح كُتُب السُّنَّة وصحاح كُتُب الشيعة. وأنَّ هذا عدم احترام لعقل القارئ واستخفاف للقُرَّاء.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٢/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٣:٥٧) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
الأخ محمّد منصور المحترم.. تحيَّة طيِّبة..
أرجو مراجعة المقال السابق(٢٣٥) مرَّة أُخرى وقراءته بتأنٍّ لتتأكَّد أنِّي لا أنفي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٣٥) أمَّا هذا فنترك القارئ الكريم هو الذي يُحدِّد أنَّك قلت أو لم تقل. ويكفي أنْ أنقل للقارئ الكريم عبارتك في مقالتك السابقة التي تقول فيها: (نشوء الفرضيَّة المهدويَّة في أحضان الغلوِّ والغلاة)، وهذه العبارة منك تعني أنَّ كلَّ ما جاء وورد عن المهدي إنَّما هو زيف وأباطيل دسَّتها يد الغلاة.
↑صفحة ٢٣٥↑
أحاديث المهدي بالمرَّة، وإنَّما قلت: لا يوجد تواتر على أنَّ المهدي هو الثاني عشر. ادَّعى الشيخ الآصفي وجود تواتر في الرواية عن أهل البيت بأنَّ المهدي هو ابن الحسن العسكري والثاني عشر من أهل البيت. وهو ادِّعاء غير صحيح بالمرَّة، إذ أنَّ فكرة المهدويَّة خلال القرون الثلاثة الأُولى كانت عامَّة وغامضة وغير محدَّدة في أحد من الأئمَّة، ولذلك كان عامَّة الشيعة وخواصُّ الأئمَّة وبعض الأئمَّة أنفسهم يتوقَّعون أنْ يكونوا هم القائمين بالأمر، وقد اعتقد عامَّة الشيعة ما عدا فئة قليلة بأنَّ الإمام الكاظم هو المهدي المنتظر، وقالوا: إنَّه غاب غيبتين الأُولى في السجن والثانية بعد هروبه من السجن، حيث إنَّهم لم يعترفوا بوفاته ودفنه.
وإذا راجعنا الروايات الواردة عن أهل البيت والتي تتناقض مع مهدويَّة الإمام الثاني عشر يتَّضح عدم وجود أيَّة إشارة فضلاً عن وجود إجماع في القرون الأُولى حول مهدويَّة الإمام الثاني عشر. وهذا ما يُؤكِّد على افتراض المهدويَّة للإمام الثاني عشر، واختلاق الروايات بعد حين.
أرجو أنْ تقرأ تعليقي على مقالة الشيخ الآصفي مرَّة ثالثة لتتأكَّد من أنِّي لم أقل: إنَّ هذا النمط من الاستدلال لم يستدلّ به علماء الإماميَّة المتقدِّمون، وإنَّما قلت: إنَّ الشيخ الآصفي لم يستدلّ بصورة جيِّدة بما استدلَّ به العلماء المتقدِّمون، ولم يذكر فقرة قانون الوراثة العموديَّة في بحث الإمامة الذي لا يكتمل الاستدلال به للتوصُّل إلى فرضية وجود الإمام الثاني عشر إلَّا بعد الإيمان بقانون الوراثة العموديَّة.
كما أرجو أنْ تقرأ تعليقاتي الأُخرى التي أوردتها في غير مكان حول الاستشهاد بعلماء السُّنَّة المتأخِّرين الذين يؤمنون بولادة المهدي الثاني عشر وقولي: إنَّهم إمَّا مؤمنين حقًّا بهذا القول ويعتقدون أنَّه حيٌّ بصورة إعجازيَّة مدى الزمان فلماذا لا يصبحون شيعة؟ وإمَّا ينقلون قول الشيعة الاثني عشريَّة بدون إيمان،
↑صفحة ٢٣٦↑
والاستشهاد بهم لا ينفع، خاصَّةً وأنَّهم متأخِّرون عدَّة قرون ويبنون شهادتهم على روايات الشيعة، والشيعة لم يتأكَّدوا بصورة قاطعة من ولادته وإنَّما افترضوا ذلك افتراضاً.
قلت في تعليق آخر: إنَّني أُحاول الالتزام بأدب الحوار والأخلاق الإسلاميَّة واحترام الطرف الآخر، ولست أدري هل تتعهَّد بذلك أم تصرُّ على اتِّهام خصمك بسهولة بالتعمُّد في طمس الحقائق وعدم احترام عقل القارئ والاستخفاف بالقُرَّاء وعدم مراعاة الصدق والورع والحقيقة وما إلى ذلك من التُّهَم التي تُطلِقها جزافاً وتُبرِّئ نفسك منها بالطبع.
أرجو أيضاً أنْ تُخبرني فيما إذا كنت إخباريًّا يقبل جميع الروايات الواردة عن أهل البيت من دون تحقيق؟ وماذا تُفسِّر لنا قولك في البند (٦): (التسليم بكلِّ ما روي عنهم، ومن ذلك ما روي في نصوصهم على الإمام الثاني عشر وأنَّه يغيب)؟
أخذت عليَّ في عدَّة نقاط تركيزي البحث حول ولادة مصداق الإمام الثاني عشر، وفضَّلت الحديث عن القضيَّة الكبرويَّة القائلة بوجود إمام من العترة، وقلت: إنَّ القضيَّة الكبرويَّة إذا تمَّت سهل البحث عن الفرع كما يقول السيِّد المرتضى، وقلت أيضاً: إنَّ الإشكال على ولادة الإمام الثاني عشر إنَّما يُذكر بعد الفراغ من إمامة الأئمَّة السابقين، وإذا سُلِّمت إمامتهم فالأدلَّة التاريخيَّة على ولادته توجب القطع بذلك، واتَّهمتني بالخلط بين البحث حول ولادة الثاني عشر والطعن في الإمامة الإلهيَّة، وقد قلت بصراحة عدَّة مرَّات: إنَّني لم أعد أُؤمن بنظريَّة الإمامة الإلهيَّة لأهل البيت، بل أعتبرهم علماء صالحين وأولياء عظام معتصمين بالله لا معصومين من قِبَله.
وإنَّني رفضت الإيمان بنظريَّة الإمامة بعد أنْ عجزت عن إثبات المصداق الخارجي لها، ولا أرى كما ترى أنَّ إثبات وجود الإمام الثاني عشر يتوقَّف على
↑صفحة ٢٣٧↑
الإيمان بنظريَّة الإمامة، وذلك لأنَّ الإيمان بالأئمَّة السابقين أو الأنبياء (عليهم السلام) لا يتوقَّف على الإيمان بإمامتهم أو نبوَّتهم، ولا يمكن أنْ نؤمن بإمامة أو نبوَّة أحد قبل أنْ نؤمن بوجوده، إذ لا يمكن أنْ نُكوِّن نظريَّات في الهواء ثمّ نحاول أنْ نستدلَّ عليها بكلِّ دليل ضعيف. وهذا هو الذي دفعك للإيمان به عن طريق ما أسميته الدليل الفلسفي أو الاعتباري أو العقلي حسب ما يصفه المتكلِّمون. وبالرغم من أنَّك حاولت أنْ تناقش في تسمية الدليل وهل هو فلسفي أو عقلي أو اعتباري إلَّا أنَّ النتيجة والخلاصة أنَّك تؤمن بوجود المهدي نظراً لإيمانك بنظريَّة الإمامة، ولو لم تكن تؤمن بها لما اضطررت إلى الإيمان بوجود رجل لم يرَه أحد ولم يوجد له أيُّ أثر في التاريخ.
قلتَ: إنَّ الروايات التي تحدَّثت عن المهدي الثاني عشر والغيبة واللوح هي ملحمات تاريخيَّة إعجازيَّة، وهذا ربَّما كان يصحُّ لو أنَّك تستطيع إثبات أنَّ تلك الروايات لم تُستَنسخ من الواقفيَّة الذين قالوا بغيبة الإمام الكاظم ومهدويَّته، وكنت تقدر على إثبات أنَّها لم تُصنَع في وقتٍ متأخِّر من قِبَل أركان الفرضيَّة المهدويَّة الاثني عشريَّة، أمَّا وإنَّ الوضَّاعين والمزوِّرين والمتلاعبين كانوا يضعون الأحاديث على لسان أهل البيت في حياتهم وفي كُتُب أصحابهم، فلا يمكن أنْ تستبعد عمليَّة الوضع المتأخِّر في كُتُب الأقدمين المخطوطة باليد والتي لا يوجد أيُّ توثيق لها، وما أسهل أنْ تُؤلِّف كتاباً اليوم وتضع عليه اسم مؤلِّف قديم، وقد كان يوجد في النجف كتاب يحتوي على خطوط الأنبياء جميعاً من آدم (عليه السلام) إلى نوح وموسى وعيسى، فهل يمكن أنْ تُصدِّق هكذا روايات وهكذا كُتُب؟ وكيف تقبلها؟
إنَّني لا أجرح المتكلِّمين الإماميَّة؛ لأنَّهم يوالون آل محمّد (عليهم السلام)، فهذا افتراء خطير منك، ولكنِّي أقول: إنَّ تراث أهل البيت يضمُّ روايات ظاهريَّة صريحة لا
↑صفحة ٢٣٨↑
تقول بنظريَّة النصِّ والعصمة والوراثة وتلتزم بالشورى، وروايات تحكي عنهم نظريَّة أُخرى سرّيَّة ومنافية للرواية الأُولى، أقول: إنِّي ألتزم بالرواية الظاهريَّة ولا أُؤمن بالتقيَّة ولا أسمح لنفسي بقبول أيَّة رواية مغالية ينسبها الغلاة إلى أهل البيت تحت غطاء التقيَّة، فقد نسب الغلاة إلى أهل البيت المنكرات وادَّعوا أنَّهم آلهة وأنبياء، فهل تريدني أنْ أقبل بها وإذا رفضتها يعني أنْ أجرح برواتها؛ لأنَّهم يوالون أهل البيت؟ لا يا أخي العزيز إنَّني أرفضها من منطلق الحرص على مذهب أهل البيت ولتعارض أفكار الغلاة مع القرآن الكريم والأحاديث الصريحة المرويَّة في (نهج البلاغة) و(الكافي) وغيرها من الكُتُب الشيعيَّة الأُخرى، ولا أربط بين التولِّي لأهل البيت وبين القول بإمامتهم، فقد كان عامَّة الشيعة في القرون الأُولى لا يؤمنون بنظريَّة الإمامة الإلهيَّة ما عدا فرقة صغيرة منهم وبصورة سرّيَّة.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٢/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٨:٤٧) مساءً.
محمّد منصور عضو:
الردُّ على ما قاله حول مقالة الآصفي:
١ - قال الكاتب: إنَّه لا ينفي أحاديث المهدي بالمرَّة وإنَّما يقول: إنَّه لا تواتر على أنَّ المهدي هو الثاني عشر، بينما هو يقول في مقالته (نشوء الفرضيَّة المهدويَّة في أحضان الغلوِّ والغلاة): إنَّ الروايات حول المهدي من وضع الغلاة، وقال في نقاشه للآصفي: إنَّها مختلقة اختلقتها السياسة العبَّاسيَّة وصراعات القوى عند المسلمين. وها هو يناقض كلماته وينفي ويُثبِت.
٢ - قد ادَّعى الكاتب عدم وجود روايات متواترة حول المهدي أنَّه ابن الحسن العسكري، وذكرتها له في الردِّ السابق وأبوابها، إلَّا أنَّه يقول: إنَّ الطائفة الإماميَّة اختلقتها، وأنَّ المفيد وعلماء الشيعة وضَّاعون.
↑صفحة ٢٣٩↑
وها هو يدور ويجتر التناقض في كلماته ويُنكِر ما قاله.
٣ - قال الكاتب: إنَّه لم يقل: إنَّ علماء الإماميَّة المتقدِّمين لم يستدلُّوا بذلك النمط الذي ذكره الآصفي، وقد قال سابقاً: إنَّ استدلالهم منحصر عقلي كلامي فلسفي اعتباري يعتمد مقدَّمة نقليَّة بالوراثة العموديَّة.
بينما نمط استدلال الآصفي يعتمد الكبرى النقليَّة القطعيَّة، فها هو يناقض كلامه ويدور ويجتر ويُنكِر ما قاله.
٤ - الكاتب يحتجُّ على علماء السُّنَّة الذين يؤمنون بولادة المهدي لِـمَ لا يكونون شيعة، وإنَّهم يقولون ما لا يعقلون، وأنَّ أخبارهم بولادته بمعنى الافتراض أي لا بدَّ لنا من تقدير كلمة افتراض في كلماتهم!
ويدَّعي أنَّ كلَّ العلماء المذكورين متأخِّرون مع أنَّ كثيراً منهم متقدِّم، ولعلَّه من رجم الغيب كعادته من دون خوف.
٥ - الكاتب يطلب بيان أنَّ المنهج العلمي الذي ذكرته له هو منهج إخباري أم لا، مع أنَّ الكاتب لا يُفرِّق بين أدنى الاصطلاحات الأُصوليَّة والاصطلاحات الفلسفيَّة، فلا أدري كيف يسأل عن لفظة الإخباريَّة؟ ولعلَّه يتخيَّل أنَّ منهج الأُصول هو ردُّ كلِّ خبر يقول بمتابعة أهل البيت والأخذ بما يقولون ولو كان متواتراً عنهم، لأنَّ المبدأ هو الشورى لا إمامة عليِّ بن أبي طالب وعترته، فهي متابعة مخبوطة، ولم يستطع أنْ يُبيِّن علَّة تخصُّصيَّة المتابعة والولاء وأخذ الفقه لهم ومنهم مع كونهم كسائر الناس في نظره.
٦ - اعتراف الكاتب بأنَّ أصل خلافه مع الإماميَّة في عدم إيمانه بإمامة العترة الإلهيَّة، ومع ذلك فهو لا يرى أنَّ إثبات الإمام الثاني عشر يتوقَّف على الإمامة، ولا أدري أنَّ كلمة (إمام) و(ثاني عشر) ماذا يفهم منها؟ هل هي أصوات لغة الطيور أم ماذا؟ لأنَّ الحوار وصل إلى هذه الدرجة من الدقَّة العلميَّة.
↑صفحة ٢٤٠↑
والمذهل أنَّه يقول باللفظ عينه: (إنَّ الإيمان بالأئمَّة السابقين أو الأنبياء(عليهم السلام) لا يتوقَّف على الإيمان بإمامتهم أو نبوَّتهم)، وأتصوَّر أنَّ هذا الكلام يجب عرضه على طبيب نفساني متخصِّص.
٧ - اعتراف الكاتب باستلزام القول بالإمامة لاضطرار القول بوجود الإمام الثاني عشر، وفي الفقرة السابقة أنكر التلازم، والظاهر أنَّه لا يمتلك القدرة على التعبير عن ما يريده، وإلَّا فما هذا التناقض بأقلّ من عدَّة أسطر.
٨ - ثمّ إنَّه يحصر الطريق لإثبات وجود الإمام الثاني عشر بالدليل الفلسفي الاعتباري الذي هو سمَّاه بذلك، ويخاطبني أنَّك أنت تُسمِّيه بالدليل الفلسفي الاعتباري، مع أنِّي قد أنكرت عليه توحيد الفلسفي والاعتباري، لكنَّه جريء في إنكار كلِّ ما قاله ولو قبل سطر واحد، ومع أنِّي ذكرت الاستدلال بالأحاديث القطعيَّة بين الفريقين التي تُثبِت كبرى الإمامة والتي حكم عليها بالاختلاق، يعود الكاتب ويسند حصر الدليل الفلسفي، وأحسب نفسي وأُحاور على طاولة المدرسة الابتدائيَّة أو الروضة.
٩ - أشكل على الملحمة التاريخيَّة الإعجازيَّة لروايات غيبة الإمام الثاني عشر قبل ولادته بقرنين إلى نصف قرن بأنِ استُنسِخَت من الواقفيَّة القائلين بغيبة الكاظم الإمام السابع، والظاهر أنَّ الكاتب لا يرى فرقاً بين عدد السابع وعدد الثاني عشر، ولا يرى فرقاً بين الراوي الإمامي الاثني عشري والراوي الواقفي وأنَّهما شخص واحد بعينه، ولا مانع من احتمال المحال، فلذلك أشكل على إعجازيَّة مفاد الروايات. ثمّ يحتمل أنَّ كلَّ الروايات وضع وتدليس من رواة الإماميَّة، لأنَّهم يعتقدون بالإمامة الإلهيَّة، مع ذلك لا يرى الكاتب ارتباطاً بين البحث في الإمامة الإلهيَّة والإمام الثاني عشر، إذ الكاتب حسبما مررت على حواره لا يرى استحالة التناقض.
↑صفحة ٢٤١↑
والذي أنصح الكاتب به هو نقل الحوار إلى الآيات القرآنيَّة ما دام هو لا يؤمن بالسُّنَّة مطلقاً.
فالحري به إذا كانت لديه جرأة البحث العلمي تركيز الحوار حول ما يُثبِته القرآن الكريم، هل هو الإمامة الإلهيَّة أم السلطنة الجماعيَّة؟
ولا يخرج عن البحث القرآني إلَّا إذا أراد السير بمنهج إمكان التناقض والتضادِّ الديالكتيكي، لأنَّه لا يثق بأيِّ رواية من طُرُق أهل السُّنَّة ولا من طُرُق الشيعة، كما هو منهج العلمانيِّين. وأنَّ كلَّ ما غاب عن الحسِّ فهو غلوٌّ وباطنيَّة وتأليه، وأنَّ المنهج الأُصولي هو رفض كلِّ شيء يغيب عن الحسِّ بخلاف المنهج الإخباري.
* * *
وهنا وعلى جانب آخر جرى حوار ومداخلات بين الإخوة بعضهم البعض، وبينهم وبين أحمد الكاتب ربَّما تكون بعيدة عن الموضوع ولكن أدرجناها لبعض النكات فيها:
حُرِّر بتاريخ (١٨/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠١:٤٧) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
أيُّها الإخوة الكرام..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
لقد كنت وسوف أبقى بإذن الله مدافعاً عن مذهب أهل البيت وعن حقوق الشيعة المظلومين في كلِّ مكان سواء كان الظلم عليهم من أهلهم أم من إخوانهم.
وأعتقد أنَّ الظلم الذي وقع على الشيعة طوال التاريخ كان في جزء منه بسبب بعض الأفكار الداخليَّة التي دخلت عليهم وعزلتهم وخدَّرتهم قروناً من الزمن حتَّى حرَّموا الجهاد وعطَّلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلَّا بعد
↑صفحة ٢٤٢↑
خروج الإمام المهدي كما حرَّموا إقامة الدولة الإسلاميَّة في عصر الغيبة قبل أنْ تحدث لديهم ثورة ولاية الفقيه التي أخرجتهم من كهف الغيبة والانتظار وبعثت فيهم الروح الجديدة حتَّى استطاعوا إقامة الجمهوريَّة الإسلاميَّة.
وإنَّ تجربتهم الجديدة هذه تتعرَّض إلى تحدّيات من قِبَل بعض المتسلِّطين الذين يحاولون أنْ يلغوا دور الأُمَّة باسم النيابة العامَّة عن الإمام المهدي، في حين يصرُّ البعض الآخر على المشاركة السياسيَّة للأُمَّة، وأنَّها صاحبة الحقِّ الشرعي في انتخاب الإمام ومحاسبته ومراقبته وتعيينه وعزله.
إنَّ الشيعة بحاجة إلى الحرّيَّة والشورى والديمقراطيَّة والعدالة، وكانت ثورة الشيعة في العراق على قاب قوسين أو أدنى، ولكن تجربة ولاية الفقيه في الجمهوريَّة الإسلاميَّة أدَّت إلى إفشال مشروعهم حتَّى الآن، وهم بحاجة إلى تجديد مشروعهم السياسي في العراق، هل يريدون أنْ يحكم المراجع ويسيطر رجال الدِّين على السلطة التشريعيَّة والتنفيذيَّة ويُلحِقوا العراق بإيران؟ مع ما سبَّب ويُسبِّب هذا المشروع في إثارة الطوائف والأحزاب والقوى العراقيَّة المختلفة، أم أنَّهم يطرحون مشروعاً ديمقراطيًّا إسلاميًّا لا طائفيًّا ولا عنصريًّا، يحترم رجال الدِّين ودورهم الإرشادي في الحياة، ولكن لا يُعطيهم ولاية سماويَّة غيبيَّة باسم النيابة العامَّة، ولا ولاية مطلقة على الناس بحيث يعطون لأنفسهم الحقَّ في إلغاء كلمة الأُمَّة بجرَّة قلم، كما قال أحدهم بأنَّه يستطيع أنْ يُلغي أيَّة اتِّفاقيَّة شرعيَّة يعقدها مع الأُمَّة من طرف واحد إذا وجد بعد ذلك أنَّها كانت ضدّ مصلحة الإسلام أو مصلحة البلاد. وبالطبع دون أنْ يُعطي الأُمَّة الحقَّ في إلغاء أيَّة اتِّفاقيَّة تعقدها معه إذا وجدت الأُمَّة أنَّ تلك الاتِّفاقيَّة ضدّ مصلحة الأُمَّة أو مصلحة الإسلام.
نحن بحاجة إلى إعادة النظر في تراث أهل البيت وتصفيته ممَّا لحقه من أفكار وفرضيَّات ونظريَّات دخيلة.
↑صفحة ٢٤٣↑
وإنِّي أدَّعي أنَّ مسألة الإمام الثاني عشر كانت فرضيَّة فلسفيَّة سرّيَّة لم يعرفها أهل البيت ولا الإمام الحسن العسكري، وأنَّها اختُلِقَت بعد وفاته، وأنَّ الأدلَّة التاريخيَّة التي قُدِّمت ضعيفة وجاءت متأخِّرة.
ولذلك فإنَّ النظريَّة الاثني عشريَّة التي ابتُنيت عليها نشأت في القرن الرابع الهجري، وأقول أيضاً: إنَّ الشيعة اليوم بتبنِّيهم لنظريَّة ولاية الفقيه أو نظام الشورى قد تخلّوا تماماً بصورة عمليَّة عن نظريَّة الإمامة والانتظار للإمام المهدي، وذلك لأنَّهم أجازوا لأنفسهم اختيار الإمام عن طريق الشورى وبشروط العدالة والفقه والكفاءة، ولم يعودوا يشترطون العصمة ولا النصَّ ولا السلالة العلويَّة الحسينيَّة في الإمام.
إذن فقد جاء بحثي متأخِّراً عن حركة الشيعة التي عادت إلى فكر أهل البيت وهو الشورى وتقدَّمت إلى الأمام، وليس بحثنا اليوم إلَّا محاولة للحاق بالتطوُّرات العمليَّة التي حدثت في صفوف الشيعة.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٨/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٨:٧٣) مساءً.
عليٌّ القاضي زائر:
أوَّلاً: من أنت وما هو موقعك من العالم الشيعي حتَّى تتبجَّح بكلماتك هذه، وأنَّك تدافع عن الشيعة المظلومين، هذا الخطُّ الذي لا يزال يُمثِّل الحقَّ المحمّدي الأصيل، وببركة وجهود علمائنا الربَّانيِّين الذين تحمَّلوا ما تحمَّلوا للحفاظ على هذه المدرسة الأصيلة. تأتي أنت اليوم وتحتمي بأعداء الدِّين وتسير على خطى وتوصيات من أسيادك الوهَّابيَّة وغيرهم ممَّن لا يتحمَّلون سماع اسم الشيعة لتدَّعي هذا؟!
ثانياً: لقد غيَّرت الحقَّ وتركت الصواب عند قولك: (حتَّى حرَّموا - أي
↑صفحة ٢٤٤↑
الشيعة - الجهاد وعطَّلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فقل لي بربِّك: هل يوجد مثل الشيعة عُرفوا بالجهاد وسقوط الشهداء دفاعاً عن الإسلام ولأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مستوى علماءهم أم مؤمنيهم؟
إنَّ من أعجب القول قولك هذا، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم.
ثالثاً: والأعجب قولك: (ويُسبِّب هذا المشروع في إثارة الطوائف والأحزاب والقوى العراقيَّة المختلفة...).
فالظاهر من كلامك أنَّ اتِّباع الحقِّ ليس مهمًّا عندك، بل المهمُّ هو أنْ يرضى عنك كلُّ هؤلاء مهما كانوا، وأين ذلك عن قوله تعالى: ﴿وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾ (المائدة: ٥٤)؟
رابعاً: ادِّعاؤك أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عبارة عن فرضيَّة فلسفيَّة يكفي في ردِّه قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حديث الثقلين: «وأنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض»، فلولا المهدي (فداه من سواه) لافترق الكتاب عن العترة، ولكن صدق الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكذب من ادَّعى غير ذلك.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٠/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٠:٤٢) مساءً.
عليٌّ العلوي عضو:
السلام عليكم..
الأخ أحمد الكاتب..
مشكلتك أنَّك تُصدِر أحكاماً تعميميَّة تعسُّفيَّة في كلِّ الجوانب التاريخيَّة والروائيَّة والفلسفيَّة والدِّينيَّة وغيرها.
بخصوص كلامك:
(وأعتقد أنَّ الظلم الذي وقع على الشيعة طوال التاريخ كان في جزء منه
↑صفحة ٢٤٥↑
بسبب بعض الأفكار الداخليَّة التي دخلت عليهم وعزلتهم وخدَّرتهم قروناً من الزمن حتَّى حرَّموا الجهاد وعطَّلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلَّا بعد خروج الإمام المهدي كما حرَّموا إقامة الدولة الإسلاميَّة في عصر الغيبة قبل أنْ تحدث لديهم ثورة ولاية الفقيه التي أخرجتهم من كهف الغيبة والانتظار وبعثت فيهم الروح الجديدة حتَّى استطاعوا إقامة الجمهوريَّة الإسلاميَّة).
فأنت نفيت كلَّ تاريخ الدول الشيعيَّة قبل قيام الجمهوريَّة الإسلاميَّة، ما هذا التعسُّف؟!
هذه هي مشكلتك، فلعلمك القاصر في التاريخ أنَّ هناك دولاً شيعيَّة قامت على طول التاريخ ولم تتوقَّف محاولات الشيعة من إقامة الدولة، ولك أمثلة:
الدولة البويهيَّة التي ظهرت في زمن الغيبة في العراق، والدولة الحمدانيَّة في الشام، والدولة العيونيَّة في ما كان يُعرَف بإقليم البحرين (الساحل الشرقي للخليج)، وهي في زمن الغيبة الكبرى، وقامت بعد أنْ أسقطت حكم القرامطة المنحرفين عن الإسلام، والدولة السربداريَّة على ساحل بحر قزوين قامت قبل قيام الدولة الصفويَّة.
وأخيراً الدولة الصفويَّة التي نشرت المذهب الشيعي الاثني عشري في إيران وبلاد السند والهند.
الخلاف الذي كان موجوداً هو هل لتلك الدول السالفة الذكر شرعيَّة دينيَّة أم هي دول دنيويَّة؟ هذا هو الخلاف، وقد حلَّ ذلك الخلاف الكثير من الفقهاء الجريئين مثل الشيخ حسين الكركي الجباعي اللبناني الذي دعاه الشاه الصفوي الثاني طهماسب، وأقرَّ الشيخ بمشروعيَّة الدولة الصفويَّة الدِّينيَّة بشرط أنْ يشرف على كلِّ شيء.
وكان الشيخ القطيفي معارضاً لإعطاء المشروعيَّة الدِّينيَّة للدولة الصفويَّة من قبل الشيخ حسين الكركي.
↑صفحة ٢٤٦↑
وأخيراً لي سؤال قد سُئِلْتَ عنه من قِبَل الإخوة هنا ولكنَّك لم تجب!
وهو أنَّك قلت: إنَّ في سنة (١٩٧٤م) قد حُكِمَ عليك بالإعدام في العراق لارتباطك بجماعة عارف البصري، وكلُّنا يعرف أنَّك كنت من المنتمين لحزب العمل الإسلامي، والشيخ عارف من جماعة حزب الدعوة يعني لا يوجد اتِّصال بينكم، فكيف تحلُّ هذا اللغز؟
* * *
ملاحظة منهجيَّة على أحمد الكاتب في مناقشة الدليل النقلي:
حُرِّر بتاريخ (١٨/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٨:١٠) مساءً.
محمّد منصور عضو:
يُلاحَظ الخلط المنهجي عند أحمد الكاتب في نقاش الدليل النقلي من خلال النقاط التالية:
الأوَّل: تخيُّله أنَّ حصر الدليل على وجود الإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه) هو بتوسُّط الروايات الواردة في من شاهده في الغيبة الصغرى ومن خلال النوَّاب الأربعة، مع أنَّ الأدلَّة على وجوده هي على أصناف:
أ - ما دلَّ على عموم الإمامة الإلهيَّة وأنَّها باقية إلى يوم القيامة.
ب - ما ورد من النصوص عليه قبل تولُّده من الأئمَّة السابقين التي جمعها كثير من العلماء كالمفيد في (الإرشاد)، والنعماني في (الغيبة)، والصدوق في (إكمال الدِّين)، والكليني في (أُصول الكافي)، والطوسي في كتاب (الغيبة)، وغيرهم في كُتُبهم.
جـ - ما دلَّ على التمحيص بغيبته بعد الإمام الحادي عشر العسكري.
د - ما دلَّ على لزوم الانتظار للظهور والفرج.
وغيرها من طوائف الروايات، فلاحظ تلك الكُتُب وغيرها.
↑صفحة ٢٤٧↑
الثانية: تشكيكه في نسبة كُتُب الصدوق والكليني والطوسي والنعماني إلى مؤلِّفيها، وحصره الكُتُب المعتبرة بالكُتُب الأربعة، وهذا التشكيك راجع إلى عدم اعتقاده بأصل إمامة أهل البيت، لأنَّ ذلك يُسبِّب له الاسترابة بالطائفة الاثني عشريَّة وعدالتهم. وهذا من الخلط بين مبحث الإمامة الإلهيَّة ومبحث خصوص ولادة الإمام الثاني عشر.
الثالثة: خلطه الدائم بين مبحث أنَّ الإمامة عهد من الله تعالى، وبين ولادة الإمام الثاني عشر، وبين كون عدَّة الأئمَّة اثني عشر، وبين مصاديق الاثني عشر، وهو من الخبط بين ترتيب المباحث وتسلسلها.
الرابعة: دعواه أنَّ الروايات الدالَّة على وقوع الغيبة التي رُويت من الأئمَّة (عليهم السلام) لم تُصرِّح بأنَّ الغيبة تقع بخصوص الإمام الثاني عشر، وهذه الدعوى تنكُّر للروايات المتواترة التي أوردها الصدوق في (إكمال الدِّين) والنعماني في (الغيبة) والطوسي في كتابه (الغيبة) وغيرهم في كُتُبهم المصرِّحة بأنَّها تقع لخصوص الإمام الثاني عشر.
الخامسة: دعواه أنَّ الروايات القائلة بغيبة الإمام المهدي الثاني عشر لا تدلُّ على وجوده وولادته، واستشهد بكلام السيِّد المرتضى والشيخ الطوسي في سبب وحكمة الغيبة أنَّه فرع الاعتقاد بوجوده، وهذا من قلَّة التدبُّر وقلَّة الإمعان لمباني تلك الروايات الدالَّة على وقوع الغيبة من خصوص الإمام الثاني عشر تدلُّ بالدلالة الالتزاميَّة باللزوم القطعي على كون الإمام الثاني عشر هو ابن الإمام الحادي عشر، وأنَّه تقع منه الغيبة، لأنَّها تُخصِّص وقوع الغيبة بعد الإمام الحادي عشر للإمام الثاني عشر والذي هو ابن العسكري، كما تُصرِّح بذلك أكثر الروايات المتعرِّضة للغيبة، فهذا تلازم بيِّن لوجوده، وأنَّه ابن العسكري، وأنَّه الذي تقع منه الغيبة، ثمّ هل الغيبة إلَّا للشخص الموجود، ومع الالتفات إلى أنَّه يأتي في رتبة الثاني عشر؟
↑صفحة ٢٤٨↑
وأمَّا كلام المرتضى والطوسي فهو في سبب وحكمة الغيبة وفائدتها لا في أصل وقوعها وتحقُّقها، ومن البيِّن أنَّ الحديث عن فائدة الغيبة فرع الاعتقاد بإمامة الغائب، لأنَّ الاعتقاد بغيبة الإمام للدليل الدالِّ عليها أنَّه لا يدلُّ على إمامة الغائب.
السادسة: دعواه حصر مصادر أحاديث عدد الاثني عشر في كتاب سُلَيم ابن قيس، وأنَّ الكليني والصدوق والنعماني والطوسي اعتمدوا في العدد الاثني عشر على ذلك المصدر فقط، ثمّ يقول بأنَّ بقيَّة أحاديث العدد اختلقها الرواة في القرن الثالث ويطعن على الرواة بذلك بمحض الافتراء والبهتان، وثمّ يطعن في الاستدلال على العدد بما في أحاديث أهل السُّنَّة في صحاحهم من أنَّ الأئمَّة الاثني عشر من قريش بأنَّها قد انطبقت على بعض الخلفاء فيما مضى، وليس في الحديث دلالة على بقائهم إلى يوم القيامة وعدم مجيء غيرهم من بعدهم.
وبهذا التوجيه المجمل يهرب من مفاد الحديث، والذي هو يناقض دعواه انحصار أحاديث العدد في كتاب سُلَيم، ودعواه وافتراؤه على بقيَّة أحاديث العدد، إذ الحديث مرويٌّ من فِرَق العامَّة، فعلى من ينطبق هذا العدد، على معاوية ويزيد؟!
* * *
بطلان دعوى أحمد الكاتب أنَّ حديث الاثني عشر ضعيف عند أهل السُّنَّة:
حُرِّر بتاريخ (١٩/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠١:١٩) صباحاً.
التلميذ عضو:
لا زال أحمد الكاتب وهو يحاول الانتصار إلى باطله يُنكِر الحقائق الواضحة والجليَّة ويرمي الكلام على عواهنه، فهو يدَّعي أنَّ حديث الاثني عشر عند أهل
↑صفحة ٢٤٩↑
السُّنَّة حديث ضعيف، ولبطلان زيف ما يدَّعيه هذا الرجل نسرد هنا مجموعة ونماذج من ألفاظ هذا الحديث والمصادر التي ورد فيها عند أهل السُّنَّة وتصحيحهم له، فقد روى هذا الحديث البخاري في صحيحه (ج ٦/ ص ٢٦٤٠)، قال: حدَّثني محمّد بن المثنَّى، حدَّثنا غندر، حدَّثنا شعبة، عن عبد المَلِك: سمعت جابر بن سمرة، قال: سمعت النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: «يكون اثنا عشر أميراً»، فقال كلمة لم أسمعها. فقال أبي: إنَّه قال: «كلُّهم من قريش».
ومن نافلة القول أنْ نذكر أنَّ هذا الحديث الوارد في صحيح البخاري هو صحيح، فإنَّ القوم مجمعون على صحَّة ما ورد فيه من روايات.
كما روى مسلم هذا الحديث في صحيحه بلفظ آخر (ج ٣/ ص ١٤٥٢)، قال: حدَّثنا ابن أبي عمر، حدَّثنا سفيان، عن عبد المَلِك بن عمير، عن جابر بن سمرة، قال: سمعت النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: «لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً»، ثمّ تكلَّم النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بكلمة خفيت عليَّ، فسألت أبي: ماذا قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ فقال: كلُّهم من قريش.
ورواه أيضاً بلفظ آخر في (ج ٣/ ص ١٤٥٣)، قال: حدَّثنا هداب بن خالد الأزدي، حدَّثنا حمَّاد بن سَلَمة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت جابر بن سمرة يقول: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: «لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة»، ثمّ قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: كلُّهم من قريش.
والحديثان صحيحان عند مسلم، ورجالهما ثقات عند أهل السُّنَّة.
وروى الحديث حسب النصِّ الثاني أو قريب منه ابن حبَّان في صحيحه (ج ١٥/ ص ٤٤)، وصحَّح الحديث، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط محقِّق صحيح ابن حبَّان: (إسناده حسن على شرط مسلم).
وروى الحديث بلفظ آخر أيضاً مسلم بن الحجَّاج في صحيحه (ج ٣/
↑صفحة ٢٥٠↑
ص ١٥٣)، قال: حدَّثنا نصر بن عليٍّ الجهضمي، حدَّثنا يزيد بن زريع، حدَّثنا بن عون، وحدَّثنا أحمد بن عثمان النوفلي واللفظ له، حدَّثنا أزهر، حدَّثنا ابن عون، عن الشعبي، عن جابر بن سمرة، قال: انطلقت إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومعي أبي، فسمعته يقول: «لا يزال هذا الدِّين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة»، فقال كلمة صمَّنيها الناس، فقلت لأبي: ماذا قال؟ قال: كلُّهم من قريش.
وبنفس النصِّ أو قريباً منه جدًّا أخرجه كلٌّ من أبي داود في سُنَنه (ج ٤/ ص ١٠٦) وقد صحَّح الشيخ الألباني هذا الحديث، وابن حبَّان في صحيحه (ج ١٥/ ص ٩٥) وصحَّحه، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: (إسناده صحيح على شرط الشيخين).
وروى الحديث بلفظ آخر أبو يعلى في مسنده (ج ١٣/ ص ٤٥٦)، قال: حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدَّثنا حاتم بن إسماعيل، عن المهاجر بن مسمار، عن عامر بن سعد، قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع: أخبرني بشيء سمعته من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فكتب: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم جمعة عشيَّة رجم الأسلمي يقول: «لا يزال الدِّين قائماً حتَّى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلُّهم من قريش»، وسمعته يقول: «عصبة من المسلمين يفتتحون البيت الأبيض بيت كسرى وآل كسرى»، وقال الشيخ حسين أسد محقِّق الكتاب: (إسناده حسن).
كما رواه بنفس اللفظ أو قريباً منه جدًّا مسلم بن الحجَّاج في صحيحه (ج ٣/ ص ١٤٥٤)، وأبو داود في سُنَنه (ج ٤/ ص ١٠٦)، وقال الشيخ الألباني عنه: (صحيح).
وروى هذا الحديث مسلم بن الحجَّاج في صحيحه (ج ٣/ ص ١٤٥٣) بلفظ يختلف قليلاً عن الألفاظ الأُخرى، قال: حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدَّثنا
↑صفحة ٢٥١↑
أبو معاوية، عن داود، عن الشعبي، عن جابر بن سمرة، قال: قال النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لا يزال هذا الأمر عزيزاً إلى اثني عشر خليفة»، قال: ثمّ تكلَّم بشيء لم أفهمه، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: كلُّهم من قريش.
وروى الحديث أيضاً بلفظ يختلف قليلاً أيضاً عن الألفاظ أعلاه في (ج ١٥/ ص ٤٣)، قال: أخبرنا أحمد بن عليِّ بن المثنَّى، قال: حدَّثنا عليُّ بن الجعد الجوهري، قال: أخبرنا زهير بن معاوية، عن زياد بن خيثمة، عن الأسود بن سعيد الهمداني، قال: سمعت جابر بن سمرة يقول: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: «يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلُّهم من قريش»، فلمَّا رجع إلى منزله أتته قريش قالوا: ثمّ يكون ماذا؟ قال: «ثمّ يكون الهرج»، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط عن هذا الحديث: (صحيح).
ورواه أيضاً مسلم بن الحجَّاج في صحيحه بلفظ آخر في (ج ٣/ ص ١٤٥٢)، قال: حدَّثنا ابن أبي عمر، حدَّثنا سفيان، عن عبد المَلِك بن عمير، عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: «لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً»، ثمّ تكلَّم النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بكلمة خفيت عليَّ، فسألت أبي: ماذا قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ فقال: كلُّهم من قريش.
وورد الحديث في مصادر أُخرى عديدة عند أهل السُّنَّة وبأسانيد صحيحة كمسند الإمام أحمد بن حنبل، والمعجم الكبير للطبراني، والمستدرك على الصحيحين، وغيرها. وعليه فأين ادِّعاء أحمد الكاتب الفارغ بأنَّ هذا الحديث غير صحيح عند أهل السُّنَّة؟ فنقول له: (ما هكذا تورد يا سعد الإبل).
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٩/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٣:٠٣) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
↑صفحة ٢٥٢↑
لم يكن حديثنا الآن هو الاثني عشريَّة، وإنَّما كان محور الحديث الأدلَّة التاريخيَّة حول ولادة الإمام الثاني عشر.
وقد أجبنا بعض الشيء الأخ جميل الذي نقل كلمة الشيخ الآصفي، وإذا أردت التفصيل فإليك ما يلي:
وذلك مثل حديث النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يكون بعدي اثنا عشر خليفة»، أو «لا يزال أمر أُمَّتي ظاهراً حتَّى يمضي اثنا عشر خليفة كلُّهم من قريش»، أو «يلي هذه الأُمَّة اثنا عشر.. كلُّهم من قريش لا يُرى مثله»، أو «يكون بعدي اثنا عشر أميراً كلُّهم من قريش».
وهذه روايات كلُّها من طُرُق أهل السُّنَّة، وقد رواها الصدوق وقال تعليقاً عليها: (نقل مخالفونا من أصحاب الحديث نقلاً ظاهراً مستفيضاً من حديث جابر ابن سمرة السوائي عن رسول الله... وقد أخرجت طُرُق هذا الحديث...)، فدلَّ على أنَّ الأخبار التي في أيدي الإماميَّة عن النبيِّ والأئمَّة بذكر الأئمَّة الاثني عشر أخبار صحيحة.
كما رواها الكليني في (الكافي) والطوسي في (الغيبة).
أمَّا الروايات الشيعيَّة الواردة حول موضوع (الاثني عشرية) فقد ذكر الكليني في (الكافي) منها حوالي سبع عشرة رواية، وذكر الصدوق في (إكمال الدِّين) حوالي بضع وثلاثين رواية، وروى الخزَّاز في (كفاية الأثر في النصِّ على الأئمَّة الاثني عشر) حوالي مائتي رواية، وقال عنها: إنَّها متواترة، وذلك لعدم إمكانيَّة اتِّفاق صحابة رسول الله وخيار العترة والتابعين الذين يُنقَل عنهم شطراً من الروايات على الكذب.
وتعتمد النظريَّة الاثنا عشريَّة حسب الرواية الشيعيَّة التي تذكر أسماء الأئمَّة الاثني عشر في قائمة معدَّة من قبل، على كتاب سُلَيم بن قيس الهلالي الذي
↑صفحة ٢٥٣↑
يقول: (إنَّ الشيعة كانوا يحتفظون بالقائمة الاثني عشريَّة في بيوتهم خلال القرون الثلاثة السابقة).
وقد قال ابن أبي زينب النعماني عن كتاب سُلَيم: (إنَّه ليس بين جميع الشيعة ممَّن حمل العلم ورواه عن الأئمَّة خلاف في أنَّ كتاب سُلَيم بن قيس الهلالي أصل من كُتُب الأُصول التي رواها أهل العلم وحملة حديث أهل البيت وأقدمها، وهو من الأُصول التي يرجع إليها الشيعة ويُعوَّل عليها).
اتَّخذ الصدوق وسائر المتكلِّمين من تلك الروايات التي اعتبروها (متواترة) دليلاً على وجود وولادة (الإمام الثاني عشر محمّد بن الحسن العسكري) من حيث إنَّه لا بدَّ أنْ يكمل الرقم (١٢) المُخبَر به من قبل، ومن دونه يصبح عدد الأئمَّة (أحد عشر) خلافاً للأحاديث، ومن حيث إنَّ الروايات قد جاءت بأنَّ (المهدي) من أهل البيت ومن ولد الحسين، وقد مضى الأئمَّة الأحد عشر ولم يظهر واحد منهم، فتحتَّم: أنَّه المهدي الذي سوف يظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً.
واعتبر الطوسي إجماع الطائفتين المختلفتين والفرقتين المتباينتين: (العامَّة) و(الإماميَّة) على: أنَّ الأئمَّة بعد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اثنا عشر، لا يزيدون ولا ينقصون، دليلاً على ولادة (صاحب الزمان) وصحَّة غيبته، وقال: (إنَّ الشيعة يروون تلك الأخبار على وجه التواتر خلفاً عن سلف).
المهدي الإمام الثاني عشر:
وإضافةً إلى ذلك توجد في التراث الشيعي أكثر من سبعين رواية عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل البيت (عليهم السلام) تتحدَّث عن (المهدي والقائم) بصراحة: أنَّه (الإمام الثاني عشر أو التاسع من ولد الحسين)، وبعضها يذكره بالاسم الصريح الكامل، وبعضها يكتفي بالإشارة إليه بالكنية واللقب. ومن تلك الروايات ما ذكره
↑صفحة ٢٥٤↑
الصدوق في (إكمال الدِّين) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إنَّ خلفائي وأوصيائي وحُجَج الله على الخلق بعدي اثنا عشر أوَّلهم أخي وآخرهم ولدي المهدي...».
وما عنه أيضاً: «إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) اختار... من عليٍّ الحسن والحسين، واختار من الحسين الأوصياء من ولده... تاسعهم قائمهم».
وما عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنِّي فكَّرت في مولود يكون من ظهري الحادي عشر من ولدي هو المهدي».
وما عن الحسين بن عليٍّ (عليه السلام): «التاسع من ولدي... هو قائمنا أهل البيت يُصلِح الله تبارك وتعالى أمره في ليلة واحدة».
وما عن أبي عبد الله (عليه السلام): «إنَّ الغيبة ستقع بالسادس من ولدي، وهو الثاني عشر من الأئمَّة الهداة بعد رسول الله أوَّلهم أمير المؤمنين وآخرهم بقيَّة الله في الأرض وصاحب الزمان».
وما عن الإمام الرضا (عليه السلام): «أنَّ القائم هو... الرابع من ولدي».
وما عنه أيضاً: «الإمام بعدي محمّد ابني، وبعده ابنه عليٌّ، وبعد عليٍّ ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجَّة القائم المنتظر».
وما عن الإمام الهادي (عليه السلام): «إنَّ الإمام بعدي الحسن ابني، وبعد الحسن ابنه القائم».
وما عن أبي عبد الله عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنَّه دخل على فاطمة الزهراء في حياة رسول الله ليُهنِّئها بولادة الحسين، فرأى في يدها لوحاً أخضر، ورأى فيه كتاباً شبه نور الشمس، فسألها عن ذلك فقالت له: «هذا اللوح أهداه الله إلى رسول الله فيه اسم أبي واسم بعلي واسم ابني وأسماء الأوصياء من ولدي فأعطانيه أبي ليسرَّني بذلك...»، وكان فيه أسماء الأئمَّة الاثني عشر واحداً واحداً.. وأنَّ الأخير منهم (م ح م د) يبعثه الله رحمةً للعالمين.
↑صفحة ٢٥٥↑
مناقشة دليل الاثني (عشريَّة):
...(٢٣٦).
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٩/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٧:٠٧) صباحاً.
التلميذ عضو:
أحمد الكاتب..
كلامك أعلاه لا يسمن ولا يغني من الجوع، فكلامي أعلاه ردٌّ عليك حول قولك بأنَّ روايات الاثني عشر عند أهل السُّنَّة ضعيفة.
ولقد أثبتنا لك بطلان وزيف قولك هذا. وكان من المفروض عليك أنْ تعترف بخطئك واشتباهك هذا، مثل ما اعترفت بوجود الروايات التي تشير إلى الاثني عشر في كتاب (بصائر الدرجات) بعد أنْ أنكرت وجودها فيه بشدَّة، ولـمَّا واجهك الإخوة بالأدلَّة على وجودها لم يكن لك مفرٌّ من الإذعان بذلك، فكان عليك هنا أنْ تفعل مثل ما فعلت هناك، وإلَّا فما علاقة ما أوردته أنت أعلاه بمسألة صحَّة أو عدم صحَّة حديث الاثني عشر عند أهل السُّنَّة صحيح أم لا؟ نرجو أنْ تجيب على سؤالنا هذا.
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٩/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٦:١٩) مساءً.
التلميذ عضو:
يا أُستاذ أحمد الكاتب..
هل حديث الاثني عشر عند أهل السُّنَّة صحيح أم لا؟ فقط نرجو الجواب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٣٦) راجع صفحة (٦٦) فقد ذكره بالنصِّ هناك.
↑صفحة ٢٥٦↑
على هذا السؤال فقط، فأنت ادَّعيت بأنَّه ضعيف، فهل ما زلت تصرُّ على رأيك هذا أم سلَّمت معنا في أنَّه صحيح(٢٣٧)؟
* * *
الردُّ على أحمد الكاتب حول افترائه على الصدوق بأنَّه لا يعتقد بقوَّة بالاثني عشر:
حُرِّر بتاريخ (١٩/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٢:٥٤) صباحاً.
التلميذ عضو:
قال الكاتب في معرض ردِّه على الأُستاذ العاملي: (وكان الشيخ الصدوق، وهو في أواسط القرن الرابع الهجري لا يعتقد بقوَّة بالاثني عشريَّة، ويقول في إكمال الدِّين (ص ٧٧): إنَّ عدد الأئمَّة اثنا عشر، والثاني عشر هو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ثمّ يكون بعده ما يذكره من كون إمام بعده، أو قيام القيامة، ولسنا مستعبدين في ذلك إلَّا بالإقرار باثني عشر إماماً واعتقاد كون ما يذكره الثاني عشر بعده).
أقول: إنَّ صاحبنا هذا متمرِّس في المغالطات وقلب الحقائق وتفسير كلام العلماء على غير وجهه الصحيح ومعناه الحقيقي الظاهر منه، فإنَّ كلام الشيخ الصدوق (عليه الرحمة) واضح لمن تدبَّر فيه أنَّه يؤمن إيماناً جازماً لا شبهة فيه ولا شكَّ بالاثني عشر إماماً من أهل البيت (عليهم السلام) أوَّلهم أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) وآخرهم المهدي المنتظر (أرواحنا فداه)، وهو في كلامه أعلاه يدافع عن هذه العقيدة حيث يردُّ على إشكال وشبهة مطروحة من قِبَل الزيديَّة فيقول في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٣٧) أخي التلميذ إنَّ الكاتب مقتنع بما تقول وبما أتيت، وثق تماماً بأنَّه لن يجيب كما تهرَّب منك من قبل فسيتهرَّب هنا، ومن هنا أدركنا بأنَّ الكاتب ليس عنده شيء إلَّا الشوشرة والتدليس، وإلَّا إمَّا أنْ يُثبِت أو ينفي، وأمَّا السكوت والتهميش فهذا ليس من أدب الحوار العلمي.
↑صفحة ٢٥٧↑
كتابه كمال الدِّين وتمام النعمة (ص ٧٧): (قالت الزيديَّة: لا يجوز أنْ يكون من قول الأنبياء: إنَّ الأئمَّة اثنا عشر، لأنَّ الحجَّة باقية على هذه الأُمَّة إلى يوم القيامة، والاثنا عشر بعد محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد مضى منهم أحد عشر، وقد زعمت الإماميَّة أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة.. فيقال لهم: إنَّ عدد الأئمَّة (عليهم السلام) اثنا عشر، والثاني عشر هو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ثمّ يكون بعده ما يذكره من كون إمام بعده أو قيام القيامة، ولسنا مستعبدين في ذلك إلَّا بالإقرار باثني عشر إماماً واعتقاد كون ما يذكره الثاني عشر (عليه السلام) بعد).
ثمّ يقول في (ص ٧٨) من نفس الكتاب: (ويقال للزيديَّة: أفيكذب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في قوله: «إنَّ الأئمَّة اثنا عشر»، فإنْ قالوا: إنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يقل هذا القول، قيل لهم: إنْ جاز لكم دفع هذا الخبر مع شهرته واستفاضته وتلقِّي طبقات الإماميَّة إيَّاه بالقبول، فما أنكرتم ممَّن يقول: إنَّ قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «من كنت مولاه» ليس من قول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟).
وكلامه هذا واضح، فهو هنا يدافع بكلِّ قوَّة وشدَّة عن عقيدة الاثني عشر إماماً، كما أنَّ كلامه واضح أعلاه أنَّه لا يخالجه أدنى شكٍّ في هذه العقيدة، فكيف يجوز للكاتب أنْ يفتري على هذا الشيخ الجليل مدَّعياً أنَّه لا يعتقد بقوَّة بالاثني عشر - كما في ردِّه على الأخ العاملي - أو يكون شاكًّا في هذه العقيدة - كما قال في نشرته الشورى(٢٣٨)-؟ أليس قول الصدوق: (ولسنا مستعبدين في ذلك إلَّا بالإقرار باثني عشر إماماً واعتقاد كون ما يذكره الثاني عشر (عليه السلام) بعد) دليلاً على اعتقاده الجازم بهذه العقيدة؟ بلى إنَّ الأمر كذلك ولكن الكاتب حاطب بليل.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٣٨) كما سيأتي.
↑صفحة ٢٥٨↑
حُرِّر بتاريخ (١٩/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٠:٢٧) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
الأخ الأُستاذ التلميذ المحترم..
حسبما علمت من الإخوة المشاركين في الحوار إنَّك رجل فاضل وعلى درجة من العلم والفضل، ولكن الأُسلوب الذي تستخدمه في الحوار يشبه المصارعة والعراك، إذ تسارع إلى كيل الاتِّهامات بالتدليس والمغالطة وما شابه، مع أنَّه يفترض في أيِّ محاور أنْ يحترم الطرف الآخر ويُقدِّر رأيه على الأقلّ.
لقد نقلت لك قول الشيخ الصدوق كاملاً، وذكرت الفقرة التي يُعبِّر فيها عن رأيه بالاثني عشريَّة، وعلَّقت عليها بالقول: إنَّه لم يكن يؤمن بقوَّة، ولم أقل: إنَّه لم يؤمن مطلقاً، وقد استفدت ذلك من قوله: (إنَّا نؤمن بالإمام الثاني عشر وما يقوله بعده إذا كان يحتمل أنْ لا تنتهي الدنيا بعد ظهور الإمام المهدي وتستمرُّ الإمامة)، ولذا فقد احتمل أنْ ينصَّ الإمام المهدي على إمام من ذرّيَّته حسب نظريَّة الإمامة القديمة.
إنِّي لا أستشهد بقول الشيخ الصدوق، وإنَّما قدَّمته مؤشِّراً على تطوُّر النظريَّة وولادتها في ذلك العصر، بل أنتقد النظريَّة من الأساس وأقول: إنَّها لا تثبت بالأحاديث القابلة للحياكة والاختلاق ونسبتها إلى الماضين في أيِّ وقتٍ، وإنَّها لا يمكن أنْ تثبت مطلقاً إذا لم نستطع إثبات وجود الثاني عشر محمّد بن الحسن العسكري.
ومن الأفضل لك إذا كنت تريد أنْ تستمرَّ في النقاش أنْ تذهب وتدرس أدلَّة إثبات وجود ابن الحسن بدون فلسفة ولا نظريَّات ولا فرضيَّات ولا أحاديث عامَّة وغامضة(٢٣٩).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٣٩) كما وأقول للكاتب: كان عليك أنْ تردَّ على الروايات الصحيحة التي تُثبِت ولادة الحجَّة بن الحسن (عجَّل الله فرجه)، كما وكان عليك أنْ تردَّ على مناقشات الإخوة السابقة، لا أنْ تأتينا كلَّ يوم بأمر ثمّ تُرسِله إرسال المسلَّمات وتترك النقاش فيه.
↑صفحة ٢٥٩↑
وأرجوك أنْ تتمهَّل قليلاً وتترك المباهاة في الحوار ومحاولة الانتصار وأنْ تذهب لتدرس القضيَّة ككلٍّ وتُفكِّر فيها طويلاً قبل أنْ تبادر إلى الردِّ(٢٤٠).
لقد كنت يا أخي العزيز مثلك ولا أزال حريصاً على مذهب أهل البيت، ولكنِّي وجدت هذه القصَّة من صنع الغلاة والباطنيَّة الذين كانوا دائماً يُفسِّرون الأُمور بشكل معاكس للظاهر وينسبون أُموراً منكرة إلى أهل البيت ويدسُّونها في تراثهم، فلا يأخذكم الحماس للدفاع عن كلِّ شيء تجده في التراث وتحسبه أنَّه من تراث أهل البيت(٢٤١).
ومع أنَّ بحثنا الآن ليس في موضوع الإمامة أو الاثني عشريَّة وإنَّما في الأدلَّة التاريخيَّة على ولادة الإمام الثاني عشر ومشاهدته في حياة أبيه وبعد وفاته.
ولقد طلب الإخوة المشرفون والمشاركون في الحوار أنْ يتركَّز حول موضوع معيَّن، ولكن لا أراكم تدخلون بصورة مباشرة في الموضوع، وكلُّ مرَّة تثيرون البحث حول نقطة وردت هنا أو تعليق ورد هناك وتتركون الموضوع الرئيسي(٢٤٢).
أُريد أنْ أُناقشك في شهادة حكيمة التي قيل: إنَّها رأت وشهدت ولادة ابن الإمام الحسن العسكري؟ هل قرأت الرواية؟ وهل تؤمن بها؟ وهل درستها جيِّداً؟ ولاحظت متنها وسندها؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٤٠) بل كان ينبغي منك أنت أنْ تدرس جيِّداً ما تريد طرحه لا أنْ تتوقَّف ولا تجيب من أوَّل مداخلة أثبت فيها الأخ العاملي لك ما نفيته من الروايات في (بصائر الدرجات)، ولا تتوقَّف وتتهرَّب من أوَّل رواية صحيحة يأتي بها الأخ التلميذ ليُفنِّد فيها مدَّعاك. ألَا تُخبرنا لِـمَ لم تجب إلى الآن عن سؤال التلميذ في صحَّة الروايات الواردة في ولادة المهدي بن الحسن (عليهما السلام)؟
(٢٤١) لا زلت يا كاتب تتبجَّح بالرأي وتسترسل في توجيه التُّهَم. ولعمري لِـمَ لا تُثبِت هذا التدليس الذي تدَّعيه، كما أثبتنا تدليساتك؟
(٢٤٢) لم يترك الإخوة الموضوع الرئيسي، والحقُّ أنَّك أنت الذي تركته بعدم ردِّك على الروايات الصحيحة والمتواترة التي جاءت في ولادته (عجَّل الله فرجه) وغيبته ورؤيته في حياة أبيه، وللقارئ أنْ يحكم في ذلك.
↑صفحة ٢٦٠↑
أُريد أنْ أُناقشك في الروايات الأُخرى التي تتحدَّث عن مشاهدته واللقاء به وهو ما أُسمِّيه بالدليل التاريخي، لننظر هل كان دليلاً قويًّا، أم كانت إشاعات صنعها الغلاة ولا ترقى إلى مستوى خبر الواحد الصحيح؟
ما هو رأيك بها؟
* * *
حُرِّر بتاريخ (١٩/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠١:٢٩) مساءً.
التلميذ عضو:
إلى أحمد الكاتب..
أوَّلاً: أنَّ وصفي لك أيُّها الكاتب بأنَّك مدلِّس ومغالط وتقلب الحقائق وتفتري على العلماء والأجلَّاء إنَّما هو لأنَّك حقيقة كذلك، فأنا لم أفترِ عليك ولم أتَّهمك بما لم يصدر منك، فقد بيَّنت لك مواضع تدليسك ومغالطاتك وقلبك للحقائق وافترائك، ومن حقِّ الطرف الآخر الذي تتحاور معه أنْ يصفك بذلك متى ما فعلت شيئاً من ذلك ويُبيِّن مواضع الافتراء والتدليس والقلب للحقائق والمغالطة في كلامك، وإنْ أردت الطرف الآخر أنْ يحترمك فعليك أنْ تحترم نفسك أوَّلاً وقبل كلِّ شيء فلا تُدلِّس ولا تفترِ ولا تغالط ولا تقلب الحقائق وتوهم القُرَّاء، وعندها تأكَّد تماماً أنِّي لن أصفك بشيء من ذلك.
ثانياً: أنَّ قول الشيخ الصدوق (عليه الرحمة) هذا لا ينفعك فيما تريد أنْ تصل إليه من القول، أوَّلاً: بأنَّ الشيخ الصدوق لا يؤمن بالاثني عشر بقوَّة كما تزعم، وثانياً: أنَّ قوله هذا مقدَّمة ومؤشِّر على تطوُّر النظريَّة وولادتها في ذلك العصر.
أمَّا أنَّه مؤشِّر ومقدَّمة على تطوُّر النظريَّة وولادتها في ذلك العصر، فليس فيه ما يشير إلى ذلك من قريب أو بعيد، ولا ندري كيف فهمت من كلام الشيخ الصدوق المذكور أعلاه ذلك؟
↑صفحة ٢٦١↑
وأمَّا أنَّ قوله يدلُّ على أنَّه لا يؤمن بالاثني عشر بقوَّة، فقد أثبتنا لك بطلان قولك هذا سابقاً، ولنا أنَّه (عليه الرحمة) ليس فقط يؤمن بقوَّة بهذه العقيدة وإنَّما يدافع عنها أيضاً بقوَّة وحزم كما هو واضح من ردوده على الزيديَّة، واحتمال الشيخ وكلامه ناظر إلى ما بعد فترة حكم المهدي (عجَّل الله فرجه) ومماته، فهو حقيقة لا يعلم الغيب بما ستصير إليه الأُمور بعد ذلك هل ستقوم القيامة أم لا؟ فلا يستطيع المرء أنْ يجزم بشيء، لأنَّه سبحانه ﴿يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ (الرعد: ٣٩). ومتى ما يصحُّ الدليل على شيء ما عندها لا يكون للاحتمال مجالٌ، أمَّا والدليل مفقود أو غير صحيح فإنَّ الاحتمال باقٍ مكانه.
ثالثاً: وعجيب منك أنَّك تطلب منِّي ومن الإخوة أنْ ندخل معك في الحوار حول مسألة ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وإثبات وجود ابن للإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وتطلب وتُزمِّر بطلبك هذا في أغلب ردودك، مع أنَّني قد فتحت موضوعاً في الحوار معك حول هذا الموضوع، وأتيت لك بروايتين صحيحتين سنداً وواضحتين من حيث الدلالة ولم تستطع إلى الآن أنْ تأتي بما ينقض هذا الدليل.
أمَّا طلبك أنْ نناقش الرواية الواردة بها شهادة حكيمة حول مشاهدتها ولادة ورؤية الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فما أظنُّه والله العالم إلَّا محاولة تهرُّب منك للابتعاد عن الدليل الروائي الصحيح الذي أُفحمت به إلى الآن ولم تحر جواباً في نقضه وحاولت أنْ تنقضه بحشو الكلام وبقول واهٍ أثبتنا لك بطلانه وزيفه.
وأقول لك: إنَّه لن أنتقل من الحوار معك إلى دليل آخر حتَّى ننتهي من موضوع الروايتين، فأنت تطالبنا بالدليل، وعلينا نحن أنْ نختار الدليل الذي نأتيك به لا أنت، ومتى ما أتيناك به لك الحقُّ في مناقشته، وعليه فلا زلت أنتظر منك الإجابة والردَّ على موضوعي المذكور، والإجابة على الأسئلة التي وجَّهتها
↑صفحة ٢٦٢↑
إليك، وبالخصوص السؤال عن صحَّة الروايتين عند علماء الشيعة الإماميَّة الاثني عشرية وحسب نظرهم، فأُعيده وأُكرِّره عليك هنا: هل هاتان الروايتان صحيحتان حسب نظر علماء وفقهاء الشيعة أم لا؟
* * *
غيبة الإمام الطويلة دليل تاريـخي مضادٌّ على عدم وجوده:
اُنظر عزيزي القارئ أنَّ الكاتب لا يحاول أنْ ينهي النقاش في المواضيع السابقة، وإنَّما يحاول أنْ يُشوِّش النقاش دائماً بإدراج مواضيع جديدة:
حُرِّر بتاريخ (١٩/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٠:٢٣) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
لكي نفهم موضوع (الغيبة) على حقيقته لا بدَّ أنْ نفهم أوَّلاً نظريَّة (الإمامة) كما كان يقول بها المتكلِّمون الإماميُّون الأوائل الذين أسَّسوا لها. تقول نظريَّة (الإمامة الإلهيَّة): إنَّ الأرض لا يجوز أنْ تخلو من إمام (أي من حكومة ودولة)(٢٤٣)، وأنَّ الإمام (أي الرئيس أو القائد الأعلى) يجب أنْ يكون معصوماً ومعيَّناً من قِبَل الله، وأنَّ الشورى باطلة، ولا يجوز انتخاب الإمام من قِبَل الأُمَّة(٢٤٤)، وتقول النظريَّة الموسويَّة (المتفرِّعة عن الإماميَّة والموازية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٤٣) لا أدري هل تتجاهل الأمر أم كعادتك تتعمَّد الخلط. فهناك فارق بين وجود الإمام ظاهراً أو مستتراً وبين إمامة الحكومة والدولة، كما هو الحال في عهد الأئمَّة بعد الإمام أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، هل كانت دولة ظاهرة يقودها الأئمَّة؟ ومع عدمها هل انتفت إمامتهم وخلت الأرض من حجَّة؟! اتَّقِ الله ولا تُلبِس الحقَّ بالباطل.
(٢٤٤) إذ إنَّ الإمامة امتداد لخطِّ النبوَّة، فلو جاز الانتخاب والشورى التي يريدها الكاتب في النبوَّة فلجازت في الإمامة، ولكن الله (عزَّ وجلَّ) يقول: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران: ٣٣)، وقال (عزَّ وجلَّ): ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ (الأنبياء: ٧٣)، فالإمامة جعل إلهي كما هي النبوَّة.
↑صفحة ٢٦٣↑
للفطحيَّة): إنَّ الإمامة تتسلسل بشكل وراثي عمودي في ذرّيَّة عليٍّ والحسين إلى يوم القيامة(٢٤٥).
ومن هنا فقد افترض المتكلِّمون الإماميُّون وجود ولادة (ابن) للإمام الحسن العسكري، بالرغم من عدم وجود أدلَّة تاريخيَّة كافية(٢٤٦)، ورفض بعضهم الإيمان بإمامة جعفر بن عليٍّ الهادي، لعدم جواز الجمع بين أخوين بعد الحسن والحسين وقالوا: لا بدَّ أنْ يكون قد وُلِدَ الإمام الحجَّة بن الحسن العسكري، وأنَّ أباه قد أخفاه عن أعين الناس.
ولكن السؤال الكبير الذي فرض نفسه هو: إذا كانت الإمامة محصورة في هذا الشخص، ولا تجوز لغيره من الناس العاديِّين غير المعصومين وغير المعيَّنين من قِبَل الله تعالى فلماذا يغيب ويختفي ولا يظهر ليقود الشيعة والمسلمين ويُؤسِّس الحكومة الإسلاميَّة التي لا بدَّ منها(٢٤٧)؟ ما دام أنَّ الأرض لا يجوز أنْ تخلو من إمام، والإمام الغائب لا يمكن أنْ يمارس إمامته وقيادته للناس(٢٤٨). وما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٤٥) هذا ما أثبتناه من أحاديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المتواترة عند الفريقين من عدَّة الأئمَّة، والروايات المتواترة في كُتُب الخاصَّة عن رسول الله وأهل البيت (عليهم السلام) من أنَّ الإمامة من صلب أمير المؤمنين وذرّيَّة الحسين (عليهما السلام).
(٢٤٦) لم يكن البناء منِّي كثرة التعليق وإنَّما فقط الإشارة، ولكن وبعد أنْ وجدت أنَّ كلَّ سطر بل كلَّ كلمة يكتبها الكاتب لا تخلو من تدليس ومراوغة وخلط، فصار لزاماً عليَّ أنْ أُعلِّق لأُبيِّن هذا التدليس والخلط، وهذه الكلمة من الكاتب من عدم وجود أدلَّة تاريخيَّة كافية لا أدري أو هل ردَّ الكاتب على ما أتى به الإخوة وما سيأتي به الأخ محمّد منصور والإخوة أم أنَّه أغفله وتركه؟ وبعد ذلك يقول: لا دليل، فأسأله أيُّ نوع من الأدلَّة تريد هل ما يتناسب مع هواك؟
(٢٤٧) لو توفَّرت شرائط انصياع الأُمَّة له لظهر (عجَّل الله فرجه)، وأفشى العدل في العلن.
(٢٤٨) إنَّ الإمام يمارس إمامته وحكومته المتغلغلة في المجموعة البشريَّة في الخفاء، ويقوم بالمسؤوليَّات والأدوار الإلهيَّة الملقاة على عاتقه.
↑صفحة ٢٦٤↑
هو السرُّ في الغيبة؟ وإلى متى يغيب(٢٤٩)؟ وما هو واجب الشيعة في حالة الغيبة(٢٥٠)؟
لقد كانت النتيجة الطبيعيَّة واللازمة لذلك الفكر هي (نظريَّة الانتظار) وتحريم النشاط السياسي في (عصر الغيبة)، وهي النظريَّة التي سادت قروناً طويلة من الزمن(٢٥١) ولا تزال بعض آثارها مستمرَّة بالرغم من القول بنظريَّة (النيابة العامَّة وولاية الفقيه)(٢٥٢) حيث انتهت نظريَّة المتكلِّمين المثاليَّة إلى غيبوبة الشيعة عن الحياة وافتقادهم للإمامة(٢٥٣) لعدم ظهور (الإمام المعصوم). وهذا ما شكَّل تناقضاً صارخاً مع فلسفة الإمامة التي تقول بوجوب الإمام في الأرض ووجوب كونه معصوماً ووجوب تعيين الله له في كلِّ زمان ومكان، من أجل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٤٩) أمَّا السرُّ في الغيبة ذلك لعدم استئصال سلسلة الحُجَج الإلهيَّة كما استأصلوا آباءه وزووهم ومنعوهم عن أداء أدوارهم في الرقيِّ بالبشريَّة نحو الكمالات، فقُتِلَ بعضهم بالسيف والبعض الآخر بالسُّمِّ.
(٢٥٠) واجب الشيعة في حال الغيبة هو أنْ يقوموا بجميع وظائفهم ومسؤوليَّاتهم الشرعيَّة، كما أنَّ النوَّاب العامِّين عليهم القيام بمسؤوليَّاتهم من تدبير وإدارة الأُمور العامَّة من خلال المرجعيَّة أو من خلال إقامة الحكم العلني الرسمي.
(٢٥١) إنَّ تاريخ الشيعة الاثني عشريَّة حافل بقيام الدُّوَل والثورات السياسيَّة والنهضات الإصلاحيَّة، وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الاجتماعي والسياسي قائمٌ غير مقفل بضرورة مذهب الإماميَّة. وسيأتي ذكر قائمة أقوال الفقهاء من المتقدِّمين إلى متأخِّري الأعصار في مقالة الأخ محمّد منصور.
(٢٥٢) سيأتي في مقالة الأخ محمّد منصور بأنَّ القول بولاية الفقيه والنيابة عن المعصوم وقيامه بوظائف الدولة التزم به الكليني والصدوق والمفيد وغيرهم من المتقدِّمين إلى متأخِّري الأعصار، وسيأتي نقل كلماتهم.
(٢٥٣) إذاً فأيُّ شيء هي الدولة البويهيَّة، وأيُّ غياب هي الدولة الحمدانيَّة والصفويَّة وأيُّ غياب هذا لاتِّساع رقعة الشيعة في البلدان المترامية؟ فهي ثاني أكبر طائفة إسلاميَّة في المسلمين بلحاظ أنَّ الطائفة السُّنّيَّة بكلِّ مذاهبها طائفة واحدة.
↑صفحة ٢٦٥↑
تطبيق الشريعة الإسلاميَّة وقيادة المسلمين والإفتاء لهم وحلِّ مشاكلهم التشريعيَّة(٢٥٤).
وكان الشيعة الإماميَّة (الموسويَّة) قد خاضوا تجربة مرَّة مماثلة مع (الحركة الواقفيَّة)(٢٥٥) التي ادَّعت غيبة الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، ووقفت منها موقفاً رافضاً، وذلك لتناقض الغيبة مع فلسفة الإمامة، حيث قال لهم الإمام عليُّ بن موسى الرضا (عليه السلام):
«سبحان الله! يموت رسول الله ولا يموت موسى! قد والله مضى كما مضى رسول الله».
واتَّهم الواقفيَّة الذين زعموا أنَّ أباه لم يمت، بالكذب والكفر بما أنزل الله (عزَّ وجلَّ) على محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقال:
«لو كان الله يمدُّ في أجل أحد من بني آدم لحاجة الخلق إليه لمدَّ الله في أجل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(٢٥٦)».
وأخذ الإمام الرضا يناقش (الواقفيَّة) في معنى الإمام وفائدة قولهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٥٤) أيُّ تناقض بين نيابة الفقيه عن المعصوم وعقيدة الإمامة الإلهيَّة؟ بل هو كمال الترابط والتبعيَّة.
(٢٥٥) أيُّ مماثلة بين الواقفيَّة والاثني عشريَّة؟ فإنَّ الواقفيَّة قد استيقنوا بدفن جثمان الإمام الكاظم (عليه السلام)، وأنَّ قولهم إنكارٌ لإمامة الرضا (عليه السلام) ولبقاء الإمامة في الأرض، بينما الإمامة هي عقيدة ببقاء الإمامة وضرورتها، وظهوره (عجَّل الله فرجه) وإنْ طال الزمن، كما هي البشائر النبويَّة المرويَّة عند الفريقين.
(٢٥٦) وأمَّا قول الإمام الرضا (عليه السلام) إنكارٌ على الواقفيَّة في قولهم بانقطاع الإمامة بعد تيقُّنهم بدفن جثمان الإمام الكاظم (عليه السلام). وليس هو (عليه السلام) في صدد نفي الحاجة للإمام والإمامة الإلهيَّة ولبقاء سلسلة حُجَج الله على الأرض، وإنَّما هو في صدد نفي التلازم بين ضرورة وجود الحجَّة في الأرض وضرورة شخص فردٍ من سلسلة الحُجَج بعد فرض إمكان مجيء فرد آخر من تلك السلسلة.
↑صفحة ٢٦٦↑
بالإمامة إذا كانوا يُعلِّقون التزامهم بإمام غائب لا وجود له في الحياة(٢٥٧)، ويُنبِّههم إلى ضرورة التفاعل مع الإمام الحيِّ الظاهر، وينقل عن آبائه قولهم: إنَّ الحجَّة لا تقوم لله على خلقه إلَّا بإمام حيّ يُعرَف. ومن مات بغير إمام مات ميتة جاهليَّة.. إمام حيّ يعرفه. وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «من مات وليس له إمام يسمع له ويطيع مات ميتة جاهليَّة». ومن مات وليس عليه إمام حيّ ظاهر مات ميتة جاهليَّة.. إمام حيّ(٢٥٨).
ممَّا يكشف عن رفض الإمام الرضا (عليه السلام) لنظريَّة الغيبة في أيَّام الإمام، وذلك لسقوط الحجَّة عن الناس في حالة الغيبة، وضرورة حضور الإمام بينهم ومعرفتهم له، والاستماع إليه وطاعته، والتفاعل معه، إذا كان يجب على الله أنْ يبعث إماماً من قبله.
إذن فإنَّ الغيبة تُشكِّل تناقضاً صارخاً مع (ضرورة وجود الإمام) الذي يفترض أنْ يتصدَّى لقيادة المسلمين، ولا يجوز له أنْ يغيب عن الساحة. فإذا قلنا مثلاً: إنَّ الدولة يجب أنْ تُعيِّن ضابطاً للمرور في التقاطع الفلاني ورأيناه غائباً والمرور مشتبكاً، فإنَّ غيابه يُشكِّل تناقضاً مع قولنا: (لا بدَّ أنْ تُعيِّن الدولة ضابطاً)، ولا يفيد وجوده خلف ستار الغيب، لأنَّ المرور أصبح مشتبكاً ومعقَّداً وفوضويًّا. وهذا أمر عقلي بديهي وواضح، لا يمكن التغاضي عنه، أو تجاهله أو تبريره ببعض الأخبار الضعيفة(٢٥٩).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٥٧) ليس في إنكار الرضا (عليه السلام) عليهم في فائدة الإمام مع غيبته، كيف وهو يروي عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «اللَّهُمَّ بلى لا تخلو الأرض من حجَّة لله قائم إمَّا ظاهر مشهوراً أو خائفاً مضموراً، لئلَّا تبطل حُجَج الله وبيِّناته»؟
(٢٥٨) ذكرنا أنَّه إمام حيّ يُعرَف بنسبه واسمه لا بتمييز شخصه في الخارج، فإنَّنا نعتقد بنبوَّة عيسى (عليه السلام) حيٌّ في السماء معروف من دون أنْ نُميِّز شخصه.
(٢٥٩) انتظر المثال الذي سيأتي به الأخ محمّد منصور. وسيأتي بيان أنَّ الإمام يمارس دوره في التأثير على الأُمَّة في حالة خفاء هويَّته على الآخرين.
↑صفحة ٢٦٧↑
ولكن أركان نظريَّة (الغيبة) رفضوا استخدام العقل هنا بالرغم من استخدامه في تثبيت المقدَّمات الأُولى: (ضرورة وجود الإمام، وضرورة كونه معصوماً، وضرورة كونه معيَّناً من قِبَل الله)، وقد أخرج أحمد بن إسحاق القمِّي (أحد أركان نظريَّة الغيبة) كتاباً عن (الإمام الحجَّة ابن الحسن) قال: إنَّه أرسله إليه جواباً عن رسالة كان قد بعثها إليه واستفسر فيها عن علَّة الغيبة وقد جاء في ذلك الكتاب (التوقيع): «لا تسألوا عن أشياء إنْ تبد لكم تسؤكم(٢٦٠)»! وبناءً على ذلك فقد قال الشيخ الصدوق: (إنَّ الله لا يُسأَل عمَّا يفعل وهم يُسأَلون. ولا يقال له: لِـمَ؟ ولا كيف.. وهكذا إظهار الإمام إلى الله الذي غيَّبه، فمتى أراده أذن فيه فظهر).
وقال أيضاً: (لا يصحُّ إيمان عبد حتَّى لا يجد في نفسه حرجاً ممَّا قضى ويُسلِّم في جميع الأُمور تسليماً ولا يخالطه شكٌّ ولا ارتياب، والإسلام هو الاستسلام والانقياد، ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: ٨٥]).
وروى الصدوق حديثاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) يعتذر فيه عن بيان وجه الحكمة في (غيبة صاحب الأمر)، وذلك لأمر لم يُؤذَن له بكشفه للناس، ويقول: «إنَّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلَّا بعد ظهوره.. وإنَّه أمر من أمر الله وسرٌّ من سرِّ الله وغيب من غيب الله».
ورفض الشيخ المفيد سلوك طريق العقل والاعتبار في التحرِّي عن سبب الغيبة، وقال: (إنَّ المصلحة لا تُعرَف إلَّا من جهة علَّام الغيوب المطَّلع على الضمائر والعالم بالعواقب الذي لا تخفى عليه السرائر...).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٦٠) اعترافه بأنَّ أحمد بن إسحاق وهو من أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام) وهو من القائلين بالغيبة يناقض ما تقدَّم منه من أنَّ القول بالغيبة حدث بعد نصف قرن أو قرن من وفاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) على يد الصدوق والنعماني ومن في طبقتهم من علماء الشيعة.
↑صفحة ٢٦٨↑
وطالب الكراجكي الشيعة بالكفِّ عن التفكير(٢٦١) في هذه المسألة، بعد الإيمان بوجود الإمام وعصمته وأنَّه لا يفعل شيئاً إلَّا بإذن الله، والتسليم لكلِّ خطوة أو فعل أو موقف يتَّخذه (الإمام المعصوم) حتَّى مع عدم معرفة الأسباب والأغراض، قال: (إنَّه ليس يلزمنا معرفة هذا السبب، ولا يتعيَّن علينا الكشف عنه، ولا يضرُّنا عدم العلم به).
ونفى الشيخ الطوسي الحاجة إلى تكلُّف الكلام في سبب غيبة الإمام بعد ثبوت وجوده.
وبعد اعتراف أركان نظريَّة (الغيبة) بعدم وجود تفسير معقول(٢٦٢) أكيد للغيبة، لا تبقى حاجة لمناقشة الروايات والنظريَّات المختلفة التي قدَّموها لتبرير الغيبة بالحكمة المجهولة أو بتمحيص الشيعة وغربلتهم، أو بخوف صاحب الزمان على حياته من القتل، فإنَّ رواتها غلاة وضعاف، ومضمونها لا ينطبق على (محمّد بن الحسن العسكري)(٢٦٣).
وقد أعرض معظم الكُتَّاب الذين ألَّفوا حول الغيبة كالمفيد والمرتضى والطوسي عن تبنِّي نظريَّة (التمحيص) ما عدا الشيخ الصدوق الذي اهتمَّ بها بعض الشيء وإنْ لم يتبنَّها تبنِّياً كاملاً، خاصَّةً بعد انقراض الجيل الأوَّل الذي تعرَّض للتمحيص حتَّى لم يبقَ منه أحد(٢٦٤).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٦١) ليس في عبارته الكفُّ عن التفكير يا مدلِّس، وإنَّما فيه النهي عن الاستعجال في الأمر.
(٢٦٢) قد ذكر المفيد في الرسائل الخمسة التي عقدها في الغيبة والسيِّد المرتضى في (الشافي)، والشيخ في (تلخيص الشافي) وغيرهم من العلماء كالخاجة نصير الدِّين في (التجريد) قد ذكروا وجوهاً متعدِّدة محتملة في الغيبة، وأنَّها لا تنافي قيامة بدوره ومسؤليَّاته الإلهيَّة.
(٢٦٣) لا يتحرَّج الكاتب في قذف رواة الشيعة بالأباطيل، كيف لا وهو يقول في كتابه حول المهدي: إنَّ محمّد بن زياد مهمل، وعبد الله بن مسكان ضعيف؟
(٢٦٤) وهذا اعتراف ثانٍ من الكاتب بأنَّ القول بالغيبة وولادة المنتظر (عجَّل الله فرجه) هو قول الإماميَّة من عهد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) خلافاً لما يُكرِّره من أنَّه قول حادث بعد نصف قرن أو قرن.
↑صفحة ٢٦٩↑
وأرى من الضروري التوقُّف فقط عند نظريَّة الخوف التي فسَّر بها بعض المتكلِّمين كالسيِّد المرتضى والشيخ الطوسي والكراجكي حالة (الغيبة). وقد اعتمد القائلون بنظريَّة الخوف على مجموعة روايات ضعيفة السند وعامَّة لا تُحدِّد اسم القائم، وهي مرويَّة عن زرارة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قبل أكثر من مائة عام من وفاة الإمام الحسن العسكري(٢٦٥).
ولم يمكن اللجوء إلى نظريَّة الخوف في تفسير الغيبة إلَّا بعد القول بمجموعة من النقاط الافتراضية الوهميَّة كتحديد هويَّة الإمام المهدي من قبل، وهو أمر أثبتنا في الفصل الثاني عدم صحَّته(٢٦٦)، وكذلك افتراض وجود توتُّر سياسي بين البيت العلوي والبيت العبَّاسي الحاكم، وهذا ما سوف ننفيه في فصل آخر، والقول أيضاً بفكرة خاتميَّة المهدي للأئمَّة الاثني عشر، وهذه نظريَّة لم تكن موجودة في البداية وقد ظهرت في القرن الرابع الهجري(٢٦٧) والقول كذلك بحرمة(٢٦٨) استعمال الإمام المهدي للتقيَّة وإخفاء هويَّته حتَّى يوم ظهوره، وهو أمر لا ينسجم مع سياسة الأئمَّة السابقين ولا مبرِّر له.
ومع كلِّ ذلك فقد كانت نظريَّة الخوف بعيدة جدًّا عن أخلاق أهل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٦٥) وهذا اعتراف من الكاتب صريح أيضاً بوجود روايات قبل مائة عام من ميلاد الحجَّة دالَّة على ولادته وغيبته وأنَّه الثاني عشر، ومع ذلك يصفها بالضعف، والحال أنَّها فيها إعجاز بالإخبار عن شيء مستقبلي قد وقع. فكيف تكون ضعيفة؟ مع أنَّ الروايات المشار إليها متواترة في كُتُب الصدوق وغيبة الطوسي والنعماني وغيرها.
(٢٦٦) ما تقدَّم منه مجرَّد إنكار وجحود، وأنَّ الدولة العبَّاسيَّة سياستها ليِّنة مع البيت العلوي كما في تحليلاته الواهية المتقدِّمة.
(٢٦٧) عدَّة الأئمَّة الاثني عشر مرويَّة في الطُّرُق السُّنَّة والشيعة المتواترة عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وما في المتواتر عند الشيعة في أسمائهم وعدَّتهم.
(٢٦٨) الظاهر هنا أراد استعمال كلمة الوجوب فاستعمل الحرمة.
↑صفحة ٢٧٠↑
البيت (عليهم السلام) وحبِّهم للشهادة في سبيل الله(٢٦٩)، وهي تثير تساؤلات كبيرة حول السرِّ وراء عدم حفظ الله تعالى للمهدي، على فرض وجوده، كما حفظ النبيَّ موسى وأنجاه من فرعون، وكما حفظ الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المبشَّر به من قبل(٢٧٠).
وبالرغم من عدم تحديد الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) لهويَّة المهدي من قبل، فإنَّ التسليم بهذه المقولة جدلاً يثير تساؤلاً عن السرِّ وراء إعلان أهل البيت لاسم القائم من قبل إذا كانوا يعرفون أنَّه سيتعرَّض للضغط؟ ولماذا لم يتركوه سرًّا لحين موعد القيام، حتَّى يُجنِّبوا المهدي ملاحقة الأعداء منذ الولادة والطفولة(٢٧١)؟
وإذا صحَّت نظريَّة الخوف من الأعداء فلماذا يستتر المهدي عن أوليائه(٢٧٢)؟ ولقد قام مئات الملايين من الشيعة عبر التاريخ بانتظار(الإمام المهدي) وإعلان الاستعداد لنصرته، وقامت لهم دول تتبنَّى الإيمان به، فلماذا لم يظهر مع ارتفاع الخوف بالتأكيد(٢٧٣)؟
وهذا سؤال طرحه بعض رؤساء الدولة البويهيَّة الشيعيَّة التي قامت في القرن الرابع الهجري، على الشيخ المفيد وطالبه بالإجابه عليه، فأحال المفيد الإجابة على الله وقال: (إنَّ سرَّ الغيبة لا يعلمه إلَّا هو)، واعترف فيه بكثرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٦٩) الخوف هاهنا ليس على نفسه الشريفة وإنَّما هو لئلَّا تبطل سلسلة حُجَج الله في أرضه، وخلافة الله في أرضه. هذا خوف على مصلحة الدِّين والأُمَّة.
(٢٧٠) الكاتب يطالب بتعديل الله (عزَّ وجلَّ) لسياسته مع البشر.
(٢٧١) لم تكن روايات أهل البيت منتشرة عند السلطات، وإنَّما كانت منتشرة عند خواصِّهم.
(٢٧٢) وذلك خشية تسرُّب الخبر، مع أنَّه ليس مخفيًّا عن جميع أوليائه.
(٢٧٣) من الواضح الجلِّي أنَّه لم يُكتَب لتلك الدُّوَل التفوُّق في القوَّة على الدُّوَل المعاصرة لها، ومن ثَمَّ لم يُكتَب لها البقاء. فليس قيامها مؤشِّراً لمؤاتاة الظروف.
↑صفحة ٢٧١↑
الشيعة في ظلِّ الدولة البويهيَّة، ولكنَّه شكَّك في صدقهم وشجاعتهم وتقواهم.
والآن.. وبعد مضيِّ أكثر من ألف عام على القول بنظريَّة (الخوف) في تبرير (الغيبة).. وبعد سقوط عشرات الدول وقيام أضعافها، فإنَّ تلك النظريَّة تبدو بعيدة جدًّا عن الواقع وعارية عن أيَّة مصداقيَّة، ولا تُشكِّل سوى فرضيَّة وهميَّة لتبرير فرضيَّة وجود الإمام (محمّد بن الحسن العسكري) وتناقض غيبته مع مسؤوليَّة الإمامة الملقاة على كاهله من الله.
وهذا ما يُثبِت عدم صحَّة فرضيَّة ولادة ووجود (الإمام الحجَّة بن الحسن)، وإلَّا فلو كان حقًّا موجوداً لكان يجب عليه الظهور والقيام عند أوَّل فرصة تسمح له بذلك، وعدم جواز إبقاء الأُمَّة مهملة بدون قيادة شرعيَّة.
لقد طالب أصحاب نظريَّة الخوف: الشيعة، بأنْ يزيلوا الأسباب التي دفعت (الإمام المهدي) إلى الغيبة، وذلك بتمكينه وإعداد العُدَّة لنصرته، أو العزم على نصرته ومعاضدته والانقياد له والكفِّ عن نصرة الظالمين، ودعوته للخروج، وقال السيِّد المرتضى في (الشافي): (إنَّ المكلَّفين متمكِّنون ممَّا إذا فعلوه زالت تقيَّة الإمام وخوفه ووجب عليه الظهور.. وقد بيَّنَّا أنَّ سبب الغيبة هو فعل الظالمين وتقصيرهم فيما يلزم من تمكين الإمام فيه والإفراج بينه وبين التصرُّف فيهم، وبيّنَّا أنَّهم مع الغيبة متمكِّنون من مصلحتهم بأنْ يزيلوا السبب الموجب للغيبة ليظهر الإمام وينتفعوا بتدبيره وسياسته).
وقد زال الخوف اليوم وأزال الشيعة الأسباب التي دفعت الإمام إلى الغيبة، وأعدُّوا العُدَّة لنصرته وعزموا على معاضدته والانقياد له والكفِّ عن نصرة الظالمين، ودعوه للخروج، ولكنَّه لم يخرج! بالرغم من قول السيِّد المرتضى بوجوب الظهور عليه.
↑صفحة ٢٧٢↑
وقد رفض الشيخ الصدوق في (إكمال الدِّين) التصديق بقول الواقفيَّة في غيبة الإمام موسى الكاظم ومهدويَّته، لأنَّ عمره كان قد تجاوز يوم ذلك العمر الطبيعي المعهود، ومع ذلك فقد روى هو والطوسي روايات تقول بأنَّ عمر المهدي قد يطول مثل عمر نوح، وجواز أنْ ينقض الله العادة لضرب من المصلحة(٢٧٤).
* * *
ملاحظات سريعة على منهجيَّة أحمد الكاتب ونقدها:
حُرِّر بتاريخ (٢٠/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٧:٥٧) مساءً.
محمّد منصور عضو:
أُعاود توجيه النصيحة إلى من عرفته، أنْ لا تصطدم بأئمَّة أهل البيت(عليهم السلام) الثقل الثاني عِدل الثقل الأوَّل، وهو كتاب الله العزيز.
وبعد ذلك فأودُّ الإشارة المختصرة إلى المحاور التالية:
الأوَّل: أنَّك تنسب إلى نفسك التمسُّك بولاء أهل البيت (عليهم السلام) والمتابعة لهم وأخذ الفقه عنهم، فالعجب من كلامك هذا وإنكارك لإمامتهم، فما تصوُّرك عن معنى الولاء لهم؟ ولماذا المتابعة لهم وأخذ الفقه عنهم؟ وما هو تصوُّرك لحجّيَّة أقوالهم وأفعالهم، هل هم رواة وفقهاء مجتهدون كسائر الرواة والمجتهدين؟ فعلى ذلك قد ساويت بينهم وبين بقيَّة علماء المذاهب والفِرَق الأُخرى الإسلاميَّة، فلِمَ خصَّصت متابعتك وولاءك لهم وأخذ فقهك عنهم دون غيرهم، وحلالك وحرامك ودينك عنهم؟ وإنْ تصوَّرت حجّيَّتهم كخلفاء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٧٤) عبارة الصدوق في إكمال الدِّين (ص ٣٧): (إنَّ الله أبطل قولهم بإظهار موته - الكاظم (عليه السلام) - وموضع قبره ثمّ بقيام الرضا (عليه السلام) بالإمامة وظهور علاماتها فيه مع ورود النصوص عليه). ولم يقل الصدوق ما ادِّعاه الكاتب، هذا لكي يعرف القارئ الكريم إلى كم هي جرأة الكاتب في تزوير النسبة إلى المصادر، وتحريف الكلم عن مواضعه.
↑صفحة ٢٧٣↑
الله تعالى في أرضه أذهب عنهم الرجس وطهَّرهم من الزلل والجهل، وزوَّدهم بعلم لدنِّي من عنده وعلم الأسماء كلِّها ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ (البقرة: ١٢٤)، ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: ٣٠)، ﴿فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: ٦٥)، ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ (الأنبياء: ٧٣)، ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (المائدة: ٥٥)، ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء: ٥٩)، فهذه إمامة إلهيَّة، وعهد إلهي.
وهذا الذي ذكرت لك أنَّك لا تُدقِّق بين منهج البحث وأداء النتيجة في البحوث التخصُّصيَّة.
الثاني: أنَّك تدَّعي أنَّ الفرقة الإماميَّة الاثني عشريَّة فرقة حادثة في القرن الثالث الهجري، وهم القائلون بالإمامة الإلهيَّة، وهي التي تعني أنَّ الإمامة وحجَّة الله في أرضه لا تنقطع إلى يوم القيامة، وهذه القضيَّة العقيديَّة الكبرى وردت عليها أحاديث نبويَّة، رواها أصحاب الصحاح من علماء السُّنَّة وعلماء الشيعة، كحديث الثقلين، وأنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض، أو أنَّ حجّيَّة العترة كحجّيَّة القرآن وأنَّه كما القرآن باقية حجَّته إلى يوم القيامة فكذلك حجّيَّة العترة وأنَّ وجودها باقٍ، وهذا المفاد الكبروي هو دليل قطعي بمقتضى هذا الحديث المتواتر على بقاء الإمامة والإمام ووجوده.
وهكذا حديث الأئمَّة اثنا عشر من قريش وغيرها من الأحاديث المتَّفق عليها بين الفريقين الدالَّة على كبرى بقاء الإمامة - لاحظ إحقاق الحقِّ، وملحقاته للسيِّد المرعشي -، وكذلك مفاد الآيات القرآنيَّة، كالآيات المتقدِّمة وآية التطهير وآية الإبلاغ في الغدير وآية المودَّة في القربى، وهم الذين أوكل لهم
↑صفحة ٢٧٤↑
الأموال العامَّة في آية الأنفال والفيء في سورتي الأنفال والحشر، ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ﴾ (الحشر: ٧)، الدالّ على كونهم حُكَّام الشريعة والناس، وغيرها من الآيات التي أحصاها علماء الإماميَّة وكيفيَّة الاستدلال بها بحسب موازين الدلالة والظهور، مضافاً إلى روايات نزولها بحسب روايات الفريقين.
فبقاء الإمامة الإلهيَّة دالٌّ عليها كتلك الأدلَّة الدالَّة على وجود ثلَّة باقية ما بقي القرآن والشريعة والتكليف للبشريَّة.
الثالث: عدم اعتدادك بأحاديث أهل السُّنَّة الدالَّة على إمامتهم، كما ذكرت ذلك في كتابك حول المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهذا مضحك، لأنَّ خير الفضل ما شهدت به الخصوم، فإنَّه بعيد عن شبهة الدسِّ والوضع، وهذا القول منك دالٌّ على موازين حجّيَّة الخبر وكيف تتصاعد نسبة المطابقة للواقع في الخبر بحسب نظريَّة حساب الاحتمال الرياضي، وهو بحث من علم أُصول الفقه وعلم الدراية، ولكنَّه يحتاج إلى تخصُّص واطِّلاع علمي، والأعجب دعواك لزوم دراسة الأحاديث مع عدم معرفتك بموازين حجّيَّة الخبر، وهل البحث العلمي بحسب التشهِّي والانفعال النفسي؟
الرابع: تصوُّرك أنَّ معنى الإمامة هي وراثة نسبيَّة باللحم والدم، أو أنَّها زعامة سياسيَّة فقط كبقيَّة الزعامات السياسيَّة البشريَّة، وكتنظيم سياسي، أو حبوة بين الأرحام، والحال أنَّ الإمامة كمنصب إلهي كما هو مفاد قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ﴾ لم يُقيَّد بـ (في الأرض)، كما أنَّ قوله تعالى قبل ذلك في سورة البقرة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ ليس تقييداً لعنوان الخليفة والخلافة وإنَّما هو تقييد لمكان تواجد بدن الخليفة وكونه الجسدي، فهي تشمل إمامة الناس والثقلين لسعادة دار الدنيا ودار الآخرة، كما أنَّ اللفظ في ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ لم يُخصَّص بكونه نبيًّا ورسولاً.
↑صفحة ٢٧٥↑
وهي أي الإمامة والخلافة في ذرّيَّة إبراهيم، كما قال تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: ١٢٤)، أي في المعصومين عهد إلهي، والخليفة الإلهي والحجَّة والإمام مزوَّد بعلم لدنِّي، وهو علم الأسماء كلِّها الذي قصرت الملائكة أجمعون عن الإحاطة به كما في سورة البقرة، وقد كفر إبليس بسبب عدم تولِّيه وولاءه لخليفة الله تعالى في أرضه.
والزعامة السياسيَّة أحد شؤون خليفة الله وحجَّته في أرضه، فالاتِّصال بين الأرض والسماء لم ينقطع ولا ولن ينقطع إلى يوم القيامة، بينما في نظريَّة اليهود في قولهم: ﴿يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ﴾ (المائدة: ٦٤)، أنَّه انقطع تصرُّف وإدارة السماء لشؤون الأرض، ولا إرادة سمائيَّة حاكمة على أهل الأرض، فهم أرادوا قانوناً إلهيًّا على صعيد التنظير فقط من دون أنْ تتحكَّم السماء والإرادة الإلهيَّة في شؤون الأرض، بينما العقيدة الإسلاميَّة القرآنيَّة أنَّ يد التصرُّف الإلهي وإرادة السماء متنفِّذة في الأرض، فالوراثة معنويَّة لدنّيَّة، ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ﴾ (النمل: ١٦)، ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران: ٣٣)، ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (القَصص: ٦٨)، ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ (آل عمران: ٣٤)، والبحث يحتاج إلى بسط تخصُّصي كي تلتفت إلى أوَّليَّات محلِّ النزاع والاستدلال.
الخامس: أنَّك تحصر طريق العلم بولادة الإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه) بالروايات المتعرِّضة لكيفيَّة ولادته ومكانها وظروفها، وهي وإنْ كانت موجودة بأسانيد صحيحة في غيبة الشيخ الطوسي وإكمال الدِّين للصدوق وغيبة النعماني مثل ما عن الشيخ عن المفيد عن ابن قولويه عن العظام كالكليني وغيره من مراجع الطائفة
↑صفحة ٢٧٦↑
وأعلامها عن حكيمة عمَّة العسكري وغيرها من الطُّرُق المحتاج معرفة صحَّتها إلى التخصُّص في علم الرجال لا الاندفاع بسطحيَّة وعفويَّة عاطفيَّة إلى فتح كُتُب الرجال من دون إلمام بموازين الجرح والتعديل والضوابط العلميَّة. إلَّا أنَّ الحصر في إثبات ولادته بهذا الطريق والنسبة إلى الشيخ المفيد وغيره باستدلالهم بالطريق العقلي، تخبُّط غير علمي وتدليس للواقع والحقيقة، وأعجب كيف تريد أنْ تتحرَّى الحقيقة والنجاة لنفسك بالوصول للحقِّ، فإنَّ إثبات ولادته ووجوده قد ذكرناه في المحور الرابع أنَّه يمكن إثباته بالتلازم القطعي بين الأدلَّة النقليَّة والعقليَّة الدالَّة على بقاء الإمامة والإمام على وجه الأرض إلى يوم القيامة، كحديث الثقلين وأنَّهما لن يفترقا عن بعضهما إلى أنْ يردا الحوض، وغير ذلك من الأدلَّة على القضيَّة الكبرويَّة.
كما يمكن إثباته بطوائف مستفيضة أُخرى من الروايات ذكرها الصدوق في (إكمال الدِّين) والشيخ الطوسي في (الغيبة) والنعماني في كتاب (الغيبة)، بل وبعض علماء العامَّة أنَّ المهدي له غيبة تطول وأنَّ له غيبتين، أو النصوص الدالَّة على أنَّه ابن العسكري، والابن الرابع للرضا (عليه السلام)، أو الابن الخامس للكاظم (عليه السلام)، وغيرها، وقد استدلَّ بها الشيخ المفيد في (الإرشاد) والطبرسي في (إعلام الورى)، وغيرها.
السادس: أنَّك تطعن على الإماميَّة تارةً باتِّباعهم أحاديث الباطنيَّة، وأُخرى باتِّباع أحاديث الحشويَّة والظاهريَّة، وهذا تناقض في كلامك، فإنَّك لا تزن منهج البحث، وأنَّ الميزان ليس المادّيَّة الحسّيَّة ولا الغيب المطلق، بل كلٌّ من الشهادة والغيب والظهور، فتأويل المتشابه بالمحكم لا بدَّ منه، ولكن العذر عدم الاطِّلاع التخصُّصي بالعلوم الدِّينيَّة كميزان حجّيَّة الظهور وحدودها في علم أُصول الفقه، وميزان حجّيَّة التأويل في علم التفسير، ونشأة الغيب والشهادة في علوم المعارف، وغيرها.
↑صفحة ٢٧٧↑
السابع: نظريَّة الحكم والحكومة في الغيبة عند الشيعة الإماميَّة، ليست هي بإعطاء الأُمَّة الصلاحيَّة والولاية للحاكم كالفقيه، بل هي نيابة عن الإمام الثاني عشر الحيِّ المستتر، واستتاره عن الأنظار لا يعني عدم وجوده وعدم كونه وليًّا فعليًّا، بل هو وليُّ الأصل، ومعنى النيابة عنه هي تقيُّد الحاكم في حكومته بأقوال الأئمَّة المعصومين بما فيهم الإمام الثاني عشر في توقيعاته الصادرة عنه في الغيبة الصغرى، وكذا في أحكام القضاء وشرائطه بأقوالهم فيه، وكذا في الأحكام التنفيذيَّة الإجرائيَّة بأحكامهم (عليهم السلام)، كما أنَّ على الحاكم بالنيابة في زمن الغيبة أنْ يتحرَّى رضا الإمام الثاني عشر من خلال الأدلَّة الروائيَّة عنهم (عليهم السلام)، لكن ما هي الحيلة إنْ لم تكن من أهل التخصُّص في الفقه كي تفهم مباحث الفقه السياسي؟ هذا مضافاً إلى أنَّ معنى غيبته كما أشارت إليه الروايات وعلماء الإماميَّة كالمفيد والمرتضى والصدوق والطوسي ليس بمعنى عدم ممارسة دوره الإلهي بتوسُّط علمه اللدنِّي المزوَّد به من الله، وكذا دوره الاجتماعي والسياسي بتوسُّط منظومة رجال الغيب الذين يُصطَلح عليهم بتسمية الأبدال والأوتاد والسُّيَّاح الذين يُشكِّلون منظومة حكومته الخفيَّة التي تتحكَّم بمقادير الأُمَّة الإسلاميَّة، بل والبشريَّة لدرئها عن الانعطاف إلى الهاوية التامَّة، ولا عجب في ذلك فإنَّ القوى السياسيَّة الحقيقيَّة في هذا اليوم المعاصر، ليست هي الحكومات العلنيَّة الرسميَّة الظاهرة، بل هي الخفيَّة كتنظيم المخابرات الأمريكيَّة أو المخابرات الروسيَّة أو ألمانيا أو الماسونيَّة أو غيرها من القوى الخفيَّة، فالخفاء لا يعني عدم القدرة والوجود، بل يعني شدَّة القدرة ونفوذ الوجود، غاية الأمر أنَّ تنظيمه (عجَّل الله فرجه) السرِّي هي ما لا تقدر البشريَّة على اكتشافه، ﴿فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: ٦٥)، فهذه سورة الكهف تُنبأ المسلمين عن وجود أمثال الخضر صاحب موسى - أي
↑صفحة ٢٧٨↑
منظومة ومجموعة بشريَّة على وجه الأرض تقوم بمهامٍّ إلهيَّة -، وتذكر السورة نوع تلك المهامِّ الخفيَّة السرّيَّة الإلهيَّة، فالغيبة ليست بمعنى التعطيل عند الإماميَّة ولا العدم، بل السرّيَّة والتستُّر إلى أنْ يأذن الله تعالى بظهور تلك الحكومة الخفيَّة إلى العلن. والدعوى والتخيُّل الساذج بأنَّه ما الفائدة في ذلك؟ نجيبه بلزوم اليقظة من سباته البارد بمثل القوى التي تدير سياسة العالم هذا العصر، فإنَّها تكمن قوَّتها في سرّيَّتها إنْ كان السائل يفهم ألف باء السياسة والقوى والنظام البشري.
الثامن: عدم معرفتك باختلاف أقسام التواتر، فإنَّه ينقسم إلى دوائر متعدِّدة، فإنَّه تارةً بدائرة وسيعة وأُخرى متوسِّطة وثالثة صغيرة لا تنافي تحقُّق ضابطة التواتر، فمثلاً وقوع الحرب العالميَّة الأُولى متواتر لدى كافَّة البشر على وجه الأرض، وأمَّا وقوع حرب بدر فمتواتر بين المسلمين أو بالإضافة إلى الباحثين في التاريخ، وأمَّا قواعد اللغة العربيَّة وكافَّة علومها فمتواترة في حدود علماء الأدب واللغة العربيَّة وإنْ لم يطَّلع عامّة العرب أهل اللسان العربي على كافَّة قواعد ومسائل علوم اللغة العربيَّة فإنَّ جهلهم بها لا يضرُّ بتواترها لدى علماء اللغة فإنَّ التواتر متحقِّق بضابطته لديهم ولو في ضمن أدنى دوائر التواتر، فعلماء اللسان العربي حاملون لهذا التواتر وإنْ جهله عامَّة العرب، وهكذا الحال في تواتر حديث الغدير ونصوص الأئمَّة الاثني عشر وغيرها من الأحاديث فإنَّ التواتر بحمل علماء الرواة ولو بعضهم بقدر يُحقِّق ضابطة العدد - كمًّا وكيفاً - للتواتر وإنْ جهل تلك الأحاديث عامَّة الإماميَّة أو بعض رواتهم الآخرين، ويمكنك أنْ تستوضح ذلك بملاحظة مثال اللغة العربيَّة، فإنَّ الطفل الذي يُولَد من أب عربي لا يحيط باللغة في نشأته في الصغر ولا المراهقة حتَّى يكبر، ولعلَّه لا يحيط بها كلِّها إلى أنْ يموت ما دام لم يتخصَّص في علم اللغة، وإنَّما يتقن ويطَّلع
↑صفحة ٢٧٩↑
على بعض اللغة ومفرداتها وقواعدها، ولكن ذلك لا يضرُّ بتواتر اللغة الحامل له علماء التخصُّص اللغوي.
والحاصل أنَّك تزداد عندك التساؤلات والإشكالات والاعتراضات بسبب عدم إحاطتك بالعلوم التخصُّصيَّة كعلم الرجال والحديث وأبوابهما وغيرها من العلوم.
التاسع: قولك: إنَّ القرآن مصدر أوَّل، والأحاديث يجب أنْ تدرس، فهل تدبَّرت في الأدلَّة القرآنيَّة على الإمامة؟ ولِـمَ لا تذكر ما قالته الإماميَّة في هذا الصدد؟ وأرى أنَّك تخشى الفضيحة أمام آيات القرآن. فكيف تدَّعي أنَّه مصدر أوَّل وأنَّك قد نسيت ذكره سوى قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء: ٥٩)، دون بقيَّة الآيات: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ الشورى: ٣٨)، و﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ...﴾ (النساء: ٥٩)، وإلى ما قالته الإماميَّة في معنى التشاور من أنَّه بمعنى المداولة في المعلومات - بنك معلومات - والآراء لا السلطة الجماعيَّة والقيادة المشتركة، فارجع إلى كُتُب اللغة - إنْ كنت تُحسِن البحث اللغوي - في مادَّة شَوَر فإنَّها بمعنى الاختبار وتمحيص الآراء لإخراج الرأي الصواب، لا تحكيم الأكثريَّة وإنْ كان على الباطل، ولذلك سُمِّي المشتري في عقد البيع لأنَّه يختبر ويستعلم جودة المبيع والعوض، فالشورى بمعنى الفحص في الآراء والمداولة لها لاستخراج الرأي الصواب والمصيب لحكمة الواقع وإنْ كان هو على خلاف الكلِّ.
و(أمرهم) أي شؤونهم أي ما خُصِّص بهم لا ما هو خارج عن اختصاصهم كما في ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (المائدة: ٥٥)، الولاية العامَّة قد حصرتها الآيات في أُولي الأمر،
↑صفحة ٢٨٠↑
وغيرها: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (القَصص: ٦٨)، من الآيات الدالَّة على أنَّ الولاية العامَّة بيد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأُولي الأمر، ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ (النساء: ٨٣)، ﴿النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ (الأحزاب: ٦)، «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه».
وأمَّا الاستشهاد باحتجاج عليٍّ (عليه السلام) بالشورى فهو إلزام لمعاوية ومن قبله من الخلفاء بما هو حجَّة لديهم:
فإنْ كنت بالشورى ملكت أُمورهم * * * فكيف بهذا والمشيرون غُيَّب
وما لك لا تبصر الخطبة الشقشقيَّة والخطبة القاصعة وغيرها من خُطَبه الناصة على جعل الله لهم منصب الإمامة الإلهيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة، وكلماته (عليه السلام) في خصائص العترة وحقِّهم الإلهي.
وتعبير الرضا (عليه السلام): «إنَّ من غصب جماعة بغير مشورة...» فالجماعة في رواياتهم كما في (أُصول الكافي) من كانوا على الحقِّ وإنْ كانوا أقلّيَّة، لا بمعنى الأكثريَّة، ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً للهِ﴾ (النحل: ١٢٠)، كيف وقد وصف الله تعالى الأكثريَّة بـ (لا يعقلون) و(لا يفقهون)، وذمَّ الأكثريَّة كما في حديث الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام في أُصول الكافي (ج ١/ كتاب العقل).
وكذا قوله (عليه السلام): «لولا حضور الحاضر وقيام الحجَّة بوجود الناصر» ونحوهما من كلماته وكلمات الحسن (عليه السلام) وغيرهما من الأئمَّة (عليهم السلام)، فإنَّه لإعانة الأئمَّة المعصومين على تسلُّم مقاليد القوَّة، لا لأصل مشروعيَّة حكمهم (عليهم السلام).
العاشر: عدم التفاتك إلى أنَّ الأدلَّة العقليَّة على ضرورة الإمامة تلازم ضرورة وجود وبقاء الإمامة والإمام إلى يوم القيامة، وذلك للسطحيَّة في البحث والمباحث العقليَّة.
↑صفحة ٢٨١↑
الحادي عشر: دعواك طرح السؤال والأسئلة واقتراح الحوار مع عدَّة من علماء الإماميَّة فلم يجيبوك إلى عقد الحوار ولا أجابوك، وكفى بذلك كذباً ودجلاً، فكم حاورك من رجال الدِّين الإماميَّة في لندن وإيران وغيرها، وبينك وبين الله تعالى يوم يقوم الأشهاد لربِّ العالمين، ألَا تستحي من الكذب الصريح؟ وكيف تزعم مع ذلك أنَّك تتحرَّى الحقيقة؟ ولذلك أنصحك وإنِّي لعلى معرفة منك قريبة.
الثاني عشر: تهويلك في رسم الأحداث التاريخيَّة وأراجيفك في النقل عن الكُتُب الشيعيَّة بالتضليل وبمثل التعبير: فعصفت بالإماميَّة، أو أنَّ من اتِّبع جعفر الكذَّاب أكثر الإماميَّة، وغير ذلك، وأفحم دليل على زوبعتك اللفظيَّة كعادتك في الكتابة الصحفيَّة - أيَّام مجلَّة الشهيد - أنَّ الفرقة الإسلاميَّة التي تضرب بعددها في العالم الإسلامي كعِدل لأهل السُّنَّة هي الإماميَّة الاثنا عشريَّة.
الثالث عشر: دعواك أنَّ كُتُب الإماميَّة خالية من عدد الاثني عشر قبل القرن الثالث، فما أجهلك بعلم الحديث وفهارس الكُتُب، ونظرة واحدة إلى مئات الكُتُب التي يُلتَفت إليها بأدنى تتبُّع، المشحونة بالإشارة إلى إمامتهم والنصوصيَّة على ذلك بمختلف الدلالات المطابقيَّة والالتزاميَّة والتضمُّنيَّة والاقتضائيَّة والإشارة والإيماء وغيرها.
ولكن ما دواء العيِّ والجهل أو العناد للعقدة العاطفيَّة المبتلى بها؟ وما دواء عدم التخصُّص؟
* * *
لماذا لا نعرض الرواية التاريـخيَّة على التحقيق؟
حُرِّر (٢١/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٢:٢٩) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
↑صفحة ٢٨٢↑
قالوا قديماً: لا مناقشة في الأمثال، وإذا جاز لنا أنْ نضرب مثلاً حول وجود الإمام الثاني عشر فتعالَوا لنقف أمام هذا المثال:
رجل غني يدير أعمالاً اقتصاديَّة، وله وكلاء وموظَّفون.
يموت هذا الرجل في ريعان الشباب وقبل أنْ يتزوَّج أو دون أنْ يعترف بوجود وريث له من صلبه، فيتصارع أقاربه على تركته، في هذه الأثناء تتقدَّم إحدى سكرتيراته بالمطالبة بالإرث بدعوى الحمل والزواج السرِّي منه، ويبادر عدد من وكلائه وموظَّفيه إلى إنكار وفاته وادِّعاء اختفائه في ظروف غامضة، بينما يدَّعي عدد آخر من الوكلاء وجود ولد له في السرِّ ويدَّعون أنَّهم على علاقة سرّيَّة معه ويطالبون الزبائن بتسديد ديونه لهم.
نُفتِّش عن هذا الولد فلا نجد له أثراً في التاريخ.
نشكُّ في دعوى النوَّاب ونرفع القضيَّة إلى المحكمة.
ماذا يمكن أنْ تحكم المحكمة الشرعيَّة؟ هل تسارع إلى قبول الإشاعات والدعاوى، أم تبحث عن الدليل الشرعي الذي يُثبِت ولادة الطفل ووجوده وتوكيله لأُؤلئك النوَّاب والوكلاء؟
المستفيدون من دعوى وجوده كثيرون، ولهم مصالح مستمرَّة ماليَّة وسياسيَّة، ويرفضون التحقيق واللجوء إلى المحكمة للتأكُّد من دعاواهم، ويصرُّون على القول: إنَّ الشركة لا يُعقَل أنْ تبقى بلا مدير، ويفترضون أنَّ المدير السابق قد عيَّن مديراً سرّيًّا يدير الشركة من وراء حجاب، ولكنَّنا لا نرى غير الوكلاء يتصرَّفون في كلِّ شيء.
وإذا كان العقل والعرف والشرع يرفض الدعاوى المتَّهمة والمشكوك فيها، فتعالَوا نستمع إلى أدلَّة المثبتين لولادة ابن الإمام العسكري ونعرضها على
↑صفحة ٢٨٣↑
المحقِّقين والقضاة ليعطونا حكمهم فيها(٢٧٥).
يقول المثبتون لوجود ابن للإمام الحسن العسكري يفترض فيه أنْ يقود الأُمَّة الإسلاميَّة من قِبَل الله تعالى منذ سنة (٢٦٠) للهجرة، ولم يظهر حتَّى الآن، إنَّهم يعترفون أوَّلاً بأنَّ الظاهر من حياة الإمام العسكري وسيرته ينفي أنْ يكون له ولد، ولكنَّهم يقولون: إنَّ الظروف السياسيَّة لم تكن لتسمح للحسن العسكري بإعلان وجود ولد له، وإنَّ الخوف عليه من السلطات العبَّاسيَّة التي كانت تعلم من قبل أنَّه الإمام المهدي الذي سوف يزلزل عرشها، هو الذي أجبر الإمام على إخفاء أمر ولادة ابنه (المهدي المنتظر).
ثمّ يذكرون تفاصيل ولادة (محمّد بن الحسن العسكري) والظروف التي أحاطت بها وقَصص الذين شاهدوه والتقوا به في مختلف مراحل حياته أيَّام أبيه وبعد وفاته.
أُمُّ المهدي:
ويختلفون حول اسم أُمِّ المهدي، فبينما يقول الشيخ الأقدم ابن أبي الثلج البغدادي في (تاريخ الأئمَّة) والمسعودي في (إثبات الوصيَّة) والطوسي في (الغيبة) والمجلسي في (بحار الأنوار): إنَّ اسمها (نرجس)، يقول محمّد بن عليٍّ الصدوق في (إكمال الدِّين): إنَّ اسمها (مليكة)، وهي بنت يشوعا بن قيصر مَلِك الروم في ذلك الزمان، وإنَّها رأت الإمام الحسن العسكري في المنام فأحبَّته وتزوَّجته وهربت من أبيها الذي كان يريد تزويجها من ابن أخيه، ووقعت في الأسر حيث أرسل الإمام الهادي نخَّاساً لشرائها من سوق الرقيق في بغداد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٧٥) الكاتب في مثاله يقذف علماء الشيعة بكون دواعيهم جمع الأموال والحقوق الشرعيَّة من الأخماس، بينما ستأتي مقالة له: إنَّ علماء الشيعة المتقدِّمين قد عطَّلوا باب الخُمُس فلا يكون للحكومة الإسلاميَّة التي تقام في عصر الغيبة منبع مالي.
↑صفحة ٢٨٤↑
ولكن المسعودي يقول: إنَّها كانت جارية وُلِدَت في بيت بعض أخوات أبي الحسن عليِّ بن محمّد، وربَّتها في بيتها، فلمَّا كبرت وعبلت دخل أبو محمّد فنظر إليها فأعجبته، وطلب من عمَّته أنْ تستأذن أباه في دفعها إليه، ففعلت.
ويقول الصدوق في رواية أُخرى: إنَّ اسم أُمِّ المهدي هو (صقيل)، وإنَّها ماتت في حياة الحسن العسكري.
وهناك عدَّة أسماء أُخرى يذكرها المجلسي هي (سوسن) و(ريحانة) و(خمط)، وينقل عن الشهيد الأوَّل في (الدروس): أنَّها حرَّة، وأنَّ اسمها (مريم بنت زيد العلويَّة)(٢٧٦).
تاريخ ولادته:
ويختلفون حول تاريخ مولد (الإمام محمّد بن الحسن العسكري)، حيث أخذ قوم من الشيعة الأوائل بدعوى الجارية (نرجس) بالحمل بعد وفاة الإمام العسكري، وقالوا: إنَّها ولدت (المهدي) بعد ذلك بثمانية أشهر.
ويقول الشيخ المفيد في رسالة مولد الأئمَّة (ص ٦): إنَّه وُلِدَ في الثامن من شهر ذي القعدة سنة (٢٥٧) أو (٢٥٨هـ)، ويقول: إنَّه كان له عند وفاة أبيه سنتان وأربعة أشهر. كما يقول في (الفصول المختارة): إنَّه وُلِدَ في النصف من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٧٦) الاختلاف في الأسماء المحتفَّة بشخصيَّة في التاريخ، وغير ذلك من الجزئيَّات والتفاصيل أمر واقع في كلِّ الحوادث التاريخيَّة سواء في نقل المؤرِّخين أو نقل الرواة عند الفريقين، والأُمَم البشريَّة الأُخرى، كما هو الحال في أسماء أجداد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم). مضافاً إلى أنَّ تعدُّد الأسماء لشخص واحد أمر معهود في التاريخ الإسلامي، وقد ذكر كلٌّ من الشيخ الطوسي والصدوق والنعماني (قدّس سرّهم) وجوه الملائمة في الاختلاف في الروايات، فلاحظ. ثمّ إنَّه قد تعدَّد اسم الكاتب نفسه وكون أصله لاريًّا أو كربلائيًّا أو...، ومن عرق عربي أو فارسي أو... إلى غير ذلك من الأُمور التي لا تدعو إلى نسف وجوده عن وجه الأرض.
↑صفحة ٢٨٥↑
شعبان من سنة (٢٥٥هـ)، ويقول في رواية أُخرى: إنَّه وُلِدَ سنة (٢٥٢هـ)، وكان سنُّه عند وفاة أبيه ثماني سنوات.
ولكن الشيخ الصدوق يقول في (إكمال الدِّين): إنَّ مولده كان في (٨) شعبان سنة (٢٥٦هـ).
أمَّا الشيخ الطوسي فيقول في (الغيبة): إنَّه وُلِدَ في النصف من رمضان، دون أنْ يُحدِّد السنة، ويتَّفق في رواية أُخرى مع الشيخ المفيد في أنَّه وُلِدَ في النصف من شعبان سنة (٢٥٥هـ).
وكان من الطبيعي أنْ تختلف هذه الروايات في تحديد تاريخ مولد شخص تقول: إنَّه وُلِدَ بصورة سرّيَّة وظلَّ أمره مخفيًّا.
كيفيَّة ولادته:
يعتمد الصدوق والطوسي والمسعودي والخصيبي الذين يروون قصَّة ولادة الإمام (المهدي) على رواية واحدة ينسبونها إلى حكيمة (أو خديجة) عمَّة الإمام العسكري، وتقول فيها:
بعث إليَّ أبو محمّد الحسن بن عليٍّ، فقال: «يا عمَّة، اجعلي إفطاركِ هذه الليلة عندنا، فإنَّها ليلة النصف من شعبان، فإنَّ الله تبارك وتعالى سيُظهر في هذه الليلة الحجَّة»، قالت: فقلت له: ومَنْ أُمُّه؟ فقال لي: «من نرجس»، قلت له: جعلني الله فداك ما بها أثر، فقال: «هو ما أقول لكِ».
قالت: فجئت، فلمَّا سلَّمت وجلست جاءت تنزع خفِّي، وقالت لي: يا سيِّدتي وسيِّدة أهلي كيف أمسيتِ؟ فقلت لها: بل أنتِ سيِّدتي وسيِّدة أهلي، قالت: فأنكرت قولي، وقالت: ما هذا يا عمَّة؟! فقلت لها: يا بنيَّة، إنَّ الله تعالى سيهب لكِ في ليلتكِ هذه غلاماً سيِّداً في الدنيا والآخرة، قالت: فخجلت واستحيت، فلمَّا أنْ فرغت من صلاة العشاء الآخرة أفطرت أخذت مضجعي
↑صفحة ٢٨٦↑
فرقدت، فلمَّا كان في جوف الليل قمت إلى الصلاة، ففرغت من صلاتي، وهي نائمة ليس بها حادث، ثمّ جلستُ معقِّبة، ثمّ اضطجعت، ثمّ انتبهت فزعة وهي راقدة، ثمّ قامت فصلَّت ونامت.
قالت حكيمة: وخرجت أتفقَّد الفجر، فإذا أنا بالفجر الأوَّل كذنب السرحان، وهي نائمة، فدخلني الشكُّ، فصاح أبو محمّد (عليه السلام) من المجلس فقال: «لا تعجلي يا عمَّة فهاكِ الأمر قد قرب».
قالت: فبينما أنا كذلك إذ انتبهت فزعة، فوثبت إليها فقلت: اسم الله عليك، ثمّ قلت لها: أتحسِّين شيئاً؟ قالت: نعم، يا عمَّة، فقلت لها: اجمعي نفسكِ واجمعي قلبكِ فهو ما قلت لكِ.
قالت: فأخذتني فترة، فانتبهت بحسِّ سيِّدي، فكشفت الثوب عنه، فإذا أنا به ساجداً يتلقَّى الأرض بمساجده، فضممته إليَّ فإذا أنا به نظيف متنظِّف، فصاح بي أبو محمّد: «هلمِّي إليَّ ابني يا عمَّة»، فجئت به إليه، فوضع يديه تحت إليتيه وظهره ووضع قدميه على صدره، ثمّ أدلى لسانه في فيه وأمرَّ يده على عينيه وسمعه ومفاصله، ثمّ قال: «تكلَّم يا بنيَّ»، فقال: «أشهد أنْ لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمّداً رسول الله»، ثمّ صلَّى على عليٍّ أمير المؤمنين وعلى الأئمَّة إلى أنْ وقف على أبيه ثمّ أحجم.
ثمّ قال أبو محمّد: «يا عمَّة، اذهبي به إلى أُمِّه ليُسلِّم عليها وائتيني به»، فذهبت به فسلَّم عليها ورددته فوضعته في المجلس، ثمّ قال: «يا عمَّة، إذا كان يوم السابع فأتينا».
قالت حكيمة: فلمَّا أصبحت جئت لأُسلِّم على أبي محمّد، وكشفت الستر لأتفقَّد سيِّدي فلم أرَه، فقلت: جُعلت فداك، ما فعل سيِّدي؟ فقال: «يا عمَّة، استودعناه الذي استودعته أُمُّ موسى...».
↑صفحة ٢٨٧↑
قالت حكيمة: فلمَّا كان في اليوم السابع جئت فسلَّمت وجلست، فقال: «هلمِّي إليَّ ابني»، فجئت بسيِّدي وهو في الخرقة، ففعل به كفعلته الأُولى، ثمّ أدلى لسانه في فيه كأنَّه يُغذِّيه لبناً أو عسلاً، ثمّ قال: «تكلَّم يا بنيَّ»، فقال: «أشهد أنْ لا إله إلَّا الله»، وثنَّى بالصلاة على محمّد وعلى أمير المؤمنين وعلى الأئمَّة الطاهرين حتَّى وقف على أبيه، ثمّ تلا هذه الآية: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ (القَصص: ٥ و٦).
وتقول حكيمة في رواية أُخرى يذكرها الصدوق: إنَّ نرجس لم يكن بها أيّ أثر للحمل، وإنَّها لم تكن تعرف ذلك، وعندما قالت لها حكيمة إنَّها ستلد هذه الليلة استغربت وقالت: يا مولاتي، ما أرى شيئاً من هذا، حتَّى إذا كان آخر الليل وقت طلوع الفجر وثبت فزعة وقالت: ظهر بي الأمر الذي أخبركِ مولاي. وتقول الرواية: إنَّ حكيمة أقبلت تقرأ على نرجس القرآن، فأجابها الجنين من بطن أُمِّه، يقرأ مثلما تقرأ، وسلَّم عليها، ممَّا أثار فزعها. ولكن الرواية تقول: إنَّ نرجس غُيِّبت عن حكيمة فلم ترَها كأنَّه ضُرِبَ بينها وبين نرجس حجاب، ممَّا أثار استغرابها وصراخها ولجوئها إلى أبي محمّد، حيث قال لها: «ارجعي يا عمَّة وستجدينها في مكانها».
قالت حكيمة: فرجعت، فلم ألبث أنْ كُشِفَ الغطاء الذي كان بيني وبينها، وإذا أنا بها وعليها من أثر النور ما غشي بصري، وإذا بالصبيِّ ساجداً لوجهه.
وتضيف هذه الرواية موضوعاً آخر هو تحليق عدد من الطيور فوق رأس الوليد، وقول الحسن لطير منها: «احمله واحفظه وردَّه إلينا في كلِّ أربعين يوماً»، فتناوله الطير وطار به في جوِّ السماء، ممَّا جعل أُمَّه تبكي لفراقه.
↑صفحة ٢٨٨↑
قالت حكيمة: فقلت: وما هذا الطير؟ فقال: «هذا روح القدس الموكَّل بالأئمَّة يُوفِّقهم ويُسدِّدهم ويُربِّيهم بالعلم»، فلمَّا كان بعد أربعين يوماً رُدَّ الغلام وكان يمشي كأنَّه ابن سنتين، ممَّا دفعها للتساؤل بدهشة، فقال لها ابن أخيها الحسن: «إنَّ أولاد الأنبياء والأوصياء إذا كانوا أئمَّة ينشأون بخلاف ما ينشأ غيرهم، وإنَّ الصبيَّ منَّا إذا كان أتى عليه شهر كان كمن أتى عليه سنة، إنَّ الصبيَّ منَّا ليتكلَّم في بطن أُمِّه ويقرأ القرآن ويعبد ربَّه (عزَّ وجلَّ) وعند الرضاع تطيعه الملائكة وتنزل عليه صباحاً ومساءً».
وتواصل الرواية نقلاً عن حكيمة: أنَّها لم تزل تلي ذلك الصبيَّ في كلِّ أربعين يوماً إلى أنْ رأته رجلاً قبل مضيِّ أبي محمّد بأيَّام قلائل فلم تعرفه، وقالت لابن أخيها: من هذا الذي تأمرني أنْ أجلس بين يديه؟! فقال لها: «هذا ابن نرجس، وهذا خليفتي من بعدي، وعن قليل تفقدونني، فاسمعي له وأطيعي». قالت حكيمة: فمضى أبو محمّد بعد ذلك بأيَّام قلائل، وافترق الناس كما ترى، ووالله إنِّي لأراه صباحاً مساءً، وإنَّه ليُنبِّئني عمَّا تسألون عنه فأُخبركم، ووالله إنَّي لأُريد أنْ أسأله عن الشيء فيبدأني به، وإنَّه ليرد عليَّ الأمر فيخرج إليَّ منه جوابه من ساعته من غير مسألتي.
رواية الطوسي لقصَّة ولادة المهدي:
ويورد الطوسي في (الغيبة) قصَّة ولادة المهدي، ولكن لا يذكر قصَّة الطيور وروح القدس وأخذ الوليد (المهدي)، بل يقول: إنَّ حكيمة ودَّعت أبا محمّد وانصرفت إلى منزلها في أعقاب ولادة المهدي، وعندما اشتاقت له بعد ثلاثة أيَّام رجعت ففتَّشت عنه في غرفته فلم تجد له أثراً ولا سمعت له ذكراً فكرهت أنْ تسأل، ودخلت على أبي محمّد فبدأها بالقول: «هو يا عمَّة في كنف الله أحرزه وستره حتَّى يأذن الله له، فإذا غيَّب الله شخصي وتوفَّاني ورأيتِ شيعتي قد
↑صفحة ٢٨٩↑
اختلفوا، فأخبري الثقات منهم، وليكن عندكِ مستوراً وعندهم مكتوماً، فإنَّ وليَّ الله يُغيِّبه الله عن خلقه ويحجبه عن عباده فلا يراه أحد حتَّى يُقدِّم له جبرائيل فرسه، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً».
ويضيف الطوسي في رواية أُخرى قول الحسن لعمَّته: «استودعناه الذي استودعته أُمُّ موسى»، والطلب منها أنْ تأتي في اليوم السابع، حيث يعود المهدي فتراه حكيمة.
ويقول في رواية ثالثة: إنَّ حكيمة دخلت بعد ثلاثة أيَّام، فرأت المهدي في المهد وعليه ثوب أخضر وكان نائماً على قفاه غير محزوم ولا مقموط، ففتح عينيه وجعل يضاحكها ويناجيها بإصبعه، ثمّ غاب بعد ذلك.
ويقول في رواية رابعة: إنَّ حكيمة وجدت على ذراع المهدي عند ولادته مكتوباً: ﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾ (الإسراء: ٨١)، كما وجدته مفروغاً منه (أي مختوناً)، وأنَّه رفع بينها وبين المهدي مع أبيه الحسن كالحجاب، فلم ترَ أحداً، فقالت: أين مولاي؟! فقال لها الحسن: «أخذه من هو أحقّ منكِ ومنَّا»، وعندما عادت بعد أربعين يوماً وجدت المهدي يمشي في الدار فلم ترَ وجهاً أحسن من وجهه ولا لغةً أفصح من لغته، وعندما تعجَّبت من ذلك وقالت: أرى من أمره ما أرى وله أربعون يوماً، تبسَّم أبو محمّد وقال: «يا عمَّتي، أمَا علمتِ أنَّا معاشر الأئمَّة ننشأ في اليوم كما ينشأ غيرنا في السنة؟»، فقامت وانصرفت ولم ترَه بعد ذلك.
ويروي الطوسي عن خادمتين للإمام العسكري (نسيم ومارية) أنَّهما قالتا: لـمَّا خرج صاحب الزمان من بطن أُمِّه سقط جاثياً على ركبتيه رافعاً سبَّابته نحو السماء، ثمّ عطس فقال: «الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمّد وآله داخراً لله غير مستنكف ولا مستكبر»، ثمّ قال: «زعمت الظلمة أنَّ حجَّة الله داحضة، ولو أُذِنَ لنا في الكلام لزال الشكُّ».
↑صفحة ٢٩٠↑
ويضيف المسعودي والخصيبي جانباً آخر إلى قصَّة ولادة المهدي فيقولان: إنَّ المهدي وُلِدَ من فخذ أُمِّه، وينقلان عن الإمام العسكري قوله لعمَّته حكيمة: «إنَّ الأئمَّة لا يُحمَلون في البطون وإنَّما يُحمَلون في الجنوب».
ويتَّفق المسعودي مع الصدوق والطوسي في أنَّ حكيمة نامت في تلك اللحظات وهي قاعدة ووقع عليها سبات لم تتمالك نفسها منه ولم تحسّ إلَّا على صوت الوليد تحت نرجس وصوت أبيه يناديها: «يا عمَّتي، هاتي ابني»، ويقول: إنَّ المهدي اختفى في ذلك اليوم وعاد بعد أُسبوع فرأته حكيمة مرَّة أُخرى ثمّ اختفى ولم ترَه حتَّى أربعين يوماً، حيث شاهدته يمشي.
ويختلف المسعودي مع الصدوق الذي ذكر في روايته: أنَّ الإمام ينشأ في الشهر كما ينشأ غيره في السنة، ومع الطوسي الذي ذكر: أنَّ الإمام ينشأ في اليوم كما ينشأ غيره في السنة، فيُقلِّل المسعودي النسبة، وينقل عن العسكري قوله لحكيمة: «أوَما علمتِ يا عمَّتي أنَّا معاشر الأوصياء ننشأ في اليوم مثل ما ينشأ غيرنا في الجمعة، وننشأ في الجمعة مثل ما ينشأ غيرنا في الشهر، وننشأ في الشهر مثل ما ينشأ غيرنا في السنة؟».
ويروي المسعودي أخيراً عن أبي محمّد العسكري أنَّه قال: «لـمَّا وُلِدَ الصاحب بعث الله (عزَّ وجلَّ) مَلَكين فحملاه إلى سرادق العرش حتَّى وقف بين يدي الله فقال له: مرحباً بك، بك أُعطي وبك أعفو وبك أُعذِّب».
سرّيَّة الولادة:
ومع أنَّ رواية حكيمة السابقة تقول: إنَّ أمر الولادة ظلَّ سرّيًّا مكتوماً عن الجميع، وأنَّ الإمام الحسن طلب منها إذا رأت اختلاف الشيعة بعد وفاته أنْ تُخبِر الخواصَّ فقط، إلَّا أنَّ الصدوق يذكر في (إكمال الدِّين) أنَّ الإمام الحسن العسكري أخبر كبير الشيعة في قم: أحمد بن إسحاق، وأنَّه كتب له: «وُلِدَ لنا
↑صفحة ٢٩١↑
مولود، فليكن عندك مستوراً وعن جميع الناس مكتوماً، فإنَّا لم نُظهر عليه إلَّا الأقرب لقرابته والمولى لولايته، أحببنا إعلامك ليسرَّك الله به مثل ما سرَّنا به، والسلام».
وفي رواية أُخرى يقول الصدوق: إنَّ أحمد بن إسحاق دخل على الإمام العسكري يوماً فسأله عن الإمام والخليفة بعده، فنهض مسرعاً فدخل البيت ثمّ خرج وعلى عاتقه غلام من أبناء الثلاث سنين، وقال له: «يا أحمد، لولا كرامتك على الله (عزَّ وجلَّ) وعلى حُجَجه ما عرضت عليك ابني هذا».
ويقول الفضل بن شاذان في (كشف الحقِّ): إنَّ الحسن قال: «وُلِدَ وليُّ الله وحجَّته على عباده وخليفتي من بعدي ليلة النصف من شعبان، وكان أوَّل من غسَّله رضوان خازن الجنَّة، ثمّ غسَّلته حكيمة».
ويقول الصدوق: إنَّ من الذين علموا بخبر الولادة أبا الفضل الحسن بن الحسين العلوي، الذي يقول: إنَّه دخل على أبي محمّد بسُرَّ من رأى وهنَّأه بولادة ابنه. وكان منهم أيضاً: (أبو هارون) الذي يقول: إنَّه رأى صاحب الزمان، وإنَّه كشف عنه الثوب فوجده مختوناً.
ويُؤكِّد الطوسي هذين الخبرين في (الغيبة).
ويقول الشيخ المفيد: إنَّ الحسن العسكري كان يعرضه على أشخاص بمفردهم حين يزورونه، كعمرو الأهوازي.
وفي رواية أُخرى: إنَّ الإمام العسكري أرسل أموالاً إلى بعض الشيعة وأمرهم أنْ يعقُّوا عن ابنه.
رؤية المهدي في حياة أبيه:
وعلى أيِّ حالٍ فإنَّ المؤرِّخين الشيعة ينقلون قَصصاً كثيرة عن مشاهدة الإمام الثاني عشر (محمّد بن الحسن العسكري) في حياة أبيه وعند وفاته، حيث
↑صفحة ٢٩٢↑
ينقل الكليني والصدوق والطوسي عن رجل من أهل فارس كان يخدم في بيت الإمام العسكري: أنَّه شاهد يوماً جارية تحمل غلاماً أبيض، وقول الإمام له: «هذا صاحبكم»، وعدم رؤيته بعد ذلك.
كما ينقل الصدوق والطوسي عن مجموعة من أصحاب الإمام العسكري فيهم عثمان بن سعيد العمري: أنَّه عرض عليهم ابنه وقال لهم: «هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرَّقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا، أمَا إنَّكم لا ترونه بعد يومكم هذا»، قالوا: فخرجنا من عنده، فما مضت إلَّا أيَّام قلائل حتَّى مضى أبو محمّد.
كما ينقل الصدوق في (إكمال الدِّين) قَصصاً عن رجل اسمه (يعقوب بن منقوش): أنَّه دخل على الإمام العسكري يوماً فسأله: من صاحب هذا الأمر؟ فكشف له الإمام ستراً عن بيت، فخرج غلام خماسي وجلس على فخذ أبي محمّد، فقال ليعقوب: «هذا صاحبكم»، ثمّ قال للغلام: «يا بنيَّ، ادخل إلى الوقت المعلوم»، فدخل البيت واختفى فيه.
وينقل عن (نسيم) خادمة الإمام العسكري: أنَّها دخلت على صاحب هذا الأمر بعد مولده بليلة فعطست عنده، فقال لها: «يرحمكِ الله».
وينقل عن خادم آخر هو (طريف أبو نصر): أنَّه دخل على صاحب الزمان فطلب منه أنْ يأتيه بصندل أحمر، ثمّ قال له: «أنا خاتم الأوصياء، وبي يدفع الله البلاء عن أهلي وشيعتي».
وينقل عن رجل سوري اسمه (عبد الله): أنَّه ذهب إلى بستان بني عامر فرأى فتى جالساً على مصلَّى واضعاً كمَّه في فيه، فقال: من هذا؟ فقيل له: (محمّد) ابن الحسن.
وينقل الصدوق رواية مطوَّلة جدًّا عن سعد بن عبد الله القمِّي: أنَّه دخل
↑صفحة ٢٩٣↑
مع أحمد بن إسحاق على الإمام العسكري فرأى غلاماً على فخذه وبين يديه رُمَّانة ذهبيَّة يلعب بها، وبيد الحسن قلم إذا أراد أنْ يكتب شيئاً قبض الغلام على يده فيدحرج الرُّمَّانة بين يديه ويشغله بردِّها كيلا يصدَّه عن كتابة ما أراد، وكان مع أحمد بن إسحاق جراب فيه هدايا الشيعة والموالي فوضعه بين يدي العسكري، فقال للغلام: «فضَّ الخاتم»، فرفض وقال: «أيجوز أنْ أمدَّ يداً طاهرة إلى هدايا نجسة وأموال رجسة، قد شيب حلالها بحرامها؟!»، فأخرجها أحمد بن إسحاق ليُميِّز بينها، فأخذ الغلام يحكي قصَّة الأموال والهدايا واحدة فواحدة.
وفي رواية أُخرى ينقلها الصدوق عن أحمد بن إسحاق يقول فيها: إنَّه سأل الإمام عن الخليفة بعده، وإنَّه جاء بابنه وعرضه عليه، ولكنَّه لم يطمئنّ فسأل: يا مولاي، هل من علامة يطمئنُّ إليها قلبي؟ فنطق الغلام بلسان عربي فصيح فقال: «أنا بقيَّة الله في أرضه والمنتقم من أعدائه، فلا تطلب أثراً بعد عين»، فقال الإمام العسكري: «هذا سرٌّ من سرِّ الله فخذ ما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين».
ويروي الطوسي في (الغيبة) عن كامل بن إبراهيم المدني: أنَّه ذهب إلى الإمام العسكري ليسأله عن بعض المسائل، وبينما هو جالس في الدار، وإذا بالريح تكشف ستراً مرخى على باب، وإذا هو بفتى كأنَّه فلقة قمر، فقال له: يا كامل بن إبراهيم جئت إلى حالته، فلم يستطع كشفه، ولم يعاينه بعد ذلك.
وينقل أيضاً عن إسماعيل بن عليٍّ النوبختي: أنَّه دخل على الإمام العسكري قبيل وفاته بساعة، وأنَّه طلب من خادمه (عقيد) أنْ يدخل البيت ويأتيه بصبيٍّ فيه، فقال له أبو محمّد: «أبشر يا بنيَّ فأنت صاحب الزمان، وأنت المهدي، وأنت حجَّة الله على أرضه، وأنت ولدي ووصيِّي وأنا ولدتك، وأنت محمّد بن الحسن...، وأنت خاتم الأئمَّة الطاهرين، وبشَّر بك رسول الله وكنَّاك، بذلك عهد إليَّ أبي عن آبائك الطاهرين».
↑صفحة ٢٩٤↑
رؤيته عند وفاة أبيه:
وينفرد محمّد بن عليٍّ الصدوق من بين المؤرِّخين القدامى بذكر قَصص أُخرى كقصَّة (أبي الأديان البصري) الذي يقول: كنت أخدم الحسن بن عليٍّ وأحمل كُتُبه إلى الأمصار، فدخلت عليه في علَّته التي تُوفِّي فيها، فكتب معي كُتُباً وقال: «امض بها إلى المدائن فإنَّك ستغيب خمسة عشر يوماً وتدخل إلى (سُرَّ من رأى) يوم الخامس عشر، وتسمع الواعية في داري وتجدني على المغتسل».
فقلت: يا سيِّدي إذا كان ذلك فمن؟
قال: «من طالبك بجواب كُتُبي فهو القائم بعدي».
فقلت: زدني.
قال: «من يُصلِّي عليَّ فهو القائم بعدي».
فقلت: زدني.
فقال: من أخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي».
وخرجت بالكُتُب إلى المدائن، أخذت جواباتها ودخلت (سُرَّ من رأى) يوم الخامس عشر كما ذكر لي، فإذا أنا بالواعية في داره، وإذا به على المغتسل، وإذا أنا بجعفر بن عليٍّ أخيه بباب الدار والشيعة من حوله يعزُّونه ويُهنِّئونه، فقلت في نفسي: إنْ يكن هذا الإمام فقد بطلت الإمامة، لأنِّي كنت أعرفه يشرب النبيذ ويقامر في الجوسق ويلعب بالطنبور، فتقدَّمت فعزَّيت وهنَّيت، فلم يسألني عن شيء، ثمّ خرج عقيد فقال: يا سيِّدي، قد كُفِّن أخوك فقم وصلِّ عليه، فدخل جعفر بن عليٍّ والشيعة من حوله يقدمهم السمَّان (عثمان بن سعيد العمري)، فلمَّا صرنا في الدار إذا نحن بالحسن على نعشه مكفَّناً، فتقدَّم جعفر بن عليٍّ ليُصلِّي على أخيه، فلمَّا همَّ بالتكبير خرج صبيٌّ بوجهه سمرة بشعره قطط بأسنانه تفليج فجذب برداء جعفر وقال: «تأخَّر يا عمّ فأنا أحقُّ بالصلاة على أبي»، فتأخَّر
↑صفحة ٢٩٥↑
جعفر، وقد أربد وجهه واصفرَّ، فتقدَّم الصبيُّ وصلَّى عليه ودُفِنَ إلى جانب قبر أبيه، ثمّ قال: «يا بصري، هات جوابات الكُتُب التي معك»، فدفعتها إليه، فقلت في نفسي: هذه بيِّنتان، بقي الهميان، ثمّ خرجت إلى جعفر وهو يزفر، فقال له حاجز الوشَّاء: يا سيِّدي، من الصبيُّ؟ لنقيم عليه الحجَّة، فقال: والله ما رأيته قطُّ ولا أعرفه. فنحن جلوس إذ قَدِمَ نفر من قم فسألوا عن الحسن بن عليٍّ فعرفوا موته فقالوا: فمن نُعزِّي؟ فأشار الناس إلى جعفر بن عليٍّ، فسلَّموا عليه وعزّوه وهنّوه، وقالوا: إنَّ معنا كُتُباً وأموالاً فتقول ممَّن الكتب؟ فقام ينفض أثوابه ويقول: تريدون منَّا أنْ نعلم الغيب؟!
قال: فخرج الخادم فقال: معكم كُتُب فلان وفلان وفلان وهميان فيه ألف دينار وعشرة دنانير منها مطليَّة، فدفعوا إليه الكُتُب والمال، وقالوا: الذي وجَّه بك لأخذ ذلك هو الإمام.
وينقل الصدوق هذه القصَّة برواية أُخرى عن سنان الموصلي: أنَّه لـمَّا قُبِضَ العسكري وفد من قم والجبال وفود بالأموال ولم يكن لديهم خبر وفاة الحسن، فسألوا عن وارثه فقيل لهم: إنَّه أخوه جعفر، وقد ذهب يتنزَّه في دجلة مع المغنِّين، فأرادوا أنْ يرجعوا ولكن أبا العبَّاس محمّد بن جعفر الحميري القمِّي قال لهم: قفوا بنا حتَّى ينصرف هذا الرجل ونختبر أمره بالصحَّة، وإنَّهم طالبوه بالتحدُّث غيبياً عن تفاصيل الأموال وأصحابها، فأنكر علم الغيب...
ولـمَّا أنْ خرجوا من البلد خرج إليهم غلام فنادى: يا فلان ويا فلان بن فلان أجيبوا مولاكم، قالوا: فسرنا معه حتَّى دخلنا دار مولانا الحسن بن عليٍّ، فإذا ولده القائم سيِّدنا قاعد على سرير كأنَّه فلقة قمر عليه ثياب خضر، فسلَّمنا فردَّ علينا السلام، ثمّ قال: جملة المال كذا وكذا، حمل فلان كذا وحمل فلان كذا.
↑صفحة ٢٩٦↑
ولم يزل يصف حتَّى وصف الجميع، ثمّ وصف رحالنا وثيابنا وما كان معنا من الدوابِّ، فخررنا سُجَّداً لله (عزَّ وجلَّ) شكراً لما عرَّفنا، وقبَّلنا الأرض بين يديه، وسألناه عمَّا أردنا فأجاب، فحملنا إليه الأموال، وأمرنا أنْ لا نحمل إلى سُرَّ من رأى بعدها شيئاً من المال، فإنَّه ينصب لنا ببغداد رجلاً يحمل إليه الأموال ويخرج من عنده التوقيعات.
محاولة القبض على المهدي:
وهناك رواية تاريخيَّة ينقلها عدد من المؤلِّفين عن شرطي اسمه (رشيق) يتحدَّث عن محاولة المعتضد العبَّاسي للقبض على (المهدي) وإرساله ثلاثة من الشرطة وذهابهم إلى بيت الإمام الحسن العسكري في سامرَّاء، ورؤيتهم في البيت بحراً من الماء ورجلاً على حصير على الماء قائماً يُصلِّي، وغرقهم عند محاولتهم التقدُّم نحوه، ثمّ اعتذارهم وتراجعهم.
وينقل المجلسي والصدر قصَّة أُخرى مشابهة، وهي تجريد المعتضد لحملة أكبر وكبس البيت وسماع العسكر لصوت قراءة من السرداب، واجتماعهم عند مدخله لإلقاء القبض على صاحب الصوت، وخروجه من بين أيديهم.
أرجو من الإخوة المتحاورين إعطاء رأيهم بهذه الروايات، وهل يُصدِّقونها؟ أم يعرضونها على التحقيق؟ وماذا يقول المحقِّقون؟
وهل هم مستعدُّون لاستماع وجهة النظر الأُخرى(٢٧٧).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٧٧) وما الغرابة في هذه الروايات على الذهنيَّة الإسلاميَّة غير العلمانيَّة؟ أليس المشركون قد جاءوا إلى غار ثور ولم يروا النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الغار؟ وقبلها ألم يخرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأعداء واقفون على باب داره وخرج ولم يرَه أحد منهم؟ وقلع عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) باب خيبر الذي عجز عن حمله (٤٤) رجلاً من المسلمين، وهي واقعة حسّيَّة ملموسة إلى يومنا هذا.
↑صفحة ٢٩٧↑
حُرِّر بتاريخ (٢١/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٩:٥٧) مساءً.
محمّد منصور عضو:
تعليق على النقاش في الدليل التاريـخي:
هدف الأمثال والتمثيل هو بيان جهة التمثيل، والنقاش إنَّما في جهة التمثيل، وهو يختلف عن النقاش في المثل نفسه، ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً﴾ (الفرقان: ٣٣)، ولأجل ذلك نُصلِح التغليط والمغالطة في المثل الذي أتيت به.
فنقول: لو أنَّ رجلاً ذا منصب إلهي، قد زُوِّد بعلم لدنِّي وعليه مهامٌّ ووظائف إلهيَّة وأعباء القيادة الشرعيَّة، وهو محارَب ومحاصَر من أكبر دولة عرفها التاريخ، وذلك الرجل في مرمى المواجهة الساخنة مع تلك الدولة، وعيونها التجسُّسيَّة وهذا الرجل له أَمَة مملوكة أو زوجة ويعلم الكلُّ بنكاحه لها بالملك أو الزواج، والسلطة والدولة الغاشمة تراقب بحذر شديد، واستنفار لكلِّ طاقاتها، كحالة طوارئ في الدولة مخافة أنْ تحمل أَمَة ذلك الرجل أو زوجته لأنَّ الابن الذي سيتولَّد مبشَّر موعود على لسان نبيِّ الشريعة بأنَّه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، فالسلطة تخشى من حمل الجنين في بطن أُمِّه، قال تعالى: ﴿نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (القَصص: ٣ - ٧).
↑صفحة ٢٩٨↑
وأتباع الرجل الأب على خوف من قهر الدولة وظلمها الغاشم، في ظلِّ هذه الظروف لا تجد العناية الإلهيَّة للمحافظة على الابن شبيه موسى إلَّا بإخفاء حمل الزوجة من الأنظار كما أخفت حمل أُمِّ موسى عن فرعون ودولته وعيونه كما ذكر القرآن الكريم، فيتولَّد الولد كما تولَّد موسى، فتُخفيه العناية الإلهيَّة كما أخفت موسى عن أنظار فرعون ودولته فلم يعلم به ولم تتفطَّن إلى ولادته دولته. ولكن العناية الإلهيَّة تُطلِع وتُعلِم خواصَّ وروَّاد أتباع الرجل الأب بذلك كما أطلعت العناية الإلهيَّة أُخت موسى وبعض أقاربه بولادة موسى الذي يزلزل عرش فرعون، ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾.
فتُظهر العناية الإلهيَّة للسلطة والدولة أنَّه لم يتولَّد للرجل الأب الذي هو حجَّة من قِبَل الله تعالى ولدٌ قبل أنْ يموت، وتُظهر العناية الإلهيَّة النزاع في التركة الماليَّة اليسيرة للأب بين أَمَته أو زوجته وبين أخيه الذي لم يطَّلع على حقيقة الأمر كما في موسى نبيِّ الله حيث لم يطَّلع على ولادته كلُّ أقاربه بل خصوص أُخته ووالدته التي ولدته، ﴿وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (القَصص: ١٠).
فينطلي كيد العناية الإلهيَّة على السلطة والدولة، وأنَّه لم يتولَّد للرجل الأب ابن، وقد كانت الدولة استنفرت كلَّ قواها خوفاً من ولادة الموعود الذي يزلزل كلَّ عروش الظلم، ويظلُّ الأتباع على اتِّصال خفي وحذر عبر السلسة الهرميَّة للأتباع عبر عمَّة ذلك الأب والابن وعدَّة من خواصِّه، فيترتَّب الاتِّصال بالابن في ظلِّ السرّيَّة والخفاء عبر قنوات، ولكن يظلّ الابن في التستُّر والخفاء كما ظلَّ موسى في الخفاء عن معرفة فرعون ودولته، ويكبر الابن مع اتِّصاله بأتباعه كما كبر موسى وهو في تستُّر عن علم فرعون بأنَّ الذي سيزلزل عرشه من هو وهل
↑صفحة ٢٩٩↑
تولَّد أم لا؟ ثمّ يغيب ويتستَّر الابن غيبة أطول من الأُولى أي في خفاء أشدّ سرّيَّةً من الخفاء والسرّيَّة الأُولى التي كان فيها، كما تستَّر موسى بالذهاب إلى قوم شعيب (مدين) بتستُّر أشدّ، ولو علم به فرعون لأتاه بجلاوزته في منطقة مدين وقضى عليه.
فتطول المدَّة وتحصل بلبة لدى بعض القليل من أتباعه فيأخذ به اليأس كلّ مأخذ فيتزلزل في اعتقاده بموسى الموعود الإلهي بزلزلة عرش فرعون. ثمّ الابن ذو المنصب الإلهي يقوم بمسؤوليَّاته الإلهيَّة وذلك بعد أنْ عيَّن ونصب له - قبل غيبته وتستُّره الثاني الشديد الطويل - نوَّاباً ووكلاء عامِّين لا يرونه تتوفَّر فيهم الكفاءة العلميَّة والأمانة العلميَّة، ويظلُّ الابن في سرّيَّته الشديدة يقوم بإدارة التنظيم السرِّي لرجال الغيب السرِّيِّين المسمُّون بالأبدال والأوتاد والسُّيَّاح كما قال تعالى في سورة الكهف عن الخضر صاحب موسى: ﴿فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً *... وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾ (الكهف: ٦٥ - ٨٢)، ويستمرُّ الابن بتوسُّط العلم اللدنِّي ومنظومته السرّيَّة يُؤثِّر على أشدّ منعطفات أتباعه وأتباع أبيه وأُمِّه وجدِّه، بجدارة فائقة وبتسديد وكلائه ونوَّابه العامِّين الذين لا يرونه من دون أنْ يشعر كثير منهم إلَّا النادر كالسيِّد ابن طاوس والعلَّامة الحلِّي والمقدَّس الأردبيلي والسيِّد بحر العلوم...، وفي كلِّ آونة يطَّلع بعض وكلائه العامِّين بمتابعته لهم بسرّيَّة فائقة وخفاء عن كلِّ القوى الدوليَّة وتستُّر يفوق أجهزة المخابرات الدوليَّة بوسيلة العناية الإلهيَّة كالتي أُعطيت للخضر وذي القرنين، ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً﴾ (الكهف: ٨٤ و٨٥)، ولكن البعض القليل من أتباعه حيث أضرَّ بهم اليأس
↑صفحة ٣٠٠↑
واصطدموا ببعض وكلاء الابن العامِّين بالنيابة العامَّة الذي أقام دولة بعد قرون في ظلِّ مجتمع دولي كاسر مدجَّج بالقوى الدوليَّة المعادية، اصطدم ذلك البعض بدولة ذلك الوكيل، فأخذ يدبُّ اليأس فيه أكثر فأكثر حتَّى وصل به الحال إلى إنكار الابن، وظنَّ ذلك البعض أنَّ الظاهر الذي لدى الدولة العبَّاسيَّة التي لم يتَّضح لها ولادة الابن، هو الظاهر لدى أتباع الأب والابن، وخلط بين أوراق الحساب التاريخي.
هذا، وأمَّا الاختلاف في تاريخ ولادة الابن مع هذه السرّيَّة التي تقدَّم شرحها فليس بغريب، كيف والرسول الأعظم قد اختُلِفَ في تاريخ ولادته ومحلِّ ولادته ومكانها وتاريخ بعثته الشريفة وأوَّل سورة نزلت عليه و...، كذلك بقيَّة الأئمَّة (عليهم السلام) مع أنَّهم لم يكونوا في تستُّر وخفاء، وكذلك اختُلِفَ في تفاصيل واقعة بدر وأُحُد وحنين والأحزاب، وموضع وفاة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتفاصيل وقائع تاريخيَّة كثيرة، ولكن ذلك لا يستلزم عدم الإيمان بنبوَّة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولا يستلزم عدم الإيمان بولادته، ولا يستلزم عدم الإيمان بتلك الوقائع التاريخيَّة لحصول التواتر الإجمالي والمعنوي بكلِّ ذلك، مضافاً إلى دلائل النبوَّة الكثيرة التي تُثبِت أصل ولادة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ونحن لم نعلم بكلِّ تفاصيل ولادته، التفاصيل الدقيقة لكلِّ تلك الوقائع التاريخيَّة، ومن أنكر ذلك يُخاف عليه الهذيان.
وأمَّا الصدوق والمفيد والطوسي والنعماني وغيرهم فقد اعتمدوا في ولادته ووجوده (عجَّل الله فرجه) على أدلَّة متعدِّدة لا على رواية واحدة أو ثلاث أو أربع، بل على طوائف من الروايات تبلغ المئات وأكثر أشرنا إليها في جوابنا والردِّ الذي ذكرنا لنقاش الكاتب على كلمة الشيخ الآصفي.
وقد ذكرنا في ذلك الردِّ قائمة بأسماء علماء أهل السُّنَّة الذين اعترفوا بولادته في ظلِّ السرّيَّة التي كانت خشيةً من الدولة العبَّاسيَّة. وهل تخوُّف الدولة
↑صفحة ٣٠١↑
العبَّاسيَّة من الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أمر يخفى على من يراجع المصادر التاريخيَّة وخوفها من ولادة ابن له موعود مبشَّر على لسان النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة السابقين؟ فلماذا حاصرت السلطة العبَّاسيَّة الإمام الهادي (عليه السلام) والإمام العسكري (عليه السلام) في سامرَّاء؟ ولماذا قبراهما الشريفان في مدينة سامرَّاء عاصمة الدولة العبَّاسيَّة آنذاك؟ ولِـمَ ولِـمَ... كلُّ ذلك دلائل بيِّنة تاريخيَّة.
فماذا بعد ذلك؟!
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٢/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٢:٣٥) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
الأخ محمّد منصور المحترم.. تحيَّة طيِّبة..
حكاية الظروف السرّيَّة وحالة الطوارئ فرضيَّة وهميَّة غير ثابتة نسجها القائلون بوجود ابن الحسن العسكري في محاولة لتبرير غيبته الطويلة اللَّامتعارفة، وقد أجبنا عليها في بحث موضوع الظروف العبَّاسيَّة وواقع الحركات الشيعيَّة في ذلك العصر، فأرجو مراجعته.
ثمّ إنَّ النبيَّ وسائر الأئمَّة الذين لا نعرف تاريخ ميلادهم بالضبط لا يهمُّ، لأنَّنا رأيناهم أحياء شاخصين أمامنا، ولكن إذا جاء شخص وحدَّثنا عن رجل غائب لا أثر له فمن حقِّنا أنْ نسأله عن ذلك الرجل الذي يدَّعي وجوده متى وُلِدَ؟ ومن رآه؟ حتَّى نعرف هل أنَّه فرضيَّة أُسطوريَّة، أم حقيقة واقعيَّة؟
وقد طالبنا مراراً بتركيز الحديث حول الدليل التاريخي في مقابل القول بأنَّ وجود الإمام الثاني عشر كان فرضيَّة فلسفيَّة، ولست أدري لماذا يرفض الإخوة المتحاورون الحديث عن إثبات وجوده في التاريخ ليس عن طريق الروايات التي يدَّعون صحَّتها وتواترها، فما أسهل المدَّعين لوجوده أنْ ينسجوا الروايات
↑صفحة ٣٠٢↑
وينسبوها إلى رسول الله والأئمَّة السابقين حتَّى يُثبِتوا نظريَّتهم، كما كان يفعل سائر أصحاب النظريَّات المختلفة، وقد رفض مشايخ الطائفة الذين بحثوا الموضوع روايات الآخرين التي ساقوها لتأييد مذاهبهم بأنَّها أخبار آحاد، وأنَّها من صنع أصحاب النظريَّات من أجل تأييد مذاهبهم، فكيف يمكن لسائر المسلمين وسائر الشيعة التصديق بتلك الروايات التي يُشكِّكون بها بالرغم من اعتبار أصحاب المذهب الاثني عشري لها ووصفها بالصحَّة والتواتر؟
لقد حاولنا دراسة الدليل التاريخي الذي قدَّمه أصحاب الفرضيَّة المهدويَّة الاثني عشريَّة، وطلبنا منكم تقديم تعليقاتكم عليه، فتلكَّأتم حتَّى الآن وتهرَّبتم عدَّة مرَّات، كأنَّكم تعترفون بضعف هذا الدليل كما اعترف السابقون وقالوا باستحالة إثبات وجود المهدي لمن لا يؤمن بنظريَّة الإمامة بكلِّ تفاصيلها الدقيقة التي يؤمن بها الاثنا عشريُّون، وقالوا: إنَّ دليلنا الأقوى والأساسي هو الدليل الاعتباري أو العقلي حسبما يسمُّونه.
أمَّا حكاية لقاء الإمام المهدي بالعلماء فلو حقَّقتها لوجدت أنَّ العلماء أنفسهم لا يدَّعونها، وإنَّما نسبها إليهم بعض خدمهم بصورة غير موثَّقة، أي إنَّها إشاعات أُسطوريَّة، وإذا أردت من هذه القَصص والحكايات فيوجد منها الكثير، ويكفي أنْ تذهب إلى الشيخ (قراءتي) الذي كان يحكي قَصص لقاء الإمام المهدي مع الجنود الإيرانيِّين في الحرب الإيرانيَّة العراقيَّة، في الإذاعة والتلفزيون.
ولا أدري كيف تُصدِّق بهذه الروايات التي يختلق منها الناس ما يشاؤون وتدعو إلى اتِّباع المناهج العلميَّة في تحقيق الروايات والتأكُّد من التاريخ؟ وربَّما اعتبرتها متواترة وصحيحة على مقاسات علم الرجال الذي تحاول تأسيسه.
وربَّما كان استشهادك بهذه الروايات أو الحكايات والأساطير دليلاً على خطأ منهجي لديك في تقييم الروايات السابقة.
↑صفحة ٣٠٣↑
المشكلة تكمن في أنَّك تُصدِّق كلَّ ما رواها الأقدمون وتعتبره صحيحاً ومتواتراً، ولا تحاول أنْ تقف للحظة لتُشكِّك في تلك الروايات وتتساءل عن صحَّتها، ولا تتصوَّر وجهة النظر المعاكسة فضلاً عن احتمال صحَّتها.
تقول: إنَّ الإمام العسكري أخفى ولده خوفاً من السلطة العبَّاسيَّة التي كانت تعلم أنَّه سيخرج ويزلزل عرشها.
ولم تقل كيف تأكَّدت من أنَّ الإمام الحسن العسكري كان له ولد فعلاً؟ وهل كان حقًّا يوجد ضغط سياسي وخوف وإرهاب؟ وهل صدق بعض أصحابه حين ادَّعوا وجود ولد له والنيابة عنه؟ ولماذا لا يكون هؤلاء كذَّابين مدَّعين كما ادَّعى كثير من أمثالهم وجود أو استمرار حياة بعض الأئمَّة السابقين؟ ولماذا تقبل روايات هؤلاء الأصحاب ولا تقبل روايات أُولئك؟
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٢/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٩:٥٦) مساءً.
محمّد منصور عضو:
الردُّ على النقاش التاريـخي:
١ - الكاتب يدَّعي أنَّ سجن الإمام الهادي والعسكري في سامرَّاء لم يثبت، والإقامة الجبريَّة تحت رقابة السلطة العبَّاسيَّة حكاية منسوجة.
٢ - الكاتب يقول: إنَّ الاختلاف في تاريخ النبيِّ والأئمَّة الباقين لا يهمُّ، لأنَّه هو رآهم، وهل رأى النبوَّة كيف تنزل على النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أم صدَّقها بالأدلَّة القطعيَّة النقليَّة؟ وإذا كان يقرُّ بإمامة الأئمَّة الباقين ونبوَّة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فكيف لا يُصدِّق بأقوالهم؟
٣ - الكاتب يدعو إلى تركيز البحث حول الدليل التاريخي بينما يطعن في التراث التاريخي والنقلي بأنَّه من اختلاق الطائفة الإماميَّة لأنَّها مغالية وغلاة
↑صفحة ٣٠٤↑
باطنيِّين لأنَّهم يقولون بأنَّ مقام الإمامة هي الحجّيَّة التي تعدل القرآن في حديث الثقلين، ولا يفتأ الكاتب يجترُّ الدور السابق من الحوار، ولعلَّه يؤمن بالأطوار الدوريَّة، هذا في حين هو يطالب بالتاريخ ويقحم البحث الفلسفي فيناقض نفسه كالعادة في أقلّ من أسطر.
٤ - الكاتب يحكم على روايات المسلمين من أهل السُّنَّة في صحاحهم وكُتُبهم وروايات الشيعة في كُتُبهم حول المهدي بأنَّها من نسيج الخيال والغلاة.
٥ - الكاتب يعيد كراراً إشكاله باحتجاج الشيعة بروايات أهل السُّنَّة حول المهدي، بأنَّهم لا يثقون بهم فكيف يُصحِّحون رواياتهم حول المهدي؟ ونعيد كراراً ولا أدري إنْ كان الكاتب نفذ ما عنده وأخذ يُكرِّر ما تكرَّر نقده من دون جوابه للنقود، بل مجرَّد تكرار المنقود من دون زيادة أم ماذا؟
والجواب: أنَّ رواية أهل السُّنَّة بشارة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بظهور المهدي لا يحتمل فيها الوضع، إذ ليست هي تصبُّ في إنكار لحقيقة الإمام بل العكس، فكيف يحتمل فيها الكذب؟ ثمّ لا أدري أنَّ الكاتب يتبع أهل السُّنَّة أم أهل الشيعة أم شقّ ثالث؟ وقد حكم على سورة الكهف والخضر في مقالاته بأنَّها مقولة باطنيَّة وغلوّ!
٦ - الكاتب عندما يواجه بالحقيقة التاريخيَّة من سجن الدولة العبَّاسيَّة للإمام العسكري يقول: لا بدَّ من التأكُّد من الظروف المحيطة بوفاة الإمام العسكري، وأنَّ الدولة العبَّاسيَّة سياستها ليِّنة مع الشيعة كما في مقالة أُخرى له، وكأنَّه يقول لليل: إنَّه نهار، وللنهار: إنَّه ليل، ثمّ يقول: لماذا؟!
مع كلِّ ما ذكرنا من حقائق تاريخيَّة يذعن بها السُّنِّي والشيعي والمسيحي والمستشرق والعالم بأسره حول بني العبَّاس والبيت العلوي!
يقول الكاتب: لم تخوضوا في التاريخ، فتارةً يقول: لا بدَّ من التأكُّد،
↑صفحة ٣٠٥↑
وأُخرى يقول: بنو العبَّاس علاقتهم طيِّبة مع العسكري، وثالثة يقول: فرضيَّة فلسفيَّة هي الدليل التاريخي، ورابعة يقول: الدليل الاعتباري دليل فلسفي عقلي، وقد أوضحنا له أنَّ الدليل الاعتباري يغاير الدليل العقلي، وخامسة يقول: لا أستدلُّ بالروايات بل بالدليل التاريخي! ثمّ يشكل على الروايات التاريخيَّة باختلاق ووضع الطائفة الإماميَّة لأنَّهم يعتقدون بالإمامة وهي غلوّ، فيخرج من التاريخ إلى النقل والبحث الكلامي، ولا أراه إلَّا وهو يدور حول نفسه بدوَّامة كما ذكر ذلك الكثير ممَّن حاوروه!
٧ - ولعلَّ الكاتب يرى أنَّ حكاية لقاء موسى بالخضر في سورة الكهف أُسطورة وضعها الغلاة الباطنيُّون في القرآن، وأنَّ قيام الخضر بدوره في أداء الوظائف الإلهيَّة أُسطورة، وأنَّ بقاء الخضر إلى يوم القيامة عند المسلمين خرافة، وأنَّ من رأى الخضر أُسطورة، وأنَّ بقاء إلياس أُسطورة، وأنَّ رفع الله تعالى عيسى إلى السماء أُسطورة، وأنَّ رفع إدريس إلى السماء ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيًّا﴾ (مريم: ٥٧) أُسطورة، فالمشكلة عند الكاتب تكمن في تصديق القرآن، لأنَّه يقول بجعل خليفة الله في الأرض ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا...﴾ (البقرة: ٣٠).
فالمشكلة تكمن عند الكاتب في تصديق قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي...﴾ (البقرة: ١٢٤)، والمشكلة عنده تكمن في تصديق قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (المائدة: ٥٥).
والمشكلة عنده تكمن في تصديق قول النبيِّ المتواتر: «إنِّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض»، كيف نُصدِّق النبيَّ ببقاء شخص العترة كحجَّة في الأرض حتَّى القيامة؟ فهلَّا أعلنت استحالة تصديق القرآن واستحالة تصديق النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقوله: «الأئمَّة من
↑صفحة ٣٠٦↑
قريش اثنا عشر»، وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ (الأحزاب: ٣٣)، وقوله: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (الشورى: ٢٣)، و﴿قُلْ ما أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ (الفرقان: ٥٧)، فقربى النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعترته هم السبيل، لكن المشكلة تكمن عنده في تصديق القرآن والنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في كون عليٍّ إماماً وأبنائه أئمَّة، والمشكلة تكمن عنده في تصديق بقاء نوح ألف عام والخضر مستتراً، وفي بقاء إمام حجَّة من عترة النبيِّ. فالمشكلة كلُّ المشكلة عند الكاتب تكمن في تصديق ذلك!
ثمّ إنَّه لا زال متردِّداً هل كان حقًّا يوجد ضغطٌ سياسيٌ وخوض وإرهاب على الإمام العسكري؟ ولا أدري لعلَّه يحتمل أنَّ العلاقة وطيدة بين الإمام العسكري والدولة العبَّاسيَّة فذهب وسكن في سامرَّاء معهم.
وهل أنَّ النهار هو الليل حقيقةً، فلا بدَّ من التأكُّد، ولماذا لا يكون مدَّعي أنَّ النهار ليس بليل كاذباً؟! ثمّ لِـمَ يقبل قول النافي لذلك دون القائل بوحدة الليل والنهار؟
مع العلم بأنِّي ذكرت أسماء بعض كمثل قَصصي لتقريب المعنى في مقابل المثال القَصصي الذي ذكره هو لتقريب المعنى الذي أراده، ثمّ يستشكل بأنَّك لم تستدلّ وتُصدِّق بالقصَّة التي ذكرتها كمثال لتقريب المعنى، وهو يناقض نفسه في كلامه السابق أنَّ الأمثال لا تُناقَش.
وهو يترك الأدلَّة القرآنيَّة والأحاديث النبويَّة القطعيَّة التي ذكرناها له ويتشبَّث بنقد الأُسلوب القَصصي الذي جريت معه في التعبُّد به مشاكلة لما يُحِبُّ من الأُسلوب القَصصي البعيد من العبائر المنهجيَّة العلميَّة، فأخذ يحتجُّ لِـمَ تتَّبع الأُسلوب القَصصي ولا تتكلَّم في الأُسلوب المنهجي العلمي؟ ولا أدري هل هو
↑صفحة ٣٠٧↑
يستطيع فهم الاصطلاحات العلميَّة مع تكراره بأنَّ الدليل الاعتباري هو الدليل الفلسفي، وأنَّ الدليل الاجتهادي الظنِّي هو الدليل البرهاني العقلي؟ وفي أيِّ قاموس علمي يوجد ذلك؟ ويطالب بالبحث العلمي وهو يشكل في كتابه حول المهدي، لقد ذكر مراراً أنَّ محمّد بن زياد مهمل في رجال الشيعة لا توثيق له، مع أنَّ محمّد بن زياد هو ابن أبي عمير أكبر فقهاء الرواة الإماميَّة، ولا يحتاج معرفة ذلك إلى أدنى جهد علمي في علم الرجال، فهل هذا هو المنهج العلمي؟ وأنا متيقِّن أنَّك سوف تدور وتجتر ما سبق، فهلمَّ.
* * *
كلمة اعتذار من أحمد الكاتب:
حُرِّر بتاريخ (٢١/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٢:٣٠) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
الإخوة المتحاورون الكرام..
الإخوة القُرَّاء الأعزَّاء..
تحيَّة طيِّبة..
ثَمَّة قضايا كثيرة للحوار في عالمنا الإسلامي وبيننا وبين سائر الحضارات، وبعض مواضيع الحوار جذريَّة تمسُّ أُسُس الإسلام وخيارات الدُّوَل الإسلاميَّة في المستقبل وتتعلَّق بإمكانيَّة إقامة الأنظمة الإسلاميَّة أو عدم إمكانيَّة ذلك والتحدّيات التي تواجهها التجارب الإسلاميَّة المعاصرة.
وكما تعرفون فإنَّ مجتمعاتنا الإسلاميَّة تضمُّ تيَّارات عديدة إسلاميَّة وعلمانيَّة وديموقراطيَّة وغيرها، وقد لجأ بعض هذه التيَّارات خلال هذا القرن المنصرم إلى تغليب لغة القوَّة والعنف وتجنُّب لغة الحوار وهذا ما أدَّى إلى تكبُّدنا لهزائم منكرة وعدم اكتشافها أو اكتشاف أسبابها إلَّا بعد فوات الأوان، والحوار
↑صفحة ٣٠٨↑
الذي يجري بيننا حول وجود الإمام الثاني عشر محمّد بن الحسن العسكري أو سائر القضايا المذهبيَّة حوار قديم تجلَّى أروع ما يكون في حوار السيِّد المرتضى علم الهدى مع القاضي عبد الجبَّار الهمداني، في كتابه (الشافي في الإمامة) الذي ردَّ فيه المرتضى على كتاب (المغني) للهمداني.
وحدثت حوارات أُخرى في التاريخ كان يغلب عليها طابع السخرية والاستهزاء والعنف ومحاولة إبادة الطرف الآخر جسديًّا والقضاء عليه سياسيًّا. وإذا كنَّا اليوم نعيد دورة الحوار حول بعض القضايا فليس لكي نجتر ما كتبه الأوَّلون أو نُكرِّر معارك الماضي وننسى القضايا المعاصرة والملحَّة ولا نحاول إسقاط هذه الطائفة أو تلك، وإنَّما هدفنا التفكير بواقعنا ومستقبلنا على ضوء التراث، وقد نصيب في ما نتوصَّل إليه من اجتهادات جديد أو نخطئ، ولكنَّنا نُعزِّي أنفسنا بنوايا الطيِّبة ونستعين بالله ونطلب منه أنْ يهدينا إلى الحقِّ والصواب.
إنَّ هدفنا ليس هو الجدال والغلبة في مسرح الحوار، وكم من منتصر في الجدال مهزوم في الواقع والتاريخ إذا لم يندم هو فسوف يندم أبناؤه وأحفاده.
إنَّ هذه الحقيقة تدعونا إلى احترام الطرف الآخر واستماع حُجَجه بدقَّة والبحث فيها عن الصواب، وليس المبادرة إلى الردِّ والدفاع والهجوم قبل التفكير جيِّداً في ما يقول.
أعرف أنَّ كثيراً من الحوارت المذهبيَّة والجدالات التاريخيَّة تجري على أرضيَّة الصراع السياسي، أو أنَّ بعض الأنظمة الديكتاتوريَّة الغاشمة تستغلُّ الحوارات لشنِّ حملات إبادة عسكريَّة أو مصادرة الحقوق السياسيَّة والإنسانيَّة لخصومها.
وأعرف أنَّ الشيعة بالخصوص يتعرَّضون في كثير من البلاد إلى تمييز
↑صفحة ٣٠٩↑
واضطهاد وعزل وحرمان سياسي، وأنَّ لدى البعض منهم حسَّاسيَّة من إثارة الحوار الطائفي خوفاً من استغلاله من قِبَل الخصوم، ولذا فإنَّهم يبادرون إلى اتِّهام المشكِّك أو المراجع لبعض الأُمور بالعمالة وقبض الأموال من هذه الدولة أو تلك.
وإذا كانت بعض الأنظمة الديكتاتوريَّة في المنطقة تُشكِّك حتَّى في أُصول الشيعة القوميَّة وتستغلُّ حالتهم الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة وتخلف بعض قبائلهم كالمعدان في جنوب العراق للهجوم الإعلامي عليهم كما حدث في العراق أيَّام الانتفاضة آذار (١٩٩١م)، فإنَّ من الطبيعي أنْ يكتنف الحوار حول وجود الإمام الثاني عشر الذي يُشكِّل صلب النظريَّة الإماميَّة والاثني عشريَّة توتُّر عالٍ وحسَّاسيَّة شديدة، ولكن هذا لا يمنع المخلصين من أبناء الشيعة من التفكير في عوامل التخلُّف والانحطاط ومراجعة بعض الأُمور التي أصبحت مقدَّسة في وقت متأخِّر(٢٧٨) أملاً بحلِّ مشاكلنا من الداخل وفي أعماق ثقافتنا وتراثنا وهو ما دفعني لإعادة النظر في وجود الامام الثاني عشر ونظريَّة الإمامة، وتوصَّلت إلى نتائج عرضتها عليكم.
حاولت أنْ أُحافظ على احترامي لأصحاب وجهة النظر الأُخرى وتقدير النوايا الطيِّبة والدرجة العالية من الإيمان والتقوى والإخلاص والفهم والعقل، التي يتمتَّعون بها ولم أفترض يوماً سوء النيَّة في أحد من المتحاورين أو أتَّهمه بالتدليس أو التضليل أو الخبث أو الانتهازيَّة لا سمح الله.
أرجو أنْ يعذرني الإخوة القُرَّاء والمتحاورون إذا بدرت منِّي يوماً كلمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٧٨) إنْ أردت بذلك هو قضيَّة الأئمَّة الاثني عشر ووجود الحجَّة بن الحسن (عجَّل الله فرجه) فقد أثبتنا لك بما فيه الكفاية وبما ليس فيه أدنى تشكيك أنَّ القضيَّة ثابتة من عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وذلك للروايات المتواترة عن طُرُق السُّنَّة والشيعة.
↑صفحة ٣١٠↑
نابية أو قليلة الأدب بحقِّهم، إذ إنِّي لا أُحاول أنْ أُحاربهم شخصيًّا، وليست لي مع أحد منهم عداوة خاصَّة، جاهداً أنْ أُقدِّم وجهة نظري للطرف الآخر، وأنْ أستمع بحرص إلى وجهة نظره وقد لا أفهمهما بعض الأحيان حقَّ الفهم ولكن يسرُّني جدًّا أنْ يجد الفرصة الكافية للتعبير عن رأيه وإيصاله إلى أكبر قدر من الناس.
ولا أتوقَّع أنْ أقضي على المتحاورين بالضربة القاضية في جلسة واحدة، أقصى ما أطمح إليه هو أنْ أُثير حواراً يفتح الباب أمام التفكير العميق والمسؤول، فإذا قبلوا وجهة نظري فيها ونعمت، وإذا رفضوها اليوم فعسى أنْ يقبلوها غداً، وربَّما أعدت النظر في رأيي في المستقبل.
إلَّا أنِّي أعتقد أنَّ الأدلَّة التاريخيَّة التي أوردها المؤلِّفون السابقون حول وجود الإمام الثاني عشر قَصص ضعيفة ومشكوك فيها، ولا يمكن أنْ تبني عقيدة نتخاصم عليها ولا أعتقد أنَّ الإيمان بوجود إنسان سوف يدخل الجنَّة ولا يخرج من النار وإنْ رفض الإيمان بوجوده وولادته في التاريخ كذلك لا يدخل الجنَّة ولا يخرج من النار، ولذا يجب أنْ نُنزِّل درجة الحوار من مستوى الحوار العقائدي إلى مستوى الحوار التاريخي وعدم تكفير الشيعة على أساس القول بوجود ولد للإمام العسكري أو تكفير سائر المسلمين أو الفِرَق الشيعيَّة الأُخرى إذا لم تؤمن بوجوده وولادته.
ومن هنا فإنِّي أستغرب حقًّا حدَّة البعض من الإخوة المتحاورين حول الموضوع وانفعالهم واستخدامهم لبعض الألفاظ غير المناسبة وتصوير موضوع وجود الإمام الثاني عشر وكأنَّه أساس الدِّين أو سور الدفاع الأخير عن المذهب.
صحيح أنَّه يُشكِّل قاعدة لكثير من الأفكار والنظريَّات والفرضيَّات،
↑صفحة ٣١١↑
ولكنَّه لا يُشكِّل ضرورة من ضروريَّات الدِّين ولا مسلَّمة من مسلَّماته. وفي حين أنَّ غيبة الإمام - على فرض وجوده - لم تهزّ المذهب ولم تقضِ على الشيعة فإنَّ إنكار وجوده لن يكون أشدّ ضرراً على الشيعة والتشيُّع.
ولذا أطلب من الإخوة المتحاورين جميعاً أنْ يديروا الحوار بهدوء أكثر وبمستوى رفيع من الاحترام المتبادل وعدم التسرُّع في الردِّ والجواب وترك الحكم للإخوة القُرَّاء والمشاهدين. والسلام عليكم.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢١/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٩:٤٢) مساءً.
محمّد منصور عضو:
تعليق على الاعتذار:
١ - الحكم على أطراف الحوار متروك إلى القُرَّاء، وليس من الإنصاف وأدب الحوار حكم أحد الأطراف في الحوار على الآخر.
٢ - تبرئة أحد أطراف الحوار نفسه وسلامة نيَّته وشهادته لنفسه بالتزام الآداب والخلق غير لائق بموازين الحوار العلمي، فإنَّ صحَّة الدليل وخطأه يتحقَّق منها من متن نفس الدليل الذي يُذكر على ساحة الحوار، والحوار العلمي لا يتحمَّل الأحاسيس العاطفيَّة والعذل الشعري.
٣ - السرعة والإبطاء في الجواب ليست ميزاناً لصحَّة وخطأ الدليل الذي يُذكر في ساحة الحوار، فإنَّ الصحَّة والخطأ ضابطتهما الموازين العلميَّة بحسب كلِّ دليل وبحسب العلم المختصِّ به، وهل يظنُّ المحاور أنَّ هذه الأجوبة بهذه السرعة مع ما هي عليه من الإتقان والإحكام، هي من نتاج ووليدة الساعة؟!
بل هي حصيلة جهود قرونٍ متطاولة لعلماء الإماميَّة الاثني عشريَّة التي سطرتها آلاف أقلامهم الشريفة، وما كان منَّا إلَّا أنْ أوصلنا إليك وأسمعناك
↑صفحة ٣١٢↑
بعض نماذج منها، وقمنا بتفسيرها لك حيث احتاجت إلى تخصُّص علمي وتطلَّبت فهماً إلى إحاطة بالعلوم الدِّينيَّة والإسلاميَّة بنحو عميق دقيق.
٤ - نعم الطائفة الإماميَّة الاثنا عشرية طائفة مستضعفة في الأرض مضطهدة. وليس بعار على الفتى أنْ يظلما، وعار عليه أنْ يكون ظالماً.
* * *
نشوء الفرضيَّة المهدويَّة في أحضان الغلوِّ والغلاة:
حُرِّر بتاريخ (٢١/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٠:٤٧) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
لا أحد يُنكِر الأزمة التي مرَّ بها الشيعة الإماميَّة بعد وفاة الإمام الحسن العسكري دون أنْ يُخلف ولداً ظاهراً تستمرُّ الإمامة فيه، ولا أحد يُنكر الحيرة التي عصفت بالشيعة ومزَّقتهم إلى أربع عشرة فرقة قالت كلُّ فرقة منهم بقول من الأقوال، وإنَّ فرقة منهم قالت بفرضيَّة وجود ولد للإمام العسكري هو الإمام من بعده وهو المهدي المنتظر الغائب.
وبالرغم من عدم وجود أدلَّة كافية وقاطعة فإنَّنا نلاحظ اكتناف القول بوجود الإمام المهدي وولادته بعدد كبير من مقولات الغلوِّ والغلاة(٢٧٩).
ويمكن الرجوع إلى الوراء وقراءة التاريخ الشيعي العامِّ خلال القرون الثلاثة الأُولى، والاطِّلاع على جذور الحركات المهدويَّة السابقة وعلاقتها بالفِرَق الباطنيَّة الغالية التي كانت تحاول إلصاق نفسها بأهل البيت (عليهم السلام).
العلاقة بين الغلوِّ والمهدويَّة في التجارب السابقة(٢٨٠)، حيث كانت هنالك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٧٩) من قال بعدم وجود الأدلَّة؟ فما تقول فيما عرضه الإخوة من بعض الأدلَّة التي لم تردّ عليها إلى الآن، وعلاوة على ذلك فأيُّ غلوٍّ في إثبات الكرامة للأولياء؟
(٢٨٠) إنَّ الفِرَق الباطنيَّة كانت تدَّعي النبوَّة والأُلوهيَّة، وليس لها أيّ ربط بالمهدويَّة.
↑صفحة ٣١٣↑
حوالي عشرين حركة مهدويَّة، وكان معظمها وليد الحركات المغالية، وقد رأينا أنَّ أوَّل نظريَّة مهدويَّة في التاريخ الشيعي كانت تدور حول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد اختلقها الغلاة (السبئيَّة) الذين كانوا يغالون في شخصيَّة الإمام عليٍّ ويرفعونه إلى درجة الربوبيَّة(٢٨١).
أمَّا النظريَّة الثانية فقد كانت حول محمّد بن الحنفيَّة، وقد اختلقها الكيسانيَّة المتأثِّرون بالسبئيَّة الغلاة، وخاصَّة (الكربيَّة) منهم.
وكان رجل من الكيسانيَّة الغلاة اسمه (حمزة بن عمارة البربري) قد طوَّر نظريَّة مهدويَّة ابن الحنفيَّة، فقال بأُلوهيَّته وبنبوَّة ابن كرب، وجعل من نفسه إماماً مرتبطاً بالسماء.
وقد تناسلت تلك الحركة المغالية، بعد ذلك إلى عدَّة فِرَق، وقالت فرقة منهم تُعرَف بـ (البيانيَّة) بزعامة (بيان النهدي)، قالت بمهدويَّة أبي هاشم عبد الله بن محمّد بن الحنفيَّة، وغلت فيه، وادَّعى (بيان) النبوَّة عن أبي هاشم.
كما قال قسم آخر من الكيسانيَّة الغلاة يُعرَف بـ (الجناحيَّة) بمهدويَّة الثائر الطالبي عبد الله بن معاوية بن جعفر الطيَّار.
وقد انتقلت عدوى الغلوِّ من الكيسانيَّة إلى بعض الزيديَّة الذين قالوا بمهدويَّة (ذي النفس الزكية: محمّد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن) حيث رفض قسم منهم الاعتراف بوفاته وقالوا بغيبته، وحدث فيهم ما حدث في الحركة الكيسانيَّة، عندما قام رجل يُدعى (المغيرة بن سعيد) بتطوير النظريَّة المهدويَّة وادَّعى الإمامة لنفسه في ظلِّ (غيبة) ذي النفس الزكيَّة، ثمّ ترقَّى به الأمر إلى أنْ ادَّعى أنَّه رسول الله نبيٌّ، وأنَّ جبرائيل يأتيه بالوحي من عند الله، كما يقول النوبختي والأشعري.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٨١) وما ربط السبئيَّة بالمهدويَّة يا من زعمت أنَّك حقَّقت في التاريخ؟
↑صفحة ٣١٤↑
وتسرَّبت روح الغلوِّ من (المغيريَّة) إلى (الخطَّابيَّة) أصحاب أبي الخطَّاب محمّد بن أبي زينب الأجدع، الذين كانوا يغالون في الإمام الصادق (عليه السلام) ويُؤلِّهونه، وقد قالوا بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق ورفضوا الاعتراف بوفاته في حياة أبيه، وقالوا بمهدويَّته وغيبته.
وبالقرب من أجواء الغلوِّ اللَّامنطقية تلك، قال فريق آخر من الشيعة الإماميَّة الفطحيَّة بمهدويَّة (محمّد بن عبد الله الأفطح بن جعفر الصادق)، وكان هذا أغرب قول بالمهدويَّة في ذلك الزمان، حيث نسب ذلك الفريق (المهدويَّة) إلى شخص وهمي ليس له وجود، نتيجة المرور في أزمة نظريَّة بعد وفاة (الإمام عبد الله الأفطح) دون عقب يخلفه في الإمامة، وذلك بسبب إيمانهم بضرورة استمرار الإمامة في الأعقاب وأعقاب الأعقاب إلى يوم القيامة، وعدم جواز الجمع بين أخوين في الإمامة.
وقد كان القول بوجود (محمّد بن عبد الله الأفطح) في البداية مجرَّد فرضيَّة فلسفيَّة، ولكنَّهم قاموا بعد ذلك بحياكة مجموعة من القَصص الأُسطوريَّة حول اللقاء به ومشاهدته هنا وهناك، واختلقوا بعض المعاجز للاستدلال الغيبي على وجوده.
وإلى جانب هؤلاء وأُولئك.. كان فريق آخر من الشيعة الإماميَّة المتأثِّرين بالغلاة وهم (الواقفيَّة) يقولون بمهدويَّة الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) وغيبته واستمرار حياته إلى أمد غير منظور. وكان بعضهم يزعم أنَّ الكاظم مات ثمّ قام بعد موته واختفى في موضع من المواضيع السرّيَّة.
وكما حدث في الحركتين الشيعيَّتين الكيسانيَّة والزيديَّة من استغلال بعض أقطابها لفكرة المهدويَّة وادِّعاء الإمامة أو النبوَّة، قام واحد من (الواقفيَّة) اسمه (محمّد بن بشير الكوفي) بادِّعاء الخلافة و(النيابة الخاصَّة) عن الإمام الكاظم
↑صفحة ٣١٥↑
والالتقاء به في (غيبته). وذلك من أجل الحصول على منافع ماليَّة وسياسيَّة ضخمة، ثمّ نقل الخلافة إلى ولده سميع وإلى من أوصى إليه سميع من بعده.
وقال: إنَّه الإمام المفترض الطاعة على الأُمَّة إلى وقت ظهور موسى، فما يلزم الناس من حقوقهم في أموالهم ممَّا يتقرَّبون به إلى الله عليهم أداؤه إليه إلى قيام القائم.
ويقول النوبختي والأشعري: إنَّ محمّد بن بشير كان على قدر كبير من الغلوِّ والقول بالتناسخ والتفويض والإباحة.
التفسير الباطني:
إلى جانب القول بالمهدويَّة والغلوِّ في الأئمَّة، الذي طبع قسماً من المنتسبين للحركة الشيعيَّة العريضة، كان يوجد أيضاً القول بالتفسير الباطني، وفي الحقيقة أنَّ كثيراً من المقولات الباطلة لم تكن تستقيم إلَّا بهذا التفسير الباطني المقلوب للأحداث والأقوال(٢٨٢)، ورفض الاعتراف بالحقائق التاريخيَّة الظاهريَّة، أو اختلاق حوادث وأشخاص لا وجود لهم، كعدم الاعتراف بوفاة الإمام أمير المؤمنين، أو وفاة محمّد بن الحنفيَّة، أو وفاة ابنه أبي هاشم، أو وفاة ذي النفس الزكيَّة، أو وفاة الإمام الصادق، أو وفاة ابنه إسماعيل، أو وفاة الإمام الكاظم، واختلاق ولد لعبد الله الأفطح الذي مات دون خلف ظاهر، والقول بوجود ولد له في السرِّ أخفاه للتقيَّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٨٢) إذا كانت الحقيقة التاريخيَّة عند الكاتب هي ما تسطره يد السلاطين والملوك، فهذا تديُّن الكاتب وشأنه. وسيأتي منه من الآن فقادماً في مقالاته اعتراضات على الإماميَّة مبنيَّة على فقه وُعَّاظ السلاطين، فانتظر. ولا يضرُّ الحقُّ تسمِّي أفراد الباطل به كما في مسيلمة الكذَّاب، وسيأتي من الأخ محمّد منصور دلالة الدعوات المهدويَّة في التاريخ على كون الاعتقاد بفكرة المهدي وظهوره قضيَّة مستفيضة عند المسلمين عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومن ثَمَّ يدَّعيها وينتسب إليها أُولئك المدَّعين لإصباغ الشرعيَّة لأنفسهم، إذ لا يمكن لمدَّعي الباطل أنْ ينسب نفسه للباطل.
↑صفحة ٣١٦↑
وقد كان (الخطَّابيَّة) أتباع (محمّد بن أبي زينب الأجدع) ينسبون إلى الإمام الصادق معاني الغلوِّ الفاحشة ويقولون: إنَّه الله، وقد حجَّ جماعة منه إلى بيت الله الحرام ولبُّوا هكذا: (لبَّيك يا جعفر لبَّيك)، فارتعش الإمام الصادق من قولهم وخرَّ ساجداً إلى الأرض واستنكر قولهم أشدّ استنكار، ثمّ لعن أبا الخطَّاب، فذهب أصحابه إليه وأخبروه بلعن الإمام الصادق له، فأجابهم بأنَّ الإمام لا يلعنه شخصيًّا وإنَّما يلعن رجلاً آخر يحمل نفس الاسم في البصرة، وقد كان هو يعيش في الكوفة. فعاد أصحابه إلى الإمام الصادق في المدينة وأخبروه بمقالة أبي الخطَّاب الكوفي، فحدَّده الإمام بالاسم واللقب والمكان وجميع المواصفات الخاصَّة وكرَّر لعنه والبراءة من قوله. وعندما أخبره أصحابه بذلك لم يتراجع وظلَّ مصرًّا على دعواه بالانتماء إلى الشيعة وإلى الإمام الصادق ونسبه أقواله إلى الإمام سرًّا، وقال: إنَّ الإمام لم يلعنه بهذه الصورة الدقيقة العلنيَّة إلَّا لكي يحافظ على بقيَّة الشيعة من آثار قول الأُلوهيَّة، تماماً كما فعل الخضر الذي خرق السفينة لينقذها من الغصب والمصادرة، وقرأ قوله تعالى: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً﴾ (الكهف: ٧٩).
وكان الباطنيُّون ينسبون كثيراً من الأقوال والآراء إلى أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) سرًّا وخلافاً لما كان يعلن به أهل البيت ويقولونه أمام الملأ من الناس، وبشكل يتعارض مع مواقفهم الحقيقيَّة، ولـمَّا كان الأئمَّة ينفون تلك الأقوال الغريبة ويستهجنونها أو يرفضونها، كان الباطنيُّون يتشبَّثون بأقوالهم ويُفسِّرون نفي الأئمَّة لادِّعاءاتهم بالتقيَّة وبخوف الأئمَّة من إعلان الحقِّ والتحدُّث بما لا يحتمله الناس!
وبغضِّ النظر عن مناقشة دعوى (التقيَّة) ونسبتها إلى أهل البيت بهذه
↑صفحة ٣١٧↑
الصورة المناقضة لأمانة الكلمة والمحافظة على الرسالة، فإنَّ الباطنيِّين استطاعوا لعب أدوار كبيرة في التاريخ الشيعي وتحريف الناس عن خطِّ أهل البيت، في كلِّ زمان، حتَّى جاء عهد الإمام الحسن العسكري، الذي تُوفِّي عن دون ولد ظاهر، أوصى بأمواله إلى أُمِّه (حديث) ولم يتحدَّث عن وجود ولد له في حياته.
وقد قبل جميع المسلمين هذه الحقيقة كما قبلها معظم الشيعة الإماميَّة وذهبوا إلى القول بإمامة جعفر بن عليٍّ الهادي(٢٨٣)، أو القول بانقطاع الإمامة، أو القول بالشورى.. ولكن فريقاً من الغلاة والباطنيِّين رفض التسليم بهذه الحقيقة الظاهريَّة، وأصرَّ على اختلاق قصَّة سرّيَّة ووجود ولد مكتوم ومخفي لم يُعلِن عنه الإمام العسكري خوفاً عليه من القتل وتقيَّة. وارتدَّ قسم منهم عن القول بإمامة الحسن العسكري، وراح يقول بمهدويَّة محمّد بن عليٍّ الهادي الذي كان قد تُوفِّي في حياة أبيه، ويرفض الاعتراف بهذه الحقيقة، ويصرُّ على اختفائه واستمرار حياته إلى يوم الظهور، تماماً كما فعل قسم من الإسماعيليَّة الذين رفضوا التسليم بوفاة إسماعيل بن جعفر الصادق، وفسَّروا عمليَّة الدفن التي قام بها الإمام الصادق بأنَّها مسرحيَّة من قِبَل الإمام!
وقد رفض مشايخ الطائفة الإماميَّة الاثني عشريَّة كالشيخ المفيد والمرتضى والطوسي منهج الفِرَق الشيعيَّة الأُخرى الباطنيَّة التي ترفض الاعتراف بوفاة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٨٣) تزوير الكاتب كما هو منهاجه وديدنه حيث ذكر الأخ محمّد منصور قائمة بـ (٣٨) عالماً من علماء أهل السُّنَّة العديد منهم ممَّن عاش في القرون المتقدِّمة، قد ذكروا ولادته (عليه السلام) من الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وتخفِّيه من السلطة العبَّاسيَّة، وهؤلاء من وجوه علماء أهل السُّنَّة، وأمَّا معظم الشيعة فقد قالوا بولادة الإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه) وكانوا على ارتباط معه في الغيبة الصغرى عبر النوَّاب الأربعة. ولكن الكاتب يكتب ما يمليه عليه احتقانه النفسي الذي يجانب الأمانة والصدق وطلب الحقيقة!
↑صفحة ٣١٨↑
الإمام عليٍّ أو ابنه محمّد بن الحنفيَّة أو ابنه أبي هاشم أو وفاة الإمام الصادق أو ابنه إسماعيل أو وفاة الإمام موسى الكاظم، أو وفاة الإمام العسكري أو أخيه محمّد، وذلك لمخالفة منطقها الباطني للظاهر، الذي يُشكِّل حجَّة لله على الناس. ولكن جميع القائلين بوجود (الإمام محمّد بن الحسن العسكري) ينتهجون بدورهم المنطق الباطني حيث يعترفون بعدم إعلان الإمام العسكري لولادة (ابنه) ووصيَّته لوالدته عند وفاته، ويُفسِّرون ذلك بالخوف والتقيَّة.
وبغضِّ النظر عن مناقشة هذه الدعوى والتأكُّد من حقيقة الظروف المحيطة بوفاة الإمام العسكري، فإنَّ القول بوجود ولد له في السرِّ، هو إذن قول باطني سرِّي مخالف للظاهر.
النميريَّة:
وقد رأينا أيضاً: أنَّ معظم الروايات التي تتحدَّث عن ولادته ومشاهدته في حياة أبيه تتضمَّن معاني الغلوِّ الفاحشة والعلم بالغيب وما إلى ذلك، من مقولات الغلاة المتطرِّفين، ويجدر بنا أنْ نتوقَّف قليلاً عند الحركة المغالية (النميريَّة) التي كانت قد نشأت حول الإمام عليِّ بن محمّد الهادي، على يدي محمّد بن نصير النميري الذي كان من أقطاب الشيعة في البصرة. وكان هذا قد رفع الإمام الهادي إلى درجة الأُلوهيَّة، وادَّعى لنفسه مرتبة النبوَّة والرسالة من قِبَل الإمام، وكان يقول بالتناسخ.
وقد التفَّ هذا الغالي (النميري) بعد وفاة الإمام الهادي حول ابنه الإمام الحسن العسكري، وكان بعد وفاته من أبرز القائلين بوجود (ولد) له في السرِّ، هو: (محمّد بن الحسن العسكري) وقد ادَّعى البابيَّة و(النيابة الخاصَّة) عنه، ثمّ ادَّعى النبوَّة وأورثها إلى عدد من أصحابه.
↑صفحة ٣١٩↑
المخمِّسة:
وإلى جانب النميريَّة كان يوجد في تلك الأيَّام تيَّار آخر من الغلوِّ والغلاة في صفوف الشيعة الإماميَّة، هم: (المخمِّسة)(٢٨٤) الذين يعتقدون - كما يقول سعد بن عبد الله الأشعري القمِّي في (المقالات والفِرَق) -: إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) هو محمّد، وإنَّه ظهر في خمس صور مختلفة.. ظهر في صورة محمّد وعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين، وأنَّ أربعاً من هذه الصور الخمس تلتبس لا حقيقة لها، والمعنى شخص محمّد وصورته، لأنَّه أوَّل شخص ظهر وأوَّل ناطق نطق، لم يزل بين خلقه موجوداً بذاته يتكوَّن في أيِّ صورة شاء، يُظهِر نفسه لخلقه في صور شتَّى من صور الذكران والإناث والشيوخ والشباب والكهول والأطفال، يظهر مرَّة والداً ومرَّة ولداً وما هو بوالد ولا بمولود، ويظهر في الزوج والزوجة، وإنَّما أظهر نفسه بالإنسانيَّة والبشرانيَّة لكي يكون لخلقه به أُنس ولا يستوحشوا ربَّهم.
وأنَّ محمّداً كان آدم ونوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى لم يزل ظاهراً في العرب والعجم.. وأنَّه كان يُظهِر نفسه لخلقه في كلِّ الأدوار والدهور، وأنَّه تراءى لهم بالنورانيَّة، فدعاهم إلى الإقرار بوحدانيَّته فأنكروه، فتراءى لهم من باب النبوَّة فأنكروه، فتراءى لهم من باب الإمامة فقبلوه، فظاهر الله (عزَّ وجلَّ) بالإمامة وباطنه الله الذي معناه محمّد يُدركه من كان من صفوته بالنورانيَّة، ومن لم يكن من صفوته بدرجة بالبشرانيَّة اللحمانيَّة الدمويَّة، وهو الإمام... وأنَّ كلَّ من كان من الأوائل مثل أبي الخطَّاب وبيان وصائد والمغيرة وحمزة وبزيع والسري ومحمّد ابن بشير هم أنبياء أبواب بتغيير الجسم وتبديل الاسم، وأنَّ المعنى واحد، وهو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٨٤) وأيُّ ربط للمخمِّسة بالشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة كما يعرفه كلُّ من راجع التراجم والكُتُب التاريخيَّة؟
↑صفحة ٣٢٠↑
سلمان وهو الباب الرسول يظهر مع محمّد في كلِّ صورة ظهر، وهو رسول محمّد متَّصل به، ومحمّد الربُّ...
ويقول الأشعري القمِّي: إنَّهم (لعنهم الله) أظهروا دعوة التشيُّع واستبطنوا المجوسيَّة فزعموا أنَّ سلمان (رحمه الله) هو الربُّ، وأنَّ محمّداً داعٍ إليه، وأنَّ سلمان لم يزل يُظهِر نفسه لأهل كلِّ دين. وذهبوا في جميع الأشياء مذهب المجوس، كما يقول الشيخ الطوسي في (الغيبة).
وكان شيخ الشيعة بالكرخ يوم ذلك: (أحمد بن هلال العبرتائي)، وهو من أعظم الغلاة - وقد أخرج الحسين بن روح النوبختي (النائب الثالث) توقيعاً بلعنه بشدَّة والتبرُّؤ ممَّن لا يلعنه - وقد كان قطباً رئيسيًّا في عمليَّة اختلاق نظريَّة (وجود ولد مخفي) للإمام الحسن العسكري، ومن أقرب المساعدين لعثمان بن سعيد العمري (النائب الأوَّل)، وقد أيَّده في دعوى (الوكالة عن المهدي) ثمّ اختلف مع ابنه محمّد (النائب الثاني) وادَّعى النيابة لنفسه.
المفوِّضة:
وإلى جانب أُولئك الغلاة النميريَّة والمخمِّسة كان يوجد في صفوف الشيعة تلك الأيَّام صنف آخر من الغلاة هم (المفوِّضة) الذين كانوا يعتقدون: أنَّ الله أقام شخصاً واحداً كاملاً لا زيادة فيه ولا نقصان، ففوَّض إليه التدبير والخلق، فهو محمّد وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين وسائر الأئمَّة، ومعناهم واحد، والعدد يلبس، وأنَّ هذا (الواحد الكامل) - أي محمّد - هو الذي خلق السماوات والأرضين والجبال والإنس والجنَّ والعالم بما فيه.
وقد اضطرَّ هؤلاء (المفوِّضة) بعد وفاة الإمام الحسن العسكري إلى افتراض (وجود ولد) له في السرِّ، لكي تستمرَّ نظريَّة (الواحد الكامل) الذي يُدبِّر الكون ويخلق ويرزق.
↑صفحة ٣٢١↑
ولكن بقيَّة الشيعة لم يكونوا يؤمنون بأفكارهم الغالية، وقد حدث بين الفريقين نوع من التنازع والاختلاف، وقاموا بالاحتكام إلى محمّد بن عثمان العمري، باعتباره (نائباً عن صاحب الزمان)، وطلبوا منه أنْ يحسم النزاع، فأخرج لهم (توقيعاً) يتضمَّن رفض نظريَّة (التفويض الكامل)، ويُؤكِّد تدخُّل الأئمَّة في السؤال من الله أنْ يخلق فيخلق أو يرزق فيرزق.
ولم يخل جواب العمري لهم - في الواقع - من درجة مخفَّفة من القول بالتفويض، وهو ما يدلُّ على ارتباطه وارتباط القول بوجود (ابن الحسن) بالغلاة(٢٨٥).
وهذا ما يُؤكِّده الحسين بن روح النوبختي في حديثه عن اختلاف الشيعة في ذلك الزمان حول مسألة التفويض، وذهابه إلى أبي طاهر بن بلال (أحد أقطاب النظريَّة المهدويَّة) ومناقشته في الموضوع وإخراجه حديثاً عن أبي عبد الله (عليه السلام) يذكر فيه: إنَّ الله إذا أراد أمراً عرضه على رسول الله ثمّ أمير المؤمنين ثمّ الأئمَّة واحداً بعد واحد.. إلى أنْ ينتهي إلى صاحب الزمان، ثمّ يخرج إلى الدنيا. وإذا أراد الملائكة أنْ يرفعوا إلى الله (عزَّ وجلَّ) عملاً عُرِضَ على صاحب الزمان(٢٨٦) ثمّ يخرج على واحد واحد من الأئمَّة إلى أنْ يُعرَض على رسول الله ثمّ يُعرَض على الله (عزَّ وجلَّ)، فما نزل من الله فعلى أيديهم، وما عرج إلى الله فعلى أيديهم، وما استغنوا عن الله (عزَّ وجلَّ) طرفة عين.
وهو ما يُوحي بمشاركة الأئمَّة مع الله في إدارة الكون، وهذا نوع من (التفويض) غير الكامل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٨٥) أيُّ تفويض في استجابة الدعاء؟ نعم في النظر الحسِّي المادِّي يمكن ذلك كما ذهب إليه الكاتب. ألم يقل الله (عزَّ وجلَّ) على لسان عيسى (عليه السلام): ﴿أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ﴾ (آل عمران: ٤٩)؟ فالدعاء عند الكاتب محضور لأنَّه خارج عن عالم المادَّة.
(٢٨٦) ما هو ربط عرض الأعمال بالتفويض؟ ألم يقل (عزَّ من قائل): ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: ١٠٥)؟
↑صفحة ٣٢٢↑
وكان محمّد بن الحسن الصفَّار القمِّي - صاحب كتاب (بصائر الدرجات) - الذي كان معاصراً لفترة الحيرة، وكان أحد أقطاب (النظريَّة المهدويَّة الاثني عشريَّة)، يعتقد بنوع من التفويض للأئمَّة في التشريع وإدارة الحياة، وهو يقول: وجدت في كتاب قديم في نوادر محمّد بن سنان، قال: قال أبو عبد الله: «لا والله ما فوَّض الله إلى أحد من خلقه، إلَّا إلى رسول الله والأئمَّة، فقال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾ [النساء: ١٠٥]، وهي جارية في الأوصياء».
ومن الواضح أنَّ هذه النظريَّة تحتوي على درجة من الغلوِّ، وإنْ لم تصل إلى درجة القول بالتفويض في الخلق والرزق وإدارة الكون. وقد كان الصفَّار يتطرَّف في الغلوِّ في الأئمَّة، يشهد على ذلك كتابه (بصائر الدرجات) المليء بالأفكار المرفوضة من الشيعة اليوم.
وكان بعض أهل نيسابور من الشيعة على درجة كبيرة من الغلوِّ والارتفاع والتفويض، كما يقول الكشِّي في ترجمة الفضل بن شاذان. وعموماً فقد كان الغلوُّ بمختلف مدارسه ومذاهبه ينتشر بين الشيعة في منتصف القرن الثالث الهجري(٢٨٧)، كما يقول السيِّد هبة الدِّين الشهرستاني في مقدَّمته لكتاب الشيخ المفيد: (أوائل المقالات).
وقد لعب جعفر بن محمّد بن مالك الفزاري وآدم البلخي وأحمد الرازي والحسين بن حمدان الخصيبي دوراً كبيراً في نشر نظريَّة (وجود الإمام المهدي)(٢٨٨) ونسج الروايات الأُسطوريَّة حول مولده واللقاء به وكيفيَّة نموِّه وعلمه بالغيب،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٨٧) لم يذكر هبة الدِّين عن القرن الثالث شيئاً، إذ حياة المفيد في النصف الثاني من القرن الرابع، إذ وفاته (٤١٣هـ)، فلا أدري من أين يأتي الكاتب بهذه الدعاوى الملفَّقة؟
(٢٨٨) أرجو من القارئ الكريم الرجوع إلى ردِّ الأخ محمّد منصور لمعرفة كذب هذه الدعوى.
↑صفحة ٣٢٣↑
وكان هؤلاء من أعاظم الغلاة الذين يجمع علماء الحديث الشيعة على رفض أحاديثهم(٢٨٩).
وإذا نظرنا إلى القول بتبوُّء الإمام المهدي محمّد بن الحسن العسكري لمقعد الإمامة وهو ابن خمس سنين والادِّعاء بعلمه للغيب وتعلُّمه للعلوم الدِّينيَّة عن طريق الوحي والإلهام كما يقول الذين يفترضون وجوده لعلمنا أنَّ القول بوجوده وإمامته ومهدويَّته لا ينفكُّ عن نوع من الغلوِّ.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٢/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٩:٢٦) مساءً.
محمّد منصور عضو:
الكاتب يصادم ضرورة ظهور المهدي الموعود على لسان النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند المسلمين بكونها فرضيَّة مختلقة.
إذا كان الكاتب يفترض اختلاق روايات ظهور المهدي بيد الغلاة الباطنيِّين، فماذا يصنع بروايات أهل السُّنَّة في صحاحهم وكُتُبهم الأُخرى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٨٩) أوَّلاً كونهم في أفراد الغلاة تدليس، حيث إنَّ جعفر بن محمّد بن مالك وثَّقه الشيخ الطوسي، والتضعيف هو من كتاب ابن الغضائري، وكتابه في الرجال لم يثبت عند مشهور الإماميَّة، ويتَّهمون أعداءهم بوضع ما يُنسَب إلى ذلك الكتاب، وقد قال النجاشي: إنَّ شيخ الطائفة النبيل الثقة أبا عليّ بن همَّام قد روى عنه أبو جعفر الفزاري، وكذلك الشيخ الجليل الثقة أبو غالب الزراري، وسرُّ قذف الكاتب لهذا الرواي بذلك هو أنَّ بعض الروايات في ولادة الحجَّة (عجَّل الله فرجه) يقع في سندها هذا الرواي بسند صحيح قبله وبعده. وأمَّا آدم البلخي، فقد ضعَّف العلَّامة في كتاب (الخلاصة) ومرَّض القول بنسبة الغلوِّ إليه. وأمَّا أحمد الرازي، وهو ابن إسحاق كما ذكره أبو عليٍّ في (منتهى المقال)، وهو ثقة، وأمَّا أحمد بن الحسن الرازي وهو في نفس الطبقة قد ذكر في (منتهى المقال) عدَّة من الرجاليِّين ممَّن قال بتوثيقه.
مع أنَّ من روى ولادته وغيبته عشرات الرواة الآخرين بطُرُق لا يقع فيها هؤلاء المذكورون الثقات.
↑صفحة ٣٢٤↑
المعتمدة؟ وماذا يصنع بحديث الثقلين، هل هو من وضع الغلاة الباطنيِّين قبل زمن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو في زمن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ أو أنَّ القرآن وسورة الكهف والخضر من وضع الغلاة؟
وماذا يصنع بحديث الأئمَّة اثنا عشر كلُّهم من قريش، وبحديث من مات ولم يعرف أو يبايع إمام زمانه مات ميتة جاهليَّة، وحديث لا تخلو الأرض من حجَّة؟ وهل النبوَّة باطنيَّة وبطون؟ وهل الوحي النازل على النبيِّ غلوٌّ باطني؟
والذي يظهر من الكاتب أنَّ عقليَّة السرّيَّة في نظام المخابرات الدوليَّة وقوى المال والسلاح في العصر الحديث هي عقليَّة غلوّ وغلاة باطنيِّين، لأنَّ الباطنيَّة تدعو إلى السرّيَّة والتستُّر، ففِرَق المخابرات فِرَق غلاة باطنيَّة، والمنهج الصحيح أنْ يخرجوا إلى السطح في العمل شاهراً ظاهراً بكلِّ أوراقهم وقواهم. ويظهر من الكاتب أنَّ اتِّفاق المسلمين على وجود الخضر المذكور في سورة الكهف مع موسى، وقيامه بالوظائف الإلهيَّة أنَّ السورة من وضع الغلاة الباطنيَّة، وكذلك اتِّفاق المسلمين على بقاء الخضر في السرّيَّة والتستُّر حيًّا إلى يوم القيامة غلوٌّ باطني من جميع المسلمين.
ثمّ إنَّه يدَّعي اتِّفاق الكلِّ على إنكار ولادة الإمام الثاني عشر بن الحسن العسكري، وأنَّه لا يُنكِر هذا الاتِّفاق أحد، ولا أدري كيف لا يحترم الكاتب أبسط درجات العقل للقارئ، وأنَّ المخاطب له أدنى درجات الشعور والفهم؟ فكلُّ الطائفة الإماميَّة المتَّفقة لا تملأ عينيه، وكلُّ ما ذكرناه في مقالة سابقة ردًّا عليه من قائمة ما يزيد على السبعة والثلاثين من عمدة علماء أهل السُّنَّة في كُتُبهم ذكروا ولادته وشدَّة الخوف المحيطة بها مع ذكر أسماء كُتُبهم وصفحاتها، كلُّ ذلك ربَّما لم يستطع الكاتب أنْ يبصره، ولكن القارئ بصير.
وكأنَّ الكاتب يسبح في بحر الخيال الشعري ونغمات الألفاظ من دون
↑صفحة ٣٢٥↑
معاينة المعاني التي يمرُّ بها، ثمّ إنَّه يقرُّ بمقام أهل البيت وأنَّ الغلاة حاولوا أنْ يلصقوا أنفسهم بأهل البيت، وهذه مناقضة لنفسه، فإنَّه لا يعترف بتراث أهل البيت وأقوالهم المتواترة في إمامتهم وإمامة المهدي ابنهم قبل تولُّده بقرنين إلى نصف القرن. ثمّ إنَّ الكاتب أراد تصوير اتِّحاد التأليه عند الغلاة بالمهدويَّة، بأنَّ المهدويَّة طور من الأطوار السابقة على الأُلوهيَّة، ولكن القارئ لا يجد إلَّا مداعبة الألفاظ الأطواريَّة في سجع الكلام.
والسبب في توحيده بين الاعتقاد بالمهدي في روايات الفريقين وبين الغلوِّ والباطنيَّة ولو كانت الروايات من طُرُق أهل السُّنَّة، هو أنَّ الكاتب يرى أنَّ القول بظهور المهدي كمصلح للعالم يستلزم القول بالإمامة الإلهيَّة، ومن ثَمَّ يحتجُّ على علماء السُّنَّة الذين يُثبِتون ولادة الإمام الثاني عشر بن الحسن العسكري بأنَّهم إمَّا شيعة أو كلامهم ذكروه كافتراض، فهو يرى التلازم بين الإقرار بوجود أو ظهور المهدي كمصلح إلهي للبشريَّة وبين الإمامة الإلهيَّة، وحيث إنَّه يرى أنَّ الإمامة الإلهيَّة عين القول بالغلوِّ وتأليه الأئمَّة أو القول بنبوَّتهم، فيرى أنَّ المهدويَّة عين الغلوِّ والتأليه، ومن يرى أنَّ روايات ظهور المهدي وُجِدَت في صحاح أهل السُّنَّة من قِبَل الغلاة، أو أنَّ علماء السُّنَّة الذين كتبوا الصحاح شيعة، أو أنَّ ذكرهم لتلك الروايات افتراض افترضوه لا إسناد خبر للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
أمَّا سبب رأي الكاتب أنَّ الإمام المعهودة إمامته من الله هي غلوٌّ ونبوَّة أو تأليه، فيستدلُّ عليه بما يلي:
١ - أنَّكم تقولون بأنَّه يعلم الغيب.
٢ - أنَّه يُوحى إليه أو يُلهَم.
٣ - أنَّه تُعرَض عليه الأعمال.
٤ - أنَّه أعلم من الملائكة.
↑صفحة ٣٢٦↑
٥ - يقدر على التصرُّفات التكوينيَّة، فهو شريك مع الله تعالى.
٦ - أنَّ الإمام الثاني عشر ابن خمس سنين كيف تعلَّم العلوم الدِّينيَّة ويعلم الغيب؟
لكن يجيبه الإماميَّة بقوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ (الجنّ: ٢٦ و٢٧).
وعن الثاني بقوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ (البقرة: ١٢٤)، وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ﴾ (الأنبياء: ٧٣)، وقوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً... وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّها﴾ (البقرة: ٣٠ و٣١)، فعهد الله في سورة البقرة الإمامة لإبراهيم يعني أنَّ الإمامة عهد إلهي، وهو جاعل في الأرض خليفة فلم يكن التعبير: (جاعل نبيًّا أو رسولاً)، وقوله تعالى بنحو التأبيد لهذا الجعل في الأرض.
وجوابهم عن الثالث: قوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: ١٠٥)، وقوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ (المطفِّفين: ١٨ - ٢١).
وعن الرابع قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّها... قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ... وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا﴾ (البقرة: ٣١ - ٣٤).
وعن الخامس: ﴿كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ (الرعد: ٤٣).
وعن السادس: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ (مريم: ١٢)، وقوله تعالى: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ (مريم: ٢٩).
↑صفحة ٣٢٧↑
فكلُّ هذه الأُمور يُثبِتها القرآن لأفراد من البشر، ولم تستلزم أُلوهيَّة هؤلاء الأفراد، وما ذكرناه نموذج من الآيات وإلَّا فهي كثيرة جدًّا في هذا الصدد، ولعلَّ الكاتب لا يجرؤ على التصريح بالقول بأنَّ في القرآن غلوًّا ورائحة باطنيَّة.
وعلى كلِّ حالٍ، فاللازم على الكاتب هو تركيز الحوار على البحث في ما يُثبِته القرآن هل هو الإمامة الإلهيَّة أم سلطة الجماعة؟ بعد كون منهجه على عدم الوثوق بأيِّ رواية من طرف السُّنَّة ولا من طرف الشيعة، مضافاً إلى لزوم المنهج الحسِّي عنده وإنْ كان غاب عن الحسِّ فهو باطنيَّة وغلوٌّ وتأليه.
ثمّ إنَّ الكاتب يدَّعي اتِّفاق الكلِّ على عدم ولادة الحجَّة، ويُعلِّل ذلك بأنَّ علماء السُّنَّة في مجموع مقالاته أنَّ من ذكر ولادته من علماء السُّنَّة لعلَّهم شيعة، والشيعة الذين ذكروا ولادته وضَّاعون ومختلقون.
ثمّ إنَّه يطعن على الإسماعيليَّة مع أنَّه يطالب الآصفي في نقاشه له(٢٩٠) باحتمال انطباق العترة في حديث الثقلين على أئمَّة الإسماعيليَّة، ولعلَّه يؤمن بمنطق التضادِّ الديالكتيكي.
ثمّ إنَّه يُكرِّر بأمانة وصفاء أنَّه لا بدَّ من التأكُّد من حقيقة الظروف المحيطة بوفاة الإمام، فهو لم يتيقَّن من جور بني العبَّاس.
ويدَّعي أنَّ السرّيَّة في الولادة مذهب باطني، وهذا يستلزم أنَّ ما في القرآن الكريم من خفاء وسرّيَّة ولادة موسى مذهب باطني تسلَّل إلى القرآن الكريم، ولن أبتعد عن الحقيقة إذ قلت: إنَّ منهج الكاتب يتطابق مع العلمانيِّين في عدم الوثوق بأيِّ حديث مروي عند أهل السُّنَّة والشيعة، كما لا يثق بما وراء الحسِّ الظاهري حتَّى في إخبارات القرآن الكريم.
ولعلَّه من هذا الباب حكمه بالغلوِّ على مفاد الآية: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٩٠) راجع صفحة (٢١١).
↑صفحة ٣٢٨↑
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾ (النساء: ١٠٥)، وأنَّ في الآية نحو شرك بالله.
ثمّ إنَّه ادَّعى أنَّ الشيعة ترفض كتاب الصفَّار، وما أدري من الذي روى الكتاب عن الصفَّار، أليس هم أعلام ومراجع الطائفة، فكيف رفضوا الكتاب؟!
ثمّ ادَّعى أنَّ كلَّ من روى عن المهدي هم الفزاري وآدم البلخي والرازي والخصيبي، ثمّ يناقض نفسه على منطق الديالكتيك بأنَّ علماء الشيعة يرفضون أحاديث هؤلاء الأربعة.
فلا أدري كيف يجمع بين صحَّة الروايات حول المهدي في كُتُبنا عن هؤلاء الأربعة ويُقرِّر بأنَّ الشيعة يرفضون أحاديث الأربعة؟ كما في قوله: إنَّ العبرتائي شيخ الشيعة وإقراره بأنَّ الشيعة لعنته، وإنَّ العبرتائي اختلق ولادة الإمام الثاني عشر، ولعلَّه يرى شيخ القوم هو الذي يُلعَن من قومه، وأنَّ الذي يختلق مذهباً يتبعه جماعة في مذهبه متابعتهم له هي بلعنه.
والحاصل أنَّ المتراءى من منهج الكاتب هو عدم وثوقه بأيِّ حديث مروي عن طُرُق أهل السُّنَّة والشيعة، وعدم وثوقه بأيِّ عقيدة ما وراء الحسِّ الظاهري تحمل في طيَّاتها الغيب والغيبوبة عن الحسِّ، وأنَّ ما يوجد في الشريعة مطلقاً من وراء الحسِّ هو من صنع الغلاة والباطنيَّة، وما أدري إذا وصلت النوبة إلى القرآن الكريم فماذا سيكون كلامه؟
وعلى أيَّة حالٍ فالحوار معه في الروايات نقليَّة كانت أو تاريخيَّة هو حوار في حلقة مفرغة، لأنَّه يُشكِّك في كلِّ ذلك ولا يذعن بأيِّ دليل وبرهان على حجّيَّة الخبر ولو المتواتر.
ثمّ إنَّه يشكل على نظريَّة التقيَّة وأنَّها خلاف الأمانة ومن مذهب الباطنيَّة
↑صفحة ٣٢٩↑
أيضاً، ولا أدري ماذا يقول في الآيات الكريمة: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ (الأنبياء: ٦٣)، ﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ (يوسف: ٧٠)، ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ﴾ (الأنعام: ٧٨)، ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ (آل عمران: ٢٨)؟ ولعلَّ التقيَّة عنده تسرَّبت إلى الآيات بفعل الغلاة الباطنيَّة.
* * *
لا مبرِّر للغيبة أو الخوف من النظام العبَّاسي الضعيف:
حُرِّر بتاريخ (٢١/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١١:١٦) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
الوضع السياسي العام عشيَّة (الغيبة) وغداتها:
القسم الأوَّل: النظام العبَّاسي:
امتاز العهد العبَّاسي الثاني بسيطرة الموالي الأتراك على شؤون الخلافة، والتدخُّل في تعيين الخلفاء وإزالتهم، حيث قتل (باغر) التركي المتوكِّل نتيجة صراعات داخل البيت الحاكم، وخلافات بين أركان السلطة والقوَّات المسلَّحة.
وورث عرش الخلافة من المتوكِّل ابنه محمّد المنتصر، وله من العمر (٢٥) سنة، ولكنَّه لم يستمرّ في الخلافة أكثر من ستَّة أشهر حتَّى تُوفِّي.
وقام قائد الأتراك (وصيف) و(بغا) بعد وفاة المنتصر بقتل (باغر) الذي قتل المتوكِّل، وجاءا بالمنتصر إلى سدَّة الخلافة. كما قاما بالسيطرة على الخليفة المستعين الذي لم يكن له من الأمر شيء غير الاسم، حتَّى قال بعض الشعراء فيه:
خليفة في قفص * * * بين وصيف وبُغا
يقول ما قالا له * * * كما تقول الببغا
وانحدر المستعين إلى بغداد بعد أنْ اعتقل المعتزَّ والمؤيَّد، فقام الموالي
↑صفحة ٣٣٠↑
بإخراج المعتزِّ والمبايعة له والانقياد إلى خلافته ومحاربة المستعين وناصريه (وصيف وبغا) ببغداد، فبايعوه، وذلك في (١١/ محرَّم/ ٢٥١هـ)، وأحدر المعتزُّ أخاه أحمد مع عدَّة من الموالي لحرب المستعين إلى بغداد، فلمَّا رأى محمّد بن عبد الله ابن طاهر ذلك كاتب المعتزَّ وجنح إليه ومال إلى الصلح على خلع المستعين. وخلع المستعين نفسه من الخلافة يوم الخميس (٣/ محرَّم/ ٢٥٢هـ) وسلَّم الخلافة إلى المعتزِّ. حيث بويع للمعتزِّ، وهو الزبير بن جعفر المتوكِّل، وله يؤمئذٍ (١٨) سنة، وعيَّن المؤيَّد وليًّا للعهد، ولكنَّه سرعان ما حبسه، لأنَّه سمع أنَّ المؤيَّد يتآمر عليه، ثمّ خلعه.
وقام المعتزُّ بقتل وصيف وبغا، ومال إلى المغاربة والفراغنة، فنقم عليه الأتراك الذين تألَّبوا عليه بعد قتله لرؤسائهم فثاروا عليه وأجبروه على الاستقالة في أواخر شهر رجب سنة (٢٥٥هـ) بعد أنْ حكم حوالي أربع سنين وستَّة أشهر، وحاول محمّد بن الواثق أنْ يتوسَّط بينه وبين الأتراك، فقال له المعتزُّ يائساً: أمر لا أُطيقه ولا أقوم به ولا أصلح له. وحاول المهتدي أنْ يتوسَّط أيضاً، فقال له المعتزُّ: لا حاجة لي فيها ولا يرضونني لها. وقُتِلَ في محبسه بعد ستَّة أيَّام من الاستقالة.
وقد نصب الأتراك بعد استقالة المعتزِّ، المهتدي محمّد بن هارون الواثق، وكان له من العمر (٣٧) سنة، وحكم حوالي عام من (٢٩/ رجب/ ٢٥٥هـ) إلى (١٦/ رجب/ ٢٥٦هـ) حيث قُتِلَ على أيدي الأتراك.
وكان موسى بن بغا الكبير عندما قُتِلَ المعتزُّ غائباً، بينما كان صالح بن وصيف يدير الأمر مع المهتدي، فعاد موسى مسرعاً ودخل (سُرَّ من رأى) بدون إذن الخليفة المهتدي، وقتل صالح بن وصيف.
وفي هذه الأثناء تمرَّد (مساور الشاري) ودنا في عسكره من سامرَّاء، وعمَّ
↑صفحة ٣٣١↑
الناس بالأذى، وانقطعت السابلة وظهرت الأعراب، فأخرج المهتدي موسى بن بغا وبايكال إلى حرب الشاري، ولكنَّهما عادا وتحارب بايكال مع الخليفة المهتدي، وكانت بينهما حرب عظيمة قُتِلَ فيها خلق كثير من الناس، وانكشف بايكال واستظهر المهتدي عليه وقتله، فخرج كمين بايكال على المهتدي، فولَّى هو وأصحابه ودخل سامرَّاء مستغيثاً بالعامَّة مستنصراً بالناس يصيح في الأسواق فلا مغيث، فمضى مؤيساً من النصر إلى دار ابن خيعونة متخفّياً، فهجموا عليه وعزلوه وطعنوه بالخناجر، وذلك في (١٦/ رجب) سنة (٢٥٦هـ).
وقد بويع بعد ذلك للمعتمد أحمد بن جعفر المتوكِّل، وهو ابن (٢٥) سنة، وبقي في الخلافة (٢٣) سنة إلى أنْ تُوفِّي سنة (٢٧٩هـ)، وقد كان ضعيفاً جدًّا مشغوفاً بالطرب، والغالب عليه المعاقرة ومحبَّة أنواع اللهو والملاهي. وبايع المعتمد لابنه جعفر وسمَّاه المفوِّض إلى الله، ولكن أخاه أبا أحمد الموفَّق غلب على الأُمور وتدبيرها فحظر على أخيه المعتمد وحبسه، فكان أوَّل خليفة يُقهَر ويُحبَس ويُحجَر عليه، وعندما تُوفِّي الموفَّق قام ابنه المعتضد بأُمور الناس في التدبير وخلع جعفراً من ولاية العهد سنة (٢٧٨هـ)، واصطبح المعتمد في (١٩/ رجب/ ٢٧٩هـ) وتغدَّى غداءً مسموماً فمات. ودخل إسماعيل بن حمَّاد القاضي إلى المعتضد وعليه السواد فسلَّم عليه بالخلافة.
وقد تُوفِّي الإمام الحسن العسكري في عهد المعتمد سنة (٢٦٠هـ)، وحدثت (الغيبة) والحيرة والخليفة المعتمد يبلغ من العمر حوالي ثلاثين سنة.
وتُوفِّي المعتضد في (٢٢/ ربيع الثاني) سنة (٢٨٩هـ)، فخلف ابنه عليّ المكتفي بالله الذي بويع له بالخلافة وله من العمر (٢٥) سنة، فكان شابًّا ضعيفاً، فغلب عليه القاسم بن عبيد الله وفاتك مولاه، ثمّ غلب عليه بعد وفاة القاسم وزيره العبَّاس بن الحسن وفاتك.
↑صفحة ٣٣٢↑
وعاش الخلفاء العبَّاسيُّون بعد ذلك سلسلة من الصراعات الداخليَّة الدمويَّة العنيفة على السلطة، فيما بينهم وبين الموالي والأتراك، فقد قُتِلَ المقتدر عام (٣٢٠هـ) في الواقعة التي كانت بينه وبين مؤنس الخادم في بغداد، وبويع للقاهر بالله بعده، ثمّ خُلِعَ بعد أقلّ من عامين وسملت عيناه في (٥/٥/٣٢٢هـ)، وبويع للراضي بالله بعده، الذي حكم حوالي خمس سنين ومات حتف أنفه في (١٠/ ٣/ ٣٢٩هـ)، ولكن عصره شهد سيطرة الموالي و(بجكم) التركي الذي ضرب الدنانير والدراهم ووضع صورته عليها وهو شاكي السلاح مع كتابة هذه الجملة: (إنَّما العزُّ فاعلم، للأمير المعظَّم، سيِّد الناس بجكم).
وبويع بعده للخليفة المتَّقي بالله في (١/ ٣/ ٣٢٩هـ) فظلَّ في الخلافة حوالي أربع سنين، فخُلِعَ وسملت عيناه في (٣/ ٤/ ٣٣٣هـ)، وذلك بسبب استعانته بالحمدانيِّين وتفويض الملك إليهم، ممَّا أغضب الأتراك وزعيمهم توزون الذين سيطروا على بغداد سنة (٣٣٢هـ)، فتآمروا على المتَّقي وخلعوه وأرسلوا إلى عبد الله بن عليٍّ المستكفي وبايعوه بالخلافة في (٣/ ٢/ ٣٣٣هـ)، ولكنَّه خُلِعَ بعد عام وسملت عيناه، وذلك على يدي أحمد بن بويه الديلمي، الذي اتَّهمه بمكاتبة بني حمدان واطِّلاعهم على أسراره، وولي المطيع مكانه في (٢٣/ شعبان/ ٣٣٤هـ).
القسم الثاني: وضع المعارضة:
كما شاهدنا في القسم الأوَّل: كان من أبرز خصائص العصر العبَّاسي الثاني التفسُّخ والانحلال، وقد نشأ من ضعف الخلافة وعدم امتلاكها زمام الأُمور. فصار أيُّ واحدٍ من أُمراء الأطراف في الدولة الإسلاميَّة الواسعة غير مقيَّد بالارتباط الوثيق بالعاصمة، إنْ شاء أصبح مستقلًّا وناجز الآخرين، فكانت الحروب تدور في الأطراف بين الأُمراء والولاة.
↑صفحة ٣٣٣
ومن أوضح تلك الموارد: الأندلس التي استقلَّت تلك الفترة بالخلافة تحت حكم عبد الرحمن الناصر الأُموي، وكان الشمال الأفريقي مستقلّاً إلى حدٍّ كبير تحت إمرة آل الأغلب، وكانت بلاد فارس والعراق مسرحاً خصباً لجيوش يعقوب بن الليث الصفَّار وحروبه من سنة (٢٥٣هـ) إلى أنْ تُوفِّي سنة (٢٦٥هـ)، حيث خلفه أخوه عمرو بن الليث، وفي عام (٢٦١هـ) استقلَّ إلى حدٍّ كبير نصر بن أحمد الساماني ببلاد ما وراء النهر حتَّى تُوفِّي عام (٢٧٠هـ)، ولم تكن الأطراف القريبة من العاصمة (سُرَّ من رآى) بأحسن حالاً من الأطراف البعيدة، فقد كانت أيضاً مسرحاً لمصالح العُمَّال والقُوَّاد من ناحية، ومسرحاً لنشاط الخوارج والزنج ثمّ القرامطة من ناحية أُخرى.
وكان الخليفة المعتمد الذي كان مولعاً بالطرب والملاهي وشرب الخمور، بالخصوص ضعيفاً إلى درجة كبيرة بحيث لم تبقَ معه من الخلافة إلَّا صورتها بلا واقع. لا حلَّ له ولا عقد.
وشهد هذا العصر سلسلة من ثورات الشيعة والعلويِّين بمختلف فئاتهم وأحزابهم، رغم أنَّ بعض الخلفاء العبَّاسيِّين بدأ يميل إلى التشيُّع أو يتعاطف مع العلويِّين بصورة كبيرة، فقد كان النظام يتفسَّخ ويتفتَّت، وربَّما حدث الصراع داخل البيت العبَّاسي نفسه.
الثورات العلويَّة عشيَّة (الغيبة):
يقول المسعودي في (مروج الذهب): في عام (٢٥٠هـ) ظهر ببلاد طبرستان الحسن بن زيد العلوي، فغلب عليها وعلى جرجان بعد حروب كثيرة وقتال شديد. وظلَّت في يده إلى أنْ تُوفِّي سنة (٢٧٠هـ) فخلفه أخوه محمّد بن زيد، إلى أنْ حاربه رافع بن هرثمة، ودخل محمّد بن زيد الديلم في سنة (٢٧٧هـ) فصارت في يده وبايعه بعد ذلك رافع بن هرثمة وصار في جملته وانقاد إلى دعوته والقول بطاعته.
↑صفحة ٣٣٤↑
وكان الحسن ومحمّد يدعوان إلى الرضا من آل محمّد، وكذلك من طرأ بعدهما ببلاد طبرستان وهو الحسن بن عليٍّ الحسني المعروف بالأطروش وولده الداعي الحسن بن القاسم.
وفي نفس الوقت سنة (٢٥٠هـ) ظهر بالريِّ محمّد بن جعفر ودعا للحسن ابن زيد صاحب طبرستان. كما ظهر بقزوين الكركي، وهو ثائر علوي آخر، ثمّ التحق بالحسن بن زيد.
وظهر بعده بالريِّ علوي آخر هو: أحمد بن عيسى، ودعا إلى الرضا من آل محمّد، وسيطر على الريِّ. كما ظهر بعد ذلك بعام الحسين بن محمّد العلوي بالكوفة، وأجلى عنها عامل الخليفة. وثار بعده علوي آخر هو: محمّد بن جعفر.
وفي عام (٢٥١هـ) ثار عليُّ بن عبد الله الطالبي المسمَّى بالمرعشي في مدينة آمل. كما ثار الحسين بن أحمد الأرقط بقزوين، وظلَّ مستولياً عليها حتَّى عام (٢٥٢هـ)، كما استولى على الريِّ أيضاً.
وقد تمَّ كلُّ ذلك في ظلِّ تدهور الأُمور أيَّام الخليفة المستعين الذي اختلف مع أهل بيته، وانحدر إلى بغداد، فاضطرب عليه الموالي وحاربوه وأجبروه على خلع نفسه، وتمَّت البيعة للمعتزِّ.
وفي عام (٢٥٢هـ) في ظلِّ خلافة المعتزِّ الشابّ الذي لم يكن قد تجاوز العشرين من عمره، ثار العلوي: إسماعيل بن يوسف في المدينة، وخلفه بعد وفاته أخوه محمّد بن يوسف، ثمّ سار إلى اليمامة والبحرين واستولى عليها، وخلف بها عقبه المعروف ببني الأخضر.
وفي خلافة المهتدي سنة (٢٥٥هـ) ظهر صاحب الزنج في البصرة.
وفي عام (٢٥٦هـ) خرج في مصر، العلوي: إبراهيم بن محمّد المعروف بابن الصوفي. كما ثار عليُّ بن زيد العلوي في الكوفة، وقاتل بعكبرا، حتَّى قُتِلَ سنة (٢٥٧هـ).
↑صفحة ٣٣٥↑
وفي سنة (٢٥٧هـ) ظهر القرامطة في البحرين وامتدُّوا إلى البصرة والعراق والجزيرة.
وقد تفجَّرت في الريِّ ثورة شيعيَّة بقيادة أحمد بن الحسن المادراني الذي سيطر عليها في عهد المعتمد، في عام (٢٧٥هـ)، وأظهر فيها التشيُّع وأقام حكومة شيعيَّة.
الثورات الإسماعيليَّة في اليمن وشمال أفريقيا:
وكان (الحسين بن حوشب) قبل ذلك، وبعد سنوات قليلة من وفاة الإمام العسكري، وذلك في سنة (٢٦٦هـ) قد استطاع أنْ يُؤسِّس في اليمن أوَّل حركة إسماعيليَّة ناجحة ويجمع حوله عدداً كبيراً من قبائل اليمن ويُظهِر بينهم الدعوة لـ (المهدي الإسماعيلي) الذي كان يعيش مستتراً في مدينة سلمية في سوريا، ويُؤسِّس أوَّل دولة إسماعيليَّة في التاريخ. ثمّ أرسل ابن حوشب: الداعي (أبا عبد الله الشيعي) الذي كان قد انسحب من الفرقة القائلة بوجود (محمّد بن الحسن العسكري) والتحق بالإسماعيليَّة، وكان يعمل محتسباً في بغداد، أرسله إلى شمال أفريقيا للدعوة إلى الإمام الإسماعيلي المستتر (عبيد الله المهدي).
واستطاع أبو عبد الله في ظلِّ ضعف قبضة الدولة العبَّاسيَّة، أنْ يكسب تأييد قبيلة كتامة، ويسيطر على المغرب ويكتسح نفوذ بني الأغلب، ويقضي على دولتهم في القيروان في تونس عاصمة أفريقيَّة، ويُؤسِّس الدولة الفاطميَّة التي امتدَّت بعد ذلك إلى مصر وسوريا، وذلك في سنة (٢٩٦هـ) في عهد الخليفة العبَّاسي المقتدر، الذي بويع وله من العمر (١٣) عاماً، وكان الإمام المهدي الإسماعيلي يقود نشاطاته المعارضة للدولة العبَّاسيَّة ويعمل على إسقاطها، وبعد نجاحه في تفجير الثورة في اليمن على يدي الداعي بن حوشب، استطاع أنْ يُفجِّر الثورة في واسط
↑صفحة ٣٣٦↑
في العراق، على يدي أحد أتباع المذهب الإسماعيلي: (حمدان بن قرمط) الذي اكتسح جنوب العراق والجزيرة العربيَّة وامتدَّ إلى سوريا.
تعاطف الخلفاء العبَّاسيِّين مع العلويِّين:
ونتيجةً لذلك فقد كانت سياسة المعتضد ليِّنة مع العلويِّين كسياسة من سبقه من الخلفاء العبَّاسيِّين، بالرغم من خروج الداعي في طبرستان واستقلاله بالسلطة هناك.
ويقول المسعودي: إنَّ الداعي العلوي بعث بمال إلى عاصمة الخلافة لكي يُوزَّع على آل أبي طالب فيها، فعلم الخليفة المعتضد بذلك، فلم يستطع، أو لم يشأ أنْ يعارض ذلك، بل أرسل إلى الرجل المكلَّف بالتوزيع، أحضره أنكر عليه إخفاء ذلك وأمره بإظهاره، وقرب إليه آل أبي طالب، وادَّعى الخليفة المعتضد أنَّه كان قد شاهد الإمام عليًّا في الرؤيا قبل أنْ يصل إلى الخلافة وقال له: إنَّ هذا الأمر سيصل إليك فلا تتعرَّض لولدي ولا تؤذهم، فقال: السمع والطاعة.
ويروي المجلسي في (بحار الأنوار) عن محمّد بن جرير الطبري: أنَّ المعتضد، الذي ولي الخلافة بعد المعتمد، عزم على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر، وأمر بإنشاء كتاب يُقرَأ على الناس.
وأخفق المعتضد في مسعاه لمقاومة الحركة القرمطيَّة، أرسل جيشاً لقمعها لكنَّه هُزِمَ وأُسر قائده، وكان القرامطة يزحفون على البصرة تارةً وعلى بغداد تارةً، وعلى الحجاز تارةً أُخرى. ونودي بزعيم لهم هو: (صاحب الناقة أبو عبد الله محمّد) خليفة وتسمَّى بأمير المؤمنين، ثمّ هجموا على الشام وظهروا فيها سنة (٢٨٩هـ)، وظلَّ خطرهم جاثماً على المنطقة حتَّى نهبوا الكعبة وسرقوا الحجر الأسود وقتلوا آلافاً من الحجَّاج سنة (٣١٧هـ)، ثمّ نهبوا البصرة واحتلُّوا
↑صفحة ٣٣٧↑
الكوفة، واضطرَّ الخليفة المعتضد أنْ يعقد معهم الهدنة ويُؤدِّي لهم (مائة وعشرين ألف دينار) كلَّ عام.
وفي عهد الخليفة الطفل المقتدر بالله أُصيبت الدولة العبَّاسيَّة بالضعف الشديد داخليًّا وخارجيًّا، واحتلَّ الروم ساحل الشام ومدينة اللَّاذقيَّة سنة (٢٩٨هـ)، وظهر محسن بن جعفر بن عليٍّ الهادي في دمشق سنة (٣٠٠هـ)، ولكنَّه هُزِمَ وقُتِلَ بعد ذلك.
ومنذ ذلك الحين شهد العصر العبَّاسي سيطرة البويهيِّين (الشيعة) على مقاليد السلطة في عاصمة الخلافة العبَّاسيَّة بغداد، حيث كانوا ينصبون الخلفاء ويعزلونهم.
إذن فإنَّ الظروف المحيطة بـ (الغيبة) من قبل ومن بعد، لم تكن تنطوي على أيِّ مبرِّر للخوف والتقيَّة، بحيث يُخفي الإمام الحسن العسكري مولد ابنه ويكتمه بالمرَّة، ولم يكن من العسير على (محمّد بن الحسن العسكري) لو كان موجوداً فعلاً، أنْ يظهر هنا وهناك. وحتَّى لو كان قد أعلن عن نفسه منذ البداية أنَّه (المهدي المنتظر) لم يكن يصعب عليه اللجوء إلى أطراف الدولة العبَّاسيَّة ويختبئ بالجبال والغابات، وأنْ يتحدَّى السلطات العبَّاسيَّة الضعيفة جدًّا ويقيم دولته المعهودة، ويُؤدِّي مسؤليَّاته في إمامة الشيعة والمسلمين، ومن المعروف أنَّ الحُكَّام البويهيِّين (الشيعة المؤمنين به) طالبوا الشيخ المفيد أنْ يخرج ويحكم بدل الخليفة العبَّاسي، كما خرج (المهدي الفاطمي) وحكم في شمال أفريقيا، بعد أنْ كان مستتراً، فلم يحر المفيد جواباً، بعد تهافت حكاية التقيَّة والخوف على نفسه من القتل.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٢/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٠:١٠) مساءً.
محمّد منصور عضو:
↑صفحة ٣٣٨↑
الردُّ على إنكار المبرِّر التاريـخي:
الكاتب يمسح بيد بيضاء على الدولة العبَّاسيَّة.
دعواه أنَّ الدولة العبَّاسيَّة ضعيفة آنذاك، فإنْ كان مراده من الضعف بالقياس إلى أوَّل نشوئها فهذا لا يعني ضعفها عن مقوِّمات الدولة والسطوة الكاسرة لمخالفيها، ومن ثَمَّ بقيت إلى قرون بعد ذلك، أمَّا أنَّ مركز القرار في الدولة العبَّاسيَّة هل هو الخليفة أو الموالي أو الأتراك أو آخرون فهذا لا يُؤثِّر في كون مجموع الدولة العبَّاسيَّة ذات السطوة المتغلِّبة على رؤوس المسلمين كاسرة قابعة على النفوس قاهرة لحرّيَّات الآخرين، وهل سُجِنَ الإمام الهادي والإمام العسكري برغبة منهما ومن الطائفة الشيعة الاثني عشريَّة، أم بقهر من السلطة؟ وسرد تفاصيل أحداث الدولة بالتفاف على هذه الجهة الأصيلة في البحث وهو تصوير الجوِّ الخانق المرهب للطائفة الإماميَّة. وكون الخليفة العبَّاسي يبلغ ثلاثين عاماً أم أقلّ لا يُغيِّر من سطوة مجموع جهاز الدولة العبَّاسيَّة. ودمويَّة الخلافات بين العبَّاسيِّين لم يقضِ على دولتهم التي بقيت إلى قرون.
وقد خلط الكاتب بين القرن الثالث ووضع الدولة العبَّاسيَّة فيه الذي قارن ولادة الإمام الثاني عشر وبين القرن الرابع والخامس.
كما خلط بين قوَّة الدولة العبَّاسيَّة في عاصمتها سامرَّاء حيث كان الإمام العسكري سجيناً تحت الإقامة الجبريَّة وبين أطراف الدولة العبَّاسيَّة.
وإذا كانت الدولة العبَّاسيَّة صورة بلا واقع لا حلَّ لها ولا عقد فكيف بقيت إلى قرون وهي لا تمتلك أدنى مقوِّمات الدولة؟
وأمَّا ثورات العلويِّين التي ذكرها في بلاد فارس البعيدة عن المركز، فمضافاً إلى أنَّ بعضها لم يُكتَب لها النجاح، فهي بمجموعها لم تُقوِّض ولم تطح بعرش الدولة العبَّاسيَّة، وغاية ما صنعت اقتطعت أطرافاً بعيدة عن المركز العاصمة.
↑صفحة ٣٣٩↑
والأغرب من كلِّ ذلك أنَّ الكاتب يقول: إنَّ بعض خلفاء الدولة العبَّاسيَّة كانت سياسته ليِّنة مع الشيعة، فيا للعجب فقد مسح بيد بيضاء على ظلم بني العبَّاس، وأقرَّ مشروعيَّة سياساتهم، ولا غرو فإنَّ الاستنتاج الذي يريده يوصله إلى الركون إلى الظالمين ونفي سطوتهم الغاشمة وإرهابهم الدموي. ثمّ بذل الأموال لآل أبي طالب قد قام بها معاوية مع عدَّة من وجوه آل أبي طالب، فاللازم على ذلك تسمية معاوية أنَّه ذو السياسة الليِّنة مع البيت العلوي على منطق الكاتب. وأمَّا أمر المعتضد بلعن معاوية بن أبي سفيان فلعداوة البيت العبَّاسي مع الأُموي، وأيُّ دلالة فيه على الرأفة بالبيت العلوي؟!
ثمّ إنَّه يُبيِّن أنَّ سيطرة البويهيِّين في نهاية الغيبة الصغرى (٣٠٠هـ) دالَّة على ذهاب الإرهاب القابع على الشيعة الإماميَّة، والسؤال فما الذي أزال البويهيِّين مع بقاء الدولة العبَّاسيَّة على حالها؟ هذا مع غضِّ النظر عن العرض التفصيلي لموقع البويهيِّين في الدولة، وكيف يتوهَّم أنَّ أزمَّة الأُمور كلَّها كانت بيدهم؟ فلماذا لم ينتزعوا السلطة من العبَّاسيِّين بالمرَّة، لو كانوا بهذه القوَّة التي يريد الكاتب أنْ يُصوِّرها تحت ظلِّ القلم الشاعري لا ظلِّ شمس الحقيقة والواقع؟
ولماذا بقيت الدولة العبَّاسيَّة قروناً بعد البويهيِّين؟ إذن هذا بإعجاز بقائها حسبما يرسمه الكاتب من تحليل تاريخي.
ولماذا لم يُكتَب للثورات التي قامت في الأطراف والدويلات البقاء بقدر ما بقيت الدولة العبَّاسيَّة؟ ثمّ إنَّه بقي الكاتب على تصوُّره أنَّ الغيبة تساوي تعطيل الإمام الثاني عشر عن القيام بمسؤوليَّاته الإلهيَّة وحكومته في الإدارة البشريَّة، وكأنَّه لا يريد أنْ يعترف بأدبيَّات السياسة الأكاديميَّة العصريَّة القائلة بأنَّ الحكومة الواقعيَّة الحقيقيَّة للقوى والقوَّة وإنْ كانت خفيَّة سرّيَّة متستِّرة كما في حكومات المخابرات الدوليَّة على الحكومات العلنيَّة في تلك الدول العظمى في
↑صفحة ٣٤٠↑
العصر الحديث. وقد كرَّرنا عليه القول بأنَّ منظومة الأبدال والأوتاد والسُّيَّاح كما في سورة الكهف، والخضر صاحب موسى، هي حكومة إلهيَّة متستِّرة في المجموع البشري لا تدع عجلة المسار البشري ومسيرة المسلمين سائبة بل تتداركها في المنعطفات الحادَّة، كما بيَّن الخضر لموسى في سورة الكهف في إبقاء نسل الأنبياء عندما قتل الغلام، لأجل ذلك كمثال لدور العمل السرِّي لرجال الغيب المتستِّرين.
يقول الكاتب: (إنَّ البويهيِّين كان باستطاعتهم قلب النظام العبَّاسي من جذوره إلَّا أنَّ أوقفهم تحيُّر الشيخ المفيد وخوفه)، فتوقَّف رجال السياسة البويهيِّين لأجل ذلك، فاسمع واضحك، لأنَّ رجال السياسة قد يكونون أطفالاً إلى هذا المستوى، ومع ذلك بقيت الدولة العبَّاسيَّة بعدهم قروناً.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٢/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠١:٤٢) مساءً.
التلميذ عضو:
إلى أحمد الكاتب..
١ - لقد ادَّعيت أنَّه لا توجد رواية تشير إلى الاثني عشر في كتاب (بصائر الدرجات)، وقد بيَّنَّا لك عدم صحَّة قولك هذا حيث توجد في المصدر المذكور أكثر من رواية تشير إلى الاثني عشر، وقد اعترفت أنت في ردِّك على الأخ العاملي بوجود مثل هذه الروايات في كتاب (بصائر الدرجات) بعد أنْ كنت تصرُّ بشدَّة على عدم وجودها.
٢ - لقد قلت أيُّها الكاتب: إنَّ روايات الاثني عشر المرويَّة في كُتُب أهل السُّنَّة ضعيفة، وقد أثبتنا لك بطلان قولك هذا وعدم صحَّته من خلال نقلنا إلى مجموعة من الروايات الواردة في صحاح القوم والتي صحَّحها علماؤهم. فقط
↑صفحة ٣٤١↑
طلبنا منك أنْ تتنازل عن رأيك هذا وتقول بكلِّ جرأة وشجاعة إنَّك فعلاً على خطأ في قولك وادِّعائك هذا، وإنَّ روايات الاثني عشر في كُتُب أهل السُّنَّة صحيحة، ولكن إلى الآن لم نجد منك جواباً على ذلك مع أنَّ الاعتراف بالخطأ فضيلة، فهل يا أخ أحمد الكاتب تملك هذه الجرأة والشجاعة لكي تعترف بخطئك هذا؟
٣ - ادَّعيت أنَّه لا توجد روايات صحيحة تُثبِت وجود ابن للإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أو تذكر ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وقد أتيناك ببعض الروايات الصحيحة عند علماء الشيعة تدلُّ دلالة صحيحة صريحة واضحة جليَّة على وجود ابن للإمام الحسن العسكري وولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وطلبنا منك أنْ تُخبرنا هل هذه الروايات صحيحة أم لا؟ وتتنازل عن قولك بأنَّه لا توجد رواية صحيحة في كُتُب الشيعة تدلُّ على وجود ابن للإمام الحسن العسكري أو تشير إلى ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وإلى الآن لم تكن لديك الشجاعة والجرأة أيضاً في القول بأنَّ هذه الروايات صحيحة وأنَّك على خطأ في قولك: لا توجد روايات صحيحة تدلُّ على ذلك، فنُكرِّر لك الطلب هنا مرَّةً أُخرى: هل هذه الروايات صحيحة أم لا؟
فمن يطلب الحقَّ والحقيقة عندما تتَّضح له هذه الحقيقة أو شيء من جزئيَّاتها من المفروض أنْ يُسلِّم بذلك ويقرَّ ويؤمن به، الذي لا يفعل ذلك هو من ليس كذلك - أي من لا يطلب الحقيقة - بل المعاند، ونرجو أنْ لا تكون كذلك، وماذا يضرُّك لو اعترفت بذلك وواصلت من ثَمَّ معي الحوار في نقاط وأدلَّة أُخرى؟
٤ - لقد قلت في كلام لك ردًّا على الأخ العزيز الأُستاذ محمّد منصور حول ردِّ العلَّامة الشيخ الآصفي (أطال الله في عمره): (... ولكنِّي أقول: إنَّ
↑صفحة ٣٤٢↑
تراث أهل البيت يضمُّ روايات ظاهريَّة صريحة لا تقول بنظريَّة النصِّ والعصمة والوراثة وتلتزم بالشورى...)، فأنا هنا أطلب منك يا أحمد الكاتب أنْ تأتي بهذه الروايات - من تراث أهل البيت - التي تدَّعي أنَّها تلتزم الشورى، شريطة أنْ تكون هذه الروايات صحيحة من حيث سندها وواضحة الدلالة في ذلك يُصرِّح فيها إمام من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) من الإمام عليٍّ (عليه السلام) وإلى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بأنَّ إدارة شؤون وأُمور الأُمَّة وقيادتها من بعد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنَّما هو شورى بين المسلمين، ثمّ تُخبرنا ما نسبة هذه الروايات نسبة إلى الروايات الواردة عن هؤلاء والتي تقول بالنصِّ، ونسبتها إلى الروايات الدالَّة على عصمة وليِّ الأمر وإمام الأُمَّة وقائدها؟
فكلامك هذا لا بدَّ من أنْ تُسنِده إلى دليل صحيح معتبر، فالقارئ الكريم - وخصوصاً في عصرنا هذا - ليس ساذجاً حتَّى يُسلِّم بكلِّ قول يقال ومدَّعًي يُدَّعى، بل لا بدَّ من أنْ يطالب قائله ومدَّعيه بالدليل الصحيح الصريح عليه، ونحن هنا نطالبك بذلك، فهل تتفضَّل وتتكرَّم علينا بذكره وتجيب على أسئلتنا المذكورة أعلاه؟
* * *
لا تواتر ولا إجماع على مهدويَّة الإمام الثاني عشر:
حُرِّر بتاريخ (٢٣/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠١:٠٤) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
ذكر بعض الإخوة المتحاورين وجود تواتر أو إجماع شيعي على مهدويَّة الإمام الثاني عشر والروايات الواردة حوله.
وعندما نقرأ التاريخ الشيعي نجد أنْ لا تواتر ولا إجماع على مهدويَّة الإمام الثاني عشر.
↑صفحة ٣٤٣↑
وممَّا يُؤكِّد غموض هويَّة المهدي عند أهل البيت، ولدى جماهير الشيعة والمسلمين في القرون الثلاثة الأُولى، هو تكرُّر دعوات المهدويَّة هنا وهناك.. حتَّى جاوزت العشرات، وحتَّى أصبح لكلِّ فرقة وطائفة أكثر من مهدي واحد. حيث تدلُّنا هذه الظاهرة على تماهي مصطلح (الإمام المهدي) مع معنى الثورة والحرّيَّة والعدالة وانبثاقه كردِّ فعل على الواقع الفاسد الذي كان يتدهور إليه المجتمع الإسلامي مرَّةً بعد أُخرى.
لقد كانت معظم قَصص المهدويَّة في القرون الإسلاميَّة الأُولى، مرتبطة ومنبثقة من حركات سياسيَّة ثوريَّة تتصدَّى لرفع الظلم والاضطهاد وتلتفُّ حول زعيم من الزعماء، وعادةً ما يكون إماماً من أهل البيت (عليهم السلام)، وعندما تفشل الحركة ويموت الإمام دون أنْ يظهر، أو يُقتَل في المعركة، أو يختفي في ظروف غامضة.. كان أصحابه يختلفون، فمنهم من يُسلِّم بالأمر الواقع ويذهب للبحث عن إمام جديد ومناسبة جديدة للثورة. ومنهم من كان يرفض التسليم بالأمر الواقع فيرفض الاعتراف بالهزيمة ويسارع لتصديق الإشاعات التي تتحدَّث عن هروب الإمام الثائر واختفائه وغيبته. وعادةً ما يكون هؤلاء من بسطاء الناس الذين يُعلِّقون آمالاً كبيرة على شخص، أو يُضخِّمون مواصفات ذلك الزعيم فيصعب عليهم التراجع، لأنَّه كان يعني لديهم الانهيار والانسحاق النفسي.
مهدويَّة الإمام عليٍّ:
كان شيعة الإمام عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) الذين ثاروا على الحكم الأُموي وقاتلوا في معركة الجمل وحاربوا معاوية في صفِّين، واشتبكوا مع الخوارج في النهروان يأملون أنْ يستمرَّ حكم الإمام العادل إلى فترة أطول ينعمون خلالها بالعدل والمساواة. وكان أملهم في الإمام كبيراً. ولذلك فإنَّ البعض منهم صُدِمَ بخبر اغتياله ولم يكد يُصدِّق نبأ وفاة الإمام.
↑صفحة ٣٤٤↑
يقول مؤرِّخو الشيعة كالنوبختي والأشعري القمِّي والكشِّي: إنَّ جماعة من الشيعة رفضوا التصديق بوفاة الإمام، وقالوا: إنَّ عليًّا لم يُقتَل ولم يمت ولا يُقتَل ولا يموت حتَّى يسوق العرب بعصاه ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً.
يمكن أنْ نُفسِّر هذا القول بمهدويَّة الإمام علي وغيبته: بالصدمة والمفاجأة والأمل الكبير. حيث لم يحتمل أُولئك النفر الذين كانوا بعيدين عن الكوفة خبر استشهاد الإمام، بعد أنْ كانوا يأملون أنْ يُحقِّق الإمام العدالة الكونيَّة على الأرض، فأدَّى بهم ذلك إلى تصوُّرات بعيدة عن الواقع.
مهدويَّة ابن الحنفيَّة:
وبعد مجزرة كربلاء تجمَّع الغضب الشيعي حول قيادة محمّد بن الحنفيَّة أخي الإمام الحسين، من أجل الثأر والانتقام لشهداء كربلاء. وعندما تُوفِّي محمّد في ظروف غامضة عام (٨١هـ) قالت جماعة من أنصاره (الكيسانيَّة): إنَّه لم يمت، وإنَّه مقيم بجبال رضوى بين مكَّة والمدينة، واعتقدوا أنَّه (الإمام المهدي المنتظر) الذي بشَّر به النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
ويُفسِّر السيِّد المرتضى علم الهدى دعوى الكيسانيَّة بمهدويَّة ابن الحنفيَّة بالحيرة التي ألجأتهم إلى القول بها.
وربَّما كانت الحيرة قد أصابتهم نتيجة عقدهم الأمل على ابن الحنفيَّة لكي يسترجع السلطة من أيدي الأُمويِّين، وقد أُصيبوا بالخيبة بعد موته قبل تحقيق الهدف المنشود، فاضطرَّ أتباعه من الشيعة الكيسانيَّة إلى اختراع القول بمهديَّته واستمرار حياته وغيبته في محاولة منهم للمحافظة على الأمل متَّقداً في صدورهم، خاصَّة وأنَّ الشيعة يومذاك لم يكونوا يعرفون شخصيَّة معيَّنة محدَّدة من قبل على أنَّها (المهدي المنتظر).
↑صفحة ٣٤٥↑
مهدويَّة أبي هاشم:
وقد تراجع هذا القول بمهدويَّة ابن الحنفيَّة عندما برز أبو هاشم عبد الله ابن محمّد بن الحنفيَّة، كقائد جديد للشيعة في نهاية القرن الأوَّل الهجري، وتعلَّق الأمل الكبير به لتحقيق ما عجز أبوه عن تحقيقه. وتكرَّرت الأزمة من جديد عندما تُوفِّي أبو هاشم دون أنْ يظهر. وهذا ما أدَّى إلى اعتقاد قسم من شيعته باختبائه وغيبته والقول: إنَّه (المهدي المنتظر)، وإنَّه حيٌّ لم يمت.
أمَّا الذين اعترفوا بوفاة أبي هاشم فقد حافظوا على الأمل في نفوسهم أيضاً، وذلك بانتظار قيام أحد أبناء محمّد بن الحنفيَّة في المستقبل، ولم يُحدِّدوا شخصاً معيَّناً.
مهدويَّة الطيَّار:
سرعان ما التفَّ الشيعة الذين كانوا يُشكِّلون المعارضة الرئيسيَّة للحكم الأُموي حول قائد جديد من أبناء أهل البيت هو عبد الله بن معاوية بن عبد الله ابن جعفر الطيَّار، الذي نجح في إقامة دولة شيعيَّة في أصفهان في أواخر العهد الأُموي، ولكنَّه انهزم بعد ذلك وقُتِلَ في ظروف غامضة. ولم يتحمَّل بعض الشيعة نبأ انهيار الدولة الشيعيَّة، فقالوا: إنَّ الطيَّار حيٌّ لم يمت، وإنَّه مقيم في جبال أصفهان لا يموت أبداً حتَّى يقود نواصيها إلى رجل من بني هاشم من ولد عليٍّ وفاطمة.
انحصار المهدويَّة في البيت الفاطمي:
لم تكن النظريَّة المهدويَّة عند الشيعة قبل هذه الحركة محصورة في البيت الفاطمي، حيث كان (الكيسانيَّة) - الذين يُمثِّلون مرحلة تاريخيَّة من تطوُّر الشيعة - يحصرونها في البيت العلوي ويجيزونها في محمّد بن الحنفيَّة وأولاده، أو
↑صفحة ٣٤٦↑
يحصرونها فيهم، ثمّ امتدَّت إلى خارج البيت العلوي، إلى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر الطيَّار، ثمّ تطوَّرت لتنحصر في البيت الفاطمي من أبناء الحسن والحسين. ولم تكن محصورة في ذلك الوقت في أيِّ واحدٍ من البيتين. لذلك اعتقد قسم من الشيعة بمهدويَّة زيد بن عليٍّ، كما اعتقد قسم آخر بمهدويَّة محمّد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن (ذي النفس الزكيَّة)، وإذا كان زيد قد قُتِلَ بسرعة، فإنَّ أتباعه انظمُّوا إلى النفس الزكيَّة. وكان عبد الله بن الحسن أبوه قد سمَّى ابنه (محمّداً)، وتنبَّأ عند ولادته بأنْ يكون (المهدي الموعود) الذي بشَّر به النبيُّ، وقال عنه إنَّ: (اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي) حسبما كان مشهوراً في تلك الفترة.
مهدويَّة ذي النفس الزكيَّة:
كان (النفس الزكيَّة) يأمل أنْ يثور ضدَّ الحكم الأُموي حيث بايعه في الأبواء بنو هاشم، وكان فيهم إبراهيم الإمام والسفَّاح والمنصور، ولكن سرعان ما قامت الدولة العبَّاسيَّة فانتقض عليه من بايعه والتفَّ حوله قسم من الشيعة فخرج في المدينة سنة (١٤٥هـ) وسيطر على مكَّة واليمن، وقُتِلَ بعد شهور. وهنا أُصيب قسم من شيعته بالصدمة ولم يتحمَّلوا نبأ الهزيمة ولم يُصدِّقوا بمقتل (المهدي) الذي كانوا ينتظرون خروجه منذ فترة طويلة، فقالوا: إنَّه حيٌّ لم يمت ولم يُقتَل، وإنَّه مقيم بجبل العلمية - بين مكَّة ونجد - حتَّى يخرج. وتشبَّثوا بالحديث النبوي الذي يقول: «القائم اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي».
ولـمَّا لم تكن هناك أحاديث صريحة ومحدِّدة ومعروفة تُوضِّح هويَّة المهدي، فقد طبَّق أتباع النفس الزكيَّة أحاديث المهدويَّة عليه، وتأوَّلوا الأحاديث الواردة به، وربَّما اختلقوا بعض الروايات أو نسبوها إلى النبيِّ لتعزيز نظريَّتهم وتأييد زعيمهم المنتظر.
↑صفحة ٣٤٧↑
مهدويَّة الباقر:
وتقول بعض الروايات: إنَّ قسماً من الشيعة اعتقد بمهدويَّة الإمام محمّد ابن عليٍّ الباقر (عليه السلام) اعتماداً على رواية تقول: إنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال لجابر بن عبد الله الأنصاري: «إنَّك تلقاه فاقرأه منِّي السلام».
ويقول الكليني في (الكافي): إنَّ الإمام الباقر كان يسرُّ إلى أصحابه بقرب القيام والخروج ويوصيهم بالكتمان، وإنَّ بعضهم قد ترك أعماله انتظاراً لساعة الصفر.
مهدويَّة الصادق:
وبعد وفاة الإمام الباقر وهزيمة محمّد بن عبد الله ذي النفس الزكيَّة وانتصار العبَّاسيِّين، وتألُّق الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام)، شاعت روايات كثيرة حول مهدويَّته، وينقل النوبختي: إنَّ بعض الشيعة روى عن الإمام الصادق أنَّه قال: «إنْ رأيتم رأسي قد أهوى عليكم من جبل فلا تُصدِّقوه، فإنِّي أنا صاحبكم»، وإنَّه قال: «إنْ جاءكم من يُخبركم عنِّي أنَّه مرَّضني وغسَّلني وكفَّنني فلا تُصدِّقوه فإنِّي أنا صاحبكم صاحب السيف».
من هنا رفض قسم من شيعة الإمام الصادق الاعتراف بموته وقالوا: (إنَّه المهدي المنتظر، وإنَّه حيٌّ لم يمت)، وعُرِفَت هذه الفرقة بـ (الناووسيَّة) نسبة إلى عجلان بن ناووس، وكان منهم أبان بن عثمان الأحمر الذي يعدُّه الكشِّي من (أصحاب الإجماع) أي من أقرب المقرَّبين إلى الإمام الصادق.
مهدويَّة إسماعيل:
من هذا يبدو أنَّ النظريَّات المهدويَّة المختلفة كانت تُولَد مع الزمن وفي الظروف المختلفة. وكانت أقرب إلى الأمل منها والرجاء إلى الاستناد إلى
↑صفحة ٣٤٨↑
أحاديث قاطعة وصريحة، وكان القول بـ (الغيبة) يبرز عند وفاة الإمام المنتظر دون أنْ يظهر. ولم يكن الشيعة يجمعون دائماً وأبداً ومنذ البداية على مهدويَّة إمام معيَّن من قبل. ففي الوقت الذي كان بعضهم يؤمن بمهدويَّة الإمام الصادق كان البعض الآخر يذهب ليُعلِّق الأمل على مهدويَّة ابنه إسماعيل، وعندما تُوفِّي إسماعيل في حياة أبيه الإمام الصادق رفض أصحابه التسليم بوفاته واخترعوا القول بغيبته وفسَّروا تشييع الإمام له ودفنه أمام أعين الناس بأنَّه مسرحيَّة تستهدف التغطية على هروب إسماعيل واختفائه والإعداد لظهوره في المستقبل!
ومن المعروف أنَّ الشيعة اختلفوا بعد وفاة الإمام الصادق إلى ستِّ فِرَق، فذهب الإسماعيليَّة إلى القول بحياة إسماعيل وإمامته ومهدويَّته وغيبته، ثمّ قال فريق منهم بعد أنْ يئسوا منه بمهدويَّة ابنه محمّد، ثمّ نقلوا المهدويَّة في أبناء إسماعيل إلى أنْ ظهر واحد منهم في نهاية القرن الثالث وأقام الدولة الفاطميَّة في شمال أفريقيا.
مهدويَّة الديباج:
وادَّعى محمّد بن جعفر الصادق (الديباج) الذي خرج في مكَّة عام (٢٠٠هـ) أنَّه المهدي المنتظر، وأعلن نفسه خليفة للمسلمين، وأخذ البيعة، وتسمَّى بأمير المؤمنين.
إذن، نستطيع أنْ نقول: إنَّ النظريَّة المهدويَّة كانت تعني الثورة والقيام والخروج ولم تكن محدَّدة في شخص معيَّن. وإنَّ نظريَّة الغيبة كانت تبرز عندما يفشل أيُّ إمام منتظر أو يموت دون تحقيق أهدافه.
مهدويَّة محمّد بن عبد الله الأفطح:
الحالة الاستثنائيَّة الوحيدة التي نجدها خلاف تلك القاعدة في ذلك
↑صفحة ٣٤٩↑
الوقت هي نظريَّة: (مهدويَّة محمّد بن عبد الله بن جعفر الصادق). وهذا الشخص لم يُولَد أساساً، ولم يكن له وجود، وقد اختلق بعض الشيعة الفطحيَّة قصَّة وجوده في السرِّ بعد وفاة أبيه عبد الله الأفطح الذي آمن أُولئك الشيعة أنَّه الإمام بعد أبيه الصادق، أُصيبوا بأزمة عندما تُوفِّي الأفطح دون عقب يرثه في الإمامة، وكانوا يعتقدون بضرورة استمرار الإمامة في الأعقاب وأعقاب الأعقاب، أي بتوارثها بصورة عموديَّة، ولذا لم يستطيعوا بسبب هذه الأزمة الفكريَّة أنْ ينتقلوا إلى القول بإمامة أخي عبد الله: موسى بن جعفر، فاخترعوا قصَّة وجود ولد له في السرِّ! وقالوا: إنَّ اسمه يطابق الحديث النبوي المشهور: «اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي».
ولا يُستَبعد أنْ يكون بعض المصلحيِّين والمنافقين من أصحاب الأئمَّة قد اخترع هذه القصَّة الوهميَّة (أُسطورة المهدي المنتظر محمّد بن عبد الله بن الصادق)، لكي يتاجر بها ويدَّعي الوكالة له ويقبض الأموال باسمه، حيث كان يُروِّج الإشاعات عن وجود ذلك المهدي الموهوم في اليمن، وأنَّه سوف يظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أنْ تملأ ظلماً وجوراً.
مهدويَّة الكاظم:
ومع انقلاب الدولة العبَّاسيَّة على أهدافها الإصلاحيَّة وانتشار الظلم والفساد كان من الطبيعي أنْ يلتفَّ المعارضون لها حول شخصيَّة عظيمة من زعماء أهل البيت هو الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) الذي كان رمز التقوى والعلم والعبادة. وأنْ يعظم الأمل بخروجه وقيامه. وهكذا فقد انتشرت روايات جدًّا حول مهدويَّة الإمام الكاظم وأنَّه (قائم آل محمّد). وراح البعض من الشيعة ينقل روايات عن الصادق: «إنَّ من المحتوم أنَّ النبيَّ هذا قائم هذه الأُمَّة وصاحب السيف»، و«إنَّ موسى هو القائم وهذا حتم من الله»، و«إنْ
↑صفحة ٣٥٠↑
يدهد رأسه عليكم من جبل فلا تُصدِّقوا فإنَّه القائم»، و«إنَّ القائم اسمه حديدة الحلَّاق»، و«كأنِّي بالراية السوداء صاحبة الرقعة الخضراء تخفق فوق رأس هذا الجالس»، وما إلى ذلك من الروايات التي فاقت حدَّ (التواتر)!
وعندما اعتقل الرشيد الإمام الكاظم احتسب معظم الشيعة الموسويَّة ذلك غيبة أُولى أو صغرى، ولـمَّا قتله ورمى بجسده الطاهر على الجسر ببغداد رفضوا التصديق بذلك وقالوا: إنَّها مسرحيَّة عبَّاسيَّة، وقالوا: إنَّ الإمام الكاظم قد غاب غيبته الثانية وهرب من السجن، وإنَّه حيٌّ لم يمت ولا يموت حتَّى يملك شرق الأرض وغربها ويملأها كلَّها عدلاً كما مُلِئَت جوراً، وإنَّه القائم المهدي.
وقد قال معظم أولاد الإمام بذلك، وكذلك معظم أصحابه المقرَّبين كالمفضَّل بن عمر وداود الرقِّي وضريس الكناني وأبو بصير وأعين بن عبد الرحمن بن أعين وحديد الساباطي والحسن بن قياما الصيرفي، وكتب عليُّ بن أبي حمزة كتاباً حول (الغيبة)، كما كتب عليُّ بن عمر الأعرج كتاباً حول ذلك أيضاً.
وقد عُرِفَ أُولئك الشيعة بالواقفيَّة، أي الذين وقفوا على الإمام الكاظم ورفضوا الإيمان بابنه عليِّ بن موسى الرضا. وتردَّد داود الرقِّي في الاعتراف بإمامة الرضا بناءً على تلك الروايات (المتواترة) التي تُحدِّد المهدويَّة بالكاظم وتقول: «إنَّ سابعنا قائمنا»، فقال له الإمام الرضا: إنَّ الأمل بقيام الكاظم كان معلَّقاً على مشيئة الله ولم يكن من المحتوم.
وظلَّ الواقفيَّة يؤمنون بمهدويَّة وغيبة الإمام الكاظم إلى وقت طويل. ولكنَّهم تقلَّصوا شيئاً فشيئاً حتَّى ماتت النظريَّة وانقرضوا، خاصَّةً عندما أكَّد الإمام الرضا وفاة أبيه وقال لهم: «إنَّ الحجَّة لله على خلقه لا تقوم إلَّا بإمام حيّ يُعرَف. سبحان الله! مات رسول الله ولم يمت موسى بن جعفر؟! بلى والله لقد
↑صفحة ٣٥١↑
مات وقُسِّمت أمواله ونُكِحَت جواريه»، واتَّهم من قال بعدم وفاته بالكذب وقال: «إنَّهم كُفَّار بما أنزل الله (عزَّ وجلَّ) على محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولو كان الله يمدُّ في أجل أحد من بني آدم لحاجة الخلق إليه لمدَّ الله في أجل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)».
مهدويَّة محمّد بن القاسم:
وفي مطلع القرن الثالث الهجري في سنة (٢١٩هـ) وفي أيَّام خلافة المعتصم، حدثت ثورة علويَّة في الطالقان بقيادة محمّد بن القاسم، ولكن المعتصم هزمه واعتقله وحمله إلى بغداد فحبسه في قصره، ولكن الثائر العلوي استطاع الهرب. واختلف الناس في أمره، وقال بعضهم: مات أو هرب، وقال بعض الشيعة: إنَّه حيٌّ، وإنَّه سيخرج، وإنَّه مهدي هذه الأُمَّة.
مهدويَّة يحيى بن عمر:
وخرج إمام علوي آخر هو يحيى بن عمر، في الكوفة أيَّام المستعين، فوجَّه إليه الحسين بن إسماعيل فقتله، إلَّا أنَّ بعض أصحابه رفض الاعتراف بالهزيمة وقال: إنَّه لم يُقتَل وإنَّما اختفى وغاب، وإنَّه المهدي القائم وسوف يخرج مرَّة أُخرى.
مهدويَّة محمّد بن عليٍّ الهادي والعسكري:
واختلف الشيعة الإماميَّة في منتصف القرن الثالث الهجري في هويَّة الإمام المهدي المنتظر، فقال قسم منهم بأنَّه محمّد بن عليٍّ الهادي، الذي تُوفِّي فجأةً في الدجيل، وقالوا بغيبته كغيبة إسماعيل بن جعفر، ورفضوا التصديق بوفاته. وذهب قسم آخر إلى القول بمهدويَّة الإمام الحسن العسكري، بينما قال قسم ثالث بوجود ومهدويَّة ولد له في السرِّ هو الإمام (محمّد بن الحسن العسكري). وقال آخرون: إنَّه غير محدَّد، وإنَّه سوف يكون واحداً من أهل البيت لا على التعيين، وإنَّه سوف يُولَد ويظهر في المستقبل.
↑صفحة ٣٥٢↑
مهدويَّة القائم المجهول:
وأخيراً يذكر المؤرِّخان الشيعيَّان المعاصران لوفاة الإمام العسكري: إنَّ فرقة من أتباع الإمام قالت: إنَّ الحسن بن عليٍّ قد مات وصحَّ موته، وانقطعت الإمامة إلى وقت يبعث الله فيه قائماً من آل محمّد ممَّن قد مضى، إنْ شاء بعث الحسن بن عليٍّ وإنْ شاء بعث غيره من آبائه. ولا بدَّ من ذلك، لأنَّ قيام القائم وخروج المهدي حتم من الله، وبذلك وردت الأخبار وصحَّت الآثار وأجمعت عليه الأُمَّة فلا يجوز بطلان ذلك، ولأنَّ وفاة الحسن بن عليٍّ قد صحَّت وصحَّ أنَّه لا خلف له، فقد انقطعت الإمامة ولا عقب له، وإذ لا يجوز إلَّا أنْ يكون في الأعقاب، ولا يجوز أنْ ينصرف إلى عمٍّ ولا ابن عمٍّ ولا أخ بعد الحسن والحسين، فهي (الإمامة) منقطعة إلى القائم منهم، فإذا ظهر وقام اتَّصلت إلى قيام الساعة.
كلُّ ذلك التعدُّد والتنوُّع في الحركات المهدويَّة يُعبِّر عن غموض مفهوم (الإمام المهدي) واحتمال كونه أيّ واحد من أئمَّة أهل البيت، وهو من يقوم بالسيف ويخرج ويقيم دولة الحقِّ. وقد كانت كلُّ فرقة شيعيَّة تعتقد أنَّه من هذا البيت الهاشمي أو ذلك البيت العلوي أو الفاطمي أو الحسني أو الحسيني أو الموسوي. وأنَّه هذا أو ذاك. ولو كانت هويَّة المهدي قد حُدِّدت من قبل، منذ زمان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو الأئمَّة الأحد عشر السابقين لما اختلف المسلمون ولا الشيعة ولا الإماميَّة ولا شيعة الإمام الحسن العسكري في تحديد هويَّة المهدي، ولما اعتقد بعضهم بكونه (الإمام الحسن العسكري) نفسه.
نستنتج من كلِّ ذلك: أنَّ هويَّة المهدي كانت غامضة وغير محدَّدة في حياة أهل البيت، وأنَّ القول بأنَّه (ابن الحسن العسكري) نشأ بعد افتراض وجوده في السرِّ، وفي محاولة لتفسير (غيبته) عن الأنظار وعدم إعلان أبيه عن ولادته، باعتبار (الغيبة) صفة من صفات (المهدي).
* * *
↑صفحة ٣٥٣↑
حُرِّر بتاريخ (٢٣/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٥:١٠) مساءً.
محمّد منصور عضو:
الردُّ على عدم تواتر روايات أنَّ المهدي هو ابن الحسن العسكري:
١ - تكرُّر دعوات المهدويَّة هي بنفسها دليل على أنَّ عقيدة المهدي المصلح هي عقيدة تلقَّاها المسلمون من النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأخبر عنه متواتراً كما هو الحال كذلك.
٢ - وليس من الصدفة والاتِّفاق العفوي التوسُّل في كثير من الثورات باسم المهدي بمجرَّد تصوير أنَّها فكرة اختلقها الثوَّار، بل المفروض أنَّ العقيدة بالمهدي كانت عقيدة متجذِّرة بين المسلمين حاولت الثورات الاستمداد من تلك العقيدة.
والصدمة والمفاجأة التي تنتاب الثوَّار بتوسُّلهم بعقيدة المهدي تدلُّ على وجود مسبق لتلك العقيدة لا وجود مخترع جديد أحدثوه، إذ الروايات النبويَّة المبشِّرة بالمهدي عن النبيِّ موجودة في مصادر المسلمين الروائيَّة إلَّا على مسلك العلماني الرافض لتراث السُّنَّة النبويَّة برمَّته.
وفي خطبة الإمام السجَّاد (عليه السلام) في مسجد الأُمويِّين في الشام قال فيها: «منَّا الطيَّار... والمهدي».
نعم لا بدَّ أنْ يتأكَّد الكاتب من ذهاب السجَّاد إلى مسجد الشام، فلعلَّه لم يُؤسَر ويُذهَب به إلى شام.
ثمّ إنَّ إصرار كافَّة طبقات المسلمين والثورات المتلاحقة على التشبُّث بعقيدة المهدي هي أوَّل دليل على بداهة تلك العقيدة بين المسلمين وضرورتها، وأنَّ الاسم الشريف مقترن في أذهانهم بمعنى المصلح والمنقذ الموعود بالظفر والنصر على لسان النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
↑صفحة ٣٥٤↑
كما أنَّ اتِّفاق الثورات المتكرِّرة على دعوى غياب قائدهم وأنَّه يرجع، دالٌّ هو الآخر على بداهة واقتران اسم المهدي بالغيبة التي أنبأ بها النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن المهدي. وكذلك اتِّفاق الطبقات في القرون في الثورات المختلفة وغيرها على جملة: «يظهر فيملأها قسطاً وعدلاً» دالٌّ هو الآخر على تواتر وضرورة هذا الخبر عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كبشارة للمسلمين.
ومن ثَمَّ كانت عقيدة المهدي من ذرّيَّة الرسول وغيبته عقيدة تلقَّاها المسلمون جيلاً بعد جيل عن نبيِّهم وأخذوا يعقدون الآمال عليها، ممَّا ورَّث حالة الاستنفار القصوى لدى الدولة الأُمويَّة والعبَّاسيَّة كما في عهد العسكريَّين.
والغريب أنَّ الكاتب يعترف أنَّ عقيدة المهدي والأحاديث فيه طبَّقها عدَّة من الثوَّار في ثوراتهم على قائدهم كما في أتباع النفس الزكيَّة.
وهذا العدد الكبير الذي يعترف به الكاتب من دعوات المهدويَّة لهي أدلّ على أنَّ عقيدة المهدي وكونه مصلحاً يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ضرورة عند المسلمين يستند إليها كلُّ الثوَّار في ثوراتهم، للتدليل على مشروعيَّة حركاتهم تلك.
فكلُّ ذلك التعدُّد والتنوُّع في الحركات المهدويَّة يدلُّ على مسلَّميَّة البشارة بالمهدي وغيبته لدى المسلمين، وأنَّ الثورات المختلفة أو الفِرَق المنقرضة السابقة كانت تتذرَّع بتلك العقيدة الضروريَّة لتبرير مشروعيَّتها، وقد ذكر ذلك أكثر من تناول موضوع الثورات في التاريخ الإسلامي.
نعم روايات النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حول المهدي التي تملأ كُتُب عامَّة أهل السُّنَّة متواترة عندهم باللفظ فضلاً عن المعنى مثل لفظ: ذرّيَّتي، يواطئ اسمه اسمي وكنيته كنيتي وخلقه خلقي، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ونحو ذلك، فضلاً عن تواتر ذلك عند الإماميَّة، وأنَّه ابن الحسن العسكري كما ذكرت ذلك في الردِّ على نقاش الكاتب في مقالة الشيخ الآصفي، والردِّ على النقاش التاريخي.
↑صفحة ٣٥٥↑
وأُكرِّر لك ما كتبته عن التواتر في موضوع الشورى:
فاعلم أنَّ التواتر ينقسم إلى تواتر لفظي ومعنوي وإجمالي، ويُقسَّم تارةً أُخرى بلحاظ سعة وضيق دائرة التواتر، وقد شرحت لك تقسيمات التواتر في مقالة سابقة، وأُعيد ذلك للتكرار لعلَّك تذَّكَّر أو تنفعك الذكرى - وإنِّي أشعر أنَّ كثيراً ممَّا أنت مقيم عليه نتيجة الغفلة عن قواعد العلوم الدِّينيَّة -، فالتواتر تارةً بدائرة وسيعة كما في تواتر الخبر بوقوع الحرب العالميَّة الأُولى والثانية، وثانية بدائرة أضيق كتواتر الخبر بواقعة الطفِّ وكربلاء، وثالثة بدائرة أضيق كتواتر قواعد علوم اللغة العربيَّة من مفردات اللغة والنحو والصرف والاشتقاق والبلاغة وغيرها، فإنَّ أبناء اللغة العربيَّة ليس كلُّهم مطَّلعين على تمام خصائص اللغة العربيَّة، بل الحامل لتواتر تلك الخصائص هم علماء الأدب العربي وثُلَّة بدائرة ضيِّقة، لكن ضيق هذه الدائرة لا يمنع تحقُّق ضابطة التواتر الرياضيَّة والعقليَّة، وهي تصاعد حساب الاحتمال من الجهة الكيفيَّة والكمّيَّة، كما هو الحال في اختلاف وتعداد درجات اليقين في نفس الوقت الذي يصدق اليقين على كافَّة درجاته، ولا يُستَغرب ولا يُتوهَّم التنافي بين تواتر اللغة العربيَّة بعلومها وبين جهل أكثر أبناء اللغة العربيَّة في كلِّ قرن قرن بكثير من خصائص علوم اللغة، بل إنَّ الطفل من أبناء اللغة في بداية نشوئه لا يعلم من اللغة إلَّا شيئاً يسيراً، ثمّ يأخذ في التعرُّف عليها بشكل تدريجي أوسع ممَّا سبق، لكنَّه يبقى لا يحيط بتمام خصائص اللغة وعلومها حتَّى يتخصَّص في علوم اللغة العربيَّة وإلَّا فسوف لن يرتفع إلى سقف التواتر المنقول عند أهل الاختصاص، وكلُّ واحد من أبناء اللغة العربيَّة هذا شأنه، فترى هناك اختلافاً في اطِّلاعهم على مفردات اللغة وقواعدها بحسب اتِّصالهم بدائرة التواتر المنقول عند علماء اللغة، لكن كلّ ذلك لا ينافي حصول التواتر ولو بأدنى درجاته.
↑صفحة ٣٥٦↑
إذا عقلت ما ذكرت لك من بيان اختلاف دوائر التواتر وأنَّ ضابطتُه حصول تصاعد حساب الاحتمال العامل الكيفي والعامل الكمِّي لصدور الخبر، وفهمت المثال، يسهل عليك فهم الأخبار المتواترة عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو عن الأئمَّة السابقين (عليهم السلام) من أنَّ الحامل لتواتر الخبر ثلَّة بعد ثلَّة من الرواة في الطبقات من دون لزوم اطِّلاع كافَّة الأُمَّة أو كافَّة الطائفة أو كافَّة الرواة، ولكن ذلك لا ينافي حصول دائرة وضابطة التواتر بعد تحقُّقها، نعم غاية ما يدلُّ عدم اطِّلاع الكثير من الرواة عليه هو أنَّ هذا التواتر ليس بدائرة وسيعة جدًّا، بل هو بدائرة متوسِّطة أو مضيَّقة لا ينافي ضيقها حصول أدنى درجات التواتر بضابطته الرياضيَّة. بل إنَّ في عدَّة من أقسام التواتر هو سلاسل آحاد متفرِّقة لم يطَّلع بعضها على بعض أصلاً كما لم يطَّلع عليها الكثير من الرواة المعاصرين لطبقات تلك السلاسل، ولكن كمّيَّة تلك السلاسل الروائيَّة والعوامل الكيفيَّة المصعدة لاحتمال الصدور توجبان حصول ضابطة التواتر، ومن الغفلة والجهالة بمكان حسبان أنَّ طبيعة التواتر هي من قسم واحد أو دائرة واحدة.
وأمَّا تواتر روايات أنَّ المهدي هو ابن الحسن العسكري فقد ذكرت لك نموذجاً من المصادر بفهرسة ببليوغرافيَّة في الردِّ على نقاشك لمقالة الشيخ الآصفي من كُتُب الصدوق ومنهجه في إثبات ذلك الردِّ وعدد الروايات التي ذكرها، وكذلك النعماني والطوسي والكليني والمفيد في الإرشاد وغيرهم في كُتُب أُخرى تربو على المئات. نعم أنت تطعن في وثاقة كُتُب الإماميَّة ورواتها بالاختلاق، وأنَّهم وضَّاعون، واستدلالك على ذلك هو طعنك في عقيدة الإماميَّة الإلهيَّة، فأنت تقحم وتستعين بالبحث الكلامي أو النقلي في الخدشة في الدليل التاريخي أو النقلي على التقريبين في صياغة الاستدلال بتلك الروايات، بل إنَّك تخدش في قائمة علماء العامَّة التي تربو على (٣٨) الذين ذكروا ولادته وأنَّه
↑صفحة ٣٥٧↑
ابن الحسن العسكري وأنَّ ولادته كانت خفيَّة تحت وطأة الإرهاب العبَّاسي، لكنَّك تتردَّد في اليد البيضاء لبني العبَّاس.
وأمَّا كلام السيِّد المرتضى فقد تبيَّن لك بحسب ما جاء في كلامك الفرق بين وجود الشخص وكونه إماماً بعهد الله تعالى كما في إبراهيم (عليه السلام) والذي يتوقَّف على الإيمان بعقيدة الإمامة هو إمامة الشخص المستتر المهدي بن الحسن العسكري(عليه السلام)، وأمَّا أصل ولادته فيكفي في ذلك الروايات المتواترة المودعة في كُتُب الإماميَّة وكُتُب العامَّة الذين أشرت إلى قائمة أسمائهم ممَّن قرب عهده إلى عصر ولادته.
وها أنت تعاود تسمية الدليل الواحد أنَّه اعتباري وعقلي، وأُنبِّهك مرَّة بعد أُخرى أنَّ الدليل الاعتباري يُستخدم في العلوم الاعتباريَّة كعلم القانون والفقه والنحو والصرف ونحوها من العلوم، وأمَّا الدليل العقلي فيُستخدم في العلوم الحقيقيَّة والضابطة حجّيَّته برهانيَّته، وقد نبَّهتك من قبل أنَّ أدلَّة الإماميَّة على كبرى الإمامة بعضها عقلي محض، وبعضها نقلي محض، وبعضها مركَّب منهما، وكذلك الصغرى، وقد ذكر علماء الإماميَّة ما يربو على عشرة مناهج لإثبات إمامة العترة من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومع كلِّ ذلك أنت مقيم على دعواك من عدم الدليل التاريخي، ولعلَّك غافل عن معنى الدليل التاريخي، وكيف لا وأنت تدَّعي أنَّ الإمام الهادي والعسكري وجودهما في سامرَّاء لم يكن بضغط وإجبار السلطة العبَّاسيَّة؟ وأنت تتردَّد أمام كلِّ التاريخ في إرهاب الدولة العبَّاسيَّة المتَّخذ تجاه الإمامين العسكريَّين، وربَّما تتردَّد في كون القبرين في سامرَّاء هما للعسكريَّين أم لا، وأنَّ سامرَّا عاصمة الدولة العبَّاسيَّة آنذاك أم لا، وأنَّ الإقامة الجبريَّة تحت وطأة السلطة كانت أم لا، ولا أدري أيّ مصدر تاريخي تريد اتِّخاذه.
ثمّ كيف تطالب بالبحث عن وجود المهدي (عجَّل الله فرجه) بن الحسن العسكري أوَّلاً ثمّ تبحث عن إمامته وأنت لا تذعن ولا تؤمن بإمامة عليِّ بن أبي طالب
↑صفحة ٣٥٨↑
والحسنين والذرّيَّة من عترة آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنت لا تؤمن بكبرى الإمامة؟ فهل وجدت في علم المنطق الأُرسطي أو الرياضي أو الوضعي أو النفسي أو غيرها أنَّ البحث عن النتيجة قبل الكبرى؟ وكيف لي بإفهامك بهذا الترتيب؟ هذا مع أنَّك ذكرت كرَّات في مقالاتك أنَّك لا تستوثق بأيِّ حديث يُروى من السُّنَّة أو من الشيعة، كما أنَّك ذكرت في كتابك حول المهدي أنَّك لا تحتجُّ بأحاديث أهل السُّنَّة في المهدي، فليس لك ضابطة في تصحيح واعتبار الأخبار تؤمن بها، إنَّما حسب دعواك تؤمن بفهمك للقرآن الكريم بمقدار لا يبتعد عن أصالة الحسِّ في المنهج الغربي العلماني الممزوج بالتحليل التخيُّلي.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٣/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٢:٢٥) صباحاً.
محمّد منصور عضو:
الأخ المشرف العامّ على شبكة هجر الثقافية الموقَّر..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الذي يظهر من مسار الحوارات التي جرت مع الكاتب أنَّ الحوار على أساس الروايات التاريخيَّة أو النقليَّة لا يمكن مواصلته، لأنَّه لا يُسلِّم بأيِّ حديث أو رواية، وبالتالي ليس حواره في خصوص ولادة الإمام الثاني عشر!
بل ينبغي الاقتصار على القرآن الكريم وما يُثبِته الكتاب من الإمامة الإلهيَّة أم سلطة الجماعة والأُمَّة (الشورى).
وذلك لأنَّه لا يُسلِّم بشيء يبتعد عن الفرضيَّة الحسّيَّة، وهذه محاور تسبق رتبةً على بحث الإمامة، فالمتعيَّن لكي لا يدور الحوار دوراناً عقيماً تكراريًّا أنْ ينتقل البحث إلى ما يُثبِته القرآن والنظرة الغيبيَّة في القرآن.
وتقبَّل دعائي، وشكراً.
* * *
↑صفحة ٣٥٩↑
حُرِّر بتاريخ (٢٣/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠١:٣١) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
الأخ الأُستاذ موسى العلي حفظه الله..
الأخ محمّد منصور..
الإخوة المتحاورون الكرام..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتقبَّل الله صيامكم وأعمالكم.
شكراً للفرصة التي أتحتموها لنا للحوار.
وإذا لم نكن قد وصلنا إلى نتيجة معيَّنة حاسمة فأعتقد أنَّنا قد أغنينا الحوار بدرجة لا بأس به، واستطاع كلُّ طرف أنْ يُعبِّر عن رأيه.
وليس المهمُّ بعد ذلك أنْ يتَّفق مع الآخرين.
المهمُّ أنْ يكون هذا الحوار منطلقاً للتفكير وإعادة النظر في قضيَّة تاريخيَّة مهمَّة كان لها أثرٌ كبيرٌ في التاريخ الإسلامي وفي تطوُّر الفكر السياسي والعقائدي الشيعي.
وقد بدأت الحوار بقولي: إنَّ الإيمان بوجود الإمام الثاني عشر فرضيَّة فلسفيَّة أكثر منه حقيقة تاريخيَّة، وإنَّه يصعب الاستدلال على وجوده بصورة علميَّة مستقلَّة إلَّا بعد الإيمان بنظريَّة الإمامة، وها هو الأخ الأُستاذ محمّد منصور يحاول أنْ ينقل الحوار إلى هذه المرحلة، ولكنِّي لا أعتقد بفائدة ذلك، وأرفض هذا الأُسلوب من الاستدلال من العامِّ إلى الخاصِّ ومن الكبرى إلى الصغرى، وأُطالب أوَّلاً ببحث الصغرى، فإذا ثبتت ننتقل إلى الكبرى، أي نُثبِت وجود الإمام محمّد بن الحسن العسكري ثمّ نتحدَّث عن الاثني عشريَّة والإمامة.
وفي الختام أشكر الأخ محمّد منصور على ما بذله من جهد وما تحمَّله من عناء، وجزاه الله خيراً.
* * *
↑صفحة ٣٦٠↑
حُرِّر بتاريخ (٢٣/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٤:٣٣) صباحاً.
محمّد منصور عضو:
إلى الأخ أحمد الكاتب..
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
الذي عرفته أُنبِّهك بنصيحة أخويَّة، وهي أنَّ المرور بهزَّات واصطدامات في الحياة أمر طبيعي، وما هو غير طبيعي وغير منطقي هو عدم التأمُّل في المنهج العلمي لتحري الحقيقة، ففي أيِّ منطق أُرسطي أو رياضي أو وضعي أو نفسي أو منطق اجتماعي أو غيرها من مدارس علم المنطق يُبحَث في النتيجة أو الصغرى مع عدم الإذعان المسبق بالكبرى؟ فإنَّ هذا السير من الفحص العقلي والفكري معكوس فطريًّا. وأيُّ غرض في الصغرى إنْ لم تكن الكبرى ثابته في رتبة سابقة؟ هذا مع أنَّ المهمَّ بعد وجودها هو العنوان المتَّصفة به، وهو ما يُعبَّر عنه في علم المنطق بالوسط، وهو بالتالي يؤول إلى الأكبر في القضيَّة الكبرويَّة.
ومع غضِّ النظر عن كلِّ ذلك، فإنَّ المتتبِّع لمقالاتك يرى بوضوح أنَّ عمدة المحور الذي تخدش به في الأدلَّة على ولادة المهدي بن الحسن العسكري (عليه السلام) هو كون علماء الإماميَّة ورواتهم الذين كتبوا ورووا ولادته غير موثوق بهم عندك بسبب عقيدتهم بالإمامة كعهد من الله تعالى، فاللازم على منهجك في الخدشة هو الحوار حول كبرى الإمامة وإمامة عترة آل محمّد أوَّلاً.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٤/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٢:٤٤) صباحاً.
التلميذ عضو:
الحقُّ كلّ الحقِّ ما قاله الأخ الأُستاذ محمّد منصور من أنَّه لا بدَّ أوَّلاً من البحث في القضيَّة الكبرى قبل الخوض في البحث عن الصغرى، فبإثبات
↑صفحة ٣٦١↑
الكبرى يُنتَقل بعدها إلى الصغرى والبحث فيها، وهذا هو ما عليه أهل الفنِّ في هذا العلم، فلنبحث أوَّلاً في مسألة الإمامة وإمامة أهل البيت (عليهم السلام) ثمّ ننتقل إلى إثبات إمامة المهدي (عجَّل الله فرجه) ووجوده وولادته.
ومع أنَّنا تجاوزنا معك هذا المنهج وبدأنا في النقاش حول الصغرى أتينا لك بالدليل الروائي الصحيح الذي ادَّعيت عدم وجوده، وطلبنا منك التسليم به أو مناقشته، ولكنَّك تهرَّبت عن ذلك وفضَّلت اللفَّ والدوران وحشو الكلام الذي لا فائدة ولا طائل من ورائه.
والعجيب الغريب أنَّك تُكرِّر في أكثر ردودك أنَّ الإيمان بوجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) فرضيَّة فلسفيَّة أكثر منها حقيقة تاريخيَّة. وهو مدَّعى لم تأتِ عليه بدليل صحيح مقنع، بل الدليل خلافه، فالدليل الصحيح يُثبِت الحقيقة التاريخيَّة لوجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، أمَّا الدليل الفلسفي فهو مؤيِّد للدليل التاريخي.
وعليه فلا أنت تريد أنْ تواصل معنا في البحث حول صغرى هذه القضيَّة، ولا تريد الخوض في الكبرى، فماذا تريد إذاً؟
* * *
هذا ما قاله الكاتب فما هو ردُّكم عليه؟
حُرِّر بتاريخ (٢٥/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٢:٣٠) صباحاً.
التلميذ عضو:
لقد طلب أحمد الكاتب من الأخ موسى العلي أنْ يحاور الإخوة الشيعة في هذه الساحة، وأصرَّ على طلبه هذا بقوَّة، وحتَّى الشاطر مشارك كان واسطة في هذه المسألة، ولكن وبعد أنْ لم يجد صاحبنا لبضاعته رواجاً هنا حيث بان زيفها وفسادها وإذا به يقول:
ومن هنا فإنِّي أعتذر عن مواصلة الحوار أو الانتقال إلى بحث موضوع
↑صفحة ٣٦٢↑
الإمامة هنا الآن في هذا الموقع، لأنِّي مشغول فعلاً ولست متفرِّغاً ولديَّ أعمال كثيرة يجب أنْ أُنجزها، ومن أراد الحوار فليردَّ على كتابي بكتاب مثله.
والغريب أنَّه لا زال يدَّعي حبَّ أهل البيت (عليهم السلام).
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٥/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٥:٤٥) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
أخي العزيز الأُستاذ التلميذ..
لا زلت أكنُّ لك الحبَّ والاحترام والتقدير.. وأعتقد أنَّ حبَّ أهل البيت ملك المسلمين جميعاً، وهو فريضة على كلِّ مسلم ومسلمة، ولا يمكن ولا يجوز لأيِّ شخص أو طائفة أنْ تدَّعي احتكار الحبِّ لهم.
وأرجو أنْ تتذكَّر أنَّ حبَّ أهل البيت والتشيُّع لهم كان يعمُّ العالم الإسلامي من الشرق إلى الغرب، وقد تشرَّف علماء المسلمين من كلِّ الطوائف بكتابة فضائلهم والإشادة بأخلاقهم وجهادهم وصبرهم وتضحياتهم وكرمهم وزهدهم والدعوة إلى الاقتداء بهم.
وأنَّ محاولة أيَّة طائفة لاحتكار حبِّهم والولاء لهم لن تجدي سوى تأليب الناس على الشيعة وإبعاد العامَّة عنهم.
وبدلاً من ادِّعاء التشيُّع واحتكار الولاء لأهل البيت أُفضِّل التحلِّي بأخلاقهم والسير على هداهم ونشر علومهم القيِّمة، أمَّا الغلوُّ فيهم وإخراج كلِّ من نختلف معه من دائرة التشيُّع والولاء لأهل البيت فإنَّه لن يُؤدِّي إلَّا إلى عزل الشيعة في زوايا ضيِّقة ومعزولة. لا تتوقَّع من جميع الناس أنْ يتَّفقوا معك في كثير من آرائك وتصوُّراتك، وأرجو أنْ تقبل نسبة من الاختلاف مع الآخرين، وإلَّا فإنَّ هذا الأُسلوب سوف ينتهي بنا إلى الديكتاتوريَّة والاستبداد.
↑صفحة ٣٦٣↑
وإنَّ الله سبحانه وتعالى لم يبعث الأنبياء والرُّسُل لكي يتقاتل بنو البشر، وكذلك لم يدعُ إلى حبِّ أهل بيت رسول الله لكي يتقاتل المسلمون من أجلهم ويُكفِّر بعضهم بعضاً، وإنَّما لكي يتعلَّموا منهم حبَّ أعدائهم ويحملوا رسالة التواضع والعفو والتسامح، والسلام.
* * *
تعقيب على مقال الأُستاذ أحمد الكاتب في صحيفة الزمان اللندنيَّة بخصوص مواقع الحوار، الكاتب يُنكِر بأنَّه المحاور في الانترنيت، وملاحقة مشرف الشبكة موسى العلي له، ولا أدري لِـمَ هذا الإنكار، فقال المشرف موسى العلي:
حُرِّر بتاريخ (٢٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٢:٠٨) صباحاً.
موسى العلي هجر:
الأُستاذ أحمد الكاتب..
بعد التحيَّة والاحترام..
قرأت مقالكم المنشور في جريدة الزمان الصادرة في لندن، وتوجد عندي عدَّة نقاط عليها، وهي كالتالي:
النقطة الأُولى: أتَّفق معك في الحقائق التي ذكرتها عن الانترنيت في المقال المنشور في جريدة الزمان، ودور الانترنيت في تثقيف الجيل القادم، وأنَّه أحد مصادر المعرفة.
النقطة الثانية: أتَّفق معك على أنَّ النقاشات الطائفيَّة العقيمة تخلق حالة من العداء والبغضاء بين المسلمين، سُنَّة وشيعة.
النقطة الثالثة: تعميمك للاتِّهام لمواثيق الشرف والمشرفين في مواقع الحوار في قولك: (ورغم وجود مواثيق شرف ومشرفين في بعض المواقع إلَّا أنَّها لا
↑صفحة ٣٦٤↑
تعني سوى مظاهر فارغة لا يلتزم بها المتحاورون ولا المشرفون على تلك المواقع الذين قد ينحازون بتطرُّف إلى هذا الفريق أو ذاك، إذا لم يكونوا قد أنشؤوها أساساً لغرض الدعاية الطائفيَّة ومهاجمة المذاهب الأُخرى).
غير منصف، وهو تشكيك في نزاهة القائمين على شبكة هجر الثقافيَّة، وكان ينبغي عليك التبعيض وعدم تعميم الحكم، لوجود مواقع حوار أُخرى نزيهة وبعيدة عن الدعاية الطائفيَّة.
النقطة الرابعة: تعميمك للمواقع بسماحها لانتحال شخصيتك في قولك: (من أطرف ما وجدت في أحد المواقع أنَّ شخصاً حمل اسم (أحمد الكاتب) وأخذ يهاجم فريقاً معيَّناً في منتدى للحوار، وقبل أنْ يتأكَّد هذا الفريق من هويَّة ذلك الشخص الحقيقيَّة راح يهاجمني أنا شخصيًّا (كاتب المقال) ويُفتِّش في تاريخي السياسي والإعلامي عمَّا يُعزِّز موقعه، فيُحمِّلني مسؤوليَّة إشعال الحرب العراقيَّة الإيرانيَّة ومقتل الشهيد السيِّد محمّد باقر الصدر، ويلصق بي تُهَماً أُخرى، وعندما حاولت التدخُّل مذكِّراً مسؤول الموقع ببراءتي من ذلك الاسم وأُسلوب الحوار ومطالباً بتوضيح المسألة، جاء الجواب بأنِّي أستحق أكثر من ذلك الهجوم).
وهو تعميم بعيد عن الدقَّة والإنصاف، حيث منعنا سابقاً في موقعنا الأخ فيصل أبو خالد الذي يكتب حاليًّا باسم الغالب وسابقاً بعدَّة أسماء منها الجبهان وديكارت وكلمة حقٍّ والبحريني والملاك الطائر وغيرها من الأسماء الأُخرى، منعناه لانتحاله لاسمكم أحمد الكاتب، وطلبنا منه تغييره باعتباره اسماً لشخص مشهور، والأخ الغالب موجود وتستطيع سؤاله عن ذلك، والحكم على جميع المواقع بسلبيَّة وجدتها في موقع آخر خلاف الإنصاف!
وكذلك منعنا التجريح الشخصي لشخصكم الكريم، حيث قمنا بحذف مواضيع تناقش سيرتكم الشخصيَّة الذاتيَّة والحركيَّة.
↑صفحة ٣٦٥↑
ومن أجل ذلك وحفظاً لحالة الحوار الموضوعي البعيدة عن التجريح الشخصي فتحنا واحة جديدة لهذا الغرض باسم واحة الحوار الاستثنائيَّة، وطلبنا من الإخوة الروَّاد باشتراط أنْ يكون الحوار للباحثين المتخصِّصين في هذا المجال.
وأمَّا عن تشخيص هويَّتكم فتوجد عندي معك عدَّة مراسلات تحمل عنوانكم البريدي الخاصّ الذي يجعلنا نطمئنُّ إليكم، وهي حقيقة غير مجهولة لدى الآخرين.
النقطة الخامسة: طلبك بمعرفة الهويَّة الشخصيَّة لصاحب الموقع في قولك: (كما طالبت وأُطالب كلَّ موقع أنْ يتحمَّل القائم به مسؤوليَّته، ويُعلِن عن هويَّته، إذ لا يجوز أنْ يبقى هو الآخر مقنَّعاً وملثَّماً، ولا بدَّ من الإفصاح عن اسمه الكامل حتَّى يتحمَّل التبعات القانونيَّة والشرعيَّة عند الإساءة الشخصيَّة لأيِّ إنسان أو الاعتداء على حقوق الآخرين، كما يتحمَّل أصحاب الصُّحُف والمجلَّات مسؤوليَّة ما يُنشَر في مطبوعاتهم، ويدفعون أحياناً ثمناً غالياً لذلك).
وهو طلب ليس له مبرِّر من الناحية الأمنيَّة، وأنت تعرف الخطورة الأمنيَّة لكشف هويَّة صاحب الموقع! خصوصاً بالنسبة لي! وذلك لوجود تهديد من قِبَل أشخاص حاقدين حاولوا وما زالوا يحاولون تخريب وتدمير الموقع واستعداء الحكومات علينا وضدَّنا رغم أنَّنا نلتزم بالقوانين العامَّة في الدُّوَل وعدم الإساءة إلى المقدَّسات والحكومات واحترام المشاعر لدى الفِرَق الإسلاميَّة الأُخرى.
وربَّما تجربتك في الحركة الإسلاميَّة العراقيَّة أعطتك خبرة آنذاك لأهمّيَّة الناحية الأمنيَّة.
أكتفي بهذا القدر من التوضيح في النقاط، وعموماً مقالكم في مجموعه مفيد وإيجابي، وأشكرك على هذه الإثارة الرائعة.
* * *
↑صفحة ٣٦٦↑
حُرِّر بتاريخ (٢٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٢:٣٣) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
الأخ موسى العلي حفظه الله..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أنا لا أقصدك في كلمتي ولا أُعمِّم القول بأنَّ جميع المواقع هي طائفيَّة وقصدها الفتنة والإساءة إلى المسلمين والعياذ بالله، وإذا كان يُشَمُّ من كلامي ذلك فأنا أُقدِّم لك اعتذاري مرَّةً أُخرى. وقد شكرتك في نهاية الحوار على الصدر الرحب والفرصة التي أتحتها لنا للحوار، وأشكرك مرَّة ثالثة أيضاً.
ولكنِّي بعثت إلى أحد المواقع وهو غير موقعك بالتأكيد، وإلى أحد المسؤولين الذين لم يكن اسمهم قد ظهر على الصفحة، فجاءني الجواب وكان يحمل تهديداً أيضاً، ويُخبرني بأنَّ بعض الإخوة أصدقاء المسؤول كانوا قد أقسموا على...
ولا أُريد أنْ أنشر الرسالة، لأنَّها قد لا تفيد العموم.
يوم أمس ذهبت إلى أحد المواقع وكان يحمل عنواناً بأنَّه مفتوح للجميع ما عدا الشيعة أو الروافض.
وقبل يومين ذهبت إلى أحد مواقع الحوار وكان بين مقدسي يتهجَّم على الرسول الكريم وأحد الإخوة السلفيَّة، وإذا بهذا الأخير يهاجم الشيعة ويتَّهم الكاتب المقدسي بأنَّه شيعي.
وهذا ما دفعني إلى التحذير من بعض المواقع أو بعض الكُتَّاب المتلفعين بالبراقع الذين قد يثيرون أُموراً كان يتجنَّبها علماء الشيعة منذ زمان طويل، فإذا بكاتب مثلاً يدأب على إثارة السؤال عن السبب في دفن السيِّدة الزهراء ليلاً، ولماذا لم يحضرها فلان وفلان؟ وما إلى ذلك من الأُمور التي قد تسيء إلى الشيعة
↑صفحة ٣٦٧↑
والتشيُّع في نظري، وأُفضِّل استغلال هذه النعمة التي وفَّرتها شبكة الانترنيت للحوار الإيجابي بين المسلمين والتفاهم مع الاحترام المتبادل والمحبَّة والتقدير.
وختاماً أشكرك مرَّة أُخرى على ما تفضَّلتم به من توفير حرّيَّة وأمانة للحوار.
وأأسف لحجب صفحتكم في بعض البلاد التي تسمح للآخرين بالهجوم على الشيعة وسبِّهم وقذفهم ولعنهم في وضح النهار، وإعطائهم الحرّيَّة لتمزيق وحدة المسلمين مع الأسف الشديد.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٢:٤٣) صباحاً.
موسى العلي:
الأُستاذ أحمد الكاتب..
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
أشكرك كثيراً لهذا التوضيح، ودفع الالتباس الذي حصل عندي.
وأُوافقك في عدم جدوائيَّة النقاشات الطائفيَّة العقيمة، وتأثيرها السلبي على أبناء الأُمَّة الإسلاميَّة، ونتمنَّى لك دوام الموفّقيَّة.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٣:٣٤) صباحاً.
موسى العلي هجر:
الأُستاذ أحمد الكاتب..
بعد التحيَّة والاحترام..
أرجو بواسطتكم أنْ تنشروا هذا التعقيب في صحيفة الزمان، وأكون لكم من الشاكرين.
* * *
↑صفحة ٣٦٨↑
الشورى نظريَّة أهل البيت، والمهدي وليد نظريَّة الإمامة:
حُرِّر بتاريخ (١٩/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١١:١٧) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
الإمام عليٌّ والشورى:
إنَّ ما يُؤكِّد كون نظام الشورى دستوراً كان يلتزم به الإمام أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب، وعدم معرفته بنظام الوراثة الملكيَّة العموديَّة في أهل البيت، هو دخول الإمام في عمليَّة الشورى التي أعقبت وفاة الخليفة عمر بن الخطَّاب، ومحاججته لأهل الشورى بفضائله ودوره في خدمة الإسلام، وعدم إشارته إلى موضوع النصِّ عليه أو تعيينه خليفة من بعد الرسول، ولو كان حديث الغدير يحمل هذا المعنى لأشار الإمام إلى ذلك، وحاججهم بما هو أقوى من ذكر الفضائل.
لقد كان الإمام عليٌّ يؤمن بنظام الشورى، وأنَّ حقَّ الشورى بالدرجة الأُولى هو من اختصاص المهاجرين والأنصار، ولذلك فقد رفض بعد مقتل عثمان الاستجابة للثوَّار الذين دعوه إلى تولِّي السلطة، وقال لهم: ليس هذا إليكم، هذا للمهاجرين والأنصار، من أمَّره أُولئك كان أميراً(٢٩١).
وعندما جاءه المهاجرون والأنصار فقالوا: اُمدد يدك نبايعك، دفعهم، فعاودوه، ودفعهم، ثمّ عاودوه فقال: «دعوني والتمسوا غيري، واعلموا أنِّي إنْ أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإنْ تركتموني فأنَّا كأحدكم، ولعلِّي أسمعكم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٩١) بل الذي في كلامه للثوَّار أنَّ بيعته لا تكون في السرِّ والخفاء، بل في العلن في محضر المهاجرين والأنصار، وأنَّ الكلمة المتنفِّذة في النفوس هي لهم، فلا يحصل اقتدار على الحكم إلَّا بهم، لا أنَّ التعيين والصلاحيَّة آتية منهم، بل لأنَّ البيعة في السرِّ ومن دون المهاجرين والأنصار مقدَّر لها الفشل بحسب مقتضى الوضع الذي تعيش الأُمَّة.
↑صفحة ٣٦٩↑
أطوعكم لمن ولَّيتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم منِّي أميراً». ومشى إلى طلحة والزبير فعرضها عليهما فقال: «من شاء منكما بايعته»، فقالا: لا، الناس بك أرضى، وأخيراً قال لهم: «فإنْ أبيتم فإنَّ بيعتي لا تكون سرًّا، ولا تكون إلَّا عن رضا المسلمين، ولكن أخرج إلى المسجد، فمن شاء أنْ يبايعني فليبايعني»، ولو كانت نظريَّة النصِّ والتعيين ثابتة ومعروفة لدى المسلمين، لم يكن يجوز للإمام أنْ يدفع الثوَّار وينتظر كلمة المهاجرين والأنصار، كما لم يكن يجوز له أنْ يقول: «أنا لكم وزيراً خير لكم منِّي أميراً»، ولم يكن يجوز له أنْ يعرض الخلافة على طلحة والزبير، ولم يكن بحاجة لينتظر بيعة المسلمين. وهناك رواية في كتاب (سُلَيم بن قيس الهلالي) تكشف عن إيمان الإمام علي بنظريَّة الشورى وحقِّ الأُمَّة في اختيار الإمام، حيث يقول في رسالة له: «الواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يُقتَل، أنْ لا يعملوا عملاً ولا يُحدِثوا حدثاً ولا يُقدِّموا يداً ولا رجلاً ولا يبدأوا بشيء قبل أنْ يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسُّنَّة(٢٩٢)».
وعندما خرج عليه طلحة والزبير احتجَّ عليهما بالبيعة وقال لهما: «بايعتماني ثمّ نكثتما بيعتي»، ولم يشر إلى موضوع النصِّ عليه من رسول الله(٢٩٣)، وكلُّ ما قاله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٩٢) هذه الرواية ذكرها الكاتب مبتورة عن الذيل، كما هي عادته، إذ في تتمَّة الرواية تعليق على ذلك الكلام: إنْ كانت الخيرة لهم، وإنْ كانت الخيرة لله ولرسوله، فقد أخذ الله ورسوله ولايتي على الناس. ونصُّ كلامه (عليه السلام): «إنْ كانت الخيرة لهم... وإنْ كانت الخيرة إلى الله (عزَّ وجلَّ) وإلى رسوله فإنَّ الله قد كفاهم النظر في ذلك والاختيار، ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد رضي لهم إماماً وأمرهم بطاعته واتِّباعه».
(٢٩٣) فقد روى ابن مردويه - وهو من علماء العامَّة - في كتاب الفضائل من ثمانية طُرُق أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال للزبير: «أمَا تذكر يوماً كنت مقبلاً بالمدينة تُحدِّثني...»، فلاحظ الحديث بطوله حيث ذكر فيه وصيَّة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للزبير لملازمة عليٍّ ومودَّته، ثمّ قال (عليه السلام) للزبير: «أفجئت تقاتلني؟»، فقال: أعوذ بالله من ذلك، ثمّ قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «دع هذا - أي اترك الاحتجاج عليك السابق ليبتدأ له بحجَّة أُخرى - تابعتني طائعاً ثمّ جئت محارباً فما عدا ممَّا بدا؟». فقال: لا جرم والله لا قاتلتك. فلاحظ كيف أنَّ الكاتب حذف الاحتجاج الأوَّل تدليساً، مع أنَّه قد أثبته العديد من المصادر.
↑صفحة ٣٧٠↑
للزبير فتراجع عن قتاله هو أنَّ ذكَّره بقول رسول الله له: «لتقاتلنَّه وأنت له ظالم»، وقال الإمام عليٌّ لمعاوية الذي تمرَّد عليه: «أمَّا بعد.. فإنَّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، لأنَّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، فلم يكن للشاهد أنْ يختار ولا للغائب أنْ يردَّ. وإنَّما الشورى للمهاجرين والأنصار إذا اجتمعوا على رجل فسمُّوه إماماً كان ذلك لله رضا».
إذن فقد كانت الشورى هي أساس الحكم في نظر الإمام عليٍّ، وذلك في غياب نظريَّة (النصِّ والتعيين) التي لم يشر إليها الإمام في أيِّ موقف.
وقد كان الإمام عليٌّ (عليه السلام) ينظر إلى نفسه كإنسان عادي غير معصوم، ويطالب الشيعة والمسلمين أنْ ينظروا إليه كذلك، ويحتفظ لنا التاريخ برائعة من روائعه التي ينقلها الكليني في (الكافي) والتي يقول: «إنِّي لست في نفسي بفوق أنْ أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي، إلَّا أنْ يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منِّي».
ويتجلَّى إيمان الإمام عليٍّ بالشورى دستوراً للمسلمين بصورة واضحة، في عمليَّة خلافة الإمام الحسن، حيث دخل عليه المسلمون، بعدما ضربه عبد الرحمن بن ملجم، وطلبوا منه أنْ يستخلف ابنه الحسن، فقال: «لا، إنَّا دخلنا على رسول الله فقلنا: استخلف، فقال: لا، أخاف أنْ تفرّقوا عنه كما تفرَّقت بنو إسرائيل عن هارون، ولكن أنْ يعلم الله في قلوبكم خيراً يختر لكم»(٢٩٤). وسألوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٩٤) هذا النصُّ مع كونه من العامَّة لا الخاصَّة - أي لا سند له - فهو حجَّة على الكاتب لا له، إذ فيه أنَّ هارون خليفة لموسى، وقد ثبت عند المسلمين بالحديث المتواتر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال لعليٍّ: «أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى إلَّا أنَّه لا نبيَّ بعدي»، فلم يستثنِ إلَّا النبوَّة، فدخل في ذلك عموم المنزلة، بل في هذا النصِّ أمر عجيب آخر ذهل الكاتب عنه، وهو أنَّ الأُمَّة لن تنصاع للنصِّ كما لم تنصع بنو إسرائيل لهارون، وأنَّ مغزى ذكر قصَّة موسى وهارون وبني إسرائيل في القرآن كعبرة لهذه الأُمَّة في تمرُّدها على نصِّ النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في وصيِّه وخليفته.
↑صفحة ٣٧١↑
عليًّا أنْ يشير عليهم بأحد(٢٩٥)، فما فعل، فقالوا له: إنْ فقدناك فلا نفقد أنْ نبايع الحسن، فقال: «لا آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر(٢٩٦)».
وقد ذكر الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب (مقتل الإمام أمير المؤمنين) عن عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه، قال: قلت: يا أمير المؤمنين، إنْ فقدناك - ولا نفقدك - نبايع للحسن؟ فقال: «ما آمركم ولا أنهاكم»، فعدت فقلت مثلها، فردَّ عليَّ مثلها(٢٩٧).
وذكر الشيخ حسن بن سليمان في (مختصر بصائر الدرجات) عن سُلَيم ابن قيس الهلالي، قال: سمعت عليًّا يقول وهو بين ابنيه وبين عبد الله بن جعفر وخاصَّة شيعته: «دعوا الناس وما رضوا لأنفسهم، ألزموا أنفسكم السكوت».
وقد قام الإمام أمير المؤمنين بالوصيَّة إلى الإمام الحسن وسائر أبنائه ولكنَّه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٩٥) الغريب أنَّ الكاتب يرفع شعاراً بلزوم وضرورة التثبُّت من الوقائع التاريخيَّة وتمحيص أسانيدها، وهو لا يأتي فيما يسرده ويزعمه من وقائع التاريخ بمصدر، ولا تثبت في السند، بل يُرسِله إرسال المسلَّمات ويذره ذرو الرياح لعجاج الغبار.
(٢٩٦) مع أنَّه روت الشيعة بأسانيد معتبرة بأنَّه (عليه السلام) أوصى للحسن (عليه السلام) ومن بعده للحسين (عليه السلام)، ومن بعده إلى عليِّ بن الحسين (عليه السلام).
(٢٩٧) من الملاحظ أنَّه يغمض الكاتب طرفه عن السند ولا يذكره، مع أنَّ الراوي في (تهذيب الكمال) و(ميزان الاعتدال) مهمل، كما أنَّه كذلك في كُتُب رجال الشيعة.
↑صفحة ٣٧٢↑
لم يتحدَّث عن الإمامة(٢٩٨) والخلافة، وقد كانت وصيَّته روحيَّة أخلاقيَّة وشخصيَّة، أو كما يقول الشيخ المفيد في (الإرشاد): إنَّ الوصية كانت للحسن على أهله وولده وأصحابه، ووقوفاته وصدقاته(٢٩٩).
وتلك الوصيَّة هي كالتالي: «هذا ما أوصى به عليُّ بن أبي طالب، أوصى أنَّه يشهد أنْ لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمّداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحقِّ ليُظهِره على الدِّين كلِّه ولو كره المشركون. ثمّ إنَّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين، بذلك أُمرت وأنا من المسلمين. ثمّ إنِّي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٩٨) لا أدري لِـمَ هذا التدليس من الكاتب؟ فقد أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنْ يلزموا طاعة الحسن والحسين (عليهما السلام) ومتابعتهما، وقد أشار المفيد في (الإرشاد) والكليني في (أُصول الكافي) والطبرسي في (إعلام الورى) وغيرهم لذلك.
(٢٩٩) من تدليس الكاتب الذي تابعناه لم ينقل ما رواه المفيد عن أصحاب السِّيَر بأسانيد متعدِّدة من خطبة الحسن بن عليٍّ (عليه السلام) صبيحة الليلة التي قُبِضَ فيها أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومن معرض تلك الخطبة، ثمّ قال: «أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه، أنا ابن السراج المنير، أنا من أهل بيت أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً، أنا من أهل بيت افترض الله حبَّهم في كتابه، فقال (عزَّ وجلَّ): ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً﴾ (الشورى: ٢٣)، فالحسنة مودَّتنا أهل البيت». ثمّ جلس فقام عبد الله بن عبَّاس (رحمة الله عليهما) بين يديه فقال: هذا ابن نبيِّكم ووصيُّ إمامكم فبايعوه. فاستجاب له الناس وقالوا: ما أحبّه إلينا! وأوجب حقّه علينا! وتبادروا إلى البيعة له بالخلافة. (الإرشاد: ج ٢/ ص ٨/ طبعة مؤسَّسة آل البيت). وقد دأب الكاتب في مقالاته على عدم ذكر المصادر بصفحاتها، بل وفي العديد من الموارد عدم ذكر أسماء المصادر، وذلك بغية حجب القارئ عن المراجعة والتوثُّق من تلك المصادر. هذا مضافاً إلى دأبه على تقطيع المتون لكي لا يستحصل القارئ على المراد الأصلي للمتن.
ثمّ إنَّه هل نسي الكاتب الحديث الصحيح الذي ترويه السُّنَّة والشيعة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأنَّ: «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»؟ فهي تُثبِت إمامة الحسن (عليه السلام). وهناك العشرات من الروايات المعتبرة التي تُثبِت ذلك.
↑صفحة ٣٧٣↑
أُوصيك يا حسن وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي: أنْ تتَّقوا الله ربَّكم، ولا تموتنَّ إلَّا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا، فإنِّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامَّة الصيام والصلاة، وأنَّ المعرة حالقة الدِّين فساد ذات البين، ولا قوَّة إلَّا بالله. اُنظروا ذوي أرحامكم فصلوهم يهون عليكم الحساب. والله الله في الأيتام فلا تغبوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم. والله الله في جيرانكم، فإنَّهم وصيَّة رسول الله ما زال يوصينا بهم حتَّى ظننَّا أنَّه يُورِّثهم. والله الله في القرآن أنْ يسبقكم في العمل به غيركم. والله الله في بيت ربِّكم، لا يخلون ما بقيتم، فإنَّه إنْ خلا لم تناظروا. والله الله في رمضان فإنَّ صيامه جُنَّة من النار لكم. والله الله في الجهاد في سبيل الله بأيديكم وأموالكم وألسنتكم. والله الله في الزكاة فإنَّها تُطفِئ غضب الربِّ. والله الله في ذمَّة نبيِّكم، فلا يُظلمنَّ بين أظهركم. والله الله فيما ملكت أيمانكم. اُنظروا فلا تخافوا في الله لومة لائم، يكفكم من أرادكم وبغى عليكم، وقولوا للناس حسناً كما أمركم الله. ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيُولَّى عليكم شراركم ثمّ يدعو خياركم فلا يُستجاب لهم. عليكم يا بَنِيَّ بالتواصل والتباذل، وإيَّاكم والتقاطع والتكاثر والتفرُّق، وتعاونوا على البرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتَّقوا الله إنَّ الله شديد العقاب، حفظكم الله من أهل بيت، وحفظ نبيَّكم فيكم، أستودعكم الله، أقرأ عليكم السلام ورحمة الله وبركاته(٣٠٠)».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٠٠) كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) وصايا عديدة، وقد تغاضى الكاتب عن النظر إليها كعادته، فمن تلك الوصايا ما روي عن سُلَيم بن قيس الهلالي، قال: شهدت وصيَّة عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) حين أوصى إلى ابنه الحسن (عليه السلام) وأشهد على وصيَّته الحسين (عليه السلام) ومحمّداً وجميع ولده وجميع رؤساء أهل بيته وشيعته (عليه السلام)، ثمّ دفع إليه الكُتُب والسلاح، ثمّ قال (عليه السلام): «يا بنيَّ، أمرني رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنْ أُوصي إليك وأنْ أدفع إليك كُتُبي وسلاحي، كما أوصى إليَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ودفع إليَّ
↑صفحة ٣٧٤↑
كُتُبه وسلاحه، وأمرني أنْ آمرك إذا حضرك الموت أنْ تدفعه إلى أخيك الحسين (عليه السلام)»، ثمّ أقبل على ابنه الحسين (عليه السلام) فقال: «وأمرك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنْ تدفعه إلى ابنك عليِّ بن الحسين»، ثمّ أقبل على عليِّ بن الحسين (عليه السلام)، فقال: «وأمرك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنْ تدفع وصيَّتك إلى ابنك محمّد ابن عليٍّ، فاقرأه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومنِّي السلام»، ثمّ أقبل على ابنه الحسن (عليه السلام) فقال: «يا بنيَّ، أنت وليُّ الأمر بعدي، ووليُّ الدم، فإنْ عفوت فلك وإنْ قتلت فضربة مكان ضربة، ولا تأثم»، ثمّ قال: «اُكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام)...»، ثمّ ساق الحديث إلى آخر ما رواه الكليني والصدوق في من لا يحضره الفقيه (ص ٥٢٣ و٥٢٤)، والحديث واضح من جهة تسليم الأمير (عليه السلام) كُتُبه التي سلَّمه إيَّاها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للحسن وأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأنْ تُسلَّم للحسن ومنه للحسين و...، وهذا دالٌّ على أنَّ الأمر من رسول الله، من الله في عهد الإمامة والخلافة، وما الشورى إلَّا أمر الناس لا أمر الله.
وعن جماعة، عن أبي المفضَّل، عن عبد الرحمن بن محمّد بن عبيد الله العرزمي، عن أبيه، عن عمَّار أبي اليقظان، عن أبي عمر زاذان، قال: لـمَّا وادع الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) معاوية، صعد معاوية المنبر، وجمع الناس فخطبهم وقال: إنَّ الحسن بن عليٍّ رآني للخلافة أهلاً، ولم يرَ نفسه لها أهلاً، وكان الحسن (عليه السلام) أسفل منه بمرقاة. فلمَّا فرغ من كلامه قام الحسن (عليه السلام) فحمد الله تعالى بما هو أهله، ثمّ ذكر المباهلة، فقال: «فجاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الأنفس بأبي، ومن الأبناء بي وبأخي، ومن النساء بأُمِّي، وكنَّا أهله ونحن آله، وهو منَّا ونحن منه. ولـمَّا نزلت آية التطهير جمعنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في كساء لأُمِّ سَلَمة (رضي الله عنها) خيبري ثمّ قال: (اللَّهُمَّ هؤلاء أهل بيتي وعترتي، فأذهب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيراً)، فلم يكن أحد في الكساء غيري وأخي وأبي وأُمِّي، ولم يكن أحد تصيبه جنابة في المسجد ويولد فيه إلَّا النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأبي، تكرمة من الله لنا وتفضيلاً منه لنا، وقد رأيتم مكان منزلنا من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم). وأمر بسدِّ الأبواب فسدَّها وترك بابنا، فقيل له في ذلك فقال: أمَا إنِّي لم أسدّها وأفتح بابه، ولكن الله (عزَّ وجلَّ) أمرني أنْ أسدَّها وأفتح بابه. وإنَّ معاوية زعم لكم أنِّي رأيته للخلافة أهلاً، ولم أرَ نفسي لها أهلاً، فكذب معاوية، نحن أولى بالناس في كتاب الله (عزَّ وجلَّ) وعلى لسان نبيِّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولم نزل أهل البيت مظلومين منذ قبض اللهُ نبيَّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فالله بيننا وبين من ظلمنا حقَّنا، وتوثَّب على رقابنا، وحمل الناس علينا، ومنعنا سهمنا من الفيء، ومنع أُمَّنا ما جعل لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم). واُقسم بالله لو أنَّ الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأعطتهم السماء قطرها، والأرض بركتها، وما طمعت فيها يا معاوية، فلمَّا خرجت من معدنها تنازعتها قريش بينها، فطمعت فيها الطلقاء، وأبناء الطلقاء: أنت وأصحابك، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ما ولَّت أُمَّة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه إلَّا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتَّى يرجعوا إلى ما تركوا، فقد تركت بنو إسرائيل هارون وهم يعلمون أنَّه خليفة موسى فيهم واتَّبعوا السامري، وقد تركت هذه الأُمَّة أبي وبايعوا غيره، وقد سمعوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: (أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى إلَّا النبوَّة)، وقد رأوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نصَّب أبي يوم غدير خُمٍّ وأمرهم أنْ يُبلِّغ الشاهد منهم الغائب. وقد هرب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من قومه، وهو يدعوهم إلى الله تعالى حتَّى دخل الغار، ولو وجد أعواناً ما هرب، وقد كفَّ أبي يده حين ناشدهم، واستغاث فلم يُغَث، فجعل الله هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه، وجعل الله النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في سعة حين دخل الغار ولم يجد أعواناً، وكذلك أبي وأنا في سعة من الله حين خذلتنا هذه الأُمَّة، وبايعوك يا معاوية، وإنَّما هي السنن والأمثال، يتبع بعضها بعضاً. أيُّها الناس إنَّكم لو التمستم فيما بين المشرق والمغرب أنْ تجدوا رجلاً ولده نبيٌّ غيري وأخي لم تجدوا، وإنِّي قد بايعت هذا، وإنْ أدري لعلَّه فتنة لكم ومتاع إلى حين». أقول: قد مضى في كتاب (الاحتجاج) بوجه أبسط مرويًّا عن الصادق (عليه السلام)، وهذا مختصر منه.
↑صفحة ٣٧٥↑
ولذلك لم تلعب هذه الوصيَّة القيِّمة الروحيَّة والأخلاقيَّة أيَّ دور في ترشيح الإمام الحسن للخلافة، لأنَّها كانت تخلو من الإشارة إليها، ولم تكن تُشكِّل بديلاً عن نظام الشورى الذي كان أهل البيت يلتزمون به كدستور للمسلمين.
الإمام الحسن والشورى:
وقد ذكر ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) أنَّه لـمَّا تُوفِّي عليٌّ (عليه السلام) خرج عبد الله بن العبَّاس بن عبد المطَّلب إلى الناس فقال: إنَّ أمير المؤمنين تُوفِّي، وقد ترك خلفاً، فإنْ أحببتم خرج إليكم، وإنْ كرهتم فلا أحد على أحد، فبكى الناس وقالوا: بل يخرج إلينا.
وكما هو ملاحَظ فإنَّ الإمام الحسن لم يعتمد في دعوة الناس لبيعته على ذكر أيِّ نصٍّ حوله من الرسول أو من أبيه الإمام عليٍّ، وقد أشار ابن عبَّاس إلى
↑صفحة ٣٧٦↑
منزلة الإمام الحسن عندما ذكَّر المسلمين بأنَّه ابن بنت النبيِّ، وذكر: أنَّه وصيُّ الإمام أمير المؤمنين، ولكنَّه لم يُبيِّن: أنَّ مستند الدعوة للبيعة هو النصُّ أو الوصيَّة بالإمامة.
وهذا ما يكشف عن إيمان الإمام الحسن (عليه السلام) بنظام الشورى وحقِّ الأُمَّة في انتخاب إمامها، وقد تجلَّى هذا الإيمان مرَّةً أُخرى عند تنازله عن الخلافة إلى معاوية واشتراطه عليه العودة بعد وفاته إلى نظام الشورى، حيث قال في شروط الصلح: «على أنَّه ليس لمعاوية أنْ يعهد لأحد من بعده، وأنْ يكون الأمر شورى بين المسلمين».
ولو كانت الخلافة بالنصِّ من الله والتعيين من الرسول كما تقول النظريَّة الإماميَّة، لم يكن يجوز للإمام الحسن أنْ يتنازل عنها لأيِّ أحد تحت أيِّ ظرف من الظروف(٣٠١). ولم يكن يجوز له أنْ يهمل الإمام الحسين، ولأشار إلى ضرورة تعيينه من بعده. ولكن الإمام الحسن لم يفعل أيَّ شيء من ذلك وسلك مسلكاً يوحي بالتزامه بحقِّ المسلمين في انتخاب خليفتهم عبر نظام الشورى.
الإمام الحسين والشورى:
وقد ظلَّ الإمام الحسين ملتزماً ببيعة معاوية إلى آخر يوم من حياة الأخير، ورفض عرضاً من شيعة الكوفة بعد وفاة الإمام الحسن بالثورة على معاوية.
↑صفحة ٣٧٧↑
وذكر أنَّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه، ولم يدعُ إلى نفسه إلَّا بعد وفاة معاوية الذي خالف اتِّفاقيَّة الصلح وعهد إلى ابنه يزيد بالخلافة بعده، حيث رفض الإمام الحسين البيعة له، وأصرَّ على الخروج إلى العراق حيث استُشهِدَ في كربلاء عام (٦١) للهجرة.
ويُصرِّح الشيخ المفيد بأنَّ الإمام الحسين لم يدعُ أحداً إلى إمامته في ظلِّ عهد معاوية، ويُفسِّر ذلك بالتقيَّة والهدنة الحاصلة بينه وبين معاوية والتزام الإمام الوفاء بها حتَّى وفاة معاوية. (الإرشاد: ص ٢٠٠).
ولا توجد أيَّة آثار لنظريَّة النصِّ في قصَّة كربلاء(٣٠٢)، سواء في رسائل شيعة الكوفة إلى الإمام الحسين ودعوته للقدوم عليهم، أو في رسائل الإمام الحسين لهم، حيث يقول الشيخ المفيد: إنَّ الشيعة اجتمعت بالكوفة في منزل سليمان بن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٠٢) قد احتجَّ الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء بالنصِّ في موارد عديدة، ذكرها أصحاب السِّيَر كابن أبي إسحاق السبيعي قاضي بلخ، وغيره. نحن نذكر طرفاً منها، لأنَّ المقام لا يسع ذكر جميعها بطولها. فمثلاً عندما التقى الجمعان صبيحة العاشر أقبل محمّد بن أشعث بن قيس الكندي وكان مع عمر بن سعد، فقال: يا حسين بن فاطمة، أيَّة حرمة لك من رسول الله لست لغيرك؟ قال الحسين (عليه السلام): هذه الآية: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ (آل عمران: ٣٣ و٣٤)، ثمّ قال: «والله إنَّ محمّداً لمن آل إبراهيم، وإنَّ العترة الهادية لمن آل محمّد».
وفي موضع آخر قال أصحاب السِّيَر والمقاتل: وثب الحسين (عليه السلام) متوكّياً على سيفه، فنادى بأعلى صوته، فقال: «أُنشدكم الله هل تعرفوني؟»، قالوا: نعم أنت ابن رسول الله وسبطه...، إلى أنْ قال: «فأُنشدكم الله هل تعلمون أنَّ عليًّا كان أوَّلهم إسلاماً، وأعلمهم علماً، وأعظمهم حلماً، وأنَّه وليُّ كلِّ مؤمن ومؤمنة»، قالوا: اللَّهُمَّ نعم، قال: «فبِمَ تستحلُّون دمي وأبي الذائد عن الحوض غداً يذود عنه رجالاً كما يُذاد البعير الصادر عن الماء، ولواء الحمد في يد جدِّي يوم القيامة؟».
وقال فيما قاله لهم (عليه السلام): «ألست ابن بنت نبيِّكم، وابن وصيِّه وابن عمِّه، وأوَّل المؤمنين المصدِّق لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)...»، إلى أنْ يقول: «أوَلم يبلغكم ما قاله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لي ولأخي: (هذان سيِّدا شباب أهل الجنَّة)». فإذا كانا سيِّدي أهل الجنَّة أي يسودا أهل الجنَّة فكيف لا يسودا أهل الدنيا كشرع من قِبَل الله (عزَّ وجلَّ)؟ ولا غرو في أنْ يصطفَّ الكاتب في مساندة يزيد وابن زياد وشمر بعدما ترك صراط الحقِّ.
↑صفحة ٣٧٨↑
صُرَد الخزاعي فذكروا هلاك معاوية، فحمدوا الله وأثنوا عليه، فقال سليمان بن صُرَد: إنَّ معاوية قد هلك، وإنَّ حسيناً قد تقبَّض على القوم ببيعة، وقد خرج إلى مكَّة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه(٣٠٣)، فإنْ كنتم تعلمون أنَّكم ناصروه ومجاهدو عدوِّه ونقتل أنفسنا دونه فاكتبوا إليه وأعلموه، وإنْ خفتم الفشل والوهن فلا تغروا الرجل في نفسه، قالوا: لا بل نقاتل عدوَّه ونقتل أنفسنا دونه، قال: فاكتبوا إليه، فكتبوا إليه: للحسين بن عليٍّ، من سليمان بن صُرَد والمسيّب بن نجية ورفاعة بن شدَّاد البجلي وحبيب بن مظاهر وشيعته المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة: سلام عليك، فإنَّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلَّا هو.. أمَّا بعد: فالحمد لله الذي قصم عدوَّك الجبَّار العنيد الذي انتزى على هذه الأُمَّة فابتزَّها أمرها وغصبها فيئها وتأمَّر عليها بغير رضى منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى أشرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبعداً له كما بعدت ثمود. إنَّه ليس علينا إمام، فاقبل لعلَّ الله أنْ يجمعنا بك على الحقِّ. والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنَّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتَّى نُلحِقه بالشام إنْ شاء الله.
فكتب إليهم: «من الحسين بن عليٍّ إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين:
أمَّا بعد، فإنَّ هانياً وسعيداً قَدِما عليَّ بكُتُبكم، وكان آخر من قَدِمَ عليَّ من رُسُلكم، وقد فهمت كلَّ الذي اقتصصتم وذكرتم. مقالة جلِّكم أنَّه ليس علينا إمام فاقبل لعلَّ الله أنْ يجمعنا بك على الحقِّ الهدى، وإنِّي باعث إليكم أخي وابن عمِّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإنْ كتب إليَّ أنَّه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجا والفضل منكم على مثل ما قَدِمَت به رُسُلكم وقرأت في كُتُبكم فإنِّي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٠٣) هذا تنصيص في المصادر التاريخيَّة على تشيُّع أهل الكوفة، وأنَّ دعوتهم للحسين (عليه السلام) ومبايعتهم له بمقتضى عقيدة التشيُّع الملتزمين لها، لا أنَّ البيعة هي التي دعتهم للبيعة.
↑صفحة ٣٧٩↑
أقدم إليكم وشيكاً إنْ شاء الله. فلعمري ما الإمام إلَّا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الداين بدين الحقِّ، الحابس نفسه على ذات الله، والسلام».
إذن فإنَّ مفهوم (الإمام) عند الإمام الحسين لم يكن إلَّا (الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الداين بدين الحقِّ، الحابس نفسه على ذات الله)، ولم يكن يُقدِّم أيَّة نظريَّة حول (الإمام المعصوم المعيَّن من قِبَل الله)(٣٠٤)، ولم يكن يطالب بالخلافة كحقٍّ شخصي له لأنَّه ابن الإمام عليٍّ أو أنَّه معيَّن من قِبَل الله(٣٠٥). ولذلك فإنَّه لم يُفكِّر بنقل (الإمامة) إلى أحد من ولده، ولم يوصِ إلى ابنه الوحيد الذي ظلَّ على قيد الحياة عليٍّ زين العابدين، وإنَّما أوصى إلى أُخته زينب أو ابنته فاطمة، وكانت وصيَّته عاديَّة جدًّا تتعلَّق بأُموره الخاصَّة، ولا تتحدَّث أبداً عن موضوع الإمامة والخلافة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٠٤) وكأنَّ الكاتب يذهل عن المواصفات التي ذكرها الحسين (عليه السلام) في كتابه، فإنَّ الحاكم بالكتاب وهي الصفة الأُولى لا تتيسَّر إلَّا لمن له عصمة علميَّة، وهم الراسخون في العلم الذين أشارت إليهم سورة آل عمران: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ (الآية: ٧)، وكيف لأحد أنْ يتسنَّى له استخراج كلِّ حكم من كتاب الله مع عدم إحاطته بكلِّ الكتاب، وقد قال تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ (الواقعة: ٧٥ - ٨٢). وكذا الصفة الثانية التي ذكرها (عليه السلام) وهي القائم بالقسط بتمامه، ولا يمكن لغير المسدَّد من قِبَل الله بالكفاءة العلميَّة الفائقة للمستوى البشري المعتاد وهي العصمة العلميَّة والأمانة العلميَّة الفائقة لعدالة العدول بالنحو المتعارف وهي العصمة العلميَّة، وهي قول يوسف النبيِّ (عليه السلام): ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ (يوسف: ٥٥)، وكذا الصفة الثالثة والرابعة التي ذكرها، فإنَّ الحابس نفسه على ذات الله على الإطلاق غير متصوَّر فيمن لا يمتلك العصمة العلميَّة والعمليَّة.
(٣٠٥) يحاول الكاتب تصوير النصِّ ووراثة الإمامة كوراثة ترابيَّة مادّيَّة على نسق وراثة السلطنة البشريَّة، مع أنَّها وراثة إلهيَّة من سنخ الاصطفاء الملكوتي كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ (آل عمران: ٣٣ - ٣٤)، وقد مرَّ احتجاجه (عليه السلام) بالنصِّ الإلهي.
↑صفحة ٣٨٠↑
وممَّا يُؤكِّد عدم وجود نظريَّة (الإمامة الإلهيَّة) في ذلك الوقت، عدم إشارة الإمام عليِّ بن الحسين إليها، في خطبته الشهيرة التي ألقاها بشجاعة أمام يزيد بن معاوية في المسجد الأُموي عندما أُخِذَ أسيراً إلى الشام، وقد قال في خطبته تلك: «أيُّها الناس أُعطينا ستًّا وفُضِّلنا بسبع: أُعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبَّة في قلوب المؤمنين، وفُضِّلنا بأنَّ منَّا النبيّ والصدِّيق والطيَّار وأسد الله وأسد رسوله وسبطا هذه الأُمَّة». ثمّ ذكر الإمام أمير المؤمنين فقال: «أنا ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيِّين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، ومفرِّق الأحزاب، أربطهم جأشاً، وأمضاهم عزيمةً، ذاك أبو السبطين عليُّ بن أبي طالب».
ولم يشر الإمام زين العابدين في خطبته الجريئة تلك إلى موضوع الوصيَّة أو الإمامة الإلهيَّة، أو إلى قانون وراثة الإمامة بالنصِّ، ولم يقل للناس: إنَّه الإمام الشرعي المفترض الطاعة بعد أبيه الإمام الحسين، وإنَّما اكتفى بالحديث عن فضل أهل البيت وفضائل الإمام أمير المؤمنين وإنجازاته التاريخيَّة.
اعتزال الإمام زين العابدين:
وقد بايع الإمام عليُّ بن الحسين يزيدَ بن معاوية بعد واقعة الحَرَّة، ورفض قيادة الشيعة الذين كانوا يطالبون بالثأر لمقتل أبيه الإمام الحسين، ويعدُّون للثورة، ولم يدَّعِ الإمامة، ولم يتصدَّ لها(٣٠٦)، ولم ينازع عمَّه فيها(٣٠٧)، وكما يقول الشيخ الصدوق: فإنَّه انقبض عن الناس، فلم يلقَ أحداً ولا كان يلقاه إلَّا خواصّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٠٦) هنا يتجاهل الكاتب ألف باء أدوات العمل السياسي، وأنَّ لنجاح النهضة السياسيَّة شرائط موضوعيَّة لا بدَّ منها، ومجرَّد العفويَّة في العمل والحماس الآني غير كفيل بذلك.
(٣٠٧) قد ذكرت المصادر العديدة احتجاج الإمام زين العابدين (عليه السلام) على عمِّه محمّد بن الحنفيَّة بالإمامة بانطاق الحجر الأسود، فانقاد محمّد بن الحنفيَّة إلى إمامة الإمام زين العابدين (عليه السلام).
↑صفحة ٣٨١↑
أصحابه، وكان في نهاية العبادة، ولم يخرج عنه من العلم إلَّا يسيراً، ويتطرَّف الصدوق جدًّا وبشكل غير معقول فينقل عن الإمام السجَّاد: أنَّه كان يُوصي الشيعة بالخضوع للحاكم والطاعة له وعدم التعرُّض لسخطه، ويتَّهم الثائرين بالمسؤوليَّة عن الظلم الذي يلحق بهم من قِبَل السلطان. (الأمالي: ص ٣٩٦/ المجلس رقم ٥٩).
انتخاب سليمان بن صُرَد الخزاعي زعيماً للشيعة:
ومن هنا ونتيجةً للفراغ القيادي فقد انتخب الشيعة في الكوفة بعد مقتل الإمام الحسين سليمان بن صُرَد الخزاعي زعيماً عليهم، وذلك عندما اجتمعوا إلى خمسة من رؤوسهم، وقام المسيّب بن نجيبة خطيباً فقال: أيُّها القوم ولُّوا عليكم رجلاً منكم فإنَّه لا بدَّ لكم من أمير تفزعون إليه وراية تحفُّون بها. وقام رفاعة بن شدَّاد فعقَّب على كلامه قائلاً: قلت: ولُّوا أمركم رجلاً منكم تفزعون إليه وتحفُّون برايته، وذلك رأي قد رأينا مثل الذي رأيت، فإنْ تكن أنت ذلك الرجل تكن عندنا مرضيًّا وفينا منتصحاً وفي جماعتنا محبًّا، وإنْ رأيت ورأى أصحابنا ذلك ولَّينا هذا الأمر شيخ الشيعة صاحب رسول الله وذا السابقة سليمان بن صُرَد، المحمود في بأسه والموثوق بحزمه. ثمّ تكلَّم عبد الله بن وال، وعبد الله بن سعد فحمدا ربَّهما وأثنيا عليه... فقال المسيّب بن نجيبة: أصبتم ووُفِّقتم، وأنا أرى مثل الذي رأيتم، فولُّوا أمركم سليمان بن صُرَد. وقد قام سليمان بن صُرَد الخزاعي بقيادة حركة قامت للثأر من قتلة الحسين، وعُرِفَت بحركة التوَّابين.
إمامة محمّد بن الحنفيَّة:
وعندما قام المختار بن عبيد الثقفي - بعد ذلك - بحركته في الكوفة، كتب إلى عليِّ بن الحسين يريده على أنْ يبايع له ويقول بإمامته ويظهر دعوته،
↑صفحة ٣٨٢↑
وأنفذ إليه مالاً كثيراً، فأبى أنْ يقبل ذلك منه، أو يجيبه عن كتابه، فلمَّا يئس المختار منه كتب إلى عمِّه محمّد بن الحنفيَّة يريده على مثل ذلك، وأخذ يدعو إلى إمامته، وقد استلم محمّد بن الحنفيَّة قيادة الشيعة فعلاً، ورعى قيام دولة المختار بن عبيدة الثقفي في الكوفة.
لقد كان أئمَّة أهل البيت يعتقدون بحقِّ الأُمَّة الإسلاميَّة في اختيار أوليائها، وبضرورة ممارسة الشورى، وإدانة الاستيلاء على السلطة بالقوَّة، ولعلَّنا نجد في الحديث الذي يرويه الصدوق في (عيون أخبار الرضا) عن الإمام الرضا، عن أبيه الكاظم، عن أبيه جعفر الصادق، عن أبيه محمّد الباقر، عن عليِّ ابن الحسين، عن الحسين بن عليٍّ، عن أبيه، عن جدِّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والذي يقول فيه: «من جاءكم يريد أنْ يُفرِّق الجماعة ويغصب الأُمَّة أمرها ويتولَّى من غير مشورة فاقتلوه، فإنَّ الله (عزَّ وجلَّ) قد أذن ذلك...».
لعلَّنا نجد في هذا الحديث أفضل تعبير عن إيمان أهل البيت بالشورى والتزامهم بها(٣٠٨)، وإذا كانوا يدعون الناس إلى اتِّباعهم والانقياد إليهم فإنَّما كانوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٠٨) هذا الحديث مفاده هدر دم الغاصب مقادير الأُمَّة بالقهر والإرغام لها، ليس مفاده أنَّ الوظيفة الملقاة على عاتق الأُمَّة هي اختيار زعيمها بالآراء. فبطلان عمل الغاصب القاهر لا يُحدِّد الوظيفة للأُمَّة أنَّها باختيارها، أو بتحديدٍ وإلزام من الله (عزَّ وجلَّ). وبعبارة أُخرى: إنَّ الاختيار التكويني للأُمَّة لا يعني الخيار القانوني لها، بل هي ملزمة قانوناً بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (المائدة: ٥٥) النازلة في عليٍّ باتِّفاق الفريقين، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء: ٥٩)، فقهر الغاصب للأُمَّة خيارها التكويني ليس هو فرض لخيارها التشريعي. نظير بيعة المسلمين لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إذ غاية ما تعنيه خيارهم التكويني، لا خيارهم التشريعي، كيف والواجب على المسلم بمقتضى الشهادتين إطاعة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بايع أو لم يبايع. والكاتب يسدُّ بصرهُ عن أقوال النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل البيت (عليهم السلام) المتواترة في النصِّ عليهم من الله تعالى، بل وعن النصوص القرآنيَّة في ذلك، ثمّ يتأوَّل رواية على النحو الذي يستذوقه.
↑صفحة ٣٨٣↑
يفعلون ذلك إيماناً بأفضليَّتهم وأولويَّتهم بالخلافة في مقابل الخلفاء الذين كانوا لا يحكمون بالكتاب ولا يقيمون القسط ولا يدينون بالحقِّ.
من هنا وتبعاً لمفهوم (الأولويَّة) قالت أجيال من الشيعة الأوائل، وخاصَّة في القرن الأوَّل الهجري: إنَّ عليًّا كان أولى الناس بعد رسول الله لفضله وسابقته وعلمه، وهو أفضل الناس كلّهم بعده، وأشجعهم وأسخاهم وأورعهم وأزهدهم. وأجازوا مع ذلك إمامة أبي بكر وعمر وعدُّوهما أهلاً لذلك المكان والمقام، وذكروا أنَّ عليًّا سلَّم لهما الأمر ورضي بذلك وبايعهما طائعاً غير مكره وترك حقَّه لهما(٣٠٩)، فنحن راضون كما رضي المسلمون له، ولمن بايع، لا يحلُّ لنا غير ذلك ولا يسع منَّا أحداً إلَّا ذلك، وإنَّ ولاية أبي بكر صارت رشداً وهدًى لتسليم عليٍّ ورضاه(٣١٠).
بينما قالت فرقة أُخرى من الشيعة: إنَّ عليًّا أفضل الناس، لقرابته من رسول الله، ولسابقته وعلمه، ولكن كان جائزاً للناس أنْ يولُّوا عليهم غيره إذا كان الوالي الذي يولُّونه مجزئاً، أحبَّ ذلك أو كرهه، فولاية الوالي الذي ولُّوا على أنفسهم برضى منهم رشد وهدى وطاعة لله (عزَّ وجلَّ)، وطاعته واجبة من الله (عزَّ وجلَّ).
وقال قسم آخر منهم: إنَّ إمامة عليِّ بن أبي طالب ثابتة في الوقت الذي دعا الناس وأظهر أمره، وقد قيل للحسن بن الحسن بن عليٍّ الذي كان كبير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٠٩) ليس في الشيعة من يقول بذلك سوى بعض فِرَق الزيديَّة، وأهل البيت (عليهم السلام) بإقرار الكاتب حيث يرون أولويَّتهم بالخلافة، بمعنى أنَّهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كأولويَّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالمؤمنين من أنفسهم، فهذه احتجاجاتهم بالنصوص النبويَّة المتواترة والنصوص القرآنيَّة ملء الكُتُب.
(٣١٠) لم يبايع عليٌّ أبا بكر، وإنَّما ضرب أصحاب السقيفة بيد أبي بكر على يد عليٍّ وهو موثوق ومقيَّد بالحبال قد احتوشوه واعتبروا ذلك بيعةً، ومن ثَمَّ أنكر عليٌّ (عليه السلام) على عبد الرحمن بن عوف اتِّباع سيرة الشيخين.
↑صفحة ٣٨٤↑
الطالبيِّين في عهده وكان وصيَّ أبيه ووليَّ صدقة جدِّه: ألم يقل رسول الله: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه؟ فقال: بلى، ولكن والله لم يعن رسول الله بذلك الإمامة والسلطان، ولو أراد ذلك لأفصح لهم به(٣١١).
وكان ابنه عبد الله يقول: ليس لنا في هذا الأمر ما ليس لغيرنا، وليس في أحد من أهل البيت إمام مفترض الطاعة من الله. وكان ينفي إمامة أمير المؤمنين أنَّها من الله(٣١٢).
ممَّا يعني أنَّ نظريَّة النصِّ وتوارث السلطة في أهل البيت فقط، لم يكن لها رصيد لدى الجيل الأوَّل من الشيعة، ومن هنا فقد كانت نظرتهم إلى الشيخين أبي بكر وعمر نظرة إيجابيَّة، إذ لم يكونوا يعتبرونهما غاصبين للخلافة التي تركها رسول الله شورى بين المسلمين ولم ينصّ على أحد بالخصوص.
وهنا يبدأ أحمد الكاتب بطرح بعض التساؤلات على الأخ محمّد منصور، فقال:
سألتكم فيما إذا كنتم من الإخباريِّين أو الأُصوليِّين، وهل تؤمنون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣١١) العجيب من الكاتب أنَّه لا يأتي بمصادر لما ينسبه فضلاً عن أنْ يُحقِّق في سند هذه الروايات التاريخيَّة، ويبني عليها كتسليم المسلَّمات في حين يطالب بتمحيص المدارك والأدلَّة. والغريب نسبته لبني الحسن ذلك واعتماده على مثل هذا التلفيق مع أنَّه نفسه ستأتي منه مقالات في الحركات التي قام بها بنو الحسن (عليه السلام) تحت شعار أنَّ الولاية والإمامة هي لآل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كما في صاحب النفس الزكيَّة وصاحب فخٍّ وغيرهم ممَّا هو مسلَّم في وقائع التاريخ، وكيف يرتضي الكاتب لعقله أنْ يوقف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عشرات الآلاف من المسلمين في الصحراء تحت كبد الشمس الحارَّة وصيف الهجير ويقوم فيهم خطيباً، تلك الخطبة الطويلة التي تضمَّنت أخذه الإقرار منهم بأنَّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأنَّ من كان هو أولى به من نفسه فعليٌّ مولاه، وقال: «اللَّهُمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله». كلُّ ذلك ليس نصباً لإمامة عليٍّ وإمارته على المسلمين وأخذه منهم البيعة له؟!
(٣١٢) سيأتي من الكاتب أنَّ عبد الله كان يرى إمامة ابنه محمّد أنَّه منصوص عليه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنَّه المهدي الموعود، فلا أرى الكاتب إلَّا ينسى ما يكتب ويقول، وتتناقض أقواله.
↑صفحة ٣٨٥↑
بالتسليم لكلِّ ما ورد عن أهل البيت من دون تحقيق أم لا؟ ولم أسمع ردَّكم بوضوح.
وأسألكم: ما هو مفهومكم للتواتر؟ وكيف تصفون رواية بالتواتر كرواية: أنَّ المهدي هو ابن الحسن العسكري؟ علماً بأنَّ الشيعة الإماميَّة وغير الإماميَّة اعتقدوا بمهدويَّة عدد من الأئمَّة السابقين كالإمام عليٍّ وابنه محمّد بن الحنفيَّة والإمام الباقر والإمام الصادق والإمام موسى الكاظم والإمام الحسن العسكري وغيرهم من الأئمَّة، وهل يجوز اعتبار رواية متواترة مع وجود روايات كثيرة في مقابلها وعدم إجماع الشيعة عليها؟
أرجو قبل أنْ تحكموا على رواية بالتواتر بسهولة أنْ تلاحظوا الروايات المضادَّة لها، وتراجعوا بالخصوص فصل الحركات المهدويَّة الشيعيَّة السابقة التي بلغت حوالي العشرين حركة، والتي كانت تعتقد بمهدويَّات أئمَّة آخرين(٣١٣).
أعتقد أنَّك لا تحتاج إلى الذهاب إلى طبيب نفساني متخصِّص، ولا إلى تصوُّر أنَّك تحاور طفلاً في مدرسة ابتدائيَّة أو في الروضة، وإنَّما عليك أنْ تعيد قراءة الموضوع السابق مرَّةً أُخرى بشيء من التأنِّي والرويَّة لتدرك أنَّ قولي: إنَّ الإيمان بالأئمَّة السابقين أو الأنبياء لا يتوقَّف على الإيمان بإمامتهم أو نبوَّتهم كان تعقيباً على قولك العجيب الغريب: إنَّ الإيمان بوجود المهدي في الخارج يتوقَّف على الإيمان بكبرى الإمامة أو نظريَّة الإمامة، وإلَّا فإنَّ من الصعب إثبات وجود الإمام الثاني عشر كما قال السيِّد المرتضى علم الهدى الذي أيَّدته في قوله هذا. وقلت لك بوضوح: إنَّ الإيمان بوجود الأنبياء والأئمَّة السابقين لا يتوقَّف على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣١٣) سيأتي في مقالة للأخ محمّد منصور حول التواتر وحقيقته وأقسام دوائره، وأنَّ تشبُّث الحركات الإسلاميَّة بنظريَّة المهدويَّة هي خير دليل على استمداد تلك الحركات لإثبات مشروعيَّتها بما هو مسلَّم بين المسلمين من الحديث النبوي المتواتر في المهدي من آل محمّد (عليه السلام).
↑صفحة ٣٨٦↑
الإيمان برسالتهم، فإنَّ الملحدين والمشركين واليهود النصارى يؤمنون بوجود النبيِّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكذلك يؤمنون بوجود الإمام عليٍّ والإمام الحسن والحسين وسائر الأئمَّة الآخرين الذين لا يشكُّ أحد بوجودهم وإنْ كان يعتقد أو لا يعتقد بإمامتهم، ولذلك لا يتوقَّف أحد ليسأل عن تاريخ ولادتهم ومكانها وظروفها، لأنَّهم كانوا أشخاصاً ظاهرين يعترف بوجودهم التاريخ ولا يشكُّ بهم أحد، على العكس من مسألة وجود الإمام الثاني عشر الذي يشكُّ الشيعة أنفسهم بوجوده، وقد فتَّش الكثير منهم عنه ولم يجدوا له أثراً.
وإذا كنت تتَّفق مع السيِّد المرتضى أنَّ من الصعب إثبات وجود الإمام الثاني عشر من دون الإيمان بنظريَّة الإمامة أوَّلاً(٣١٤)، فإنَّك تعترف بضعف كلِّ الروايات التي أوردتها لإثبات ولادته ووجوده، إذ إنَّها لا ترقى إلى مستوى إثبات وجود شخص الإمام الثاني عشر بصورة مستقلَّة لمن يؤمن بإمامته ومن لا يؤمن بها.
وهذا هو جوهر كلامي حيث أقول: إنَّ الدليل الأوَّل والأقوى على وجود الإمام الثاني عشر محمّد بن الحسن العسكري هو دليل نظري اعتباري عقلي - وسمِّه ما شئت -، وإنَّه كان فرضيَّة فلسفيَّة وليس دليلاً تاريخيًّا يمكن إثباته لكلِّ أحد في العالم. وإنَّ فرضيَّة المهدي مربوطة بحبل السرَّة بنظريَّة الإمامة، فإذا قطعنا هذا الحبل لا تبقى أيَّة حياة أو أيّ معنى لنظريَّة الإمامة ولا لفرضيَّة وجود المهدي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣١٤) كلام السيِّد المرتضى ناظر إلى عقم البحث وعدم الثمرة في وجود المهدي (عليه السلام) لمن لا يُسلِّم بحقيقة الإمامة، إذ لو اعتقد شخص بوجود ابن من ذرّيَّة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الابن التاسع من ظهر الحسين (عليه السلام)، ولكن يعتقد فيه أنَّه رجل وبشر اعتيادي لا يتَّصف بحقيقة النبوَّة، كما يعتقد المستشرقون بوجود محمّد بن عبد الله (عليه السلام) ولكنَّهم لا يعتقدون بصفة النبوَّة فيه، فأيُّ ثمرة في الحديث عن وجوده أو لا وجوده إذا لم يتركَّز البحث عن وجوده بقيد تلك الصفة؟
↑صفحة ٣٨٧↑
وقد حاولت وحاول غيرك إثبات نظريَّة الإمامة أوَّلاً ثمّ الوصول من خلالها إلى إثبات وجود الإمام الثاني عشر ثانياً تبعاً للنظريَّة الأُولى(٣١٥). وقد تجنَّبت الخوض في بحث الأدلَّة التاريخيَّة حتَّى الآن لأنَّك تعرف أنَّها أُسطوريَّة وضعيفة ولا ترقى إلى مستوى خبر الآحاد فضلاً عن التواتر أو الصحَّة.
أقول: إنَّ هذا منطق معكوس في إثبات الأُمور، إذ علينا أوَّلاً أنْ نُثبِت وجود الإمام محمّد بن الحسن العسكري ثمّ نُثبِت له صفة الإمامة أو نعطيه الرقم الثاني عشر، وإذا لم نستطع إثبات وجوده بصورة علميَّة تاريخيَّة مستقلَّة فعلينا أنْ نعيد النظر في فهم أو صحَّة كثير من النظريَّات التي كنَّا نؤمن بها، لا أنْ نفترض وجود إنسان بالرغم من نفي أبيه له في الظاهر وندَّعي ولادته في السرِّ ثمّ نفترض وجود الأجواء الإرهابيَّة الضاغطة لنُبرِّر الغيبة الطويلة المتعارضة مع فلسفة الإمامة.
ولا يفيد بعد ذلك التشبُّث بأقوال بعض علماء السُّنَّة الذين يذكرون أنَّ المهدي هو محمّد بن الحسن العسكري، خاصَّةً إذا كانوا يتأخَّرون عن زمن العسكري بقرون كابن عربي الذي تُوفِّي في (٦٣٨هـ) أو عبد الوهَّاب الشعراني الذي تُوفِّي في (٩٧٣هـ) أو محمّد بن طلحة الشافعي الذي تُوفِّي في (٦٥٢هـ) أو سبط ابن الجوزي الذي تُوفِّي في (٦٥٤هـ) أو الآخر الذي تُوفِّي في (٨٥٥هـ) دون أنْ نسألهم على ماذا بنوا قولهم؟ وما هو سند روايتهم؟ وهل يعتقدون بذلك أم يروون عن الشيعة؟ وإذا كان المتكلِّمون الاثنا عشريَّة لم يستطيعوا أنْ يُثبِتوا ولادة ابن الحسن للشيعة أنفسهم، فكيف يجوز أنْ نعتمد على قول آخرين بدون مناقشة؟
وحسبما علمت من رسالتك السابقة أنَّك تُسلِّم للأخبار الواردة عن أهل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣١٥) لم يحصر الإخوة المحاورون إثبات وجوده (عليه السلام) عن طريق كبرى الإمامة فقط، بل هم نبَّهوا على نقطتين: الأُولى: أنَّ أحد طُرُق إثبات وجوده هي كبرى ضرورة الإمامة. الثانية: أنَّ الحديث عن وجوده من دون إثبات تلك الكبرى واتِّصافه بها لا ثمرة فيه.
↑صفحة ٣٨٨↑
البيت، ولست أدري هل أنَّك تُسلِّم للأخبار الواردة عن غيرهم هكذا أيضاً بدون مناقشة؟ وهل هذا من منهج الإخباريِّين القدماء أو المحدثين؟
وأخيراً أرجو منك عندما تتحدَّث عن الشيعة أنْ تُميِّز بين عموم الشيعة والإماميَّة والاثني عشريَّة ولا تخلط بين الأسماء، فبينها عموم وخصوص. وحديثنا كما تعرف يدور حول الاثني عشريَّة، فلا يجوز أنْ تقول مثلاً: هل أنَّ الطائفة الإماميَّة اختلقت أحاديث المهدي ابن الحسن؟
وأحسب أنَّ الحوار بيننا أخذ يقترب من حوار الطرشان ويدخل في خانة الجدل العقيم، وحتَّى نخرج من هذه المشكلة أرجو منك الإجابة على بعض الأسئلة(٣١٦):
١ - ما هو الدليل الأقوى على وجود وولادة الإمام الثاني عشر محمّد بن الحسن العسكري؟
٢ - هل هو الدليل النظري أم الدليل التاريخي؟
٣ - ما هو رأيك بالأدلَّة التاريخيَّة؟ وهل فحصتها وتأكَّدت منها؟ وهل تعتبرها صحيحة؟
٤ - هل يمكن لأيِّ أحد لا يؤمن بنظريَّة الإمامة أو لا يؤمن بضرورة الوراثة العموديَّة من بقيَّة الشيعة أو سائر المسلمين أنْ يتوصَّل إلى الاقتناع بوجود ابن الحسن؟ ولماذا قال السيِّد المرتضى: إنَّ ذلك صعب؟
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٣/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٥:٠٠) مساءً.
محمّد منصور عضو:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣١٦) هذه الأسئلة قد أُجيب عنها في الحوارات السابقة واللَّاحقة، فللقارئ الكريم أنْ يقرأ تسلسل الحوارات ليرى هل أُجيب عنها أو لا؟
↑صفحة ٣٨٩↑
الردُّ على الكاتب في الشورى:
١ - يسأل الكاتب عن المنهج المتَّبع هل هو الإخباري أو الأُصولي، ولعمرك لو كنت تفهم معنى المسلكين لما سألت، لأنَّ العارف بالمسلكين لا يخفى عليه المنهج الذي أتَّبعه في حواري، ألَا تراني أُشخِّص منهجك الصحفي المزيج بعدم الإذعان بأيِّ حديث يُروى سواء من طُرُق السُّنَّة أم من طُرُق الشيعة وتريد القصر منفرداً بفهمك لكتاب الله والمزيج بمنهجك الحسِّي والإنكار لكلِّ ما يبتعد من أصالة الحسِّ؟ ولا أدري ما ستصنع من الغيب الذي ينادي به القرآن، إلَّا أنْ تحتمل أنَّ يد الغلاة الباطنيَّة تسلَّلت إلى سور القرآن الكريم، والمزيج بالنظريَّة الغربيَّة المنبثقة مشروعيَّة الحكم فيها من أصالة الفرد.
٢ - يسأل الكاتب عن التواتر: قد أجبناك بصورة مفصَّلة عن معنى التواتر وأقسامه، فراجع(٣١٧).
أمَّا تعارض الغيبة الطويلة مع فلسفة الإمامة فقد كرَّرت لك وأنا أعلم أنَّك تُحِبُّ الدوران باستمرار واجترار لما سبق أنَّ الغيبة ليست بمعنى العدم لشخص المهدي (عجَّل الله فرجه). «بأبي من نازح ما نزح عنَّا، بأبي من غائب لم يخل منَّا».
فالتستُّر والسرّيَّة؛ تُفهَمان في القوى الدوليَّة كالمخابرات الدوليَّة والمافيا وقوى المال والسلاح، أليست هي التي تدير الحكومات العلنيَّة من وراء الستار في الدول العظمى؟ ألم تقرأ المذكَّرات السرّيَّة لتلك القوى الخفيَّة؟ فهل هذا بمعنى الجمود والتعطيل أم بمعنى قمَّة النشاط والدقَّة في العمل بأداء الوظائف الإلهيَّة؟ كما هو الحال في الخضر الذي ذكرته سورة الكهف صاحب موسى: ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ... وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي...﴾ (الكهف: ٦٥ - ٨٢)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣١٧) راجع صفحة (٢٧٩) و(٣٥٦).
↑صفحة ٣٩٠↑
فهناك منظومة من العباد ينادي القرآن بوجودها. إلَّا أنْ تقول: إنَّ سورة الكهف من وضع الغلاة الباطنيِّين، وإنَّ حياة الخضر إلى يوم القيامة عقيدة تسلَّلت إلى المسلمين بفعل الباطنيَّة.
وأمَّا قائمة علماء السُّنَّة الذين يذكرون ولادته في الخفاء خوفاً من السلطة العبَّاسيَّة فالعديد منهم ممَّن قارب عصر الولادة.
نعم أنت تقول: إنَّك تُقدِّر لفظة افتراض في كلامهم وبموجب المخيَّلة الشعريَّة التي تستذوقها.
وأراك تعاود الإنكار على الاحتجاج برواية السُّنَّة في المقام، وقد نبَّهتك إلى وجه الحجّيَّة، ألَا وهو انتفاء داعي الكذب بعد كون ما يروونه لا يتَّفق مع أغراضهم.
وأمَّا علماء الإماميَّة فقد ذكرت لك فهرسة أدلَّتهم في إثبات ولادته وإمامته.
ليست ضابطة حجّيَّة الأخبار هو إبداء المناقشة التشكيكيَّة وكأنَّ المشكِّك يتَّخذ من نفسه الميزان، بل ضابطة الحجّيَّة تؤول إمَّا إلى القطع واليقين كالخبر المتواتر بأقسامه بعد دراسة العوامل الكيفيَّة والكمّيَّة بحسب الظروف المختلفة لا بحسب التشهِّي والدواعي النفسانيَّة أو الأزمة والعُقَد. وإمَّا إلى الظنِّ المعتبر بأدلَّة حجّيَّة الخبر كالمستفيض الذي يصنف في العلم العادي العرفي - ولا أخالك سمعت بهذا المصطلح أو اطَّلعت على وجه الحجّيَّة فيه - والصحيح والموثَّق وبعضهم يُلحِق القويَّ والحسن صغرويًّا بما تقدَّم.
وأمَّا الأسماء فاسمع وعِه أنَّ الإماميَّة أصبح اسماً علماً للطائفة الاثني عشريَّة وأمَّا بقيَّة الإسماعيليَّة والزيديَّة فلا يُطلَق عليهم حاليًّا هذا الاسم.
وأنا أُوافقك أنَّ الحوار آخذ إلى العقم بسبب دورانك واجترارك المباحث السابقة المتروكة للقُرَّاء الحكم فيها.
↑صفحة ٣٩١↑
ولذلك نصحتك للبدء في الأدلَّة القرآنيَّة ومؤدَّاها هل هو الإمامة كعهد من الله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: ٣٠)، ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ (البقرة: ١٢٤)، أم أنَّ مؤدَّاها السلطة الجماعيَّة كما تؤمن أنت بذلك؟ ولا أُعبِّر بالشورى، لأنَّ من يُحسِن اللغة العربيَّة لا يُعبِّر عن السلطة الجماعيَّة لمجموع الأُمَّة بالشورى؛ لأنَّ الشورى كما قدَّمت لك في مقالتي السابقة لغةً وماهيَّةً هي المداولة والفحص الفكري كصفة للقوى النظريَّة كبنك معلومات، ولا ربط لها بصفات القوى العمليَّة والإرادة والسلطة كقوى عمليَّة.
وأمَّا ما تقترحه من محاور فهي إعادة للحوارت السابقة اجتراراً، نعم الوارثة في الإمامة مبحث قرآني، إذا أردت الخوض في الأدلَّة القرآنيَّة فهيَّا.
وإذا كان عمدة طعنك على كُتُب علماء الإماميَّة ورواتهم هو اعتقادهم بالإمامة كعهد من الله، فالحري بك أنْ تبحث أوَّلاً عن كبرى الإمامة.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٤/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٥:١٩) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
السيِّد الجليل الأُستاذ التلميذ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
علمت من بعض الإخوة المتحاورين أنَّ السيِّد الفاضل الذي يُسمِّي نفسه هنا في هذا الموقع بالتلميذ ما هو إلَّا عالم كبير ورجل جليل، وقد وددت لو يفصح لنا السيِّد التلميذ عن اسمه وهويَّته ويدخل مواقع الحوار باسمه الصريح؛ لأنَّ ذلك أدعى للجدّيَّة والالتزام بآداب الحوار والتأثير في الناس وأبعد عن السخرية والاستهزاء والجدال.
وأعتقد أنَّ من أوَّليَّات أيِّ حوار هو افتراض الطرفين أنَّهما على الحقِّ أو
↑صفحة ٣٩٢↑
الباطل، ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ (سبأ: ٢٤)، وعدم ادِّعاء الحقِّ المطلق لدى الذات وادِّعاء الباطل المطلق لدى الطرف الآخر، لأنَّ ذلك يحول دون استماع وجهة النظر الأُخرى جيِّداً، ومحاولة التعرُّف على مكامن القوَّة والانصراف إلى الردِّ السريع والجدل ومحاولة إفحام الخصم بأيَّة وسيلة حقَّة أو باطلة، وربَّما كان بعض الخصوم لا يجيدون لغة الجدال أو لا يتذكَّرون أدلَّتهم جيِّداً أو لا يجدون الوقت الكافي للردِّ على هذا أو ذاك خاصَّةً إذا تكأكأ جماعة على شخص واحد كتكأكئهم على ذي جنَّة كلٌّ يطالب بالدليل والردِّ في نفس الوقت.
ومن هنا أرجو من سماحة السيِّد الأُستاذ معلِّم التلاميذ أنْ يعيد النظر في قوله: (لعلِّي بذلك أدفع عن ذهنك الشبهة التي علقت به وأجلي عن بصرك الظلمة التي لولاها لأبصرت الحقيقة)؛ لأنَّ الطرف الآخر يستطيع بسهولة أنْ يفترض في نفسه نفس الدور، وهو يعتقد أنَّه يقوم بذلك بالضبط، ولكن آداب الحوار تمنعه من استخدام هذه العبارات الإعلاميَّة أملاً بالوصول إلى نتيجة فيها لله رضا وللناس أجر وثواب.
سيِّدي الجليل أعتقد أنَّك تتَّفق معي على أنَّ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) تُوفِّي دون أنْ يُعلِن عن وجود ولد له، فقد قلت: إنَّ نكران البعض وجود ابن للإمام العسكري وولادة المهدي أمر طبيعي للتكتُّم والسرّيَّة والإخفاء لولادة الإمام، ونتيجةً لما أُشيع بين الناس من عدم وجود خلف للإمام، وذلك بهدف المحافظة على الإمام من السلطات الحاكمة في ذلك الزمان، ولم يكن أمر ولادته مشهوراً بين الناس لهذا الأمر، بل إنَّ الذي علم بذلك هم خواصُّ وثقات الإمام العسكري، ومسألة خفاء ولادة الإمام ممَّا ورد ضمن الروايات الكثيرة، وذكرت رواية عن العمري أنَّه كان ينهى عن السؤال عن اسم ابن الإمام حيث لم يكن في
↑صفحة ٣٩٣↑
البداية معروفاً حتَّى اسمه. وقلت: إنَّ إشاعة الخبر بأنَّ الإمام العسكري لم يخلف ولداً إنَّما هي مسألة مقصودة حفاظاً على الإمام المهدي من السلطان العبَّاسي.
وقلت أيضاً: لقد اعترف الإمام العسكري بوجود ولد له من خلال إخباره خواصَّ شيعته بذلك، وورد الخبر الصحيح الذي رواه الكليني عن أبي هاشم.
إذن فإنَّك تتَّفق معي أنَّ التاريخ الظاهري المؤيَّد من الإمام العسكري وأهل بيته وحتَّى أُمِّه وكثير من الشيعة وشيعة الإمام العسكري ما عدا فرقة واحدة من أربع عشرة فرقة اعترفوا بالظاهر من عدم وجود ولد للإمام العسكري، وقالت الفرقة الرابعة عشرة بأنَّه وُلِدَ سرًّا، وأنَّهم على ارتباط معه، ورووا روايات كثيرة حول إخبار الإمام العسكري لهم سرًّا ورؤيتهم لولده في حياة أبيه.
إنَّ الرواية التاريخيَّة الظاهريَّة للأحداث بعد وفاة الإمام الحسن السكري تقول: إنَّ الإمام لم يخلف ولداً لا ذَكَراً ولا أُنثى، وإنَّه أوصى بأمواله لأُمِّه (حديث)، ولذلك فقد ادَّعى أخوه جعفر الإمامة وتبعه قوم من الشيعة(٣١٨). أمَّا رواية (النوَّاب)(٣١٩) فتقول: إنَّه كان ثَمَّة ولد مخفي مستور للإمام العسكري، وقد ادَّعوا النيابة عنه والوكالة له. وأنَّ تصديقهم يجرُّ إلى التصديق بوجود (الحجَّة بن الحسن)، ولكن التشكيك بقولهم لا يُثبِت شيئاً من الرواية السرّيَّة بوجود ولد للإمام العسكري، فهل كانوا صادقين حقًّا؟ وهل أجمع الشيعة على وثاقتهم؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣١٨) لم يتَّبع جعفراً أحدٌ من الشيعة، وإنَّما امتحن وعلى ضوء الامتحان أعزب عنه ولم يعر له أحد من الشيعة أيَّ اهتمام.
(٣١٩) بيَّنَّا كثيراً فيما سبق أنَّ هناك روايات صحاحاً تُثبِت ولادته (عليه السلام)، وأنَّ هناك روايات متواترة عن الأئمَّة (عليهم السلام) تُخبر عن ولادته وغيبته و...، ولا أدري كأنَّ الكاتب لم يقرأ ما عُرِضَ من قبل.
↑صفحة ٣٩٤↑
وكيف صدَّقوهم؟ وما هو الدليل على صحَّة كلامهم؟ وهل هناك ما يدعو إلى التشكيك بهم والريب في دعواهم النيابة عن (الإمام المهدي) والشكِّ في وجوده؟
قبل أنْ نُقيِّم تلك الروايات التي وردت بمدحهم وتوثيقهم، لا بدَّ أنْ نشير إلى أنَّ ظاهرة ادِّعاء النيابة عن (الإمام المهدي) هذه لم تكن أوَّل ظاهرة في تاريخ الشيعة، حيث سبقتها وسبقت هؤلاء (النوَّاب الأربعة) ظواهر أُخرى ادَّعى فيها كثير من الأشخاص النيابة والوكالة عن الأئمَّة السابقين الذين ادُّعيت لهم المهدويَّة، كالإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، الذي ادَّعى كثير من أصحابه استمرار حياته وغيبته ومهدويَّته، وكان منهم محمّد بن بشير الذي ادَّعى النيابة عنه، ثمّ ورَّث النيابة إلى أبنائه وأحفاده.
وقد ادَّعى النيابة عن (الإمام محمّد بن الحسن العسكري) بضعة وعشرون شخصاً، كان منهم الشريعي والنميري والعبرتائي والحلَّاج وغيرهم، وذلك لأنَّ دعوى النيابة كانت تجرُّ مصالح مادّيَّة ومكانة اجتماعيَّة سياسيَّة للمدَّعي، خاصَّةً وأنَّ المدَّعي كان يهمس بها في السرِّ وينهي عن التحقيق في دعواه، ويستغلُّ علاقاته السابقة بالإمام فيدَّعي استمرار حياته أو وجوده والنيابة عنه. وكانت دعواه تنطلي على البسطاء ويرفضها الأذكياء المحقِّقون الواعون.
وقد رفض الشيعة الإماميَّة دعوى أكثر من عشرين مدَّعياً للنيابة عن (الإمام المهدي ابن الحسن العسكري) واتَّهموهم بالكذب والتزوير، كما شكَّكوا بصحَّة دعوى أُولئك (النوَّاب الأربعة) واختلفوا حولهم، ولم يكن في الروايات التي أوردها المؤرِّخون دليلٌ علميٌّ قويٌّ على صدقهم وصحَّة دعاواهم، وهذا ما يجعل هؤلاء قسماً من المدَّعين الكاذبين المتاجرين بقضيَّة (الإمام المهدي).
لقد اعتمد الشيخ الطوسي في توثيق عثمان بن سعيد العمري على عدَّة
↑صفحة ٣٩٥↑
روايات، وكان بعضها كرواية أحمد بن إسحاق القمِّي، ينصُّ على توثيقه من قِبَل الإمام الهادي والإمام العسكري في المحيا والممات، وأنَّه الوكيل والثقة المأمون على مال الله، وليس فيها ما ينصُّ على نيابة العمري عن الإمام (المهدي)، ولكن بعض الروايات كان ينصُّ بصراحة على إعلان الإمام العسكري خلافة العمري للإمام المهدي، إلَّا أنَّ سند هذه الرواية ضعيف جدًّا، وذلك لاشتماله على (جعفر بن محمّد بن مالك الفزاري) الذي يقول عنه النجاشي وابن الغضائري: إنَّه كذَّاب متروك الحديث، وكان في مذهبه ارتفاع (غلوٌّ)، ويروي عن الضعفاء والمجاهيل، وكلُّ عيوب الضعفاء مجتمعة فيه، وقد روى في مولد القائم أعاجيب، وكان يضع الحديث وضعاً، وأنَّه كان فاسد المذهب والرواية(٣٢٠).
أمَّا الرواية السابقة التي تتحدَّث عن وثاقة العمري وأمانته ووكالته فإنَّها مجهولة، ويوجد في سندها الغالى (الخصيبي)، وهي تنطوي على دعوى علم الإمام العسكري بالغيب ومعرفته بوفد اليمن قبل أنْ يراهم (الطوسي/ الغيبة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٢٠) قد بيَّنَّا كذب ادِّعائه في تضعيف الفزاري، وللقارئ أنْ يرجع إلى ما ذكرناه في ذلك. ثمّ إنَّه قد روى الشيخ في الغيبة بسند صحيح اعلائي كلُّهم من أعلام الطائفة الإماميَّة ومراجعها عن أحمد ابن إسحاق بن سعد القمِّي الذي هو من أبرز وجوه الطائفة الإماميَّة، ومن أصحاب العسكري (عليه السلام)، وهي الرواية الثانية التي ذكرها في ترجمة النائب الأوَّل، وكذا الرواية الثالثة. وكذا الرواية الأُولى والثانية التي ذكرها الشيخ الطوسي في النائب الثاني فإنَّها مشتملة على توكيله وتوكيل أبيه، وقد رواها الشيخ بطُرُق أُخرى من الصحيح الأعلائي، كلُّ أفراد السند من مراجع الطائفة وأعلامها فيما يوجب القطع بالصدور. هذا فضلاً عن بقيَّة الروايات العديدة المعتبرة التي ذكرها الشيخ في ترجمة النائب الأوَّل والثاني. فضلاً عن الروايات التي ذكرها الكليني والنعماني والصدوق. وهذه الروايات الصحاح الأربع الأعلائيَّة التي يُقطَع بصدروها. لأنَّ الرواة هم أوتاد الطائفة وأعيانها الذين لا يستريب في فقاهتهم وعدالتهم وورعهم المخالفون فضلاً عن علماء وأبناء الطائفة هي عينة ونمط من الروايات في الدليل التاريخي على ولادة المهدي (عليه السلام).
↑صفحة ٣٩٦↑
ص ٢١٥ و٢١٦)، وهذه الدعوى من مفاهيم الغلاة. وإنَّ الرواية الأُولى تقول: إنَّ العسكري أخبر باستقامة العمري في المستقبل بعد وفاته، وهذا ما لا يعلمه إلَّا الله، وهو من علم الغيب أيضاً.
ومن هنا، وبعد سقوط هذه الروايات لضعفها متناً وسنداً، فإنَّا نكاد نحصل على نتيجة واحدة، هي: أنَّ العمري الذي كان وكيلاً للإمامين الهادي والعسكري في قبض الأموال، قد استصحب الوكالة وادَّعى وجود (ولد) للإمام العسكري، ليدَّعي الوكالة له، دون أنْ يُقدِّم دليلاً واضحاً وأكيداً على ما يقول. ولذلك لا يُؤكِّد المؤرِّخون بصراحة على توكيل (المهدي) له، وهذا الطبرسي الذي كان حريصاً على تدوين كلَّ ما وصل إليه لا يقول في كتابه (الاحتجاج) أكثر من: (إنَّ العمري قام بأمر صاحب الزمان، وكانت توقيعاته وجوابات المسائل تخرج على يديه). (بحار الأنوار: ج ٥١/ ص ٣٦٢).
ولم يذكر المؤرِّخون الشيعة أيَّة (معجزة) له تُثبِت دعواه في النيابة بالرغم من قول السيِّد عبد الله شُبَّر في (حقِّ اليقين): إنَّ الشيعة لم تقبل قول النوَّاب إلَّا بعد ظهور آية معجزة تظهر على يد كلِّ واحدٍ منهم من قِبَل صاحب الأمر، تدلُّ على صدق مقالتهم وصحَّة نيابتهم. (المصدر: ص ٢٢٤).
أمَّا (النائب الثاني: محمّد بن عثمان بن سعيد العمري)، فلم يذكر المؤرِّخون الشيعة أيَّ نصٍّ مباشر عليه من (المهدي) بتعيينه نائباً عنه، وقال الطوسي: إنَّه قام مقام أبيه بنصِّ أبي محمّد (الحسن العسكري) عليه ونصِّ أبيه عثمان بأمر القائم. (الغيبة: ص ٢١٨).
وذكر الطوسي رواية عن عبد الله بن جعفر الحميري القمِّي، أنَّه قال: إنَّ المهدي قد أرسل إلى العمري (توقيعاً) يُعزِّيه فيه بوفاة والده عثمان بن سعيد، ويحمد الله على قيامه مقامه، ويدعو له بالتوفيق. وإنَّ الكُتُب أتتنا بالخطِّ الذي كنَّا
↑صفحة ٣٩٧↑
نكاتب به بإقامة أبي جعفر مقام أبيه. كما نقل الطوسي رواية أُخرى عن محمّد بن إبراهيم بن مهزيار الأهوازي، وأُخرى عن إسحاق بن يعقوب عن الإمام المهدي يشهد بوثاقته ويترضَّى عليه.
وكلُّ هذه روايات تُنقَل بواسطة العمري نفسه، وهو ما يُضعِّف الرواية. ولا يوجد أيُّ طريق لإثبات دعوى أنَّ العمري عثمان بن سعيد قد نصَّ على ابنه محمّد بأمر القائم، ويبدو أنَّه تخمين من قِبَل الطوسي، كما لا يوجد في الحقيقة أيُّ دليل لإثبات النصِّ من الأب على الابن سوى الوراثة والادِّعاء.
إنَّ المشكلة الكبرى تكمن في صعوبة التأكُّد من صحَّة (التواقيع) التي كان يُخرجها العمري وينسبها إلى (الإمام المهدي)، وخاصَّةً التوقيع الذي رواه الحميري القمِّي، حيث لم يذكر طريقة إلى (الإمام الغائب)، ممَّا يحتمل قويًّا أنْ يكون العمري قد كتبه بيده ونسبه إلى (المهدي)، خاصَّةً وأنَّه يكيل المدح والثناء لنفسه فيه، ممَّا يلقي بظلال الشبهة عليه لو كان الإمام ظاهراً، فكيف وهو غائب؟ ولا يوجد أيُّ راوٍ للتوقيع سوى العمري نفسه، ولم يقل الحميري كيف سارع إلى تصديق التوقيع مع وجود الجدل في ذلك الزمان بين الشيعة حول صدق العمري في دعوى النيابة؟ مع احتمال اختلاق الحميري القمِّي نفسه للتوقيع ونسبته إلى (المهدي).
وأمَّا رواية محمّد بن إبراهيم بن مهزيار الأهوازي، فهي ضعيفة، لأنَّه يعترف بأنَّه كان يشكُّ في وجود المهدي في البداية، وقد ادَّعى الوكالة بعد ذلك في أعقاب لقائه بالعمري في بغداد، وبالتالي فإنَّه مشكوك في أمره، ولا يقول هنا كيف خرج التوقيع إليه مباشرةً أو عبر العمري؟ فإنْ كان يدَّعي أنَّه وصله مباشرةً، فكيف؟ وهل رأى المهدي بنفسه؟ وهو لا يدَّعي ذلك. أم عن طريق العمري؟ وهذا ما يثير الشكَّ أيضاً.
↑صفحة ٣٩٨↑
وأمَّا الرواية الثالثة (رواية إسحاق بن يعقوب) التي تُصرِّح بأنَّها واردة عن طريق العمري، فإنَّها ضعيفة، لوجود الشكِّ باختلاق العمري لها، ولمجهوليَّة وضعف إسحاق بن يعقوب، وعدم تصريحه بكيفيَّة التعرُّف على خطِّ المهدي، علماً بأنَّ الطوسي يقول: إنَّ الخطوط التي كانت تخرج بها التوقيعات هي نفس الخطوط التي كانت تخرج في زمان العسكري. (الغيبة: ص ٢١٦).
وأخيراً فإنَّ حكاية رؤية محمّد بن عثمان العمري للمهدي في الحجِّ، هي دعوى مجرَّدة عن الدليل، وهو لم يقل كيف تعرَّف على المهدي الذي لم يرَه من قبل؟ وربَّما كان قد اشتبه به مع رجل آخر.
ومن هنا فقد توقَّف أحمد بن هلال العبرتائي (شيخ الشيعة في بغداد) - الذي نقل الفزاري عنه أنَّه شهد مجلس عرض العسكري للمهدي وتعيين العمري خليفة له - وشكَّك في صحَّة دعوى العمري الابن في النيابة الخاصَّة عن المهدي، وأنكر أنْ يكون سمع الإمام العسكري ينصُّ عليه بالوكالة، ورفض الاعتراف به بوكالته عن (صاحب الزمان). (الخوئي/ معجم الرجال: ج ٢/ ص ٥٢١) و(الطبرسي/ الخاتمة: ص ٥٥٦) و(النجاشي/ الرجال).
وكان العبرتائي قد لعب دوراً كبيراً في دعم دعوى عثمان بن سعيد العمري بالنيابة، وكان يأمل أنْ يُوصي إليه من بعده، فلمَّا أوصى إلى ابنه محمّد رفض ذلك وادَّعى هو النيابة لنفسه، ممَّا يكشف عن التواطؤ والمصلحيَّة في دعاوى (النيابة الخاصَّة).
ونتيجةً لغياب النصوص الصحيحة والمؤكِّدة على نيابة محمّد بن عثمان العمري، فقد شكَّ الشيعة في دعواه، وروى المجلسي في (بحار الأنوار): أنَّ الشيعة كانوا في حيرة ولم يكونوا يثقون بدعاوى النيابة الكثيرة، وقال: إنَّ أبا العبَّاس أحمد السرَّاج الدينوري سأل العمري عن الدليل الذي يُؤكِّد صحَّة
↑صفحة ٣٩٩↑
ادِّعائه، وأنَّه لم يؤمن به إلَّا بعد أنْ أخبره شخص بالغيب وقدَّم له (معجزة). (المصدر: ج ٥١).
وقد اشتهر عند الشيعة تلك الأيَّام حديث عن أهل البيت (عليهم السلام) يقول: (خُدَّامنا وقُوَّامنا شرار خلق الله)، ممَّا دفعهم للتشكيك بصحَّة دعاوى النيابة الخاصَّة، وقد أكَّد الشيخ الطوسي صحَّة ذلك الحديث، ولكنَّه قال: إنَّه ليس على عمومه، وإنَّما قالوا لأنَّ فيهم من غيَّر وبدَّل وخان. (الغيبة: ص ٢٤٤).
وقد ندم بعض الشيعة على إعطاء الأموال إلى العمري، كما شكُّوا بوجود المهدي والتواقيع التي كان يُخرجها العمري وينسبها إليه، وكان منهم قسم من أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا ما دفع العمري إلى أنْ يُصدِر كتاباً على لسان المهدي يُندِّد بالشاكِّين والمنكرين لوجود المهدي.
كما شكَّ قسم آخر بصحَّة وكالة النوبختي، وتساءل عن مصرف الأموال التي كان يقبضها باسم الإمام المهدي، وقال: إنَّ هذه الأموال تخرج في غير حقوقها، ويقول الصدوق والطوسي: إنَّ النوبختي استطاع أنْ يقنعهم عن طريق المعاجز والإخبار بالغيب، كتحديد وفاة بعض الأشخاص مسبقاً، والتقاطه لدراهم من صُرَّة شخص على مسافة بعيدة. (الطوسي/ الغيبة: ص ١٩٢). و(الصدوق/ إكمال الدِّين: ص ٥١٦ - ٥١٩).
وفي الحقيقة أنَّ المؤرِّخين الشيعة يذكرون قَصصاً كثيرة عن شكِّ الناس بالمدَّعين للنيابة وتكذيب بعضهم للبعض الآخر، ولكن عامَّة الاثني عشريَّة يُميِّزون أُولئك (النوَّاب الأربعة) عن بقيَّة المدَّعين المذمومين بقدرة أُولئك على اجتراح المعاجز وعلمهم بالغيب. وقد ذكر الكليني والمفيد والطوسي عشرات القَصص التي تتحدَّث عن قيام النوَّاب الأربعة بفعل المعاجز الخارقة للعادة، وإخبارهم بالمغيَّبات. ونقل الطوسي عن (هبة الله) حفيد العمري: أنَّ معجزات الإمام ظهرت على يديه، وأنَّه كان يُخبر عن الغيب. (الغيبة: ص ٢٣٦).
↑صفحة ٤٠٠↑
وذكر الطوسي: خبراً عن عليِّ بن أحمد الدلَّال: أنَّ العمري أخبره بساعة وفاته من يوم كذا وشهر كذا وسنة كذا، فمات في اليوم الذي ذكره من الشهر الذي ذكره من السنة التي ذكرها، وكان ذلك في آخر جمادي الأُولى من سنة (٣٠٥هـ). (الغيبة: ص ٢٢١).
ولكن هذا القول كان يخالف مبادئ التشيُّع وأحاديث أهل البيت (عليهم السلام) الذين كانوا ينفون علمهم بالغيب أو استخدام الطريقة الإعجازيَّة الغيبية لإثبات إمامتهم. يقول الشيخ الصدوق في (إكمال الدِّين): الإمام لا يعلم الغيب، وإنَّما هو عبد صالح يعلم الكتاب والسُّنَّة، ومن ينحل للأئمَّة علم الغيب فهذا كفر بالله وخروج عن الإسلام عندنا، وإنَّ الغيب لا يعلمه إلَّا الله، وما ادَّعاه لبشر إلَّا مشرك كافر. (المصدر: ص ١٠٦ و١٠٩ و١١٦).
وقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): «يا عجباً لأقوام يزعمون أنَّا نعلم الغيب! والله لقد هممت بضرب جاريتي فلانة فهربت منِّي فما علمت في أيِّ بيوت الدار هي». (الحرُّ العاملي/ إثبات الهداة: ج ٣/ ص ٧٤٨).
وجاء أبو بصير ذات مرَّة إلى الإمام الصادق وقال له: إنَّهم يقولون... إنَّك تعلم قطر المطر وعدد النجوم وورق الشجر ووزن ما في البحر وعدد التراب، فقال: «سبحان الله! سبحان الله! لا والله ما يعلم هذا إلَّا الله». (المصدر: ص ٧٧٢).
وسأل يحيى بن عبد الله الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) فقال: جُعلت فداك إنَّهم يزعمون أنَّك تعلم الغيب؟ فقال: «سبحان الله! ضع يدك على رأسي، فوَالله ما بقيت شعرة فيه وفي جسدي إلَّا قامت، لا والله ما هي إلَّا وراثة من رسول الله». (المصدر: ص ٧٦٧؛ والمفيد/ الأمالي: ص ٢٣).
وفي رواية أُخرى ينقلها الحرُّ العاملي، يقول فيها الإمام: «قد آذانا جهلاء الشيعة وحمقاؤهم ومن دينه جناح البعوضة أرجح منه... إنِّي بريء إلى الله وإلى رسوله ممَّن يقول: إنَّا نعلم الغيب». (المصدر: ص ٧٦٤).
↑صفحة ٤٠١↑
إذن فلا يمكننا أنْ نُصدِّق بدعوى أُولئك النوَّاب بالنيابة عن الإمام المهدي، ونعتبر قولهم دليلاً على وجود الإمام، استناداً إلى دعاوى المعاجز أو العلم بالغيب. ولا يمكننا أنْ نُميِّز دعواهم عن دعوى أدعياء النيابة الكاذبين الذين كانوا يتجاوزون الأربعة والعشرين.
وإذا كنَّا نتَّهم أدعياء النيابة الكاذبين بجرِّ النار إلى قرصهم وكلُّهم من أصحاب الإمام العسكري، وبالحرص على الأموال والارتباط بالسلطة العبَّاسيَّة القائمة يومذاك، فإنَّ التهمة تتوجَّه أيضاً إلى أُولئك (النوَّاب الأربعة) الذين لم يكونوا بعيدين عنها.
يقول محمّد بن عليٍّ الشلمغاني الذي كان وكيلاً عن الحسين بن روح النوبختي في بني بسطام، ثمّ انشقَّ عنه وادَّعى النيابة لنفسه: ما دخلنا مع أبي القاسم الحسين بن روح في هذا الأمر إلَّا ونحن نعلم فيما دخلنا فيه، لقد كنَّا نتهارش على هذا الأمر كما تتهارش الكلاب على الجيف. (الغيبة: ص ٢٤١).
وإذا لم نستطع إثبات دعاوى (النوَّاب الأربعة) وشككنا في صحَّة أقوالهم، فكيف نستطيع إثبات وجود (الإمام محمّد بن الحسن العسكري)، بناءً على شهادتهم باللقاء به والوكالة عنه؟
وإضافةً إلى هذا الشكِّ، هناك دليل آخر على كذب أدعياء النيابة، وهو عدم قيامهم بأيِّ دور ثقافي أو فكري أو سياسي لخدمة الشيعة والمسلمين ما عدا جباية الأموال والادِّعاء بتسليمها إلى (الإمام المهدي).
وكان المفترض بالنوَّاب الذين يدَّعون وجود صلة خاصَّة بينهم وبين (الإمام المهدي) أنْ يحلُّوا مشاكل الطائفة وينقلوا توجيهات الإمام إلى الأُمَّة، ولكنَّا نرى (النائب الثالث): الحسين بن روح النوبختي، مثلاً، يلجأ إلى علماء قم ليحلُّوا له مشكلة الشلمغاني الذي انشقَّ عنه، ويُرسِل كتابه (التأديب) إلى قم، ليُبيِّن علماؤها له الصحيح والسقيم، كما يقول الشيخ الطوسي في الغيبة (ص ٢٤٠).
↑صفحة ٤٠٢↑
إنَّ في ذلك دلالة على عدم وجود أيِّ اتِّصال بينه وبين (المهدي)، وإلَّا لكان عرض الكتاب عليه وسأله عن صحَّته.
وممَّا يُعزِّز الشكَّ في عدم وجود (المهدي محمّد بن الحسن العسكري) هو عدم قيام أدعياء النيابة بملأ الفراغ الفقهي وتوضيح كثير من الأُمور الغامضة التي كان يجب عليهم تبيانها في تلك المرحلة، ومن المعروف أنَّ الكليني قد ألَّف كتاب (الكافي) في أيَّام النوبختي، وقد ملأه بالأحاديث الضعيفة والموضوعة التي تتحدَّث عن تحريف القرآن وأُمور أُخرى باطلة، ولكن النوبختي أو السمري لم يُعلِّقا على الموضوع ولم يُصحِّحا أيَّ شيء من الكتاب، ممَّا تسبَّب في أذيَّة الشيعة عبر التاريخ وأوقعهم في مشكلة التعرُّف على الأحاديث الصحيحة من الكاذبة.
ولقد أبدع السيِّد المرتضى نظريَّة (اللطف) التي يقول فيها: إنَّ الإمام المهدي يجب أنْ يتدخَّل ليُصحِّح اجتهادات الفقهاء في عصر الغيبة ويُخرِّب إجماعهم على الباطل. وبناءً على ذلك كان الأجدر والأولى والأيسر أنْ يُصحِّح (الإمام المهدي) لو كان موجوداً، كتاب الكليني، أو يترك وراءه في (عصر الغيبة الكبرى) كتاباً جامعاً يرجع إليه الشيعة. وهذا ما لم يحصل، ولم يُقدِّم أدعياء النيابة أيَّ شيء يُذكر في هذا المجال، وهذا ما يدفعنا للشكِّ في صدقهم، وفي دعواهم بوجود (إمام غائب) من ورائهم.
وقد تعجَّب الشيخ حسن الفريد (زميل الإمام الخميني) في كتابه (رسالة في الخُمُس) واستغرب بحيرة وتساءل عن السرِّ وراء عدم سؤال الكليني من (صاحب الزمان) عبر وكيله النوبختي عن حكم مسألة الخُمُس في (عصر الغيبة). (المصدر: ص ٨٧).
ومن هنا فإنَّا لا نفتري على أصحاب الإمام العسكري الثقات وإنَّما نشكُّ
↑صفحة ٤٠٣↑
في روايتهم السرّيَّة المخالفة للظاهر، ونشكُّ بصدق الرواة من الفرقة الاثني عشريَّة الذين خالفوا كافَّة الشيعة والإماميَّة وأهل البيت، ولا يمكن أنْ نرفع اليد عن الظاهر إلَّا بدليل قويٍّ، ولا يوجد هذا الدليل.
ولا نعتقد بوجود تواتر على بعض الأخبار التي ينقلونها عن الإمام العسكري أنَّهم سمعوا منه أو شاهدوا ابنه سرًّا، لأنَّا نحتمل تواطؤهم على الكذب في قضيَّة حدث فيها خلاف كبير بين الشيعة أنفسهم.
وإذا كان السيِّد الجليل الأُستاذ أبو التلاميذ يودُّ مناقشة كتابي (تطوُّر الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه) الذي أنفي فيه ولادة ووجود الإمام الثاني عشر وأقول: إنَّه فرضيَّة فلسفيَّة قبل أنْ يكون حقيقة تاريخيَّة، فأرجو منه أنْ يقرأ الكتاب بتأنٍّ ويعرف أنِّي قد ذكرت معظم القَصص التي ذكرها وناقشتها بتفصيل ولا يُتعِّب نفسه بتكرار ذكر تلك الروايات والقَصص ويوافيني ولو بعد حين بردٍّ مفصَّل كامل شامل وينشر ردَّه على الملأ. وشكراً جزيلاً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٤/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٨:١٥) مساءً.
التلميذ عضو:
إلى أحمد الكاتب..
الرجاء أوَّلاً أنْ تجيب على أسئلتي التي طلبت منك الإجابة عليها(٣٢١).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٢١) قد تكرَّر سؤال الأُستاذ التلميذ لأحمد الكاتب حول رأيه في الروايات الصحيحة التي ذكرها الأُستاذ التلميذ من كتاب (بصائر الدرجات) والتي تُثبِت الإمامة لاثني عشر بعد أنْ أنكر الكاتب وجود مثل هذه الروايات، ولحدِّ الآن لم يجب الكاتب عن أسئلة الأُستاذ التلميذ. راجع صفحة (١٥٣) و(١٦٠) و(١٦٣) و(٣٤٢).
↑صفحة ٤٠٤↑
حُرِّر بتاريخ (٢٤/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٩:٥٧) مساءً.
(جميل ٥٠) عضو:
أحمد الكاتب..
لا حاجة إلى التعليق على كلِّ ما ذكرته هنا نقطة نقطة، ولكن أجب التلميذ على مساءلاته بنفس الثقة التي ظهرت بها أوَّل ما ظهرت.
ثمّ إنَّ من الحياد عن أُسلوب الحوار هذه الإحالات التي تستخدمها بقولك: ارجع، أو اقرأ كتابي بتأنٍّ، وسبق أنْ وجَّهت إليك رسالة كان منها أنْ تعتبر كلَّ شيء جديداً، فكأنَّك لم تكتب وكأنَّنا لم نقرأ لك!
وإلَّا كان عليك أنْ تردَّ دعوة قناة الجزيرة مثلاً وتقول لهم: اقرأوا كتابي ولا داعي للتكلُّم على الشاشة وجرح مشاعر طائفة عظمى من المسلمين حيث سيكون لهم يوم في هجر كما كان لك يوم في... أليس كذلك؟!
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٤/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٠:٠٩) مساءً.
التلميذ عضو:
الأُستاذ أحمد الكاتب..
وعليك السلام ورحمة الله وبركاته..
أوَّلاً: قلت: (علمت من بعض الإخوة المتحاورين أنَّ السيِّد الذي يُسمِّي نفسه هنا في هذا الموقع بالتلميذ ما هو إلَّا عالم كبير ورجل جليل، وقد وددت لو يفصح لنا السيِّد التلميذ عن اسمه وهويَّته ويدخل الحوار باسمه الصريح لأنَّ ذلك أدعى للجدّيَّة والالتزام بآداب الحوار والتأثير في الناس وأبعد عن السخرية والاستهزاء والجدال...).
أقول:
↑صفحة ٤٠٥↑
١ - أنَّ الذي أخبرك بأنِّي عالم كبير من الإخوة الأحبَّة الكرام المتحاورين فما هو إلَّا مشتبه في ذلك، فأنا خادم العلماء وتلميذ من تلامذتهم، وأغلب الإخوة في هذه الساحة يعرفون من أنا وما هو مستواي العلمي، فأُكرِّر وأقول: أنا لست بعالم كبير ولا شيء من ذلك، وما أظنُّ كلامك أعلاه إلَّا محاولة منك لتفهيم القارئ الكريم وإيهامه بأنَّك تحاور هنا بعضاً من كبار علماء الشيعة. وإلَّا فهل تُخبرني مَنْ مِنَ الإخوة المحاورين هنا أخبرك بأنِّي عالم كبير من علماء الشيعة؟ لأستعلم منهم من أين حصلوا على هذه المعلومات عنِّي، أو من الذي أخبرهم بذلك؟
٢ - طلبت منِّي أنْ أفصح عن نفسي وأُخبرك عن هويَّتي، فهذا في نظري ممَّا لا يهمُّ في نفس الحوار أو مساره، فإنَّ القارئ الواعي لا ينظر إلى من قال وإنَّما ينظر إلى ما قال، فإنْ كان ما قال حقٌّ وصدق وعن دليل وبرهان أخذ به وأقرَّه ولا يهمُّه ممَّن صدر هذا القول ومن قائله بقدر ما يهمُّه صحَّة القول والبرهنة الصحيحة عليه. واطمئنَّ أنَّه إنْ تواصل بيننا الحوار ففي الختام سأُخبرك من أنا وما هو مستواي العلمي، فلا تستعجل هذا الأمر.
٣ - لقد التزمت معك أدب الحوار والجدّيَّة فيه، ولم يكن في حواري معك شيء من الجدال أو السخرية أو الاستهزاء، وإذا كان هناك من يلف ويدور ويحاول التهرُّب وحشو الكلام وعدم الجدّيَّة في الحوار فهو أنت لا أنا، وعدم مواصلتك الردَّ على ردودي أو عدم الجواب على أسئلتي لخير دليل على ما أقول من أنَّك غير جادٍّ في الحوار وتسعى للجدال أكثر من أنَّك تريد الحوار وتسعى إليه وتبغي بيان الحقيقة والانصياع إليها.
ثانياً: قلت: (سيِّدي الجليل أعتقد أنَّك تتَّفق معي على أنَّ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) تُوفِّي دون أنْ يُعلِن عن وجود ولد له...).
↑صفحة ٤٠٦↑
أقول: لا، من قال: إنِّي أتَّفق معك أنَّ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) تُوفِّي دون أنْ يُعلِن عن وجود ولد له؟ والخبر الصحيح الذي رواه الثقات يُثبِت أنَّ الإمام (عليه السلام) أخبر عن ذلك وأعلنه لبعض خواصِّ شيعته، وقد نقلت لك هذا الخبر سابقاً عن الشيخ الكليني (عليه الرحمة) في كتابه (الكافي) في المجلَّد الأوَّل (ص ٣٢٨)(٣٢٢).
ويُؤيِّد هذا الخبر أيضاً خبر آخر رواه الشيخ الصدوق (عليه الرحمة) في كتابه (كمال الدِّين وتمام النعمة) وفي كتابه (عيون أخبار الرضا (عليه السلام))، عن دعبل بن عليٍّ الخزاعي(٣٢٣).
ويُؤيِّد كلَّ ذلك الخبر الصحيح الذي رواه الشيخ الكليني (عليه الرحمة) في كتابه (الكافي) عن محمّد بن عبد الله ومحمّد بن يحيى جميعاً، عن عبد الله بن جعفر الجعفري، وقد ذكرته لك فيما سبق من كلامي(٣٢٤).
فما لك أيُّها الكاتب تقرأ التاريخ مقلوباً وتفهم أحداثه معكوسة؟ فما دام الخبر الصحيح عن الأئمَّة (عليهم السلام) يقول بأنَّ الإمام الثاني عشر ابن الإمام الحادي عشر الحسن العسكري تخفى ولادته، ويغيب عن أعين الناس شخصه، ولا يراه إلَّا بعض الخُلَّص من شيعته، وأنَّ بعض الناس يكونون في حيرة وشكٍّ من أمر ولادته، بل إنَّ الخبر ورد فيه أنَّهم يُنكِرون ولادته، فالفهم الصحيح لهذا الأمر والحدث هو إثبات ولادة الإمام والقول بها لا نكرانها من قِبَلك، هذا هو الفهم الصحيح أيُّها الكاتب للرواية التاريخيَّة هذه، وهذا الحدث لا ما أنت ذهبت إليه من الاعتماد على قول النافين الذين نفوا ولادته لعدم ثبوت ذلك لديهم أو من هم لهم أهداف وأغراض في نفي ولادته ووجوده (عجَّل الله فرجه) كجعفر الكذَّاب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٢٢) راجع نصَّ الرواية في صفحة (١٠٠) من هذا الكتاب.
(٣٢٣) راجع نصَّ الرواية مع تعليق التلميذ عليها في صفحة (١٦١) من هذا الكتاب.
(٣٢٤) راجع نصَّ الرواية في صفحة (١٤٩) من هذا الكتاب.
↑صفحة ٤٠٧↑
ثالثاً: قلتَ: (لقد اعتمد الشيخ في توثيق عثمان بن سعيد العمري على عدَّة روايات...) إلى آخر كلامك عن عثمان بن سعيد العمري وابنه.
أقول: قولك أعلاه يُكذِّبه الخبر الصحيح الذي ذكرته لك عن الشيخ الكليني في كتابه (الكافي) عن محمّد بن عبد الله ومحمّد بن يحيى جميعاً، عن عبد الله بن جعفر الجعفري، فراجع(٣٢٥).
وهذا الخبر الصحيح دليل صريح على وثاقة عثمان بن سعيد العمري وابنه محمّد بن عثمان، فلماذا هذا التدليس أيُّها الكاتب واتِّهام العلماء بأنَّهم اعتمدوا في توثيقهم للعمري وابنه على روايات ضعيفة، والادِّعاء بعدم وجود رواية صحيحة تشير إلى وثاقتهم؟
رابعاً: لا أحد من الشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة يدَّعي أنَّ الأئمَّة يعلمون علم الغيب الذاتي، ورمي الشيعة بذلك ما هي إلَّا شنشنة نعرفها من أخزم، فإخبار الإمام ببعض الأُمور الغيبيَّة يكون إمَّا عن طريق اطِّلاعه على ذلك من الإمام الذي سبقه الذي هو بدوره أخبر من الإمام السابق والإمام السابق عن سابقه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي اطَّلع على ذلك عن طريق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي أطلعه عليه الوحي عن الله سبحانه وتعالى عالم الغيب الذي لا يُطلِع على غيبه إلَّا من ارتضى من رسول، أو عن طريق ما وصل إلى الإمام من كُتُب وتراث كمصحف فاطمة وغيره، والذي بها ذكر لبعض الأُمور الغيبيَّة والحوادث المستقبليَّة، أو عن طريق تحديث المَلَك للإمام، وأنت تعلم حقيقة العلم أنَّ الشيعة لا يدَّعون علم الغيب الذاتي لواحد من أئمَّتهم، فلماذا تحشر هذه المسألة في موضوع نقاشنا هذا؟ والروايات التي نقلتها في ردِّك أعلاه لخير دليل على ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٢٥) راجع نصَّ الرواية في صفحة (١٤٩) من هذا الكتاب.
↑صفحة ٤٠٨↑
خامساً: أنَّ حصر دعوى إثبات وجود ابن للإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ورؤية الإمام المهدي ووجوده بالنوَّاب الأربعة كما تحاول أنت أنْ توهم القُرَّاء بذلك غير صحيح، فقد نقلنا لك أعلاه ما يدلُّ على بطلان قولك هذا، فقد روي بسند صحيح إثبات ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من غير طريق هؤلاء.
سادساً: قلت: (... ولكنَّنا نرى النائب الثالث الحسين بن روح النوبختي مثلاً يلجأ إلى علماء قم ليُبيِّن علماؤها له الصحيح والسقيم كما يقول الشيخ الطوسي في (الغيبة: ص ٢٤٠) إنَّ في ذلك دلالة على عدم وجود أيِّ اتِّصال بينه وبين المهدي وإلَّا لكان عرض الكتاب عليه وسأل صحَّته).
أقول: لقد طلبت منك سابقاً أنْ تُثبِت صحَّة هذا الخبر من حيث السند ولكنَّك تجاهلت ذلك، فأنت في كلِّ ما تدَّعي لا تعتمد على خبر صحيح أبداً في حين تطالب الطرف الآخر بالسند الصحيح، مع أنَّني اطَّلعت على الخبر الذي رواه الشيخ الطوسي في الغيبة ولم أجد فيه ما يُثبِت دعواك أعلاه، فالخبر هو كالتالي: (... أنفذ الشيخ الحسين بن روح (رضي الله عنه) كتاب التأديب إلى قم، وكتب إلى جماعة الفقهاء بها، وقال لهم: اُنظروا في هذا الكتاب وانظروا فيه شيء يخالفكم؟ فكتبوا إليه: إنَّه كلَّه صحيح وما فيه شيء يخالف إلَّا قوله: الصاع في الفطرة نصف صاع من الطعام، والطعام عندنا مثل الشعير من كلِّ واحدٍ صاع)، فالخبر لم يُخبرنا بما هو الدافع الذي دفع الحسين بن روح إلى إرسال كتابه إلى فقهاء وعلماء قم هل لأنَّه يشكُّ بصحَّة ما في كتابه هذا أو بعضه أم لأمر آخر؟ بل قد يُستفاد كبيراً من هذا الخبر على فرض صحَّته حقيقة اتِّصاله بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وذلك لاحتواء كتابه هذا على ما يوافق مع ما عليه علماء وفقهاء قم إلَّا أمراً واحداً، وهذا ممَّا يُؤكِّد أخذه لذلك عن طريق الحجَّة (عجَّل الله فرجه) وإخبار الحجَّة له بذلك.
↑صفحة ٤٠٩↑
سابعاً: أمَّا إرشادك أيُّها الكاتب لي لقراءة كتابك (تطوُّر الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه) الذي تنفي فيه ولادة ووجود الإمام الثاني عشر، وقولك بأنَّه فرضيَّة فلسفيَّة قبل أنْ يكون حقيقة تاريخيَّة، فأقول لك: لقد قرأت هذا الكتاب، فما وجدت فيه إلَّا المغالطات ونكران الحقائق والفهم الخاطئ للأحداث التأريخيَّة والتفسير السقيم لها، بل وقلب هذه الحقائق وإخفائها والتدليس على القُرَّاء، فقد أنكرت فيه وجود رواية صحيحة تقول بولادة المهدي، وهذا كذب صريح كما بيَّنَّاه. وضعَّفت روايات الاثني عشر في كُتُب أهل السُّنَّة، وهذا كذب صريح أيضاً، فالرواية عندهم صحيحة رواها القوم في صحاحهم وعلى رأسها صحيح البخاري ومسلم، وصحَّحها عدد كبير من علمائهم. ونسبت إلى السيِّد المرتضى رواية وهو إنَّما أتى بها ليردَّها كما أوضح ذلك أحد الإخوة الكرام في أحد ردوده عليك وأظنُّه فرات. وقد كرَّرت مرَّةً أُخرى هنا الروايات الصحيحة الصريحة في إثبات ابن للإمام العسكري والدالَّة على وجود الإمام المهدي، ولا نريد منك إلَّا أنْ تمتلك الشجاعة والجرأة وتكون صريحاً - والصراحة راحة - أنْ تقول بعظمة لسانك: نعم هذه الأخبار والروايات صحيحة عند الشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة كما اعترفت بوجود روايات الاثني عشر في كتاب (بصائر الدرجات) بعد أنْ كنت تُنكِر ذلك، فعليه نُكرِّر طلبنا لك هذا هنا، هل هذه الروايات صحيحة عند الشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة أم لا؟ وهل روايات الاثني عشر عند أهل السُّنَّة صحيحة أم لا؟ فما هو العيب والضرر في أنْ يعترف المرء بخطئه؟ في نظري ليس هناك أيّ عيب أو ضرر خصوصاً إذا كان الشخص ممَّن يدَّعي طلب الحقيقة - كما تقول عن نفسك -، فهيَّا ثمّ هيَّا قل ذلك بجرأة وشجاعة. ثمّ إنَّ الكثير ممَّا أوردته في ردِّك أعلاه قد أوردته أيضاً في ردٍّ سابق عليَّ كما في مسألة الكليني وكتاب (الكافي)، وقد سألتك
↑صفحة ٤١٠↑
هناك: ما هي العلاقة بين تأليف الشيخ الكليني لكتاب (الكافي) وإثبات ولادة الإمام المهدي وحقيقة شخصيَّته التاريخيَّة؟ فلم تجب ولم تردّ.
كما أنَّه قد ردَّ على كتابك ونشرتك من هو أقدر منِّي علماً وأوسع وأكثر اطِّلاعاً، وفنَّدوا مزاعمك، ولو كنت فعلاً تطلب الحقيقة وليس لك هدف آخر لكان في ردود الشيخ الآصفي والسيِّد البدري والأُستاذ الأخ محمّد منصور كفاية لك. ولكن.. نشكُّ في دعواك هذه.
ثامناً: في حين تقول: (... فإنَّا لا نفتري على أصحاب الإمام الحسن العسكري الثقات...)، فإنَّك في مكان آخر من ردِّك أعلاه تقول عنهم بأنَّهم كذَّابون، وأنَّهم متواطئون على الكذب، وأنَّهم يكذبون في ادِّعاء النيابة، فهل يوجد افتراء أعظم من هذا الافتراء على هؤلاء الثقات؟ واسمح أنْ أُكرِّر قولي لك الذي قلته لك سابقاً بأنَّك حاطب ليل لا تعقل ما تقول.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٥/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٢:٠٩) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
سيِّدي الجليل حضرة الأُستاذ الجليل التلميذ حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
هذا الردُّ كتبته ردًّا على تعقيبكم الأوَّل قبل أنْ أقرأ التعقيب الثاني أعلاه.
سألتني عن الروايات التي وصفتها بالصحَّة بناءً على تعريف علماء الرجال عند الاثني عشريَّة، وقد أجبتك بأنَّ الروايات مطعون بها لأنَّها صادرة عن أركان الفرقة الاثني عشريَّة خلافاً لبقيَّة الشيعة والإماميَّة الذين لم يثقوا بها ذلك اليوم.
وأُضيفك أمراً آخر هو: أنَّ أمر الإمامة الإلهيَّة لا يمكن أبداً أنْ يتلفَّع
↑صفحة ٤١١↑
بالغموض والسرّيَّة والكتمان، لأنَّه يُعطي الشاكِّين والمنكرين حجَّة للتهرُّب والتشكيك، إذ إنَّ لله الحجَّة البالغة، وحينها لن تكون له الحجَّة البالغة، أو بالأحرى لا يمكن إثبات الحجَّة مطلقاً حيث لا يمكن الاعتماد على بعض الرواة الذين يدَّعون أمراً باطنيًّا سرّيًّا غريباً خلافاً للظاهر، وقد قال أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام): «خُدَّامنا وقُوَّامنا شرار خلق الله»، وذلك لما رأوه وتوقَّعوه فيهم من الانحراف والمصلحيَّة والانتهازيَّة والارتزاق.
وأرجو أنْ لا تُكرِّر مرَّةً أُخرى مسألة غموض ولادة بعض الأنبياء أو سرّيَّة وجود الخضر والرجل الصالح، فهؤلاء لم يأمر اللهُ الناسَ بطاعتهم والالتفاف حولهم قبل نبوَّتهم وفي حالة اختفائهم، فالإمام الذي تجب طاعته يجب أنْ يكون حيًّا ظاهراً معروفاً حتَّى يمكن للناس عمليًّا موالاته والسمع والطاعة له والقتال تحت لوائه، أمَّا أنْ يغيب غيبة طويلة دون أنْ يعرفه أحد ولا يجد أيُّ شخص طريقاً للاتِّصال به ثمّ يأمر الله بطاعته، فهذا ما لم يحدث في تاريخ الأنبياء والأئمَّة والعقلاء في العالم. وقد أفتى المرجع الراحل السيِّد محسن الحكيم (رحمه الله) بحرمة اتِّباع قائد مجهول أو الانتماء إلى حزب سرِّي قيادته مجهولة. فضلاً عن عبثيَّة الانقياد إلى قائد موهوم لا يقود أبداً ولا يُوجِّه رعيَّته في صغير أو كبير.
إنَّ المشكلة الرئيسيَّة التي تدفع البعض للتصديق بأقوال أُولئك الأصحاب أدعياء النيابة هي الحيرة التي وقع فيها أصحاب نظريَّة الإمامة التي وصلت إلى طريق مسدود بوفاة الإمام الحسن العسكري دون ولد ظاهر أو باطن، واعتقادهم بضرورة استمرار الإمامة في عقبه بصورة وراثيَّة عموديًّا إلى يوم القيامة. وقد تخلَّى الشيعة عمليًّا عن هذه النظريَّة والتزموا بنظريَّات أكثر واقعيَّة وعقلائيَّة منذ زمن طويل.
↑صفحة ٤١٢↑
وبالرغم من عدم وجود إمام معصوم ظاهر يقود المسلمين أو الشيعة منذ أكثر من ألف عام على الأقلّ، وضياع الشيعة قروناً من الزمن وخروجهم من مسرح التاريخ التزاماً منهم بنظريَّة التقيَّة والانتظار وتحريم إقامة الدولة في عصر الغيبة إلَّا تحت قيادة الإمام المعصوم إلى أنْ تخلَّوا عن هذه النظريَّة وتحرَّروا منها بقولهم بنظريَّة الملك العادل أو الشورى أو ولاية الفقيه. بالرغم من ذلك فإنَّ البعض لا يزال يتشبَّث بالدفاع عن نظريَّة الإمامة المنتهية التي لم ولن يجني منها الشيعة سوى المصائب والأحقاد والعداوات.
إنَّني لا أُريد أنْ أحيل أحداً إلى كتاباتي، ولكنِّي كنت أُحاول أنْ أُشير إلى أنِّي ذكرت معظم - إذا لم يكن كلّ - الروايات النقليَّة والتاريخيَّة والأدلَّة العقليَّة على وجود الإمام الثاني عشر وناقشتها واحدة واحدة، وأرى بعض الإخوة المتحاورين أحياناً يعيدون تقديم بعض الروايات، ولذلك أحببت أنْ أُنبِّه إلى أنِّي ذكرت تلك الروايات وناقشتها بالتفصيل، وحاولت أنْ أضعها بخدمة القُرَّاء والإخوة المتحاورين لكن البعض احتجَّ على تنزيلي إيَّاها في بداية الحوار في هذا الموقع.
وأستغلَّ هذه المناسبة لأطلب من الأُستاذ الجليل التلميذ والإخوة المتحاورين الآخرين: مراجعة فرضيَّة وجود الإمام الثاني عشر بعيداً عن نظريَّة الإمامة، ولا مانع من مراجعة نظريَّة الإمامة نفسها بصورة متكاملة بدءاً من العصمة إلى النصِّ إلى المعاجز إلى علم الأئمَّة إلى التقيَّة إلى البداء إلى تاريخ أهل البيت وأسباب تفرُّق الفِرَق الشيعيَّة التي قاربت خلال القرون الثلاثة الأُولى السبعين فرقة.
إنَّ بحث النظريَّة الإماميَّة وفرضيَّة وجود الإمام الثاني عشر ضرورة ملحَّة اليوم من أجل التعرُّف على فكر أهل البيت السياسي والتزوُّد به في مواجهة
↑صفحة ٤١٣↑
التحدّيات التي تواجه المسلمين والشيعة خصوصاً في مجال العلاقة الداخليَّة بين الحُكَّام والمحكومين وفي مجال العلاقات الخارجيَّة مع سائر الفِرَق الشيعيَّة والإسلاميَّة، وعدم التوغُّل في الأبحاث التاريخيَّة بصورة ترتدُّ سلبيًّا على الشيعة وتُؤلِّب الناس عليهم وتسمح للطغاة والانتهازيِّين والمتكبِّرين باستغلالهم ماليًّا وسياسيًّا ومصادرة حقوقهم وحرّيَّاتهم باسم النيابة عن الإمام المهدي الغائب.
وأنا واثق جدًّا من حبِّ الأُستاذ التلميذ لأهل البيت (عليهم السلام) وحرصه على نشر أفكارهم، وليسمح لي بأنْ أفترض أنَّه يدافع عن بعض أفكار المتكلِّمين الذين دسُّوا أفكارهم في تراث أهل البيت دون علمهم، وخاصَّةً بعد وفاة الإمام الحسن العسكري حيث نسبوا له ولداً دون علمه بصورة افتراضيَّة. كما أنَّني واثق أنَّ البحث والحوار يمكن أنْ يقودانا إلى مزيد من الاقتراب من فكر أهل البيت (عليهم السلام).
* * *
↑صفحة ٤١٤↑
حُرِّر بتاريخ (٢٥/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٢:٢٤) صباحاً.
التلميذ عضو:
الأُستاذ أحمد الكاتب..
أنا سألتك عن صحَّة هذه الروايات عند علماء الشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة هل هي صحيحة أم لا؟ ولم أسألك على رأيك أنت أو من تدَّعي أنَّهم لم يثقوا بهذه الروايات، وكان عليك أنْ تجيبني على سؤالي هذا دون أنْ تُحشِّي لي كلاماً كثيراً، وكان من المفروض عليك أنْ تجيب بصراحة وباختصار هي صحيحة أم لا؟ لأنَّك ادَّعيت أنَّه لا توجد رواية صحيحة عند الشيعة الاثني عشرية تقول بوجود المهدي وولادته، فالسؤال لا زال قائماً، ونريد الجواب باختصار، بنعم أو لا.
* * *
المحافظة على الإخوة كمسلمين شيعة لأهل البيت (عليهم السلام):
حُرِّر بتاريخ (٢٥/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٧:٣١) مساءً.
محمّد منصور عضو:
الردُّ على الكاتب في نقاشه للتلميذ، وعلى مقاله الأخير تحت عنوان (المحافظة على الإخوة كمسلمين شيعة لأهل البيت (عليهم السلام)).
وأبتدأ بأبرز ما يُلفِت النظر ثمّ أُتابع بقيَّة النقاط:
١ - أنَّه وصف مراجع الشيعة الاثني عشريَّة النوَّاب للإمام الثاني عشر بثلاث كلمات بـ (الطغاة، والانتهازيِّين، والمتكبِّرين)، أو الظاهر أنَّها عقدته التي اصطدم بها مع الدولة في إيران.
٢ - وصفه جميع رواة الشيعة الاثني عشريَّة بالتواطؤ على الكذب.
٣ - أنَّه وصف متكلِّمي الشيعة الاثني عشريَّة بأنَّهم دسَّاسة، والظاهر أنَّ مصنع السبِّ على قدم وساق لدى الكاتب المؤدَّب المتحرِّي للحقيقة.
٤ - قال: (وأرجو أنْ لا تُكرِّر مسألة غموض ولادة بعض الأنبياء أو سرّيَّة وجود الخضر والرجل الصالح، فهؤلاء لم يأمر اللهُ الناسَ بطاعتهم والالتفاف حولهم قبل نبوَّتهم وفي حالة اختفائهم، فالإمام الذي تجب طاعته يجب أنْ يكون حيًّا ظاهراً)، إنكاره لموالاة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإنكار لطاعته، فكلُّ التشريعات والأحكام التي أنفذها الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يُنكِر الكاتب الالتزام بها وأنْ لا موالاة ولا طاعة للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأنَّه ليس بحيٍّ ولا ظاهر، قال تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء: ٥٩)، بل لازم قول الكاتب إنكار طاعة الله تعالى، لأنَّ الناس - على قوله - لا يمكنهم عمليًّا موالاة الله وطاعته والقتال بأمر الله تعالى. ولأنَّ الله تعالى - على منطق الكاتب العلماني ولا أدري أنَّ أصدقاءه كالمشارك والغالب والناصر وغيرهم يشاركونه
↑صفحة ٤١٥↑
في هذا الاعتقاد والمنهج أم لا؟! -، ولأنَّ الله تعالى معزول عن التدخُّل في الحكم السياسي والقضائي والتنفيذي في نظام البشر، بل الله تعالى على منطق الكاتب لأنَّ ذاته سرّيَّة وباطنيَّة، وأنَّ الاعتقاد بالله تعالى موروث ويجب تحت شعار التصحيح أنْ نسجد للمادَّة ونعبد الحياة الدنيويَّة، وأنَّ أقصى الغايات هي لذَّة النكاح والأكل والرقص واللهو.
فإنْ رجع عن قوله باشتراط الحياة والظهور في الطاعة والموالاة والمتابعة كي يصحَّ موالاة الله تعالى وطاعته ومتابعته وموالاة وطاعة رسوله ومتابعته، فكذلك الحال في الإمام الحيِّ المستتر تجب طاعته وموالاته ومتابعته، لاسيّما وأنَّ له وكلاء ظاهرون ونوَّاب يمكن للناس الاتِّصال بهم قد عيَّن لهم برنامجاً في مجال الفتيا واستنباط التشريع الإلهي وفي مجال الحكم النيابي والقضائي، ولازم متابعته وموالاته الأخذ بكلِّ أوامره الصادرة عنه أيَّام غيبته الصغرى عبر نوَّابه الأربعة التي جمع الإماميَّة رواياتهم عنه في كُتُبهم. نعم الكاتب يطعن على الإماميَّة ورواتهم ونوَّابه الأربعة بالوضع، لأنَّهم يعتقدون بالإمامة كعهد من الله تعالى، ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ (البقرة: ١٢٤). قال الكاتب: أنا أرفض البحث في ذلك!
وقال الكاتب: (ولا يمكن طاعة وولاية من يكون خفيًّا، فهذا ما لم يحدث في تاريخ الأنبياء والأئمَّة والعقلاء في العالم).
وعلى منهجه فلا يمكن طاعة الله تعالى وولايته، لأنَّ الله تعالى خفي عن الحسِّ البشري وليس بظاهر، فالله تعالى معزول عن أُمور خلقه، وللبشر شأنهم واختيارهم في الطاعة والولاية، والله تعالى مجرَّد إله متفرِّج من بعيد ليس له الأمر والحكم، وأنَّ الله تعالى ليس له في مجال التطبيق والحكم في النظام الاجتماعي والسياسي والقتال أيَّة صلاحيَّة وتدخُّل في أُمور البشر، لأنَّ ذلك غير عملي ومرفوض في التمدُّن الغربي.
↑صفحة ٤١٦↑
وأمَّا حدوث ذلك في تاريخ الأنبياء، فقد قال تعالى عن لسان موسى: ﴿وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (الأعراف: ١٤٢)، وقد استخلف موسى أخاه أربعين ليلة كما تقول الآية نفسها: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾.
نعم قد احتجَّ بنو إسرائيل الذين عبدوا العجل واتَّبعوا السامري وخالفوا وصيَّ وخليفة موسى كما تقول الآية: ﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى﴾ (طه: ٩٠ و٩١). فلقد كان منطقهم أنَّه غير عملي طاعة موسى وقد غاب واستتر ليلاً ونهاراً طوال أربعين يوماً، وقد أجابهم موسى كما في الآية: ﴿فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي﴾ (طه: ٨٦)، فلقد طال على بني إسرائيل العهد كما طال على الكاتب العهد في انتظار الوعد الإلهي في قوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القَصص: ٥)، والوعد في قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ...﴾ (النمل: ٦٢)، والوعد الإلهي على لسان نبيِّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بظهور المهدي من ذرّيَّته يملأ الأرض قسطاً وعدلاً في أحاديث الفريقين المتواترة، فهذا نموذج قرآني لغيبة موسى وقد قال لبني إسرائيل: ﴿بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾ (الأعراف: ١٥٠).
وأمَّا في تاريخ الأئمَّة (عليهم السلام) فلقد كان الكاظم (عليه السلام) مغيَّباً في قعر السجون العديد من السنين من قِبَل الخليفة العبَّاسي - وستسمع الكاتب هاهنا لأنَّه يعتقد
↑صفحة ٤١٧↑
بأنَّ بني العبَّاس لهم سياسة ليِّنة مع البيت العلوي -، ففي بعض الروايات أنَّه سُجِنَ أربعاً وأُخرى سبعاً وثالثة أربع عشرة سنة ولكن كان له وكلاء ترتبط الشيعة عبرهم بالإمام (عليه السلام)، وكذلك كان حال العسكريَّين (عليهما السلام) إذ كان الحصار عليهما شديداً من قِبَل الدولة العبَّاسيَّة آنذاك، وكانت قد فرضت عليهما الإقامة الجبريَّة في عاصمتها سامرَّاء، كي تستحكم رقابتها على أيِّ اتِّصال يجري بين الإمامين العسكريَّين وعموم الشيعة. بل وكذا الحال في الإمام السجَّاد (عليه السلام) حيث قد كانت الدولة الأُمويَّة قد شدَّدت رقابتها عليه بعد واقعة الطفِّ - ولعلَّ الكاتب يعتقد أنَّ الأُمويِّين كانت لديهم سياسة ليِّنة مع البيت العلوي كما اعتقد ذلك في العبَّاسيين -، وقد كان الوسيط بينه وبين عموم الشيعة في كثير من الأُمور عقيلة بني هاشم.
وأمَّا في تاريخ العقلاء في العالم فقد كرَّرنا للكاتب العديد من الأمثلة البشريَّة في الوقت الحاضر، فإنَّ قيادات المخابرات الدوليَّة والقوى السرّيَّة كقوى المال والسلاح هي التي تدير الوضع الدولي الحاضر، وهي التي تتحكَّم في الحكومات العلنيَّة في الدول العظمى، قيادات كلِّ هذه الأجهزة الدوليَّة السرّيَّة هي في منتهى التستُّر والخفاء، وكذلك الحال في المنظَّمات السرّيَّة المعارضة للأنظمة - التي ذكرها الكاتب في كلامه ذاهلاً عن كلامه قبل أسطر أنَّ العقلاء ليس لهم قيادات تطاع في الخفاء -، وأحسب أنَّ الكاتب ينادي مخاطباً العالم في هذا العصر: (يا أيُّها الأجهزة السرّيَّة التي تحكم مقادير الوضع البشري هذا اليوم، اعلموا أنَّكم غلاة ومن أتباع المذهب الباطني وأنَّ ارتباط الجموع البشريَّة مع التدبير الخفي السرِّي غير عملي وغير منطقي)، وأراه يضيف قائلاً: (ويجب عليكم الظهور إلى السطح والعلن، وإلَّا فمقادير الشعوب ليست بأيديكم، فيا أيَّتها التنظيمات السرّيَّة المخابراتيَّة ويا أيَّتها القوى النفطيَّة من الشركات
↑صفحة ٤١٨↑
العملاقة، وشركات السلاح، إنَّ الالتفات حولكم والسمع والطاعة لكم لا يتمُّ إلَّا بإعلان وجودكم وهويَّاتكم الشخصيَّة وأمكنتكم، وإنَّ أمر القتال والحروب تحت لواء قواكم الدوليَّة العظمى لن تخضع له الشعوب المغلوبة على أمرها، وإنَّ هذا لم يحدث في تاريخ الأنبياء والأئمَّة والعقلاء في العالم). وأحسب أنَّ الكاتب يعترض على عقلاء العالم في هذا العصر في تسلُّط مخابرات المال والسوق الدوليَّة على مؤسَّسات المال والسوق، ويعترض على تسلُّط كلِّ جهاز خفي على جهاز ومؤسَّسة علنيَّة.
ثمّ إنَّه لم يُعلَم مقدار الظهور والحضور الذي يشترطه الكاتب في إمكانيَّة وصحَّة الطاعة والموالاة، هل هو عدم الغيبة والتستُّر أصلاً؟ فاللازم الرؤية الحسّيَّة من قِبَل كلِّ أفراد البشر والمجتمع لرئيسهم طوال الأربع والعشرين ساعة في اليوم في كلِّ يوم. أم إنَّ الكاتب يغاير بين الغيبة القصيرة كأشهر كما في موسى والطويلة بأنَّ الأولى عمليَّة والثانية طويلة العهد، وما هو الفارق؟ فإنَّ كلًّا هو طروُّ الحوادث المفاجئة ونحوها، فوجود الوكلاء والنوَّاب مع رسم البرنامج التامِّ في الشرع الإلهي المبيَّن من قِبَل الإمام الثاني عشر ومن قِبَل آبائة (عليهم السلام) مع كونه (عجَّل الله فرجه) عبر إدارته السرّيَّة الخفيَّة لأُمور البشريَّة جمعاً ولأُمور المسلمين والطائفة خاصَّة بمنظومته الخفيَّة من الأوتاد والنجباء والأبدال والسُّيَّاح ونحوهم، كلُّ ذلك كفيل بحفظ المسار على الجادَّة المطلوبة، وأيُّ استحالة وامتناع يحكم بها العقل؟ إلَّا على عقليَّة استحالة طاعة الله ورسوله، لأنَّهما غير ظاهرين للحسِّ البشري ومغيَّبين عن الحسّيَّة المادّيَّة، فلا تجب موالاتهما ولا متابعتهما.
ثمّ أرى الكاتب يترجَّى بعطف أنْ لا يُكرِّر أحد له مسألة غموض وولادة بعض الأنبياء، ولم يُبيِّن العلَّة في ذلك، فهل السبب هو ما لدى العلمانيِّين في العالم
↑صفحة ٤١٩↑
الإسلامي هذا اليوم من مقولتهم القائلة بأنَّ القرآن محتوٍ على ميتافيزيقا خارجة عن التصوُّر الحسِّي البشري، وأُسطوريَّات لا يفهمها العقل المادِّي البشري، أم ما هو السبب وراء نفرة الكاتب من قصَّة ولادة موسى في الخفاء واستعراض السور القرآنيَّة لسرّيَّة الولادة من دون علم فرعون ودولته الباطشة المذكورة في القرآن، فهل هذه القصَّة القرآنيَّة تُحطِّم كلَّ آمال الكاتب التي عشعش فيها في استحالة خفاء ولادة أولياء الله الحُجَج الخلفاء من قِبَله في الأرض، أم أنَّه كما لا يثق في أحاديث السُّنَّة الشريفة في ظهور المهدي كذلك لا يعتقد بسور القرآن الكريم، أم أنَّه يحسب أنَّ ذكر القرآن لهذه القصَّة ينطوي على الحكمة من ربِّ العالمين، كعبرة للأُمَّة الإسلاميَّة إذا خفيت ولادة أئمَّة المسلمين المعصومين لهذه الأُمَّة على سلاطين الجور؟ ولماذا هذا الهروب من الآيات القرآنيَّة؟ أليس القرآن خير حاكم أم التشهّيات للعُقَد النفسيَّة والذهنيَّة العلمانيَّة الغربيَّة والحسّيَّة المادّيَّة؟
كما يقول الكاتب: لا تُكرِّر مسألة سرّيَّة وجود الخضر والرجل الصالح، فهولاء لم يأمر اللهُ الناسَ بطاعتهم والالتفاف حولهم قبل نبوَّتهم وفي حالة اختفائهم.
ولا أدري هل قرأ سورة الكهف في حياته أم لم يتدبَّر معانيها، أليس يقول تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾ (الكهف: ٦٥ - ٦٨)؟ أليس قد أمر اللهُ موسى النبيَّ المرسَل بالذهاب إلى الخضر الخفي المتستِّر ومصاحبته ثمّ العلم منه ومتابعته؟ أليس الخضر مع تستُّره منتدباً من الله تعالى في ضمن مجموعة بشريَّة لا يعلمها البشر، ﴿عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا﴾؟ أليس في ذيل
↑صفحة ٤٢٠↑
القصَّة القرآنيَّة: ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً *... وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾ (الكهف: ٧٨ - ٨٢)؟
فهل هذه القصَّة ذكرها ربُّ العالمين في قرآنه الخالد عظةً وعبرةً للأُمَّة الإسلاميَّة والمسلمين؟ وما هي تلك العظة والعبرة، هل هي الإشارة الرمزيَّة والألغاز أم أنَّ الكاتب يعتقد أنَّ هذه الحقيقة القرآنيَّة في قصَّة الخضر ومجموعته لا واقعيَّة لها وهي قصَّة رومانسيَّة، أم أنَّ الغاية من هذه القصَّة القرآنيَّة هي الاعتقاد بوجود أولياء لله تعالى وحُجَج له، بشر يقوم بمهامٍّ ووظائف إلهيَّة، وتلك الوظائف يقومون بها، ونطاق عملهم هو في الأوضاع البشريَّة وفي النظام الاجتماعي؟
ثمّ إنَّه على ذهنيَّة الكاتب أنَّ أجيال المسلمين قرابة عشرة قرون تولَّدوا وترعرعوا ولم يروا ولم يشاهدوا رسول الله، فكيف يطيعونه ويوالونه ويبايعونه؟ بل على مذاق العلمانيِّين كيف تكون طاعته وموالاته وشريعته خالدة إلى مدى قرونٍ متطاولة لاحقة إلى ما شاء الله من عمر البشريَّة في ظلِّ ما يُسمَّى بالتطوُّر والتمدُّن البشري وما يُسمَّى بالعقليَّة الجبَّارة البشريَّة التي تناطح المجرَّات الفضائيَّة؟ وإنِّي على استغراب من تعاطف الإخوة مشارك والغالب والناصر - وهم من السلفيِّين حسب الظاهر - مع الكاتب مع ما بانت وبدت معالم منهجه العلماني والحسِّي المادِّي الذي لا يؤمن بما وراء الحسِّ الظاهر!
كما أنَّه على كلام الكاتب ومنهجه لا مجال للاعتقاد بالنبيِّ عيسى وحياته، وقد قال تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ
↑صفحة ٤٢١↑
عَزِيزاً حَكِيماً * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً﴾ (النساء: ١٥٧ - ١٥٩)، وأنَّه يرجع إلى الأرض ويُصلِّي خلف المهدي من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما في روايات الفريقين، وأنَّ ظهور المسيح ونزوله من وضع الغلاة الباطنيَّة ودسِّهم لتلك الروايات، بل قد يتجرَّأ ويقول: ودسِّهم لهذه الآية في سورة النساء، مع أنَّ الواجب على كلِّ مسلم هو التصديق والإيمان بكلِّ الرُّسُل وبحياة النبيِّ عيسى ونزوله وظهوره بعد غيبته. وكذا الحال في النبيِّ إدريس، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكاناً عَلِيًّا﴾ (مريم: ٥٦ و٥٧)، فلعلَّ الكاتب قائل بالتخصيص في هذين الموردين من عموم الاعتقاد والإيمان برُسُل الله تعالى.
أو لعلَّ الكاتب يعترض أنَّه ما الحكمة في حياة نبيَّين رفعهما الله تعالى ثمّ في نزول وظهور عيسى مع المهدي من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ ولماذا يُخبرنا بذلك القرآن؟ وكيف نتعقَّل ذلك؟
أو لعلَّه يقول: أرجوك لا تُكرِّر غموض أحوال موسى أو عيسى وإدريس والخضر وسرّيَّة وجودهم، وكأنَّه يثقل عليه الآيات القرآنيَّة وملاحم القرآن الكريم، أو يقول: نحن لم نؤمر بموالاتهم والاعتقاد بهم. وربَّما يرغب في نماذج من الغرب الحديث.
٥ - قال الكاتب: إنَّ ما ذهب إليه الشيعة الاثنا عشريَّة في هذه العصور من ولاية الفقيه بمثابة رفض للإمامة كعهد إلهي، وإنَّه خروج من التحيُّر الذي كانت تعيشه الطائفة الإماميَّة، وأنا أعذره في هذا الزعاق الذي يُكرِّره، فإنَّ عذره الجهل بفقه الشيعة وكُتُبهم العلميَّة، فإنَّ ولاية الفقيه ليست وليدة هذا العصر، فقد ذكر الشيخ المفيد في كتاب (المقنعة/ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر): (فأمَّا إقامة الحدود فهو إلى سلطان الإسلام المنصوب من قِبَل الله تعالى
↑صفحة ٤٢٢↑
وهم أئمَّة الهدى من آل محمّد (عليهم السلام) أو من نصَّبوه لذلك من الأُمراء والحُكَّام. وقد فوَّضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان. فمن تمكَّن من إقامتها وكذلك إنِ استطاع إقامة الحدود على من يليه من قومه وأمن من بوائق الظالمين في ذلك، فقد لزمه إقامة الحدود عليهم، فليقطع سارقهم، وليجلد زانيهم، ويقتل قاتلهم).
وهذا فرض متعيَّن على من نصبه لذلك على ظاهر خلافته له أو الإمارة من قِبَله على قوم من رعيَّته، فيلزمه إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكُفَّار ومن يستحقُّ ذلك من الفُجَّار. ويجب على إخوانه المؤمنين معونته على ذلك إذا استعان بهم ما لم يتجاوز حدًّا من حدود الإيمان.
وذكر مثل ذلك القاضي ابن برَّاج المعاصر للطوسي في مهذَّبه باب خدمة السلطان وأخذ جوائزه، وكذلك ذكر الشيخ الطوسي في كتاب (النهاية)، قال: (فأمَّا إقامة الحدود فليس يجوز لأحد إقامتها على حالٍ. وقد رخَّص في حال قصور أيدي أئمَّة الحقِّ وتغلُّب الظالمين... ومن تولَّى ولاية من قِبَل ظالم في إقامة حدٍّ أو تنفيذ حكم فليعتقد أنَّه متولٍّ لذلك من جهة سلطان الحقِّ، وليقم به على ما تقتضيه شريعة الإيمان... وأمَّا الحكم بين الناس والقضاء بين المختلفين فلا يجوز أيضاً إلَّا إذا أذن له سلطان الحقِّ في ذلك. وقد فوَّضوا ذلك إلى فقهاء شيعتهم في حال لا يتمكَّنون من تولِّيه بنفوسهم، فمن تمكَّن من إنفاذ حكم أو إصلاح بين الناس أو فصل بين المختلفين فليفعل ذلك، وله بذلك الأجر والثواب).
وقال المرتضى في كتاب (رسائل الشريف المرتضى) في مسألة في الولاية: (... ولم يزل الصالحون والعلماء، يتولّون في أزمان مختلفة من قِبَل الظلمة، لبعض
↑صفحة ٤٢٣↑
الأسباب التي ذكرناها. والتولِّي من قِبَل الظالم وفي الباطن من قِبَل أئمَّة الحقِّ لأنَّهم إذا أذنوا له في هذه الولاية، عند الشروط التي ذكرناها، فتولَّاها بأمرهم، فهو على الحقيقة والٍ من قِبَلهم، ومتصرِّف بأمرهم، ولهذا جاءت الرواية الصحيحة بأنَّه يجوز لمن هذه حاله أنْ يقيم الحدود ويقطع السُّرَّاق ويفعل كلَّ ما اقتضت الشريعة فعله، من هذه الأُمور).
هذا، وقد ذكر مثل ذلك كلٌّ من ابن حمزة وسلَّار وابن إدريس والمحقِّق الحلِّي والعلَّامة الحلِّي والشهيدين والكركي والمقدَّس الأردبيلي وغيرهم من مشاهير علماء الإماميَّة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنَّ الفقيه مأذون من قِبَل المعصوم (عليه السلام) في إقامة القضاء والحدود والأحكام. فليس القول بولاية الفقيه قولاً حادثاً في العصر كما تخيَّله الكاتب، ولا أنَّ ولاية الفقيه التي يقول بها فقهاء الإماميَّة هي في عرض ولاية المعصوم (عليه السلام) وبديلة مزيلة، بل هي نيابة عن المعصوم.
وأمَّا الشورى التي يدَّعيها الكاتب لـمَّا شاهد التعبير بذلك عند بعض علماء الإماميَّة في هذا العصر فظنَّ أنَّ القائل بذلك يعني إلغاء ولاية المعصوم وإمامته الفعليَّة، ولم يتفطَّن إلى مراد القائل إلى كون الولاية المستفادة هي نيابة عن المعصوم، غاية الأمر يتمُّ وقوع المشورة والتشاور بين المؤمنين والانتخاب من قِبَلهم باستكشاف الفقيه الواجد لشرائط النيابة عن المعصوم.
أو ما ينسبه الكاتب إلى بعض الشيعة من قولهم بالمَلِك العادل، فالظاهر أنَّها من إطلاق الكاتب للنسب من دون إلزام نفسه بمطابقتها للواقع.
٦ - قد أشكل الكاتب على (الكافي) باشتماله على روايات متضمِّنة لعلم الأئمَّة بالغيب، كما أشكل على نيابة النوَّاب الأربعة باشتمال دلالتهم على علمهم بوقت موتهم، وقد ذكرت له في ردٍّ سابق أنَّ علم الغيب مختصٌّ بالله تعالى لكنَّه
↑صفحة ٤٢٤↑
يُظهِر منه لمن ارتضاه من حُجَجه ورُسُله، قال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ (الجنّ: ٢٦ و٢٧)، وكما في سورة البقرة: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّها﴾ (البقرة: ٣١)، مع أنَّ جميع الملائكة كانت جاهلة بذلك العلم الأسمائي الجامع، وجعل الله تعالى تعليم آدم بذلك هو المؤهِّل له ليكون خليفة الله في أرضه، وكما في سليمان حيث قال عنه تعالى: ﴿عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾ (النمل: ١٦)، وكما في قوله تعالى في طالوت: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ (البقرة: ٢٤٧)، وكما في سورة الكهف في وصف الخضر: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: ٦٥)، فهذا العلم اللدنِّي يحبيه الله تعالى لأوليائه الحُجَج كما ملأ القرآن الكريم سوره بنماذج من ذلك.
٧ - انتقال الكاتب بدلاً من البحث في كبرى الإمامة الإلهيَّة كعهد من الله إلى الصغرى في وجود الإمام الثاني عشر إلَّا أنَّه في هذه المرَّة ذهب إلى صغرى الصغرى وهي وثاقة النوَّاب الأربعة، وحصر الدليل على وجود وولادة المهدي بإخبار النوَّاب الأربعة، ولا أدري من أين توهَّم ذلك وأنَّ الدليل منحصر في ذلك؟ لكن لا مجال للاستغراب من مثل كلماته التي لا يبالي في التفوُّه بها أمام العيان، وحقيقة الواقع مع تكراره لعمدة خدشه في عقيدة الإمامة الإلهيَّة، والملفت للنظر أنَّ خطر المال متجذِّر في ذهنيَّة الكاتب فيبني كلَّ تحليل على ذلك، وأنَّ كلَّ ظاهرة فهي مبنيَّة على المصالح، وهذه لا تعرف للمعنويَّات سبيلاً ولا لطريق الآخرة معنًى معقولاً.
٨ - إشكاله على النوَّاب الأربعة بعدم وجود دور سياسي بارز لهم، والظاهر أنَّ إشكاله راجع إلى عدم الدور المعلن وإلَّا فدورهم المخفي هو في صلب كيان الشيعة، فمرجع الإشكال إلى ما بنى عليه الكاتب من أنَّ الدولة العبَّاسيَّة لها سياسة ليِّنة مع العسكري.
↑صفحة ٤٢٥↑
٩ - إشكاله بعدم عرض النوَّاب رواياتهم على المعصوم (عليه السلام)، وكذلك كتاب (الكافي)، ولم يهتدِ إلى أنَّ حكمة ذلك في أغلب الموارد هو تربية الحجَّة بن الحسن العسكري لشيعته على الرجوع للروايات المرويَّة عن آبائه لتشقَّ الطائفة مسيرتها في زمن الغيبة الكبرى، كما في جوابه (عجَّل الله فرجه) في كثير من أجوبة المسائل وقد جمعها صاحب (الاحتجاج) وغيره من إرجاع السائلين إلى الروايات المرويَّة عن آبائه (عليهم السلام).
١٠ - نسبته (الكافي) إلى القول بتحريف القرآن، وقد تبع في ذلك ما يُطلِقه عدَّة من الجاهلين بمعاني الأخبار من تنزيل ذلك على معنى النزول وتأويل المعنى وغيرها ممَّا ذكره علماء الإماميَّة، وأرى الكاتب أخذ في استهلاك الكلام وذيول البحوث.
١١ - دعواه أنَّ العلم النظري لا أثر لوجوده خارجاً، ولعلَّه يلتزم بذلك من عدم إثبات الدليل العقلي لوجود الله تعالى الخارجي، مع أنَّ الدليل كما تقدَّم كراراً لا ينحصر بالدليل العقلي.
ثمّ قوله: إنَّ اللازم إثبات الوجود الخارجي عبر الطُّرُق الطبيعيَّة والتاريخيَّة، ولا أدري هل الكاتب أثبت وجود الله تعالى عبر الطُّرُق الطبيعيَّة والكُتُب التاريخيَّة الطريقيَّة؟ مع أنَّه قد تقدَّم كراراً من الإخوة في الحوار ومنَّا كذلك بيان وجوه الدليل التاريخي للإماميَّة على ذلك إلَّا أنَّ الكاتب يذهب إلى وجود السياسة الليِّنة من بني العبَّاس مع الإمام العسكري.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٥/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٩:٣١) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
الأخ محمّد منصور المحترم..
تحيَّة إسلاميَّة طيِّبة..
↑صفحة ٤٢٦↑
لست أنا الذي يقول بعدم كفاية القرآن أو الرسول وضرورة وجود الإمام في الأرض بعد الرسول لكي ينفذ الشريعة، فهم الإماميُّون في الطليعة الذين لا يكتفون بوجود الأئمَّة المنتخبين من الناس وإنَّما يشترطون أنْ يكون الإمام معصوماً ومعيَّناً من قِبَل الله.
أمَّا عن ضرورة حياة الإمام وظهوره في الخارج وعدم جواز كون الإمام مخفيًّا أو مستوراً، فهو قول الإمام الرضا الذي لا يُحِبُّ البعض سماعه لأنَّه يتنافى مع فرضيَّاتهم الفلسفيَّة الوهميَّة.
يقول الإمام عليُّ بن موسى الرضا (عليه السلام): «إنَّ الحجَّة لا تقوم لله على خلقه إلَّا بإمام حيّ يُعرَف». ومن مات بغير إمام مات ميتة جاهليَّة.. إمام حيّ يعرفه، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «من مات وليس له إمام يسمع له ويطيع مات مية جاهليَّة».
وقال الإمام الرضا لأحد الواقفيَّة: «من مات وليس عليه إمام حيّ ظاهر مات ميتة جاهليَّة»، فسأله الواقفي مستوضحاً ومركِّزاً على كلمة (إمام حيّ) فأكَّد له مرَّةً أُخرى: «إمام حيّ». (الكليني/ الكافي: ج ١/ ص ١٧٧)، و(الحميري/ قرب الإسناد: ص ٢٠٣).
هل قرأت هذه الروايات يا أخ محمّد منصور؟ ولماذا لا تُسلِّم لها؟ ولماذا لا تُفكِّر فيها قليلاً؟ وتحاول الردَّ بسرعة من دون الرجوع إلى تراث أهل البيت ورواياتهم؟ أم تُشكِّك فيها لأنَّها لا تعجبك ولا تتَّفق مع نظريَّاتك الباطنيَّة وفرضيَّاتك الفلسفيَّة الوهميَّة الأُسطوريَّة؟
لماذا تحاول التهريج بافتعال أقوال لم أقلها حول طاعة الله وطاعة الرسول الأعظم؟
إذا كنت تعتقد أنَّك تجيد الأساليب النفسيَّة والإعلاميَّة فإنَّ غيرك ربَّما كان أعلم بها منك ولكن يمنعه عن استخدامها شيء من الأدب والمحبَّة وأخلاق
↑صفحة ٤٢٧↑
الحوار، والحديث طويل، وفي هذا كفاية لمن أراد العبرة والاعتبار. والسلام عليكم ورحمة الله.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٥/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٠:٠٨) مساءً.
التلميذ عضو:
ومن قال لك أيُّها الكاتب أنَّ الإمام المهدي ليس بحيٍّ؟ هذا أوَّلاً، وثانياً: من قال لك: إنَّه لا يُعرَف؟ وقد أرشد إليه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعليٌّ وبقيَّة الأئمَّة (عليهم السلام) بأنَّه الإمام الثاني عشر من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) وأنَّه هو المهدي... إلخ. وثالثاً: إذا كنت تؤمن بقول الإمام الرضا هذا وتُصدِّقه، فمن هو الإمام الحيُّ الذي يُعرَف في زماننا هذا الذي تقام به الحجَّة على الخلق؟
* * *
لماذا تأخَّر الشيعة وتقدَّم غيرهم؟
حُرِّر بتاريخ (٢٨/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١١:٠٤) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
عندما أقول: إنَّ الشيعة اليوم هم شيعة جعفريَّة وليسوا بإماميَّة ولا اثني عشريَّة فأعني حدوث ثورة كبرى لديهم غيَّرتهم مائة وثمانين درجة عمَّا كان يحمل أسلافهم من أفكار سلبيَّة معوِّقة ومخدِّرة في السابق، وأنَّهم يختلفون تماماً عن ذي قبل، وأنَّهم اليوم أقرب إلى فكر أهل البيت (عليهم السلام).
وإنَّ قراءة واحدة إلى موقف العلماء السابقين من عمليَّة الإصلاح الاجتماعي تُؤكِّد ذلك بوضوح.
الموقف من عمليَّة الإصلاح الاجتماعي:
لقد انعكست نظريَّة (الانتظار للإمام المهدي الغائب) التي التزم بها
↑صفحة ٤٢٨↑
المتكلِّمون (الإماميَّة) في القرون الأُولى، على مختلف جوانب الحياة السياسيَّة في (عصر الغيبة)، وأوَّلها: الثورة والتغيير، أو عمليَّة الإصلاح الاجتماعي، أو قانون: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الذي وضعه الإسلام لمكافحة الفساد الداخلي، والوقوف أمام تهافت المسلمين وانهيارهم، أو سيطرة الفُسَّاق والظلمة والطواغيت عليهم، والذي يشمل العمل السياسي والإعلامي واستعمال القوَّة من قِبَل الدولة الإسلاميَّة ضدَّ المنحرفين والخارجين على القانون، أو من قِبَل الأُمَّة ضدَّ كلّ من تُسوِّل له نفسه الخروج على القوانين الإسلاميَّة من الحُكَّام والمحكومين.
وكان لا بدَّ للذين التزموا بنظريَّة (التقيَّة والانتظار) أنْ ينظروا نظرة مختلفة إلى قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإذا كان هذا القانون بحدِّ ذاته قانوناً واسعاً وينطوي على مراحل إعلاميَّة وسياسيَّة وعسكريَّة، وأنَّ مراحله العليا التي تقتضي استخدام القوَّة منوطة بالسلطات الشرعيَّة، فإنَّ الذين اعتقدوا بنظريَّة الانتظار وتحريم العمل السياسي في عصر الغيبة، كان عليهم أنْ ينظروا إلى ذلك القانون نظرة مختلفة، فيجيزوا المراحل الأوَّليَّة منه فقط ويُعلِّقوا المراحل العليا التي تستلزم استعمال القوَّة، خاصَّةً تلك التي تُؤدِّي إلى إراقة الدماء.
ومن هنا كانت فتاوى أُولئك العلماء تحجم حدود استعمال قانون (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) باللسان واليد فقط، وترفض استعماله بما يُؤدِّي إلى إراقة الدماء. وفي هذا الصدد يقول الشيخ المفيد في (المقنعة: ص ١٢٩): ... وليس له القتل والجراح إلاَّ بإذن سلطان الزمان المنصور لتدبير الأنام، فإنْ فقد الإذن بذلك لم يكن له من العمل في الإنكار إلَّا بما يقع بالقلب واللسان من المواعظ بتقبيح المنكر والبيان عمَّا يستحقُّ عليه من العقاب والتخويف بذلك وذكر الوعيد عليه، وباليد، ما لم يؤدِّ العمل بها إلى سفك الدماء، وما تولَّد من
↑صفحة ٤٢٩↑
ذلك من إخافة المؤمنين على أنفسهم والفساد في الدِّين، فإنْ خاف الإنسان من الإنكار باليد ذلك لم يتعرَّض له، وإنْ خاف بإنكار اللسان أيضاً ما ذكره أمسك عن الإنكار به واقتصر على إنكاره بالقلب.
ويقول الشيخ الطوسي في (النهاية: ص ٢٨٣): ... وقد يكون الأمر بالمعروف باليد بأنْ يحمل الناس على ذلك بالتأديب والردع وقتل النفوس وضربه من الجراحات، إلَّا أنَّ هذا الضرب لا يجب فعله إلَّا بإذن سلطان الوقف المنصوب للرياسة (ويقصد الإمام المعصوم: المهدي مثلاً) فإنْ فقد الإذن من جهته اقتصر على الأنواع التي ذكرناها (وهي القلب واللسان)، وإنكار المنكر يكون كذلك. فأمَّا باليد مشروط بالإذن من جهة السلطان.
ويقول القاضي عبد العزيز بن نحرير ابن برَّاج الطرابلسي (٤٠٠ - ٤٨١هـ) في (المهذَّب: ص ٣٤٢): إنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقتصر على القلب واللسان، وقد يكون بالقتل والردع والتأديب والجراح والآلام على فعله، إلَّا أنَّ هذا الوجه لا يجوز للمكلَّف الإقدام عليه إلَّا بأمر الإمام العادل وإذنه له في ذلك، أو من نصبه الإمام، فإنْ لم يأذن له الإمام أو من نصبه في ذلك، فلا يجوز له فعله، ويجب عليه حينئذٍ الاقتصار على الوجه الذي قدَّمنا ذكره (وهو القلب واللسان)، وهذا الوجه أيضاً لا يجوز فعله في إنكار المنكر إلَّا بإذن الإمام أو من نصبه.
وقال الشهيد الأوَّل في (الدروس/ كتاب الحسبة): أمَّا الجرح والقتل فالأقرب تفويضهما إلى الإمام.
وقال المحقِّق الكركي في (جامع المقاصد): لو افتقر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى الجراح أو القتل، ففي الوجوب مطلقاً أو بإذن الإمام قولان، أحدهما قول السيِّد المرتضى: لا يُشتَرط إذن الإمام، والثاني: الاشتراط، لما يُخشى
↑صفحة ٤٣٠↑
من ثوران الفتنة، وهو الأصحّ، فعلى هذا هل يجوز للفقيه الجامع للشرائط أنْ يتولَّاه في زمان الغيبة؟ ينبغي بناؤه على جواز إقامة الحدود. (ص ٤٨٨).
وقال الشيخ بهاء الدِّين العاملي في (جوامع عبَّاسي): إذا احتاج إلى الجرح، فيحتاج إلى إذن الإمام؟ الأصحّ: أنَّه يحتاج إلى إذن الإمام. (ص ١٦٢).
وقال الشيخ محمّد حسن النجفي في (جواهر الكلام): عدم جواز الجرح أو القتل إلَّا بإذن الإمام، وكيف كان فلو افتقر (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) إلى الجراح أو القتل هل يجب؟ قيل: نعم يجب، وقيل: ... لا يجوز إلَّا بإذن الإمام (عليه السلام) بل في (المسالك) هو أشهر، بل عن (الاقتصاد): الظاهر من شيوخنا الإماميَّة أنَّ هذا الجنس من الإنكار لا يكون إلَّا للأئمَّة (عليهم السلام) أو لمن يأذن له الإمام (عليه السلام) فيه. وهو الأظهر، للأصل السالم عن معارضة الإطلاق المنصرف إلى غير ذلك. (ص ٣٨٣).
وإلى جانب رأي هؤلاء العلماء كان ثَمَّة رأي آخر ابتدأه السيِّد المرتضى في القرن الخامس الهجري، وأيَّده آخرون، قالوا بعدم الحاجة إلى إذن الإمام، وجواز ارتكاب القتل والجرح من قِبَل عامَّة الناس، وسوف نتطرَّق إلى آرائهم بالتفصيل في الفصل القادم(٣٢٦).
وربَّما كان رأي العلماء الذين اشترطوا إذن الإمام، على جانب من الموضوعيَّة والصحَّة خوفاً من الوقوع في الفتنة وإجازة القتل والجرح لكلِّ أحد، ولكن الإشكال كان يمكن في تفسيرهم لـ (الإمام) بالإمام (المعصوم) الذي هو: (الإمام المهدي محمّد بن الحسن العسكري)، وليس بالإمام المطلق الذي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٢٦) الفصل القادم يعني من كتابه، وما هذه المواضيع إلَّا من ذلك الكتاب الذي أراد إنزاله بكامله من دون أنْ يُناقَش أو يُردَّ أو يُسلِّم بما أتى به الإخوة من تفنيد لما أتى به، ومن أدلَّة صارخة تنسف كلَّ مدَّعياته الواهية. ممَّا يدلُّ على أنَّه دخل الشبكة ليس للحوار وإنَّما لإنزال كتابه فقط وفقط.
↑صفحة ٤٣١↑
يعني الرئيس والحاكم، أو الدولة، ولو كانوا قد فسَّروا كلمة (الإمام) بالمعنى الثاني لكانوا توصَّلوا إلى إقامة القانون بصورة كاملة ولم يُعلِّقوا أيَّ جزء منه في (عصر الغيبة)، وبما أنَّهم قد فعلوا ذلك وحصروا الحقَّ الشرعي في إقامة الدولة في الإمام المعصوم الغائب، فقد كانوا مضطرِّين إلى تجميد العمل بالجوانب الحيويَّة، والمراحل العليا من قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبالرغم من قيام الشيخ الكركي بتزعُّم الدولة الصفويَّة روحيًّا وإعطاء المَلِك الشيعي (طهماسب بن إسماعيل) إجازة في الحكم باسم الإمام المهدي باعتباره (الكركي) نائباً عامًّا عنه (المهدي)، إلَّا أنَّه تردَّد في تطبيق مرحلة القتل والجرح، واعتبر اشتراط إذن الإمام أصحّ القولين، وذلك لأنَّه لم يكن يعتقد بشرعيَّة إقامة الدولة بصورة كاملة في (عصر الغيبة) كما يظهر من مجموع فتاواه المتعلِّقة بالشؤون السياسيَّة، والتي سوف نستعرضها في الفصول التالية.
وعلى أيِّ حالٍ، فقد أدَّى هذا الموقف السلبي من (قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) إلى نشوء ظاهرة الانسحاب السياسي عند قطاع واسع من الشيعة الإماميَّة، وضعف المشاركة الشعبيَّة في التغيير الاجتماعي، وقد تمثَّل ذلك بصورة جليَّة في إحجام عدد من الفقهاء الذين تسلَّموا زمام المرجعيَّة الشيعيَّة العامَّة عن خوض العمل السياسي أو التصدِّي للظلمة والطواغيت.
ومن الواضح أنَّ السبب الرئيسي كان يكمن في الموقف السلبي من تشكيل الدولة الإسلاميَّة في (عصر الغيبة) وتحريم مزاولة العمل السياسي بعيداً عن دائرة (الإمام المعصوم)، فبالرغم من قول كثير من الفقهاء بنظريَّة: (نيابة الفقيه العامَّة) أو (ولاية الفقيه) ومساهمتهم في التعاون مع بعض الدُّوَل الشيعيَّة التي قامت في التاريخ، كالدولة البويهيَّة والدولة الصفويَّة والقاجاريَّة، إلَّا أنَّ كثيراً منهم ظلَّ على موقفه السلبي من ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
↑صفحة ٤٣٢↑
المقترنة بالجرح أو القتل، إلَّا بإذن (الإمام المعصوم) أي (الإمام المهدي الغائب).
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٩/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٣:١٢) مساءً.
محمّد منصور عضو:
ومرَّةً أُخرى يُظهِر الكاتب إفلاسه فيتشبَّث بكلِّ ما هبَّ ودبَّ، الغريق يتشبَّث بالحشيش، قال فلان وقال علَّان، وهل هذا بحث عميق وتنظيري أم حكايات العجائز؟ ثمّ إنَّه يخبط - كما هو القاعدة لديه - بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كوظيفة من وظائف الدولة والنظام السياسي أو الوليّ الفقيه ولو بتوسُّط جهاز المرجعيَّة، فإنَّه بحسب الوظيفة الفرديَّة له شرائط وقيود وأحكام تختلف عنه بحسب الوظيفة الأُخرى للدولة وللنظام أو لجهة معيَّنة كالمرجعيَّة.
فنقل أقوال الفقهاء التي تُقيِّد الوظيفة الفرديَّة بما لم تصل إلى الجرح والقتل والدم، وهذا قد نصَّ عليه كلٌّ من فقهاء الشيعة والسُّنَّة على السواء، ولكن الكاتب حمل هذه المسألة على المسألة الثانية التي هي وظيفة لجهاز الدولة أو لجهاز المرجعيَّة الوليّ الفقيه، وقد نقلنا في الردِّ (١) والردِّ (٢)(٣٢٧) على مقالته تحت عنوان: المشايخ الأوائل وموقفهم السلبي، كلام فقهائنا المتقدِّمين إلى يومنا هذا المصرِّحة بوجوب إقامة الفقيه الجامع للشرائط الحكم الإسلامي من الحدود والتعزيرات والقضاء والجهاد الدفاعي والمعروف الاجتماعي وإزالة المنكر الاجتماعي، والكاتب كعادته في العلم التخصُّصي المسمَّى بعلم الخبط والعشوائيَّة يخلط بين المسائل المختلفة، فهو يريد أنْ تكون وظيفة الفرد في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٢٧) راجع صفحة (٤٥٥) الردّ رقم (١)، وراجع صفحة (٤٦٥) الردّ رقم (٢).
↑صفحة ٤٣٣↑
الإصلاح الاجتماعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي من المفاسد الاجتماعيَّة، من دون نظم كي يدبَّ الهرج والمرج والفوضى، ومن دون تخصيص ذلك بنظام الدولة ونحوها كجهاز المرجعيَّة أو كجهة سياسيَّة شرعيَّة أُخرى.
فكلُّ فرد يقوم بنفسه كوالٍ - حسب كلام الكاتب - ويقوم ويشرف على التصدِّي على إزالة المفاسد الاجتماعيَّة وإقامة المعروف الاجتماعي مهما كانت نوعيَّة المفسدة والمعروف. فإنْ رجع الكاتب عن ذلك وأنَّه لا بدَّ من تقسيم الوظائف والنظم فيها فنقول: هذا ما ذكره فقهاؤنا من تقسيم الوظيفة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من ذكرهم للمسألة الأُولى كوظيفة فرديَّة وهي التي نقل الكاتب كلماتهم بتقيدها بما إذا لم يصل إلى الجرح والدم والقتل وإلَّا فيحتاج إلى إذن الحاكم الشرعي، ولكن الكاتب لم ينقل تتمَّة كلامهم تدليساً كعادته في أمانة النقل والحوار.
كما أنَّ فقهاءنا ذكروا المسألة الثانية كوظيفة للفقيه الوليّ والمرجع أو الدولة، وقد نقلنا كلماتهم في الردِّ (١) والردِّ (٢) من وجوب إقامة الفقيه للحكم الإسلامي وإقامة الإصلاح الاجتماعي أي الحدود والتعزيرات والقضاء والجهاد الدفاعي و...
وكلماتهم في المسألة الثانية موجودة في نفس باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن الكاتب لا يروقه النظر إليها ونقلها بعدما سمَّى مراجع الشيعة في مقالة سابقة له بالطغاة الانتهازيِّين والمتكبِّرين.
ثمّ إنَّه يقول بأنَّ الشيعة أو علماءهم متأخِّرون عن بقيَّة فِرَق المسلمين أو علمائها، ولا أدري كيف يغالط الكاتب نفسه؟ هل التنزُّه عن باب السلاطين والملوك إلَّا في علماء الشيعة؟ هل الجهاد الاجتماعي وتحمُّل المسؤوليَّة قام به أحد إلَّا علماء الإماميَّة؟ فمن تصدَّى للمغول والتتر؟ ومن تصدَّى للاستعمار الغربي
↑صفحة ٤٣٤↑
والمدِّ الشيوعي في العراق وإيران؟ ومن تصدَّى دائماً للانحرافات الفكريَّة في طيلة القرون المتمادية من القرن الثالث إلى قرننا المعاصر؟ من سار في قافلة الشهداء من علماء الأُمَّة سوى علماء الإماميَّة؟ وقد جمع العلَّامة الأميني (قدّس سرّه) كتاب تحت عنوان (شهداء الفضيلة) جمع فيه سلسلة الشهداء منهم. ومن تصدَّى لمناطحة جور الحُكَّام في العالم الإسلامي في القرون المتمادية غير علماء الإماميَّة؟
وقد كتب السيِّد محسن الأمين كتاب (أعيان الشيعة) عدَّة مجلَّدات، وكذلك المحقِّق الطهراني (طبقات أعلام الشيعة) عدَّة مجلَّدات، وكذا غيرهم. وهل المقاومة لإسرائيل في عصرنا هذا إلَّا من قِبَل علماء الشيعة؟ وهل قلب الأُمَّة الإسلاميَّة النابض بالمسؤوليَّة وتحمُّل الرقابة على أوضاع المسلمين إلَّا من قِبَل علماء الشيعة في الدرجة الأُولى؟ وهل ينكر كلّ ذلك بجرَّة قلم وبليَّة شفة؟
وهل يرى الكاتب مجموعة في البلدان الشيعيَّة آخذة على عاتقها الإصلاح الاجتماعي مهما اختلف أُسلوبها إلَّا وورائها رجل الدِّين الشيعي؟
نعم إذا أراد الكاتب أنْ يتحدَّ أُسلوب العمل والإصلاح - كعادته من قانون الخبط - وأنْ لا تتوزَّع الأدوار التي يقوم بها علماء الشيعة، ولا تختلف مواقعهم التي يرابطون فيها، ولا تتعدَّد المهامُّ والأساليب، فهذا من أُطروحات الكاتب العملاقة في ظلِّ الأزمة النفسيَّة التي يعيشها. وهل مفهوم التقدُّم لدى الكاتب هو التربُّع على الملك وإقامة ليالي السهر والأُنس ونحو ذلك؟ أم التقدُّم هو المحافظة على تربية المجتمع وآدابه وفكره وعقيدته وسلوكيَّاته في كافَّة الظروف وبطريقة يحافظ على صلاح عقباه وآخرته وبقائه الأبدي في دار الجزاء؟
* * *
↑صفحة ٤٣٥↑
الآثار السلبيَّة لنظريَّة وجود المهدي على الشيعة الاثني عشريَّة:
حُرِّر بتاريخ (٢٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٢:١٧) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
قال الأخ محمّد منصور: إنَّ الشيعة كانوا يؤمنون بنظريَّة ولاية الفقيه منذ الغيبة الصغرى. وكنت قد قلت: إنَّ الإيمان بهذه النظرية شكَّل ثورة في الفكر السياسي الشيعي، وإليكم الآثار السلبيَّة التي ترتَّبت على الإيمان بوجود الإمام الثاني عشر وغيبته.
نظريَّة التقيَّة والانتظار:
تأثَّر الفكر السياسي الشيعي بنظريَّة (وجود الإمام المهدي محمّد بن الحسن العسكري) تأثُّراً كبيراً، واتَّسم لقرون طويلة بالسلبيَّة المطلقة، وذلك لأنَّ هذه النظريَّة قد انبثقت من رحم النظريَّة (الإماميَّة) التي تُحتِّم وجود إمام معصوم معيَّن من قِبَل الله، ولا تجيز للأُمَّة أنْ تُعيِّن أو تنتخب الإمام، لأنَّه يجب أنْ يكون معصوماً، وهي لا تعرف المعصوم، الذي ينحصر تعيينه من قِبَل الله. ولذلك اضطرَّ الإماميُّون إلى افتراض وجود (الإمام الثاني عشر) بالرغم من عدم وجود أدلَّة علميَّة كافية على وجوده.
وقد كان من الطبيعي أنْ يترتَّب على ذلك، القول بالانتظار للإمام الغائب، وتحريم العمل السياسي أو السعي لإقامة الدولة الإسلاميَّة في (عصر الغيبة). وهذا ما حدث بالفعل، حيث أحجم (النوَّاب الخاصُّون) عن القيام بأيِّ نشاط سياسي في فترة (الغيبة الصغرى)، ولم يُفكِّروا بأيَّة حركة ثوريَّة، في الوقت الذي كان فيه الشيعة الزيديَّة والإسماعيليَّة يُؤسِّسون دولاً في اليمن وشمال أفريقيا وطبرستان.
لقد كانت نظريَّة (الانتظار) للإمام الغائب، بمعناها السلبي المطلق،
↑صفحة ٤٣٦↑
تُشكِّل الوجه الآخر للإيمان بوجود (الإمام المعصوم) ولازمة من لوازمها، ولذلك فقد اتَّخذ المتكلِّمون الذين آمنوا بهذه النظريَّة موقفاً سلبيًّا من مسألة إقامة الدولة في (عصر الغيبة)، وأصرُّوا على التمسُّك بموقف الانتظار حتَّى خروج (المهدي الغائب).
وبالرغم من قيام الدولة البويهيَّة الشيعيَّة في القرن الرابع الهجري وسيطرتها على الدولة العبَّاسيَّة، فإنَّ العلماء الإماميِّين ظلُّوا متمسِّكين بنظريَّة (الانتظار) وتحريم العمل السياسي، وقد قال محمّد بن أبي زينب النعماني (تُوفِّي سنة ٣٤٠هـ) في (الغيبة: ص ٥٧): إنَّ أمر الوصيَّة والإمامة بعهد من الله تعالى وباختياره، لا من خلقه ولا باختيارهم، فمن اختار غير مختار الله وخالف أمر الله سبحانه، وَرَدَ مورد الظالمين والمنافقين الحالِّين في ناره.
وقال في (باب: ما أُمِرَ الشيعة به من الصبر والكفِّ والانتظار للفرج وترك الاستعجال بأمر الله وتدبيره) بعدما ذكر سبع عشرة رواية حول (التقيَّة والانتظار في عصر الغيبة): اُنظروا - يرحمكم الله - إلى هذا التأديب من الأئمَّة (عليهم السلام) وإلى أمرهم ورسمهم في الصبر والكفِّ والانتظار للفرج، وذكرهم هلاك المحاضير والمستعجلين، وكذب المتمنِّين، ووصفهم نجاة المسلِّمين، ومدحهم الصابرين الثابتين، وتشبيههم إيَّاهم على الثبات بثبات الحصون على أوتادها، فتأدَّبوا - رحمكم الله - وامتثلوا أمرهم، وسلِّموا لهم ولا تتجاوزوا رسمهم، ولا تكونوا ممَّن أردته الهوى والعجلة ومال به الحرص عن الهدى والمحجَّة البيضاء. (المصدر: ص ٢٠١).
وكان من تلك الروايات التي اعتمد عليها محمّد بن أبي زينب النعماني في تنظيره لفكرة الانتظار، هي ما رواه عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنَّه قال:
«الزم الأرض، لا تحركنَّ يدك ولا رجلك أبداً حتَّى ترى علامات أذكرها
↑صفحة ٤٣٧↑
لك. وإيَّاك وشُذَّاذ آل محمّد، فإنَّ لآل محمّد وعليٍّ راية ولغيرهم رايات، فالزم الأرض ولا تتَّبع منهم رجلاً أبداً حتَّى ترى رجلاً من ولد الحسين معه عهد النبيِّ ورايته وسلاحه. فالزم هؤلاء أبداً وإيَّاك ومن ذكرت لك.
أُوصيك بتقوى الله، وأن تلزم بيتك وتقعد في دهماء هؤلاء الناس، وإيَّاك والخوارج منَّا فإنَّهم ليسوا على شيء ولا إلى شيء.
اُنظروا إلى أهل بيت نبيِّكم فإنْ لبدوا فالبدوا، وإنِ استصرخوكم فانصروهم، تُؤجَروا، ولا تستبقوهم فتصرعكم البليَّة.
كلُّ راية تُرفَع قبل راية المهدي فصاحبها طاغوت يُعبَد من دون الله.
كلُّ بيعة قِبَل ظهور القائم فإنَّها بيعة كفر ونفاق وخديعة.
والله لا يخرج أحد منَّا قبل خروج القائم إلَّا كان مثله كمثل فرخ طار من وكره قبل أنْ يستوي جناحاه فأخذه الصبيان فعبثوا به».
وهكذا روى النعماني في (الغيبة) عن أهل البيت: «أنَّ من ترك التقيَّة قبل خروج قائمنا فليس منَّا»، وروى الصدوق عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «من مات منكم على هذا منتظراً كان كمن في فسطاط القائم» (ص ٣٥٧). وروى عن الرضا (عليه السلام) أنَّه قال: «ما أحسن الصبر وانتظار الفرج؟ أمَا سمعت قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾ [هود: ٩٣]، ﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ [الأعراف: ٧١]؟ فعليكم بالصبر فإنَّه إنَّما يجيء الفرج على اليأس، وقد كان من قبلكم أصبر منكم» (ص ٥٣٨). «إنَّ من عرف بهذا الأمر ثمّ مات قبل أنْ يقوم القائم كان له أجر من قُتِلَ معه». (ص ٢٧٧).
وقال الشيخ الصدوق (تُوفِّي سنة ٣٨١هـ) في كتاب (الاعتقادات/ الباب الخامس والثلاثين): لا قائم غير المهدي وإنْ طالت الغيبة بعمر الدنيا، لأنَّ النبيَّ أشار إلى اسمه ونسبه وبشَّر به.
↑صفحة ٤٣٨↑
أفتى بناءً على هذه النظريَّة قائلاً: التقيَّة واجبة، وتركها لا يجوز حتَّى خروج القائم، ومن يتركها قبل خروج القائم فإنَّه خارج من دين الإماميَّة ومخالف لله والرسول والأئمَّة (المصدر: الباب ٣٩). كما أفتى بنفس الحكم في الظالمين، فمن تركها فقد خالف دين الإماميَّة وفارقه، وقال الصادق: «خالطوا الناس بالبرانيَّة وخالفوهم بالجوَّانيَّة ما دامت الإمرة صبيانيَّة». والتقيّة واجبة لا يجوز تركها إلى أنْ يخرج القائم، فمن تركها فقد دخل في نهي الله (عزَّ وجلَّ) ونهي رسوله والأئمَّة (عليهم السلام)، ويجب الاعتقاد أنَّ حجَّة الله في أرضه وخليفته على عباده في زماننا هذا هو القائم المنتظر ابن الحسن. ويجب أنْ يعتقد أنَّه لا يجوز أنْ يكون القائم غيره بقي في غيبته ما بقي، ولو بقي عمر الدنيا لم يكن القائم غيره.
وقال الصدوق في (إكمال الدِّين): علينا فعل ما نُؤمَر به، وقد دلَّت الدلائل على فرض طاعة هؤلاء الأئمَّة الأحد عشر الذين مضوا، ووجب القعود معهم إذا قعدوا والنهوض معهم إذا نطقوا، فعلينا أنْ نفعل في كلِّ وقتٍ ما دلَّت الدلائل على أنْ نفعله. (المصدر: ص ٨١ و٨٢).
وهكذا علَّق الشيخ المفيد (تُوفِّي ٤١٣هـ) مسؤوليَّة الإصلاح على (الإمام المهدي) الذي قال عنه: إنَّه غائب بسبب الخوف من الظالمين، فقال: إنَّه إذا غاب الإمام للخوف على نفسه من القوم الظالمين فضاعت لذلك الحدود وانهملت به الأحكام ووقع به في الأرض الفساد، فكان السبب لذلك فعل الظالمين دون الله (عزَّ وجلَّ) اسمه، وكان المأخوذون بذلك المطالبين به دونه. (المفيد/ الرسالة الأُولى حول الغيبة: ص ٢٧٢).
وكان السيِّد المرتضى علم الهدى (٣٥٥ - ٤٣٦هـ) يعتقد(٣٢٨) أنَّ مهمَّة نصب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٢٨) بل هذا اعتقاد كلِّ علماء الشيعة الاثني عشريَّة قاطبة، من أنَّ أمر الإمامة من عند الله (عزَّ وجلَّ)، وأنَّ تنصيبه جعل من الله، كما هو الحال في النبوَّة.
↑صفحة ٤٣٩↑
الأئمَّة تقع على عاتق الله وليس على عاتق الأُمَّة، وأنَّ ذلك لا يسوغ لها. ومن هنا فقد حرَّم السعي لتنصيب الإمام وتشكيل الحكومة في عصر الغيبة، لأنَّ ذلك ليس بأيدينا وإنَّما بيد الله، وأوجب الانتظار، وقال: ليس إقامة الإمام واختياره من فروضنا فيلزمنا إقامته. (المرتضى/ الشافي: ج ١/ ص ١١٠ - ١١٢).
وقال في (الشافي): اعلم أنَّ كلامنا في وجوب النصِّ، وأنَّه لا بدَّ منه ولا يقوم غيره في الإمامة مقامه. كافٍ في فساد الاختيار، لأنَّ كلَّ شيء أوجب النصَّ بعينه فهو مبطل للاختيار، واعلم أنَّ الذي نعتمده في فساد اختيار الإمام هو بيان صفاته التي لا دليل للمختارين عليها، ولا يمكن إصابتها بالنظر والاجتهاد، ويختصُّ علَّام الغيوب تعالى بالعلم بها كالعصمة والفضل في الثواب والعلم على جميع الأُمَّة، لأنَّه لا شبهة في أنَّ هذه الصفات لا تُستَدرك بالاختيار، ولا يوقف عليها إلَّا بالنصِّ.
ولا يمكن أنْ يقال بصحَّة الاختيار مع هذه الصفات، لأنَّ ذلك تكليف قبيح، لما لا دلالة عليه ولا أمارة تُميِّز الواجب من غيره.
وممَّا يمكن أنْ يُعتمَد في فساد الاختيار: أنَّ العاقدين للإمامة يجوز أنْ يختلفوا فيرى بعضهم: أنَّ الحال يقتضي أنْ يعقد فيها للفاضل، ويرى آخرون: أنَّها تقتضي العقد للمفضول، وهذا ممَّا لا يمكن. (المصدر: ج ٤/ ص ٦).
وقال الشيخ الطوسي في (تلخيص الشافي): وممَّا يدلُّ على وجوب النصِّ أو ما يقوم مقامه من المعجز، أنَّا قد دللنا على أنَّ الإمام لا بدَّ أنْ يكون أفضل الخلق عند الله تعالى وأعلاهم منزلةً في الثواب، وفي حال ثبوت إمامته، وإذا ثبت كونه كذلك، ولم يمكن التوصُّل إليه بالأدلَّة ولا بالمشاهدة وجب النصُّ أو المعجز.
وقد رفض العلَّامة الحلِّي في (الألفين) فكرة قيام الأُمَّة بنصب الإمام
↑صفحة ٤٤٠↑
واختياره عبر الشورى (ص ٣٥) واعتبر إسناد أمر الإمامة إلى اختيار الأُمَّة خلافاً لقول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ (الأحزاب: ٣٦)، وأنَّه تقديم بين يدي الله ورسوله، وقد نهى الله عن ذلك. (ص ٣٧). ورأى في إسناد مهمَّة اختيار الإمام إلى الأُمَّة فتح باب عظيم للفساد ينافي الحكمة الإلهيَّة، لأنَّ كلَّ واحدٍ من الأُمَّة يختار رئيساً، وهذا ما يُؤدِّي إلى الفتنة والهرج والمرج والتغلُّب والمقاهرة. (ص ٣٨ و٤١). وقال: لا طريق إلى الإمامة إلَّا بالنصِّ بقول النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو الإمام، أو بخلق المعجز على يده. (ص ٣٥).
وقد أسهب العلَّامة الحلِّي في (الألفين) في استعراض الأدلَّة التي تنقض نظريَّة الشورى، وأكَّد على ضرورة تعيين الإمام (العالم المعصوم) من قِبَل الله تعالى، ولم يبحث في كتابه أدلَّة إثبات الإمامة الإلهيَّة لأئمَّة الاثني عشر فقط، وإنَّما بحث حرمة الإمامة لغيرهم بشكل مطلق، وألقى باللوم لعدم القدرة على تشكيل الدولة في فترة (الغيبة) على الذين تسبَّبوا في إخافة الإمام المهدي واضطرُّوه للغيبة. (ص ٤٠٤ و٤٠٥). وقال بصراحة: إنَّ رئاسة غير المعصوم في الدِّين والدنيا جالبة لخوف المكلَّف. ولا شيء من غير المعصوم بإمام. (ص ٣٥٧).
وبناءً على ذلك قال الميرزا محمّد تقي الأصفهاني (تُوفِّي ١٣٤٨هـ) في (مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم): لا يجوز مبايعة غير النبيِّ والإمام؛ إذ لو بايع غيره جعل له شريكاً في المنصب الذي اختصَّه الله تعالى به ونازع الله في خيرته وسلطانه، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: ٣٦]، وقد ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ﴾ [الزمر: ٦٥]، روايات بأنَّ المراد: لئن أشركت في الولاية غير عليٍّ.
↑صفحة ٤٤١↑
وقد تبيَّن من ذكرنا عدم جواز مبايعة أحد من الناس من العلماء وغيرهم بالاستقلال ولا بعنوان نيابتهم عن الإمام في زمن الغيبة، لما قدَّمناه آنفاً من أنَّ ذلك من خصائصه ولوازم رياسته العامَّة وولايته المطلقة وسلطنته الكلّيَّة، فإنَّ بيعته بيعة الله. (ج ٢/ ص ٢٣٨). وأضاف: ويدلٌّ على عدم جوازه مضافاً إلى ما عرفت من كونه من خصائص الإمام وكون أُمور الشرع توقيفيَّة ما روي في البحار (ج ٣/ ص ٨) و (مرآة الأنوار) عن المفضَّل بن عمر، عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «يا مفضَّل، كلُّ بيعة قبل ظهور القائم فبيعة كفر ونفاق وخديعة، لعن الله المبايع بها والمبايع له»، وهذا كما ترى صريح في عدم جواز مبايعة غير الإمام من غير فرق بين كون المبايع له فقيهاً أو غير فقيه، ومن غير فرق بين أنْ يكون البيعة لنفسه أو بعنوان النيابة عن الإمام. (ص ٢٣٩).
قال الأصفهاني: ويُؤيِّد ما ذكرنا من كون المبايعة بالمعنى المذكور من خصائص الإمام ولوازم رياسته العامَّة وولايته المطلقة وعدم جوازه لغيره، أُمور:
منها: أنَّه لم يُعهَد ولم يُنقَل في زمان أحد من الأئمَّة تداول المبايعة بين أصحابهم.
ومنها: أنَّه لم يرد منهم (عليهم السلام) إذن في مبايعة غيرهم من أصحابهم بنيابتهم.
ومنها: عدم معهوديَّة ذلك في ألسنة العلماء ولا في كُتُبهم، ولم يُنقَل في آدابهم وأحوالهم وأفعالهم، بل لم يكن معهوداً في سائر المؤمنين من زمن الأئمَّة إلى زماننا أنْ يبايعوا أحداً بعنوان أنَّ بيعته بيعة الإمام.
ومنها: ما تقدَّم من المجلسي في (البحار: ج ١٠٢/ ص ١١١/ باب ٧ من الطبعة الحديثة) بعد ذكر دعاء تجديد العهد والبيعة في زمان الغيبة، أنَّه قال: وجدت في بعض الكُتُب القديمة بعد ذلك: (ويصفق بيده اليمنى على اليسرى)، فانظر كيف جوَّز أنْ يصفق بيده على يده، ولم يُجوِّز مصافقة الغير. (ج ٢/ ص ٢٤٠).
↑صفحة ٤٤٢↑
واستنتج الأصفهاني صاحب (مكيال المكارم): أقول: فمن جميع ما ذكرنا وغيره يحصل الجزم بأنَّ المبايعة من خصائص النبيِّ والإمام ولا يجوز لأحد التصدِّي لذلك إلَّا من جعله النبيُّ أو الإمام نائباً له في ذلك.
فإنْ قلتَ: بناءً على القول بثبوت الولاية العامَّة للفقيه يمكن أنْ يقال: بأنَّ الفقهاء خلفاء الإمام ونوَّابه، فيجوز لهم أخذ البيعة من الناس نيابةً عن الإمام ويجوز للناس مبايعتهم. قلتُ: أمَّا أوَّلاً: فالولاية العامَّة غير ثابتة للفقيه، وأمَّا ثانياً: فإنَّما هي فيما لم يكن مختصًّا بالنبيِّ والإمام، وقد ظهر من الروايات - دليلاً وتأييداً - اختصاص المبايعة بهما، فليس للنائب العامِّ نيابة في هذا المقام. وهذا نظير الجهاد حيث إنَّه لا يجوز إلَّا في زمان حضور الإمام وبإذنه، أمَّا في مثل زماننا هذا فجواز المبايعة على وجه المصافقة ممَّا لا دليل له، فهي من البدع المحرَّمة التي توجب اللعنة والندامة. (ج ٢/ ص ٢٤٠).
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٥:٤٧) مساءً.
محمّد منصور عضو:
الردُّ على الكاتب في مقالته (الآثار السلبيَّة للانتظار وللقول بإمامة الثاني عشر)(٣٢٩).
* * *
لماذا اتَّخذ مشايخ الطائفة الأوائل موقفاً سلبيًّا من الاجتهاد وولاية الفقيه؟
حُرِّر بتاريخ (٢٧/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٠:٣١) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٢٩) راجع نصَّ الردِّ للأُستاذ محمّد منصور في صفحة (٤٥٥) من هذا الكتاب، تحت عنوان: الردّ رقم (١).
↑صفحة ٤٤٣↑
حاول الأخ محمّد منصور أنْ يستشهد ببعض أقوال العلماء السابقين التي تشير إلى جواز تنفيذ الحدود أو تطبيق بعض الماجلات السياسيَّة كدليل على قولهم بنظريَّة ولاية الفقيه، بينما كانوا يتَّخذون في الحقيقة موقفاً عامًّا مضادًّا لولاية الفقيه وحتَّى الاجتهاد.
وقد بدأت مسيرة الثورة الشيعيَّة منذ زمن بعيد من أجل التحرير من النظريَّات المكبِّلة للتحرُّك وإقامة الدولة في عصر الغيبة.
وقد بدأت مسيرتهم تدريجيًّا وخطوة خطوة حتَّى قالوا في العصر الحديث بنظريَّة ولاية الفقيه، ولا يزال بعض العلماء حتَّى اليوم يتردَّدون بالقول بها.
حاول الأُستاذ محمّد منصور أنْ يستنبط من بعض أقوالهم المتفرِّقة نظريَّة متكاملة، بينما لو ألقى نظرة عامَّة على مختلف أقوالهم ونظريَّاتهم لأدرك أنَّهم كانوا يعيشون في أزمة نظريَّة لم يتحرَّروا منها إلَّا مؤخَّراً.
وقد تتبَّعت تطوُّر الفكر السياسي الشيعي في عصر الغيبة خطوة خطوة وباباً باباً ووجدت أنَّ جوهر الأزمة كان يكمن في نظريَّة الإمامة ووجود الإمام الثاني عشر الغائب الذي يحقُّ له وحده إقامة التشريع والتنفيذ والقضاء، ولم يقل الشيعة بجواز هذه الأُمور إلَّا بعد صعوبة أو استحالة الوصول إلى الإمام المعصوم فتخلَّوا عمليًّا عن نظريَّة الإمامة والانتظار وأجازوا(٣٣٠) لأنفسهم القيام بمهامِّ الإمامة التشريعيَّة والتنفيذيَّة وإقامة الدولة في هذا العصر باسم النيابة العامَّة للفقهاء عن الإمام المهدي الغائب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٣٠) إنَّني وفي كلِّ سطر أقرأه لك أذعن بأنَّك لا تريد ولا تبحث عن الحقيقة، وهنا تعاميت كعادتك، وإلَّا فقد ذكر لك الأخ محمّد منصور فتاوى أعلام الشيعة كالمفيد والمرتضى والطوسي وغيرهم من أعلام الطائفة من مشروعيَّة إقامة الحكم الإسلامي للفقيه المأذون، فهلَّا أجبت عن ذلك بدل أنْ تتعامى وتُحلِّق في تحليلك الصحفي الساذج وغير العلمي؟
↑صفحة ٤٤٤↑
وهنا تكمن حقيقة الثورة الشيعيَّة الكبرى، لماذا اتَّخذ مشايخ الطائفة الأوائل موقفاً سلبيًّا من الاجتهاد وولاية الفقيه؟
الموقف السلبي من الاجتهاد:
وقد رفض أُولئك العلماء الذين التزموا بنظريَّة: (التقيَّة والانتظار) أيَّ بديل للإمام المعصوم الغائب (المهدي المنتظر)، حتَّى لو كان فقيهاً عادلاً، وذلك لأنَّهم كانوا يُحرِّمون الاجتهاد والعمل بالقياس والأدلَّة الظنّيَّة، ويشترطون حصول العلم اليقين بأحكام الدِّين من أهل البيت (عليهم السلام)، وذلك عبر الأخبار الواردة عنهم. وقد روى القاسم بن العلاء (وكيل الإمام المهدي في آذربايجان) رواية عن الإمام عليِّ بن الحسين يقول فيها: «إنَّ دين الله (عزَّ وجلَّ) لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة، ولا يصاب إلَّا بالتسليم، فمن سلَّم لنا سلم، ومن اقتدى بنا هدي، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك، ومن وجد في نفسه شيئاً ممَّا نقوله أو نقضي به حرجاً فقد كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم، وهو لا يعلم». وقد نقلها الشيخ الصدوق في كتابه (إكمال الدِّين: ص ٣٢٤).
وألَّف سهل النوبختي، في القرن الثالث الهجري، كتابين في (إبطال القياس) و(نقض اجتهاد الرأي). كما كتب ابن أُخته الحسن بن موسى النوبختي كتاباً في نفس الموضوع، وكتاباً آخر في (خبر الواحد والعمل به)، وكلُّ هذه الكُتُب تدور في مجال العمل بالأخبار، ولم تتجاوز لكي تفتح باب (الاجتهاد) على مصراعيه لكي يشمل القياس أو القياس العلمي واستنباط روح الشريعة الإسلاميَّة واستحداث المسائل الجديدة.
وروى الكليني في (الكافي) حديثاً عن الإمام الصادق جاء فيه: «المداومة على العمل في اتِّباع الآثار والسُّنَن، وإنْ قلَّ، أرضى لله وأنفع عدَّة في العاقبة من
↑صفحة ٤٤٥↑
الاجتهاد في البدع واتِّباع الأهواء». ونقل النعماني ابن أبي زينب في (تفسيره) حديثاً عن الإمام الصادق جاء فيه: «وأمَّا الردُّ على من قال بالاجتهاد، فإنَّهم يزعمون أنَّ كلَّ مجتهد مصيب... على أنَّهم لا يقولون: إنَّهم مع اجتهادهم أصابوا معنى حقيقة الحقِّ عند الله (عزَّ وجلَّ)، لأنَّهم في حال اجتهادهم ينتقلون عن اجتهاد إلى اجتهاد».
ومن هنا اقتصر العلماء الأوائل على رواية الأخبار، ولم يعرفوا معنى الاجتهاد بالمعنى المتعارف عليه اليوم. وبالرغم من محاولة النعماني وابن جنيد الإسكافي فتح باب الاجتهاد في القرن الرابع، إلَّا أنَّ الجوَّ العامَّ كان يرفض أيَّ نوع من الاجتهاد، وذلك انسجاماً مع نظريَّة (الإمامة الإلهيَّة) التي تحصر العمليَّتين: التشريعيَّة والتنفيذيَّة في (الأئمَّة المعصومين المعيَّنين من قِبَل الله).
وقد أدَّى الموقف السلبي من الاجتهاد، إلى حدوث أزمة في التشريع عند المدرسة (الإماميَّة - الإخباريَّة)، واشتدَّت هذه الأزمة مع انقطاع أيِّ اتِّصال بالإمام الغائب في ظلِّ (الغيبة الكبرى)، ومع ذلك فقد استمرَّ (الإماميُّون - الإخباريُّون) بالالتزام بنظريَّة (التقيَّة والانتظار) في مجال التشريع؛ لأنَّهم كانوا يحصرون ذلك في (الإمام المعصوم) الغائب.
وقد اتَّخذ عبد الرحمن بن قبة من الحديث النبوي الذي يقول: «إنِّي تارك فيكم ما إنْ تمسَّكتم به لن تضلُّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي. ألَا وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض»، دليلاً على حتميَّة علم أهل البيت بالكتاب وعلم الدِّين كلِّه، واستنتج ضرورة التمسُّك بهم وأخذ العلم منهم فقط. (إكمال الدِّين: ج ١/ ص ٩٤ و٩٥).
كما اعتمد الشيخ الصدوق (تُوفِّي ٣٨١هـ) على ذلك الحديث، وأكَّد أنَّ علم أهل البيت علم يقيني يكشف عن مراد الله (عزَّ وجلَّ) كعلم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وليس علماً
↑صفحة ٤٤٦↑
قائماً على الاستخراج والاستنباط والاستدلال. ونفى الصدوق إمكانيَّة معرفة تأويل القرآن بالاستنباط لأيِّ أحد غير أهل البيت. (المصدر: ص ٦٤ و١٠٠).
وهكذا حصر الشيخ المفيد أدلَّة جميع الأحكام في منابع ثلاثة، هي: الكتاب والسُّنَّة وأقوال الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام). (الاختصاص: ص ٢٨٠).
وأنكر المفيد على أوائل المجتهدين (النعماني وابن جنيد) اشتغالهم عن حمل الآثار بالرأي والاستحسان وهجرانهم من أمر الله تعالى بصلته، وأخذ معالم الدِّين عنه وعن عترة نبيِّه. (المسائل الصاغانيَّة: ص ٤٦).
وألَّف المفيد كتابين في الردِّ على أُستاذه ابن الجنيد الذي كان يحاول (الاجتهاد).
وأكَّد السيِّد المرتضى في (الشافي): بطلان الاجتهاد، واستدلَّ على ذلك بأنَّ الاجتهاد في الشريعة هو طلب غلبة الظنِّ فيما لا دليل عليه، والظنُّ لا مجال له في الشريعة، ولا يصحُّ أنْ يطلب في الظنِّ تحريم شيء منها أو تحليله؛ لأنَّ الشريعة مبنيَّة على ما يعلمه الله تعالى من مصالحنا التي لا عهد لنا فيها ولا عادة ولا تجربة. وقال: إنَّ الاجتهاد والقياس لا يثمران فائدة ولا ينتجان علماً، فضلاً عن أنْ تكون الشريعة محفوظة بهما. (ج ١/ ص ١٦٩).
وقد شكى الشيخ الطوسي في مقدَّمة (المبسوط) من قلَّة رغبة هذه الطائفة في الاجتهاد، وترك عنايتهم به؛ لأنَّهم ألفوا الأخبار وما رووه من صريح الألفاظ، حتَّى إنَّ مسألة لو غُيِّر ألفاظها وعُبِّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منها، وقصر فهمهم عنها. ولكنَّه قال في (تلخيص الشافي): أمَّا القياس وأخبار الآحاد والاجتهاد، فقد بيَّنَّا أنَّه لا يجوز التعبُّد به، وأمَّا رجوع العامِّي إلى العالم، فعندنا أنَّه لا يجوز أنْ يُقلِّد غيره، بل يلزمه طلب العلم من الجهة التي تُؤدِّي إلى العلم، ولو أجزنا ذلك لم يشبه أمره أمر الإمام؛ لأنَّه إنَّما جاز ذلك من حيث لم يكن حاكماً فيه، بل لزمه تقليد العالم والعمل به. (ج ١/ ص ٢٤٠).
↑صفحة ٤٤٧
وبالرغم من ممارسة العلَّامة الحلِّي (تُوفِّي ٧٦٢هـ) للاجتهاد؛ في كثير من أبواب الفقه، إلَّا أنَّه نفى الحجّيَّة عن القياس، ورفض الاعتماد على أخبار الآحاد، وقال: إنَّها لا تصلح لإفادة الشريعة، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ (يونس: ٣٦). (الألفين: ٦٥).
واشترط الحلِّي: العلم بالأحكام يقيناً لا ظنًّا بالاجتهاد؛ لأنَّ المصيب واحد، وقد تتعارض الأدلَّة وتتساوى الأمارات ويستحيل الترجيح بلا مرجِّح، وتتساوى أحوال العلماء بالنسبة إلى المقلَّدين، فلا بدَّ من عالم بالأحكام يقيناً لا ظنًّا بالأمارة، ليرجع إليه من يطلب العلم ويطلب الصواب يقيناً. (ص ٢٠).
وقال: إنَّ تحصيل الأحكام الشرعيَّة في جميع الوقائع من الكتاب والسُّنَّة وحفظها، لا بدَّ له من نفس قدسيَّة تكون العلوم الكسبية بالنسبة إليها كفطريَّة القياس، معصومة عن الخطأ، ولا يقوم غيرها مقامها في ذلك، إذ الوقائع غير متناهية، والكتاب والسُّنَّة متناهيان، ولا يمكن أنْ تكون هذه النفس لسائر الناس، فتعيَّن أنْ تكون لبعضهم وهو الإمام. (ص ١٧).
وقال: الوقائع غير محصورة، والكتاب والسُّنَّة لا يفيان بها، فلا بدَّ من إمام منصوب من قِبَل الله تعالى من الزلل والخطأ يُعرِّفنا الأحكام ويحفظ الشرع؛ لئلَّا يترك بعض الأحكام أنْ يزيد فيها عمداً أو سهواً أو يُبدِّلها. (ص ١٨).
وانطلاقاً من هذا الفكر الإمامي الرافض للاجتهاد والمجتهدين شنَّ الميرزا محمّد أمين الأسترآبادي (تُوفِّي سنة ١٠٣٦هـ) في (الفوائد المدنيَّة) حملة شعواء ضدَّ أنصار المدرسة الاجتهاديَّة الأُصوليَّة التي راجت في الدولة الصفويَّة وقال: إنَّ الروايات التي ذكرها قدماء أصحابنا الإخباريِّين كالشيخين الأعلمين الصدوقين والإمام ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني، كما صرَّح به في أوائل كتاب (الكافي) وكما نطق به في: باب حرمة الاجتهاد والتقليد، وفي وجوب
↑صفحة ٤٤٨↑
التمسُّك بروايات العترة الطاهرة (عليهم السلام) المسطورة في تلك الكُتُب المؤلَّفة بأمرهم. (ص ٤٠).
وقال: الصواب عندي مذهب قدمائنا الإخباريِّين وطريقتهم. أمَّا مذهبهم فهو: أنَّ كلَّ ما تحتاج إليه الأُمَّة إلى يوم القيامة عليه دلالة قطعيَّة من قِبَله تعالى، حتَّى أرش الخدش، وأنَّ كثيراً ممَّا جاء به (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الأحكام وما يتعلَّق بكتاب الله أو سُنَّة نبيِّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من نسخ أو تقييد وتخصيص وتأويل مخزون عند العترة الطاهرة (عليهم السلام)، وأنَّ القرآن في الأكثر ورد على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعيَّة، وكذلك كثير من السُّنَن النبويَّة، وأنَّه لا سبيل لنا فيما لا نعلمه من الأحكام النظريَّة الشرعيَّة، أصلية كانت أو فرعيَّة، إلَّا السماع من الصادقين (عليهم السلام)، وأنَّه لا يجوز استنباط الأحكام النظريَّة من ظواهر كتاب الله ولا ظواهر السُّنَن النبويَّة، ما لم يُعلَم أحوالهما من جهة أهل الذكر (عليهم السلام)، بل يجب التوقُّف والاحتياط فيهما.
وأنَّ المجتهد في نفس أحكامه تعالى إنْ أخطأ كذب على الله وافترى، وإنْ أصابه لم يُؤجَر، وأنَّه لا يجوز القضاء ولا الإفتاء إلَّا بقطع ويقين، ومع فقده يجب التوقُّف، وأنَّ اليقين المعتبر فيهما قسمان: يقين متعلِّق بأنَّ هذا حكم الله في الواقع، ويقين متعلِّق بأنَّ هذا ورد عن معصوم، فإنَّهم (عليهم السلام) جوَّزوا لنا العمل به قبل ظهور القائم (عليه السلام)، وإنْ كان وروده في الواقع من باب (التقيَّة) ولم يحصل لنا منه ظنٌّ بما هو حكم الله تعالى في الواقع، والمقدَّمة الثانية متواترة معنًى عنهم. (ص ٤٧ و٤٨).
المطلب الثاني: الموقف السلبي من ولاية الفقيه:
كان من البديهي بعد قول الإماميَّة بحرمة الاجتهاد في ظلِّ (الغيبة) أنْ يتَّخذوا موقفاً سلبيًّا من نظريَّة (ولاية الفقيه)، وذلك لفقدان شرط العلم الإلهي والعصمة في العلماء والمجتهدين.
↑صفحة ٤٤٩↑
وإذا كان بعض العلماء قد مال - منذ بداية القرن الخامس الهجري - إلى فتح باب الاجتهاد شيئاً فشيئاً، فإنَّ الموقف العامَّ للعلماء الأوائل، وربَّما لبعض العلماء حتَّى اليوم، ظلَّ سلبيًّا من مسألة (ولاية الفقيه) وقيام الفقهاء بتشكيل الدولة في (عصر الغيبة)، فقد كان الفكر الإمامي القديم إخباريًّا يرفض الاجتهاد، وقد رفض نظريَّة (ولاية الفقيه) لأنَّها تقوم على الاجتهاد، والاجتهاد من مختصَّات الأئمَّة المعصومين.
وكان الموقف السلبي الذي اتَّخذه أُولئك العلماء يبتني على أمرين:
الأوَّل: هو الإيمان باشتراط العصمة والعلم الإلهي والنصِّ في الإمام (أي الحاكم أو الرئيس)، والإيمان بوجود الإمام المعصوم العالم المنصوص عليه من قِبَل الله وغيبته (وهو المهدي المنتظر محمّد بن الحسن العسكري).
الثاني: الإيمان بحرمة الاجتهاد وحرمة تصدِّي غير المعصوم المعيَّن من قِبَل الله للأُمور السياسيَّة.
ومن هنا فقد رفض المتكلِّمون (الإماميُّون) الأوائل دعوة المعتزلة والشيعة الزيديَّة الذين لم يكونوا يشترطون العصمة الإلهيَّة ولا النصَّ في الإمام، إلى تبنِّي نظريَّة (ولاية الفقيه)، خاصَّة في ظلِّ (الغيبة الكبرى) التي لا صلة فيها بينهم وبين الإمام الغائب، ولكن الالتزام بنظريَّة (الإمامة والتقيَّة والانتظار) منعهم من قبول ذلك، استناداً إلى فقدان الفقيه للعصمة والتعيين من الله، وتعارض نظريَّة (ولاية الفقيه) مع نظريَّة (الإمامة الإلهية). ودار نقاش حام بين الطرفين حول الموضوع، وقد نقله الشيخ الصدوق في مقدَّمة كتابه (إكمال الدِّين) حيث نقل مقتطفات من كتاب (الاشهاد) لأبي زيد العلوي، وكتاب عليِّ بن أحمد بن بشَّار حول الغيبة وولاية الفقيه، وردَّ الشيخ عبد الرحمن بن قبة عليهما. وقد استند ابن قبة في رفضه لنظريَّة (ولاية الفقيه) على رفضه للاجتهاد، وحتميَّة
↑صفحة ٤٥٠↑
وجود العالم المفسِّر للقرآن الكريم من أهل البيت، واستنتج ضرورة اشتراط العصمة في الإمام. (ص ٩٤ و٩٥).
وكان الشيخ ابن قبة (تُوفِّي حوالي ٣٥٠هـ) قد طالب الزيديَّة بالعودة إلى موضوع النصِّ والشورى بعد وفاة رسول الله مباشرةً، فإنْ ثبت هناك بالنصِّ، فإنَّ الخلافة والإمامة لا بدَّ أنْ تثبت بالنصِّ في كلِّ زمانٍ، وقال: إذا ذكروا الحجَّة الصحيحة فننقلها إلى الإمام في كلِّ زمانٍ؛ لأنَّ النصَّ إنْ وجب في زمن وجب في كلِّ زمان؛ لأنَّ العلل الموجبة له موجودة أبداً. (ص ١٢٤).
ولـمَّا كانت الشورى المباشرة بعد الرسول باطلة في نظر الزيديَّة والإماميَّة، فقد استصحب عبد الرحمن بن قبة بطلانها في كلِّ العصور، ومنها بطلانها في (عصر الغيبة)، وأجاب بذلك عن سؤال الزيديَّة من الإماميَّة: لماذا لا تقيمون الحكومة في عصر الغيبة؟ لأنَّ ذلك يتطلَّب خروجاً على النصِّ وعودة إلى نظام الشورى الباطل في نظره. ورفض الشيخ ابن قبة إقامة أيَّة حكومة في عصر الغيبة حتَّى تحت قيادة الفقهاء العدول، وقال: ليس يقوم عندنا مقام الإمام إلَّا الإمام. (ص ٧٥).
وقد خاطب عبد الرحمن بن قبة الشيعة الزيديَّة والمعتزلة الذين عرضوا على الشيعة الاثني عشريَّة نظريَّة (ولاية الفقيه) قائلاً: إنَّنا نرضى من إخوننا بشيء واحد، وهو أنْ يدلُّونا على رجل من العترة لا يستعمل الاجتهاد والقياس في الأحكام السمعيَّة، ويكون مستقلّاً كافياً حتَّى نخرج معه، فإنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة على قدر الطاقة وحسب الإمكان، والعقول تشهد أنَّ تكليف ما لا يطاق فاسد، والتغرير قبيح. (ص ١١٨).
وأضاف الشيخ الصدوق في مجال رفضه لنظريَّة (ولاية الفقيه) القائمة على الاجتهاد: أنَّ الإمامة لا يتمُّ أمرها إلَّا بالعلم بالدِّين والمعرفة بأحكام ربِّ
↑صفحة ٤٥١↑
العالمين، وأئمَّة الزيديَّة قائلون في التأويل - أعني تأويل القرآن - على الاستخراج، وفي الأحكام على الاجتهاد والقياس، وليس يمكن معرفة تأويل القرآن بالاستنباط وفيه أشياء لا يُعرَف المراد منها إلَّا بتوقيف، مثل الصلاة والزكاة والحجِّ.
فإنْ قال قائل منهم: لِـمَ ينكر ما كان سببه أنْ يُعرَف بالتوقيف قد وقفه الله ورسوله عليه، وما كان سبيله أنْ يستخرج فقد وكّل إلى العلماء وجعل بعض القرآن دليلاً على بعض، فاستغنينا بذلك عمَّن تدَّعون من التوقيف والموقف؟ قيل له: لا يجوز، لتعدُّد الاحتمالات في الآية الواحدة، وليس يجوز أنْ يكون للمتكلِّم الحكيم كلام يحتمل مرادين متضادَّين. إنَّه لا بدَّ للقرآن من مترجم يعلم مراد الله تعالى فيُخبر به. ونفى الصدوق إمكانيَّة معرفة تأويل القرآن بالاستنباط لأيِّ أحد غير الأئمَّة من أهل البيت. (ص ١٠٠).
وقال السيِّد المرتضى في (الشافي): لا بدَّ من كون إمام معصوم في كلِّ زمان؛ لأنَّ أدلَّة الشرع من كتاب وسُنَّة لا تدلُّ بنفسها؛ لاحتمالها عدَّة وجوه، ولذلك اختلفوا في معناها مع اتِّفاقهم في كونها دلالة، فلا بدَّ من مبيِّن عرف معناها اضطراراً من الرسول أو من إمام سواه. (وقال): لسنا نقول: إنَّ جميع أدلَّة الشرع محتملة غير دالَّة بنفسها، بل فيها ما يدلُّ إذا كان ظاهره مطابقاً لحقائق اللغة. ولا شبهة أنَّ جميع أدلَّة الشرع ليست بهذه الصفة؛ لأنَّا نعلم أنَّ في القرآن متشابهاً وفي السُّنَّة محتملاً، وأنَّ العلماء من أهل اللغة قد اختلفوا في المراد بهما ومالوا في مواضيع إلى طريقة الظنِّ والأولى، فلا بدَّ - والحال هذه - من مبيِّن للمشكل ومترجم للغامض يكون قوله حجَّة كقول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم). فلا بدَّ من إمام مؤدٍّ لترجمة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مشكل القرآن وموضِّح عمَّا غمض عنَّا من ذلك، فقد ثبتت الحاجة إلى الإمام. (الشافي: ج ١/ ص ٣٠٣ و٣٠٤).
↑صفحة ٤٥٢↑
وقد رفض الشيخ الطوسي نظريَّة ولاية الفقيه اعتماداً على ضرورة علم الإمام (أي الحاكم الإسلامي) بجميع أحكام الدِّين علماً يقينيًّا قاطعاً، وقبح ولاية الفاقد للعلم. (تلخيص الشافي: ج ١/ ص ٢٣٦).
ورفض فكرة اعتماد الإمام على الاجتهاد، أو الأخبار، أو استفتاء العلماء، أو التوقُّف فيما لا يعلمه حتَّى يتبيَّن له الحكم الشرعي بأحد طُرُق العلم، واشترط حصول العلم الإلهي للإمام، وشكَّك بصحَّة الطُّرُق الظنّيَّة كالقياس والاجتهاد وكونها طريق للعلم الإلهي المطلوب في الإمام.
كما رفض فكرة تقليد الحُكَّام للعلماء، لعدم جواز التقليد أساساً، أو لعدم جواز التقليد لخصوص الحُكَّام، وضرورة حصول العلم اليقيني لديهم، وهو ما لا يمكن إلَّا في (الأئمَّة المعصومين). (ج ١/ ص ٢٤٠).
وهكذا رفض الشيخ الطوسي أنْ يكون الحاكم مجتهداً أو مقلِّداً للمجتهدين، واشترط أنْ يكون حاصلاً على العلم من الله، بالرغم من أنَّ الطوسي ومن قبل أُستاذيه المرتضى والمفيد كانوا قد فتحوا باب الاجتهاد ومارسوه. ولكنَّهم لم يرتقوا بشرعيَّته إلى درجة صياغة نظريَّة دستوريَّة تعتمد على ولاية الفقيه بدلاً من الإمام المعصوم، حتَّى في عصر الغيبة الذي لم يكن بمقدور الشيعة فيه التوصُّل إلى الإمام الغائب والتعاون معه على إقامة حكومة في الأرض.
وبالرغم من أنَّهم كانوا يعيشون في ظلِّ الدولة البويهيَّة الشيعيَّة إلَّا أنَّهم لم يستطيعوا إنتاج نظريَّة عصريَّة سياسيَّة تُلبِّي متطلِّبات الحاليَّة، وأصرُّوا على تكريس نظريَّة (الانتظار) السلبيَّة وترديدها في مختلف كُتُبهم الفكريَّة والفقهيَّة.
كما رفض العلَّامة الحلِّي بشدَّة نظريَّة ولاية الفقيه، حيث قال في (الألفين): الوقائع غير محصورة، والكتاب والسُّنَّة لا يفيان بها، فلا بدَّ من إمام منصوب من
↑صفحة ٤٥٣↑
قِبَل الله تعالى، من الزلل والخطأ يُعرِّفنا الأحكام ويحفظ الشرع؛ لئلَّا يترك بعض الأحكام أو يزيد فيها عمداً أو سهواً أو يُبدِّلها. (ص ١٨).
وقال: المطلوب من الرئيس العلم بالأحكام يقيناً لا ظنًّا بالاجتهاد. (ص ٢٠).
ولـمَّا كان المجتهد يعتمد على الظنِّ فلم يسمح العلَّامة الحلِّي له بتولِّي القيادة العامَّة بالطبع، ومع أنَّ العلَّامة وسائر علماء الحلَّة كانوا يقولون بنيابة الفقيه عن (الإمام المهدي) في باب الخُمُس، ويمارسون بعض مهامِّ الإمامة، أو يُؤيِّدون الحُكَّام الذين كانوا يمارسون دور الإمام. فإنَّ الحلِّيِّين ظلُّوا - بصورة عامَّة - يلتزمون بنظريَّة التقيَّة والانتظار.
وبالرغم من قيام الدولة الصفويَّة في القرن العاشر الهجري، وتأييد الشيخ عليٍّ الكركي لها فقد كان هنالك في (النجف) تيَّار قويٌّ يعارض قيام الدولة الصفويَّة، كما يرفض بشدَّة نظريَّة (النيابة العامَّة) ويتمسَّك بنظريَّة (الانتظار) كلازمة من لوازم نظريَّة (الإمامة الإلهيَّة)، ويرى في المحاولة الصفويَّة الكركيَّة انقلاباً على أهمّ أُسُس النظريَّة الإماميَّة، من حيث اشتراط العصمة والنصِّ في الإمام (الرئيس) واستلاباً واغتصاباً لدور الإمام المعصوم (المهدي المنتظر الغائب).
وكان يقود ذلك التيَّار الشيخ إبراهيم القطيفي، الذي أفتى بحرمة صلاة الجمعة خلافاً للشيخ الكركي الذي أفتى بإباحتها. وألَّف رسالة خاصَّة في حرمة الخراج في الردِّ على الشيخ الكركي، أسماها: (السراج الوهَّاج لدفع عجاج قاطعة اللجاج)، وأيَّده في ذلك المقدَّس الأردبيلي (تُوفِّي ٩٩٣هـ) الذي كتب (تعليقات على خارجيَّة المحقِّق الثاني).
وبالرغم من قول الشيخ محمّد حسن النجفي في (جواهر الكلام) بدرجة كبيرة من الولاية للفقيه، إلَّا أنَّه نفى إمكانيَّة النيابة عن (الإمام المهدي) في الثورة
↑صفحة ٤٥٤↑
وتأسيس الدول والحكومات، وقال في كتاب القضاء: لم يأذنوا (الأئمَّة) لهم (للفقهاء) في زمن الغيبة ببعض الأُمور التي يعلمون عدم حاجتهم إليها كجهاد الدعوة المحتاج إلى سلطان وجيوش وأُمراء ونحو ذلك ممَّا يعلمون قصور اليد فيها عن ذلك ونحوه، وإلَّا ظهرت دولة الحقِّ (وخرج الإمام المهدي).
وتوصَّل النجفي من خلال تحليله ذلك إلى ضرورة الانتظار في عصر الغيبة.. عصر التقيَّة، وعدم جواز إقامة الدولة الإسلاميَّة، بل عدم إمكانيَّتها.
* * *
الردُّ رقم (١):
حُرِّر بتاريخ (٢٨/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٣:٠٥) صباحاً.
محمّد منصور عضو:
هذه المقالة التي نشرتها اليوم لها علاقة بهذا الموضوع الذي كتبه الكاتب ويعتبر رقم (١).
وسوف أُوافيك بردٍّ مفصَّل على هذه المقالة غداً إنْ شاء الله، وهو يُعتَبر الردُّ الثاني:
أ - ادَّعى الكاتب أنَّ معنى الانتظار للإمام المستتر الغائب عند الإماميَّة هو تحريم العمل السياسي وتحريم السعي لإقامة الدولة الإسلاميَّة في عصر الغيبة، واعترض على النوَّاب الأربعة بعدم العمل والنشاط السياسي، بل ادَّعى أنَّ من لوازم الإيمان بوجود الإمام المعصوم حرمة إقامة الدولة الإسلاميَّة في غيبته.
والذي تخيَّله ونسبه للإماميَّة أراجيفُ وزورٌ كعادته فيما ينسبه أو حاول فهمه من كلمات علمائهم مع عدم إلمامه بالمصطلحات والبحوث العلميَّة!
فإنَّ الانتظار عند الإماميَّة معناه هو الاعتقاد بأنَّ الإمام الثاني عشر الحيَّ
↑صفحة ٤٥٥↑
المستتر لا بدَّ من ظهوره ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً، كما بشَّر بذلك النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في روايات الفريقين المتواترة، لا أنَّ الانتظار عندهم بمعنى توقُّف حركة المؤمن عن أداء الوظائف الشرعيَّة والمسؤوليَّات الدِّينيَّة الملقاة على عاتقه وعلى عاتق عموم المؤمنين.
فليس الانتظار يساوي التوقُّف والجمود والتسيُّب، بل الاعتقاد بالفرج الإلهي بظهور المصلح الأعظم لكلِّ تاريخ البشريَّة كما وعد بذلك القرآن في الآيات التي أشرنا إليها سابقاً وأشار إليها الشيخ الآصفي في مقالته التي تقدَّم عرضها في ساحة الحوار.
فعقيدة الانتظار بمعنى الاعتقاد بظهور المهدي من ذرّيَّة الرسول عقيدة كلِّ المسلمين لا الإماميَّة خاصَّة وإنْ أنكر الكاتب هذه الضرورة الإسلاميَّة.
وإذا تبيَّن معنى الانتظار لدى الإماميَّة فأيُّ تلازم بين الاعتقاد بإمامة الثاني عشر الحيِّ وبين الجمود وتعطيل القوى؟ بل العكس هو الصحيح فإنَّ الاعتقاد بوجود الإمام الثاني عشر المعصوم الحيِّ المراقب للأوضاع عن كثب وقرب مع ما يقوم به (عجَّل الله فرجه) من وظائف إلهيَّة عبر المنظومة السرّيَّة من الأوتاد والأبدال والنجباء والسُّيَّاح، وأنَّه سيظهر للإصلاح الشامل لعموم أرجاء الكرة الأرضيَّة، هذا الاعتقاد باعث للأمل ومزيل لليأس من الإصلاح في الوضع السياسي والاجتماعي، ومحفِّز وموجب للشعور بالمسؤوليَّة أكثر للاعتقاد بأنَّ الإرادة الإلهيَّة لم تلق الحبل على غاربه ولم تجعل البشريَّة سائبة، بل إرادة الربِّ نافذة فيهم حاكمة.
ب - ونسب الكاتب زوراً إلى متكلِّمي الإماميَّة القول بحرمة إقامة الدولة الإسلاميَّة في عصر الغيبة، وأنَّهم أصرُّوا على التمسُّك بموقف الانتظار حتَّى خروج المهدي (عجَّل الله فرجه).
↑صفحة ٤٥٦↑
ولا أدري لِـمَ يتعامى عمَّا نقلته في الردِّ السابق الذي أشار الكاتب نفسه إليه من أقوال وفتاوى المفيد والمرتضى والطوسي وغيرهم من مشروعيَّة إقامة الحكم الإسلامي للفقيه المأذون من قِبَل الإمام المعصوم، في الحكم بين الناس والقضاء بينهم وإقامة الحدود والتعزيرات ووجوب إعانة المؤمنين له على ذلك؟
وسبب الخبط لدى الكاتب - كعادته في المباحث التخصُّصيَّة - هو خلطه بين مسألة إقامة الحكم والدولة الإسلاميَّة نيابةً عن المعصوم في عصر الغيبة وبين مسألة إمامة غير المعصوم، كإمامة دينيَّة بديلة عن المعصوم وفي رتبته ودرجته من ناحية الصلاحيَّات الشرعيَّة والقانونيَّة والاعتقاديَّة، فنقل كلمات علماء الإماميَّة التي هي المسألة الثانية - التي هي مسألة اعتقاديَّة بالدرجة الأُولى وفقهيَّة في الفقه السياسي بالدرجة الثانية - نقلها في المسألة الأُولى التي هي فقهيَّة بحتة وإنِ اعتمدت على جذر اعتقادي.
وبعبارة أُخرى: إنَّ المسالة الأُولى طابعها فقهي في إقامة الحكم الإسلامي كوظيفة عامَّة شرعيَّة في فروع الدِّين، والمسألة الثانية طابعها كلامي اعتقادي كوظيفة اعتقاديَّة من أُصول الدِّين.
وبعبارة ثالثة أذكرها كي لا يلتبس الحال على الكاتب في مثل هذه المباحث التخصُّصيَّة التي تحتاج إلى مؤونة عمق علمي، إذ هي من أُمَّهات المباحث الاعتقاديَّة وأُمَّهات المباحث الفقهيَّة في باب الفقه السياسي: إنَّ المسألة الأُولى هي بناء النظام السياسي كفعل جارحي تدبيري. والمسألة الثانية هي في كون الإمامة سفارة إلهيَّة ووساطة بين الله وخلقه ليست من نمط النبوَّة، بل تابعة لها ووصاية إلهيَّة وخلافة عهديَّة من الله تعالى، أحد شؤونها وشعبها إدارة الحكم في النظام السياسي الاجتماعي. فأرجو إنْ قد اتَّضح الفرق لدى الكاتب بين المسألتين فلا يعاود الخلط بينهما، ويحصل اجترار للكلام والحوار حول هذه النقطة.
↑صفحة ٤٥٧↑
أُنبِّه الكاتب إلى مسائل أُخرى من ذيول المسألة الأُولى ذكرها علماء الإماميَّة كمسألة الأمر بالعروف والنهي عن المنكر الاجتماعي والسياسي من إقامة الحدود والقضاء والتعزيرات والأُمور الحسبيَّة العامَّة ذكروها في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكروا أنَّ إقامتها في عصر الغيبة موكول للفقيه الجامع للشرائط المأذون من المعصوم الغائب المستتر نيابةً عنه كما دلَّت على الإذن الروايات المعتبرة، ومن الواضح أنَّ القضاء أحد الأجنحة الثلاثة لجسم الدولة والنظام السياسي أو إقامة الحدود والتعزيرات يُمثِّل وزارة الداخليَّة والأمن العامّ في الدولة، مضافاً إلى تبعيَّة وزارة أُخرى للقضاء في اصطلاح الفقهاء كوزارة الأحوال الشخصيَّة والأوقاف ونحوها، وكمسألة أنَّ الجهاد الدفاعي تحت رعاية وصلاحيَّة الفقيه المأذون عن المعصوم، هذه المسألة بمثابة وزارة الدفاع، فما الذي بقي من أجهزة الحكم والنظام السياسي غير سائغ عند علماء الإماميَّة في عصر الغيبة نيابةً عن المعصوم؟ وكمسألة تولِّي ولاية عن السلطان الجائر كوزير أو قاضٍ أو والٍ في منطقة ونحو ذلك وقد سوَّغه علماء الإماميَّة، تحت مجوِّز قانوني وهو إذن المعصوم (عليه السلام) الذي دلَّت عليه روايات معتبرة، شريطة مطابقة العمل الذي يقوم به للموازين الشرعيَّة، وهذه المسألة نحو من المشاركة السياسيَّة للفقيه في الحكم والنظام السياسي وقد ذكرها كافَّة علماء الشيعة من المتقدِّمين إلى عصرنا الحاضر، كما هو الحال في المسائل السابقة أيضاً إلَّا قليل أو نادر.
وإليك قائمة بكلمات المتكلِّمين وفقهاء الإماميَّة في المسألة الأُولى وذيولها من المسائل الأُخرى التي أشرنا إليها:
١ - قال الصدوق في كتاب (المقنع/ باب الدخول في أعمال السلطان) ثمّ روى روايات عديدة عن الأئمَّة المعصومين (عليهم السلام) متضمِّنة لإذنهم في المشاركة في
↑صفحة ٤٥٨↑
الحكم والنظام السياسي مع القوى الأُخرى الحاكمة غير الشرعيَّة، شريطة اتِّباع الموازين الشرعيَّة في القيام بمهامِّ الحكم.
٢ - قال المفيد في كتابه (أوائل المقالات/ فصل: القول في معاونة الظالمين والأعمال من قِبَلهم): ... وإنَّ معاونة الظالمين على الحقِّ وتناول الواجب لهم جائز وأحوال واجب ،وأمَّا معونتهم على الظلم والعدوان فمحظور لا يجوز مع الاختيار. وأمَّا التصرُّف في الأعمال فإنَّه لا يجوز إلَّا لمن أذن له إمام الزمان، وعلى ما يشترط عليه في الفعال، وذلك خاصٌّ لأهل الإمامة دون من سواهم...
وقال المفيد في كتاب (المقنعة/ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر): ... فأمَّا إقامة الحدود فهو إلى سلطان الإسلام المنصوب من قِبَل الله تعالى، وهم أئمَّة الهدى من آل محمّد (عليهم السلام) أو من نصبوه لذلك من الأُمراء والحُكَّام، وقد فوَّضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان. فمن تمكَّن من إقامتها... وكذلك إنْ استطاع إقامة الحدود على من يليه من قومه فقد لزمه إقامة الحدود عليهم، فليقطع سارقهم، وليجلد زانيهم، ويقتل قاتلهم. وهذا فرض متعيَّن على من نصبه المتغلِّب لذلك على ظاهر خلافته له أو الإمارة من قِبَله على قوم من رعيَّته، فيلزمه إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكُفَّار ومن يستحقُّ ذلك من الفُجَّار، ويجب على إخوانه المؤمنين معاونته على ذلك إذا استعان بهم.
فلاحظ بقيَّة عبارته في كتاب (المقنعة) حيث فصَّل فيها مبسوطاً كيفيَّة مشاركة الفقيه القوى الأُخرى غير الشرعيَّة في الحكم في الصور والفروض المختلفة.
٣ - قال الشريف المرتضى في كتاب (رسائل الشريف المرتضى/ مسألة في الولاية من قِبَل السلطان الجائر): ... الكلام في الولاية من قِبَل المتغلِّب وهي
↑صفحة ٤٥٩↑
على ضروب: واجب - وربَّما تجاوز الواجب إلى الإلجاء -، ومباح، وقبيح، ومحظور، فأمَّا الواجب: فهو أنْ يعلم المتولَّى أو يغلب على ظنِّه بأمارات لائحة أنَّه يتمكَّن بالولاية من إقامته الحقِّ ودفع باطل وأمر بمعروف ونهي عن منكر، ولولا هذه الولاية لم يتمّ شيء من ذلك فيجب عليه الولاية لوجوب ما هي سبب إليه وذريعة إلى الظفر به...
فلاحظ تمام كلامه، فترى أنَّه يُفتي بوجوب إقامة الحكم الإسلامي مع القدرة على اتِّباع الموازين الشرعيَّة.
٤ - قال الشيخ الطوسي في كتاب (النهاية): فأمَّا إقامة الحدود فليس يجوز لأحد إقامتها إلَّا لسلطان الزمان المنصوب من قِبَل الله تعالى أو من نصبه الإمام لإقامتها... وقد رخّص في حال قصور أيدي أئمَّة الحقِّ وتغلُّب الظالمين. ومن استخلفه سلطان ظالم على قوم وجعل إليه إقامة الحدود جاز له أنْ يقيمها عليهم على الكمال، ويعتقد أنَّه إنَّما يفعل ذلك بإذن سلطان الحقِّ لا بإذن سلطان الجور، ويجب على المؤمنين معونته وتمكينه من ذلك...
ثمّ بسط الكلام في ذلك في الفروض والصور المختلفة، فتراه يوجب إقامة الحكم الإسلامي نيابةً عن المعصوم في عصر الغيبة مع التمكُّن.
٥ - قال ابن برَّاج في كتاب (المهذَّب/ باب خدمة السلطان): ... وأمَّا السلطان الجائر فلا يجوز لأحد أنْ يتولَّى شيئاً من الأُمور من قِبَله إلَّا أنْ يعلم أو يغلب على ظنِّه أنَّه إذا تولَّى ولاية من جهته تمكَّن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... ثمّ بسط الكلام في ذلك.
٦ - قال أبو حمزة الديلمي (المتوفِّي ٤٤٨هـ) في كتاب (المراسم/ في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر): إقامة الحدود... فأمَّا القتل والجراح في الإنكار فإلى السلطان أو من يأمره السلطان، فإنْ تعذَّر الأمر لمانع فقد
↑صفحة ٤٦٠↑
فوَّضوا (عليهم السلام) إلى الفقهاء إقامة الحدود والأحكام بين الناس بعد أنْ لا يتعدّوا واجباً ولا يتجاوزوا حدًّا، وأمروا عامَّة الشيعة بمعاونة الفقهاء على ذلك.
٧ - قال ابن إدريس الحلِّي في كتاب (السرائر/ في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر): وأمَّا الحكم بين الناس والقضاء بين المختلفين فلا يجوز أيضاً إلَّا لمن أذن له سلطان الحقِّ في ذلك، وقد فوَّضوا ذلك إلى فقهاء شيعتهم المأمونين المحصِّلين الباحثين عن مآخذ الشريعة الديَّانين القيِّمين بذلك.
٨ - قال المحقِّق الحلِّي في (الشرائع): يجوز للفقهاء العارفين إقامة الحدود في حال غيبة الإمام، كما لهم الحكم بين الناس مع الأمن من ضرر سلطان الوقت، ويجب على الناس مساعدتهم على ذلك، ولا يجوز أنْ يتعرَّض لإقامة الحدود ولا للحكم بين الناس إلَّا عارف بالأحكام، مطَّلع على مآخذها، عارف بكيفيَّة إيقاعها على الوجوه الشرعيَّة.
٩ - قال العلَّامة الحلِّي في كتابه (إرشاد الأذهان/ كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر): والفقيه الجامع لشرائط الإفتاء، وهي: العدالة، والمعرفة بالأحكام الشرعيَّة وأدلَّتها التفصيليَّة... إقامتها، والحكم بين الناس بمذهب أهل الحقِّ، ويجب على الناس مساعدته على ذلك.
١٠ - قال الشهيد في (الدروس/ في كتاب الحسبة): والحدود والتعزيرات إلى الإمام ونائبه ولو عموماً، فيجوز حال الغيبة للفقيه الموصوف بما يأتي في القضاء إقامتها مع المكنة، ويجب على العامَّة تقويته ومنع المتغلِّب عليه مع الإمكان، ويجب عليه الإفتاء مع الأمن، وعلى العامَّة المصير إليه والترافع في الأحكام.
١١ - ونظيره قال الشهيد الثاني في (المسائل/ في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
↑صفحة ٤٦١↑
١٢ - ونظيره قال المحقِّق الكركي في (جامع المقاصد/ في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
١٣ - وغيرهم من فقهاء الشيعة في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرهم من علماء الإماميَّة.
فكلُّ هذه التصريحات أرجو أنْ تصكَّ أُذُن الكاتب كي لا يفتري على طائفة إسلاميَّة كبيرة بالزور، فهم يرون وجوب الحكم الإسلامي في عصر الغيبة نيابةً عن المعصوم، سواء بالمشاركة مع القوى الأُخرى أو بنحو الانفراد والاستقلال مع التمكُّن من ذلك. وأمَّا مع عدم القدرة من ذلك فاللازم التقيَّة، وهي بمعنى العمل التكتيكي المرحلي في جوِّ الإرهاب السلطوي، كي لا تمكن السلطة الظالمة من استئصال المؤمنين.
فالتقيَّة عند الإماميَّة خطَّة عمل تحت الستار والخفاء عن السطح كي لا تبيدهم سلطات الجور، لا بالمعنى السلبي الجمودي التعطيلي للقوى والمسؤوليَّات الاجتماعيَّة السياسيَّة.
ج - اتَّضح ممَّا تقدَّم أنَّ ما نقله الكاتب من كلمات علماء الإماميَّة إنَّما هي في المسألة الثانية الاعتقاديَّة في الإمامة كسفارة إلهيَّة أحد شؤونها الحكم السياسي، وأنَّ الكاتب اشتُبِهَ عليه مصطلح الإمامة الذي هو في المسألة الثانية مع مصطلح القيادة في تدبير الحكم السياسي، ولو نيابةً عن المعصوم في المسألة الأُولى، وحيث إنَّ أهل السُّنَّة يُعبِّرون في المسألة الأُولى بالإمامة، وقع الخلط بسبب ذلك، ولا يؤاخذ الجاهل بالإصلاح لكن يؤاخذ بتقحُّمه ما لا خبرة له فيه.
كما أنَّ ما ذكره من روايات وعبائر للشيخ النعماني والصدوق وغيرهم من علماء الإماميَّة من لزوم التقيَّة حتَّى خروج المهدي (عجَّل الله فرجه) بعضها في مورد المسألة الثانية التي عرفت أنَّها اعتقاديَّة يترتَّب عليها مسألة فقهيَّة في الحكم السياسي،
↑صفحة ٤٦٢↑
وبعضها في صدد بيان للتقيَّة كتكتيك مرحلي في أُسلوب العمل السياسي والفردي، وبعضها في ثواب الصبر والاستقامة على العقيدة في ظروف الظلم والقهر، لا بمعنى الجمود والتوقُّف عن حركة النشاط، وبعضها في صدد تحذير الشيعة عن الحركات الثوريَّة الفاشلة تخطيطاً في عصر الأئمَّة (عليهم السلام)، وبعضها في النهي عن البيعة لغير المعصوم، بمنطق إيجاد البيعة لشرعيَّة حكم الذي بويع من دون إذن المعصوم (عليه السلام).
د - أنَّ مرجعيَّة فقهاء الشيعة لم تنقطع منذ عهد الباقر والصادق (عليهما السلام) واستمرَّت إلى الغيبة الصغرى والكبرى إلى عصرنا الحاضر، كما أشرنا إلى ما في رجال الكشِّي والنجاشي وكتاب الوسائل المتضمِّن للشواهد التاريخيَّة على ذلك، والمرجعيَّة الشيعيَّة حسب أدبيَّات السياسة الأكاديميَّة في العصر الحديث التي أجرت البحوث التحليليَّة حول المرجعيَّة الشيعيَّة أنَّها حكومة بما للحكومة من معنى وأجزاء وفقرات، غاية الأمر ليست هي حكومة علنيَّة رسميَّة، لكنَّها حكومة في المنفي أو حكومة تحت الستار البارد، فهي تمارس القضاء (القوى القضائيَّة في الدولة)، والأمن والجهاد (وزارة الدفاع)، والتبليغ والدعوى الدِّينيَّة (وزارة الثقافة)، وتوزيع الحقوق الشرعيَّة في المصارف المقرَّرة لها (وزارة الماليَّة)، والتدريس الدِّيني لطلَّاب العلوم الدِّينيَّة ولعامَّة الناس (وزارة التعليم)، وغير ذلك من أنشطة الدولة، كما أنَّ المرجعيَّة الشيعيَّة لا تعرف الحدود الجغرافيَّة، بل تتَّسع رقعتها بحسب التواجد الشيعي في أقطار العالم.
والاقتصار في تصوير الحكومة في النظام السياسي في المجتمع على الحكومة الرسميَّة جهل بألف باء علم السياسيَّة وبالأدبيَّات السياسيَّة العلميَّة، فإنَّه من المقرَّر في الأدبيَّات السياسيَّة في هذا العصر أنَّ كلَّ قوَّة ذات نفوذ اجتماعي تمارس نفوذها على التيَّار التابع لها من الناس هي شكل من أشكال الحكومة في النظام
↑صفحة ٤٦٣↑
السياسي الاجتماعي، ومن ثَمَّ لا تحكم الدول والبلدان في شتَّى أقطار العالم حكومة واحدة التي هي الرسميَّة في القطر الواحد، وإنَّما هناك توازن قوى بين حكومات متعدِّدة على القطر الأرضي الواحد، ولا أرى هذه المرَّة إلَّا وقد غفل وجهل مثل هذه البحوث التحليليَّة التخصُّصيَّة.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢٨/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٠:٣٤) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
قلت: لقد وقع الشيعة الإماميَّة في أزمة كبرى في عصر الغيبة، ورفضوا في البداية إقامة الحكومة الإسلاميَّة، لأنَّها من أعمال الإمام المعصوم الذي لا يحقُّ لغيره القيام بذلك، وذكرت لك أقوال ابن قبة والشيخ الصدوق والسيِّد المرتضى والعلَّامة الحلِّي وغيرهم من العلماء الذين لم يكونوا يُفرِّقون بين النظريَّة العقائديَّة والموقف الفقهي، حيث كانوا يعتقدون أنَّ الحكومة من عمل الإمام ولا يقوم مقام الإمام إلَّا الإمام، وأيُّ تنازل عن شرط العصمة أو النصِّ والتعيين سوف يلغي نظريَّة الإمامة ويجعلها في زمان دون زمان، وكان أمام الشيعة خياران لا ثالث لهما، إمَّا التمسُّك بنظريَّة الإمامة وانتظار الإمام الغائب الذي كان في السابق يعني الجلوس والانتظار السلبي المطلق، وإمَّا القول بضرورة إقامة الدولة واختيار الإمام من قِبَل الأُمَّة، وتفسير معنى الانتظار بصورة إيجابيَّة التفافيَّة كما فعل الدكتور عليّ شريعتي ومفكِّرو الثورة الإسلاميَّة الحديثة، وقد اختار الشيعة بعد طول انتظار الخيار الثاني وغلَّفوه بنظريَّة النيابة العامَّة التي افترضوها افتراضاً.
لقد كان الشيخ حسين الحلِّي المرشَّح للمرجعيَّة بعد السيِّد محسن الحكيم يرفض العمل السياسي، ويقول للسيِّد مهدي الحكيم الذي يقول في مذكَّراته: إنَّه
↑صفحة ٤٦٤↑
كان ينهاهم عن العمل السياسي ويطالبهم بترك الأُمور للإمام المهدي الذي لم يُعرَف متى يظهر.
ولو بحثت في أسباب سيطرة حزب البعث وصدَّام على السلطة في العراق لوجدته في عقول معظم علماء الحوزة الذين ثبَّطوا الشهيد الصدر عن العمل السياسي في الستِّينات ودفعوه للانسحاب من حزب الدعوة بعد تأسيسه والاستقالة منه وقولهم: كلُّ راية تُرفَع قبل ظهور المهدي فهي راية ضلالة وصاحبها طاغوت، حيث لم يكن عمل المراجع يقتصر بصورة عامَّة ما عدا فئة قليلة منهم إلَّا على الإفتاء وأخذ الحقوق الشرعيَّة.
نعم كانت هناك مسيرة طويلة للتحرُّر من فكر الانتظار والشروط المثاليَّة الصعبة أو المستحيلة للإمامة من النصِّ والعصمة والتعيين من قِبَل الله. وقد رجَّح علماء الشيعة أخيراً صوت العقل على صوت الأحاديث الضعيفة ونظريَّات المتكلِّمين الوهميَّة وفرضيَّاتهم الخياليَّة وقالوا بولاية الفقيه أو نظريَّة الشورى وولاية الأُمَّة على نفسها.
لقد كان هناك رأيان للشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة وموقفان من مسألة الدولة في عصر الغيبة، وإذا أحببت أنْ تطَّلع على آرائهم بالتفصيل أو تنظر إلى مسيرة التطوُّر الطويلة فاقرأ الجزء الثالث من كتابي: تطوُّر الفكر السياسي الشيعي في عصر الغيبة، الذي أُورد فيه عمليَّة التطوُّر جيلاً بعد جيل وباباً بعد باب.
* * *
الردُّ رقم (٢):
حُرِّر بتاريخ (٢٨/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٤:٥٥) مساءً.
محمّد منصور عضو:
الردُّ على الكاتب في مقاله أنَّ المشايخ الأوائل موقفهم سلبي من ولاية
↑صفحة ٤٦٥↑
الفقيه والاجتهاد، وما ذكرنا من الردِّ السابق على الآثار السلبيَّة للاعتقاد بالإمامة هو في الحقيقة ردٌّ أيضاً لأكثر ما ذكره في مقاله.
١ - قال الكاتب: إنَّ ما نقلتَه من كلمات علماء الإماميَّة هو لبعضهم وبعض أقوالهم لا كلّها، وهذا تدليس واضح، فإنَّ ما ذكرته هو لأهمّ أعلام الإماميَّة المتقدِّمين ولغيرهم أيضاً، وقد أشرتُ إلى مظانِّ كلمات البقيَّة منهم في كُتُبهم الفقهيَّة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو باب الحسبة، فالقول بجواز إقامة الحكم الإسلامي هو قول مشهور علماء الإماميَّة المتقدِّمين، بل قد نقلنا عبائر أكثرهم المعبِّرة بلفظ وجوب ذلك مع تمكُّن الفقيه ووجوب معاونة الناس له.
٢ - قال الكاتب: إنَّ تجويزهم للحدود والقضاء وللتطبيق في بعض المجالات السياسيَّة بينما موقفهم مضادٌّ لولاية الفقيه. وقوله هذا تدليس آخر، ولا أدري ماذا ينفع الكاتب تعصُّبه على النسبة المخالفة للواقع، فإنَّ ذلك لن يوصله إلى الوعي بالحقيقة، بل يصدُّه عنها، وخسران الحقيقة أمر فادح أخطر من تلبية نزعات النفس واللجاج.
وعلى كلِّ حالٍ فقد شرحت في الردِّ السابق أنَّ الحدود والتعزيرات التي جوَّزها، بل أوجب إقامتها مشهور علماء الإماميَّة المتقدِّمين إلى يومنا هذا يساوي في مصطلح تركيب الدولة في العصر الحديث وزارات تنفيذيَّة متعدِّدة كوزارة الداخليَّة والأمن (الشرطة)، كما أنَّ القضاء الذي أوجب إقامته مشهور علماء الإماميَّة المتقدِّمين إلى يومنا هذا - وقد نقلنا كلماتهم في الردِّ السابق - هو عبارة عن ثلث جهاز الدولة والحكم في العصر الحديث؛ لأنَّ الدولة تتشكَّل من أجهزة ثلاثة هي: قوَّة القضاء، وقوّة التنفيذ وتتشكَّل من الوزارات، وقوَّة التشريع وهي المجالس النيابيَّة التشريعيَّة.
↑صفحة ٤٦٦↑
فإذا أوجبوا إقامة القضاء فقد أوجبوا إقامة ثلث جهاز الدولة، وهل يُعقَل إيجابهم لذلك من دون وجوب جهاز الدولة؟ هذا بضميمة ما تقدَّم من عينيَّة وجوب إقامة الحدود والتعزيرات لوزارة الداخليَّة والأمن، هذا مضافاً إلى أنَّ القضاء يشمل وزارة تنفيذيَّة أيضاً كوزارة الأحوال الشخصيَّة ووزارة العقارات؛ لأنَّه فيه توثيق لأسانيد المملوكات إلى غير ذلك من لواحق القضاء التي تُمثِّل العديد من الوزارات التنفيذيَّة. فكيف يوجبون ذلك ويسند إليهم الكاتب حرمة ذلك؟
وقد أوضحت له في الردِّ السابق أنَّ تحريم الادِّعاء لمقام الإمامة الإلهيَّة كأمر اعتقادي يترتَّب عليه أمر فرع عملي من صلاحيَّة إقامة الحكم لا ربط له، ولا ينافي تجويزهم، بل إيجابهم لإقامة الحكم النيابي عن المعصوم.
كما أنَّ تصريحهم بوجوب إقامة الحكم والمعروف ودفع المنكر ووجوب الدفاع وأنَّ صلاحيَّته بيد الفقيه يساوي وزارة الدفاع ووزارة الثقافة والإعلام ووزارة التربيَّة والتعليم.
ولعلَّ الكاتب لا يعرف مؤدَّى الألفاظ والمصطلحات الفقهيَّة التقليديَّة في علم فقه الشريعة، وما هو الموازي لها في عناوين أجزاء وفقرات الحكم في الدولة في العصر الراهن.
لكن كان اللازم عليه الاستعانة واستشارة خبراء في الفقه وعلم القانون كي يعينوه على دراسة الفكر الشيعي السياسي، إذ ليس التنظير السياسي الفقهي يمكن قراءته بأدوات ثقافيَّة فكريَّة من الأدب الصحفي، بل لا بدَّ في قراءته من الاستعانة بأدوات وموازين علم القانون.
ولا يحتمل أنَّ الكاتب يدَّعي التخصُّص في علم القانون، وإنِ ادَّعى كونه فرداً في تنظيم سياسي معارض سابقاً أو كاتباً في مجلَّة ونحو ذلك، ولكن هذا غير
↑صفحة ٤٦٧↑
مؤهِّل للبحث القانوني التحليلي للموادِّ القانونيَّة، ولا يشفع لدعوى ذلك دعوى التتبُّع لكلِّ باب باب وخطوة خطوة للفكر الشيعي، فإنَّه من دون أداة لفهم الموادِّ، ماذا يفيد السير السطحي مروراً على رسم نقوش الألفاظ مع أنَّه بان من الردِّ - الذي ذكرناه - السابق عدم معرفة الكاتب بمظانِّ هذا البحث الفقهي من الفقه السياسي، وأنَّه أين يُبحَث في أبواب الفقه، ولذلك لم يتطرَّق إليه الكاتب في مقالاته السابقة ولا في كتابه (تطوُّر الفكر السياسي لدى الشيعة)، لم يتطرَّق إليه من قريب ولا من بعيد، وهو معذور؛ لأنَّه فوق طاقته وفوق مستوى اطِّلاعه!
والعلوم لا يُتمكَّن منها بالأُمنية، بل لا بدَّ من مكابدة الدراسة التخصُّصيَّة وجهد الليالي. وإلَّا فمن يجهل ممَّن لديه أدنى ثقافة قانونيَّة أنَّ إقامة القضاء ووزارة الدفاع (الجهاد الدفاعي) ووزارة التعليم (التبليغ الدِّيني) ووزارة الداخليَّة (الحدود والتعزيرات) والوزارت الأُخرى قبول الولاية ولو في حكومة الآخرين والسلاطين التي جوَّزها مشهور علماء الإماميَّة المتقدِّمين إلى يومنا هذا، بل أوجبوها إذا تمكَّن من إقامة الحقِّ، وهي نوع من المشاركة في الحكم السياسي، أنَّ كلَّ ذلك ليس إيجاباً للحكم السياسي في النظام الاجتماعي، بل قد أوجبوا الإفتاء وهو يساوي القوَّة التشريعيَّة، بل نضيف إلى قائمة العلماء الذين ذكرنا أسماءهم:
١ - ثقة الإسلام الكليني في كتاب (الكافي) وهو من علماء الإماميَّة في الغيبة الصغرى أي النصف الثاني من القرن الثالث والنصف الأوَّل من القرن الرابع، قد ذكر في كتابه في أبواب القضاء الروايات الدالَّة على تصدِّي فقهاء الشيعة للقضاء نيابةً عن المعصوم، وذكر أيضاً روايات المشاركة السياسيَّة في نظام الحكم مع الآخرين تحت عنوان (قبول ولاية السلطان الظالم عند التمكُّن من مطابقة الحقِّ)، وذكر روايات إقامة الحدود والتعزيرات أيضاً.
↑صفحة ٤٦٨↑
٢ - أبو القاسم محمّد بن جعفر بن قولويه، أفقه الشيعة في زمانه أُستاذ الشيخ المفيد كما ذكر النجاشي في رجاله، فقد وقع في طريق العديد من روايات الفقه السياسي، أي تجويز القضاء لفقهاء الشيعة نيابةً عن المعصوم، وفي طريق روايات بقيَّة المسائل المتقدِّمة، ومن المعلوم لدى أهل التخصُّص أنَّ فتوى مسلك الراوي الفقهيَّة ليُستَعلم من الروايات التي يرويها.
٣ - أُستاذ الشيخ الصدوق محمّد بن الحسن بن الوليد القمِّي، فقد وقع في طريق روايات تلك المسائل والأبواب.
٤ - بقيَّة مشايخ الفقهاء والرواة الذين وقعوا في طُرُق روايات تلك المسائل المسوِّغة لتصدِّي فقهاء الشيعة للحكم نيابةً عن المعصوم.
كما نضيف في المقام أنَّ إيجاب مشهور علماء الإماميَّة للفتوى المساوية للقوَّة التشريعيَّة للقضاء لا ينحصر بالقوَّة القضائيَّة، بل يشمل المحكمة الدستوريَّة أيضاً، وهي أعلى جهة ذات صلاحيَّة قانونيَّة في الدولة العصريَّة، والتي تهيمن على العلاقة بين القوى الثلاث القضائيَّة والتشريعيَّة والتنفيذيَّة. ولا أدري هل أنَّ الكاتب يفطن إلى البيان القانوني الشارح لكيفيَّة شمول تجويز الفتوى والقضاء لمقام المحكمة الدستوريَّة وموقعها القانوني، أم لا يفطن لذلك؟
وسأدع شرح ذلك إلى مقالات لاحقة لأترقَّب ما الذي سيلهج به الكاتب بعد مواجهته لهذا البحث التحليلي القانوني.
٣ - ادَّعى الكاتب أنَّ ما نقلته هو بعض أقوالهم لا كلّها وأنَّ بقيَّة أقوالهم تُعطي نظريَّة متكاملة لنظريَّتهم اللازمة التي لم يتحرَّروا منها، ولا أدري هل أنَّ الخلط بين المسألة الاعتقاديَّة وهي الإمامة الإلهيَّة والتي أحد شؤونها الحكم السياسي ومسألة إقامة الحكم السياسي في النظام الاجتماعي نيابةً عن المعصوم وهي مسألة فقهيَّة في الأبواب السياسيَّة في الفقه، هو تكامل في معرفة النظريَّة؟
↑صفحة ٤٦٩↑
مع أنَّ كلماتهم في المقامين متناسقة غير متضاربة كما أوضحناه في الردِّ السابق في المقام.
وكيف يُصوِّر وينطق بلسانه لفظه أزمة ويعيشها علماء الإماميَّة وهم يُبيِّنون كمال السلامة والاتِّساق بين عقيدتهم بالإمامة كعهد من الله تعالى للإمام الثاني عشر، ونيابة للفقهاء عنه في الحكم السياسي تابعين له في التقنين والموازين المتَّبعة في الحكم كما رسمها هو لهم، وفي كافَّة الظروف سواء في ظرف الاقتدار على الانفراد بالحكم أو في ظرف المشاركة مع الأطراف الأُخرى في الحكم أو في ظرف الحكومة الباردة غير الرسميَّة تحت الستار كما أوضحنا ذلك في حقيقة المرجعيَّة الشيعيَّة في أدبيَّات السياسة الأكاديميَّة في العصر الحديث، بل هي حقيقة كلِّ قوى ذات نفوذ في المجتمع ذات أتباع، أوضحناه في الردِّ السابق رقم (١)(٣٣١).
والذي أراه أنَّ الكتاب قد اشتبه عليه صور الحالات المختلفة التابعة للظروف الخارجيَّة الزمانيَّة والسياسيَّة التي تعيشها الأُمَّة الإسلاميَّة والطائفة الشيعيَّة بالخصوص، فإنَّه قد تمرُّ بعض الظروف التي لا يتمكَّن فيها علماء الإماميَّة وفقهاء الشيعة من إقامة الحكم السياسي بشكلٍ مستقلٍّ، بل بنحو المشاركة مع الأطراف الأُخرى كما في العديد من القرون السابقة، أو ظروف أُخرى قاهرة لا تسمح لهم بإقامة الحكم ولو بنحو المشاركة فتراهم يقتصرون على النفوذ والحكومة من وراء الستار، وهي المعروفة بجهاز المرجعيَّة الدِّينيَّة الذي ظلَّ متِّصلاً طوال القرون منذ عهد الباقر والصادق (عليهما السلام) حتَّى يومنا الحاضر، بنحو النيابة طوليًّا عن الإمام المعصوم سواء في الإفتاء والذي يساوي القوَّة التشريعيَّة، والقضاء (القوَّة القضائيَّة)، والولاية (القوَّة التنفيذيَّة).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٣١) راجع صفحة (٤٥٥).
↑صفحة ٤٧٠↑
واختلاف توفُّر القدرة الخارجيَّة التابعة للظروف المحيطة لا يُؤثِّر في التنظير القانوني الذي يُقرِّره علماء الإماميَّة وفقهاء الشيعة، إذ التنظير القانوني وحلوله المختلفة لا دخل له بتحقُّق الظرف المناسب أو غير المناسب، كما لا ربط له بمهارة الفقيه في صنع الظروف الملائمة والبراعة في بنائها وعدم ذلك، نظير الحال في القوانين الوضعية البشريَّة فإنَّ التنظير القانوني لا ربط له بكفاءات المجري للقانون ومهاراته، لاسيّما على العقيدة الإماميَّة، إذ الفقيه نائبٌ لا حاكمٌ بالأصالة، إذ الحاكم بالأصالة في طوليَّة بعد الله ورسوله هو الإمام المعصوم المتوفِّر على الكفاءة العلميَّة القصوى (العلم اللدنِّي) والأمانة العلميَّة القصوى (العصمة).
فما يراه الكاتب أو غيره من اختلاف أدوار فقهاء الشيعة في الحكم السياسي في الدول المختلفة، فهو راجع إلى اختلاف الظروف واختلاف كفاءات أشخاص الفقهاء أو اختلاف وجهة نظرتهم ورؤيتهم الموضوعيَّة تجاه الظروف المعاشة، لا إلى الاختلاف في التنظير القانوني. مضافاً إلى اختلاف شاكلة هيكليَّة جسم الدولة وأدواتها من قرن إلى قرن إلى ما نشاهده حاليًّا من تشكيلة جهاز الحكم.
٤ - قال الكاتب: إنَّ علماء الإماميَّة المتقدِّمين يُخصِّصون إقامة الحكم السياسي بالإمام المعصوم؛ لأنَّ إقامة الحكم السياسي يحتاج إلى صلاحيَّة التشريع والتنفيذ والقضاء، وأنَّ هذه المهامّ الثلاث من مختصَّات الإمام المعصوم (عليه السلام). ولأنَّ الحال يلتبس على الكاتب مرَّة بعد أُخرى كلَّما يجول في بحوث القانون فلا بدَّ أنْ أذكر له الشرح القانوني بالرسم الحديث، فلعلَّه يمكنه الخروج ممَّا استعصى عليه فهمه من تلك البحوث.
فليعلم أنَّ الدولة العصريَّة تنشأ على أساس دستوري يتضمَّن موادًّا، ثمّ
↑صفحة ٤٧١↑
إنَّ هذا الدستور حيث اشتمل على موادٍّ قانونيَّة، فلا بدَّ أنْ تُبنى الموادُّ القانونيَّة ومنظومة تلك المواد على أساس فلسفة حقوقيَّة كما هو محرَّر في علم القانون الأكاديمي في الجامعات الحديثة، ومبرهن عليه في ذلك العلم وفي العلوم الإنسانيَّة والعقليَّة، وفلسفة الحقوق تبنى وترسى على فلسفة الرؤية للكون، هل هي إلهيَّة وأنَّ الأصل هو الخالق، أم مادّيَّة وأنَّ الأصل هي المادَّة؟ فيكون الإنسان الفرد بالتالي هو المحور لمنظومة الحقوق ومشجراتها.
فالبنية الأُولى هي فلسفة الرؤية الكونيَّة، وهي تساوي العقيدة، عقيدة التوحيد أو عقيدة المادَّة هي الأصل ثمّ تبنى البنية الثانية على ضوء الأُولى وطوليًّا، وهي صياغة الحقوق بنحو العموم، وهي تساوي النبوَّة والشريعة في عقيدة التوحيد في البنية الأُولى، أو الفلاسفة البشريِّين وفلاسفة الحقوق في العلوم الإنسانيَّة في عقيدة أصالة المادَّة في المذاهب المادّيَّة العلمانيَّة النظريَّة الأُخرى في البنية الأُولى.
ثمّ تبنى البنية الثالثة وهي صياغة القوانين الدستوريَّة وموادِّها وهي تساوي تفاصيل الشريعة والنبوَّة وتتبعها وتليها الإمامة الإلهيَّة بتوسُّط العلم اللدنِّي والعهد الإلهي، ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً... وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّها﴾ (البقرة: ٣٠ و٣١)، ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ (البقرة: ١٢٤)، ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ﴾ (الأنبياء: ٧٣)، في عقيدة التوحيد في البنية الأُولى، أو تساوي مجالس خبراء وضع القانون، أو مجالس تأسيس الدستور في مدارس التقنين البشري في القوانين الوضعيَّة المبتنية على عقيدة أصالة المادَّة، ونحو ذلك في البنية الأُولى، وهما حاليًّا مدرستان:
القانون الأنجلوساسكوني الذي يعتمد على أُصول قانونيَّة يفرع على ضوئها.
↑صفحة ٤٧٢↑
والقانون التجريبي الذي يتَّخذ من التجربة التي يواجهها القانوني أو القاضي مصدراً للقوانين والتقنين.
وفي هذه المنطقة أي البنية الثالثة تختلف مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ليس مع المدارس البشريَّة الأُخرى المادّيَّة والغربيَّة فحسب، بل تختلف مع مدرسة أهل السُّنَّة، حيث إنَّهم يرون أنَّ للفقيه حقّ صياغة وتأسيس القوانين الأُمِّ الدستوريَّة في نظام الحكم السياسي الاجتماعي أو في نظام العبادات الفردي ونظام الأحوال الفرديَّة وإنْ لم يُؤسِّسه الله تعالى وينشئهُ عن طريق إبلاغ النبيِّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن بعده إبلاغ الإمام المعصوم عن النبيِّ بطريق العلم اللدنِّي غير المقتصر على طريق الحسِّ، فأهل السُّنَّة يرون للفقيه أو الحاكم غير المعصوم الحقَّ في سَنِّ قوانين دستوريَّة يبتدعها من رأيه وبحسب ما يتوصَّل إليه فكره وذهنه، فيُقسِّمون البدعة إلى الأحكام الخمسة، فبعضها حسن أو لازم، ويُطلِقون على هذا الفعل وهو صياغة متن القوانين الدستوريَّة في الأنظمة المتقدِّمة - الاجتماعي والفردي والعبادي - اسم الاجتهاد، بينما لا يرى الشيعة ذلك للفقيه، بل يخصُّونه بالنبيِّ والإمام المعصوم، وهما مبلِّغان عن الله تعالى طوليًّا، فالنبيُّ عن الله والإمام عن النبيِّ، ويقولون: إنَّ حقَّ التشريع بمعنى سَنّ وإنشاء واعتبار وتقنين القوانين الدستوريَّة الأُمِّ هو من حقِّ الله تعالى، ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ﴾ (الأنعام: ٥٧)، ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ﴾ (التين: ٨)، وأنَّ الله أعلم بمصالح العباد ومفاسدهم وما يضرُّهم في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وهو محيط بكلِّ الظروف والأجيال إلى يوم القيامة وما بعدها من نشآت، ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ (الملك: ١٤)، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (الحجرات: ١)، ﴿قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرضِ﴾ (الحجرات: ١٦).
↑صفحة ٤٧٣↑
فالله الخبير الحكيم العليم لا يعجزه وضع برنامج قانوني لا ينقص عن الشموليَّة والإتقان والكمال لكلِّ الأوضاع البشريَّة بحسب المكان والزمان والمتغيّر إلى يوم القيامة، وقد قال تعالى لنبيِّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ (ص: ٨٦)، ولذلك لم يكن الرسول يتقدَّم على الوحي في سَنِّ الأحكام الكلّيَّة الدستوريَّة كما في سورة المجادلة: ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ (المجادلة: ١).
فلم يتقدَّم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على وحي الله في البتِّ في قضيَّة ظهار الرجل لتلك المرأة الشاكية لحالها عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقال تعالى: ﴿اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ (الأنعام: ١٠٦)، ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ (يونس: ١٠٩)، وقال تعالى: ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ (الأنعام: ٥٠)، ﴿قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ (الأنعام: ٥٦)، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي﴾ (الأعراف: ٢٠٣)، ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ (الأحقاف: ٩).
فالرسول تابع مسلِّم لربِّه، والإمام المعصوم تابع مسلِّم لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والشيعة تابعة مسلِّمة لأئمَّتهم (عليهم السلام)، وهذه التبعية ليست قصوراً ولا جهالةً ولا عمايةً، بل هي كمال وعلم وبصيرة وهداية؛ لأنَّنا نعتقد أنَّ الله تعالى غير متناهي العلم والمخلوق الممكن مهما بلغ علمه فلن يقايس ببعض العلم الإلهي، ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ
↑صفحة ٤٧٤↑
تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (يونس: ٣٥ - ٣٧)، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾ (المائدة: ٤٨)، ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى﴾ (ص: ٢٦)، ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (الزمر: ٥٥)، ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ (البقرة: ١٢٠)، ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ (المؤمنون: ٧١)، ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (الجاثية: ١٨ و١٩)، ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ (آل عمران: ٣١)، ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾ (الأعراف: ٣)، ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ﴾ (النجم: ٢٣)، ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأنعام: ١٥٣)، وقد قال تعالى عن دينه وكتابه وشريعته: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ (النحل: ٨٩)، ﴿مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (يوسف: ١١١)، وقال: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ (الأنعام: ٣٨) ما نقصنا في الكتاب من علم شيء.
فالكتاب العزيز فيه تبيان كلِّ شيء وتفصيل لكلِّ شيء، نعم ليس في ظاهر القرآن يتوصَّل إلى ذلك، فلا بدَّ من وجود من يستطيع استخراج ذلك من الكتاب وإلَّا لانتقض الغرض والحكمة، وقد اعترف كلُّ فقهاء المسلمين غير الأئمَّة الاثني عشر اعترفوا بالعجز عن استخراج كلِّ الأحكام والعلوم من
↑صفحة ٤٧٥↑
القرآن، ومن ثَمَّ توسَّلوا بالقياس الظنِّي والرأي المبتدع والاستحسان لسدِّ ما يزعمونه من الفراغ في الشريعة والنقص في الدِّين.
لكن القرآن يُخبرنا بوجود تلك الثُّلَّة من الأُمَّة ما بقيت حياة الدنيا وما بقي القرآن خالداً، وأشار إليهم: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ (العنكبوت: ٤٩)، هو القرآن مجموعه بيِّن في صدور الذين أُوتوا العلم، فكلُّ ما في القرآن التبيان لكلِّ شيء هو بيِّن في صدور الذين أُوتوا العلم.
فهناك في الأُمَّة ثُلَّة أُوتوا العلم اللدنِّي علم الكتاب، ﴿كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ (الرعد: ٤٣)، وقال: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ (آل عمران: ٧)، ففي الأُمَّة راسخون في العلم يعلمون تأويل جميع القرآن، ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ (الواقعة: ٧٥ - ٨٢).
فالكتاب بتمام حقائقه في كتاب لا يمسُّه ولا يصل إليه إلَّا المطهَّرون المعصومون من الذنوب، ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ (الأحزاب: ٣٣)، وقال: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ (النساء: ٨٣).
وحيث اللازم هو العمل بالقرآن اعتقدت الطائفة الإماميَّة بإحاطة الكتاب الإلهي والشريعة بكلِّ شيء وحكمة، وأنَّ هناك أهل بيت النبيِّ آل
↑صفحة ٤٧٦↑
محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مطهَّرون مزوَّدون بعلم الكتاب والوصول إليه وإلى كلِّ أسراره، وهم الذين يستخرجون علمه من الكتاب، وهم أُولو الأمر الذين قال تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء: ٥٩)، ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (المائدة: ٥٥)، التي نزلت في عليٍّ باتِّفاق الفريقين.
وفي هذه البنية الثالثة لا يعلم إرادات الله التشريعيَّة ومشيئاته الشرعيَّة إلَّا النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأوصياؤه المعصومون بعلمهم اللدنِّي، فمن ثَمَّ احتيج إلى النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإلى الإمام بعد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لتفصيل تلك الأحكام الدستوريَّة الأُمِّ، فلا بدَّ من واسطة بين أهل الأرض والسماء، نبيٌّ أو وصيُّ نبيٍّ، له علم لدنِّي، وفي هذا المقام لا مجال للظنِّ ولا للرأي البشري الظنِّي ولا للقياس ولا للاستحسان، بل لا بدَّ من علم لدنِّي إلهي وقناة مأمونة تربط السماء بالأرض، وليس فهم الفقيه في هذه المنطقة رابطاً بين الأرض والسماء.
وهاهنا الاجتهاد بالمعنى الذي هو عند أهل السُّنَّة، وهو إنشاء الأحكام وابتداعها كأحكام دستوريَّة، لا تقول به الشيعة، كما لا تقول بثبوت هذا النمط والقسم من التشريع للفقيه.
هذا كلُّه في البنية الثالثة، وهي سَنّ وصياغة الأحكام الدستوريَّة.
ثمّ تأتي البنية الرابعة وهي تشريع المجالس النيابيَّة (القوَّة التشريعيَّة)، ففي هذه المرحلة من التشريع يقوم أعضاء المجالس النيابيَّة التشريعيَّة وخبراء القانون بعمليَّة فهم قانوني على ضوء موازين لفهم المؤدَّى القانوني لموادِّ الدستور وتطبيقها على الأبواب والفصول والمسائل المستجدَّة المختلفة، فعمليَّة التشريع في هذه البنيَّة تشتمل على نمطين ونحوين:
الأوَّل: استنباط الحكم، أي فهمه وإحرازه من متون الدستور وألفاظه
↑صفحة ٤٧٧↑
بموازين مباحث الألفاظ في علم أُصول فقه القانون، ويُسمَّى بعلم القراءة القانونيَّة، وتلك الموازين من تقيُّد المطلق بالمقيَّد، وتخصيص العام بالمخصَّص، ومفاد الشرطيَّة، وهيئات الألفاظ الدالَّة على الحكم التكليفي والحكم الوضعي، إلى غير ذلك من مباحث ذلك العلم.
الثاني: التطبيق للقضايا الكلّيَّة الشرعيَّة في الدستور على القضايا الجزئيَّة في الأبواب والفصول، وهذا النمط يُسمَّى بعمليَّة التفريع للفروع والتطبيق للكلّيَّات على كلّيَّات أضيق منها دائرةً، وتُسمَّى بعمليَّة التشجير القانوني، وهذه المرحلة من التشريع التي تختلف جوهريًّا عند من يفطن ألف باء علم القانون، هذه المرحلة والنمط من التشريع تقول الإماميَّة بجوازه وبصلاحيَّة الفقيه لذلك العمل.
والفقه لغةً الفهم لا عمليَّة الرواية ولا إنشاء الرأي ولا إبداؤه، قال تعالى: ﴿فَلَوْ لَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: ١٢٢).
فقال تعالى: ﴿لِيَتَفَقَّهُوا﴾، أي ليفهموا لا ليبدوا رأيهم في قبال الله تعالى، وتفقُّههم هو عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا من أنفسهم.
وهذا هو الاجتهاد الذي تقول بمشروعيَّته الشيعة، وهو يختلف سنخاً وروحاً عن الاجتهاد الذي تقول به السُّنَّة، وقد حثَّ الأئمَّة من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقهاء أصحابهم على هذا النمط من الاجتهاد والفقاهة، فقد قال الباقر (عليه السلام) لأبان بن تغلب: «اجلس في المسجد وافت الناس فإنِّي أُحِبُّ أنْ يُرى في أصحابي مثلك»، ذكر ذلك النجاشي في رجاله.
وقالوا (عليهم السلام) لشيعتهم: «نحن نُلقي إليكم الأُصول وعليكم بالتفريع»، وقالوا: «إنَّا لا نعدُّ الرجل منكم فقيهاً حتَّى يعرف معاريض كلامنا»، وقالوا: «نحن قوم فصحاء بلغاء فاعرفوا كلامنا».
↑صفحة ٤٧٨↑
وهذا الاجتهاد قد مارسه فقهاء الشيعة من أصحاب الأئمَّة (عليهم السلام) منذ عهد الباقر والصادق (عليهما السلام)، بل قبلهما أيضاً إلى يومنا هذا، ولم ولن يسدَّ الإماميَّة هذا الباب من الاجتهاد حتَّى بعد ظهور الحجَّة؛ لأنَّه قائم على الفهم للدليل اللفظي الوارد من الله ورسوله وأوصيائه، بخلاف أهل السُّنَّة فإنَّ غالبيَّتهم قد أقفلوه وسدُّوه بعد عمليَّة حصر المذاهب في الأربعة المعروفة، وقد برع نتيجةً لذلك الفقه الشيعي الإمامي وعلم أُصول الفقه إلى يومنا هذا حتَّى استحال أنْ تصل إليه جهود بقيَّة المذاهب الإسلاميَّة.
وقد كتب في هذا النمط من الاجتهاد وموازينه كلٌّ من الشيخ المفيد والمرتضى والطوسي كُتُباً في أُصول الفقه والفقه الاستدلالي، ككتاب الذريعة، وكتاب عدَّة الأُصول، وكتاب المعارج في الأُصول للمحقِّق الحلِّي، والمعالم للشيخ حسن العاملي، وككتاب المقنعة.
الاجتهاد من هذا النمط منذ عهد متقادم، فلقد ألَّف زرارة بن أعين والفضل بن شاذان رسالتين في اجتماع الأمر والنهي، وفي الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدِّه، وقد ذكر السيِّد حسن الصدر في كتابه (تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام) نماذج أكثر، فلاحظ.
ومع هذا البيان يتبيَّن خبط الكاتب عشوائيًّا بين الاجتهاد في الرتبة الرابعة التشريعيَّة وبين الاجتهاد في الرتبة الثالثة، وبين استعمال الظنِّ في الرتبة الرابعة الذي لم يمنعه مشهور علماء الإماميَّة، وبين الظنِّ في الرتبة الثالثة أي إعمال الظنِّ في فهم ما نزل من أحكام إلهيَّة في ألفاظ القرآن والسُّنَّة للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمعصومين ، وبين إعمال الظنِّ في إصابة أحكام السماء كرابط واتِّصال كبديل عن النبوَّة والإمامة الإلهيَّة.
ولا أدري أليس من الحكمة والأدب أنْ لا يقحم المرء نفسه فيما لا معرفة
↑صفحة ٤٧٩↑
له به؟ أليس من الإنسانيَّة والفطرة أنْ لا يخبط المرء في ما لا علم له به؟ ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ (الإسراء: ٣٦).
لقد أسمعت لو ناديت حيًّا * * * ولكن لا حياة لمن تنادي
ومن ذلك يتبيَّن أنَّ قيام الدولة بالمجلس النيابي التشريعي والقوَّة التنفيذيَّة التي هي تطبيق إجرائي لقوانين المجلس النيابي والقوَّة القضائية التي هي تطبيق للموازين والقوانين الأوَّليَّة، لا يرتبط بالاجتهاد بالمعنى الأوَّل بمعنى ابتداع الرأي والقياس والاستحسان، بعد فرض وجود تمام القوانين الدستوريَّة المبيَّنة من الله تعالى في قرآنه ومن الرسول والأئمَّة في السُّنَّة، وإنَّما يعتمد قيام الدولة والحكم بالاجتهاد - المعنى الثاني - بمعنى الفقاهة.
فها هو الكاتب يعقد نظريَّات العنكبوت في عالم تزويق الألفاظ بعيداً عن البحث العلمي التخصُّصي، اعتماداً على الترنُّم اللفظي في العبائر بكلِّ جرأة ولا مبالة.
ثمّ يعاود التعبير اجتراراً أنَّ الإمامة والتقيَّة والانتظار منع علماء الشيعة من إقامة الحكم ومن تجويز إقامة الدولة في عصر الغيبة، وقد أعلمته بأنَّ الانتظار عقيدة إسلاميَّة أصيلة تعني الاعتقاد بظهور مهدي من ذرّيَّة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يُصلِح العالم يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلِئَت ظلماً وجوراً، والانتظار بهذا المعنى لا يدعو إلى التوقُّف والحركة والتخاذل عن الوظائف الشرعيَّة الاجتماعيَّة والسياسيَّة إلَّا في ذهنيَّة الكاتب.
كما أعلمته من دون فائدة مرجوَّة أنَّ التقيَّة بمعنى التكتيك في أُسلوب القيام بالمسؤوليَّة الاجتماعيَّة السياسيَّة كما هو الحال في التنظيمات السياسيَّة المعارضة في كلِّ دول العالم، فهل تحفُّظ تلك التنظيمات وسرّيَّتها يعني شدَّة إصرارها في إقامة الحكم حسب ما تنظره، أم أنَّه يعني جمود وتوقُّف تلك
↑صفحة ٤٨٠↑
التنظيمات؟ وقد أمر تعالى بهذا الأُسلوب من المحافظة على أُسلوب العمل والنفس: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ (النحل: ١٠٦)، ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ (آل عمران: ٢٨)، ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ (الأنبياء: ٦٣)، ﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ (يوسف: ٧٠)، وغيرها من الآيات.
وأمَّا الإمامة فقد بيَّنَّا موقعها أنَّها في الرتبة الثالثة من بناء التشريع كرابط بين أهل الأرض والسماء يتبع النبيَّ، وكسفير إلهي تابع للنبيِّ.
٥ - ثمّ إنَّه له تدليسات أُخرى متعدِّدة، منها نسبته إلى الحلبيِّين من علمائنا أنَّهم لا يرون الاجتهاد بالمعنى الثاني بمعنى الفقاهة، مع أنَّهم على العكس تماماً فإنَّهم يُوجِّبونه على كلِّ مكلَّفٍ عيناً ولا يُجوِّزون التقليد.
ومنها نسبته إلى فقهاء الحلَّة أنَّهم لا يرون ولاية الفقيه، مع أنَّنا قد نقلنا في الردِّ السابق عن المحقِّق والعلَّامة الحلِّي ذهابهما إلى ولاية الفقيه، وكذا البقيَّة كيحيى بن سعيد وابن إدريس وغيرهما.
ومنها: نسبته اعتراض حوزة النجف على الصفويِّين في قولهم بعدم ولاية الفقيه، وهذا محض افتراء فإنَّ اعتراضهم كان على أُمور أُخرى في سياسات وقتيَّة معروفة.
ومنها: استظهاره من كلام صاحب الجواهر أنَّه لا يقول بولاية الفقيه في إقامة الحكم من عبارته: (لعلمهم (عليهم السلام) بقصور اليد)، وهو كما ترى مضحك، فإنَّ تعليل صاحب الجواهر هو بعدم القدرة الخارجيَّة لا عدم المشروعيَّة، وقد وصل بنا المقال إلى توضيح ألف باء الفقه.
ومنها: خلطه بين الشورى والسلطة الجماعيَّة، فالأوَّل عبارة عن تداول الرأي والفحص عن المعلومات لا بمعنى الإرادة الجماعيَّة، فالشورى لغةً عبارة عن كيفيَّة البحث والفحص العلمي ومداولة الرأي لا الإرادة الجماعيَّة.
↑صفحة ٤٨١↑
وغير ذلك من النِّسَب المخالفة للواقع، وهو يرمي الكلام على عواهنه غير متحرِّج عن المخالفة للواقع.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٣٠/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠١:٢٦) مساءً.
التلميذ عضو:
أحمد الكاتب..
نقلت رواية عن الإمام الرضا (عليه السلام) معناها أنَّ الحجَّة لله على العباد لا تقوم إلَّا بإمام حيّ يُعرَف، فهل المراد بالمعرفة هنا هي الرؤية الشخصيَّة للإمام؟ بمعنى أنَّ الحجَّة لله على أيِّ عبد من عباده لا تقوم حتَّى يراه شخصيًّا ويعرفه من هذا الطريق، أو هي أعمّ من ذلك، فمجرَّد تشخصيه من هو وابن من كافٍ في المعرفة التي تتحقَّق بها الحجَّة لله على العباد؟ نرجو بيان وجهة نظرك في هذه المسألة، ونحن بالانتظار.
* * *
ودخل الكاتب ليردَّ فقال:
حُرِّر بتاريخ (٣٠/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٥:٥٣) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
الأُستاذ الفاضل التلميذ حفظه الله..
لقد نقلت لك عدَّة روايات عن الإمام الرضا (عليه السلام) وهي تتحدَّث عن ضرورة حياة الإمام وظهوره ومعرفته، وذلك من أجل الارتباط به والتفاعل معه وطاعته، وهو ما يُثبِت تناقض الغيبة مع مسؤوليَّة الإمامة، فماذا يفيد الأُمَّة إمام غائب لا طريق لها للارتباط معه أو نصرته ولا طريق له لتوجيهها وتعليمها وقيادتها؟ وماذا يهمُّ بعد ذلك أنْ يكون الإمام الغائب حيًّا أو ميِّتاً؟ وعلى فرض
↑صفحة ٤٨٢↑
القول بوجود الإمام الثاني عشر وولادته، فمن يقول: إنَّه لم يمت بعد ذلك الزمان؟ وكيف نعرف أنَّه حيٌّ؟ إلَّا بواسطة النظريَّات الفلسفيَّة والفرضيَّات الكلاميَّة، أليس كذلك؟
أخي العزيز الأُستاذ التلميذ لو فكَّرت قليلاً بقول الإمام الرضا الآخر وهو: «سبحان الله! يموت رسول الله ولا يموت موسى؟! قد والله مضى كما مضى رسول الله. لو كان الله يمدُّ في أجل أحد من بني آدم لحاجة الخلق إليه لمدَّ الله في أجل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»، لعرفت أنَّ القول بغيبة الإمام الثاني عشر ما هو إلَّا قول متناقض مع تراث أحاديث أهل البيت والفطرة الإسلاميَّة السليمة، وأنَّه لم يكن إلَّا نوعاً من الوقف الذي حيَّر الإماميَّة وجعلهم يفترضون أُموراً كثيرة منافية للعقل من أجل الخروج من الحيرة.
ولذا فإنَّ الإمام الرضا (عليه السلام) قد شدَّد في النكير على الواقفيَّة الذين رفضوا الاعتراف بوفاة أبيه الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، واتَّهمهم بالكذب والكفر بما أنزل الله (عزَّ وجلَّ) على محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
ولعلمك فإنَّ الواقفيَّة جاؤوا بأحاديث كثيرة على عدم وفاة الإمام الكاظم واستحالة وفاته قبل الخروج وألَّفوا كُتُباً حول غيبته؛ لأنَّهم كانوا يعتقدون أنَّه المهدي، وكانوا يعتبرونها روايات متواترة أكيدة لا شبهة فيها، ولكن الواقع كذَّبها، وهذا ما يدعوني لمطالبتك بالتفكير في صحَّة الكثير من الروايات التي يرويها أصحاب كلِّ مذهب تأييداً لمذهبهم ونصرةً لنظريَّتهم، والنظر إليها ككلٍّ وبصورة عامَّة ومن كلِّ الجهات العقليَّة والنقليَّة وتقييمها سنداً ومضموناً.
وبما أنَّ نظريَّة القول بوجود وولادة محمّد بن الحسن العسكري ومهدويَّته لم تكن أوَّل نظريَّة مهدويَّة من نوعها في التاريخ الشيعي، فقد سبقتها نظريَّات عديدة وخاصَّة نظريَّة أو فرضيَّة وجود ابن للإمام عبد الله الأفطح وأنَّه الإمام
↑صفحة ٤٨٢↑
من بعده وأنَّه المهدي المنتظر، وقد جاء أصحاب هذه النظريَّة بأحاديث وروايات اعتبروها صحيحة أو متواترة ولكنَّها لم تصبح حجَّة على الآخرين ولم يقبل بها سائر الشيعة أو بقيَّة المسلمين، لأنَّهم كانوا يشكُّون فيها ويتَّهمون الفطحيَّة أو ذلك القسم منهم بالكذب والافتراض والادِّعاء خلاف الظاهر الذي هو حجَّة بين الناس وبين الله.
ومن هنا فإنَّنا لا نستطيع أنْ نثق بأقوال أنصار الفريق الذي قال بوجود ولد للإمام العسكري اعتماداً على نظريَّات كلاميَّة معيَّنة.
وقد دعوتني في ما مضى إلى بحث نظريَّة الإمامة لكي تُثبِت وجود ابن للإمام العسكري، وسألتك إثباته أوَّلاً عن طريق الروايات التاريخيَّة، وذلك بسبب أنَّ البحث النظري لا يُؤدِّي إلى نتيجة ثابتة واضحة. وقد كان كثير من الشيعة الإماميَّة وحتَّى من شيعة الإمام الحسن العسكري يؤمنون بنظريَّة الإمامة الإلهيَّة، ومع ذلك لم يؤمنوا بوجود ولد له، ولم يقنعوا بما قدَّمه ذلك الفريق القائل بوجود ولد له في السرِّ. والسبب يعود إلى أنَّهم كانوا يختلفون في جزئيَّة صغيرة معهم كموضوع ضرورة انتقال الإمامة وراثيًّا بصورة عموديَّة، وبالتالي فإنَّهم لم يتوصَّلوا فيه إلى ضرورة افتراض وجود ولد للإمام العسكري خلافاً للظاهر.
إذن فإنَّ القول بنظريَّة الإمامة لا يُؤدِّي بالضرورة إلى القول بوجود الإمام الثاني عشر، ولذا لم يقتنع الشيعة الفطحيَّة الإماميَّة بوجود ولد للإمام العسكري؛ لأنَّهم لم يكونوا يؤمنون بقانون الوراثة العموديَّة بصورة صارمة، أي حتَّى في حال لم يكن للإمام السابق ولد وكانوا ينتقلون إلى القول بإمامة أخي الإمام السابق، ولذا انتقلوا إلى القول بإمامة جعفر بن الهادي كما انتقلوا من قبل من إمامة عبد الله الأفطح إلى القول بإمامة أخيه موسى بن جعفر ما عدا فريقاً صغيراً منهم تشبَّث بشعار (لا تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين)
↑صفحة ٤٨٤↑
وأصرَّ على افتراض وجود ولد للإمام عبد الله الأفطح في السرِّ والخفاء وفسَّر ذلك بالتقيَّة والخوف والكتمان.
وليس من المستبعد أنْ تكون لذلك الفريق مصالح مادّيَّة وسياسيَّة دفعته لذلك القول المنافي للظاهر.
وهكذا فمن المعقول والمنطقي جدًّا أنْ نُشكِّك بفرضيَّة القائلين بوجود ولد للإمام العسكري ونُشبِّههم بالقائلين بوجود ولد للإمام عبد الله الأفطح ونتوقَّف فيما رووه من أحاديث وقَصص غريبة وأُسطوريَّة.
خاصَّةً وأنَّ الإمام الذي ادَّعوا وجوده لم يظهر طوال أكثر من ألف عام ولم يقد الشيعة نحو إقامة الدولة الإسلاميَّة، وهو ما يتناقض تماماً مع مهمَّة الإمامة التي لا يجوز أنْ تجمد وتهمل، فأمَّا أنْ يأتي الإمام من قِبَل الله أو من قِبَل الأُمَّة، ولـمَّا لم يأتِ من قِبَل الله علمنا أنَّ مسؤوليَّة انتخاب الإمام تقع على عاتق الأُمَّة وهذا ما فعلنا مؤخَّراً.
ونحن كمسلمين قبلنا بوجود عشرات أو مئات أو آلاف الأنبياء ولم نرَهم ولم نشاهد لهم أثراً، لا نمانع من الاعتراف بوجود إمام من الله لو كان له وجود حقًّا.
وعندما نبحث هذا الموضوع ليس من منطلق التشكيك بآيات الله أو رفض التسليم لأقواله - والعياذ بالله -، ولكن لأنَّا لم نجد الدلائل الشرعيَّة الكافية والقاطعة على ولادته ووجوده، ووجدنا أنَّ الغيبة منافية لفلسفة الإمامة وضرورة وجود الإمام الظاهر الحيِّ المعروف المتفاعل مع الأُمَّة. وهو ما يُؤكِّده الإمام الرضا (عليه السلام) في مواجهة افتراضات الواقفيَّة وادِّعاءاتهم الوهميَّة.
إذا كان الإمام الرضا قد عانى من الواقفيَّة وافتراءاتهم وهو حيٌّ موجود يصرخ في وجوههم أنْ كفُّوا عن الدعاوى الباطلة، فماذا نصنع ولا إمام من أهل البيت يرعانا بعد وفاة الإمام العسكري؟
* * *
↑صفحة ٤٨٥↑
حُرِّر بتاريخ (٣٠/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١١:١٨) مساءً.
التلميذ عضو:
إلى أحمد الكاتب..
لقد سألتك سؤالاً محدَّداً ولم أرد منك أنْ تُردِّد لي كلاماً قلته في هذه الساحة أكثر من مرَّة، وبما أنَّ الأخ الفاضل موسى العلي يريد من النقاش أنْ يكون ثنائيًّا بينك وبين الأخ محمّد منصور فأنا لن أرد على شيء ممَّا كتبت فيما تقدَّم استجابةً لرغبة المشرف. لكن لا تخلو الردود السابقة من ردٍّ على ما أوردته فيما مضى.
وعليه فسأكون أنا مثلي مثل بقيَّة الإخوة من المراقبين لهذا الحوار.
* * *
الردُّ رقم (٢) على الكاتب في نقاشه مع التلميذ:
حُرِّر بتاريخ (٣١/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (١٢:٠٧) صباحاً.
محمّد منصور عضو:
الآن! حيث قد كرَّر (الكاتب) دعاواه السابقة من استحالة طاعة من لا يرى بالحسِّ البصري، واستحالة قيادة من يكون خفيًّا عن الحسِّ البصري، واستحالة تأثيره في الأُمَّة ولو عبر منظومتين إحداهما سرّيَّة والأُخرى علنيَّة كالنوَّاب الظاهرين بالنيابة العامَّة، فنعود نُكرِّر الردَّ السابق ونجعله الردَّ رقم (٢)، وسنوافيك بالردِّ رقم (١) على دعاواك هذه التي كرَّرتها هنا مع الأخ التلميذ!
١ - قال الكاتب: لست أنا الذي يقول بعدم كفاية القرآن أو الرسول وضرورة وجود الإمام في الأرض بعد الرسول لكي يُنفِّذ الشريعة، فهم الإماميُّون في الطليعة الذين لا يكتفون بوجود الأئمَّة المنتخبين من الناس، وإنَّما يشترطون أنْ يكون الإمام معصوماً ومعيَّناً من قِبَل الله.
↑صفحة ٤٨٦↑
ونضع كلامه تحت المجهر العلمي بغية التدليل على منهجيَّة الكاتب، وقناعاته التي يسير عليها ويعتقد بها، وإنْ غفل عن كون كلماته هي تصريحات بقناعاته التي يعتقد بها، فإنَّ كلَّ بناء يبني على أصل يستلزم الاعتقاد بذلك الأصل، وكلُّ غصن ينشعب عن ساق، فإنَّه اعتماد على تلك الساق، وإنْ لم يرد هو البوح بها وإظهاره خشية الآخرين.
فأمَّا قوله: إنَّه لم يقل بعدم كفاية القرآن أو الرسول، فإنَّ اشتراطه للحياة والظهور الحسِّي المادِّي في إمكان الطاعة والمتابعة والموالاة بتقريب ذكره في نقاشه السابق مع التلميذ، يستلزم قطعاً أخذ هذا الشرط في كلِّ موارد الطاعة والمتابعة والموالاة، التي منها طاعة وموالاة ومتابعة الله ورسوله، وحيث إنَّ في هذين الموردين انتفى الشرط الذي ذكره الكاتب، فيلزمه عدم اعتقاده بلزوم طاعة الله وطاعة رسوله، كما أنَّه في نقاشه السابق للتلميذ صرَّح بأنَّه من غير العملي الخفاء مع القيادة في أمر الجهاد والحرب، ويلزمه أنَّ الله تعالى حيث يكون غير مدرَك بالحسِّ الظاهري أنْ تُعطَّل حاكميَّته في الأمر بالجهاد والحرب، وولاية الحكم التنفيذي وإعمالها، والحكم القضائي.
ثمّ إنَّ ابتعاد الكاتب عن الكلام حول آيات القرآن الكريم وعدم تعرُّضه لا من قريب ولا من بعيد لما نذكره له من دلالات القرآن الكريم على وجود أولياء حُجَج إلهيِّين كعيسى وإدريس والخضر (عليهم السلام) مع خفائهم من دون حصول التنافي بين خفائهم وكونهم حُجَجاً من قِبَل الله تعالى يقومون بالوظائف الإلهيَّة، وعلى خفاء ولادة موسى (عليه السلام) وغير ذلك من الشواهد القرآنيَّة، فلا تراه ينبس ببنت شفة، وكأنَّ قرآناً لم يُتْلَ عليه، بل بهذا الفعل؛ جعل القرآن وراء الظهر، وعدم الاستهداء بالقرآن وعدم بناء معتقده على حقائق القرآن الكريم، وهو منهج العلمانيَّة المعروف في الساحة الفكريَّة غير الخافي على من ألمَّ بمسالكهم.
↑صفحة ٤٨٧↑
فهذا التهميش للكاتب الكريم، وتجنُّب عرض الأبحاث والآراء على القرآن المجيد مبتنٍ على التقليل من محوريَّته، وكونه ميزاناً وقسطاساً مستقيماً لا يشذُّ عنه شيئاً، وكذا التعبير عمَّا ذكره القرآن الكريم من وقائع وإخبارات عن الأولياء الحُجَج كعيسى وإدريس والخضر والتعبير والتمسُّك بذلك أنَّه باطنيَّة دالٌّ على عدم الاعتقاد بصوابيَّة كلِّ ما في الكتاب وحقَّانيَّته، أو أنَّ يدَّ الغلاة والباطنيَّة قد تسلَّل لوضع تلك الآيات. فكن مطمئناً بأنَّ كلَّ نسبة نسبتها لك هي مدلَّلة بأقوالك مع بيان كيفيَّة استلزام أقوالك لذلك الرأي.
ومن ذلك ما ذكرت لك أنَّك لا تثق بأيِّ حديث من طُرُق السُّنَّة أو الشيعة، حيث صرَّحت أنت بنفسك في آخر كتابك حول المهدي أنَّك لا تحتجُّ بأحاديث أهل السُّنَّة حول المهدي، ولا تقرُّ بالاستدلال بها، وكذلك ردُّك للأحاديث من طُرُق الشيعة، فمنهجك رفض الحديث الحاكي عن سُنَّة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مطلقاً من دون تفصيل.
ومن ذلك ما ذكرت لك أنَّك تُنكِر ضرورة عند المسلمين وهي ظهور المهدي من ذرّيَّة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، استناداً إلى قولك: إنَّ روايات ظهور المهدي اختلقتها الصراعات السياسيَّة في التاريخ الإسلامي، وأنَّ المهدويَّة فكرة وضعتها الغلاة والباطنيَّة.
ومن ذلك ما ذكرت لك أنَّ منهجك يتَّحد مع منهج العلمانيِّين من المسلمين بحسب الهويَّة الجنسيَّة، فإنَّ ردَّ السُّنَّة الشريفة والاقتصار على فهمك للقرآن فيما تستحسن من القرآن - إنْ كان ثَمَّة مورداً تستند فيه إلى القرآن - والاقتصار على الحسّيَّات الظاهريَّة وأصالة الحسِّ، ونفي الغيب، عقيدة صريحة في العلمانيَّة، فالمشكلة لديك ليست هي مسار الطائفة الإماميَّة كأحد مسارات المسلمين، بل المشكلة التي لديك هي عموم مسار الدِّين الحنيف، نعم لعلَّك
↑صفحة ٤٨٨↑
لست تعي أنَّ مسارك حقيقة الاصطدام بالدِّين، إلَّا أنَّ الوظيفة الملقاة علينا هي تنبيهك إلى ذلك رجاء أنْ ترعوي عمَّا أنت عليه، كما أنَّك لا بدَّ أنْ تتنبَّه إلى أنَّ التخلِّي عن عروة أهل البيت (عليهم السلام) هو الذي يلجئك للتخلِّي عن عرى الدِّين الحنيف.
وأمَّا قول الإماميَّة بضرورة الإمام المنفِّذ للشريعة والرابط بين الأرض والسماء - بعلمه اللدنِّي الذي جعله الله تعالى له -، فهو تحكيم لطاعة الله تعالى وتحكيم لطاعة رسوله وتحكيم للقرآن الحكيم في كلِّ صغيرة وكبيرة وكلِّ خطوة خطوة يتحرَّك نحو النظام السياسي الاجتماعي للبشريَّة، حيث إنَّ الوصول والإحاطة بكلِّ حقائق القرآن ومعارفه لا يتمكَّن منه إلَّا من حباه الله بعلم الكتاب وعلم لدنِّي، فقد قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: ٧)، فالإحاطة التامَّة بالقرآن خصَّها الله بالراسخين في العلم من هذه الأُمَّة.
وكذا قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: ٨٩)، وهذه الآية ملحمة قرآنيَّة دالَّة على حيوية القرآن الكريم لكلِّ شيء.
وكذا قوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ - أي مجموع القرآن - آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ (العنكبوت: ٤٩)، فأثبت تعالى أنَّ في هذه الأُمَّة هناك ثُلَّة باقية ما بقي القرآن، هذه الثُلَّة أُوتيت العلم من لدن الله تعالى، وفي صدورها مجموع آيات الكتاب مبيَّنة، ففيها تبيان
↑صفحة ٤٨٩↑
كلِّ شيء. وهاتان الآيتان تتطابقان مع آية سورة آل عمران للدلالة على معيَّة الثقلين - الكتاب والعترة - في التمسُّك بهما للوصول إلى تحكيم إرادة الله تعالى وإرادة رسوله من بعده.
وممَّا يدلُّ على ذلك أيضاً: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ (القيامة: ١٧ - ١٩)، فالبيان التامُّ المحيط لكلِّ ما يتجدَّد من الحاجات في كلِّ زمن هو من الوظائف والمسؤوليَّات التي هي في عهدة الجانب الإلهي، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (النحل: ٦٤).
وفي سورة الواقعة: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ﴾ (الواقعة: ٧٥ - ٨١)، فهذه الآية تدلُّ أيضاً على أنَّ تمام الإحاطة بالكتاب لا يصل إليه إلَّا المطهَّر، وهو المعصوم المشار إليه في آية التطهير: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ (الأحزاب: ٣٣).
فالكتاب كما تشير إليه سورة الواقعة هو تمامه في كنٍّ محفوظ لا يصل إليه تماماً إلَّا المعصومون، فالآية تشير إلى معيَّة (الثقلين).
فكلُّ هذه الآيات هي على غرار حديث الثقلين إلَّا أنَّ المدرك لمفاد الثقلين هو الكتاب العزيز نفسه.
وكذلك قوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ (الأنعام: ٣٨).
وقوله: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (الأنعام: ٥٩).
وقوله: ﴿وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾
↑صفحة ٤٩٠↑
(يونس: ٦١)، والكتاب المبين اسم للقرآن كما في سورة (يوسف: ١)، وسورة (الشعراء: ٢)، و(النحل: ١)، و(الزخرف: ٢)، و(الدخان: ٢).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (النمل: ٧٥).
هذا من جانب، ومن جانب آخر قال تعالى على لسان خاتم النبيِّين (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في سورة الرعد: ﴿كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ (الرعد: ٤٣).
وسورة الرعد مكّيَّة، ولم يؤمن في مكَّة أحد من أهل الكتاب، فهي إشارة إلى رجل من هذه الأُمَّة يكون شاهداً على صدق نبوَّة الرسول، ومدرك حجّيَّة شهادة هذا الشاهد هو علمه بالكتاب كلِّه بخلاف علم صاحب سليمان فلقد كان عالماً ببعض الكتاب كما في قوله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ (النمل: ٤٠).
ونظير قوله تعالى في سورة الرعد المتقدِّم الذي هو في بيان ثقل العترة قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ (فاطر: ٣٢).
وهذه وراثة اصطفاء إلهي كقوله: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ (آل عمران: ٣٤)، لا وراثة تراب كما يتوهَّمها الكاتب.
وقوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ﴾ (الحجّ: ٥٤).
وقوله تعالى: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ﴾ (سبأ: ٦).
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ (النساء: ٨٣).
↑صفحة ٤٩١↑
فهذه طوائف من آيات الذكر الحكيم دالَّة على مفاد حديث الثقلين، فهي - آيات الثقلين - تُبيِّن وجود ثُلَّة في هذه الأُمَّة قد زُوِّدت من قِبَل الله تعالى بالعلم اللدنِّي (علم الكتاب)، وأنَّ في صدورهم مجموع القرآن (آيات بيِّنات)، وهو تبيان كلِّ شيء، وأنَّ تلك الثُّلَّة هي القادرة على إخراج كلِّ علوم وحقائق الأشياء من القرآن الكريم.
فالقول بضرورة وجود الإمام في الأرض بعد الرسول ضرورة قرآنيَّة، وهي تحكيم لشموليَّة القرآن ومرجعيَّته في كلِّ صغيرة وكبيرة، كما أنَّ تلك الضرورة تعني تحكيماً لطاعة الله تعالى وطاعة رسوله في كلِّ الأُمور؛ لأنَّ الإمام في عقيدة الإماميَّة مرتبط بالسماء بتوسُّط العلم اللدنِّي (علم الكتاب)، فهو خليفة الله في أرضه وحجَّته على عباده يوصل جميع إرادة الله في الحكم التنفيذي والسياسي والقضائي إلى العباد، ويُنفِّذ فيهم حاكميَّة الله تعالى وحاكميَّة رسوله من بعد؛ لاطِّلاعه على جميع أحكام النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالعلم اللدنِّي لا العلم الحسِّي بتوسُّط النقل الذي يحتمل الزيادة والنقصان.
فمن ثَمَّ كان القول بضرورة الإمام في الأرض بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو تحكيماً للقرآن في كلِّ الأُمور، وتحكيماً لطاعة الله وطاعة رسوله في كلِّ صغيرة وكبيرة، بخلاف القول بالاكتفاء بمن يختاره البشر والناس من قيادة ينتخبونها، فإنَّ هذا القول إزواء لحاكميَّة الله في كلِّ صغيرة وكبيرة، وتعطيل لولاية الله في الأُمور السياسيَّة والتنفيذيَّة والقضائيَّة وقيادة الحرب والسلم، وتجميد لطاعة الله في كلِّ صغيرة وكبيرة في أنشطة النظام السياسي والاجتماعي وقصر حاكميَّة الله على التشريع، فهذا القول يجعل الباري كالمتفرِّج لا صلاحيَّة له في التدخُّل في شؤون البشر، وأنَّ البشر يختارون ويُحكِّمون إرادتهم في نظامهم السياسي والاجتماعي، لا إرادة الله تعالى وإرادة رسوله، قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (القَصص: ٦٨).
↑صفحة ٤٩٢↑
ونظريَّة الإمامة رفض لعزل الله تعالى عن مقدَّرات الخلق والبشر في نظامهم الاجتماعي السياسي.
٢ - أمَّا حديث الإمام الرضا أنَّ الإمام لا بدَّ أنْ يكون حيًّا يُعرَف أو حيًّا ظاهراً. فلا بدَّ أنْ يعي الكاتب أنَّ حديثاً تدريه خير من ألف حديث ترويه، وإنَّما درجات الرجال وكمالاتهم بدراية الحديث لا مجرَّد روايته، فلا بدَّ من فقه الحديث، ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
الرضا (عليه السلام) يشترط في الإمام الحياة، وأنْ يُعرَف باسمه ونسبه، ولا يشترط في ماهيَّة الطاعة والموالاة أنْ يكون المطاع والذي يوالي حيًّا يُرى بالحسِّ الظاهري، كي يلزم من ذلك عدم طاعة الله تعالى وعدم طاعة رسوله، فمعنى الطاعة ومفهومها لا يتقوَّم بمشاهدة المطاع بالحسِّ المادِّي كما هو الفكر المادِّي العلماني، فالرضا (عليه السلام) في صدد اشتراط الحياة والمعروفيَّة، والظهور بالاسم والنسب، لا اشتراط الحياة في المطاع الذي هو أعمّ من الإمام، كما أنَّه (عليه السلام) اشترط الحياة والمعروفيَّة والظهور بالاسم والنسب، ولم يشترط الظهور بالحسِّ البصري، كما تقوله النظريَّة المادّيَّة العلمانيَّة.
٣ - طالب الكاتب بالرجوع إلى التراث، ولا ريب في ذلك، ولكن الرجوع إليه تارةً مع الاعتقاد بحجّيَّة الثقلين وأُخرى الرجوع إلى التراث مع عدم الاعتقاد بذلك ومع الاقتناع بالنظرة العلمانيَّة بأنَّ القرآن والسُّنَّة للمعصومين تراث تاريخي لا تراث لنهج النظام الذي يجب أنْ يقام في العصر الحاضر.
٤ - قال: إنَّ ما ذكرته نظريَّة فلسفيَّة أُسطوريَّة، وهذا خبط بين المصطلحات العلميَّة، فإنَّ الدليل الفلسفي دليل عقلي نظري أو بديهي، والأُسطورة حكاية روائيَّة تخيُّليَّة شاعريَّة، وهو خبط بين العقل والخيال.
↑صفحة ٤٩٣↑
٥ - قال: إنَّ أحاديث من مات ولم يعرف إمام زمانه، أو ليس عليه إمام، أو ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليَّة، لا دلالة لها على لزوم العصمة في الإمام، وقد غفل أنَّ الحديث باللفظ الأوَّل قد جعل الجهل والجاهل وعدم المعرفة بذلك الإمام موته ميتة على غير ملَّة الإسلام، وهذا لا يكون إلَّا في الأُمور الاعتقاديَّة، وأمَّا الفروع فهي لا توجب الخروج والموت على غير ملَّة الإسلام عند المذاهب الإسلاميَّة سوى مذهب الخوارج ونحوهم.
وكذا لو كان لفظ الحديث بلفظ: ليس عليه إمام أو ليس في عنقه بيعة له، فإنَّ كلَّ ذلك لو كان أمراً وحكماً من فروع الدِّين لما أوجب الموت على غير ملَّة الإسلام، ومن الضروري كون ذلك مرتبطاً بأمر وحكم اعتقادي، ولم يذهب ذاهب إلى أنَّ عدم الاعتقاد بإمامة العادل غير المعصوم كعدم الاعتقاد برسالة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أو أنَّ إمامة غير المعصوم أمر اعتقادي.
٦ - يقول الكاتب: إنَّ قيادات رجال الاستخبارات السرِّيِّين لا يحكمون مقدَّرات الشعوب والدول في العصر الحديث، فالوضع الدولي تديره الحكومات العلنيَّة ورؤساء الجمهوريَّات في السطح الظاهر العلني، وأمَّا اللوبيَّات الصهيونيَّة الخفيَّة، ولوبي القوى الاستخباريَّة السرّيَّة، وقوى المال والسلاح فليس في يدها - في الوضع الراهن - أيَّ دور في ما يحدث أوَّلاً بأوَّل في العالم، وإنَّ دعوى أنَّ الإمام الغائب بمعنى المستتر الذي له نوَّاب في العلن والسطح الظاهر الذين وصفهم الكاتب بالطغاة والمتكبِّرين والانتهازيِّين، وله منظومة سرّيَّة يدير من خلال المنظومتين العلنيَّة والسرّيَّة - كما هو شأن الدول في العصر الراهن الحديث - شؤون الأُمَّة الإسلاميَّة والطائفة الشيعيَّة، يقول الكاتب: إنَّ ذلك غير معقول إمكانه في حين أنَّ الكاتب يقرُّ بأنَّ منظومة الإمام الثاني عشر العلنيَّة من النوَّاب والمراجع الشيعة تُدبِّر شؤون المسلمين والشيعة، لكنَّه يصف
↑صفحة ٤٩٤↑
تدبيرهم بالطغيان، فكيف يجمع بين عدم معقوليَّة التصرُّف والتدبير لشؤون الناس، وبين إثبات تدبيرهم لكن بشكل طغياني في تعبيره؟
٧ - تخيَّل الكاتب أنَّ الشيعة المعاصرين ذهبوا إلى انتخاب أئمَّة بأنفسهم وإلى ولاية الفقيه، وقد نبَّهته من قبل إلى أنَّه غافل عن أبسط الأبحاث القانونيَّة في الفقه وفي الفقه السياسي، فإنَّ ما ذكره فقهاء الشيعة من ولاية الفقيه هي نيابة عن الإمام الثاني عشر، أي إنَّهم يتقيَّدون في نظام الحكم بأحكام الإمام الثاني عشر وآبائه الطاهرين، فليس يرون شرعيَّة أيِّ نظام سياسي كيف ما كان، بل نظام سياسي مبني على فقه أهل البيت وأقوالهم (عليهم السلام) ومتشعِّب من ولاية الإمام الثاني عشر، أي يتبع ويتقيَّد بإحراز رضاه في نظام الحكم وسياساته الأُمرائيَّة.
كما قد نبَّهت الكاتب في المقالة السابقة (الردّ) إلى أنَّ المفيد والمرتضى والطوسي ومشهور فقهاء الشيعة من القرن الثالث إلى قرننا الحالي قد ذكروا ولاية الفقيه نيابةً عن الإمام الثاني عشر. فليس هذا أمر مستجدٌّ أو حادث كما يرجف ويرعد به الكاتب مع غفلته بالمؤدَّى الفقهي والقانوني لولاية الفقيه النيابيَّة.
٨ - الكاتب يقول: إنَّ إثبات الإمامة لأهل البيت (عليهم السلام) وأنَّهم معيَّنون من قِبَل الله وأنَّهم معصومون وإثبات وجود الإمام الثاني عشر، فإنَّ ذلك لا يُغيِّر من مسارات الشيعة والمسلمين، ولا يُغيِّر من كيفيَّة نظام الحكم في عصرنا الحاضر وواقعنا المعاش، وإنَّ الاختلاف في تعيين الحاكم اختلاف في المصاديق.
وهذا جهل بأبسط موازين التنظير القانوني والرؤية الفقهيَّة، فإنَّ بناء النظام السياسي الحاكم يختلف في صياغته بعد المشرقين وبعد السماء إلى الأرض بين المذاهب الفقهيَّة الإسلاميَّة، فإنَّ هيكليَّة الحكم ومنابع القانون وصياغة الشرعيَّة القانونيَّة لنظام الحكم تختلف جوهريًّا بين المذهب الجعفري الاثني
↑صفحة ٤٩٥↑
عشري والمذاهب الأُخرى، فإنَّ في مذهب الإماميَّة تُعتَبر أقوال المعصومين موادًّا دستوريَّة غير قابلة للتغيير لأنَّهم معصومون، بينما في المذهب الحنفي مثلاً يمكن للحاكم الحنفي أنْ يردَّ على أبي حنيفة ويجتهد بإنشاء حكم وقانون جديد. كما أنَّ في مذهب الإماميَّة النظام القضائي بتمام فصوله وبنوده يختلف عن النظام القضائي في المذاهب الإسلاميَّة الأُخرى، وهذا واضح لمن يعرف ويفهم ويطَّلع على ألف باء الفقه والقانون، ولا أرى الكاتب إلَّا وقد أوقع نفسه من جديد في بحث تخصُّصي آخر لا ناقة له به ولا جمل، يخبط خبطاً قانونيًّا هوجائيًّا، فنظام الحكم الذي يُؤسَّس على الكيفيَّة القانونيَّة المستقاة من الكُتُب الأربعة وغيرها من الكُتُب الإماميَّة تختلف عن الكيفيَّة القانونيَّة التي تُستقى من الصحاح الستَّة لدى أهل السُّنَّة. فمصير المنابع الطبيعيَّة والأموال العامَّة في الدولة الإسلاميَّة يختلف مذهب أهل البيت فيها عن بقيَّة المذاهب الأُخرى، إلى غير ذلك من فقرات الحكم في النظام السياسي، وحينئذٍ يا (كاتب) يصل المسلم إلى مفترق طُرُق في كيفيَّة بناء نظام الحكم المعاصر، فإلى أيِّ الطُّرُق يسلك من دون أنْ يتَّضح لديه المنبع الصحيح - الذي يعذره الله تعالى عليه - لاستقاء قوانين النظام السياسي؟
فهل أهل البيت حجَّة أئمَّة منصوبون معيَّنون من قِبَل الله تعالى علمهم علم لدنِّي لا علم حسِّي اجتهادي ظنِّي؟ هل أهل البيت كذلك لكي يستقي ذلك منهم، أم ليس الحال كذلك فهم وغيرهم من فقهاء المسلمين غير المعصومين سواء يمكن الردُّ عليهم، والاعتراض على أقوالهم، وطرح أحكامهم وعدم الاعتناء بما يكرهونه ويرفضونه وعدم الاعتناء بما يُحِبُّونه؟!
ودعني عن بساطة فهمك وثقافتك العالية القانونيَّة والفقهيَّة والكلاميَّة، من عدم الفرق عندك في الأخذ من فقه أهل البيت وحبِّهم سواء كانوا
↑صفحة ٤٩٦↑
معصومين أم لم يكونوا كذلك حسب تعبيرك، فإنَّ الغافل أو الجاهل بالحال لا يُؤاخَذ إلَّا بقدر ما يعقل.
إنَّما الكلام مع ذوي الألباب والعلم والفضيلة، هل نرسم مسار الحكم والنظام المعاصر بحسب فقه أهل البيت ولا نردُّ ولا نعترض عليهم؛ لأنَّهم معصومون، أم أنَّهم ليسوا كذلك فيُعتَرض عليهم ولا يُخصَّص الأخذ عنهم، بل يُؤخَذ منهم ومن غيرهم؛ لأنَّه بناءً على عدم عصمتهم يمكن خطؤهم وصحَّة أقوال غيرهم من فقهاء المسلمين؟
ومن ذلك يتَّضح الجواب عن تساؤل الكاتب عن فائدة إثبات وجود الإمام الثاني عشر والإيمان به، وحصر الفائدة في النيابة العامَّة التي يطعن هو فيها بالخيانة والطغيان، وجهل وغفل عن أنَّ النظام السياسي النيابي عن المعصوم يختلف في كلِّ بنوده وفصوله القانونيَّة عن نظام السلطة الجماعيَّة المتَّخذ لفقه المذاهب الأُخرى منبعاً قانونيًّا له ومصدراً قضائيًّا.
هذا كلُّه في تغاير المسار في النظام السياسي فضلاً عن النظام العبادي الفردي والأُسري، والشعائري الاجتماعي، فإنَّ الدِّين مجموعة واحدة مترابطة لا يمكن الإيمان ببعض والكفر آخر، وهذا التغاير فضلاً عن التغاير في الاعتقاد بعصمتهم، وتولِّيهم الذي نفى الكاتب أيَّ ثمرة وفائدة له، وهذا تصريح من الكاتب بعدم اعتنائه بالدار الآخرة وقصر نظره على الدنيا، ﴿ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾ (النجم: ٣٠)، ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ﴾ (النمل: ٦٦)، ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ (الروم ٧)، فعلى منطق ومنهج الكاتب العلماني أيّ فرق في الاعتقاد بالله تعالى وبرسوله وبالآخرة وبالجنَّة والنار في حياتنا المعاصرة الراهنة؟ فالمهمُّ أنْ نعلف بطوننا وننكح فروجنا ونتنعَّم بنعيم الحياة الغربيَّة في الملاذِّ المادّيَّة.
↑صفحة ٤٩٧↑
ثمّ إنَّ الكاتب ذكر قصَّة صوَّر فيها الرجل الأمريكي الغربي بالرجل المتحضِّر الفاهم العاقل المتطوِّر، الذي يبصر تكوُّن حقيقة الحياة ومعنى التقدُّم، والرجل السُّنِّي والشيعي المسلمين بالرجلين المتخلِّفين الجاهلين الخرافيَّين، وهذا الكلام من الكاتب تصريح صارخ بالالتزام بالمنهج الغربي العلماني، وأنَّ الديمقراطيَّة الغربيَّة هي الحلُّ الصحيح لنظام الحكم ولنهج الحياة الأبديَّة، فهل الخلاف بين المسلمين لا يُؤثِّر في صيغة نظام الحكم السياسي والاجتماعي الذي يُراد بناء صرحه في العصر الراهن؟ وهل الاختلاف بين الرجل السُّنِّي والشيعي من جهة مع الرجل الأمريكي لا يُؤثِّر في الكيفيَّة القانونيَّة لنظام الحكم السياسي؟ ويحسب الكاتب أنَّ النظام لا محالة لا بدَّ أنْ يكون غربيًّا أمريكيًّا علمانيًّا، وهل الخلاف في البحث عن النظريَّة الصحيحة والعقيدة السليمة لا يُؤثِّر في المسار الفردي والعبادي للإنسان، وللتأثير على آخرته التي هي أخطر من حياته الدنيويَّة المؤقَّتة؟
نعم الكاتب قد قدَّس الحياة المدنيَّة الدنيويَّة وغفل عن بهاء وجمال الحياة الأُخرويَّة، وهل الكاتب لم يسمع بمفاسد المجتمع الغربي، وتحلُّل الأسرة والأمراض الروحيَّة، والعُقَد النفسيَّة التي يعيشها الفرد الغربي، والإحصائيَّات المذهلة في ذلك والإجرام المتفشِّي إلى غير ذلك من الدمار النفسي والأُسري والاجتماعي؟ وهل الطغيان الغربي وامتصاص دماء الشعوب تطوُّر وتقدُّم؟ فالكاتب من جانب ينادي بالتحرُّر والدفاع عن شعوبنا المستضعفة وثرواتها، ومن جانب آخر يمدح الرجل الأمريكي الغربي وأنَّه مثال التقدُّم والتطوُّر والرقي والمدنيَّة، فهل كلُّ هذا الحال في النظام الدولي وأوضاع الشعوب إلَّا نتاج الرؤية الاعتقاديَّة حول الحياة والخلقة، وكيفيَّة نشوء الحقوق والقوانين من تلك الرؤية، ومن ثَمَّ بناء النظام السياسي
↑صفحة ٤٩٨↑
والاجتماعي والدولي، ونظام الفرد والأُسرة على نهج تلك الرؤية؟ وهذا ما صرَّح به علماء القانون في الأكاديميَّات الجامعيَّة القانونيَّة أنَّ أيَّة نظريَّة في القانون والقوانين هي وليدة نظريَّة سابقة في الحقوق الطبيعيَّة، وهي الأُخرى وليدة نظريَّة سابقة عليهما في الرؤية إلى فلسفة الكون والحياة هل المادَّة هي الأصل والإنسان هو الأصل أم الإله والخالق هو الأصل؟ ومن أيٍّ منهما تنطلق مشجَّرة الحقوق وفلسفة الحقوق، ومن ثَمَّ ترسو القوانين على أرضيَّة الحقوق.
ولكن الكاتب معذور في هذه العشوائيَّة والهياج، إذ لم يراجع ولم يطَّلع على أبسط دائرة معارف قانونيَّة تخصُّصيَّة لكي يعرف سرَّ تأثير العقيدة حول الكون، وارتباطها مع القانون الذي يُبنى عليه نظام الحياة، وهذه عادته في الاقتحام في البحوث التخصُّصيَّة بكلّ جرأة من دون مؤهِّلات سابقة.
٩ - ثمّ دعواه الأخيرة ونداءه الأخير إلى عدم التفرقة وإثارة الماضي، ولا أدري كيف يناقض نفسه كراراً بلا حياء من القُرَّاء؟ فمن الذي طبع ثلاثة كُتُب في الطعن على الطائفة الإماميَّة؟ ولِـمَ نَشرَ تلك الكُتُب؟ ولِـمَ أثار هذه البحوث إذا كان يعتقد أنَّ ذلك لا يجدي ولا فائدة فيه سوى الصراع والاختلاف والضعف؟
لا تنه عن خلق وتأتي مثله * * * عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ (الصفّ: ٢).
١٠ - ثمّ إنَّه يدعو إلى التمسُّك بالقرآن والسُّنَّة، ولا أدري كيف يدعو إلى التمسُّك بالكتاب والسُّنَّة، وهو ينبذ ما يأمر به الكتاب والسُّنَّة من التمسُّك بالثقلين، فهل هذا تمسُّك أو دجل ومراوغة؟
* * *
↑صفحة ٤٩٩↑
الردُّ رقم (١) على الكاتب في نقاشه مع التلميذ:
حُرِّر بتاريخ (٣١/ ١٢/ ١٩٩٩م)، (٠٥:٤٩) صباحاً.
محمّد منصور عضو:
١ - قال الكاتب: ماذا يفيد الأُمَّة إمام غائب لا طريق للارتباط معه أو نصرته، ولا طريق له لتوجيهها وتعليمها وقيادتها؟ وكأنَّ الكاتب على منهجه الحسِّي في سجن الحسِّ البصري، يحصر طريق إفادة القيادة للأُمَّة بشرط، وهو كون القيادة مرئيَّة بالحسِّ البصري، وبشرط أنَّ الأُمَّة تعلم حين ترى القيادة بالحسِّ البصري أنَّ الذي تراه هو فلان بن فلان القائد فتُطبِّق ما علمته واعتقدته على المرئي المحسوس بالبصر. وأوَّل تناقض يدخل الكاتب فيه على منهجه الحسِّي المادِّي أنَّ دولة الحياة الغربيَّة ليست عند الغرب المادِّي مبنيَّة على كون القيادة المؤثِّرة في الوضع الدولي ووضع مواطني الدولة مرئيَّة بالبصر، بمعنى أنَّ مواطني الدولة لا بدَّ أنْ يرون بالحسِّ البصري القيادات الحقيقيَّة التي تتحكَّم في أجهزة الدولة من الوزارات، والإعلام، والبنوك، والمؤسَّسات الماليَّة، والجيش، وقاعدة الصواريخ النوويَّة، وغيرها من مرافق الدولة.
فالقيادات الحقيقيَّة التي تقود هذه الدول على طبق الدستور للدولة الغربيَّة لم يُشتَرط فيها عندهم من المنهج المادِّي أنْ تكون مرئيَّة بالحسِّ البصري، وبشرط آخر هو أنْ يعرفها المواطنون حين يرونها بالحسِّ البصري أنَّها فلان بن فلان القائد.
وأيُّ استحالة يراها العقل في إمكان قيادة الأُمَّة عبر أجنحة خفيَّة تتحكَّم في مقدَّرات الأُمَّة تكون تلك الأجنحة والمنظومة متغلغلة في شرائح المجتمع وكافَّة قواه، تكون متغلغلة ونافذة في أجهزة الحكومة الرسميَّة؟ بل إنَّ عقل البشريَّة يرى ضرورة ذلك في الحياة المعقَّدة العصريَّة، ويرى أنَّ الخروج إلى
↑صفحة ٥٠٠↑
السطح العلني ما هو إلَّا خبل وبلاهة وتخلُّف، وأنَّ عدم المحافظة على القوَّة ومنظومتها البشريَّة تحت ستار السرّيَّة ما هو إلَّا ذهنيَّة متحجِّرة من القرون الوسطى التي تتَّخذ من المصارعة البدنيَّة وعضلات اليد منهج النصر والغلبة، لاسيّما في مثل هذه العصور التي استفلحت فيها أساليب القوى بأطوار جبَّارة.
لا يشترط هذا الشرط في عقليَّة القرن الواحد والعشرين إلَّا صاحب هلوسة، أو من لا يستطيع أنْ يكشف الذباب عن وجهه، وهو يطمع أنْ يناطح القوى الكبرى العصريَّة.
وعلى قول الكاتب إنَّ الحكومات الرسميَّة العلنيَّة في الدول هي أقوى تحكُّماً في مقادير مواطني تلك الدول من أيِّ قوَّة أُخرى خفيَّة في تلك الدول، فلا مسرح لتأثير اللوبيَّات ولا مجال عقلاً - عند الكاتب - لتأثير المنظَّمات السرّيَّة كالماسونيَّة والمافيا وغيرها، ولا يمكن لتلك القوى أنْ تفيد أو تضرَّ بالأُمم الأُخرى.
هذا مع أنَّ الإمام الموجود الحيَّ المستتر عن معرفتنا له بنحو لو رأيناه بالحسِّ البصري لقلنا: إنَّه الحجَّة بن الحسن العسكري، فلم يقطع ارتباطه بالشيعة والمسلمين بعد أنْ نصب وكلاءً ظاهرين بالنيابة العامَّة، حيث اشترط في نيابتهم ووكالتهم شرطي الكفاءة العلميَّة (الفقاهة والتخصُّص في فهم قوانين الدِّين)، والأمانة، وهي العدالة.
فهو عبر هذه النيابة العامَّة قد فسح المجال للأُمَّة للحركة والسعي، والجدِّ والمثابرة، وأنشطها لتتحمَّل شطراً من المسؤوليَّة الملقاة على عاتقها، كي لا تكون في موقف المتفرِّج الجامد كما قد ارتكبت ذلك الأُمَّة الإسلاميَّة مع الأئمَّة السابقين (عليهم السلام).
فهذه الغيبة والسرّيَّة وإدارته (عليه السلام) لمنظومة سرّيَّة متشكِّلة من الأوتاد
↑صفحة ٥٠١↑
والأبدال...، ولمنظومة ظاهريَّة متشكِّلة من الفقهاء العدول، تُعتَبر أرقى نهج في العمل عرفته البشريَّة كما هو الحال في طريقة القوى في القرن العشرين، فإنَّ أيَّة دولة لا تستطيع أنْ تحافظ على كيانها، وأيَّة أُمَّة لا تستطيع أنْ تحافظ على وجودها إلَّا بأنْ تكون لها منظومتان من القوى إحداهما سرّيَّة خفيَّة كي لا يعرفها الأعداء ولا يهتدون إليها، ولتبقى سدًّا منيعاً من يد العدوِّ لتلك الأُمَّة والدولة، وثانيهما علنيَّة ظاهريَّة وهي الحكومة الرسميَّة المعلنة، فهل يمكن محافظة أُمَّة في هذا العصر من دون انقسام قواها إلى قسمين: قوى سرّيَّة، وقوى علنيَّة، بحيث يكون عمدة قوَّتها هي في القوى السرّيَّة التي لها، وقوام قواها العلنية هي بالقوى السرّيَّة؟ أليس هذا النهج هو أحدث ما وصلت إليه المدنيَّة الحضاريَّة البشريَّة، ويُعتَبر قمَّة التطوُّر البشري في صنع الدولة وفي بناء الكيان للنظام السياسي الاجتماعي؟ أليس هذا إعجاز علمي في عقيدة الإماميَّة وكيانها سبقت البشريَّة في الوصول إليها قبل ألف ونيِّف سنة؟
ثمّ إنَّ الكاتب يقول: لماذا الإمام غائب ولا يظهر لترتبط الأُمَّة معه بنحو الارتباط الحسِّي لتقوم بنصرته ولتتوجَّه بتعليماته؟ ولا ينقضي ذهول الكاتب وتنكُّره لحقائق تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة، وتنكُّره لكثير من البديهيَّات الإسلاميَّة، أليس قد قال سابقاً بأنَّ الدولة العبَّاسيَّة سياستها ليِّنة مع البيت العلوي، فها هو يقول: لماذا يكون الإمام المعصوم غائباً، يقوم بأدوار القيادة في الخفاء والسرّيَّة؟ وكأنَّ الكاتب يُنكِر أنَّ هذه الأُمَّة قد قتلت عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام) في المحراب، ولعلَّ قتلها له في منطق الكاتب لأنَّه لم ترَه يقوم بالعدل وبإصلاح الأُمَّة، وكأنَّ الكاتب يُنكِر قتل الحسن سبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالسمِّ وتخاذل الأُمَّة عنه، ولعلَّ الكاتب يُنكِر قتل الأُمَّة للحسين الشهيد (عليه السلام) ، أو لأنَّ الأُمَّة في منطق الكاتب اشتبهت وخلطت بين يزيد والحسين.
↑صفحة ٥٠٢↑
ولعلَّ الكاتب يُنكِر أنَّ الأئمَّة قُتلوا بالسمِّ، وأنَّ السلطات الأُمويَّة والعبَّاسيَّة بمعاونة الأُمَّة قد أجهزت على حياة ذرّيَّة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعترته عملاً بقوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (الشورى: ٢٣)، وآيات الثقلين التي نبَّهنا الكاتب عليها في مقالة سابقة، وحديث النبيِّ - الذي يُنكِر الكاتب الاعتماد عليه - المتَّفق بين الفريقين، ولعلَّ الكاتب يُنكِر أنَّ الكاظم (عليه السلام) حُبِسَ في قعر السجون حتَّى قُتِلَ بالسمِّ، وأنَّ العسكريَّين حُبِسَا تحت الإقامة الجبريَّة في سامرَّاء، أو لعلَّ الكاتب يقول بأنَّ هذا معنى نصرة الأُمَّة للأئمَّة المنصوبين من قِبَل الله تعالى، أو لعلَّ الكاتب يريد أنْ تتدخَّل السماء بصورة إعجازيَّة، ولا تراعي امتحان البشر وامتحان اختيارهم في الطاعة لإرادة السماء، فهل قرنين ونصف غير كافٍ لامتحان نصرة الأُمَّة لخلفاء الله في أرضه، أم يريد الكاتب أنْ تُفرِّط السماء في المعصومين ويُقضى عليهم أجمعين، فيسود الهرج والمرج من دون أنْ تتدخَّل السماء لتدارك الوضع؟
ثمّ إنَّ هذه تعاليم وتوجيهات الأئمَّة، وتوجيهات الإمام الثاني عشر موجودة وواصلة إلينا عبر الروايات، فأين توجُّه الأُمَّة واتِّباعها لتعليماتهم؟
أليس الكاتب يُنكِر إمامتهم الإلهيَّة التي نصَّ عليها الله في كتابه المجيد؟ وقد ذكرنا له شطراً ونموذجاً من الآيات في مقالات سابقة، وهي آيات الثقلين.
فأين توجُّه الكاتب واتِّباعه للقرآن أم للمادّيَّة الحسّيَّة الغربيَّة؟ ولا ينقضي ذهول الكاتب وتناقضاته فيقول مع ذلك في نهاية نقاشه مع التلميذ: (ماذا نصنع ولا إمام من أهل البيت يرعانا بعد وفاة العسكري؟)، فهو يُنكِر إمامتهم الإلهيَّة أي إنَّهم بشر عاديُّون يُخطِئون، فيصحُّ مخالفتهم ومحاربتهم، ومع ذلك فهو يطالب برعاية إمام من أهل البيت.
ويريد من الرعاية في كلامه الرعاية بالحسِّ البصري بدون أُسلوب البشريَّة
↑صفحة ٥٠٣↑
العصري الخالي من استخدام قوَّتين: علنيَّة وسرّيَّة، فإنَّ الكاتب يتحدَّى البشريَّة، ويسخر بعقليَّة وفطرة البشر في هذا العصر من الحاجة إلى قوَّتين في نظام الدولة وكيان الأُمَم.
ويقول الكاتب: بأنَّ فطرته وعقله أصحّ من فطرة وعقل البشر!
٢ - ثمّ إنَّ الكاتب يسخر بالأدلَّة الفلسفيَّة والكلاميَّة كما اجترَّ ذلك وكرَّره سابقاً، ومع ذلك فهو يناقض نفسه في خلال أسطر بالمطالبة بدراسة الروايات من الجهات العقليَّة والنقليَّة، فهو حين يستخفُّ بالبحث العقلي ويحصر الدليل بالحسِّ البصري يتبجَّح بالمطالبة بالبحث العقلي، وهو في حين يقول في خاتمة كتابه حول المهدي بأنَّه لا يقبل الاحتجاج بروايات أهل السُّنَّة الواردة في المهدي وأنَّه من ذرّيَّة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يطالب هاهنا بالبحث النقلي في الروايات، وفي حين يقول: إنَّ روايات المهدي وظهوره روايات اختلقتها قوى الصراع السياسي في التاريخ الإسلامي، فهو لا يقبل أيَّ حقيقة وضرورة نقليَّة تحت طائلة منهجه الحسِّي، وتفسير كلِّ الدِّين بالمنطق المادِّي والمصالح المادّيَّة، وأنَّ كلَّ الظواهر الدِّينيَّة خاضعة لمصالح ورغبات المادَّة والمال، وأنَّ ما وراء ذلك فرضيَّات، فالغيب فرضيَّة، وهو مع ذلك يحصر صحَّة الدليل في البحث التاريخي، ويقول: (إنَّ البحث النظري لا يُؤدِّي إلى نتيجة ثابتة واضحة).
وهذا تصريح منه في انحصار الأدلَّة في الدليل الحسِّي الذي تعيشه البشريَّة من خلال حواسِّها وهو التاريخ، ثمّ التاريخ يُحلَّل على أساس المصالح المادّيَّة.
ولا أدري أنَّ الكاتب يُثبِت وجود الله تعالى بدليل تاريخي ويُثبِت صدق نبوَّة الرسول بدليل تاريخي، أو عقلي ببرهان المعجزة، أو أنَّه لا يُثبِت ذلك كما هو لازم كلامه؟!
٣ - ثمَّ إنَّ الكاتب يستبعد بقاء حجَّة الله تعالى وخلفائه ألف سنة أو أكثر،
↑صفحة ٥٠٤↑
ولعلَّه نسي عمر نوح في القرآن، أو أنَّه يقول بأنَّ تلك الآيات في عمر نوح وضعتها قوى الصراع في تاريخ المسلمين. وكذا الآيات التي تلوناها عليه في حياة عيسى (عليه السلام)، وأنَّه حيٌّ في السماء، وسيظهر وينزل من السماء، ولعلَّ الكاتب يقول بأنَّ تلك الآيات وضعتها اليد المسيحيَّة في القرآن.
وكذا الآيات التي تلونا عليه في إدريس، وفي الخضر في سورة الكهف، وأنَّه يقوم بأدوار مصيريَّة هامَّة تنفع البشريَّة بأمر من الله تعالى، ضمن مجموعة من عباد الله الأولياء الحُجَج، ﴿فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: ٦٥).
أو لعلَّ الكاتب لا يصغي لوعود الله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القَصص: ٥)، ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: ١٠٥)، ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرضِ...﴾ (النمل: ٦٢).
كما أنَّ الكاتب يستبعد الحاجة إلى حُجَج الله بعد وجود الدستور الإلهي والكتاب السماوي، فلا معنى لقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ﴾ (المائدة: ٤٤)، ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرا﴾ (المؤمنون: ٤٤)، ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ (النساء: ١٦٥)، ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ (الرعد: ٧).
فلكلِّ قوم إلى يوم القيامة هادٍ من الله تعالى، وقوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ (العنكبوت: ٤٩)، بعد قوله: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ (النحل: ٨٩).
↑صفحة ٥٠٥↑
فمن هؤلاء الذين أُوتوا العلم الذين تضطرُّ الأُمَّة إليهم لتبيان كلِّ ما تجهله؟ ومن هم المطهَّرون الذين يمسُّون القرآن: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الواقعة: ٧٧ - ٨٠)؟ وغير ذلك من آيات في الكتاب.
ولكن الكاتب لا يعجبه الكلام في آيات الله وكتابه، ويطعن مع ذلك على رواة الإماميَّة بأنَّهم يعتقدون بالإمامة الإلهيَّة التي ينصُّ عليها القرآن.
٤ - أمَّا قول الرضا (عليه السلام) في إنكاره على الواقفيَّة على قولهم بعدم موت الإمام الكاظم (عليه السلام) مع أنَّ الناس قد شيَّعوا جثمان الكاظم (عليه السلام) ودفنوه بأيديهم في القبر! فقول الواقفيَّة يقتضي أنْ لا إمام بعد الكاظم، فلذلك قال الرضا (عليه السلام) بالإضافة إلى تلك الرواية السابقة كما رواها الكشِّي، قال (عليه السلام) لبكر بن صالح: «ما يقول الناس في هذه الآية؟»، قلت: جُعلت فداك وأيّ آية؟ قال: «قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [المائدة: ٦٤]؟»، قلت: اختلفوا فيها، قال (عليه السلام): «ولكنِّي أقول: نزلت في الواقفيَّة، إنَّهم قالوا: لا إمام بعد موسى (عليه السلام)، فردَّ الله عليهم؛ بل يداه مبسوطتان واليد هو الإمام في باطن الكتاب، وإنَّما عنى قولهم: لا إمام بعد موسى (عليه السلام)».
فهو (عليه السلام) في صدد بيان ضرورة وجود السبب المتَّصل بين السماء والأرض، وهو الإمام الحيُّ المعصوم، وأنَّ قول الواقفيَّة مع قطع ويقين كافَّة المسلمين بدفن الجثمان الشريف للكاظم (عليه السلام) هو قول بإنكار ضرورة الإمام المعصوم الحيِّ، وبالتالي إنكار لحاكميَّة الله المباشرة على البشر، وأنَّ الله في موقع المتفرِّج من بعيد، ولا يستطيع إيصال إرادته ومشيئته في النظام السياسي والاجتماعي للبشر، وهذا القول عين النظريَّة اليهوديَّة التي تقول: لا حُجَج لله في
↑صفحة ٥٠٦↑
أرضه بعد موت النبيِّ موسى (عليه السلام)، وإنَّ الله في موقع المتفرِّج والناظر من بعيد الذي لا حول له ولا قوَّة، حيث لا يتدخَّل في السياسة التنفيذيَّة وغيرها للبشر.
٥ - ثمّ إنَّ الكاتب لا يهاب من التدليس المفضوح، ويدَّعي أنَّ الواقفيَّة والفطحيَّة لديهم روايات متواترة في كون ابن عبد الله الأفطح والكاظم هما المهدي، وهو كعادته من العشوائيَّة في خلط الأوراق يخلط بين تواتر روايات المهدي من ذرّيَّة الرسول، ودعوى الفطحيَّة وتطبيق ذلك على ابن الأفطح، ودعوى الواقفيَّة في ذلك في الكاظم (عليه السلام).
ثمّ لم يأتِ الكاتب بمصدر واحد على ما يدَّعيه، ومع دعواه الكاذبة يحكم على روايات الإماميَّة المتواترة في الإمام الثاني عشر بأنَّها موضوعة؛ لأنَّهم يعتقدون بالإمامة الإلهيَّة، ويرفض البحث في الكبرى كي يفهم أو لا يفهم بأنَّ طعنه في رواة الإماميَّة طعن في منشأ عقيدتهم، فمن المنطق العقلي أنْ يبحث في صحَّة الإمامة الإلهيَّة أوَّلاً ثمّ يبني على صحَّة طعنه لهم بسبب عقيدتهم.
كما أنَّه يُنكِر ضرورة عقيدة المسلمين بالمهدي، وأنَّه من ذرّيَّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لكن مع هذا وهن، وأنَّ نظريَّة المهدويَّة عقيدة وضعتها الغلاة الباطنيَّة، ولا ينتهي دورانه حول نفسه متشبِّثاً بالحسِّ البصري والتفرُّج بالعين، وأنَّه الأصل في قاموس البحث والاستدلال.
والخلاصة أنَّ البحث لا يخرج معه عن العشوائيَّة ما لم يتمركز أوَّلاً في البحث عن ضرورة الإمامة الإلهيَّة في القرآن والسُّنَّة...
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢/ ١/ ٢٠٠٠م)، (١٠:٣٢) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
الأخ الأُستاذ محمّد منصور نصره الله في الحقِّ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
↑صفحة ٥٠٧↑
كان حوارنا حول معنى أحاديث الإمام الرضا (عليه السلام) حول ضرورة أنْ يكون الإمام حيًّا ظاهراً معروفاً.
وقد ذهبت يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً حتَّى إنَّك كدت تُخرجني من الدِّين لقولي بذلك كأنَّني اقترفت جريمة كبرى فشبَّهتني بالعلمانيِّين والمادّيِّين و... سامحك الله وغفر لك في هذا الشهر المبارك.
حاولت أنْ تُأوِّل آيات كثيرة من القرآن، وتُفسِّرها بما تشتهي رغم أنَّها غير صريحة بما تقول، وأردت أنْ تصل إلى ضرورة وجود الإمام الموصوف بكذا وكذا، ولكنَّك لم تستطع أنْ تُثبِت هذا الإمام في التاريخ، أو في الأرض، ولم تأتِ إلَّا بفرضيَّات ونظريَّات وهميَّة، وتحاول أنْ تستنبط منها وجود إنسان في الخارج، وعندما تصطدم بأحاديث أهل البيت تلوي عنقك وتحاول ليّ عنق الروايات وتدَّعي فهمها وحدك.
تحدَّثت كثيراً عن العلم اللدنِّي، ولم تُخبرنا ما هو؟ وكيف يحصل لدى الإمام؟ وهل ينزل عليه جبرئيل والملائكة؟ وهل هو وحي؟
علماً بأنَّ الإمام عليًّا (عليه السلام) يقول في تأبين رسول الله: إنَّ الوحي قد انقطع بوفاته، وانقطعت أخبار السماء.
إنَّ كثيراً من الغلاة الذين دسُّوا أنفسهم في صفوف الشيعة، وادَّعوا الولاء لأهل البيت كانوا يقولون بمقالات منكرة يستنكرها أهل البيت فيلعنوهم، ولكنَّهم كانوا ينسبونها إليهم تحت ستار التقيَّة.
وقد أساء الغلاة إلى الشيعة إلى اليوم بما نسبوه إلى أهل البيت من مقولات الغلوِّ التي جعلتهم أنبياء، أو نصف أنبياء ونسبت إليهم العلم بالغيب، ومن مقولات الغلاة أيضاً القول بتحريف القرآن ووجوده كاملاً عند أهل البيت.
وقد قلت: إنَّ الكتاب محفوظ لا يصل إليه تماماً إلَّا المعصومون، وتوجد ثُلَّة في صدرها مجموع الكتاب.
↑صفحة ٥٠٨↑
وقد شممت منك القول بتحريف القرآن، فأرجو أنْ تُوضِّح ذلك، هل تقول بتحريف هذا القرآن الموجود بين أيدي المسلمين اليوم؟ وما فائدة كتاب محفوظ في الغيب إذا لم يستطع الله سبحانه وتعالى أنْ يحفظه لدى الناس؟ وهل يُسمَّى ذلك حفظاً وإعجازاً؟ وعند الله في اللوح المحفوظ كُتُب كثيرة محفوظة، فلماذا نتَّهم كُتُب اليهود والنصارى بالتحريف؟
سألتك فيما سبق فيما إذا كنت إخباريًّا أو أُصوليًّا، ولم تجبني، وإذا بك اليوم تُردِّد أقاويل الغلاة والمتطرِّفين، فإذا كنت مغالياً فأرجو أنْ تُعلِن ذلك على الملأ.
إنَّك تحاول أنْ تفلسف الغيبة اللَّامعقولة والمتناقضة مع فلسفة الإمامة، وضرورة وجود إمام في الأرض بتأويلات تعسُّفيَّة وتخريجات قسريَّة، وتُعطي الإمام مهمَّات جديدة هي أقرب إلى النبوَّة والوساطة بين الله والخلق. ومع ذلك لا تستطيع أنْ تُثبِت وجود ذلك الإمام المفترض أو تشير إليه بإصبعك، أو تذكر مثالاً واحداً صغيراً صحيحاً وصادقاً على ما قام به من أعمال ووساطات أو تفسير للقرآن أو إفتاء أو قضاء طوال ألف عام.
وإذا كان موجوداً ولديه علوم الأوَّلين والآخرين وهو مرتبط بالسماء، فلماذا يترك الشيعة يمارسون الاجتهاد، ويتخبَّطون يميناً وشمالاً كلٌّ يفتي برأي حتَّى إنَّ لديهم حول الخُمُس فقط عشرون رأياً مختلفاً؟ فلماذا لا يتدخَّل ويعطيهم الحكم الصحيح، ويريحهم من مؤونة الاجتهاد واتِّباع الظنون؟
وأخيراً لم تعطني رأيك حول الأدلَّة التاريخيَّة والحكايات الأُسطوريَّة التي تكتنف قصَّة ولادة الإمام محمّد بن الحسن العسكري المزعومة، وأخذ الطيور له بعد الولادة مباشرةً، وعدم شعور أو معرفة أُمِّه بالحمل، وعدم ظهور أيَّة أعراض بالحمل، وما إلى ذلك.
↑صفحة ٥٠٩↑
هل تؤمن بها وتُصدِّقها؟ وهل درستها جيِّداً؟ أم لا تشعر بحاجة إلى دراستها؛ لأنَّك اكتفيت بالنظريَّات الفلسفيَّة الكلاميَّة الخياليَّة؟
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢/ ١/ ٢٠٠٠م)، (١٠:٣٠) مساءً.
التلميذ عضو:
الأُستاذ أحمد الكاتب..
قلت: (نقلت لك عدَّة روايات عن الإمام الرضا (عليه السلام) وهي تتحدَّث عن ضرورة حياة الإمام وظهوره ومعرفته...).
أقول: أُريد أنْ أخطو معك فيما نقلته عن الإمام الرضا (عليه السلام) خطوة خطوة، فلا بدَّ أوَّلاً من إثبات وجود رواية صحيحة سنداً عن الإمام الرضا (عليه السلام) تقول: (إنَّ الإمام لا بدَّ وأنْ يكون حيًّا وظاهراً ومعروفاً)؛ لأنَّك ادَّعيت في كلامك أنَّ الروايات الصادرة من الإمام الرضا تشير إلى الحياة، والظهور والمعرفة، فهل تأتي لنا برواية واحدة عنه (عليه السلام) يذكر فيها الإمام ذلك؟ ومن ثَمَّ ننتقل إلى الحديث عن دلالة ألفاظ الرواية الصحيحة التي ستأتي بها، فأنا في الانتظار...
* * *
وهنا يبدو على الكاتب محاولته التخلُّص من الحرج الذي وقع فيه:
حُرِّر بتاريخ (٢/ ١/ ٢٠٠٠م)، (٠١:٥٨) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
أخي الحبيب محمّد منصور..
إنَّها روايات ذكرها الكليني في الكافي (ج ١/ ص ٣٨٠)، والكشِّي في الرجال (ص ٣٧٩)، والكليني في الكافي مرَّة أُخرى (ج ١/ ص ١٧٧)، والحميري في قرب الإسناد (ص ٢٠٣).
↑صفحة ٥١٠↑
وقد ذكرها الإماميُّون في معرض الاحتجاج ضدَّ الواقفيَّة الذين قالوا باختفاء الإمام موسى الكاظم لتفنيد قولهم.
والروايات منسجمة مع العقل، وهي حجَّة على الإماميَّة الاثني عشريَّة؛ لأنَّها مرويَّة من مشايخهم.
ولا يمكنك التشكيك فيها بعد أنْ حاولت أنْ تُأوِّل معناها.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢/ ١/ ٢٠٠٠م)، (٠٥:٥٣) مساءً.
التلميذ عضو:
إلى الأُستاذ أحمد الكاتب..
أوَّلاً: أنَّ الذي طلب منك ذكر الروايات الصحيحة هو أنا التلميذ لا الأخ العزيز والأُستاذ الجليل محمّد منصور.
ثانياً: أنَّ الرواية لا تكون حجَّة على الشيعي مهما كان الكتاب الذي ذكرت فيه ما لم تصحّ سنداً ومتناً.
ثالثاً: لقد ادَّعيت أنت أنَّ الإمام الرضا (عليه السلام) قال: إنَّ الإمام لا بدَّ وأنْ يكون حيًّا يُعرَف ظاهراً، وعليه فنطلب منك أنْ تذكر لنا رواية واحدة صحيحة سنداً عن الإمام الرضا (عليه السلام) يذكر فيها أنَّ الحجَّة لله على عباده لا تقوم بغير إمام حيّ يُعرَف ظاهر أي تحوي على مجموع هذه الألفاظ الثلاثة (حيٌّ، يُعرَف، ظاهر). أو تذكر روايات صحيحة بها ذكر ذلك، وإنْ لم تكن هذه الثلاثة ألفاظاً مذكورة بمجموعها في واحدة، بل متفرِّقة على رواية أو روايتين أو أكثر.
ومن ثَمَّ وبعد أنْ تأتي بالسند الصحيح للخبر نناقش الخبر معاً من حيث دلالته على دعواك.
أنا ومع الإخوة الكرام المتابعين لهذا الحوار ننتظر ذلك منك...
* * *
↑صفحة ٥١١↑
حُرِّر بتاريخ (٢/ ١/ ٢٠٠٠م)، (١٠:٣٧) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
الأخ التلميذ حفظه الله..
الروايات:
يرويها الكليني في الكافي (ج ١/ ص١٧٧)، والحميري في قرب الإسناد (ص ٢٠٣)، عن الإمام الرضا عن آبائه (عليهم السلام): أنَّ الحجَّة لا تقوم لله على خلقه إلَّا بإمام حيّ يُعرَف.
من مات بغير إمام مات ميتة جاهليَّة.. إمام حيّ يعرفه.
وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): من مات وليس له إمام يسمع له ويطيع مات ميتة جاهليَّة.
ومن مات، وليس عليه إمام حيّ ظاهر مات ميتة جاهليَّة.. إمام حيّ.
ومع الأسف الشديد لا يوجد بين يدي المصادر: الكافي وقرب الإسناد، ولكن يمكنكم مراجعتها والتأكُّد منهما، والروايات واردة في معرض الردِّ على الواقفيَّة الذين قالوا بغيبة الإمام الكاظم (عليه السلام).
* * *
حُرِّر بتاريخ (٣/ ١/ ٢٠٠٠م)، (١٢:٤٨) صباحاً.
التلميذ عضو:
الأُستاذ أحمد الكاتب..
سأحملك على محمل خير في قولك: إنَّ المصادر ليست متوفِّرة لديك.
التلميذ.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٣/ ١/ ٢٠٠٠م)، (٠٢:٢٦) صباحاً.
↑صفحة ٥١٢↑
(جميل ٥٠) عضو:
المسألة بسيطة جدًّا وليس بها تعقيد، فخذ هذا السؤال في مستهلِّ الجواب يا كاتب:
أليس نفس الروايات أكَّدت على قضيَّتين، وهما:
١ - ضرورة وجود إمام وحجَّة.
٢ - ضرورة أنْ يكون معروفاً؟
والآن كيف تجمع بين القضيَّتين، وهلَّا ترى أنَّك إنْ أخذت بالقضيَّة الثانية وتركت الأُولى أوجب منك طرح الأخبار الكثيرة؟!
وهلَّا ترى أنَّ الجمع بينهما ممكن، بل ضروري إذ لا وجه سواه، وهو أنْ يكون الإمام الحيُّ المعروف هو الإمام المعصوم لا مطلق العالم حيث كان السَّوق سوق احتجاج من الإمام أبي الحسن الرضا، وغيره من الأئمَّة كما أقررت أنت بذلك أيضاً؟!
وأنْ يكون الإمام الحيُّ هو الحجَّة بن الحسن، وهو معروف، ولم يبقَ مجال لإنكار عدم معروفيَّته؛ لأنَّ أدلَّتك تمَّ دحضها ولم تتابع أنت بالجواب عليها كما كنت قد أعطيت المواثيق (مواثيق الحوار)؟!
وبكلمة: إنَّ التسليم بالقضيَّة الأُولى هي حجَّة الله عليك في القضيَّة الثانية، وإنْ كنت تصرُّ على رفض ذلك فهيَّا أبرز للرواية وجهاً غير متمحِّل يستعذبه القارئ العربي، والعالم بأُصول الحديث ودرايته.
ثمّ إلآم تريد منَّا أنْ ننتظر تملُّصاتك وتهرُّباتك المتكرِّرة ممَّا يناشدك به الإخوة؟! أم أنَّك لا زلت ترى طريقة أهل الباطل هي المثلى؟! وتلك هي الاغداق بالأسئلة والشُّبُهات من دون تكفُّل أمر آخر يجلب للحوار منفعته؟!
* * *
↑صفحة ٥١٣↑
إلغاء صلاة الجمعة أكبر دليل على سلبيَّة نظريَّة الانتظار:
حُرِّر بتاريخ (١/ ١/ ٢٠٠٠م)، (١١:٤٠) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
الموقف من صلاة الجمعة:
كانت صلاة الجمعة المعقل الأخير الذي تأثَّر بنظريَّة (الانتظار)، حيث كان الشيعة في (عصر الغيبة الصغرى والكبرى) يؤدُّونها باستمرار، وبالرغم من سيادة نظريَّة (الانتظار) منذ أواسط القرن الثالث الهجري وتأثُّر الجوانب السياسيَّة والاقتصاديَّة سلباً بها، إلَّا أنَّ صلاة الجمعة بقيت حتَّى أواسط القرن الخامس بعيدة عن التأثُّر والانفعال. حيث لم يشترط العماني الحسن بن أبي عقيل (المعاصر للكليني) في وجوب صلاة الجمعة غير تكامل العدد، ولم يذكر حضور الإمام العادل أو الإمام المعصوم ولا نائبه الخاصِّ، واكتفى بالقول: إذا زالت الشمس صعد الإمام المنبر، فإذا علا استقبل الناس بوجهه، فإذا فرغ المؤذِّن من أذانه قام خطيباً للناس.
ولم يُعرَف عن أحد من علماء القرن الثالث والرابع قولاً بمقاطعة صلاة الجمعة باعتبار فقدانها لشرط وجود الإمام أو إذنه الخاصِّ، إلَّا ما نُقِلَ عن الشيخ عليِّ بن الحسين بن بابويه القمِّي الذي يقول في (رسالة) له: إذا زالت الشمس من يوم الجمعة فلا تُصَلّ إلَّا المكتوبة، ولكن هذا القول لم يُعرَف عن الشيخ الصدوق الوالد، ولم يروه عنه أحد من العلماء، ولم تثبت صحَّة نسبة الكتاب إليه.
ولم يكن ليحدث في أمر هذه الصلاة العظيمة من جديد لولا التفسير الذي راج عند بعض الفقهاء الإماميَّة في وقت متأخِّر حول كلمة (الإمام) أو (الإمام العادل) حيث حصروا معناها بـ (الإمام المعصوم). ولـمَّا كانوا يقولون: إنَّ الإمام
↑صفحة ٥١٤↑
المعصوم غائب في هذا العصر، وإنَّ من شروط إقامة صلاة الجمعة حضور الإمام أو إذنه، فقد قال أُولئك الفقهاء بافتقاد أحد شروط صلاة الجمعة، وهو إذن الإمام المعصوم المهدي المنتظر، ونتيجةً لذلك قال أُولئك الفقهاء المؤمنون بنظريَّة (الانتظار) بحرمة أو بعدم وجوب صلاة الجمعة في (عصر الغيبة).
وقد تحدَّث الشيخ المفيد في الإرشاد (ص ٣٤٧) عرضاً عن مهمَّات الإمام المعصوم وضرورة وجوده، فذكر من مهمَّاته جمع الناس في الجمعات.
ولكنَّه لم يشترط بصراحة أنْ يكون المقيم للجمعة معصوماً، كما لم يُسقِط وجوب الجمعة في غيبة الإمام المعصوم. ولكن تلميذه السيِّد المرتضى علم الهدى أشار في (الناصريَّات) إلى ضرورة العدالة في الإمام، وقال: الذي يذهب إليه أصحابنا في صلاة العيدين أنَّها فرض على الأعيان، وتكامل الشروط التي تلزم معها صلاة الجمعة من حضور السلطان العادل. (الجوامع الفقهيَّة: ص ٢٠٣).
وقال في (الميافارقيَّات): لا جمعة إلَّا مع إمام عادل أو من ينصبه الإمام العادل، فإذا عدم ذلك صُلِّيت الظهر أربع ركعات، ومن اضطرَّ إلى أنْ يُصلِّيها مع من لا يجوز إمامته تقيَّةً وجب عليه أنْ يُصلِّي بعد ذلك ظهراً أربعاً.
ومع أنَّ السيِّد المرتضى لم يُصرِّح بشرط حضور الإمام المعصوم أو إذنه، فإنَّ بعض من تأخَّر عنه قد فسَّر كلامه بإرادة الإمام المعصوم من كلمة (العادل)، حيث اعتقد أنَّه لا إمام عادلاً إلَّا الإمام المعصوم، وذلك لعدم جواز إقامة الدولة لغير الإمام المهدي المعصوم الغائب، وضرورة انتظاره. وربَّما كان السيِّد المرتضى يقصد ذلك فعلاً.
وذكر الشيخ الطوسي في الخلاف في الفقه (ج ١/ ص ٢٤٨): إنَّ من شرط انعقاد الجمعة: الإمام أو من يأمره الإمام بذلك من قاضٍ أو أمير ونحو ذلك، ومتى أُقيمت بغير أمره لم تصحّ.
↑صفحة ٥١٥↑
وقال في المبسوط في فقه الإماميَّة (ج ١/ ص ١٤٣): فأمَّا الشروط الراجعة إلى صحَّة الانعقاد، فأربعة... السلطان العادل أو من يأمره السلطان.
وقال في (الجُمَل والعقود: ص ١٩٠): ومع اجتماع الشرائط لا ينعقد الجمعة إلَّا بأربعة شروط، وهي: السلطان العادل أو من يأمره السلطان العادل...
وقال في (النهاية: ص ١٠٣): ومن شرائطه أنْ يكون هناك إمام عادل أو من نصبه الإمام للصلاة بالناس.
وقال في التبيان في تفسير القرآن (ج ١٠/ ص ٨): وعند اجتماع شروط، وهي كون سلطان عادل أو من نصبه السلطان للصلاة.
وكان الشيخ الطوسي في كلِّ ذلك يشترط إذن السلطان العادل، ولم يُصرِّح في واحد من كُتُبه بهويَّة هذا السلطان العادل، ولكن إيمان الطوسي بنظريَّة (الإمامة الإلهيَّة) القائمة على حصر الإمامة الشرعيَّة في أهل البيت، واعتبار السلطان العادل الوحيد هو الإمام العصوم، وعدم إيمانه بولاية الفقيه، يُعزِّز من احتمال إرادته لمعنى (المعصوم) من كلمة (الإمام العادل)، ويُشكِّل مدخلاً لربط الصلاة بالإمام المعصوم. وهو ما ينسجم مع الموقف العامِّ الذي اتَّخذه الطوسي من مسألة إقامة الدولة في (عصر الغيبة) وتجميد الجوانب السياسيَّة والثوريَّة والاقتصاديَّة المتعلِّقة بالإمام الغائب.
وقد عبَّر عن ذلك بصراحة أبو الصلاح الحلبي (٣٧٣ - ٤٤٧هـ) المعاصر للطوسي في (الكافي في الفقه: ص ١٥١) حيث قال: لا تنعقد الجمعة إلَّا بإمام الملَّة، أو منصوب من قِبَله، أو بمن يتكامل له صفات إمام الجماعة عند تعذُّر الأمرين.
ويلاحظ أنَّه مع تصريحه بربط الجمعة بإمام الملَّة، أي الإمام المعصوم، إلَّا
↑صفحة ٥١٦↑
أنَّه استدرك بإمكانيَّة إقامتها لمن تكاملت له صفات إمام الجماعة أيضاً، أي إنَّه لم يحصر جواز الصلاة بحضور الإمام المعصوم أو إذنه، ولكن تصريحه هذا شكَّل مقدَّمة لمن جاء بعده، وألغى الخيار الثاني وحصرها بالإمام المعصوم أو إذنه.
ويقول المؤرِّخون: إنَّ صلاة الجمعة توقَّفت في عهد الشيخ الطوسي سنة (٤٥١هـ) بعد أنْ كان الشيعة يدأبون على أدائها في مسجد براثا في بغداد، وذلك إثر سيطرة السلاجقة على الحكم وسقوط الدولة البويهيَّة ورحيل الطوسي من بغداد إلى النجف. راجع: تاريخ بغداد (ج ١/ ص ١١١)، وأمل الآمل (ص ١٢٤)، ولؤلؤة البحرين (ص ٣٢٩).
وقد قال سلَّار بعد إلغائها باثنتي عشرة سنة في (المراسم): إنَّ صلاة الجمعة فرض مع حضور إمام الأصل أو من يقوم مقامه... ولفقهاء الإماميَّة أنْ يصلُّوا بالناس في الأعياد والاستسقاء، وأمَّا الجُمَع فلا. وكان رأيه هذا أصرح من السابقين الذين عبَّروا عنه بالكناية فقط.
وقال القاضي عبد العزيز بن برَّاج الطرابلسي (٤٠٠ - ٤٨١هـ) في المهذّب (ج ١/ ص ١٠٠): اعلم أنَّ فرض الجمعة لا يصحُّ كونه فريضة إلَّا بشروط متى اجتمعت صحَّ كونه فريضة جمعة ووجبت لذلك، ومتى لم تجتمع لم يجب كونه كذلك، بل يجب كون هذه الصلاة ظهراً.
وقال ابن حمزة في (الوسيلة إلى نيل الفضيلة) وابن زهرة في (الغيبة) والطبرسي في (مجمع البيان في تفسير القرآن) وابن إدريس في (السرائر) بتعطيل إقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة وعدم وجوبها لانعدام شرط حضور الإمام أو إذنه الخاصِّ. يقول ابن إدريس في (السرائر): صلاة الجمعة فريضة... بشروط أحدها: حضور الإمام العادل أو من نصبه الإمام. وإنَّ إجماع أهل الأعصار على أنَّ من شرط انعقاد الجمعة: الإمام أو من نصبه الإمام للصلاة من قاضٍ أو أمير
↑صفحة ٥١٧↑
ونحو ذلك، ومتى أُقيمت بغيره لم يصحّ. وإنَّ إجماع الفرقة الإماميَّة على ذلك، وإنَّهم لا يختلفون أنَّ من شرط الجمعة: الإمام أو من يأمره. (المصدر).
وقد بنى ابن إدريس رأيه في تعطيل صلاة الجمعة في (عصر الغيبة) على تفسير لكلام الشيخ الطوسي في (مسائل الخلاف) من اشتراط الإمام، مع أنَّ الطوسي نفسه لم يُصرِّح بمقصوده هناك، ولم يشترط صفة العدالة في الإمام. ولم يُثبِت الإجماع عند الشيعة قبل ذلك على معنى (الإمام المعصوم) واشتراط حضوره أو إذنه بالخصوص في صلاة الجمعة، كما لم يُثبِت إجماع المسلمين على اشتراط حضور الإمام المطلق في إقامة صلاة الجمعة.
ومن المعروف أنَّ ابن إدريس قاد ثورة على الاعتماد على أخبار الآحاد في الفقه، وقد تحدَّث عن ذلك في مقدَّمة كتابه (السرائر) واستنكر إضاعة أحكام الدِّين بالاعتماد على أخبار الآحاد، ولكنَّه لجأ هنا إلى الاعتماد على (إجماع) موهوم وغير دقيق وغير حاصل، وقام في ظلِّ أجواء نظريَّة (الانتظار) بإلغاء صلاة الجمعة في (عصر الغيبة) بصراحة.
وقد سار كثير من الفقهاء اللَّاحقين بعد ذلك، وإلى يومنا هذا، على خطى أُولئك العلماء الذين اشترطوا العدالة في الإمام وفسَّروا كلمة (الإمام العادل) بالإمام المعصوم (المهدي المنتظر)، وانتهوا إلى تعطيل صلاة الجمعة في عصر الغيبة، انسجاماً مع نظريَّة (الانتظار) التي تُحرِّم إقامة الدولة الإسلاميَّة لغير الأئمَّة المعصومين المعيَّنين من قِبَل الله تعالى.
وبالرغم من قول المحقِّق الحلِّي نجم الدِّين جعفر بن الحسن (٦٠٢ - ٦٧٦هـ) في موضوع الخُمُس بجواز استلام الفقيه له باعتباره نائباً عامًّا عن (الإمام المهدي) في الغيبة، فقد اضطربت أقواله في موضوع صلاة الجمعة، ولم يشر إلى موضوع النيابة العامَّة فيها، حيث اشترط في المعتبر في شرح المختصر
↑صفحة ٥١٨↑
(ج ٢/ ص ٢٧٩) حضور السلطان العادل أو نائبه في وجوب الجمعة، وقال: إنَّه قول علمائنا.
وقال في شرائع الإسلام (ص ٩٤): إنَّها لا تجب إلَّا بشروط: الأوَّل: السلطان العادل أو من نصبه.
ولكنَّه استظهر في المسألة التاسعة: استحباب إقامة صلاة الجمعة إذا أمكن الاجتماع، في حالة عدم وجود الإمام ولا من نصبه للصلاة، مع أنَّه عبَّر عن هذا الرأي بـ (قيل)، وذكر إلى جنبه القول بعدم الجواز.
وكذلك فعل في المختصر النافع في فقه الإماميَّة (ص ٣٥) حيث اشترط حضور السلطان العادل كواحد من الشروط الخمسة.
ولكنَّه عاد فذكر الاستحباب في حالة إمكان الاجتماع والخطبتين في عصر الغيبة، وأشار إلى منع قوم منها أيضاً.
واعترف يحيى بن سعيد الحلِّي (٦٠١ - ٦٩٠هـ) في الجامع للشرائع (ص ٩٤) بوجوب صلاة الجمعة، ولكنَّه اشترط حضور إمام الأصل أو من يأمره.
ولم يتحدَّث عن الاستحباب في حالة إمكان الاجتماع والخطبتين.
واشترط العلَّامة الحلِّي (٧٦٢هـ) في منتهى المطلب (ص ٣١٧) في وجوب صلاة الجمعة: حضور الإمام العادل، وفسَّره بالمعصوم وإذنه. وقال: إنَّ اشتراط الإمام وإذنه هو مذهب علمائنا أجمع.
وتساءل عن جواز فعل الجمعة إذا لم يكن الإمام ظاهراً، ونقل كلام الشيخ الطوسي في (النهاية) بجواز ذلك إذا أمن المصلُّون من الضرر وتمكَّنوا من الخطبة، كما نقل قوله في (الخلاف) بعدم الجواز. وقال الحلِّي: إنَّه اختيار المرتضى وابن إدريس وسلَّار، وهو أقوى عندي، لما تقدَّم من اشتراط الإمام أو نائبه فمع الغيبة يجب الظهر لفوات الشرط.
↑صفحة ٥١٩↑
وأكَّد العلَّامة الحلِّي في تذكرة الفقهاء (ص ١٤٤): شرط السلطان أو نائبه، في وجوب الجمعة، عند علمائنا أجمع، وقال: كما لا يصحُّ أنْ ينصب الإنسان نفسه قاضياً من دون إذن الإمام كذا إمامة الجمعة... ولأنَّه إجماع أهل الأعصار، فإنَّه لا يقيم الجمعة في كلِّ عصر إلَّا الأئمَّة.
وعاد فذكر إجماع علمائنا كافَّة على اشتراط عدالة السلطان وهو الإمام المعصوم أو من يأمره بذلك، خلافاً للجمهور كافَّة. لأنَّ الاجتماع مظنَّة التنازع، والحكمة تقتضي انتفاء ذلك، ولا يحصل إلَّا بالسلطان، ومع فسقه لا يزول لأنَّه تابع في أفعاله لقوَّته الشهويَّة لا مقتضى الشرع ومواقع المصلحة، وليس محلّاً للأمانة، فلا يكون أهلاً للاستنابة.
وادَّعى في تحرير الأحكام (ص٤٣ و١٥٨): سقوط الوجوب إجماعاً، في حالة عدم ظهور الإمام أو نائبه، وذلك لفقد شرط الإمام العادل أو من نصبه، وتساءل أيضاً عن الجواز حينئذٍ مع إمكان الخطبة، ثمّ قوَّى رأي المانعين لها كسلَّار وابن إدريس.
واستعان الحلِّي في مختلف الشيعة في أحكام الشريعة (ص ١٠٨) برأي سلَّار وابن إدريس لتأييد جانب المنع، وقال: إنَّ قول السيِّد المرتضى في (المسائل الميافارقيَّات): لا جمعة إلَّا مع إمام عادل أو من نصبه الإمام العادل، فإذا عدم صُلِّيت الظهر أربع ركعات، يُشعِر بعدم التسويغ في حال الغيبة.
وقد اكتفى تقي الدِّين إبراهيم بن عليٍّ العاملي الكفعمي في (المصباح) بذكر السلطان العادل أو من يأمره في وجوب صلاة الجمعة، دون أنْ يشير إلى جوازها أو حرمتها في حالة الاجتماع وإمكان الخطبة في ظلِّ (الغيبة).
وقد كان السيِّد الصدر الكبير الأمير نعمة الله الحلِّي الذي ذهب مع الشيخ الكركي إلى إيران أيَّام شاه طهماسب، وأصبح شريكاً في الصدارة مع الأمير قوام
↑صفحة ٥٢٠↑
الدِّين حسين، لا يؤمن بجواز إقامة صلاة الجمعة في (عصر الغيبة). لأنَّها من أعمال الإمام المهدي، وقد تباحث حولها مع الشيخ الكركي أمام الشاه وجمع من العلماء، ممَّا أدَّى بالشاه إلى نفيه إلى بغداد. وكان السيِّد نعمة الله الجزائري يرفض إقامة صلاة الجمعة، لأنَّه كان يرى فيها اغتصاباً لمنصب الإمام (المهدي)، وكان يصبُّ لعناته على كلِّ من يُصلِّي الجمعة ويقول: لعن الله الظالمين آل محمّد حقَّهم، وذلك اعتقاداً منه أنَّ إقامة الصلاة من مناصب الإمامة التي لا يجوز لغير الإمام إقامتها.
كما عبَّر الفاضل الهندي محمّد بن الحسن (تُوفِّي سنة ١٠٦٢هـ) عن موقف الرفض لإقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة استناداً لنظريَّة (النيابة العامَّة)، وذلك لتناقضها مع نظريَّة (الإمامة الإلهيَّة)، فقال في كشف اللثام (ص ٢٤٣) في باب صلاة الجمعة ما يلي: في شروط صلاة الجمعة... الشرط الثاني: السلطان العادل أو من ينصبه أو يأمره بها. والمراد بالسلطان العادل: الإمام المعصوم... فمن الضروريَّات عقلاً وشرعاً أنَّه لا يحسن الاقتداء بمن لا دليل على إمامته ولا دليل على إمامة غير المعصوم إلَّا إذنه، بل هو الإمام والإمامة منصبه، فلا يجوز لغيره: الإمامة في شيء، ولا يجوز لنا الايتمام بغيره في شيء إلَّا بإذنه واستنابته.
... لكن لا يمكن الاجتزاء بمفردها على التصرُّف في منصب الإمام خصوصاً مع الإجماع الفعلي والقولي على الامتناع من هذا التصرُّف إلَّا بإذنه الخاصِّ.
... ولـمَّا بلغ الكلام هذا المبلغ ظهر: عدم جواز عقدها لغير من نصب الإمام بخصوصه، فلا وجوب عينياً لها ولا تخييريًّا.
وقال: الإمامة من مناصب الإمام فلا يتصرَّف فيه أحد ولا ينوب منابه فيه إلَّا بإذنه، ضرورة من الدِّين ومن العقل والإجماع فعلاً وقولاً مع ذلك على
↑صفحة ٥٢١↑
توقُّف الإمامة هنا بخصوصه عند ظهوره (عليه السلام) على الإذن فيها، خصوصاً أو عموماً، بل خصوصاً، ولا إذن الآن كما عرفت، ولا دليل على الفرق بين الظهور والغيبة حتَّى يُشتَرط الإذن عند الظهور دون الغيبة، ولذا يُنسَب التحريم إلى السيِّد المرتضى. وما يتوهَّم من أنَّ الفقهاء مأذونون لإذنهم في القضاء والفتيا، وهما أعظم، فظاهر الفساد للزوم تعطُّل الأحكام وتحيُّر الناس في أُمور معاشهم ومعادهم وظهور الفساد فيهم واستمراره إنْ لم يقضوا أو يفتوا. ولا كذا الجمعة إذا تُرِكَت. وأيضاً: إنْ لم يقضوا أو يفتوا لم يحكموا بما أنزل الله وكتموا العلم وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحرمة الجُمَع مقطوعة ضرورة من الدِّين. وإنْ صلُّوا الجمعة قاموا مقام الإمام وأخذوا منصبه من غير إذنه، فانظر إلى الفرق بين الأمرين!
فما لم يحصل القطع بالإذن كما حصل في سائر الجماعات لم يجز شيء منها كسائر مناصبه، ولأنَّه لا ضرورة تدعو إليه.
وصريح المصنِّف: الإجماع على أنَّ الجمعة إنَّما تجب في (الغيبة) تخييراً، ففعلها مردَّد بين الحرمة والجواز، وكلُّ أمر تردَّد بينهما وجب الاجتناب عنه حتَّى نعلم الجواز.
... ثمّ الإذن في كلِّ زمان لا بدَّ من صدوره عن إمام ذلك الزمان فلا يجدي زمن الغيبة إلَّا إذن الغائب، ولم يوجد قطعاً، أو نصّ إمام من الأئمَّة على عموم جواز فعلها في كلِّ زمان، وهو أيضاً مفقود.
... لا خلاف لأحد من المسلمين في أنَّه إذا حضر إمام الأصل لم يجز لغيره الإقامة فيها إلاَّ بإذنه، ولو لم يعمّ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يحرم كتمان العلم وترك الحكم بما أنزل الله لم يجز للفقهاء الحكم ولا الإفتاء زمن الغيبة إلَّا بإذن الغائب، ولم يكن لهم إذن من قِبَله وجعله (عليه السلام) قاضياً.
↑صفحة ٥٢٢↑
... بل عرفت الإجماع قولاً وفعلاً على اشتراطها زمن الظهور بإذنه لخصوص إمام في إمامتها، فما الذي أذن فيها في زمن الغيبة؟ على أنَّك عرفت أنَّه لا بدَّ من إذن كلِّ إمام لرعيَّته أو عموم الإذن لإمام من الأئمَّة لجميع الأزمان، ولا يوجد شيء منهما زمن الغيبة. (ص ٤٥ - ٢٤٦).
وهكذا كان الفاضل الهندي يرفض إقامة صلاة الجمعة في (عصر الغيبة) ولا يجيز للفقيه إقامتها، لأنَّه كان يعتبر عمله تجاوزاً على منصب الإمامة واغتصاباً لمهمَّات (الإمام المعصوم).
وإذا كان الفاضل الهندي قد انطلق في تحريم صلاة الجمعة في عصر الغيبة من منطلق رفضه لنظريَّة (النيابة العامَّة) فإنَّ بعض الفقهاء الذين قالوا بنظريَّة (النيابة العامَّة) وخاصَّة في موضوع الخُمُس، قد قالوا بالتحريم في موضوع صلاة الجمعة في عصر الغيبة، واشتراط الإذن الخاصِّ من الإمام فيها، وذلك كالشيخ جعفر كاشف الغطاء الذي، قال في كشف الغطاء عن خفيَّات مبهمات الشريعة الغرَّاء (ص ٢٥٢) في شرائط عينيَّة وجوب صلاة الجمعة: أحدها: وجود السلطان العادل المنصوب من قِبَل الله تعالى من نبيٍّ أو إمام مبسوطي الكلمة لا يخشيان في إقامتها ودعاء الناس إليها من الفسقة الفجرة، مع المباشرة للإمام أو تعيين نائب خاصٍّ معيَّن... إلَّا إذا عرض للإمام عارض في أثناء الصلاة من موت أو عزل أو نحوهما أو اطَّلع المأمومون على فسقه فيتعيَّن إتمامها بدون المنصوب، فيتمُّونها بنصب من أرادوا من المأمومين أو يتقدَّم من يأتمُّون به...
ولا تجب عيناً مع الغيبة أو الحضور من دون انقياد الأُمور وعدم التمكُّن من النصب، كما يظهر من ملاحظة السيرة القطعيَّة، فإنَّ إمامتها لن تزال في زمن النبيِّ وخليفته وأمينه على رعيَّته من المناصب الشرعيَّة التي لا يجوز فيها القيام
↑صفحة ٥٢٣↑
إلَّا بعد الإذن من النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو الإمام (عليه السلام)، وكذلك استقرَّت كلمة العلماء من القدماء والمتأخِّرين سوى من شذَّ إلى يومنا هذا.
وكيف يخطر في نظر العاقل: أنَّ الإمام في زمن التقيَّة يأمر أصحابه بمخالفتها؟ مع أنَّه ينبغي أنْ يمنع عن فعلها، فلا بدَّ من حملها على التقيَّة بإقامة جمعة القوم، وهي جمعة صحيحة كغيرها من صلوات التقيَّة، حتَّى إنَّ أصحابنا مأمورون بأنَّهم إنِ استطاعوا أنْ يكونوا الأئمَّة كانوا، وفي كتاب عليٍّ: «إذا صلُّوا الجمعة فصلُّوا معهم». والأوامر الواردة فيها على العموم لا يزيد على ما ورد في الوضوء والغسل الرافعين للحدث، فلتكن تلك العمومات مخصَّصة والمطلقات مقيَّدة.
وعلى كلِّ حال فمقتضى الأدلَّة هو: التحريم، على نحو ما كان فيما تقدَّم من الزمان.
ويبدو أنَّ الشيخ كاشف الغطاء كان يتردَّد بين نظريَّتي (التقيَّة والانتظار) و(النيابة العامَّة)، ولم يحسم موقفه تماماً لهذه الجهة أو تلك، ومن هنا فقد مال إلى تحريم صلاة الجمعة في عصر الغيبة.
وعلى قاعدة هذا التردُّد بين النظريَّتين قال السيِّد محمّد رضا الكلبايكاني (تُوفِّي ١٤١٣هـ) في الهداية إلى من له الولاية (ص ٣٠) بوجوب الخُمُس وضرورة تسليمه إلى الفقيه في عصر الغيبة، ولكنَّه توقَّف في موضوع صلاة الجمعة، وشكَّك في أصل التكليف والجواز في عصر الغيبة، وتشبَّث بالأُصول العمليَّة، فمال إلى العدم وقال: لو شُكَّ في اعتبار الإذن في شيء، واحتُمِلَ كونه دخيلاً في أصل وجوبه، وتعلُّق الإرادة به وترتُّب المصلحة عليه، كإجراء الحدود وإقامة الجمعة، وغيرها ممَّا يحتمل كونه من الوظائف التي يقوم بها شخص الإمام، أو من هو مأذون منه، فحينئذٍ يكون الشكُّ في أصل التكليف فيجري فيه البراءة.
↑صفحة ٥٢٤↑
وبالجملة: الإذن المشكوك اعتباره قد يحتمل كونه من مقدَّمات وجود المكلَّف به وشرطاً فيه، كما لو علم أنَّ الشارع أراد وجود شيء في الخارج ولم يرضَ بتركه، ولكن يشكّ في أنَّه يعتبر الإذن فيه من نائبه العامِّ أو الخاصِّ أم لا؟ فيرجع الشكُّ إلى القيد الزائد فيحكم بالأصل على عدم اعتباره.
وقد يحتمل كون الإذن دخيلاً في أصل الوجوب وشرطاً له، كما في صلاة الجمعة، لقوله تعالى: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ...﴾ (الجمعة: ٩)، لاحتمال كون المنادي هو الإمام، أو المأمور من قِبَله، فيكون الشكُّ في أصل التكليف والجواز، ومقتضى الأصل: عدمه.
ويُلاحَظ هنا: أنَّ الكلبايكاني ألغى وجوب صلاة الجمعة باحتمال كون المراد من المنادي في الآية: الإمام، وأنَّ المقصود بذلك الإمام المحتمل هو الإمام المعصوم، وأنَّ الإمام المعصوم موجود وهو (محمّد بن الحسن العسكري) الغائب، ولـمَّا لم يثبت منه الإذن فقد ألغى الوجوب، ولم يجد الكلبايكاني حاجة في العودة إلى (نائب الإمام العامِّ: الفقيه) واستئذانه في إقامة الصلاة. وذلك بالرغم من بناء فعل النداء في الآية على صيغة المجهول ﴿إِذَا نُودِيَ﴾ وليس المعلوم، بحيث لا يقبل التخصيص بواحد معيَّن إمام أو غير إمام، وإنَّما يكتفي بحصول النداء وتحقُّقه في الخارج، كما لا يوجد في الآية أيَّة إشارة إلى كون المنادي إماماً، ولكن إيمان الكلبايكاني بنظريَّة (الإمامة الإلهيَّة) ونظريَّة (التقيَّة والانتظار) دفعه إلى التشكيك في أصل الجواز والوجوب خلافاً لمن سبقه من الفقهاء.
وبالرغم من قول السيِّد محمّد بن المهدي الحسيني الشيرازي (١٣٤٠هـ) (بنظريَّة ولاية الفقيه) في كثير من أبواب الفقه، وبقوَّة تصل أحياناً إلى درجة القول بنظريَّة (الولاية المطلقة) إلَّا أنَّه تمسَّك بنظريَّة (التقيَّة والانتظار) في موضوع صلاة الجمعة، وقال تبعاً لذلك بأفضليَّة الظهر على الجمعة، معتبراً
↑صفحة ٥٢٥↑
وجود الإمام المعصوم أو نائبه الخاصِّ للصلاة شرطاً من شرائط الوجوب، وقال في (الفقه/ الصلاة/ باب صلاة الجمعة في زمان الغيبة/ مسألة ٨): لا إشكال ولا خلاف في وجوب صلاة الجمعة في الجملة بإجماع المسلمين والضرورة من الدِّين، لكنَّهم (الفقهاء) اختلفوا في زمان الغيبة، حيث لا يكون الإمام حاضراً ولا يوجد نائبه العامُّ ولا نائبه المنصوب للجمعة خاصَّة، إلى أقوال...
ولا إشكال في وجوبها، وإنَّما الكلام في اشتراطها بالإمام أو من نصبه، فهو مثل أنْ يقول: الجهاد واجب على كلِّ إنسان إلَّا من استثني، فإنَّه لا ينافي اشتراطه بشرائط خاصَّة.
وقال: وممَّا ذكرنا ظهر: ضعف الاستشهاد للوجوب العيني بالأخبار الأُخَر، فإنَّ ذكر المطلقات في قبال دليل الاشتراط من قبيل التمسُّك بإطلاقات أدلَّة الجماعة في قبال دليل اشتراط عدالة الإمام. (ص ٣٤٨ و٣٤٩).
وبناءً على ذلك فقد اعتبر القول بالوجوب العيني لصلاة الجمعة في غاية الضعف، بالرغم من اعترافه بصحَّة الروايات التي تُؤكِّد على وجوب الجمعة، لأنَّها مطلقات لا تنافي الدليل المقيَّد.
وادَّعى عدم أداء الأئمَّة الاثني عشر، غير من كان بيدهم الحكم، ولا أصحابهم لصلاة الجمعة، وعدم التزامهم بالتقيَّة في ذلك، ولو كان لبان. كما ادَّعى جريان سيرة الفقهاء المراجع منذ عصر الغيبة إلى اليوم على الترك إلَّا ما يُنقَل عن نادر منهم، واستظهر لذلك عدم وجود أيِّ وجه للاحتياط بالجمع بين الظهر والجمعة، وأنَّ قول جماعة بأفضليَّة الجمعة مطلقاً أو بتساويها مع الظهر خلاف ظاهر الدليل. (ص ٣٦٧).
إذن، فإنَّ السرَّ وراء قول معظم فقهاء الإماميَّة بعدم وجوب أو حرمة صلاة الجمعة في عصر الغيبة، يعود إلى الإيمان بنظريَّة التقيَّة والانتظار للإمام المهدي الغائب.
↑صفحة ٥٢٦↑
وبالرغم من عدم قول العلماء الأوائل في عصر (الغيبة الصغرى) والمائة الأُولى من الغيبة الكبرى بسقوط وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة، فإنَّ التفسير المتأخِّر في القرن الخامس الهجري في عهد السيِّد المرتضى ومن بعده، لكلمة: الإمام العادل وتأويلها بالإمام المعصوم، وربط ذلك بنظريَّة (التقيَّة والانتظار) العامَّة التي كانت تمدُّ ظلالها على مختلف الشؤون السياسيَّة والاقتصاديَّة العامَّة، أنتج القول بضرورة حصول الإذن الخاصِّ من (الإمام المهدي الغائب) في جواز إقامة الجمعة، ولـمَّا كان ذلك متعذِّراً ومتعسِّراً في ظلِّ الغيبة، فقد أدَّى إلى تجميد هذا الفرض العظيم وإلغاء وجوب صلاة الجمعة أو القول بحرمتها.
وبالرغم من قول فقهاء الإماميَّة في العصور المتأخِّرة بنظريَّة (النيابة العامَّة) ونظريَّة (ولاية الفقيه) إلَّا أنَّ بعض العلماء لا يزال يتشبَّث بنظريَّة (التقيَّة والانتظار) في موضوع صلاة الجمعة، ويقول تبعاً لذلك بحرمتها أو عدم وجوبها عيناً في عصر الغيبة.
ومن الجدير بالذكر أنَّ ثورة ولاية الفقيه أعادت نسبيًّا القول بالوجوب بعد تحرير الشيعة من الانتظار السلبي. مع أنَّ معظم الشيعة حتَّى الآن لا يصلُّون صلاة الجمعة إذ لا يرون وجوبها التعييني، وإنَّ مشاهدة نسبة المصلِّين إلى السكَّان أو المؤمنين الملتزمين في أيِّ بلدة يكشف حقيقة استمرار نظريَّة الانتظار السلبيَّة لدى قطاعات كبيرة في المجتمع الشيعي حتَّى الآن.
فماذا يقول الأُستاذ محمّد منصور حفظه الله؟
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢/ ١/ ٢٠٠٠م)، (٠٣:٢٣) صباحاً.
محمّد منصور عضو:
↑صفحة ٥٢٧↑
الردُّ على الكاتب حول إلغاء صلاة الجمعة:
قبل أنْ أتلو عليكم قائمة بأسماء علماء الإماميَّة القائلين بالوجوب العيني كما يظهر من كلامهم وصريح قاطبتهم إلَّا النزر اليسير على مشروعيَّة إقامتها في الغيبة، قبل ذلك لا بدَّ أنْ أُوضِّح لك - ولا أراك من أهل ذلك - أنَّ سرَّ عدم الوجوب العيني وسبب عدم المواصلة في إقامة علماء الإماميَّة والشيعة لصلاة الجمعة، هو أنَّ صلاة الجمعة كما يعرف ذلك المسلم منبر سياسي بالدرجة الأُولى لمعالجة الأوضاع السياسيَّة التي تجري في أوضاع المسلمين.
وإنْ كانت صلاة الجمعة تُوظَّف أيضاً للإرشاد الدِّيني والعقائدي والاجتماعي للمسلمين، ولذلك جُعِلَت في صلاة الجمعة خطبتان بدل الركعتين اللتين في أربع ركعات الظهر، وحيث إنَّ صلاة الجمعة تحتلُّ هذا الموقع الإعلامي السياسي فمن الواضح أنَّ إقامتها في ظلِّ حكومات الجور والسلاطين الطغاة وفي دولة حُكَّام الظلم سوف تُوظَّف إلى خدمة الظلم والاستبداد، وتكون صلاة الجمعة بوقاً إعلاميًّا للحُكَّام الجائرين، وهذا ما يتنافى مع أوَّليَّات الشريعة المقدَّسة والقرآن والسُّنَّة ومدرسة أهل البيت (عليهم السلام) القائمة على الإباء ورفض الظلم ورفض المداهنة للظالمين في الزمن الماضي وتحريم الركون إلى الجائرين، وتحريم مداهنة العلماء للدول الظالمة في ذلك التاريخ. فهل تطالب يا كاتب علماء الإماميَّة بأنْ يكونوا آلة طيِّعة بيد الحاكم أمثال يزيد والملوك أتباع الشهوات والجنس والفساد في المجتمع؟ فهل تريد يا كاتب أنْ لا يحترم علماء الشيعة الكلمة الحرَّة والأمانة والصدق، ويكونون موظَّفين في جهاز الدول الغاشمة المستبدَّة؟ وتسميتك هذا الموقف الفقهي والعلمي من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) وعلماء الإماميَّة والشيعة بأنَّه موقف سلبي، فهذا يروق لك وليهنّأك الوقوف مع الحُكَّام الظالمين وليهنّأك شرعيَّة ولاية المتغلِّب بالسيف والقهر، وليهنّأك شرعيَّة حكم الجائرين.
↑صفحة ٥٢٨↑
وهل تريد من علماء الإماميَّة أنْ يبيعوا ضمائرهم بمال زهيد ويقيموا صلاة الجمعة في ظلِّ الدول الباطلة؟ فتستخدم صلاة الجمعة منبراً إعلاميًّا سياسيًّا لسياسة الجائرين في ذلك الزمان؟ فانظر إلى عظمة الاعتقاد بالإمام المعصوم (عليه السلام) الحيِّ المستتر وإلى عظمة الاعتقاد والأمل بظهوره كمصلح للبشريَّة يقوم بالقسط والعدل، فإنَّ هذا الاعتقاد يُحرِّم على الشيعة مداهنة الظالمين، ويُحرِّم عليهم الركون للجائرين في أيِّ زاوية من زوايا شعائر الدِّين الحنيف. ويظلُّ هذا الاعتقاد بالإمام الثاني عشر - أنَّه إمام حيٌّ ومراقب للأوضاع يقوم بأدواره ومسؤوليَّاته الشرعيَّة الإلهيَّة - يرسم لفقهاء الشيعة القوانين الشرعيَّة - التي لا تلتقي مع العمالة لحُكَّام الجور، والقوانين الشرعيَّة - التي تُجنِّبهم مساندة الظالمين.
وبعد هذه المقدَّمة التي لا تخفى على من يفهم ألف باء التشيُّع والإباء والحرّيَّة، إليك قائمة بأسماء فقهاء وعلماء الإماميَّة القائلين بالوجوب العيني كما هو مقتضى ظاهر عباراتهم، ولا محالة من أنَّهم قائلون بالمشروعيَّة.
أمَّا العلماء المتقدِّمون:
١ - الشيخ المفيد (قدّس سرّه) في (الإشراف).
٢ - الشيخ الطوسي (قدّس سرّه) في (التهذيب).
٣ - الشيخ أبو الصلاح الحلبي (قدّس سرّه) في (الكافي).
٤ - الشيخ أبو الفتح الكراكجي (قدّس سرّه) في (تهذيب المسترشدين).
٥ - الشيخ عماد الدِّين الطبرسي (قدّس سرّه) في كتاب (نهج العرفان إلى هداية الإيمان).
٦ - الشيخ محمّد بن يعقوب الكليني (قدّس سرّه) في كتاب (الكافي).
٧ - الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) في كتاب (من لا يحضره الفقيه) و(المقنع) و(الأمالي).
↑صفحة ٥٢٩↑
وأمَّا العلماء المتأخِّرون:
٨ - الشهيد الثاني (قدّس سرّه) في (رسالة صلاة الجمعة).
٩ - الشهيد الأوَّل (قدّس سرّه) في (رسالة الجمعة).
١٠ - السيِّد السند (قدّس سرّه) في كتاب (المدارك).
١١ - الشيخ عبد الصمد (قدّس سرّه) في (رسالة العقد).
وأمَّا متأخِّرو المتأخِّرين:
١٢ - الشيخ حسن بن الشهيد الثاني صاحب المعالم (قدّس سرّه) في (رسالة الاثني عشريَّة).
١٣ - الشيخ محمّد بن الشيخ حسن صاحب المعالم (قدّس سرّه) في (رسالة صلاة الجمعة).
١٤ - الشيخ فخر الدِّين طريح النجفي (قدّس سرّه) في (رسالة صلاة الجمعة).
١٥ - الشيخ محمّد تقي المجلسي الأوَّل (قدّس سرّه) في (رسالة صلاة الجمعة).
١٦ - الشيخ محمّد باقر السبزواري (قدّس سرّه) في (رسالة صلاة الجمعة).
١٧ - المحدِّث الكاشاني (قدّس سرّه) في (رسالة صلاة الجمعة).
١٨ - الشيخ صاحب البحار المجلسي (قدّس سرّه) في (البحار).
١٩ - السيِّد ماجد الجدحفصي البحراني (قدّس سرّه) في (الرسالة اليوسفيَّة).
٢٠ - الشيخ أحمد والد صاحب الحدائق (قدّس سرّه) في (رياض المسائل).
٢١ - الشيخ سليمان البحراني (قدّس سرّه) كما ذكر ذلك صاحب (الحدائق).
٢٢ - الشيخ عبد الله بن صالح البحراني (قدّس سرّه) كما ذكر ذلك صاحب (الحدائق).
٢٣ - الشيخ الحرُّ العاملي (قدّس سرّه) في (الوسائل)، و(هداية الأُمَّة).
هذه قائمة بأسماء العلماء ممَّن ظاهر عبائرهم القول بالوجوب العيني، وإنْ لم نستقصهم تماماً.
↑صفحة ٥٣٠↑
وأمَّا القائلون بالمشروعيَّة والوجوب التخييري فهي قائمة يطول المقام بذكرها. وأمَّا نسبة القول بالحرمة إلى بعض الأصحاب فهذه النسبة مع قلَّة عددهم قد خدش غير واحد في نسبة الحرمة إليهم، لأنَّ عبائرهم في صدد بيان أنَّ هذا المنصب هو للمعصوم ولا بدَّ من إذنه في قيام الغير به، وهذا لا ربط له بالحرمة ونفي نيابة الفقهاء في عصر الغيبة، ولذلك قال صاحب الجواهر في (الجواهر) في صلاة الجمعة بعد ذكره نسبة الحرمة إلى البعض، قال: وإنْ كان العيان لا يطابق النقل المزبور، نعم هو قول بعض متأخِّري المتأخِّرين.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢/ ١/ ٢٠٠٠م)، (١٢:١١) مساءً.
أحمد الكاتب عضو:
الأخ محمّد منصور المحترم..
يبدو أنَّك لم تقرأ الموضوع جيِّداً، وإنَّما قرأت العنوان فقط واستعجلت بالردِّ، ونقلت موضوع الحوار إلى نقطة أُخرى وهي الظروف المحيطة بالشيعة، وتخيَّلت أنَّها دائماً وفي كلِّ زمان ومكان كانت سلبيَّة دفعت العلماء إلى القول بتحريمها أو عدم وجوبها، ورحت بأُسلوب خطابي متميِّز تتَّهمني بالرغبة في أنْ يبيع الإماميَّة ضمائرهم بمال زهيد ومداهنة الظالمين وما إلى ذلك، وجئت بأمثلة على قول بعض العلماء بوجوبها العيني أو استحبابها والتخيير فيها، وأنا لم أنفِ وجود هكذا علماء، بل عقدت فصلاً في كتابي عن القائلين بها، وقلت في مقدَّمة الموضوع المنشور أعلاه: لم يعرف عن أحد من علماء القرن الثالث والرابع قولاً بمقاطعة صلاة الجمعة، وأنَّ الشيعة في بغداد كانوا يؤدُّونها في جامع براثا حتَّى منتصف القرن الخامس الهجري، ولكنَّك نسيت كلَّ ذلك سامحك الله وغفر لك وهداك، ألَا تعلم بأنَّ السرعة في الردِّ دليل على حبِّ الجدال وليست دليلاً على التزام الموضوعيَّة في الحوار ومحاولة الوصول إلى نتيجة مفيدة؟
↑صفحة ٥٣١↑
وقد قلت على عجل: إنَّ قاطبة العلماء يُصرِّحون بمشروعيَّة صلاة الجمعة في عصر الغيبة إلَّا النزر اليسير، وأخذتك العصبيَّة والانفعال كعادتك فقلت: لا أراك أهلاً للتوضيح، سامحك الله مرَّة أُخرى وأُخرى.
أخي العزيز الأُستاذ الكبير محمّد منصور نصره الله في الحقِّ، لقد قلت: إنَّ بعض علماء الإماميَّة القائلين بوجود الإمام المهدي الغائب اعتقدوا باشتراط إذن الإمام في إقامة صلاة الجمعة، ولـمَّا كان غائباً ولم يعطِ الأذن لنائب خاصٍّ فقد قالوا بحرمتها أو عدم وجوبها العيني في عصر الغيبة، وذكرت لك أمثلة من أقوال كثير من العلماء عبر التاريخ، وذلك التزاماً منهم بنظريَّة الانتظار خلافاً لما كنت تقول وتدَّعي من أنَّ الشيعة منذ أوَّل يوم كانوا يقولون بولاية الفقيه في كلِّ شيء. وضربت لك أمثلة عديدة في مجالات مختلفة، فصرفت النظر عنها أو حاولت أنْ تردَّ بعصبيَّة وانفعال وسرعة من دون تحقيق ولا تدقيق.
ما هو رأيك بقول العلَّامة الحلِّي حول صلاة الجمعة في تذكرة الفقهاء (ص ١٤٤): شرط السلطان أو نائبه، في وجوب الجمعة، عند علمائنا أجمع. وقال: كما لا يصحُّ أنْ ينصب الإنسان نفسه قاضياً من دون إذن الإمام كذا إمامة الجمعة...، ولأنَّه إجماع أهل الأعصار، فإنَّه لا يقيم الجمعة في كلِّ عصر إلَّا الأئمَّة. وقوله: إجماع علمائنا كافَّة على اشتراط عدالة السلطان وهو الإمام المعصوم أو من يأمره بذلك، خلافاً للجمهور كافَّة.
وقوله في تحرير الأحكام (ص ٤٣ و١٥٨): سقوط الوجوب إجماعاً، في حالة عدم ظهور الإمام أو نائبه، وذلك لفقد شرط الإمام العادل أو من نصبه.
ولماذا رفض السيِّد الصدر الكبير الأمير نعمة الله الحلِّي إقامة صلاة الجمعة في (عصر الغيبة)؟ لأنَّها من أعمال الإمام المهدي حتَّى نفاه الشاه الصفوي إلى بغداد.
↑صفحة ٥٣٢↑
ولماذا رفض السيِّد نعمة الله الجزائري إقامة صلاة الجمعة؟ أليس لأنَّه كان يرى فيها اغتصاباً لمنصب الإمام (المهدي)؟ فكان يصبُّ لعناته على كلِّ من يُصلِّي الجمعة ويقول: لعن الله الظالمين آل محمّد حقَّهم، وذلك اعتقاداً منه أنَّ إقامة الصلاة من مناصب الإمامة التي لا يجوز لغير الإمام إقامتها.
ولماذا رفض الفاضل الهندي محمّد بن الحسن (تُوفِّي سنة ١٠٦٢هـ) إقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة فقال في كشف اللثام (ص ٢٤٣): المراد بالسلطان العادل: الإمام المعصوم...، فمن الضروريَّات عقلاً وشرعاً أنَّه لا يحسن الاقتداء بمن لا دليل على إمامته، ولا دليل على إمامة غير المعصوم إلَّا إذنه، بل هو الإمام والإمامة منصبه، فلا يجوز لغيره الإمامة في شيء، ولا يجوز لنا الايتمام بغيره في شيء إلَّا بإذنه واستنابته...، فلا وجوب عينيًّا لها ولا تخييريًّا.
وقال: الإمامة من مناصب الإمام فلا يتصرَّف فيه أحد ولا ينوب منابه فيه إلَّا بإذنه، ضرورة من الدِّين ومن العقل والإجماع فعلاً وقولاً مع ذلك على توقُّف الإمامة هنا بخصوصه عند ظهوره (عليه السلام) على الإذن فيها، خصوصاً أو عموماً، بل خصوصاً، ولا إذن الآن كما عرفت، ولا دليل على الفرق بين الظهور والغيبة حتَّى يُشتَرط الإذن عند الظهور دون الغيبة. وما يُتوهَّم من أنَّ الفقهاء مأذونون لإذنهم في القضاء والفتيا، وهما أعظم، فظاهر الفساد، للزوم تعطُّل الأحكام وتحيُّر الناس في أُمور معاشهم ومعادهم وظهور الفساد فيهم واستمراره إنْ لم يقضوا أو يفتوا. ولا كذا الجمعة إذا تُرِكَت. وأيضاً: إنْ لم يقضوا أنْ يفتوا لم يحكموا بما أنزل الله وكتموا العلم وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحرمة الجُمَع مقطوعة ضرورة من الدِّين. وإنْ صلُّوا الجمعة قاموا مقام الإمام وأخذوا منصبه من غير إذنه، فانظر إلى الفرق بين الأمرين!
ولماذا رفض السيِّد محمّد رضا الكلبايكاني (تُوفِّي ١٤١٣هـ) في الهداية إلى
↑صفحة ٥٣٣↑
من له الولاية (ص ٣٠) أساس وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة؟ ولم يجد حاجة في العودة إلى (نائب الإمام العامِّ: الفقيه) واستئذانه في إقامة الصلاة.
أخي العزيز محمّد..
إنَّك تتحدَّث كثيراً وتُفكِّر قليلاً ولا تتوقَّف لتتدبَّر في السرِّ الذي دفع هؤلاء العلماء إلى إلغاء واجب عظيم من واجبات الإسلام وهي صلاة الجمعة بناءً على قولهم بنظريَّة الانتظار، ومع ذلك تنفي أنْ يكون لفرضيَّة وجود الإمام الثاني عشر الغائب أيَّة آثار سلبيَّة في الحياة الشيعيَّة والتاريخ الشيعي والفقه الشيعي.
* * *
الفقهاء المتأخِّرون: الإمام الغائب لا يقوم بمهامِّ الإمامة ولا بدَّ لنا في عصر الغيبة من إمام:
حُرِّر بتاريخ (١/ ١/ ٢٠٠٠م)، (١١:٠٤) صباحاً.
على العكس من المتكلِّمين القدماء الذين كانوا يُبرِّرون الغيبة بأنَّ الإمام موجود كالشمس وراء السحاب، شعر العلماء المتأخِّرون بحاجة الأُمَّة إلى إمام حيٍّ ظاهر متفاعل يقود الشيعة ويُطبِّق أحكام الدِّين، ولذلك قاموا بثورة كبرى في التخلِّي عن الشروط المثاليَّة المستحيلة وقالوا بولاية الفقيه العادل، تلك النظريَّة التي أدَّت إلى قيام الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران وتغيير التاريخ الشيعي.
كيف ولماذا قال الفقهاء بنظريَّة ولاية الفقيه؟
بعد تطوير المحقِّق الشيخ عليّ عبد العالي الكركي لنظريَّة (النيابة العامَّة) إلى مرحلة سياسيَّة متقدِّمة في القرن العاشر الهجري، وإعطائه الشاه طهماسب بن إسماعيل الصفوي وكالة للحكم باسم (نائب الإمام: الفقيه العادل)، استمرَّت نظريَّة (نيابة الفقهاء العامَّة) في أداء دورها السياسي إلى جانب الملوك الصفويِّين،
↑صفحة ٥٣٤↑
ونظريَّتهم الخاصَّة (النيابة الملكيَّة) بصورة عامَّة، وإنْ كانت في بعض الأحيان تشهد تراجعاً لدى العلماء الذين ينكفئون إلى نظريَّة (التقيَّة والانتظار) أو الملوك الذين يتمرَّدون على هيمنة العلماء، وانتقلت إلى العهد القاجاري.
ومع أنَّ انهيار الدولة الصفويَّة في القرن الثاني عشر الهجري أدَّى إلى استفحال المدِّ الإخباري، وانتشار القول بنظريَّة الانتظار وحرمة الاجتهاد والتقليد وإقامة صلاة الجمعة، فإنَّ القرن الثالث عشر الهجري شهد انتعاش المدِّ الأُصولي وقيام العلماء هنا وهناك بتطبيق الحدود وممارسة القضاء والإفتاء وتولِّي أُمور الرعيَّة والتصرُّف في أموال اليتامى والمجانين والسفهاء وتقسيم الخُمُس والزكوات وممارسة مهمَّات الحكومة الأُخرى.
وهذا ما دلَّ على تطوُّر نظريَّة (النيابة العامَّة) من إجازة الملوك إلى تصدِّي الفقهاء بأنفسهم للحكم، وتجاوز نظريَّة (الانتظار) والتخلِّي عنها تماماً. الأمر الذي دفع الشيخ أحمد بن محمّد مهدي النراقي (تُوفِّي ١٢٤٥هـ) إلى تأليف كتاب (عوائد الأيَّام في بيان قواعد الأحكام) وطرح النظريَّة في إطار جديد وشامل أكثر تطوُّراً، تحت عنوان (ولاية الفقيه) وليس تحت العنوان السابق (النيابة العامَّة) القائمة على قاعدة نظريَّة (الغيبة والانتظار)، حيث نظر النراقي إلى واقع قيام الفقهاء بتشكيل حكومات لا مركزيَّة في بلاد شيعيَّة واسعة ممَّا ينفي أدنى مبرِّر لاستمرار نظريَّة (التقيَّة والانتظار) أو القول المحدود الاستثنائي بقيام الفقهاء بتغطية بعض الجوانب الجزئيَّة من الحياة، وبحث مشكلة الإمامة أو السلطة والولاية العامَّة وضرورتها في (عصر الغيبة)، وذلك على نفس الأُسُس الفلسفيَّة والمبادئ التي توجب (الإمامة) للأئمَّة المعصومين.
ولم يتوقَّف النراقي وهو يُؤسِّس لشرعيَّة (ولاية الفقيه الكبرى) التي تضاهي الإمامة العامَّة الكبرى، عند شروط العصمة والنصِّ والسلالة العلويَّة
↑صفحة ٥٣٥↑
الحسينيَّة التي أدَّت بالأجيال الشيعيَّة الإماميَّة الأُولى، وخاصَّة بعد الحيرة التي أعقبت وفاة الإمام الحسن العسكري دون ولد ظاهر، إلى القول بفرضيَّة وجود (الإمام محمّد بن الحسن العسكري)، ثمّ أدَّت بهم إلى القول بنظريَّة (التقيَّة والانتظار) التي كانت تُحرِّم الثورة والإمامة والجهاد والحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلاة الجمعة وتبيح الخُمُس والزكاة والأنفال وما إلى ذلك في (عصر الغيبة).
وقام النراقي بإعطاء الفقهاء منصب (الإمامة الكبرى) ومسؤوليَّاتها العامَّة، وقال بصراحة: كلُّ ما كان للنبيِّ والإمام فيه الولاية، وكان لهم، فللفقيه أيضاً ذلك، إلَّا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نصٍّ أو غيرهما. وقال: إنَّ كلَّ فعل متعلِّق بأُمور العباد في دينهم أو دنياهم ولا بدَّ من الإتيان به ولا مفرَّ منه، إمَّا عقلاً أو عادةً من جهة توقُّف أُمور العباد والمعاش لواحد أو جماعة عليه، وإناطة انتظام أُمور الدِّين أو الدنيا به، أو شرعاً من جهة ورود أمر به أو إجماع أو نفي ضرر أو إضرار أو عسر أو حرج أو فساد على مسلم، أو دليل آخر. أو ورود الإذن فيه من الشارع ولم يجعل وظيفة لمعيَّنٍ واحد أو جماعة ولا لغير معيَّن، أيّ واحد لا بعينه، بل عُلِمَ لابدّيَّة الإتيان به أو الإذن فيه، ولم يُعلَم المأمور ولا المأذون فيه، فهو وظيفة الفقيه وله التصرُّف فيه والإتيان به.
وقال: إنَّه ممَّا لا شكَّ فيه: أنَّ كلَّ أمر كان كذلك لا بدَّ وأنْ ينصب الشارع الرؤوف الحكيم عليه والياً ومتولِّياً. والمفروض عدم دليل على نصب معيَّن أو واحد لا بعينه أو جماعة غير الفقيه، وأمَّا الفقيه فقد ورد في حقِّه ما ورد من الأوصاف الجميلة والمزايا الجليلة، وهي كافية في دلالتها على كونه منصوباً منه.
وأنَّ بعد ثبوت جواز التولِّي منه وعدم إمكان القول بأنَّه يمكن أنْ لا يكون لهذا الأمر من يقوم له ولا متولٍّ له نقول: إنَّ كلَّ من يمكن أنْ يكون وليًّا متولّياً
↑صفحة ٥٣٦↑
لذلك ويحتمل ثبوت الولاية له يدخل فيه الفقيه قطعاً من المسلمين أو العدول أو الثقات، ولا عكس.
وأيضاً كلُّ من يجوز أنْ يقال بولايته يتضمَّن الفقيه، وليس القول بثبوت الولاية للفقيه متضمِّناً لثبوت ولاية الغير سيّما بعد كونه خير خلق الله بعد النبيِّين وأفضلهم والأمين والخليفة والمرجع، فيكون جواز توليته يقينيًّا والباقون مشكوك فيهم، فينفي ولايتهم وجواز تصرُّفهم.
واستدلَّ النراقي على جواز الولاية للفقهاء وحصرها فيهم بالأخبار والإجماع والضرورة والعقل، وقدَّم أوَّلاً شطراً من الأخبار الواردة في حقِّ العلماء من قبيل: «العلماء ورثة الأنبياء»، و«اللَّهُمَّ ارحم خلفائي... الذين يأتون بعدي ويروون حديثي وسُنَّتي»، وحديث الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا الذي ذكره الصدوق في (علل الشرائع) حول أهمّيَّة الإمامة (الرئاسة) وضرورتها، وأنَّ الإمام هو القيِّم والأمين والرئيس ووليُّ الأمر.
كما ذكر الأحاديث التي تُؤكِّد على عدم ترك الله للأرض خالية إلَّا وفيها عالم يُعرِّف الناس حلالهم وحرامهم، ولئلَّا يلتبس عليهم أُمورهم. ونفى أنْ يكون المقصود منها (الإمام المهدي) وقال: إنَّ الحجَّة والعالم الوارد في الروايات لا يُحمَلان على الإمام المعصوم الغائب، لأنَّه لا يُعرِّف الناس مسائلهم ولا يدعوهم إلى سبيل الله ولا يُبيِّن لهم أُمورهم.
واستنبط النراقي من تلك الأخبار: بديهة أنَّ للفقيه كلَّ ما كان للنبيِّ في أُمور الرعيَّة وما يتعلَّق بأُمَّته، وقال: إنَّ أكثر النصوص الواردة في حقِّ الأوصياء المعصومين المستدلّ بها في مقام إثبات الولاية والإمامة المتضمِّنة لولاية جميع ما للنبيِّ فيه الولاية، ليس متضمِّناً لأكثر من ذلك.
وذكر اختلاف الفقهاء حول ثبوت ولاية الحدود والتعزيرات للفقيه في
↑صفحة ٥٣٧↑
زمن الغيبة، وقال: إنَّ الحقَّ ثبوتها. وإنَّ الفقهاء هم الحُكَّام في زمان الغيبة والنوَّاب من الأئمَّة.
واستدلَّ على ذلك بما مضى من الروايات والقواعد، وأضاف إليها الإطلاقات المستفادة من مثل قوله تعالى: ﴿فَاقْطَعُوا﴾، أو قوله: ﴿فَاجْلِدُوا﴾ ونحوها، مع إمكانيَّة الخدشة فيها بعدم معلوميَّة شمول تلك الخطابات لمثل الفقهاء.
وكذلك استدلَّ بـ (الإجماع المركَّب): من عدم جواز ترك الحدود وإهمالها، مسؤوليَّة الأُمَّة في تنفيذها، على ثبوت هذه الولاية للفقهاء أيضاً.
وادَّعى النراقي ثبوت ولاية الفقيه على أموال اليتامى بالضرورة والإجماع والأخبار المستفيضة الدالَّة على أنَّ الشارع لم يدع شيئاً ممَّا تحتاج إليه الأُمَّة إلَّا بيَّنه لهم، ومنه الولاية على أموال الأيتام.
تطوير نظريَّة الإمامة:
لقد كانت نظريَّة الشيخ النراقي تتألَّف من قسمين هما: أوَّلاً: ضرورة الإمامة في عصر الغيبة، وثانياً: حصر الإمامة في الفقهاء. وبغضِّ النظر عن مناقشة القسم الثاني، فإنَّ القسم الأوَّل من نظريَّته يرفض القبول بنظريَّة (الغيبة) وفائدة الإمام الغائب كإمام، ويُحتِّم استمرار الإمامة. ويُؤكِّد الحاجة الملحَّة لوجود الإمام الحجَّة العالم المعلِّم الهادي والداعي إلى سبيل الله بصورة ظاهرةٍ حيويَّةٍ متفاعلة مع الأُمَّة.
ولـمَّا كانت نظريَّة (الإمامة) أو (وجود الإمام الثاني عشر الغائب) تعجز عن تلبية حاجة الأُمَّة المستمرَّة للإمام فإنَّ النراقي يتخلَّى مضطرًّا عن اشتراط العصمة والنصِّ والسلالة العلويَّة في الإمام، ويأتي بكلِّ أدلَّة ضرورة الإمامة التي كان يستخدمها المتكلِّمون الإماميُّون الأوائل ومن ضمنها حديث الفضل
↑صفحة ٥٣٨↑
ابن شاذان عن الإمام الرضا، الذي يتحدَّث عن ضرورة الإمامة والعصمة، فيأخذ النراقي الشطر الأوَّل ويلغي (العصمة) ويكتفي بشرط الفقاهة والعدالة.
ويعتمد النراقي كثيراً على الأدلَّة العقليَّة والإطلاقات العامَّة التي تُحتِّم إقامة الدولة بصورة مستقلَّة، وليس بالضرورة: بالنيابة العامَّة عن الإمام المهدي، إذ إنَّ قيام الفقهاء بمهامِّ الإمامة الكبرى - ولو بالنيابة - يتناقض مع اشتراط العصمة والنصِّ في الإمام، خاصَّةً مع انتفاء ظروف التقيَّة والخوف التي تجبر الإمام على الاختباء.
ومن هنا تُعتَبر نظريَّة النراقي حول (ولاية الفقيه) تطوُّراً جذريًّا في الفكر الشيعي السياسي نحو التحرُّر من نظريَّة (الإمامة الإلهيَّة) أكثر من التحرُّر من نظريَّة (التقيَّة والانتظار). وإذا كانت نظريَّة (ولاية الفقيه) قد تعرَّضت منذ ذلك الحين إلى مناقشات حامية من قِبَل عدد من العلماء والمحقِّقين، فإنَّها نجحت في طرح موضوع (الإمامة) على بساط البحث، وجاء العلماء من بعد ذلك ليبحثوا المسألة في ضوء الحاجة الماسَّة والمستمرَّة إلى الإمامة والقيادة العامَّة في (عصر غيبة الإمام الذي لا يقوم بمهامِّ الإمامة). ومع أنَّ الشيخ محمّد حسن النجفي (تُوفِّي سنة ١٢٦٦هـ)، صاحب (جواهر الكلام) لم يقل بنظريَّة (ولاية الفقيه) إلى حدِّ تأسيس الدولة وتجييش الجيوش، إلَّا أنَّه اعترف بحاجة الشيعة في هذا العصر إلى (وليٍّ للأمر) وقال: إنَّ المراد من قولهم: «إنِّي قد جعلته عليكم حاكماً» ونحو ذلك ممَّا يظهر منه إرادة نظم زمان الغيبة لشيعتهم في كثير من الأُمور الراجعة إليهم، ولذا جزم فيما سمعته من (المراسم) بتفويضهم (عليهم السلام) لهم في ذلك وقال بصراحة: وإنَّ إطلاق أدلَّة حكومته خصوصاً رواية النصب التي وردت عن صاحب الأمر (عليه السلام) يُصيِّره (الفقيه) من أُولي الأمر الذين أوجب الله علينا طاعتهم.
↑صفحة ٥٣٩↑
وقال الشيخ رضا الهمداني (١٣١٠هـ) في (مصباح الفقيه) في معرض تأييده لنظريَّة ولاية الفقيه التي أسماها بـ (القائمقاميَّة): إنَّ الذي يظهر بالتدبُّر في (التوقيع) المروي عن إمام العصر (عليه السلام) الذي هو عمدة دليل النصب: إنَّما هو إقامة الفقيه المتمسِّك برواياتهم مقامه بإرجاع عوامِّ الشيعة إليه في كلِّ ما يكون مرجعاً فيه كي لا يبقى شيعته متحيِّرين في أزمنة الغيبة. ومن تدبَّر في هذا (التوقيع) الشريف يرى أنَّه (عليه السلام) قد أراد بهذا التوقيع إتمام الحجَّة على شيعته في زمان غيبته بجعل الرواة حجَّة عليهم لا يسع لأحد أنْ يتخطَّى عمَّا فرضه إليه معتذِّراً بغيبة الإمام، لا مجرَّد حجّيَّة قولهم في نقل الرواية أو الفتوى. وملخَّص الكلام: دلالة هذا التوقيع على ثبوت منصب الرياسة والولاية للفقيه، وكون الفقيه في زمان الغيبة بمنزلة الولاة المنصوبين من قِبَل السلاطين على رعاياهم في الرجوع إليه، وإطاعته فيما شأنه الرجوع فيه إلى الرئيس.
وهكذا بنى الشيخ محمّد حسن النائيني نظريَّته في (المشروطيَّة) على أساس استحالة التفاف الأُمَّة حول الإمام المهدي المنتظر الغائب وعدم وجود الأئمَّة المعصومين، وحاجة الأُمَّة إلى قيادة مشروطة بمجلس منتخب منها.
أمَّا الإمام الخميني فقد مهَّد للقول بنظريَّة (ولاية الفقيه) بضرورة الإمامة في عصر الغيبة، وقال: إنَّ ما هو دليل الإمامة بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة وليِّ الأمر (عليه السلام) سيّما مع هذه السنين المتمادية، ولعلَّها تطول - والعياذ بالله - إلى آلاف السنين، والعلم عنده تعالى. وقال: أيَّة حاجة كالحاجة إلى تعيين من يُدبِّر أمر الأُمَّة ويحفظ نظام بلاد المسلمين طيلة الزمان ومدى الدهر في (عصر الغيبة) مع بقاء أحكام الإسلام التي لا يمكن بسطها إلَّا بيد والي المسلمين وسائس الأُمَّة والعباد؟
↑صفحة ٥٤٠↑
الخميني ينقد نظريَّة الانتظار:
لقد رفض الإمام الخميني في البداية نظريَّة (الانتظار للإمام المهدي) التي كانت تهيمن على الفكر السياسي الشيعي حتَّى وقت قريب، رفضاً مطلقاً، وأسقط بالأدلَّة العقليَّة الأحاديث التي كانت تُعتَبر متواترة والتي كانت تُوصي بذلك، ولم يعبأ بها، وكتب يقول: بديهي أنَّ ضرورة تنفيذ الأحكام لم تكن خاصَّة بعصر النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بل الضرورة مستمرَّة. واعتقاد: أنَّ الإسلام قد جاء لفترة محدودة أو لمكان محدود يخالف ضروريَّات العقائد الإسلاميَّة، وبما أنَّ تنفيذ الأحكام بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإلى الأبد من ضروريَّات الحياة، لذا كان وجود حكومة فيها مزايا السلطة المنفِّذة المدبِّرة ضروريًّا، إذ لولا ذلك لساد الهرج والمرج. فقد ثبت بضرورة الشرع والعقل: أنَّ ما كان ضروريًّا أيَّام الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وفي عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من وجود الحكومة لا يزال ضروريًّا إلى يومنا هذا.
ولتوضيح ذلك أتوجَّه إليكم بالسؤال التالي: قد مرَّ على الغيبة الكبرى لإمامنا المهدي أكثر من ألف عام، وقد تمرُّ عليه أُلوف السنين قبل أنْ تقتضي المصلحة قدوم الإمام المنتظر، وفي طول هذه المدَّة المديدة هل تبقى أحكام الإسلام معطَّلة يعمل الناس خلالها ما يشاءون؟ ألَا يلزم من ذلك الهرج والمرج؟ وهل حدَّد الله عمر الشريعة بمائتي عام؟ هل ينبغي أنْ يخسر الإسلام من بعد الغيبة الصغرى كلَّ شيء؟
إنَّ الذهاب إلى هذا الرأي أسوأ في نظري من الاعتقاد بأنَّ الإسلام منسوخ، فلا يستطيع أحد يؤمن بالله واليوم الآخر أنْ يقول: إنَّه لا يجب الدفاع عن ثغور الإسلام والوطن، أو أنَّه يجوز الامتناع عن دفع الزكاة والخُمُس وغيرها، أو يقول بتعطيل القانون الجزائي في الإسلام وتجميد الأخذ بالقصاص
↑صفحة ٥٤١↑
والديات، إذن فإنَّ كلَّ من يتظاهر بالرأي القائل بعدم ضرورة تشكيل الحكومة الإسلاميَّة فهو يُنكِر ضرورة تنفيذ الإسلام، ويدعو إلى تعطيل أحكامه وتجميدها، وهو بالتالي يُنكِر شمول وخلود الدِّين الإسلامي الحنيف.
خاطب الإمام الخميني الملتزمين بنظريَّة (الانتظار) قائلاً: لا تقولوا ندع إقامة الحدود والدفاع عن الثغور وجمع حقوق الفقراء حتَّى ظهور الحجَّة (الإمام المهدي)، فهلَّا تركتم الصلاة بانتظار الحجَّة؟!
ضرورة الإمامة في عصر الغيبة:
وقال أيضاً: إنَّ ما هو دليل الإمامة بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة وليِّ الأمر (عليه السلام) سيّما مع هذه السنين المتمادية، ولعلَّها تطول - والعياذ بالله - إلى آلاف السنين، والعلم عنده تعالى.
وقال: وما ذكرناه وإنْ كان من واضحات العقل، ومع ذلك فقد دلَّ الدليل الشرعي أيضاً عليه، وأيَّة حاجة كالحاجة إلى تعيين من يُدبِّر أمر الأُمَّة ويحفظ نظام بلاد المسلمين طيلة الزمان ومدى الدهر في (عصر الغيبة) مع بقاء أحكام الإسلام التي لا يمكن بسطها إلَّا بيد والي المسلمين وسائس الأُمَّة والعباد؟
واستشهد بقول السيِّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها المعروفة: «والطاعة نظاماً للملَّة، والإمامة لـمًّا من الفرقة»، كدليل على لزوم بقاء الولاية والرئاسة العامَّة، وقال: أمَّا في زمان الغيبة فالولاية والحكومة وإنْ لم تُجعَل لشخصٍ خاصٍّ، لكن يجب بحسب العقل والنقل أنْ تبقيا بنحوٍ آخر، لما تقدَّم من عدم إمكان إهمال ذلك، لأنَّها ممَّا يحتاج إليه المجتمع الإسلامي، والعلَّة متحقِّقة في زمن الغيبة، ومطلوبيَّة النظام وحفظ الإسلام معلومة لا ينبغي لذي مسكة (عقل) إنكارها.
↑صفحة ٥٤٢↑
وقد انطلق السيِّد محمّد رضا الكلبايكاني في إرساء قواعد (ولاية الفقيه) من الأدلَّة الفلسفيَّة التي تُحتِّم وجوب (الإمامة)، والواردة في رواية الفضل بن شاذان المنسوبة إلى الإمام عليِّ بن موسى الرضا (عليه السلام) والتي تقول: إنَّا لا نجد فرقة من الفِرَق ولا ملَّة من الملل عاشت وبقت إلَّا بقيِّم ورئيس لما لا بدَّ منه في أمر الدِّين والدنيا. وقال: الظاهر منها أنَّ عدَّة من الأُمور ممَّا لا بدَّ منها في قوام الملَّة ونظم الرعيَّة، بحيث لولاها لاختلَّ النظام وفسدت معيشة الأنام وكثرت الفتنة وازدادت الحيرة وانجذم حبل الدِّين والدنيا، إذ ليست تلك الأُمور ممَّا يمكن صدوره من أيِّ شخص وفرد، بل لا بدَّ في إجرائها من وجود الزعيم وحكم القيِّم الذي له الولاية على الرعيَّة والزعامة للأُمَّة، ولهذا نرى في كلِّ مجتمع أنَّ طبقات الناس في منازعاتهم يرجعون في بدو الأمر إلى زعيمهم.
ولـمَّا كانت تلك الرواية تتحدَّث بعد ذلك عن ضرورة النصِّ والتعيين من قِبَل الله تعالى للإمام، فقد قال الكلبايكاني: الرواية وإنْ كانت وردت في علل الاحتياج إلى الإمام المنصوب من الله تعالى، لكنَّه يُستفاد منها حكم عامٌّ بملاك واحد ومناط جامع وهو أنَّ الطبيعة البشريَّة والغرائز الحيوانيَّة تقتضي وقوع الاختلاف والتزاحم والجدال والتنازع والتشاح، وكذا تقتضي سلسلة من الأُمور، وتحقُّقها في بقاء نظمهم وصيانتهم وحفظهم من النفاق والافتراق والشقاق وإلَّا لفسدت عيشتهم وضاقت معيشتهم. ولـمَّا كانت تلك الأُمور ممَّا لا يمكن تحقُّقها ولا يصحُّ صدورها من أيِّ شخص وأيِّ فرد فلا بدَّ لهم من زعيم ورئيس وقيِّم وحاكم وإنْ لم يكن نبيًّا أو وصيًّا.
ومع تشكيك السيِّد الكلبايكاني بشمول (ولاية الفقيه) للحدود وقوله بعدم الولاية التامَّة المطلقة، إلَّا أنَّه قال في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود والتعزيرات: إنَّ ذلك ممَّا لا ينبغي صدوره من كلِّ شخص وفرد،
↑صفحة ٥٤٣↑
ولا يصحُّ وقوعه من كلِّ آمرٍ وناهٍ، ولا يصلح كلُّ فرد من المسلمين أنْ يتصدَّاه ويقدم عليه، وإلَّا يزداد الفساد ويكثر النفاق والعناد، فحينئذٍ لو قلنا بعدم الوجوب في تلك الأُمور لاضمحلَّت آثار الدِّين واختلَّت أُمور المسلمين واندرست الشريعة وضاقت المعيشة، وإنْ قلنا بجواز التصدِّي لكلِّ فرد يلزم منه الفساد، بل لا يوجد مرتدع ولا مزدجر، فلا مناص من القول بأنَّ المجتمع في هذا القسم من الأُمور يحتاج إلى زعيم وقيِّم له العظمة بين الناس والمهابة عندهم والشهامة لديهم.
وقد رفض الكلبايكاني بذلك نظريَّة (التقيَّة والانتظار)، وتخلَّى أيضاً عن الشروط المثالية في الإمامة كالعصمة والنصِّ، وأكَّد ضرورة إقامة الدولة في (عصر الغيبة). ومع أنَّه حصر الحقَّ في إقامة الدولة في (الفقهاء) فقط، إلَّا أنَّه طرح نظريَّة (ولاية الفقيه) بصورة مستقلَّة واعتماداً على الأدلَّة العقليَّة العامَّة التي توجب إقامة الدولة وتطبيق أحكام الدِّين والأدلَّة النقليَّة التي تعتبر العلماء ورثة الأنبياء، ولم يلتزم بنظريَّة (النيابة العامة) التي بنى كثير من الفقهاء نظريَّتهم السياسيَّة عليها.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٢/ ١/ ٢٠٠٠م)، (٠٥:١٦) صباحاً.
محمّد منصور عضو:
الردُّ على الكاتب في قوله: إنَّ الفقهاء المتأخِّرين يقولون بعدم قيام الإمام بمهامِّه.
ما ذكره الكاتب أنَّ الفقهاء المتأخِّرين على عكس المتكلِّمين القدماء مجرَّد عبارات يتشدَّق بها ويزعق بها.
وقد أوضحت له كيفيَّة تأثير الاعتقاد بالإمام الثاني عشر، والكاتب يخلط
↑صفحة ٥٤٤↑
بين نيابة الفقهاء ومسألة الإمامة في الدِّين والتي أحد شؤونها الحكم، وقد نبَّهنا لذلك، ولكن يمضي في تكرار خلطه السابق، وكأنَّه يحسب أنَّ تلقين الزيف يتمُّ بتكراره!
ومن ثَمَّ؛ فمن اللازم لتوضيح ذلك الخلط نعيد ما ذكرناه له في موضوع: (نظريَّة الحكم والاجتهاد في الفقه السياسي للشيعة الإماميَّة)، لكي يتَّضح له أنَّ إقامة الحكومة في عصر الغيبة ليس تخلّياً وانسلاخاً من الاعتقاد بالإمامة!
وإليك البحث السابق الذي تجاهلته ولم تردّ عليه(٣٣٢).
* * *
تجاهل (أحمد الكاتب) لعدَّة محاور أساسيَّة في الحوار:
وهنا يكشف العضو محمّد منصور عن طريقة العضو الكاتب، في حواره منذ البداية:
حُرِّر بتاريخ (٢/ ١/ ٢٠٠٠م)، (٠٨:٥٤) مساءً.
محمّد منصور عضو:
قد تهرَّب الكاتب من محاور عديدة، وهي:
١ - إنكاره لوجود أحاديث صحيحة في كتاب (بصائر الدرجات) عن عدد الأئمَّة، وقد ذكر أطراف الحوار له روايات عديدة ولم يجب عن ذلك.
٢ - إنكاره لوجود كُتُب حديثيَّة أُخرى في الأئمَّة الاثني عشر، مع أنَّا ذكرنا له عشرات المصادر ولم يجب.
٣ - الكاتب أنكر الروايات المتواترة حول إمامة الإمام الثاني عشر، وذكرنا له نماذج من المصادر والأبواب العديدة، ولم يجب عن ذلك إلَّا بأنَّ علماء الشيعة ومتكلِّميهم وضَّاعون مختلقون، وكذلك رواتهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٣٢) راجع نصَّ البحث في صفحة (٤٦٥) تحت عنوان: الردّ رقم (٢).
↑صفحة ٥٤٥↑
٤ - إنكاره لضرورة روايات المهدي من ذرّيَّة الرسول المتَّفق عليها بين الفريقين.
٥ - قوله في كتابه حول المهدي أنَّ محمّد بن زياد مهمل لا ذكر له في رجال الشيعة مع أنَّ ابن أبي عمير هو من عمالقة الفقه والرواية والزهد الشيعي.
٦ - قوله: إنَّ المهدي من وضع غلاة باطنيِّين سواء في روايات السُّنَّة أو الشيعة، وإنَّ هذه الروايات من اختلاق الصراعات السياسيَّة في التاريخ الإسلامي.
٧ - دعوى الكاتب أنَّ الخبر المتواتر هو الخبر الذي يشيع عند كلِّ فرد فرد من أفراد المجتمع مع أنَّ هذا قسم واحد من الخبر المتواتر، لا كلّ أقسام الخبر المتواتر، إذ عامَّة الناس ممَّن لا يطَّلع على علم الحديث والرواية حتَّى في القرون الأُولى الهجريَّة لا ينفي طيّه طُرُق الخبر المتواتر، إذ هو يتشكَّل من أخبار آحاد تجتمع عند الفاحص المتتبِّع فيرى أنَّ العدد وصل كمّيَّةً وكيفيَّةً إلى حدِّ التواتر، وقد أُجيب ولم يتابع بالجواب.
٨ - أنَّ الكاتب لم يعرف معنى تأثير الاعتقاد بالإمام المعصوم على تأسيس الحكومة والحكم والدستور ومدى الربط القانوني بين العقيدة والرؤية الاعتقاديَّة مع فلسفة الحقوق التي هي البنية التحتيَّة للقانون والقوانين الدستوريَّة، وقد أُجيب ولم يتابع الحوار.
٩ - أنَّ الكاتب خلط بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كوظيفة الفرد وكوظيفة للدولة والوالي وجعل الوظيفتين متَّحدتين في الشرائط مع أنَّهما مختلفتان في علم الفقه والقانون، ولم يجب الكاتب عن ذلك ولم يتابع الحوار.
١٠ - إنكار الكاتب على علماء الشيعة بعدم الوجوب العيني للجمعة، مع أنَّ عدَّة كبيرة منهم قائلون بذلك، وسبب ذلك عدم مجاراة علماء الإماميَّة للأنظمة في التاريخ.
↑صفحة ٥٤٦↑
١١ - أنَّ الكاتب اشترط في الطاعة وماهيَّة الطاعة الإحساس البصري بالمطاع للتفاعل العملي به، وقد أُجيب بأنَّ طاعة الله تعالى ضروريَّة عند المسلمين وليس المطاع محسوساً بالبصر، وكذلك طاعة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) باقية إلى يوم القيامة مع أنَّه غير محسوس الآن بالبصر، ولم يتابع الكاتب الحوار.
١٢ - أنَّ الكاتب اشترط في القيادة السياسيَّة المؤثِّرة على المجتمع كونها محسوسة بصريًّا، وأُجيب بأنَّ قيادة الدولة العصريَّة الحديثة تقوم على قيادات وجهاز رسمي في الظاهر وقيادات سرّيَّة خفيَّة مع جهاز خفي، والقيادة الثانية هي المؤثِّرة على القيادة الأُولى في العصر الحديث والفطرة البشريَّة، ولم يجب الكاتب ولم يتابع.
١٣ - أنَّ الكاتب يطعن في رواة الشيعة ومتكلِّمي الإماميَّة بأنَّهم وضعوا الروايات المتواترة في ولادة الإمام الثاني عشر، ومنشأ طعنه أنَّهم يعتقدون بالإمامة الإلهيَّة، فأُجيب بأنَّ إشكالك المحوري في مقالاتك هو في عقيدة الإمامة الإلهيَّة، فالمفروض أنْ تنقل البحث من الصغرى وهو ولادة الإمام الثاني عشر إلى الكبرى وهو نظريَّة الإمامة في القرآن والسُّنَّة، فقال: إنِّي أرفض رفضاً باتًّا البحث في الإمامة الإلهيَّة، ولا أبحث في الكبرى، بل حواري في الصغرى، فأجيب بأنَّ الصغرى تبتني على الكبرى وتتفرَّع عليها، بمنطق العقل والفطرة، فأجاب بأنِّي اكتفيت في عرض كلامي والنقاش عقيم، وكأنَّه إعلان انسحاب من الكاتب، لكنَّه لم يتابع وبدأ بمواضيع جديدة كعادته يطفر من محور قبل التدقيق في حقيقته الواقع فيه، في ضمن ضوضائيَّة لفظيَّة كي يعجَّ الحديث بغبار الفوضى واللَّاتمركز حول نقاط محدَّدة ثابتة.
١٤ - ذكر الكاتب حول الشورى وأنَّها القاعدة في الانتخاب، فأُجيب بأنَّ الشورى هي من الاستشارة والمداولة الفكريَّة، ولا ربط لها بالسلطة والقوَّة
↑صفحة ٥٤٧↑
والولاية الجماعيَّة، إلى غير ذلك من الأجوبة، فلم يتابع وترك الحوار إلى موضوع آخر كما هي عادته في الهروب من كلِّ محور يُركَّز فيه معه بدقَّة.
١٥ - ذكر الكاتب مراجع الشيعة بألفاظ نابية كالطغاة والانتهازيِّين والمتكبِّرين، فقيل له بأنَّ السباب والشتم ليس لغة الحوار العلمي، فقال: لا تسيئ الظنَّ بالنوايا والمقاصد كي يحافظ الحوار على الفائدة، ولا تُحطِّموا شخصيَّة طرف الحوار.
١٦ - ذكر الكاتب بأنَّ الدولة العبَّاسيَّة كانت سياستها ليِّنة مع البيت العلوي، فلم يكن هناك موجب لخوف في ولادة المهدي، فأُجيب بأنَّ المسح بيد بيضاء على العبَّاسيِّين هو تنكُّر لحقائق التاريخ ووقوف بصفِّ الظالمين، فلم يتابع الكاتب ذلك المحور.
١٧ - قال الكاتب: إنَّ حديث: «إنَّ الأئمَّة من قريش اثنا عشر»، هو بمعنى أئمَّة مضوا، وقد أقاموا الدِّين وشيَّدوه، فأُجيب أنَّ التطبيق سيشمل معاوية ويزيد وأمثالهم، فلم يتابع الحوار في ذلك.
١٨ - قال الكاتب: إنَّ معنى حديث الثقلين هو الموالاة والمتابعة لأهل البيت وأخذ الفقه عنهم، وقال: أنا جعفري شيعي بهذا المعنى، ولا أرى العصمة في أهل البيت (عليهم السلام). فأُجيب بأنَّ عدم عصمتهم يستلزم تجويز خطأهم، وبالتالي جواز أو وجوب الردِّ عليهم، وهو ينافي حجّيَّتهم الموازية للقرآن، والتي هي عِدل له، وكونهم أعدال القرآن في حديث الثقلين يعني قدسيتهم وعصمتهم كالقرآن، فلم يتابع الحوار في ذلك.
١٩ - قال الكاتب: إنَّ حديث: «من مات ولم يبايع إمام زمانه، أو لم يعرفه، أو ليس عليه إمام مات ميتة جاهليَّة» ليس فيه قيد العصمة، فأُجيب بأنَّ الإمام الذي تكون عدم معرفته تساوي الموت على غير الملَّة، أي إنَّ معرفته
↑صفحة ٥٤٨↑
والاعتقاد به من أُصول الدِّين لا يمكن أنْ يكون بهذه الدرجة من دون أنْ يكون معصوماً له قدسيَّة العصمة، أي لا يكون شخصاً عاديًّا، وكذلك الحال في بيعته واتِّباعه. فلم يتابع الكاتب الحوار في ذلك كعادته من الطفرة من البحث.
٢٠ - قال الكاتب: إنَّ الاجتهاد عند الشيعة لم يكن إلَّا في القرن الرابع، بل لم يكن بصورة حقيقيَّة إلَّا في هذه الأعصار الأخيرة، وذلك لاعتقادهم بالإمامة الإلهيَّة، والآن تحرَّروا منها، فأُجيب بأنَّ الاجتهاد عند الشيعة يغاير الاجتهاد عند السُّنَّة، فعند الشيعة يعني ممارسة عمليَّة اكتشاف الحكم الشرعي من الأدلَّة والطُّرُق بالموازين المقرَّرة، بينما الاجتهاد عند السُّنَّة يشمل ابتداع وخلق الحكم وإيجاده في لوح التشريع، وبينهما بعد المشرقين، ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ﴾ (الأنعام: ٥٧). والاجتهاد بالمعنى الأوَّل ممارس من قِبَل فقهاء رواة الشيعة أيَّام الأئمَّة فضلاً عن القرن الثالث وما بعده. ولم يتابع الكاتب الحوار في ذلك، لاسيّما وأنَّ هذا البحث وأمثاله قد كشف عدم إلمامه بالاصطلاحات العلميَّة.
٢١ - قال الكاتب: إنَّ الاعتقاد بالإمام الثاني عشر فرضيَّة فلسفيَّة اجتهاديَّة ظنّيَّة اعتباريَّة، فأُشكل عليه بأنَّ الفرضيَّة لا تتَّفق مع نوع البحث الفلسفي العقلي البرهاني، والدليل الظنِّي لا يُعتَمد في البحث العقلي، والاعتباري هو في العلوم القانونيَّة ونحوها لا في العلوم الحقيقة التكوينيَّة، وأنَّ هذه خليط وتناقض في الاصطلاح العلمي، فلم يحر بجواب.
٢٢ - قال الكاتب: إنَّ من سلبيَّات الاعتقاد بالإمام الثاني عشر والانتظار هو امتناع علماء الشيعة عن الإصلاح الاجتماعي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأُشكل عليه بأنَّ علماء الشيعة يرون وجوب الإصلاح وإقامة الحكم، وكيف يجمع الكاتب بين ذلك وبين مطالبة علماء الشيعة بإقامة صلاة الجمعة كمنبر للسلطات الوضعيَّة؟ فلم يحر بجواب.
* * *
↑صفحة ٥٤٩↑
حُرِّر بتاريخ (٣/ ١/ ٢٠٠٠م)، (٠٣:١٠) صباحاً.
(جميل ٥٠) عضو:
نرجو من المُكَتَّبِ الكاتب أنْ يبدي تعليقه هنا إذا كان لديه ثَمَّة تعليق لا أنْ يذهب ويجعجع بأنَّ المتحاورين دلَّسوا عليَّ، فكلُّ ما ذُكِرَ أعلاه من الواضحات بالنسبة لنا وللمتابعين لطريقة الحوار من مستهلِّه حتَّى هذا الحدّ.
* * *
كلمة ختاميَّة في الوداع:
حُرِّر بتاريخ (٣/ ١/ ٢٠٠٠م)، (٠٢:٢٠) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
الأخ المشرف على شبكة هجر الثقافيَّة الأُستاذ موسى العلي الموقَّر..
الإخوة المتحاورون: التلميذ والعاملي ومحمّد منصور المحترمون..
الإخوة المشاركون والقُرَّاء الكرام..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أخذنا من وقتكم كثيراً في شهر رمضان المبارك، وصدَّعنا رؤوسكم بحواراتنا الساخنة، نرجو من الله العليِّ القدير أنْ يتقبَّل أعمالكم وصيامكم، وأنْ يتفضَّل عليكم بالأجر الجزيل.
إخوتي الكرام.. مرَّة ثانية يصل حوارنا إلى طريق مسدود، بعد أنْ وصلنا قبل أُسبوعين إلى نفس المصير، وذلك عند وصول البحث والحوار حول وجود الإمام الثاني عشر محمّد بن الحسن العسكري إلى نقطة طلب فيها الإخوة التلميذ ومحمّد منصور بحث نظريَّة الإمامة لإثبات وجود الإمام الثاني عشر ورفضت ذلك انطلاقاً من إيماني بعبثيَّة واستحالة إثبات وجود إنسان في الخارج عن طريق الأبحاث النظريَّة الفلسفيَّة، وإصراري على بحث الروايات التاريخيَّة، والتأكُّد من صحَّتها أو أُسطوريَّتها.
↑صفحة ٥٥٠↑
ثمّ بحثنا بعد ذلك الآثار السلبيَّة التي ترتَّبت على الإيمان بفرضيَّة وجود الإمام الثاني عشر، على الشيعة الاثني عشريَّة، في التاريخ، وتلازم نظريَّة الانتظار مع تجميد الأبواب الحيويَّة السياسيَّة في الإسلام كالثورة وإقامة الدولة والمراتب العليا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحدود وصلاة الجمعة وبعض مصارف الزكاة، وإباحة الخُمُس والأنفال، وذلك انطلاقاً من حرمة تصدِّي غير الإمام المعصوم المعيَّن من قِبَل الله لمهمَّة الإمامة وتشكيل الدولة في عصر (غيبة الإمام الثاني عشر محمّد بن الحسن العسكري) حسب النظريَّة الإماميَّة، الأمر الذي أدَّى إلى انعزال الشيعة الاثني عشريَّة وخروجهم من مسرح التاريخ قروناً طويلة من الزمن، إلى أنْ حدثت ثورة ولاية الفقيه التي ابتدأت تدريجيًّا وشيئاً فشيئاً منذ ألف عام، وذلك بفتح باب الاجتهاد أوَّلاً، ثمّ القول بعد ذلك بولاية الفقيه، سواء باسم النيابة العامَّة عن الإمام الغائب أو بصورة مستقلَّة واعتماداً على نظريَّة الشورى والانتخاب من الأُمّة للإمام. تلك الثورة التي تخلَّى فيها الشيعة الجعفريَّة عن انتظار الإمام الغائب وعن نظريَّة الإمامة التقليديَّة عمليًّا، وسمحوا لأنفسهم بانتخاب الفقيه أو المؤمن العادل رئيساً للدولة الإسلاميَّة.
وقد حاول الأخ المحاور الأُستاذ (محمّد منصور) في البداية أنْ يدَّعي وجود نظريَّة ولاية الفقيه والنيابة العامَّة منذ انتهاء عصر (الغيبة الصغرى) أي منذ بداية القرن الرابع الهجري، فذكرت له نماذج من أقوال الفقهاء السابقين الذين كانوا يُحرِّمون إقامة الدولة والثورة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة صلاة الجمعة في (عصر الغيبة الكبرى). وبدلاً من أنْ يناقش الأُستاذ (محمّد منصور) - المحاور الرئيسي الأخير - تلك النقاط مناقشة جادَّة، راح يهاجمني شخصيًّا ويُحوِّر كلامي وينسب إليَّ أُموراً لم أقلها ولم أُفكِّر فيها ولم أدعُ إليها، من قبيل: انتقاد علماء الشيعة في استقلالهم المالي عن الدول الوضعيَّة،
↑صفحة ٥٥١↑
ومطالبتهم بإقامة صلاة الجمعة في ظلِّ الحكومات الوضعية كي تصبح بوقاً إعلاميًّا لسياساتهم، ومطالبتهم بالتبعيَّة للأنظمة الوضعيَّة، والدفاع عن السلاطين وعن شرعيَّة الولاة المتغلِّبين بالقهر، والالتزام بالمذهب العلماني أو العلماني الإسلامي، وقبول التمويل الخارجي، إضافةً إلى تحريف أقوالي أكثر من مرَّة واستخدام أساليب إعلاميَّة تنطوي على عبارات لا تناسب الحوارات العلميَّة الهادئة.
ومن هنا فقد شعرت:
أوَّلاً: بأنَّ الحوار قد حقَّق أهدافه بعرض كلِّ طرف لآرائه حول وجود الإمام الثاني عشر (محمّد بن الحسن العسكري) بما فيه الكفاية.
ثانياً: أنَّ الحوار بدأ يتَّخذ طابع الهجوم الشخصي والتهريج الإعلامي، خاصَّةً وأنَّ بعض الأطراف المتحاورة تتلفَّع بالسرّيَّة والكتمان ولا تتحمَّل أيَّة مسؤوليَّة في أحاديثها وتنثر الاتِّهامات والافتراءات جزافاً وبالمجَّان. كما فعل الأُستاذ (محمّد منصور) في تعليقه الأخير.
ولو كان الأُستاذ (محمّد منصور) شخصاً معروفاً ومسؤولاً وشجاعاً لدعوته إلى التحاكم أمام محكمة إسلاميَّة لكي يُثبِت اتِّهاماته الشخصيَّة لي - مثلاً - بقبول التمويل من جهة أجنبيَّة، أو يتحمَّل عقوبة القذف والتجريح والتشهير، حسب قوانين الشريعة الإسلاميَّة.
ولا يسعني في الختام إلَّا أنْ أشكر الإخوة المتحاورين مرَّة أُخرى على ما بذلوه من جهد، وأُعلن عن تقديري لالتزامهم الدِّيني وحرصهم على الدفاع عن مفاهيم ونظريَّات يعتقدون أنَّها مستمدَّة من تراث أهل البيت. وإذا كنت أُخالفهم فيها وأرفض بعضها وخصوصاً نظريَّة الإمامة الإلهيَّة لأهل البيت القائمة على العصمة والنصِّ والوراثة العموديَّة في سلالة عليٍّ والحسين، وما
↑صفحة ٥٥٢↑
تفرَّع عنها من افتراض وجود ولد للإمام الحسن العسكري هو (الإمام الغائب) منذ منتصف القرن الرابع الهجري، فإنِّي أُؤكِّد لهم جميعاً التزامي بالولاء لأهل البيت ومحاولة التحلِّي بأخلاقهم الرفيعة والاستفادة من علومهم وفقههم وفكرهم وتجاربهم الغنيَّة في الحياة.
أرجو من الإخوة المتحاورين والمشاركين والقُرَّاء الكرام أنْ تتَّسع صدورهم لقراءتي الخاصَّة، التي قد تكون مختلفة عن قراءاتهم لتراث أهل البيت، تلك القراءة التي أعتقد أنَّها أقرب إلى فكر أهل البيت القائم على الشورى وحقِّ الأُمَّة في انتخاب أئمَّتها. وعذري في ذلك تعدُّد القراءات الشيعيَّة والاجتهادات الإسلاميَّة عبر التاريخ، واحتمال كلِّ طرف للطرف الآخر وعدم الضيق بالرأي الآخر إلى حدِّ التفسيق أو التكفير أو التخوين والإخراج من المذهب أو الدِّين، لا سمح الله.
أيُّها الإخوة الأحباب..
أشعر بأنَّنا نحن المسلمون أحوج ما نكون إلى ممارسة الشورى والحوار حول قضايانا المختلفة، وخاصَّةً القضايا التراثيَّة والثقافيَّة والعقائديَّة، التي مضى عليها زمن طويل، والاجتهاد فيها، وغربلتها وتصفية الكثير ممَّا دخل فيها من أحاديث مزوَّرة وتأويلات تعسُّفيَّة ونظريَّات بشريَّة وفرضيَّات أُسطوريَّة، نخرت حضارتنا الإسلاميَّة وشلَّت مجتمعاتنا وعطَّلت طاقاتنا وزرعت العداوة والبغضاء في نفوسنا ومزَّقت وحدة أمُّتنا الإسلاميَّة.
وإذا كانت الأُمَّة الإسلاميَّة قد اختلفت في قرونها الأُولى حول طبيعة النظام السياسي وشروط الحاكم ودور الأُمَّة في السياسة وحقِّ هذه الأُسرة أو تلك بالخلافة والحكم، فإنَّه ليس من الجائز أنْ نظلَّ نجتر الخلافات القديمة البائدة بعد أكثر من أربعة عشر قرناً من حدوثها، ونتعصَّب لهذا الرجل أو ذاك
↑صفحة ٥٥٣↑
أو لهذه الأُسرة القرشيَّة أو تلك الأُسرة العلويَّة أو العبَّاسيَّة، وقد مضى الجميع إلى ربِّهم ولم يبقَ منهم أحد يطالب بالخلافة والملك. ولا بدَّ من الاهتمام بحاضر الأُمَّة الإسلاميَّة ومستقبلها والتفكير بأسباب انحطاطها وعجزها عن مواجهة التحدّيات المعاصرة التي تُهدِّدها في الوجود.
إنَّنا مدعوون جميعاً سُنَّة وشيعة إلى تحرير الإنسان المسلم المضطهد والمقموع والمهمَّش وإعادة الروح الحيويَّة الفاعلة إليه، ومطالبون بتوحيد الأُمَّة الإسلاميَّة المهشَّمة والممزَّقة وإعادة بناء الحضارة الإسلاميَّة ثقافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، حتَّى ننال احترام العالم ونحتلَّ موقعنا المناسب ونستطيع أداء أدوار إيجابيَّة فاعلة ونساهم بدفع عجلة الحضارة الإنسانيَّة نحو الأمام.
أخوكم أحمد الكاتب..
(٢٥/ رمضان المبارك/ ١٤٢٠هـ)
المصادف (٢/ كانون الثاني/ ٢٠٠٠م)
* * *
حُرِّر بتاريخ (٣/ ١/ ٢٠٠٠م)، (٠٥:١٢) صباحاً.
موسى العلي هجر:
الأُستاذ أحمد الكاتب..
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
لك ما تريد، ونتمنَّى لك دوام الموفَّقيَّة والنجاح.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٣/ ١/ ٢٠٠٠م)، (٠٦:٠٦) مساءً.
محمّد منصور عضو:
↑صفحة ٥٥٤↑
الردُّ على الكاتب في كلمته الختاميَّة:
١ - قد ذكر الكاتب أنَّنا وجَّهنا إليه اتِّهامات جزافاً وزوراً لا واقع لها، مع أنَّ كلَّ التدليسات التي ارتكبها قد أشرت - مفصَّلاً في ردودي ومقالاتي السابقة - إلى مظانِّها في مقالاته وردوده وفي كتابه حول المهدي وفي بعض الأحيان ذكرت نصَّ عبارته، وباستطاعة القُرَّاء الكرام مراجعة الموارد التي أشرت في ردودي ومقالاتي إليها، فالقضاء تابع للمدارك والمستندات المودعة في المقالات والردود في موقع الشبكة وكتابه حول المهدي أو تطوُّر الفكر السياسي عند الشيعة.
وأمَّا التعريض بالتمويل من بعض الجهات التي لم نُسمِّها أنَّها أجنبيَّة أو داخليَّة من الوسط الإسلامي، ليس هذا التعريض بأعظم من تصريح الكاتب به وقذفه لمراجع الشيعة الإماميَّة بأنَّهم انتهازيُّون طغاة متكبِّرون في معرض كلامه في أحد المقالات السابقة المسجَّلة في الشبكة، عن نوَّاب الإمام الثاني عشر، وصرَّح بأنَّ الذي يدعوهم إلى القول بإمامة الإمام الثاني عشر هو أخذ الأموال والتسلُّط على الحقوق الشرعيَّة.
وكذلك قذفه للنوَّاب الأربعة الذين لهم مكانتهم المقدَّسة عند الطائفة الكبيرة من المسلمين وهي الطائفة الإماميَّة، بأنَّهم اختلقوا عقيدة الإمام المهدي المنتظر لمصلحة الأموال. وكذلك قذفه لعلماء ومتكلِّمي الإماميَّة كالمفيد والطوسي والكليني والصدوق والنعماني بأنَّهم اختلقوا عقيدة وجود الإمامة الاثني عشريَّة لمصلحة الأموال، وأنَّ رواة الشيعة بأسرهم وأجمعهم وضَّاعون للحديث، وهنا نموذج لحواره العلمي الهادئ.
وكذلك تهريجه وقذفه لعقيدة طائفة كبيرة من المسلمين أنَّها عقيدة وهميَّة افتراضيَّة نسجها الخيال، كلُّ هذا القذف والتجريح بمشاعر ملايين المسلمين من أتباع المذهب الاثني عشر، ألَا يلزمه عقوبة وقصاص أمام محكمة شرعيَّة؟ وأيُّ
↑صفحة ٥٥٥↑
شرع يريد أنْ يتقيَّد به الكاتب؟ وعلى ضوء أيَّة قراءة للدِّين قراءة علمانيَّة أو قراءة إسلاميَّة؟ والإسلاميَّة بقراءة مذهب أهل البيت (عليهم السلام) أم بقراءة غير مذهب أهل البيت (عليهم السلام)؟
٢ - يُعلِن الكاتب عن ولائه لأهل البيت (عليهم السلام) وتمسُّكه بفقههم وفكرهم والاستفادة من علومهم وتحليه بأخلاقهم، ثمّ يدعو في آخر مقالةٍ بعد إذعانه بخلاف أهل البيت (عليهم السلام) على الآخرين واستنكار أهل البيت (عليهم السلام) على حكم وخلافة الآخرين، يدعو إلى تناسي الماضي وعدم البحث عن ذلك، وأنَّ من هو المحقُّ ومن هو غيره، وفي هذا الكلام تناقض صريح وتدافع في الكلام بما لا يزيد عن أسطر، فإذا كان الكاتب لا يرى عصمة أهل البيت (عليهم السلام) ويعتقد بإمكان خطئهم في العلم والعقيدة وإمكان خطئهم في العمل سواء عن عمد أو عن جهل - حسب اعتقاد الكاتب -، وأنَّ خلاف أهل البيت (عليهم السلام) على الآخرين في التاريخ واستنكارهم لخلافة الأوائل، خلاف نابع من رغبات شخصيَّة لأهل البيت (عليهم السلام) - حسب اعتقاد الكاتب -، فكيف يثق الكاتب بعلوم أهل البيت (عليهم السلام)؟ وكيف يثق بفقههم ويأخذه منهم ويعمل عليه؟ وكيف يجعلهم قدوة في الأخلاق؟ وما دام يرى أنَّهم يعملون وراء مصالحهم الشخصيَّة؟ وكيف يتولَّاهم وهو يرى أنَّهم على باطل حيث يسعون وراء أنانيَّتهم ورغبات ذواتهم لا بداعي الحكم والنصِّ الشرعي الإلهي؟ فكيف يتولَّاهم ويتابعهم؟
ثمّ إنَّ اعترافه بوقوع الخلاف يناقض ما يُردِّده كراراً بأنَّ أهل البيت (عليهم السلام) لا يرون لأنفسهم الإمامة، وإذا كان علمهم حقًّا يُتَّبع فهو يقرُّ على نفسه بأنَّ إمامتهم نصٌّ من الله تعالى وإلَّا كانت علوم أهل البيت (عليهم السلام) ضلالاً. وهذا اعتراف بالحقائق التاريخيَّة التي ظلَّ الكاتب دوماً يرفضها، فإنَّ تلك الحقائق
↑صفحة ٥٥٦↑
تُلجِئه وتضطرُّه من حيث لا يشعر وهو ذاهل إلى الاعتراف بحقَّانيَّة علوم أهل البيت (عليهم السلام) واستقامة سيرتهم على الشريعة، والاعتراف بوقوع الخلاف بينهم وبين غيرهم في الخلافة وفي إمامتهم الدِّينيَّة والعلميَّة والسياسيَّة للناس. وقد ذكرت في مقالة (اقتصاد الدولة في فقه الشيعة) أنَّ الكاتب تتجاذبه رسوب الماضي وأمواج التغيير الانحرافي الجديدة.
٣ - ثمّ إنَّ الكاتب في آخر مقالته الختامية الوداعيَّة، ينصح ببناء الدولة الصحيحة الإسلاميَّة والتحرُّر من الأمراض السائدة في الوسط الاجتماعي وإرساء الحرّيَّة والعدالة و... وأنَّ الاختلاف هو في القراءة للدِّين - كما يُردِّد هذه العبارة والشعار للعلمانيِّين الجُدُد في عصرنا مع ذلك يستنكر الكاتب اتِّباعه لمنهج العلمانيِّين -، وأنَّ الاختلاف هو في فهم وقراءة الدِّين بصورة صحيحة جديدة - كما يُردِّد ذلك العلمانيُّون -، وهذه الدعوى من الكاتب هي جهل بأبسط المعطيات القانونيَّة لبناء الدولة وتأسيس الدستور، وجهل بألف باء أُصول فقه القانون وأُصول القراءة القانونيَّة، فإنَّه مع الاختلاف في القراءة كيف يتمُّ الاتِّحاد والوحدة والنهضة التي يُردِّد شعارها فضفاضاً، من دون وعي بمؤدَّاها القانوني العميق؟ ومع الاختلاف في رؤية العقيدة كيف يتَّفق في تقنين مجموعة الحقوق الكاملة التي تُعتَبر البنية التحتيَّة لبناء قوانين دستور الدولة؟ إذ قد شرحت مبسوطاً في مقالتي (نظريَّة الحكم والاجتهاد عند الشيعة) أنَّ الرؤية الاعتقاديَّة تُؤثِّر في فلسفة الحقوق، وفلسفة الحقوق تُؤثِّر على منظومة القوانين للدستور، ومن ثَمَّ الدستور سوف يُؤثِّر في بناء الدولة وهيكلها ومضمونها، وهذا من أوَّليَّات علم القانون وأدبيَّات القانون الأكاديمي، فكيف يتمُّ الاتِّحاد والوحدة في بناء الدولة الإسلاميَّة من دون الوحدة ولو النسبيَّة في العقيدة والمذهب ومن ثَمَّ في الحقوق ومن ثَمَّ في منظومة القوانين وشُعَبها؟ وهذه الدعوى أشبه بالأكل
↑صفحة ٥٥٧↑
من القفا، وأشبه ببناء الفرع من دون أصل، هذا مع أنَّ الحوار العلمي الهادئ في المذهب ليس مثار فرقة مع الوعي بوجود قواسم مشتركة عديدة.
كما أنِّي قد ذكرت للكاتب كيفيَّة تأثير الاعتقاد بالإمام الثاني عشر وبإمامة أهل البيت (عليهم السلام) في بناء الدولة، فهل هي نيابيَّة أم بالأصالة؟ تُبنى على فقه أهل البيت (عليهم السلام) أم على فقه غيرهم؟ وما هو السبب في ضرورة وصحَّة فقه أهل البيت (عليهم السلام) ليس إلَّا عصمتهم وإمامتهم الإلهيَّة، إلى غير ذلك من الأُمور التي أشرت إليها في الردود السابقة، فلاحظ.
٤ - ثمّ إنَّ هنا كلمة أخيرة أقولها للكاتب، وهي أنِّي أحترم من يخالفني في الاعتقاد ويحاور بالتزام الصدق والأمانة في المصادر ونسبة الأقوال لأصحابها وإنِ اختلف معي في الفهم وفي الإذعان والاستجابة للأدلَّة التي تُستَعرض، وإنِ اختلف معي في الإذعان لما هو حقٌّ وحقيقة، فلكلٍّ وجهة هو مولِّيها، ولكلٍّ حساب هو يُؤاخَذ به، لكن ما دام يحفظ للحوار موازينه ويحفظ الصدق والأمانة في المصادر والموادِّ المتداولة على طاولة الحوار، أمَّا من لا يحفظ ذلك، بل يغشُّ ويُدلِّس ويُزوِّر في نسبة الأقوال والمصادر، فهذا ما لا يُحتَرم ولا يُتعامَل معه بأدب الحوار، ولا أخلاقيَّة التحاور؛ لأنَّ الهدف ليس علميًّا حينئذٍ، بل الغاية الجدال والمشاغبة والضوضائيَّة والدجل والزور. كما أنَّه لا بدَّ من الالتفات إلى أنَّ الهدف من الحوار العلمي إذا كان علميًّا ليس هو الإقناع، بل تنبيه الطرف إلى الأدلَّة وعلى الحقيقة، ثمّ هو مختار ومسؤول عن رأيه وعقيدته، لكن كلَّ ذلك في ظلِّ الصدق والأمانة في موادِّ الحوار ومرحلة وطريقة البحث والانتقال من موضوع إلى آخر في منهج الحوار لا الانتقال الهوجائي من دون استكمال البحث على الموضوع السابق، فهذا علامة عدم قصد المتحاور العلميَّة من الحوار.
* * *
↑صفحة ٥٥٨↑
حُرِّر بتاريخ (٣/ ١/ ٢٠٠٠م)، (١١:٤٢) مساءً.
(جميل ٥٠) عضو:
لا عليك يا أخ (منصور) فقد انقلب السحر على الساحر، وإلَّا ما ضرّه أنْ يقف ويجيب على ما ورده من الأسئلة والاستفهامات حول منهجه العليل وفكره السقيم؟ علماً بأنَّه قد اقترح في وقت سابق أنْ لا نستعجل، وأنَّه ما من بأس في أنْ يبقى الحوار إلى ما بعد شهر رمضان المبارك الذي عاد فيه مغلولاً.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٤/ ١/ ٢٠٠٠م)، (٠١:٣٣) صباحاً.
أحمد الكاتب عضو:
الأخ محمّد منصور سامحه الله.
لم أقل أبداً بأنَّ المفيد والطوسي والكليني والصدوق والنعماني هم الذين اختلقوا نظريَّة الإمامة أو فرضيَّة وجود الإمام الثاني عشر محمّد بن الحسن العسكري لمصلحة الأموال، فقد ظهرت نظريَّة الإمامة في القرن الثاني الهجري وظهرت فرضيَّة وجود ابن للإمام العسكري في أواسط القرن الثالث، وقد آمن بها بعض الشيعة وليس كلُّهم، كما أيَّدها بعض المتكلِّمين المتأخِّرين ودافعوا عنها، وهم مجتهدون في ذلك قد يصيبون وقد يخطئون، ولسنا مكلَّفين بتقليدهم بصورة عمياء، وإنَّما يجب أنْ ننظر في كلامهم ورواياتهم ونُفكِّر ونجتهد.
ولم أقل بأنَّ رواة الشيعة بأسرهم وأجمعهم وضَّاعون للحديث، وإنَّما كان يوجد فيهم وضَّاعون، وقد لعن رسول الله الوضَّاعين من أصحابه، كما لعن أهلُ البيت الوضَّاعين من أصحابهم في حياتهم بعد مماتهم. وقد يضع بعض الكذَّابين بعض الروايات فيُصدِّقها الآخرون من البسطاء دون تحقيق.
وقد اتَّهم الشيخُ المفيد الشيخَ الصدوق بأنَّه على منهج أهل الأخبار يأخذ
↑صفحة ٥٥٩↑
بالروايات دون تحقيق كبير، وخاصَّة اعتماده على كتاب سُلَيم بن قيس الهلالي، وقال في شرح اعتقادات الصدوق (ص ٢٤٢) بأنَّ هذا رأي يضرُّ صاحبه في دينه ويمنعه المقام عليه من الاستبصار.
أمَّا اتِّهامي للنوَّاب الأربعة الذين ادَّعوا النيابة الخاصَّة فقد كان يُشكِّك بهم الشيعة في زمانهم، وكان إلى جانبهم زملاء لهم يدَّعون النيابة الخاصَّة أيضاً كالشريعي والنميري والشلمغاني، فلماذا نُكذِّب هؤلاء ونُصدِّق أُولئك؟ وعلى أيِّ أساس؟
وإذا شككنا بقول بعض الرجال الذين يروون حكايات شاذَّة وغريبة ومخالفة للظاهر ومضلَّة للناس، فهل يُعتَبر هذا قدحاً بحقِّ ملايين المؤمنين؟ وإذا كان ردُّ كلِّ رواية أو التشكيك ببعض الرواة ومخالفتهم في الفهم والاجتهاد يُعتَبر مذموماً، فما هو رأيك في من يقول: إنَّ الصحابة ارتدُّوا بعد رسول الله إلَّا بضعة نفر؟ وما هو الموقف المطلوب من عامَّة المسلمين تجاهه؟
ولماذا يُشكِّك الشيعة الإماميَّة والاثنا عشريَّة بسائر الفِرَق الشيعيَّة وخاصَّة بالواقفيَّة مع أنَّهم من كبار أصحاب الإمامين الصادق والكاظم؟ ولماذا يتَّهمونهم بمصادرة الأموال واختلاق الروايات حول مهدويَّة الكاظم؟
وما هو رأيك بالحديث المشهور عن أهل البيت: «إنَّ قُوَّامنا وخُدَّامنا من شرار خلق الله»؟
إنَّ الإخباريِّين كانوا من القديم يستنكرون على علماء الشيعة الأُصوليِّين تقسيمهم للروايات إلى صحيحة وضعيفة، ويرفضون عمليَّات الجرح والتعديل، فهل ترفض ذلك أنت أيضاً؟ وهل أنت إخباري؟
ثمّ ما علاقة البحث في نظريَّة معيَّنة ودراسة رجالها والتشكيك بصدق بعض الرواة، بالاتِّهامات الشخصيَّة العشوائيَّة والاعتباطيَّة التي سمحت
↑صفحة ٥٦٠↑
لنفسك بتوجيهها إليَّ حتَّى تتَّهمني بقبض الأموال من هذا أو ذاك وأنت لم ترَني ولم تلتقِ بي ولم تطَّلع على حياتي الشخصيَّة وأعمالي التجاريَّة والصحفيَّة؟ وما هي مصادر معلوماتك؟ وكيف عرفت أنَّ هناك من يُموِّلني؟ غير الظنون والشُّبُهات والشهوات والعواطف.
أين ما تدَّعيه من الصدق والأمانة والموضوعيَّة في اتِّهاماتك لي بأنِّي أدعو الشيعة إلى تبعيَّة الأنظمة الوضعيَّة والخضوع للولاة المتغلِّبين بالقهر والدفاع عن السلاطين ومطالبة علماء الشيعة بأنْ يكونوا أبواقاً إعلاميَّة لهم؟
هل تريد أنْ تنتقم منِّي بهذه الصورة من الكذب والافتراء والبهتان؟ أم ترى أنَّ ذلك حلال وجائز بحقِّ من يخالفك الرأي من أجل تحطيمه وإسقاطه؟ وتتشدَّق بعد ذلك بالحوار العلمي.
نعم إنَّني أعتقد أنَّ أهل البيت كانوا معتصمين بالله بقرار من أنفسهم، ولم يكونوا معصومين بقرار من خارج إرادتهم، وإلَّا لم يكن لهم فضل على الآخرين. وهذا هو الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: «إنِّي في نفسي لست بفوق أنْ أخطئ». ولكنَّك تأخذ نظريَّاتك من المتكلِّمين وتصرف النظر عن أحاديث أهل البيت أو تُفسِّرها تعسُّفاً بالتقيَّة وتدَّعي التشيُّع لهم والموالاة لهم.
إنَّ الإمام عليًّا توقَّف عن بيعة أبي بكر مدَّة من الزمن، وكان يرى نفسه أولى بالخلافة، ثمّ بايع بعد ذلك طواعية كما بايع بقيَّة الخلفاء، ولا علاقة لفقه أهل البيت وعلومهم بنظريَّات الغلاة والمتكلِّمين السياسيَّة والوهميَّة والمتطرِّفة.
وإذا كنت تريد أنْ تناقشني في نظريَّة الإمامة فيمكنك أنْ تردَّ على ما كتبته في كتاب (تطوُّر الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه)، وما ذكرته من أحاديث أئمَّة أهل البيت حول الشورى وممارستهم لها.
ورغم أنَّك ما فتئت تتحدَّث عن المصطلحات العلميَّة والأكاديميَّة
↑صفحة ٥٦١↑
والقانونيَّة والاختصاص والتخصُّص إلَّا أنَّك تخلط كثيراً في استعمال كلمة العلمانيَّة حيث تحاول لصقها بي لأنِّي دعوت إلى قبول الاختلاف في الاجتهاد واحترام القراءات المختلفة للتاريخ أو لبعض النظريَّات السياسيَّة، وعدم اعتبار كلِّ طرف وجهة نظره، وكأنَّها موحى بها إليه من الله، وخاصَّة في القضايا الاجتهاديَّة الظنّيَّة والنظريَّة.
وإذا كنت تُسمِّي ذلك علمانيَّة، فما رأيك بدعوة الرئيس الإيراني السيِّد خاتمي إلى التعدُّديَّة وقبول القراءات المختلفة للأُمور؟ هل تُسمِّيه علمانيًّا أيضاً؟
لقد استغربت كيف أدعو للوحدة الإسلاميَّة مع وجود الاختلافات بين المسلمين، وأسألك: هل تريد من الطوائف والمذاهب والأحزاب الإسلاميَّة أنْ يقاتل بعضهم بعضاً؟ بدلاً من أنْ يتَّفقوا على المبادئ المشتركة ويدعوا خلافاتهم التاريخيَّة البائدة الجزئيَّة والبسيطة جانباً؟
تقول أخيراً: إنَّك تحاول أنْ تدلَّني على الحقائق والأدلَّة، واسمح لي بالقول لك: إنِّي أُحاول أنْ أُنبِّهك إلى الشُّبُهات التي وقعت فيها، وإلى التأويلات الباطنيَّة وعقائد الغلاة المنحرفة وفرضيَّاتهم الوهميَّة، وإلى المنهج الإخباري الساذج الذي يُصدِّق بكلِّ ما روى السابقون دون تحقيق.
وأختم قولي بهذه الآية الكريمة: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ (الأنعام: ١٤٨)، ﴿وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ (النجم: ٢٨)، صدق الله العظيم.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٤/ ١/ ٢٠٠٠م)، (٠٤:٠١) صباحاً.
العاملي عضو:
↑صفحة ٥٦٢↑
الأخ أحمد الكاتب..
أوَّلاً: أُقدِّم شكري لك وللإخوة الأفاضل المشاركين في هذا الموضوع: محمّد المنصور، جميل، والفاطمي، وموسى العلي.. والأخ التلميذ وبقيَّة الأفاضل الذين شاركوا في النقاش معك.
وثانياً: لقد رجعت إلى هذه الواحة بعد سفري فتفاجأت بهذا الموضوع، ولعلَّ السبب في انسحابك كثرة المناقشين وكثرة المواضيع، التي تصفَّحت عناوينها فقط.
لذا، أقترح عليك يا أخ أحمد أنْ تعيد النظر في انسحابك لضرره عليك، وأنْ تختار موضوعاً واحداً تناقشه ولو شهرين، مع من تريد من الفضلاء الموجودين في هذه الشبكة، أو من غيرهم، حتَّى تصلا إلى نتيجة واضحة منه.
أرجو أنْ تقبل منِّي هذه النصيحة ولا تضطرُّني أنْ أقول لك يوماً:
نصحتكم نصحي بمنعرج اللوى * * * فلم تستبينوا النصح إلَّا ضحى الغد
* * *
توضيح وتعقيب على أحمد الكاتب في كلمته الختاميَّة قبل وداعه من شبكة هجر الثقافيَّة:
حُرِّر بتاريخ (٥/ ١/ ٢٠٠٠م)، (٠٦:٢٠) مساءً.
محمّد منصور عضو:
أستميح الأخ المشرف العامَّ عذراً، وكان بودِّي أنْ أكتب هذا التعقيب في واحة الحوار الاستثنائيَّة، ولكن يبدو أنَّ المشاركة فيها مغلقة، ممَّا اضطرَّني إلى كتابته في واحة أهل البيت (عليهم السلام) الإسلاميَّة.
الردُّ على الكاتب:
١ - للقارئ الكريم أنْ يرجع إلى المقالات السابقة التي كتبها أطراف
↑صفحة ٥٦٣↑
الحوار الموجودة في ساحة الشبكة والمواضع التي أشرت فيها إلى تدليس الكاتب وتسميته للفقهاء ونوَّاب الإمام بالنيابة العامَّة بأنَّهم طغاة انتهازيُّون متكبِّرون إلى غير ذلك ممَّا تقدَّم. فالمقالات والردود السابقة هي وثيقة حيَّة، وهي الشاهد الحاكم.
٢ - إذا كان الكاتب يدَّعي الاعتقاد بأنَّ أهل البيت (عليهم السلام) عصمتهم اختياريَّة، فكيف لا يعتقد بإمامتهم؟ لأنَّهم كانوا - بحسب إقراره - يرون أحقّيَّتهم بالخلافة.
وأمَّا توهُّم الكاتب أنَّ العصمة إذا كانت من الله تعالى فذلك يُسبِّب نفي الفضيلة والفضل لهم، فأُنبِّهه إلى غفلته عن مثل هذا البحث العقلي، فإنَّ البشر مثلاً أودع الله تعالى قوَّة الاختيار والإرادة في نفوسهم وذواتهم، فكون البشر - مثلاً - فاعلاً مختاراً لا فاعلاً طبيعيًّا بجبر طبيعته، بل فاعل بالإرادة، هذه الصفة في البشر ليست باختيار من البشر، بل صنع الله تعالى، ولكن كون هذه الصفة وهي صفة الاختيار ليس وجودها في البشر اختياريًّا لا ينفي عن البشر فضيلة العمل الاختياري الحسن الصالح، إذ الصفة وإنْ لم تكن اختياريَّة لكن العمل الحسن الصالح صادر منَّا بالاختيار، اختياري فيكون فضيلة لنا في الوقت الذي هو إفضال من الله تعالى، وكذلك الحال في عصمة المعصومين من الأنبياء والرُّسُل والأئمَّة، ألَا ترى إلى فضيلة النبوَّة؟ فإنَّها ليست باختيار البشر، ولكن هذه الصفة غير المادّيَّة وهي النبوَّة لا تنافي ثبوت الفضيلة للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأنبياء.
فالإفضال منه تعالى لا ينافي فضيلة الشيء للموهوب له ما دام يستعمل في الفعل الحسن والخير. ألَا ترى إلى ظاهر قوله تعالى - ولا بدَّ من الإيمان بظاهر القرآن وعدم التخلِّي عنه بذريعة وتحت شعار رفض الغلوِّ والباطنيَّة وهو تغليف للعلمانيَّة -: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ
↑صفحة ٥٦٤↑
* ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ (آل عمران: ٣٣ و٣٤)، ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ (الأحزاب: ٣٣)؟
أمَّا توهُّمك من قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة خطبها بعد تسلُّمه لمقاليد الأُمور مخاطباً الناس أوَّلها: «أمَّا بَعْدُ، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقًّا بِولَايَةِ أمْركُمْ، وَلَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقَّ مِثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ...»، إلى أنْ يقول: «ثُمَّ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْض النَّاس عَلَى بَعْضٍ، فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأ فِي وُجُوهِهَا...، وَأعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ حَقُّ الْوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَى الْوَالِي فَريضَةٌ فَرَضَهَا اللهُ سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَى كُلٍّ، فَجَعَلَهَا نِظَاماً لأُلْفَتِهِمْ...
وَلَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالاً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي، وَلَا الْتِمَاسَ إِعْظَام لِنَفْسِي، فَإنَّهُ مَن اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ. فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بحَقٍّ أوْ مَشُورَةٍ بعَدْلٍ، فَإنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ، وَلَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي» (نهج البلاغة/ الخطبة ٢١٦)، فمسرح الخطبة وكلامه عليه بما هو رئيس دولة، بما هو فعل الدولة.
ومن الواضح أنَّ فعل حكومته وفعل دولته حيث يتضمَّن جهاز دولته وحكومته وهم أفراد بشر غير معصومين فيرتكبون الخطأ، وقد تميل بهم الشهوات ميلاً، وفعل دولة المعصوم ليس من الضروري أنْ لا يقع فيه الخطأ الناشئ من الولاة ورؤساء المحافظات وأعضاء الجهاز الذي يستخدمه المعصوم، ولا يؤمن من وقوع الخطأ في فعل الدولة، أليس جيش رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي فتح مكَّة مع أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد أمر الجيش بعدم قتل أحد وعدم استخدام القوَّة إلَّا أنَّ بعض من كان على قيادة الجيش استهوته الحميَّة الجاهليَّة فقتل بعض الرجال ممَّن كانت له معهم ترات، ولكن النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تبرَّأ من ذلك الفعل، وقول
↑صفحة ٥٦٥↑
النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «اللَّهُمَّ إنِّي أتبرَّأ إليك ممَّا فعل». خطاباً لبعض من كان أرسله النبيُّ في سريَّة فقام بالقتل من دون مسوِّغ شرعي.
وأعجب من الكاتب الذي تلتبس عليه هذه الشُّبُه ولا يصغي إلى كلام عليٍّ (عليه السلام): «أنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَر بِكَلَاكِل الْعَرَبِ، وَكَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبيعَةَ وَمُضَرَ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بِالْقَرَابَةِ الْقَريبَةِ وَالمَنْزلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حِجْرهِ وَأنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ، وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ، وَلَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ.
وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَريقَ المَكَارِم وَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَم لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ.
وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيل أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْم مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً وَيَأمُرُني بِالْاِقْتِدَاءِ بِهِ. وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَلَا يَرَاهُ غَيْري. وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلَام غَيْرَ رَسُولِ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْي وَالرَّسَالَةِ وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ. وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، وَلَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ...»، إلى أنْ يقول ويذكر (عليه السلام) مجيء قريش وإظهار رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لهم المعجزة بنطق الشجرة وحركتها بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)...: «فَقُلْتُ أَنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بكَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْر اللهِ تَعَالَى تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وَإِجْلَالاً لِكَلِمَتِكَ، فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ: بَلْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ، عَجِيبُ السِّحْر خَفِيفٌ فِيهِ، وَهَلْ يُصَدَّقُكَ فِي أَمْركَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا - يَعْنُونَنِي -، وَإِنِّي لَمِنْ قَوْم لَا تَأخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ
↑صفحة ٥٦٦↑
لَائِم، سِيمَاهُمْ سِيمَا الصِّدِّيقِينَ، وَكَلَامُهُمْ كَلَامُ الْأَبْرَارِ، عُمَّارُ اللَّيْل وَمَنَارُ النَّهَارِ، مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْل الْقُرْآنِ، يُحْيُونَ سُنَنَ اللهِ وَسُنَنَ رَسُولِهِ، لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَلَا يَعْلُونَ وَلَا يَغُلُّونَ وَلَا يُفْسِدُونَ، قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ وَأَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَل» (نهج البلاغة/ الخطبة القاصعة ١٩٢).
ألَا ترى يا كاتب أنَّه (عليه السلام) يقول: «وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ، وَلَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ»؟ فهل رأيت صغير السنِّ لا يخطل ولا يكذب في قول ولو مرَّة أو مرَّات قليلة إلَّا أنْ يكون معصوماً من الخطأ؟
ويقول (عليه السلام): «أَرَى نُورَ الْوَحْي وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ...»، إلى أنْ قال له النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، وَلَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ».
فهل يمكن لغير من يُؤهَّل للعلم اللدنِّي ولرؤية الغيب أنْ يرى ما يرى الرسول ويسمع ما يسمع الرسول من الغيب والملكوت، إلَّا نفس المعصوم ذي مقام الإمامة، فمن ثَمَّ يكون وزيراً؟
ولقد روى السُّنَّة والشيعة قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) له: «أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى إلَّا أنَّك لست بنبيٍّ». وهل منزلة هارون إلَّا رؤية ما يرى موسى ويسمع ما يسمع باستثناء النبوَّة، عدم النبوَّة في عليٍّ (عليه السلام)؟
وألَا ترى أنَّه يقول (عليه السلام): «وَإِنِّي لَمِنْ قَوْم لَا تَأخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِم، سِيمَاهُمْ سِيمَا الصِّدِّيقِينَ... قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ وَأَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَل»؟ أليس الصدِّيق البالغ درجة عالية في الصدق في الفعل والقول والصفة أي المعصوم؟ ومن هو الذي قلبه في الجنان؟ أليس هو ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾ (التكاثر: ٥ و٦)؟ وهذه الآية من القرآن الذي يعتقد كلُّ مسلم ومؤمن بأنَّه كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
↑صفحة ٥٦٧↑
وقوله (عليه السلام) في خطبة (٨٧) من نهج البلاغة: «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ، وَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، وَالْأَعْلَامُ قَائِمَةٌ، وَالْآيَاتُ وَاضِحَةٌ، وَالمَنَارُ مَنْصُوبَةٌ، فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ، وَكَيْفَ تَعْمَهُونَ وَبَيْنَكُمْ عِتْرَةُ نَبِيَّكُمْ، وَهُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ، وَأَعْلَامُ الدِّين، وَأَلْسِنَةُ الصِّدْقِ، فَأنْزلُوهُمْ بِأَحْسَن مَنَازِلِ الْقُرْآنِ، وَرِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيم الْعِطَاش.
أَيُّهَا النَّاسُ، خُذُوهَا عَنْ خَاتَم النَّبِيِّينَ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إِنَّهُ يَمُوتُ مَنْ مَاتَ مِنَّا وَلَيْسَ بِمَيِّتٍ، وَيَبْلَى مَنْ بَليَ مِنَّا وَلَيْسَ بِبَالٍ، فَلَا تَقُولُوا بِمَا لَا تَعْرفُونَ، فَإنَّ أَكْثَرَ الْحَقِّ فِيمَا تُنْكِرُونَ، وَاعْذِرُوا مَنْ لَا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ - وَهُوَ أَنَا -، أَلَمْ أَعْمَلْ فِيكُمْ بِالثَّقَل الْأَكْبَر وَأَتْرُكْ فِيكُمُ الثَّقَلَ الْأَصْغَرَ!».
وقوله (عليه السلام) في الخطبة (٢) في نهج البلاغة يصف فيها آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «هُمْ مَوْضِعُ سِرِّهِ، وَلَجَأ أَمْرهِ، وَعَيْبَةُ عِلْمِهِ، وَمَوْئِلُ حُكْمِهِ، وَكُهُوفُ كُتُبِهِ، وَجِبَالُ دِينهِ، بِهِمْ أَقَامَ انْحِنَاءَ ظَهْرهِ، وَأَذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ»، ثمّ يقول عن أعدائهم: «زَرَعُوا الْفُجُورَ، وَسَقَوْهُ الْغُرُورَ، وَحَصَدُوا الثُّبُورَ، لَا يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَحَدٌ، وَلَا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أَبَداً. هُمْ أَسَاسُ الدِّين، وَعِمَادُ الْيَقِين، إِلَيْهِمْ يَفِيءُ الْغَالِي، وَبهِمْ يُلْحَقُ التَّالِي، وَلَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْولَايَةِ، وَفِيهِمُ الْوَصِيَّةُ وَالْورَاثَةُ، الْآنَ إِذْ رَجَعَ الْحَقُّ إِلَى أَهْلِهِ، وَنُقِلَ إِلَى مُنْتَقَلِهِ»، وقد خطب هذه الخطبة في عهد تسلُّمه لمقاليد الأُمور.
وقوله (عليه السلام) في الخطبة الشقشقيَّة المعروفة وهي الخطبة الثالثة في نهج البلاغة يصف فيها النصَّ الإلهي على تعيُّنه استنكاراً على من تقلَّد زمام الأُمور.
وقوله (عليه السلام) في خطبة بعد واقعة الجمل، الخطبة الرابعة في نهج البلاغة: «بِنَا اهْتَدَيْتُمْ فِي الظَّلْمَاءِ، وَتَسَنَّمْتُمْ ذُرْوَةَ الْعَلْيَاءِ، وَبنَا أَفْجَرْتُمْ عَن السِّرَارِ، وُقِرَ سَمْعٌ لَمْ يَفْقَهِ الْوَاعِيَةَ...»، إلى أنْ يقول: «الْيَوْمَ أُنْطِقُ لَكُمُ الْعَجْمَاءَ ذَاتَ الْبَيَانِ! عَزَبَ رَأيُ امْرئٍ تَخَلَّفَ عَنِّي! مَا شَكَكْتُ فِي الْحَقِّ مُذْ أُرِيتُهُ! لَمْ يُوجِسْ
↑صفحة ٥٦٨↑
مُوسَى (عليه السلام) خِيفَةً عَلَى نَفْسِهِ، بَلْ أَشْفَقَ مِنْ غَلَبَةِ الْجُهَّالِ وَدُوَلِ الضَّلَالِ! الْيَوْمَ تَوَاقَفْنَا عَلَى سَبِيل الْحَقِّ وَالْبَاطِل، مَنْ وَثِقَ بِمَاءٍ لَمْ يَظْمَأ». وفيها من التعريض وبيان الظروف التي مرَّت به.
وقوله (عليه السلام) في الخطبة الخامسة في نهج البلاغة بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «... فَإنْ أَقُلْ يَقُولُوا: حَرَصَ عَلَى المُلْكِ، وَإِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا: جَزعَ مِنَ المَوْتِ، هَيْهَاتَ بَعْدَ اللَّتَيَّا وَالَّتِي، وَاللهِ لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالمَوْتِ مِنَ الطِّفْل بِثَدْي أُمِّهِ، بَل انْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْم لَوْ بُحْتُ بِهِ لَاضْطَرَبْتُمْ اضْطِرَابَ الْأَرْشِيَةِ فِي الطَّويِّ الْبَعِيدَةِ».
وقوله (عليه السلام) في الخطبة السادسة في نهج البلاغة: «... فَوَاللهِ مَا زِلْتُ مَدْفُوعاً عَنْ حَقِّي مُسْتَأثَراً عَلَيَّ مُنْذُ قَبَضَ اللهُ نَبِيَّهُ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حَتَّى يَوْم النَّاس هَذَا».
وقوله (عليه السلام) في الخطبة (١٢) بعد الجمل: «وَلَقَدْ شَهِدَنَا فِي عَسْكَرنَا هَذَا أَقْوَامٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَام النِّسَاءِ، سَيَرْعَفُ بِهِمُ الزَّمَانُ وَيَقْوَى بِهِمُ الْإِيمَانُ...»، وهذه حكاية عن علمه اللدنِّي منه تعالى.
وقوله (عليه السلام) في الخطبة (١٦) لـمَّا بويع: «... وَاللهِ مَا كَتَمْتُ وَشْمَةً، وَلَا كَذَبْتُ كِذْبَةً، وَلَقَدْ نُبِّئْتُ بِهَذَا المَقَام وَهَذَا الْيَوْم... حَقٌّ وَبَاطِلٌ وَلِكُلٍّ أَهْلٌ، فَلَئِنْ أَمِرَ الْبَاطِلُ لَقَدِيماً فَعَلَ، وَلَئِنْ قَلَّ الْحَقُّ فَلَرُبَّمَا وَلَعَلَّ وَلَقَلَّمَا أَدْبَرَ شَيْءٌ فَأَقْبَلَ».
وقوله (عليه السلام) في الخطبة (٢١٧) من نهج البلاغة في التظلُّم من قريش: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَمَنْ أَعَانَهُمْ، فَإنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي، وَأَكْفَئُوا إِنَائِي، وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقًّا كُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْري، وَقَالُوا: أَلَا إِنَّ فِي الْحَقَّ أَنْ تَأخُذَهُ وَفِي الْحَقَّ أَنْ تُمْنَعَهُ، فَاصْبِرْ مَغْمُوماً أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً، فَنَظَرْتُ فَإذَا لَيْسَ لِي رَافِدٌ وَلَا ذَابٌّ وَلَا مُسَاعِدٌ إِلَّا أَهْلَ بَيْتِي، فَضَنَنْتُ بِهِمْ عَن المَنِيَّةِ، فَأَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذَى، وَجَرعْتُ رِيقِي عَلَى الشَّجَا، وَصَبَرْتُ مِنْ كَظْم الْغَيْظِ عَلَى أَمَرَّ مِنَ الْعَلْقَم، وَآلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ وَخْز الشِّفَارِ».
↑صفحة ٥٦٩↑
وقوله (عليه السلام) في الخطبة (٢٣٩) من نهج البلاغة يذكر فيها آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «هُمْ عَيْشُ الْعِلْم وَمَوْتُ الْجَهْل، يُخْبِرُكُمْ حِلْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ، وَظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنهِمْ، وَصَمْتُهُمْ عَنْ حِكَم مَنْطِقِهِمْ، لَا يُخَالِفُونَ الْحَقَّ وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَهُمْ دَعَائِمُ الْإِسْلَام، وَوَلَائِجُ الْاِعْتِصَام، بِهِمْ عَادَ الْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ، وَانْزَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ مُقَامِهِ، وَانْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ مَنْبِتِهِ، عَقَلُوا الدَّينَ عَقْلَ وِعَايَةٍ وَرِعَايَةٍ لَا عَقْلَ سَمَاع وَرِوَايَةٍ، فَإنَّ رُوَاةَ الْعِلْم كَثِيرٌ وَرُعَاتَهُ قَلِيلٌ».
وقوله (عليه السلام) في الخطبة (٣٣) في نهج البلاغة عند خروجه لقتال أهل الجمل: «... مَا لِي وَلِقُرَيْشٍ، وَاللهِ لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ كَافِرينَ وَلَاُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونينَ، وَإِنِّي لَصَاحِبُهُمْ بِالْأَمْس كَمَا أَنَا صَاحِبُهُمُ الْيَوْمَ، وَاللهِ مَا تَنْقِمُ مِنَّا قُرَيْشٌ إِلَّا أَنَّ اللهَ اخْتَارَنَا عَلَيْهِمْ فَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي حَيَّزنَا».
وقوله (عليه السلام) في الخطبة (٧٠) في نهج البلاغة في سحر اليوم الذي ضُرِبَ فيه: «مَلَكَتْنِي عَيْني وَأَنَا جَالِسٌ، فَسَنَحَ لِي رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا ذَا لَقِيتُ مِنْ أُمَّتِكَ مِنَ الْأَوَدِ وَاللَّدَدِ؟ فَقَالَ: ادْعُ عَلَيْهِمْ، فَقُلْتُ: أَبْدَلَنِي اللهُ بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ، وَأَبْدَلَهُمْ بِي شَرًّا لَهُمْ مِنِّي».
وقوله (عليه السلام) في الخطبة (٩٧) في نهج البلاغة: «... انْظُرُوا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيَّكُمْ فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ وَاتَّبِعُوا أَثَرَهُمْ، فَلَنْ يُخْرجُوكُمْ مِنْ هُدًى، وَلَنْ يُعِيدُوكُمْ فِي رَدًى، فَإنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا، وَإِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا، وَلَا تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا، وَلَا تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا...».
وقوله (عليه السلام) في قصار الحِكَم (١٤٧) في نهج البلاغة: «... اللَّهُمَّ بَلَى لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِم لِلهِ بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيَّنَاتُهُ، وَكَمْ ذَا وَأَيْنَ أُولَئِكَ، أُولَئِكَ وَاللهِ الْأَقَلُّونَ عَدَداً، وَالْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللهِ قَدْراً، يَحْفَظُ اللهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَبَيَّنَاتِهِ، حَتَّى يُودِعُوهَا
↑صفحة ٥٧٠↑
نُظَرَاءَهُمْ وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ، هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ، وَبَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِين، وَاسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ المُتْرَفُونَ، وَأَنسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ، وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالمَحَلِّ الْأَعْلَى، أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللهِ فِي أَرْضِهِ، وَالدُّعَاةُ إِلَى دِينهِ، آهِ آهِ شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِهِمْ، انْصَرفْ يَا كُمَيْلُ إِذَا شِئْتَ».
وفيها بيان أنَّ الأئمَّة بعضهم في العَلَن مشهورٌ، وبعضهم مغمورٌ.
ستار الغيبة، أي ستر الهوية وعدم التمييز وإنْ كانوا موجودين محسوسين.
ولاحظ خُطَبه في نهج البلاغة رقم (١٠٠) و(١٧٥) و(٩٣) و(١٤٠) و(١٢٠) و(١٩٠) و(٢٢٤) و(٧١) و(١٤٧) و(٢٤٠) و(٣٧)، وكُتُبه في نهج البلاغة رقم (٦٢) و(٢٨)، وقصار حِكَمه رقم (١١٢)، وغيرها ممَّا يجدها المتتبِّع وقد رواها علماء الإماميَّة في غير نهج البلاغة كالكافي وكُتُب الصدوق والطوسي والنعماني، فلاحظ.
٣ - لا ينقضي ذهول الكاتب، فها هو ينفي العلاقة بين علوم أهل البيت (عليهم السلام) وصحَّة أقوالهم أو خطئهم أي عصمتهم العلميَّة والعمليَّة، والعجيب أنَّه يرفع شعار رفض مسلك الحشويَّة والإخباريَّة ومع ذلك ينهج مسكلهم في هذا الموضع في وجه حجّيَّة الأخذ من علوم أهل البيت (عليهم السلام) واتِّباع فقههم، فهل يكفي التحقُّق من سند الروايات الصادرة عنهم من دون فهم وإلمام بوجه حجّيَّة أقوال أهل البيت (عليهم السلام)؟ هل وجه حجّيَّة أقوالهم لأنَّهم معصومون علماً وعملاً أو لأنَّهم رواة ثقات أو لأنَّهم فقهاء مجتهدون؟ فعلى النظرين الأخيرين يتساوون مع غيرهم، فلا مجال للتخصيص القولي بهم وتخصيص أخذ العلم منهم واتِّباع فقههم فهم والبقيَّة سواء.
والعجب من الكاتب يتمنَّى البحث في سند الرواية من دون أنْ يبحث في
↑صفحة ٥٧١↑
وجه حجّيَّة القول المروي في الرواية، أي وجه حجّيَّة أقوال أهل البيت (عليهم السلام)، أليس التعامي عن هذا حشويَّة مفرطة، أم هو نهج علمي؟ فكيف ينفي العلاقة بين وجه حجّيَّة علمهم وفقههم مع صوابهم وعدم خطئهم أي عصمتهم؟ أليس التنظير القانوني الشرعي للخلافة يستمدُّ من العلم بالشرع المبين والفقه الشرعي الصحيح أم لا؟
٤ - ثمّ إنَّ الكاتب يعترف بأنَّ أهل البيت (عليهم السلام) كانوا يرون لأنفسهم الأولويَّة في الحكم، فهل هذه الأولويَّة من الله تعالى ومن شرع الله وعلى ذلك فلا مسرح للانتخاب، أم أنَّ ما كان يراه عليٌّ وأهل البيت (عليهم السلام) لأنفسهم من الأولويَّة أمر جزاف باطل وعلى ذلك فليسوا معتصمين بالله بل بالباطل - والعياذ بالله -؟
٥ - يعاود الكاتب تخيُّله وحدة معنى الاجتهاد عند الشيعة والاجتهاد عند السُّنَّة، والحكم موكول لأهل الاختصاص ليضحكوا من هذا الخيال.
٦ - أمَّا تشكيكي في جدّيَّة وصدق دعوة الكاتب إلى الوحدة الإسلاميَّة، فلأنَّه يدعو إلى الوحدة على أساس ترك التراث الإسلامي الفقهي العقائدي والبحث عن قراءة حسّيَّة غربيَّة جديدة تؤمن ببعض الكتاب العزيز وتجحد ببعضه الآخر تحت الشعار المغلَّف برفض الغلوِّ والباطنيَّة، فبعض ظاهر الكتاب يُجحَد تحت شعار رفض الغلوِّ. ويُسمِّي التراث الإسلامي تاريخاً بائداً جزئيًّا وبسيطاً، في حين أنَّ فقه المذاهب الخمسة يكفل أدنى درجات وحدة الصفِّ السياسي والاتِّحاد الاجتماعي في صفوف المسلمين من دون أنْ يمنع الحوار الصادق الجادَّ المذهبي تحت الشعار المغلَّف برفض التقاتل بين المسلمين، وهل الحوار العلمي الحقيقي في عقليَّة الشرِّ تساوي الغابات والحيوانيَّة، أم هو تشاور ومشورة في مداولة وفحص عمَّا هو حقٌّ؟ والكاتب يرفع هذا الشعار وينقضه،
↑صفحة ٥٧٢↑
يبرمه وينسفه، وهلمَّ جرًّا دواليك يكمكم الأفكار ويدعو إلى الصمم في حين يرفع راية التحرُّر إلى الحسِّ والحداثة الغربيَّة.
وإنِّي إذ أنسبه إلى العلمانيَّة لا أُريد من ذلك أنَّه منظِّر في الفكر والقانونيَّة العلمانيَّة الإسلاميَّة، فهو ليس بذلك المستوى العلمي الذي يُؤهِّله إلى ذلك، وإنَّما أُريد أنَّه من هواة العلمانيَّة. كما أنِّي أستغرب من رفعه راية تمحيص أسانيد الروايات وهو لا يُتقِن أبسط موازين علم الرجال والدراية، مضافاً إلى خبطه في موازين علم أُصول الفقه، أي علم موازين القراءة القانونيَّة.
* * *
حُرِّر بتاريخ (٩/ ١/ ٢٠٠٠م)، (٠٢:٤٦) مساءً.
عليّ العلوي عضو:
السلام عليكم..
الأخ العزيز محمّد منصور حفظه الله..
رحم الله والديك وجعلك الله من أنصار الحجَّة القائم (أرواحنا لمقدمه الفداء).
لقد نوَّرتنا ورددت بكلِّ قوَّة ونزاهة على كلِّ التخرُّصات التي أُثيرت.
بارك الله فيك.
والحمد لله ربِّ العالمين.
* * *
↑صفحة ٥٧٣↑