موسوعة الإمام المهدي (عليه السلام)
الكتاب الأول: تاريخ الغيبة الصغرى
يتكفّل بالبحث والتحليل، بأُسلوب جديد وعميق، تاريخ الإمامين العسكريين والإمام المهدي (عليه السلام) وسُفرائه في غيبته الصُغرى
تأليف: محمد الصدر
الفهرس
كلمة مكتبة الرسول الأعظم
الإهداء
بحث حول المهدي
هذا الكتاب
مقدمة في نقاط الضعف في التاريخ الإسلامي
القسم الأول: تاريخ الإمامين العسكريين
الفصل الأول: في عصرهما (عليهما السلام)
الفصل الثاني: تاريخ الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)
الفصل الثالث: تاريخ الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السلام)
الفصل الرابع: في تاريخ الإمام المهدي (عليه السلام) في حياة أبيه
القسم الثاني: تاريخ الغيبة الصغرى
تمهيد: في تحديد الغيبة الصغرى
الفصل الأول: في التاريخ العام لهذه الفترة
الفصل الثاني: الاتجاهات العامة في هذه الفترة
الفصل الثالث: السفراء الأربعة، حياتهم ونشاطهم
القسم الأول: في تراجم السفراء الأربعة
القسم الثاني: في نشاط السفراء
الفصل الرابع: السفارات المزوَّرة عن المهدي (عليه السلام)
الفصل الخامس: الإمام المهدي، حياته ونشاطه
الحقل الأول: حياة المهدي (عليه السلام) الخاصة
الحقل الثاني: محاولة السلطات القبض عليه
الحقل الثالث: مقابلته للآخرين
الحقل الرابع: تصرُّفه في الأمور المالية
الحقل الخامس: حلُّه للمشكلات العامة والخاصة
الحقل السادس: تعينه لوكلاء متعدِّدين غير السفراء الأربعة
الحقل السابع: إعلانه انتهاء السفارة وبدء الغيبة الكبرى
أهم مصادر هذا التاريخ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصلاة على أشرف الخلق محمد وآله الطاهرين
كلمة الدار
من دواعي الاعتزاز أن تثابر "دار التعارف للمطبوعات"، بوعي وإيمان، وجَلَد وحزم، في أداء رسالتها الثقافية الإسلامية بعطاء ناضج، وأقلام كفوءة حية، ومحلولات فكرية جريئة، تنسجم وطبيعة الظروف المعاشة لواقعنا الإسلامي.
والآن، وفي امتداد ذلك الخط الذي رسمته مكتبتنا لنفسها في تبليغ أهدافها ودعوتها، نقدّم للقرَّاء الكرام كتاباً جديداً، يعالج موضوعاً حسَّاساً، من أشد المواضيع صلة بحياتنا الفكرية والتاريخية، ومن أبرزها أهمية في كيان المجتمع من حيث بنائه الفكري والتاريخي.
ولمَّا كانت قضية الإمام المهدي من القضايا الفكرية الحسَّاسة في الإسلام، التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالجانب العقيدي من تفكيرنا الإسلامي؛ بالنظر إلى ما أُثير حولها من علامات الاستفهام ومن الشكوك الكثيرة، التي انطلقت لتناقش هذه العقيدة وتحاكمها على ما تحسبه علماً وتحليلاً واجتهاداً.
لذلك شعرت " دار التعارف " بالحاجة إلى أن تُقدِّم للقرَّاء هذا الكتاب، الذي يحاول أن يعالج الفكرة ويؤرِّخ لها ويدفع الشبهات عنها، لتعود ـ كما هي في واقعها الأصلي ـ حقيقة ناصعة في أفكار الجيل المعاصر، الذي يعيش القلق والحيرة والتطلُّع نحو المصلح المنتظر، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
أمَّا قلم الكاتب، فهو من الأقلام الإسلامية التي أعطت الفكر الإسلامي وأغنته بالكثير من الأبحاث والأحاديث الرائعة. وقد عرفه القرَّاء في أكثر من كتاب، وفي أكثر من بحث، كاتباً واعياً يعيش الإسلام فكراً وأسلوباً وحياة.
ونحن على ثقة بأن هذا الكتاب سوف يؤكِّد بنفسه على أنه يحمل بين أضلاعه فكراً ومادةً، ومنهجاً وأسلوباً، وحتماً سوف ينال رضا القرَّاء وإعجابهم.
وأملنا بالله سبحانه أن نكون قد وفِّقنا إلى حسن الاختيار، وأداء الرسالة.. ومنه نستمد التوفيق.
سيدي ومولاي ومولى المؤمنين، بقية الله في أرضه، والمذخور لنشر عدله في بريَّته.. الحجة بن الحسن المهدي (عليه السلام).
أرفع إلى مقامك السامي.. بكل خشوع.. هذا المجهود المتواضع.. عسى أن يخدم ـ بما بذلت فيه من مجهود ـ قضيتك الكبرى، التي كنتَ ولا زلتَ وستبقى، الرائد الأول لرفع رايتها، وغرس بذرتها، وجني ثمارها.
وغاية أمله ـ يا سيدي ـ وفخره.. أن يحظى منك بنظرة رحمة، ولمسة دعاء.. وأن تراه عملاً خالصاً مخلصاً، نقياً من شوائب الانحراف.. وخطوة موفقة لانتظار مستقبلك.. مستقبل الإسلام.. حين تملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
المؤلِّف
مقدمة تفضل بها سماحة سيدنا الاستاذ آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر دام ظله الشريف تبريكاً لهذه الموسوعة الشريفة.
(ونُريدُ أن نَمُنَّ على الَّذينَ استُضعِفُوا في الأرضِ وَنَجْعَلَهُم أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين)(١)
التمهيد:
ليس المهدي تجسيداً لعقيدة إسلامية ذات طابع ديني فحسب، بل هو عنوان لطموح اتجهت إليه البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها، وصياغة لإلهام فطري، أدرك الناس من خلاله ـ على الرغم من تنوع عقائدهم ووسائلهم إلى الغيب ـ أن للإنسانية يوماً موعوداً على الأرض.
تحقق فيه رسالات السماء بمغزاها الكبير، وهدفها النهائي، وتجد فيه المسيرة المكدودة للإنسان على مرِّ التاريخ استقرارها وطمأنينتها، وبعد عناءٍ طويل. بل لم يقتصر الشعور بهذا اليوم الغيبي والمستقبل المنتظر على المؤمنين دينياً بالغيب، بل امتدَّ على غيرهم أيضاً وانعكس حتى على أشدِّ الأيديولوجيات والاتجاهات العقائدية رفضاً للغيب والغيبيات، كالمادية الجدلية التي فسَّرت التاريخ على أساس التناقضات، وآمنت بيوم موعود، تصفى فيه كل التناقضات ويسود فيه الوئام والسلام.
وهكذا نجد أن التجربة النفسية لهذا الشعور التي مارستها الإنسانية على مر الزمن، من أوسع التجارب النفسية وأكثرها عموماً بين أفراد الإنسان.
وحينما يدعم الدين هذا الشعور النفسي العام، ويؤكِّد أن الأرض في نهاية المطاف ستمتلأ قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً، يعطي لذلك الشعور قيمته الموضوعية ويحوله إلى إيمان حاسم بمستقبل المسيرة الإنسانية، وهذا الإيمان ليس مجرد مصدر للسلوة والعزاء فحسب، بل مصدر عطاء وقوة، فهو مصدر عطاء، لأن الإيمان بالمهدي إيمان برفض الظلم والجور حتى وهو يسود الدنيا كلها، وهو مصدر قوة ودفع لا تنضب، لأنه بصيص نور يقاوم اليأس في نفس الإنسان، ويحافظ على الأمل المشتعل في صدره مهما ادلهمَّت الخطوب وتعملق الظلم، لأن اليوم الموعود، يثبت إن بإمكان العدل أن يواجه عالماً مليئاً بالظلم والجور فيزعزع ما فيه من أركان الظلم، ويقيم بناءه من جديد، وإن الظلم مهما تجبَّر وامتدَّ في أرجاء العالم وسيطر على مقدراته، فهو حالة طبيعية، ولابد أن ينهزم، وتلك الهزيمة الكبرى المحتومة للظلم وهو في قمة مجده، تضع الأمل كبيراً أمام كل فرد مظلوم، وكل أمة مظلومة في القدرة على تغير الميزان وإعادة البناء.
وإذا كانت فكرة المهدي أقدم من الإسلام وأوسع منه، فإن معالمها التفصيلية التي حددها الإسلام جاءت أكثر إشباعاً لكل الطموحات التي أنشدت إلى هذه الفكرة منذ فجر التاريخ الديني، وأغنى عطاءً وأقوى إثارةً لأحاسيس المظلومين والمعذبين على مرِّ التاريخ وذلك لأن الإسلام حوَّل الفكرة من غيب إلى واقع، ومن مستقبل إلى حاضر، ومن التطلع إلى منقذ تتمخض عنه الدنيا في المستقبل البعيد، المجهول إلى الإيمان بوجود المنقذ فعلاً، وتطلعه مع المتطلعين إلى اليوم الموعود، واكتمال كل الظروف التي تسمح له بممارسة دوره العظيم، فلم يعد المهدي (عليه السلام) فكرةً ننتظر ولادتها، ونبوءةً نتطلع إلى مصداقها، بل واقعاً قائماً ننتظر فاعليته وإنساناً معيناً يعيش بيننا بلحمه ودمه نراه ويرانا، ويعيش مع آمالنا وآلامنا ويشاركنا أحزاننا وأفراحنا، ويشهد كل ما تزخر به الساحة على وجه الأرض من عذاب المعذبين وبؤس البائسين وظلم الظالمين، ويكتوي بكل ذلك من قريب أو بعيد، وينتظر بلهفة اللحظة التي يتاح له فيها أن يمدَّ يده إلى كل مظلوم وكل محروم، وكل بائس ويقطع دابر الظالمين.
وقد قدِّر لهذا القائد المنظر أن لا يعلن عن نفسه، ولا يكشف للآخرين حياته على الرغم من إنه يعيش معهم انتظاراً للحظة الموعودة.
ومن الواضح أن الفكرة بهذه المعالم الإسلامية، تقرّب الهوة الغيبية بين المظلومين كل المظلومين، والمنقذ المنظر وتجعل الجسر بينهم وبينه في شعورهم النفسي قصيراً مهما طال الانتظار.
ونحن حينما يراد منها أن نؤمن بفكرة المهدي بوصفها تعبيراً، عن إنسان حي محدد يعيش فعلاً كما نعيش ويترقب كما نترقب، يراد الإيحاء إلينا بأن فكرة الرفض المطلق لكل ظلم وجور التي يمثلها المهدي، تجسَّدت فعلاً في القائد الرافض المنتظر، الذي سيظهر وليس في عنقه بيعة لظالم كما في الحديث، وإن الإيمان به إيمان بهذا الرفض الحي القائم فعلاً ومواكبة له.
وقد ورد في الأحاديث الحث المتواصل على انتظار الفرج، ومطالبة المؤمنين بالمهدي أن يكونوا بانتظاره، وفي ذلك تحقيق لتلك الرابطة الروحية، والصلة الوجدانية بينهم وبين القائد الرافض، وكل ما يرمز إليه من قيم، وهي رابطة وصلة ليس بالإمكان إيجادها ما لم يكن المهدي قد تجسَّد فعلاً في إنسان حي معاصر.
وهذا نلاحظ إن هذا التجسيد أعطى الفكرة زخماً جديداً، وجعل منها مصدر عطاءٍ وقوة بدرجة أكبر، إضافة إلى ما يجده أي إنسان رافض من سلوة وعزاء وتخفيف لما يقاسيه من آلام الظلم والحرمان، حين يحس إن إمامه وقائده يشاركه هذه الآلام ويتحسَّس بها فعلاً بحكم كونه إنساناً معاصراً، يعيش معه وليس مجرد فكرة مستقبلية.
ولكن التجسيد المذكور أدى في نفس الوقت إلى مواقف سلبية تجاه فكرة المهدي نفسها، لدى عدد من الناس الذين صعب عليهم أن يتصوروا ذلك ويفترضوه.
فهم يتساءلون! إذا كان المهدي يعبر عن إنسان حي، عاصر كل هذه الأجيال المتعاقبة منذ أكثر من عشرة قرون، وسيظل يعاصر إمداداتها إلى أن يظهر على الساحة، فكيف تأتى لهذا الإنسان أن يعيش هذا العمر الطويل، وينجو من قوانين الطبيعة التي تفرض على كل إنسان أن يمر بمرحلة الشيخوخة والهرم، في وقت سابق على ذلك جداً وتؤدي به تلك المرحلة طبيعياً إلى الموت، أو ليس ذلك مستحيلاً من الناحية الواقعية؟
ويتساءلون أيضاً! لماذا كل هذا الحرص من الله سبحانه وتعالى على هذا الإنسان بالذات، فتعطل من أجله القوانين الطبيعية، ويفعل المستحيل لإطالة عمره والاحتفاظ به لليوم الموعود، فهل عقمت البشرية عن إنتاج القادة الأكفاء؟ ولماذا لا يترك اليوم الموعود لقائد يولد مع فجر ذلك اليوم، وينمو كما ينمو الناس، ويمارس دوره بالتدريج حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً؟
ويتساءلون أيضاً! إذا كان المهدي اسماً لشخص محدَّد هو ابن الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذي ولد سنة ٢٥٦ هـ، وتوفي أبوه سنة ٢٦٠ هـ، فهذا يعني أنه كان طفلاً صغيراً عند موت أبيه، لا يتجاوز خمس سنوات، وهي سن لا تكفي للمرور بمرحلة إعداد فكري وديني كامل على يد أبيه، فكيف وبأي طريقة يكتمل إعداد هذا الشخص لممارسة دوره الكبير، دينياً وفكرياً وعلمياً؟
ويتساءلون أيضاً؟ إذا كان القائد جاهزاً فلماذا كل هذا الانتظار الطويل مئات السنين؟ أو ليس في ما شهده العالم من المحن والكوارث الاجتماعية ما يبرِّر بروزه على الساحة وإقامة العدل على الأرض؟
ويتساءلون أيضاً!! كيف نستطيع أن نؤمن بوجود المهدي، حتى لو افترضنا أن هذا ممكن؟ وهل يسوغ لإنسان أن يعتقد بصحة فرضية من هذا القبيل دون أن يقوم عليها دليل علمي أو شرعي قاطع؟ وهل تكفي بضع روايات تنقل عن النبي (صلى الله عليه وآله) لا نعلم مدى صحتها للتسليم بالفرضية المذكورة؟
ويتساءلون أيضاً بالنسبة إلى ما أعدَّ له هذا الفرد من دور في اليوم الموعود!!... كيف يمكن أن يكون للفرد هذا الدور العظيم الحاسم في حياة العالم، مع أن الفرد مهما كان عظيماً لا يمكنه أن يصنع بنفسه التاريخ، ويدخل به مرحلة جديدة، وإنما تختمر بذور الحركة التاريخية وجذوتها في الظروف الموضوعية وتناقضاتها، وعظمة الفرد هي التي ترشحه لكي يشكل الواجهة لتلك الظروف الموضوعية، والتغيير العملي عما تتطلبه من حلول؟
ويتساءلون أيضاً!! ما هي الطريقة التي يمكن أن يتصور من خلالها ما سيتمُّ على يد ذلك الفرد من تحول هائل وانتصار حاسم للعدل ورسالة العدل على كل كيانات الظلم والجور والطغيان، على الرغم مما تملك من سلطان ونفوذ، وما يتواجد لديها من وسائل الدمار والتدمير وما وصلت إليه من المستوى الهائل في الإمكانات العلمية والقدرة السياسية والاجتماعية والعسكرية.
هذه أسئلة قد تردد في هذا المجال وتقال بشكل وآخر، وليست البواعث الحقيقية لهذه الأسئلة فكرية فحسب، بل هناك مصدر نفسي لها أيضاً، وهو الشعور بهيبة الواقع المسيطر عالمياً وضآلة أي فرصة لتغييره من الجذور، وبقدر ما يبعثه الواقع الذي يسود العالم على مرِّ الزمن من هذا الشعور تتعمق الشكوك وتترادف التساؤلات. وهكذا تؤدي بالهزيمة والضآلة والشعور بالضعف لدى الإنسان، إلى أن يحسَّ نفسياً بإرهاق شديد لمجرد تصور عملية التغيير بالكبرى للعالم التي تفرغه من كل تناقضاته ومظالمه التاريخية، وتعطيه محتوىً جديداً قائماً على أساس الحق والعدل، وهذا الإرهاق يدعوه إلى التشكك في هذه الصورة ومحاولة رفضها لسبب وآخر.
ونحن الآن نأخذ التساؤلات السابقة تباعاً، لنقف عند كل واحد منها وقفة قصيرة بالقدر الذي تتسع له هذه الوريقات.
اولاً ـ كيف تأتّى للمهدي هذا العمر الطويل؟
وبكلمة أخرى هل بالإمكان أن يعيش الإنسان قروناً كثيرة كما هو المفترض في هذا القائد المنتظر لتغيير بالعالم، الذي يبلغ عمره الشريف فعلاً أكثر من ألف ومائة وأربعين سنة، أي حوالي ١٤ مرة من عمر الإنسان الاعتيادي الذي يمرُّ بكل المراحل الاعتيادية من الطفولة إلى الشيخوخة؟
وكلمة الإمكان هنا تعني أحد ثلاثة معانٍ، الإمكان العملي، والإمكان العلمي، والإمكان المنطقي أو الفلسفي، وأقصد بالإمكان العملي، أن يكون الشيء ممكناً على نحو يتاح لي أو لك، أو لإنسان آخر فعلاً أن يحققه، فالسفر عبر المحيط، والوصول إلى قاع البحر، والصعود إلى القمر، أشياء أصبح لها إمكان عملي فعلاً، فهناك من يمارس هذه الأشياء فعلاً بشكل وآخر.
وأقصد بالإمكان العلمي، أن هناك أشياء قد لا يكون بالإمكان عملياً لي أو لك، أن نمارسها فعلاً بوسائل المدنية المعاصرة، ولكن لا يوجد لدى العلم ولا تشير اتجاهاته المتحركة إلى ما يبرر رفض إمكان هذه الأشياء ووقوعها وفقاً لظروف ووسائل خاصة، فصعود الإنسان إلى كوكب الزهرة لا يوجد في العلم ما يرفض وقوعه، بل إن اتجاهاته القائمة فعلاً تشير إلى إمكان ذلك وإن لم يكن الصعود فعلاً ميسوراً لي أو لك، أن الفارق بين الصعود إلى الزهرة والصعود إلى القمر ليس إلا فراق درجة، ولا يمثل الصعود إلى الزهرة إلا مرحلة تذليل الصعاب الإضافية التي تنشأ من كون المسافة أبعد، فالصعود إلى الزهرة ممكن عملياً وإن لم يكن ممكناً عملياً فعلاً. وعلى العكس من ذلك الصعود إلى قرص الشمس في بكبد السماء فإنه غير ممكن علمياً، بمعنى إن العلم لا أمل له في وقوع ذلك إذا لا يتصور علمياً وتجريبياً إمكانية صنع ذلك الدرع الواقي من الاحتراق بحرارة الشمس، التي تمثل آتواناً هائلاً مستعراً بأعلى درجة تخطر على بال إنسان.
وأقصد بالإمكان المنطقي أو الفلسفي أن لا يوجد لدى العقل وفق ما يدركه من قوانين قبلية ـ أي سابقة على التجربة ـ ما يبرر رفض الشيء والحكم باستحالته.
فوجود ثلاث برتقالات تنقسم بالتساوي وبدون كسر إلى نصفين ليس له إمكان منطقي، لأن العقل يدرك ـ قبل أن يمارس أي تجربة ـ أن الثلاثة عدد فردي وليس زوجاً، فلا يمكن أن تنقسم بالتساوي لأن انقسامها بالتساوي يعني كونها زوجاً فتكون فرداً وزوجاً في وقت واحد وهذا تناقض، والتناقض ومستحيل منطقياً. ولكن دخول الإنسان في النار دون أن يحترق وصعوده للشمس دون أن تحرقه الشمس بحرارتها ليس مستحيلاً من الناحية المنطقية إذ لا تناقض في افتراض أن الحرارة لا تتسرب من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة، وإنما هو مخالف للتجربة التي أثبتت تسرب الحرارة من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة إلى أن يتساوى الجسمان في الحرارة.
وهكذا نعرف أن الإمكان المنطقي أوسع دائرة من الإمكان العلمي، وهذا أوسع دائرة من الإمكان العلمي، هذا أوسع دائرة من الإمكان العملي.
ولا شكّ في إن امتداد عمر الإنسان آلاف بالسنين ممكن منطقياً، لأن ذلك ليس مستحيلاً من وجهة نظر عقلية تجريدية، ولا يوجد في افتراض من هذا القبيل أي تناقض، لأن الحياة كمفهوم لا تستبطن الموت السريع ولا نقاش في ذلك.
كما لا شك أيضاً ولا نقاش في أن هذا العمر الطويل ليس ممكناً إمكاناً عملياً على نحو الإمكانات العملية للنزول إلى قاع البحر أو الصعود إلى القمر، ذلك لأن العلم بوسائله وأدواته الحاضرة فعلاً، والمتاحة من خلال التجربة البشرية المعاصرة، لا تستطيع أن تمدد عمر الإنسان مئات السنين، ولهذا نجد أن أكثر الناس حرصاً على الحياة وقدرة على تسخير إمكانات العلم، لا يتاح لها من العمر إلا بقدر ما هو مألوف.
وأما الإمكان العلمي فلا يوجد علمياً اليوم ما يبرر رفض ذلك من الناحية النظرية. وهذا بحث يتصل في الحقيقة بنوعية التفسير الفسلجي لظاهرة الشيخوخة والهرم لدى الإنسان، فهل تعبّر هذه الظاهرة عن قانون طبيعي يفرض على أنسجة جسم الإنسان وخلاياه بعد أن تبلغ قمة نموها أن تتصلب بالتدريج وتصبح أقل كفاءة للاستمرار في العمل، إلى أن تتعطل في لحظة معينة، حتى لو عزلناها عن تأثير أي عامل خارجي، أو أن هذا التصلب وهذا التناقص في كفاءة الأنسجة والخلايا الجسمية للقيام بأدوارها الفسيولوجية نتيجة صراع مع عوامل خارجية كالميكروبات أو التسمم الذي يتسرب على الجسم من خلال ما يتناوله من غذاء مكثف، أو ما يقوم به من عمل مكثف أو أي عامل آخر؟
وهذا سؤال يطرحه العلم اليوم على نفسه، وهو جاد في الإجابة عليه، ولا يزال للسؤال أكثر من جواب على الصعيد العلمي. فإذا أخذنا بوجهة النظر العلمية التي تتجه إلى تفسير الشيخوخة والضعف الهرمي، بوصفه نتيجة صراع واحتكاك مع مؤثرات خارجية معينة فهذا يعني أن بالإمكان نظرياً، إذا عزلت الأنسجة التي يتكون منها جسم الإنسان عن تلك المؤثرات المعينة أن تمتد بها الحياة وتتجاوز ظاهرة الشيخوخة وتتغلب عليها نهائياً.
وإذا أخذنا بوجهة النظر الأخرى التي تميل إلى افتراض الشيخوخة قانوناً طبيعياً للخلايا والأنسجة الحية نفسها بمعنى أنها تحمل في أحشائها بذرة فنائها المحتوم، مروراً بمرحلة الهرم والشيخوخة وانتهاءً بالموت.
أقول: إذا أخذنا بوجهة النظر هذه فليس معنى هذا عدم افتراض أي مرونة في هذا القانون الطبيعي، بل هو على افتراض وجوده قانون مرن، لأننا نجد في حياتنا الاعتيادية ولأن العلماء يشاهدون في مختبراتهم العلمية أن الشيخوخة كظاهرة فسيولوجية، لا زمنية قد تأتي مبكرة وقد تتأخر ولا تظهر إلا في فترة متأخرة، حتى أن الرجل قد يكون طاعناً في السن ولكنه يملك أعضاء لينة ولا تبدو عليه أعراض الشيخوخة كما نص على ذلك الأطباء. بل إن العلماء استطاعوا عملياً أن يستفيدوا من مرونة ذلك القانون الطبيعي المفترض، فأطالوا عمر بعض الحيوانات مئات المرات بالنسبة على أعمارها الطبيعية، وذلك بخلق ظروف وعوامل تؤجل فاعلية قانون الشيخوخة.
وبهذا يثبت علمياً أن تأجيل هذا القانون بخلق ظروف وعوامل معينة أمر ممكن علمياً، ولئن لم يتح للعلم أن يمارس فعلاً هذا التأجيل بالنسبة إلى كائنٍ معقد معين كالإنسان فليس ذلك إلا لفارق درجة بين صعوبة هذه الممارسة بالنسبة على الإنسان وصعوبتها بالنسبة إلى أحياء أخرى. وهذا يعني أن العلم من الناحية النظرية وبقدر ما تشير إليه اتجاهاته المتحركة لا يوجد فيه أبداً ما يرفض إمكانية إطالة عمر الإنسان، سواءً فسرنا الشيخوخة بوصفها نتاج صراع واحتكاك مع مؤثرات خارجية أو نتاج قانون طبيعي للخلية الحية نفسها يسير بها نحو الفناء.
ويتلخص من ذلك: أن طول عمر الإنسان وبقاءه قروناً متعددة أمر ممكن منطقياً وممكن علمياً ولكنه لا يزال غير ممكن عملياً، إلا إن اتجاه العلم سائر في طريق تحقيق هذا الإمكان عبر طريق طويل.
وعلى هذا الضوء نتناول عمر المهدي (عليه الصلاة والسلام) وما أحيط به من استفهام أو استغراب.
ونلاحظ: أنه بعد أن ثبت إمكان هذا العمر الطويل منطقياً وعلمياً، وثبت أن العلم سائر في طريق تحويل الإمكان النظري إلى إمكان عملي تدريجاً، لا يبقى للاستغراب محتوىً إلا استبعاد أن يسبق المهدي العلم نفسه، فيتحول الإمكان النظري إلى إمكان عملي في شخصه قبل أن يصل العلم في تطوره إلى مستوى القدرة الفعلية على هذا التحويل، فهو نظير من يسبق العلم في اكتشاف دواء ذات السحايا أو دواء السرطان.
وإذا كانت المسألة هي أنه كيف سبق الإسلام ـ الذي صمم عمر هذا القائد المنتظر ـ حركة العلم في مجال هذا التحويل؟
فالجواب: أنه ليس ذلك هو المجال الوحيد الذي سبق فيه الإسلام حركة العلم. أو ليست الشريعة الإسلامية ككل، قد سبقت حركة العلم والتطور الطبيعي للفكر الإنساني قروناً عديدة؟ أوَ لَمْ تنادِ بشعارات طرحت خططاً للتطبيق لم ينضج الإنسان للتوصل إليها في حركته المستقلة إلا بعد مئات السنين؟ أوَ لَمْ تأت بتشريعات في غاية الحكمة لم يستطع الإنسان أن يدرك أسرارها ووجه الحكمة فيها إلا قبل برهة وجيزة من الزمن؟ أوَ لَمْ تكشف رسالة السماء أسراراً من الكون لم تكن تخطر على بال إنسان، ثم جاء العلم ليثبتها ويدعمها؟! فإذا كنا نؤمن بهذا كله فلماذا نستكثر على مرسل هذه الرسالة سبحانه وتعالى أن يسبق العلم في تصميم عمر المهدي؟ وأنا هنا لم أتكلم إلا عن مظاهر السبق التي نستطيع أن نحسها نحن بصورة مباشرة، ويمكن أن نضيف إلى ذلك مظاهر السبق التي تحدثنا بها رسالة ب السماء نفسها. ومثال ذلك: أنها تخبرنا بأن النبي (صلى الله عليه وآله)، قد أُسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهذا الإسراء إذا أردنا أن نفهمه في إطار القوانين الطبيعية فهو يعبر عن الاستفادة من القوانين الطبيعية بشكل لم يتح للعلم أن يحققه إلا بعد مئات السنين، فنفس الخبرة الربانية التي أتاحت للرسول (صلى الله عليه وآله)، التحرك السريع قبل أن يتاح للعلم تحقيق ذلك، أتاحت لآخر خلفائه المنصوصين العمر المديد قبل أن يتاح للعلم تحقيق ذلك.
نعم، هذا العمر المديد الذي منحه الله تعالى للمنقذ المنتظر يبدو غريباً في حدود المألوف حتى اليوم في حياة الناس وفي ما أنجز فعلاً من تجارب العلماء. ولكن أوَ لَيْسَ الدور التغييري الحاسم الذي أعد له هذا المنقذ غريباً في حدود المألوف في حياة الناس. وما مرت بهم تطورات التاريخ؟ أوَ ليس قد أُنيط به تغيير العالم، وإعادة بنائه الحضاري من جديد على أساس الحق والعدل؟ فلماذا نستغرب إذا اتسم التحضير لهذا الدور الكبير ببعض الظواهر الغريبة والخارجة عن المألوف كطول عمر المنقذ المنتظر؟ فإن غرابة هذه الظواهر وخروجها عن المألوف مهما كان شديداً، لا يفوق بحال غرابة نفس الدور العظيم الذي يجب على اليوم الموعود إنجازه.
فإذا كنا نستسيغ ذلك الدور الفريد تاريخياً على الرغم من أنه لا يوجه دور مناظر له في تاريخ الإنسان، فلماذا لا نستسيغ ذلك العمر المديد لا نجد عمراً مناظراً له في حياتنا المألوفة؟
ولا أدري هل هي صدفة أن يقوم شخصان فقط بتفريغ الحضارة الإنسانية من محتواها الفاسد وبنائها من جديد، فيكون لكل منهما عمر مديد يزيد على أعمارنا الاعتيادية أضعافاً مضاعفة؟ أحدهما مارس دوره في ماضي البشرية وهو نوح الذي نص القرآن الكريم على أنه مكث في قومه ألف عام إلا خمسين سنة، وقدر له من خلال الطوفان أن يبني العالم من جديد. والآخر يمارس دوره في مستقبل البشرية وهو المهدي الذي مكث في قومه حتى الآن أكثر من ألف عام وسيقدر له في اليوم الموعود أن يبني العالم من جديد.
فلماذا نقبل نوح الذي ناهز ألف عام على أقل تقدير ولا نقبل المهدي؟
المعجزة والعمر الطويل
وقد عرفنا حتى الآن أن العمر الطويل ممكن علمياً، ولكن لنفترض أنه غير ممكن علمياً، وأن قانون الشيخوخة والهرم قانون صارم، لا يمكن للبشرية اليوم ولا على خطها الطويل أن تتغلب عليه، وتغير من ظروفه وشروطه فماذا يعني ذلك؟ أنه يعني إن إطالة عمر الإنسان (كنوح أو كالمهدي) قروناً متعددة، هي على خلاف القوانين الطبيعية التي أثبتها العلم بوسائل بالتجربة والاستقراء الحديثة، وبذلك تصبح هذه الحالة معجزة عطلت قانوناً طبيعياً في حالة معينة للحفاظ على حياة الشخص الذي أنيط به الحفاظ على رسالة السماء، وليست هذه المعجزة فريدة من نوعها، أو غريبة على عقيدة المسلم المستمدة من نص القرآن والسنة، فليس قانون الشيخوخة والهرم أشد صرامة من قانون انتقال الحرارة من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة حتى يتساويان، وقد عطل هذا القانون لحماية حياة إبراهيم (عليه السلام) حين كان الأسلوب الوحيد للحفاظ عليه تعطيل ذلك القانون فقيل للنار حين ألقي فيها إبراهيم (قُلْنَا يَا نارُ كوني بَرْداً وَسَلاماً على إبراهيم).(٢)
فخرج منها كما دخل سليماً لم يصبه أذى، إلى كثير من القوانين الطبيعية التي عطلت لحماية أشخاص من الأنبياء وحجج الله على الأرض ففلق البحر لموسى. وشبّه للرومان أنهم قبضوا على عيسى ولم يكونوا قد قبضوا عليه، وخرج النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، من داره وهي محفوفة بحشود قريش التي ظلت ساعات تتربص به لتهجم عليه، فستره الله تعالى عن عيونهم وهو يمشي بينهم.
كل هذه الحالات تمثل قوانين طبيعية عطلت لحماية شخص، كانت الحكمة الربانية تقتضي الحفاظ على حياته، فليكن قانون الشيخوخة والهرم من تلك القوانين.
وقد يمكن أن نخرج من ذلك بمفهوم عام وهو أنه كلما توقف الحفاظ على حياة حجة لله في الأرض على تعطيل قانون طبيعي وكانت إدامة حياة ذلك الشخص ضرورية لإنجاز مهمته التي أُعِدَّ لها، تدخلت العناية الربانية في تعطيل ذلك القانون لإنجاز ذلك، وعلى العكس إذا كان الشخص قد انتهت مهمته التي أُعِدَّ لها ربانياً فإنه سيلقى حتفه ويموت أو يستشهد وفقاً لما تقرره القوانين الطبيعية.
ونواجه عادة بمناسبة هذا المفهوم العام السؤال التالي:
كيف يمكن أن يتعطل القانون، وكيف تنفصم العلاقة الضرورية التي تقوم بين الظواهر الطبيعية؟ وهل هذه إلا مناقضة للعلم الذي اكتشف ذلك القانون الطبيعي، وحدد هذه العلاقة الضرورية على أسس تجريبية واستقرائية؟
والجواب: إن العلم نفسه قد أجاب على هذا السؤال بالتنازل عن فكرة الضرورة في القانون الطبيعي وتوضيح ذلك: إن القوانين الطبيعية يكتشفها العلم على أساس التجربة والملاحظة المنتظمة، فحين يطرد وقوع ظاهرة طبيعية عقيب ظاهرة أخرى يستدل بهذا الاطراد على قانون طبيعي، وهو أنه كلما وجدت الظاهرة الأولى وجدت الظاهرة الثانية عقيبها، غير أن العلم لا يفترض في هذا القانون الطبيعي علاقة ضرورية تبين الظاهرتين نابعة من صميم هذه الظاهرة وذاتها، وصميم تلك وذاتها لأن الضرورة حالة غيبية، لا يمكن للتجربة ووسائل البحث الاستقرائي والعلمي إثباتها، ولهذا فإن منطق العلم الحديث، يؤكد أن القانون الطبيعي ـ كما يعرفه العلم ـ لا يتحدث عن علاقة ضرورية بل عن اقتران مستمر بين ظاهرتين، فإذا جاءت المعجزة وفصلت إحدى الظاهرتين عن الأخرى في قانون طبيعي لم يكن ذلك فصماً لعلاقة ضرورية بين الظاهرتين.
والحقيقة أن المعجزة بمفهومها الديني، قد أصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومة بدرجة أكبر مما كانت عليه في ظل وجهة النظر الكلاسيكية على علاقات السببية فقد كانت وجهة النظر الكلاسيكية إلى علاقات السببية فقد كانت وجهة النظر القديمة، تفترض أن كل ظاهرتين اطراد اقتران أحدهما بالأخرى، فالعلاقة بينهما علاقة ضرورة، والضرورة تعني أن من المستحيل أن تنفصل إحدى الظاهرتين عن الأخرى، ولكن هذه العلاقة تحولت في منطق العلم الحديث إلى قانون الاقتران أو التتابع المطرد بين الظاهرتين دون افتراض تلك الضرورة الغيبية.
وبهذا تصبح المعجزة حالة استثنائية لهذا الاطراد في الاقتران أو التتابع دون أن تصطدم بضرورة أو تؤدي إلى استحالة.
وأما على ضوء الأسس المنطقية للاستقراء فنحن نتفق مع وجهة النظر العلمية الحديثة في إن الاستقراء، لا يبرهن على علاقة الضرورة بين الظاهرتين ولكنا نرى أنه يدل على وجود تفسير مشترك لاطراد التقارن أو التعاقب بين الظاهرتين باستمرار، وهذا التفسير المشترك كما يمكن صياغته على أساس افتراض الضرورة الذاتية، كذلك يمكن صياغته على أساس افتراض حكمة دعت منظم الكون إلى ربط ظواهر معينة بظواهر أخرى باستمرار وهذه الحكمة نفسها تدعو أحياناً على الاستثناء فتحدث المعجزة.
ثانياً ـ لماذا كل هذا الحرص على إطالة عمره؟
ونتناول الآن السؤال الثاني وهو يقول: لماذا كل هذا الحرص من الله سبحانه وتعالى على هذا الإنسان بالذات، فتعطل من أجله القوانين الطبيعية لإطالة عمره؟ ولماذا لا تترك قيادة اليوم الموعود لشخص يتمخض عنه المستقبل، وتنضجه إرهاصات اليوم الموعود فيبرز على الساحة ويمارس دوره المنتظر؟
وبكلمة أخرى: ما هي فائدة هذه الغيبة الطويلة وما المبرر لها؟
وكثير من الناس يسألون هذا السؤال وهم لا يريدون أن يسمعوا جواباً غيبياً، فنحن نؤمن بأن الأئمة الاثني عشر مجموعة فريدة لا يمكن التعويض عن أي واحد منهم، غير أن هؤلاء المتسائلين يطالبون بتفسير اجتماعي للموقف، على ضوء الحقائق المحسوسة لعملية التغيير الكبرى نفسها والمتطلبات المفهومة لليوم الموعود.
وعلى هذا الأساس نقتطع النظر مؤقتاً عن الخصائص التي نؤمن بتوفرها، في هؤلاء الأئمة المعصومين ونطرح السؤال التالي:
إننا بالنسبة إلى عملية التغيير بالمرتقبة في اليوم الموعود، بقدر ما تكون مفهومة على ضوء سنن الحياة وتجاربها، هل يمكن أن نعتبر هذا العمر الطويل لقائدها المدّخر، عاملاً من عوامل إنجاحها وتمكنه من ممارستها وقيادتها بدرجة أكبر؟.
ونجيب على ذلك بالإيجاب، وذلك لعدة أسباب منها ما يلي:
إن عملية التغيير الكبرى تتطلب وضعاً نفسياً فريداً في القائد الممارس لها مشحوناً، بالشعور، بالتفوق والإحساس، بضآلة الكيانات الشامخة، التي أُعِدَّ للقضاء عليها ولتحويلها حضارياً على عالم جديد، فبقدر ما يعمر قلب القائد المغير من شعور بتفاهة الحضارة التي يصارعها وإحساس واضح بأنها مجرد نقطة على الخط الطويل لحضارة الإنسان، يصبح أكثر قدرة من الناحية النفسية على مواجهتها والصمود في وجهها ومواصلة العمل ضدها حتى النصر.
ومن الواضح أن الحجم المطلوب من هذا الشعور النفسي يتناسب مع حجم التغيير نفسه، وما يراد القضاء عليه من حضارة وكيان، فكلما كانت المواجهة لكيان أكبر ولحضارة أرسخ وأشمخ تطلبت زخماً أكبر من هذا الشعور النفسي المفعم.
ولما كانت رسالة اليوم الموعود تغيير عالم مليء بالظلم، بالجور، تغييراً شاملاً بكل قيمه الحضارية وكياناته المتنوعة فمن الطبيعي أن تفتش هذه الرسالة عن شخص أكبر في شعوره النفسي من ذلك العالم كله، عن شخص ليس من مواليد ذلك العالم الذين نشأوا في ظل تلك الحضارة التي يراد تقويضها واستبدالها بحضارة العدل والحق، لأن من ينشأ في ظل حضارة راسخة، تعمر الدنيا بسلطانها وقيمها وأفكارها، يعيش في نفسه الشعور بالهيبة تجاهها لأنه ولد وهي قائمة، ونشأ صغيراً وهي جبارة، وفتح عينيه على الدنيا فلم يجد سوى أوجهها المختلفة، وخلافاً لذلك شخص يتوغل في التاريخ عاش الدنيا قبل أن تر تلك الحضارة النور، ورأى الحضارات الكبيرة سادت العالم الواحدة تلو الآخر ثم تداعت وانهارت، رأى ذلك بعينيه ولم يقرأه في كتاب تاريخ ثم رأى الحضارة التي يقدر أن تكوِّن الفصل الأخير من قصة الإنسان قبل اليوم الموعود، رآها وهي بذور صغيرة لا تكاد تتبين، ثم شاهدها وقد اتخذت مواقعها في أحشاء المجتمع البشري تتربص الفرصة لكي تنمو وتظهر، ثم عاصرها وقد بدأت تنمو وتزحف وتصاب بالنكسة تارة ويحالفها التوفيق تارة أخرى، ثم واكبها وهي تزدهر وتتعملق وتسيطر بالتدريج على مقدَّرات عالم بكامله، فإن شخصاً من هذا القبيل عاش كل هذه المراحل بفطنة وانتباه كاملين ينظر إلى هذا العملاق ـ الذي يريد أن يصارعه ـ من زاوية ذلك الامتداد التاريخي الطويل الذي عاشه بحسه لا في بطون كتب التاريخ فحسب، ينظر إليه لا بوصفه قدراً محتوماً، ولا كما كان ينظر (جان جاك روسو) إلى الملكية في فرنسا، فقد جاء عنه أنه كان يرعبه مجرد أن يتصور فرنسا بدون ملك، على الرغم من كونه من الدعاة الكبار فكرياً وفلسفياً إلى تطوير بالوضع السياسي القائم وقتئذٍ، لأن (روسو) هذا نشأ في ظل الملَكَية وتنفس هواءها طيلة حياته، وأما هذا الشخص المتوغل في التاريخ، فلهب هيبة التاريخ وقوة التاريخ والشعور المفعم بأن ما حوله من كيان وحضارة، وليد يوم من أيام التاريخ تهيأت له الأسباب فوجد وستتهيأ الأسباب فيزول، فلا يبقى منه شيء كما لم يكن يوجد منه شيء بالأمس القريب أو البعيد، وإن الأعمار التاريخية للحضارات والكيانات مهما طالت فهي ليست إلا أياماً قصيرة في عمر التاريخ الطويل.
هل قرأت سورة الكهف؟ وهل قرأت عن أولئك الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم الله هدى، وواجهوا كياناً وثنياً حاكماً، لا يرحم ولا يتردد في خنق أي بذرة من بذور بالتوحيد والارتفاع عن وحدة الشرك، فضاقت نفوسهم ودب إليها اليأس وسدّت منافذ الأمل أمام أعينهم، ولجأوا إلى الكهف يطلبون من الله حلاً لمشكلتهم بعد أن أعيتهم الحلول وكبر في نفوسهم أن يظل الباطل يحكم، ويظلم ويقهر الحق ويصغى كل من يخفق قلبه للحق، هل تعلم ماذا صنع الله تعالى بهم؟ أنه أنامهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين في ذلك الكهف، ثم بعثهم من نومهم ودفع بهم إلى مسرح الحياة، بعد أن كان ذلك الكيان الذي بهرهم بقوته وظلمه، قد تداعى وسقط وأصبح تاريخاً لا يرعب أحداً ولا يحرك ساكناً، كل ذلك لكي يشهد هؤلاء الفتية مصرع ذلك الباطل الذي كبر عليهم امتداده وقوته واستمراره، ويروا انتهاء أمره بأعينهم ويتصاغر الباطل في نفوسهم، ولئن تحققت لأصحاب الكهف هذه الرؤية الواضحة بكل ما تحمل من زخم وشموخ نفسيين من خلال ذلك الحدث الفريد الذي مدد حياتهم ثلاثمائة سنة، فإن الشيء نفسه يتحقق للقائد المنتظر من خلال عمره المديد الذي يتيح له أن يشهد العملاق وهو قزم والشجرة الباسقة وهي بذرة، الإعصار وهو مجرد نسمة.
أضف إلى ذلك: أن التجربة التي تتيحها مواكبة تلك الحضارات المتعاقبة والمواجهة المباشرة لحركتها وتطوراتها لها أثر كبير في الإعداد الفكري وتعميق الخبرة القيادية لليوم الموعود، لأنها تضع الشخص المدخّر أمام ممارسات كثيرة للآخرين بكل ما فيها من نقاط الضعف والقوة ومن ألوان الخطأ والصواب وتعطي لهذا الشخص قدرة أكبر على تقييم الظواهر الاجتماعية بالوعي الكامل على أسبابها، وكل ملابساتها التاريخية.
ثم إن عملية التغيير المدّخرة للقائد المنتظر تقوم على أساس رسالة معينة هي رسالة الإسلام، ومن الطبيعي أن تتطلب العملية في هذه الحالة قائداً قريباً من مصادر الإسلام الأولى، قد بنيت شخصيته بناءً كاملاً بصورة مستقلة ومنفصلة عن مؤثرات الحضارة التي يقدر لليوم الموعود أن يحاربها وخلافاً لذلك الشخص الذي يولد وينشأ في كنف هذه الحضارة وتتفتح أفكاره ومشاعره في إطارها، فإنه لا يتخلص غالباً من رواسب تلك الحضارة ومرتكزاتها، وإن قاد حملة تغيير ضدها، فلكي يضمن عدم تأثر القائد المدّخر بالحضارة التي أعد لاستبدالها لابد أن تكون شخصيته قد بنيت بناءً كاملاً في مرحلة حضارية سابقة هي أقرب ما تكون في الروح العامة، ومن ناحية المبدأ إلى الحالة الحضارية التي يتجه اليوم الموعود إلى تحقيقها بقيادته.
ثالثاً ـ كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر؟
ونأتي الآن على السؤال الثالث القائل: كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر مع أنه لم يعاصر أباه الإمام العسكري إلا خمس سنوات تقريباً وهي فترة الطفولة التي لا تكفي لإنضاج شخصية القائد فما هي الظروف التي تكامل من خلالها؟
والجواب: إن المهدي (عليه السلام) خلَّف أباه في إمامة المسلمين، وهذا يعني أنه كان إماماً بكل ما في الإمامة من محتوى فكري وروحي في وقت مبكر جداً من حياته الشريفة.
والإمامة المبكرة ظاهرة مسبقة إليها عدد من آبائه (عليهم السلام) فالإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام) تولى الإمامة وهو في الثامنة من عمره والإمام علي بن محمد الهادي تولى الإمامة وهو في التاسعة من عمره والإمام أبو محمد الحسن العسكري والد القائد المنتظر تولى الإمامة وهو في الثانية والعشرين من عمره، ويلاحظ أن ظاهرة الإمامة المبكرة بلغت ذروتها في الإمام المهدي (عليه السلام) والإمام الجواد (عليه السلام) ونحن نسميها ظاهرة لأنها كانت بالنسبة على عدد من آباء المهدي (عليه السلام) تشكل مدلولاً حسياً عملياً، عاشه المسلمون ووعوه في تجربتهم مع الإمام بشكل وآخر، ولا يمكن أن نطالب بإثبات لظاهرة من الظواهر أوضح وأقوى من تجربة أمة.
ونوضح ذلك ضمن النقاط التالية:
أ ـ لم تكن إمام الإمام من أهل البيت مركزاً من مراكز السلطان والنفوذ التي تنتقل بالوراثة من الأب إلى الابن ويدعمها النظام الحاكم كإمامة الخلفاء الفاطميين، وخلافة الخلفاء العباسيين، وإنما كانت تكتسب ولاء قواعدها الشعبية والواسعة عن طريق التغلغل الروحي والإقناع الفكري لتلك القواعد بجدارة هذه الإمامة لزعامة الإسلام وقيادته على أسس روحية وفكرية.
ب ـ إن هذه القواعد الشعبية بنيت منذ صدر الإسلام، وازدهرت واتسعت على عهد الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) وأصبحت المدرسة التي رعاها هذان الإمامان، في داخل هذه القواعد تشكل تياراً فكرياً واسعاً، في بالعالم الإسلامي يضم المئات من الفقهاء والمتكلمين والمفسرين والعلماء في مختلف ضروب المعرفة الإسلامية والبشرية المعروفة وقتئذٍ، حتى قال الحسن بن علي الوشا: إني دخلت مسجد الكوفة فرأيت فيه تسعمائة شيخ كلهم يقولون حدثنا جعفر بن محمد.
ج ـ إن الشروط التي كانت هذه المدرسة وما تمثله من قواعد شعبية في المجتمع الإسلامي، تؤمن بها وتتقيد بموجبها في تعيين الإمام والتعرف على كفاءته للإمامة شروط شديدة، لأنها تؤمن بأن الإمام لا يكون إماماً إلا إذا كان أعلم علماء عصره.
د ـ إن المدرسة وقواعدها الشعبية كانت تقدم تضحيات كبيرة في سبيل الصمود على عقيدتها في الإمامة، لأنها كانت في نظر الخلافة المعاصرة لها تشكل خطاً عدائياً، ولو من الناحية الفكرية على الأقل، الأمر الذي أدى إلى قيام السلطات وقتئذٍ وباستمرار تقريباً حملات من التصفية والتعذيب، فقتل من قتل، وسجن من سجن، ومات في ظلمات المعتقلات المئات؛ وهذا يعني أن الاعتقاد بإمامة أئمة أهل البيت كان يكلفهم غالياً ولم يكن له من الاغراءات سوى ما يحس به المعتقد أو يفترضه من التقرب إلى الله تعالى والزلفى عنده.
هـ ـ إن الأئمة الذي دانت هذه القواعد لهم بالإمامة لم يكونوا معزولين عنها ولا متقوقعين في بروج عالية شأن السلاطين مع شعوبهم، ولم يكونوا يحتجبون عنهم إلا أن تحجبهم السلطة الحاكمة بسجن أو نفي، وهذا ما نعرفه من خلال العدد الكبير من الرواة والمحدثين عن كل واحد من الأئمة الأحد عشر ومن خلال ما نقل من المكاتبات التي كانت تحصل بين الإمام ومعاصريه وما كان الإمام يقوم به من أسفار من ناحية، وما كان يبثه من وكلاء في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من ناحية أخرى وما كان قد أعتاده الشيعة من تفقد أئمتهم وزيارتهم في المدينة المنورة عندما يؤمون الديار المقدسة من كل مكان لأداء فريضة الحج، كل ذلك يفرض تفاعلاً مستمراً بدرجة واضحة بين الإمام وقواعده الممتدة في أرجاء العالم الإسلامي بمختلف طبقاتها من العلماء وغيرهم.
و ـ إن الخلافة المعاصرة للأئمة (عليهم السلام) كانت تنظر إليهم وإلى زعامتهم الروحية والإمامية بوصفها مصدر خطر كبير على كيانها ومقدراتها، وعلى هذا الأساس بذلت كل جهودها في سبيل تفتيت هذه الزعامة وتحملت في سبيل ذلك كثيراً من السلبيات، وظهرت أحياناً بمظاهر القسوة والطغيان حينما اضطرها تأمين مواقعها إلى ذلك، وكانت حملات الاعتقال والمطاردة مستمرة للأئمة أنفسهم على الرغم مما يخلفه ذلك من شعور بالألم أو الاشمئزاز عند المسلمين وللناس الموالين على اختلاف درجاتهم.
إذا أخذنا هذه النقاط الست بعين الاعتبار، وهي حقائق تاريخية لا تقبل الشك، أمكن أن نخرج بنتيجة وهي: إن ظاهرة الإمامة المبكرة كانت ظاهرة واقعية ولم تكن وهماً من الأوهام، لأن الإمام الذي يبرز على المسرح وهو صغير فيعلن عن نفسه إماماً روحياً وفكرياً للمسلمين، ويدين له بالولاء والإمامة كل ذلك التيار الواسع لابد أن يكون على قدر واضح وملحوظ بل وكبير من العلم والمعرفة وسعة الأفق والتمكن من الفقه والتفسير والعقائد، لأنه لو لم يكن كذلك لما أمكن أن تقتنع تلك القواعد الشعبية بإمامته مع ما تقدم من أن الأئمة كانوا في مواقع تتيح لقواعدهم التفاعل معهم وللأضواء المختلفة، أن تسلط على حياتهم وموازين شخصيتهم.
فهل ترى أن صبياً يدعو إلى إمامة نفسه وينصب منها علماً للإسلام وهو على مرأى ومسمع من جماهير قواعده الشعبية فتؤمن به وتبذل في سبيل ذلك الغالي من أمنها وحياتها بدون أن تكلف نفسها اكتشاف حاله وبدون أن تكلف نفسها اكتشفا حاله وبدون أن تهزها ظاهرة هذه الإمامة المبكرة لاستطلاع حقيقة الموقف وتقييم هذا الصبي الإمام؟ وهب أن الناس لم يتحركوا لاستطلاع الموقف، فهل يمكن أن تمر المسألة أياماً وشهوراً بل أعواماً دون أن تتكشف الحقيقة على الرغم من التفاعل الطبيعي المستمر بين الصبي الإمام وسائر الناس؟ وهل من المعقول أن يكون صبياً في فكره وعلمه حقاً ثم لا يبدو ذلك من خلال هذا التفاعل الطويل؟
وإذا افترضنا أن القواعد الشعبية لإمامة أهل البيت لم يتح لها أن تكتشف واقع الأمر فلماذا سكتت الخلافة القائمة ولم تعمل لكشف الحقيقة إذا كانت في صالحها؟ وما كان أيسر ذلك على السلطة القائمة لو كان الإمام الصبي صبياً في فكرة وثقافته كما هو المعهود في الصبيان، وما كان أنجحه من أسلوب أن تقدم هذا الصبي إلى شيعته وغير شيعته على حقيقته وتبرهن على عدم كفاءته للإمامة والزعامة الروحية والفكرية. فلئن كان من الصعب الإقناع بعدم كفاءة شخص في الأربعين أو الخمسين قد أحاط بقدر كبير من ثقافة عصره لتسلم الإمامة فليس هناك صعوبة في الإقناع بعدم كفاءة صبي اعتيادي مهما كان ذكياً وفطناً للإمامة بمعناها الذي يعرفه الشيعة الاماميون، وكان هذا أسهل وأيسر من الطرق المعقدة وأساليب القمع والمجازفة التي انتهجتها السلطات وقتئذٍ.
إن التفسير الوحيد لسكوت الخلافة المعاصرة، عن اللعب بهذه الورقة هو أنها أدركت أن الإمامة المبكرة ظاهرة حقيقية وليست شيئاً مصطنعاً.
والحقيقة أنها أدركت ذلك بالفعل بعد أن حاولت أن تلعب بتلك الورقة فلم تستطع، والتأريخ يحدثنا عن محاولات من هذا القبيل وفشلها بينما لم يحدثنا إطلاقاً عن موقف تزعزعت فيه ظاهرة الإمامة المبكرة أو واجه فيه الصبي الإمام إحراجاً يفوق قدرته أو يزعزع ثقة الناس فيه.
وهذا معنى ما قلناه من أن الإمامة المبكرة ظاهرة واقعية في حياة أهل البيت وليس مجرد افتراض، كما إن هذه الظاهرة الواقعية لها جذورها وحالاتها المماثلة في تراث السماء الذي امتد عبر الرسالات والزعامات الربانية ويكفي مثالاً لظاهرة الإمامة المبكرة في التراث الرباني لأهل البيت (عليهم السلام) يحيى (عليه السلام) إذ قال الله سبحانه وتعالى: (يا يحيى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحكْمَ صَبيّاً).(٣)
ومتى ثبت أن الإمامة المبكرة ظاهرة واقعية ومتواجدة فعلاً في حياة أهل البيت لم يعد هناك اعتراض فيما يخص إمامة المهدي (عليه السلام) وخلافته لأبيه وهو صغير.
رابعاً ـ كيف نؤمن بأن المهدي قد وجد؟
ونصل الآن إلى السؤال الرابع وهو يقول: هب أن فرضية القائد المنتظر ممكنة بكل ما تستبطنه من عمر طويل وإمامة مبكرة وغيبة صامتة فإن الإمكان لا يكفي للاقتناع بوجوده فعلاً، فكيف نؤمن فعلاً بوجود المهدي؟
وهل تكفي بضع روايات تنقل في بطون الكتب عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ـ للاقتناع الكامل بالإمام الثاني عشر على الرغم مما في هذا الافتراض من غرابة وخروج عن المألوف بل كيف يمكن أن نثبت أن للمهدي وجوداً تاريخياً حقاً وليس مجرد افتراض توفرت ظروف نفسية لتثبيته في نفوس عدد كبير من الناس؟
والجواب: أن فكرة المهدي بوصفه القائد المنتظر لتغيير العالم إلى الأفضل قد جاءت في أحاديث الرسول الأعظم عموماً وفي روايات أئمة أهل البيت خصوصاً، وأكدت في نصوص كثيرة بدرجة لا يمكن أن يرقى إليها الشك، وقد أحصى أربعمائة حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله)ـ من طرق إخواننا أهل السنة(٤) كما أحصي مجموع الأخبار الواردة في الإمام المهدي من طرق الشيعة والسنة فكان أكثر من ستة آلاف رواية،(٥) وهذا رقم إحصائي كبير لا يتوفر نظيره في كثير من قضايا الإسلام البديهية التي لا يشك فيها مسلم عادة.
وأما تجسيد هذه الفكرة في الإمام الثاني عشر (عليه الصلاة والسلام) فهذا ما توجد مبررات كافية وواضحة للاقتناع به.
ويمكن تلخيص هذه المبررات في دليلين:
أحدهما: إسلامي
والآخر: علمي
فبالدليل الإسلامي نثبت وجود القائد المنتظر، وبالدليل العلمي نبرهن على أن المهدي ليس مجرد أسطورة وافتراض بل هو حقيقة ثبت وجودها بالتجربة التاريخية.
أما الدليل الإسلامي، فيتمثل في مئات الروايات الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) والتي تدل على تعيين المهدي وكونه من أهل البيت ومن ولد فاطمة ومن ذرية الحسين وأنه التاسع من ولد الحسين وإن الخلفاء اثنا عشر، فإن هذه الروايات تحدد تلك الفكرة العامة وتشخيصها في الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت، وهي روايات بلغت درجة كبيرة من الكثرة والانتشار على الرغم من تحفظ الأئمة (عليهم السلام) واحتياطهم في طرح ذلك على المستوى العام وقاية للخلف الصالح من الاغتيال أو الإجهاز السريع على حياته.
وليست الكثرة العددية للروايات هي الأساس الوحيد لقبولها، بل هناك إضافة إلى ذلك مزايا وقرائن تبرهن على صحتها، فالحديث النبوي الشريف عن الأئمة أو الخلفاء أو الأمراء بعده وإنهم اثني عشر إماماً أو خليفة أو أميراً على اختلاف متن الحديث في طرقه المختلف.
قد أحصى بعض المؤلفين رواياته فبلغت أكثر من مائتين وسبعين رواية مأخوذة من أشهر كتب الحديث عند الشيعة والسنة بما في ذلك البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود ومسند أحمد ومستدرك الحاكم على الصحيحين، ويلاحظ هنا أن البخاري الذي نقل هذا الحديث كان معاصراً للإمام الجواد والإمامين الهادي والعسكري وفي ذلك مغزىً كبير، لأنه يبرهن على أن هذا الحديث قد سجل عن النبي (صلى الله عليه وآله)، قبل أن يتحقق مضمونه وتكتمل فكرة الأئمة الإثني عشر فعلاً، وهذا يعنى أنه لا يوجد أي مجال للشك في أن يكون نقل الحديث متأثراً بالواقع الإمامي الاثني عشري وانعكاساً له، لأن الأحاديث المزيفة التي تنسب على النبي (صلى الله عليه وآله)، وهي انعكاسات أو تبريرات لواقع متأخر زمنياً لا تسبق في ظهورها وتسجيلها في كتب الحديث ذلك الواقع الذي تشكل انعكاساً له، فما دمنا قد ملكنا الدليل المادي على أن الحديث المذكور سبق التسلسل التاريخي للأئمة الإثني عشر، وضبط في كتب الحديث قبل تكامل الواقع الإمامي الاثني عشري، أمكننا أن نتأكد من أن هذا الحديث ليس انعكاساً لواقع وإنما هو تعبير عن حقيقة ربانية نطق بها من لا ينطق عن هوى، فقال: (إن الخلفاء بعدي إثني عشر).
وجاء الواقع الإمامي الاثني عشري ابتداءاً من الإمام علي وانتهاءاً بالمهدي ليكون التطبيق الوحيد المعقول لذلك الحديث النبوي الشريف.
وأما الدليل العلمي، فهو يتكون من تجربة عاشتها أمة من الناس فترة امتدت سبعين سنة تقريباً وهي فترة الغيبة الصغرى.
ولتوضيح ذلك نمهد بإعطاء فكرة موجزة عن الغيبة الصغرى:
إن الغيبة الصغرى تعبر عن المرحلة الأولى من إمام القائد المنتظر (عليه الصلاة والسلام) فقد قدّر لهذا الإمام منذ تسلمه للإمامة أن يستتر عن المسرح العام ويظل بعيداً باسمه عن الأحداث وأن كان قريباً منها بقلبه وعقله، وقد لوحظ أن هذه الغيبة إذا جاءت مفاجأة حققت صدمة كبيرة للقواعد الشعبية للإمامة في الأمة الإسلامية، لأن هذه القواعد كانت معتادة على الاتصال بالإمام في كل عصر والتفاعل معه والرجوع إليه في حل المشاكل المتنوعة فإذا غاب الإمام عن شيعته فجأة وشعروا بالانقطاع عن قيادتهم الروحية والفكرية سببت هذه الغيبة المفاجاة الإحساس بفراغ دفعي هائل قد يعصف بالكيان كله ويشتت شمله، فكان لابد من تمهيد لهذه الغيبة لكي تألفها هذه القواعد بالتدريج وتكيف نفسها شيئاً فشيئاً على أساسها، وكان هذا التمهيد هو الغيبة الصغرى التي اختفى فيها الإمام المهدي عن المسرح العام غير أنه كان دائم الصلة بقواعده وشيعته عن طريق وكلائه ونوابه والثقاة من أصحابه الذين يشكلون همزة الوصل بينه وبين الناس المؤمنين بخطه الإمامي.
قد أشغل مركز النيابة عن الإمام في هذه الفترة أربعة ممن أجمعت تلك القواعد على تقواهم وورعهم نزاهتهم التي عاشوا ضمنها وهم كما يلي:
١ ـ عثمان بن سعيد العمري.
٢ ـ محمد بن عثمان بن سعيد العمري.
٣ ـ أبو القاسم الحسين بن روح.
٤ ـ أبو الحسن علي بن محمد السمري.
وقد مارس هؤلاء الأربعة مهام النيابة بالترتيب المذكور وكلما مات أحدهم خلفه الآخر الذي يليه بتعيين من الإمام المهدي (عليه السلام).
وكان النائب يتصل بالشيعة ويحمل أسئلتهم إلى الإمام، ويعرض مشاكلهم عليه ويحمل إليهم أجوبته شفهية أحياناً وتحريرية في كثير من الأحيان، وقد وجدت الجماهير التي فقدت رؤية إمامها العزاء والسلوة في هذه المراسلات والاتصالات غير المباشرة، ولاحظت إن التوقيعات والرسائل كانت ترد من الإمام المهدي (عليه السلام) بخط واحد وسليقة واحدة طيلة نيابة النواب الأربعة التي استمرت حوالي سبعين عاماً، وكان السمري هو آخر النواب فقد أعلن عن انتهاء مرحلة الغيبة الصغرى التي تتميز بنواب معينين، وابتداء الغيبة الكبرى التي لا يوجد فيها أشخاص معينون بالذات للوساطة بين الإمام القائد والشيعة، وقد عبر التحول من الغيبة الصغرى إلى الغيبة الكبرى عن تحقيق الغيبة الصغرى لأهدافها وانتهاء مهمتها لأنها حصنت الشيعة بهذه العملية التدريجية عن الصدمة والشعور بالفراغ الهائل بسبب غيبة الإمام، واستطاعت أن تكيف وضع الشيعة على أساس الغيبة وتعدهم بالتدريج لتقبل فكرة النيابة العامة عن الإمام وبهذا تحولت النيابة من أفراد منصوصين إلى خط عام وهو خط المجتهد العادل البصير بأمور الدنيا والدين تبعاً لتحول الغيبة الصغرى إلى غيبة كبرى.
والآن بإمكانك أن تقدر الموقف في ضوء ما تقدم لكي تدرك بوضوح أن المهدي حقيقة عاشتها أمة من الناس وعبر عنها السفراء والنواب طيلة سبعين عاماً من خلال تعاملهم مع الآخرين، ولم يلحظ عليهم أحد كل هذه المدة تلاعباً في الكلام أو تحايلاً في التصرف أو تهافتاً في النقل.
فهل تتصور (بربك) إن بإمكان أكذوبة أن تعيش سبعين عاماً ويمارسها أربعة على سبيل الترتيب كلهم يتفقون عليها ويظلون يتعاملون على أساسها وكأنها قضية يعيشونها بأنفسهم ويرونها بأعينهم دون أن يبدر منهم أي شيء يثير الشك ودون تأن يكون بين الأربعة علاقة خاصة متميزة تتيح لهم نحواً من التواطؤ ويكسبون من خلال ما يتصف به سلوكهم من واقعية ثقة الجميع وإيمانهم بواقعية القضية التي يدعون أنهم يحسونها ويعيشون معها؟!
لقد قيل قديماً ـ إن حبل الكذب قصير ـ، ومنطق الحياة يثبت أيضاً أن من المستحيل عملياً بحساب الاحتمالات أن تعيش أكذوبة بهذا الشكل ولك هذه المدة وضمن كل تلك العلاقات والأخذ والعطاء ثم تكسب ثقة جميع من حولها.
وهكذا نعرف أن ظاهرة الغيبة الصغرى يمكن أن تعتبر بمثابة تجربة علمية لإثبات ما لها من واقع موضوعي والتسليم بالإمام القائد بولادته وحياته وغيبته وإعلانه العام عن الغيبة الكبرى التي استتر بموجبها عن المسرح ولم يكشف نفسه لأحد.
خامساً ـ لماذا لم يظهر القائد إذن؟
لماذا لم يظهر القائد إذن طيلة هذه المدة؟
وإذا كان قد أَعَدَّ نفسه للعمل الاجتماعي، فما الذي منعه عن الظهور على المسرح في فترة الغيبة الصغرى أو في أعقابها بدلاً عن تحويلها إلى غيبة كبرى، حيث كانت ظروف العمل الاجتماعي والتغييري، وقتئذٍ أبسط وأيسر وكانت صلته الفعلية بالناس من خلال تنظيمات الغيبة الصغرى تتيح له أن يجمع صفوفه ويبدأ عمله بداية قوية ولم تكن القوى الحاكمة من حوله قد بلغت الدرجة الهائلة من القدرة والقوة التي بلغتها الإنسانية بعد ذلك من خلال التطور العلمي والصناعي؟
والجواب: إن كل عملية تغيير اجتماعي يرتبط نجاحها بشروط وظروف موضوعية لا يتأتى لها أن تحقق هدفها إلا عندما تتوفر تلك الشروط والظروف.
وتتميز عمليات التغيير الاجتماعي التي تفجرها السماء على الأرض بأنها لا ترتبط في جانبها الرسالي بالظروف بالموضوعية، لأن الرسالة التي تعتمدها عملية التغيير هنا ربانية ومن صنع السماء لا من صنع الظروف الموضوعية ويرتبط نجاحها وتوقيتها بتلك الظروف.
ومن أجل ذلك انتظرت السماء مرور خمسة قرون من الجاهلية حتى أنزلت آخر رسالاتها عل يد النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، لأن الارتباط بالظروف الموضوعية للتنفيذ كان يفرض تأخرها على الرغم من حاجة العالم إليها منذ فترة طويلة قبل ذلك.
والظروف الموضوعية التي لها أثر في الجانب التنفيذي من عملية التغيير:
منها: ما يشكل المناخ المناسب والجو العام للتغيير المستهدف.
ومنها: ما يشكل بعض التفاصيل التي تتطلبها حركة التغيير من خلال منعطفاتها التفصيلية.
فبالنسبة إلى عملية التغيير التي قادها مثلاً لينين في روسيا بنجاح كانت ترتبط بعامل من قبيل قيام الحرم العالمية الأولى، وتضعضع القيصرية، وهذا ما يساهم في إيجاد المناخ المناسب لعملية التغيير، وكانت ترتبط بعوامل أخرى جزئية ومحدودة من قبيل سلامة لينين مثلاً في سفره الذي تسلل فيه على داخل روسيا وقاد الثورة، إذ لو كان قد اتفق له أي حادث يعيقه لكان من المحتمل أن تفقد الثورة بذلك قدرتها على الظهور السريع على المسرح.
وقد جرت سنة الله تعالى التي لا تجد لها تحويلاً في عمليات التغيير الرباني على التقيد من الناحية التنفيذية بالظروف الموضوعية التي تحقق المناخ المناسب والجو العام لإنجاح عملية التغيير، ومن هنا لم يأت الإسلام إلا بعد فترة من الرسل وإفراغ مرير استمر قروناً من الزمن.
فعلى الرغم من قدرة الله ـ سبحانه وتعالى ـ على تذليل كل العقبات والصعاب في وجه الرسالة الربانية وخلق المناخ المناسب لها خلفاً بالإعجاز لم يشأ أن يستعمل هذا الأسلوب، لأن الامتحان والابتلاء والمعاناة التي من خلالها يتكامل الإنسان يفرض على العمل التغييري الرباني أن يكون طبيعياً وموضوعياً من هذه الناحية، وهذا لا يمنع عن تدخل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أحياناً فيما يخص بعض التفاصيل التي لا تكوِّن المناخ المناسب وإنما قد يتطلبها أحياناً التحرك ضمن ذلك المناخ المناسب، ومن ذلك الإمدادات والعنايات الغيبية التي يمنحها الله تعالى لأوليائه في لحظات حرجة فيحمي بها الرسالة وإذا بنار نمرود تصبح برداً وسلاماً على إبراهيم، وإذا بيد اليهودي الغادر التي ارتفعت بالسيف على رأس النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ تشل وتفقد قدرتها على الحركة، وإذا بعاصفة قوية تجتاح مخيمات الكفار والمشركين الذين احدقوا بالمدينة في يوم الخندق وتبعث في نفوسهم الرعب، إلا أن هذا كله لا يعدو التفاصيل وتقديم العون في لحظات حاسمة بعد أن كان الجو المناسب والمناخ الملائم لعميلة التغيير على العموم قد تكوِّن بالصورة الطبيعية ووفقاً للظروف الموضوعية.
وعلى هذا الضوء ندرس موقف الإمام المهدي (عليه السلام) لنجد أن عملية التغيير التي أُعد لها ترتبط من الناحية التنفيذية كأي عملية تغيير اجتماعي أخرى بظروف موضوعية تساهم في توفير المناخ الملائم لها، ومن هنا كان من الطبيعي أن توقت وفقاً لذلك.
ومن المعلوم أن المهدي لم يكن قد أعد نفسه لعمل اجتماعي محدود، ولا لعملية تغيير تقتصر على هذا الجزء من العالم أو ذاك، لأن رسالته التي أدخر لها من قبل الله ـ سبحانه وتعالى ـ هي تغيير العالم تغييراً شاملاً، وإخراج البشرية كل البشرية من ظلمات الجور إلى نور العدل، وعملية التغيير الكبرى هذه لا يكفي في ممارستها مجرد وصول الرسالة والقائد الصالح وإلا لتمت شروطها في عصر النبوة بالذات، وإنما تتطلب مناخاً عالمياً مناسباً وجواً عاماً مساعداً يحقق الظروف الموضوعية المطلوبة لعملية التغيير العالمية.
فمن الناحية البشرية يعتبر شعور إنسان الحضارة بالنفاذ عاملاً أساسياً في خلق ذلك المناخ المناسب لتقبل رسالة العدل الجديدة، وهذا الشعور بالنفاد يتكون ويترسخ من خلال التجارب بالحضارية المتنوعة التي يخرج منها إنسان الحضارة مثقلاً بسلبيات ما بنى مدركاً حاجته إلى العون، متلفتاً بفطرته إلى الغيب أو إلى المجهول.
ومن الناحية المادية يمكن أن تكون شروط الحياة المادية الحديثة أقدر من شروط الحياة القديمة في عصر كعصر الغيبة الصغرى على إنجاز الرسالة على صعيد العالم كله، وذلك بما تحققه من تقريب المسافات والقدرة الكبيرة على التفاعل بين شعوب الأرض وتوفير الأدوات والوسائل التي يحتاجها جهاز مركزي لممارسة توعية لشعوب العالم وتثقيفها على أساس الرسالة الجديدة.
وأما ما أشير إليه في السؤال من تنامي القوى والإرادة العسكرية التي يواجهها القائد في اليوم الموعود كلما أجَّل ظهوره، فهذا صحيح، ولكن ماذا ينفع نمو الشكل المادي للقوة مع الهزيمة النفسية من الداخل وانهيار البناء الروحي للإنسان الذي يملك كل تلك القوى والأدوات؟ وكم من مرة في التاريخ انهار بناء حضاري شامخ بأول لمسة غازية لأنه كان منهاراً قبل ذلك وفاقداً الثقة بوجوده والقناعة بكيانه والاطمئنان إلى واقعه.
سادساً ـ وهل للفرد كل هذا الدور؟
ونأتي إلى سؤال آخر في تسلسل الأسئلة المتقدمة، وهو السؤال الذي يقول:
هل للفرد مهما كان عظيماً القدرة على إنجاز هذا الدور العظيم؟
وهل الفرد العظيم إلا ذلك الإنسان الذي ترشحه الظروف ليكون واجهته له في تحقيق حركتها؟
والفكرة في هذا السؤال ترتبط بوجهة نظر معينة للتاريخ تفسره على أساس إن الإنسان عامل ثانوي فيه والقوى الموضوعية المحيطة به هي العامل الأساسي، وفي إطار ذلك لن يكون الفرد في أفضل الأحوال إلا التعبير الذكي عن إتجاه هذا العامل الأساسي.
ونحن قد أوضحنا في مواضع أخرى من كتبنا المطبوعة إن التاريخ يحتوي على قطبين:
أحدهما: الإنسان
والآخر: القوى المادية المحيطة به
وكما تؤثر القوى المادية وظروف الإنتاج والطبيعة في الإنسان يؤثر الإنسان أيضاً فيما حوله من قوى وظروف، ولا يوجد مبرر لافتراض أن الحركة تبتدأ من المادة وتنتهي بالإنسان إلا بقدر ما يوجد مبرر لافتراض العكس، فالإنسان والمادة يتفاعلان على مر الزمن وفي هذا الإطار بإمكان الفرد أن يكون أكبر من ببغاء في تيار التاريخ، وبخاصة حين ندخل في الحساب عامل الصلة بين هذا الفرد والسماء.
فإن هذه الصلة تدخل حينئذٍ كقوة موجهة لحركة التاريخ؛ وهذا ما تحقق في تاريخ بالنبوات وفي تاريخ النبوة الخاتمة بوجه خاص، فإن النبي محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بحكم صلته الرسالية بالسماء تسلم بنفسه زمام الحركة التاريخية وأنشأ مداً حضارياً لم يكن بإمكان الظروف الموضوعية التي كانت تحيط به أن تتمخض عنه بحال من الأحوال، كما أوضحنا ذلك في المقدمة الثانية للفتاوى الواضحة.
وما أمكن أن يقع على يد الرسول الأعظم يمكن أن يقع على يد القائد المنتظر من أهل بيته الذي بشر به ونوه عن دوره العظيم.
سابعاً ـ ما هي طريقة التغيير في اليوم الموعود؟
ونصل في النهاية إلى السؤال الأخير من الأسئلة التي عرضناها، وهو السؤال عن الطريقة التي يمكن أن نتصور من خلالها ما سيتم على يد ذلك الفرد من انتصار حاسم للعدل وقضاء على كيانات الظلم المواجهة له؟
والجواب: المحدد على هذا السؤال يرتبط بمعرفة الوقت والمرحلة التي يقدر للإمام المهدي (عليه السلام) أن يظهر فيها على المسرح وإمكان افتراض ما تتميز به تلك المرحلة من خصائص وملابسات لكي ترسم في ضوء ذلك الصورة التي قد تتخذها عملية التغيير والمسار الذي قد تتحرك ضمنه، وما دمنا نجهل المرحلة ولا نعرف شيئاً عن ملابساتها وظروفها فلا يمكن التنبؤ العلمي بما سيقع في اليوم الموعود وإن أمكنت الافتراضات والتصورات التي تقوم في الغالب على أساس ذهني لا على أسس واقعية عينية.
وهناك افتراض أساسي واحد بالإمكان قبوله على ضوء الأحاديث التي تحدثت عنه والتجارب التي لوحظت لعمليات التغيير الكبرى في التاريخ، وهو افتراض ظهور المهدي (عليه السلام) في أعقاب فراغ كبير يحدث نتيجة نكسة وأزمة حضارية خانقة.
وذلك الفراغ يتيح المجال للرسالة الجديدة أن تمتد وهذه النكسة تهيئ الجو النفسي لقبولها، وليست هذه النكسة مجرد حادثة تقع صدفة في تاريخ الحضارة الإنسانية وإنما هي نتيجة طبيعية لتناقضات التاريخ المنقطع عن الله ـ سبحانه وتعالى ـ التي لا تجد لها في نهاية المطاف حلاً حاسماً فتشتغل النار التي لا تبقي ولا تذر ويبرز النور في تلك اللحظة ليطفئ النار ويقيم على الأرض عدل السماء.
وسأقتصر على هذا الموجز من الأفكار تاركاً التوسع فيها وما يرتبط بها من تفاصيل إلى الكتاب بالقيم الذي أمامنا، فإننا بين يدي موسوعة جليلة في الإمام المهدي (عليه السلام) وضعها أحد أولادنا وتلامذتنا الأعزاء وهو العلامة البحاثة السيد محمد الصدر ـ حفظه الله تعالى ـ (وهو الشهيد المرجع آية الله السيد محمد صادق الصدر) وهي موسوعة لم يسبق لها نظير في تاريخ التصنيف الشيعي حول المهدي (عليه السلام) في إحاطتها وشمولها لقضية الإمام المنتظر من كل جوانبها، وفيها من سعة الأفق وطول النفس العلمي واستيعاب الكثير من النكات واللفتات ما يعبر عن الجهود الجليلة الذي بذلها المؤلف في إنجاز هذه الموسوعة الفريدة، وإني لأحس بالسعادة وأنا أشعر بما تملأه هذه الموسوعة من فراغ وما تعبر عنه من فضل ونباهة وألمعية وأسأل المولى ـ سبحانه وتعالى ـ أن يقر عيني به ويريني فيه علماً من أعلام الدين.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.
وقد وقع الإبتداء في كتابة هذه الوريقات في اليوم الثالث عشر من جمادى الثانية، سنة ١٣٩٧ هـ، ووقع الفراغ منها عصر اليوم السابع عشر من الشهر نفسه.
والله ولي التوفيق.
محمد باقر الصدر
النجف الأشرف
قرنٌ من الزمن على وجه التقريب.. هو الذي يحاول هذا الكتاب أنْ يعرض له تاريخاً وتحليلاً وتبويباً، على ضوء سائر المصادر الإسلاميّة التي تعرّضت لذلك، سَواء في ذلك التاريخ العام، أم التاريخ الخاص الذي انبثق عن أقلام علمائنا الأبرار.
قرنٌ من الزمن، حافلٌ بروائع الأحداث وجلائل الأخطار، أنموذجٌ فذٌّ من القرون... سَواء على الصعيد السياسي العام ـ من حيث ما آلت إليه الخلافة العبّاسية يومذاك، مِن الضعف والتصدّع ـ أم من ناحية الأئمّة، وكيف كانوا يخوضون غِمار البؤس والأخطار بكلّ حذَقٍ وصبر.
أنموذج خاص، لا مثيل له في الدهر، بالأُسلوب الخاص الذي اتخذه الإمام المهدي (عليه السلام) في قيادة شعبه، حال اختفائه عن مسرح الناس، عن طريق السُفَراء الأُمناء الذين كانوا ينقلون عنه التوجيهات، ويقومون بالتنفيذ.
قرنٌ من الدهر، تكفّله هذا الكتاب... ولم يكن كلّه متضمّناً للغيبة الصغرى، وإنْ احتملت معظمه، ولكنّ الكلام في مثل هذه الفترة الحرِجة الدقيقة، التي يكتنفها الغموض من العديد من جوانبها، ولم تسلم من الأحكام العشوائيّة من عددٍ من الكتّاب المسلمين وغيرهم، هذه الفترة تحتاج في عرضها الأمين الدقيق، إلى تقديمٍ كبير للظروف السابقة عليها، حتى نعرف بوضوحٍ وتفصيل العوامل الأساسيّة التي أدّت إليها وبلوَرَت الأحداث فيها.
ومن ثمّ سار منهج هذا الكتاب، على بيان مقدّمة، بادئ ذي بِدء في بيان نقاط الضعف الأساسيّة في تاريخنا الإسلامي... والتي تعيق الباحث عن التوصّل إلى جملة ممّا يهمّه ويؤثّر في بحثه، من قضايا الإسلام والمسلمين.
ثمّ أعطى فكرةً كافيةً عن تاريخ الإمامين العسكريّين (عليهما السلام)، وهما عليّ بن محمّد الهادي (عليه السلام) جدّ الإمام المهدي (عليه السلام) والحسن بن عليّ (عليه السلام) أبوه.... وما كان يتّخذه هذان الإمامان من تدابيرٍ وما يقومان به من أعمالٍ تجاه الدولة وتجاه قواعدهم الشعبية.
حتّى ما إذا حملنا من ذلك فكرةً كافية... وصلنا إلى تاريخ الغيبة الصغرى... لنتعرّف على الاتّجاهات العامّة والأعمال التفصيليّة، التي كان يقوم بها الإمام المهدي (عليه السلام) وسفراؤه، وما كانت تقوم به الدولة تجاههم من أعمالٍ، وما كانت تتبنّاه من أفكار.
ومن هنا قُسّم هذا الكتاب إلى قسمين رئيسيّين ـ أوّلهما: يبدأ بإشخاص الإمام الهادي (عليه السلام) إلى سامرّاء عام ٢٣٤، إلى وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) عام ٢٦٠... وثانيهم: يبدأ بما انتهى به القسم الأوّل: وينتهي بوفاة السفير الرابع من سُفَراء الإمام المهدي عام ٣٢٩.
وقد قرنّا كلا من القسمين بفصلٍ تحليليٍّ لأهمِّ الحوادث والاتجاهات التي كانت سائدة في كلٍّ من هذَين العصرين... بحسَب ما يدلّنا عليه التاريخ الإسلامي العام.. بما له من مصادر متوفّرة.
وهذا الكتاب... بما له من تجاهٍ تاريخي، لا يتكفّل الدخول في مجال الجدَل العقائدي، الذي قد يُثيره الكلام عن الإمام المهدي (عليه السلام)، كإثباتِ وجوده وطول عمره وغير ذلك.... إنْ لم يكن هذا التاريخ بنفسه كافياً لإثبات القطْع بتواتر أخبار الإمام المهدي (عليه السلام) في الإسلام... وسيكون لهذا الجدَل، وغيره من البحوث حول الإمام المهدي (عليه السلام) مجالاتٌ أُخرى، عسى الله عزّ وجل أنْ يوفّقنا إلى خوض غِمارها في سلسلة من البحوث المقبلة، في هذه الموسوعة إنْ شاء الله تعالى.
المؤلّف
مقدّمة: نقاط الضعف في التاريخ الإسلامي
تمهيد:
إنّنا حين نُريد أنْ نستوحي تاريخنا الإسلامي الخاص، نجده بشكلٍ عام، غامضاً مليئاً بالفجَوَات والعثَرات، يحتاج في تصفيَته وترتيبه وأخذ زُبدته المصفّاة والعِبرة المتوخّاة، إلى جُهدٍ كبير وفكرٍ مضاعَف جليل.
وهذا يعود إلى عدّة أسباب، لعلّنا نستطيع أنْ نلم ببعضِ جوانبها المهمّة فيما يلي:
الجانب الأوّل:
ما يرجع إلى واقع التاريخ المُعاش آنذاك... أي أنّ نفس حوادث التاريخ وتحركّات أعلامه، كان مُقتضباً غامضاً مقيّداً.
وذلك: أنّ أئمّتنا (عليهم السلام)، كانوا يمثّلون على طول الخط، دَور المعارضة الإسلاميّة الصامدة، ضدّ خطَر الجهاز الحاكم، الذي يُمثّل الانحراف عن تعاليم دينهم القويم، بقليل أو بكثير؛ فإنّ الحُكم وإنْ كان قائماً على اسم الإسلام، ولم يكن الخليفة ليتسنّم مركزه الكبير، إلاّ باعتباره خليفة الرسول (صلّى الله عليه وآله) والخلفاء الراشدين من بعده.
إلاّ أنّ شخص الخليفة، إذ لم يكن قد تفّهم الإسلام على حقيقته أو تشرّب روحه وميزان عدله؛ فكان يُمارس الحكم على مقدار فهمه وأُفُق تفكيره، مضافاً إلى سيطرة الآخرين على كثير مِن مراكز الدولة الحسّاسة، ممّن لا يُفضلّون على الخليفة نفسه، بالوعي والروح، وليسوا في حالٍ يُحسَدون عليه من هذه الناحية.
فكان موقف أئمّتنا (عليهم السلام) ضدّ الجِهات الحاكمة رأياً وتطبيقاً، موقفاً حازماً صارماً، مستمدّاً مِن حكمة الله تعالى وقوّته وتوفيقه، فكان لهم موقفان أساسيّان، لا ترتاح إليهما الجهات الحاكمة:
الموقف الأوّل:
مطالبتهم الدائمة، نظريّاً ـ على الأقل ـ بمنصب رئاسة الدولة الإسلاميّة وتولّي الإمامة في الأُمّة المرحومة، وقيام كيان الأئمّة (عليهم السلام) في تابعيهم وقواعدهم الشعبية الموسّعة، على ذلك.
فكان هذا ممّا يهدّد الخلافة الأَمويّة والعبّاسية في الصميم، ويقضّ مضاجع الخُلفاء، ويجعلهم حذِرين كلّ الحذَر ممّا يقوم به الأئمّة من أفعالٍ وما يصدر عنهم من أقوال، ويجعلونهم دائماً تحت المراقبة والاحتياطات المشدّدة، بما يملك الحُكم من سيطرةٍ ونفوذ.
الموقف الثاني:
ممّا يرجع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح في أُمّة جدّهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، نتيجةً للظلم والانحراف والحروب المنحرفة والمصالح الشخصيّة، التي كانت نافذة المفعول في المجتمع، والذي خلّف ـ في أغلَب فترات التاريخ ـ بؤساً اقتصاديّاً وتخلّفاً اجتماعيّاً مؤسفاً.
فكان الأئمّة (عليهم السلام) يحسّون بواجبهم، ويشعرون بمسئوليّتهم، بصفتهم الممثّلين الحقيقيّين لنبيّ الإسلام (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، على ما يعتقدون ـ على الأقل ـ تجاه إصلاحِ وتقويمِ المعوَج في الأُمّة الإسلاميّة، بمقدار إمكانهم والفُرَص التي كانت تسنَح لهم في خلال الأيّام.
وهُم في كلّ ذلك، كانوا يتوخّون ما تقتضيه المصلحة الإسلاميّة العُليا في ذلك الحين، بما يُواجه المجتمع من مشاكل والدولة مِن أزَمات.
فكان موقفهم، تجاه صراع الدولة الإسلاميّة، بما فيها الجهاز الحاكم، مع الكُفر، ومع الأخطار المُحدِقة بالمسلمين، من قِبل الأعداء، مادّياً وعقائدياً، موقف المؤيّد للجهات الحاكمة، تأييداً مُحترساً مقتضباً، خَشية أنْ تقَع هذه الجِهات في الانحراف، حتى في هذا الحقل نفسه.
وكان موقفهم، تجاه المشاكل الداخلية للدولة الإسلاميّة، تلك المشاكل التي كان يُثيرها حكّام أو جماعات منحرفة في الداخل، موقفَ المراقب والمُصلِح والناصح، ولم يكن مثل هذا الموقف بسائغ في نظَر سائر الحكّام مِن خُلفاء ووزراء وقضاة، وكانوا يتّقون من ذلك ويحذَرونه بعُمق، ويجعلون الاحتياطات المشدّدة أيضاً ضدّه، فكان هذان الموقفان الإسلاميّان من أئمّتنا (عليهم السلام) مثيراً لحقد الجهاز الحاكم عليهم وتحذّره منهم، قولاً وفِعلاً، وبالطبع فإنّ الأئمّة (عليهم السلام) كانوا يعملون بمقدار الإمكان، وعند ورود الفُرَص السانحة، آخذين بنظر الاعتبار هذا الضغط المتزايد الوارد إليهم والموجّه إليهم، فكان هذا الضغط موجباً لكفكفة نشاط الأئمّة (عليهم السلام) وقلّة إصلاحاتهم وضآلة تأثيرهم، بالنسبة إلى الحاجات الكُبرى للمجتمع.
ومِن ثمّ كان أئمّتنا (عليهم السلام) يقتصرون في غالب نشاطاتهم، على الدوائر الخاصّة من أصحابهم، وفي حدود ارتفاع الضغط أو قلّته أو المخاتلة معه، وكانت تتّسع هذه الدائرة، أو تضمر أو بحسَب الظروف التي يمرّ بها الإمام (عليه السلام) وتتناسب كثرتها تناسباً عكسيّاً مع ضعف الجهاز الحاكم.
فكان إذا ضعُفت الخلافة، ووهى جانبها ينفتح أمام الإمام (عليه السلام) في ذلك العصر، فرصة العمل والجهاد والدعوة، كما حدَث في زمَن الإمام الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام) الذي عاشَ في عصر تحول الدولة الإسلاميّة من الخلافة الأمويّة إلى العبّاسية، فاشتغل ببث العلوم الإسلامية والتعاليم الإلهيّة على أوسع نطاق، وكان إذا قَوِيَت الخلافة أو قوي صنّائعها والمنتفعون منها، فإنّه ينغلِق أمام الإمام (عليه السلام) في ذلك العصر، فُرَص العمل والجهاد والدعوة، إلاّ في أضيَق الحدود، كما حدَث في العصر الذي نؤرّخه، حيث سيطرَت الموالي وجماعة الأتراك على الحكم، وجعلوا الأئمّة (عليهم السلام) تحتّ أشدّ الرقابة وأعمق الحذَر.
والموقف نفسه، كان هو موقف أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) والمجاهدين بين يديهم، فإنّهم إنْ توسّع إمامهم (عليه السلام) في العمل توسّعوا وأنْ ضيّق ضيّقوا، وكان الإمام (عليه السلام) ينهى أصحابه في أوقات الشدّة والضيق عن التصريح بما يُخالف القانون والسائد والوضع القائم.
والإمام (عليه السلام) بشخصه بصفته الرئيس الفعلي، لقواعد الشعب الكبيرة، يكون ـ على كلّ حال ـ في حصانة جزئيّة عن التنكيل الفعلي المكشوف من قِبل الحاكمين، لئلاّ يثيروا عليهم الرأي العام والشعب بأكمله آخذين بنظر الاعتبار، نظر التقديس والإجلال الذي كان ينظره الناس إلى أئمّة الهدى (عليهم السلام)، ذلك النظر الذي أجمَع المسلمون على صحّته وصوابه وإخلاصه، وإنْ كان جملة منهم، لا يؤمنون بإمامتهم.
ومن ثمّ كان الإمام في حصانة جزئيّة من التنكيل الفعلي الصريح، وهذا هو الذي كان شأن الأئمّة (عليهم السلام) من الإمام الرضا إلى الإمام العسكري (عليهما السلام)، مضافاً إلى أنّ سياسة الخُلفاء قامت بالنسبة إلى الإمام الجواد (عليه السلام) ومن بعده، إلى تقريبهم للبلاط وإسكانهم في بروجٍ عاجيّة، توخّياً إلى فصلهم التام عن قواعدهم الشعبية، ونشاطهم الجهادي، على ما سيأتي تفصيله.
ولئن كان موقف الأئمّة، محصناً من الناحية الشكلية، إلاّ أنّ موقف أصحابهم وتابعيهم، ومَن عرفه الحكّام بالولاء لهم، كانوا يذوقون سوط العذاب، إلاّ أنْ يتّقوا منهم تقاة، فكان أقلّ ما يُلاقيه الفرد منهم العزل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
فينتج من ذلك ـ بكلِّ وضوح ـ أمران:
الأمر الأوّل:
ضآلة النشاط السياسي والاجتماعي، من قِبَل الأئمّة (عليهم السلام) وأصحابهم، ذلك النشاط الذي لو كان موجوداً لفتَح آفاقاً تاريخيةً واسعة، بقِيَت مطويّة وغامضة أمام مَن يأخذ التاريخ من زاوية موضوعية محضة.
الأمر الثاني:
إنّ جملة من أعمال الأئمّة (عليهم السلام) وأصحابهم وأقوالهم، كانت سرّية بطبيعتها وأصل ظروف وجودها، بحيث لم يكن ليتجاوز خبرها الاثنين أو الجماعة القليلة، وكانوا يتبانون على سَتره وكتمانه بأمرٍ من الإمام (عليه السلام)، ولَم يكن ممّا يُكتب على صفَحَات التاريخ. شأن كلِّ حزبٍ سرّي معارضٍ ينزل إلى حلَبَات الجهاد.
الجانب الثاني:
ما يرجع إلى معرفتنا بذلك التاريخ ومقدار اطلاعنا عليه وهو الذي يُمثّل الصورة التي أعطاها المؤرّخون في كتبهم عن تلك الفترات، وهل هي مطابقة للواقع أم لا، وبأيِّ مقدارٍ كانت سِعة الصورة ودقّتها وعمقه؟ وإلى أيِّ مدى كان فهم المصوّر المؤرّخ واستيعابه للأحداث، ولِما وراءها من فلسفةٍ وعللٍ ونتائج.
لعلّ مِن مستأنَف القول... الخوض في البحث الذي يُذكر عادةً للطعن في أصلِ التاريخ وكيفيّة جمعه وترتيبه، ويذكر لذلك عدّة وجوه.
الوجه الأوّل:
إنّ المؤرّخ ليس إلاّ بشراً مثلنا، له ما لنا من جوانب القوّة، وعليه ما علينا من نقاط الضعف، والمشاهد بيننا بالوجدان، بأنّ قضيّةً ما قد تقَع في البلدة مثلاً يُشاهدها المِئات أو الآلاف، إلاّ أنّنا نسمع من كلِّ فرد شاهد عيان نقلاً لحوادثها يختلف عن نقل الآخر بقليل أو بكثير، حتى إنّه قد يصِل الفرْق إلى حدِّ التناقض.
هذا في المُشاهدين، فكيف الحال في النقل والرواية، فإنّ الحال تزداد سوءاً، ولا يكاد يبقى للحادثة المرويّة جسم، ولا روح، هذا في البلَد الواحد والمشاهدين الكثيرين، فكيف في بُعد الزمان وتفرّق المكان وقلّة المشاهدين وطول سند الرواية؟! كما هو متوفّر في كتب التاريخ المتوفّرة.
الوجه الثاني:
إنّ المؤرّخ، كأيّ إنسان، ليس إلاّ مزيجاً غريباً من مجموعةٍ مِن عواطف وغرائز وعقائد ومسبَّقات ذهنية وعادات حياتية، ولا يمثِّل العقل والفكر منه إلاّ بعضها من هذا المزيج. والمؤرّخ وإن كان يتخيّل ويفترض أن يكتب تاريخه بعقله وفكره، إلاَّ أن هذا واضح البطلان. وإنما هو يكتب تاريخه بمجموعة عواطفه وسائر مرتكزاته، وبخاصة في الحوادث التاريخية التي تقترن بخلاف بين جماعتين، أو بعواطف معينة.
الوجه الثالث:
إن هناك نحوين من الملاحظة ـ بحسب الاصطلاح العلمي:
أولهما: طريقة الملاحظة المنظَّمة التي يعتمد الباحث فيها النظر ويتقصَّى الحقائق حول حادثة معينة أو عدة حوادث حين وقوعها.
ثانيهما: الملاحظة المشوشة غير القائمة على التنظيم والتعمّد، كالتاجر يذهب إلى بلد معين ليستورد منها البضاعة، أو السائح يذهب إليه ليشاهده، وحين يعود، يُسأل عن ذلك البلد، وعن حقائقه ووقائعه، في حين أنه قد شاهدها صدفة وأحسَّ بها إحساس عشوائياً، ولم يتعمّد فهمها ولا التفكير فيها على وجه الخصوص.
والتاريخ مدوَّن عادة بالنحو الثاني من الملاحظة؛ لأن الأشخاص الذين كانوا يعيشون تلك الأزمنة، إنما عاشوها بصفتها حياة عادية، لا يعيدون فيها النظر ولا يتعمّقون في أسبابها ونتائجها. ثم يأتي الراوي منهم إلى المؤرّخ ليعطي له ما علق في ذهنه من هذا الخضم الزاخر الذي عاشه في حياته، ممّا قد مر أمامه مروراً عابراً.
لا أريد أن أدخل في البحث عن هذه المشكلات، فإننا ينبغي أن نكون فارغين عن أجوبتها قبل الدخول في البحث التاريخي، وإلاّ فالأولى لمَن يؤمن بحرفية هذه المشكلات وصدقها، ألاَّ يحاول قراءة أي حرفٍ من التاريخ.
طرق تذليل المشاكل التاريخية:
يقتضي التحقيق التاريخي تذليل هذه المشكلات بأحد الأساليب الآتية:
الأسلوب الأول: الحصول على التواتر في النقل التاريخي، فإذا اتفق كلام عدد كبير من الناقلين على وصف حادثة معينة؛ كان ذلك كافياً لإثباته تاريخياً، بل القطع به في كثير من الأحيان.
ولو اتفقوا على بعض خصائص الحادثة، كان ذلك ثابتاً بالتواتر، دون ما زاد عليه. ولو اختلفوا في كل الخصائص مع اتفاقهم على أصل الحادثة، كان أصل حدوثها متواتراً فقط.
الأسلوب الثاني:
إننا إذا لم نستطع أن نحصل على التواتر المنتِج للعلم، فبالإمكان الحصول على الاطمئنان والظن الراجح بحصول الحادثة ناشئاً من جماعة يطمأن بعدم اتفاقهم على الكذب، وهو معنى الاستفاضة في النقل؛ فيما إذا اتفق أكثر المؤرّخين، أو جملة منهم، على شيء معين، مع سكوت الباقين عن التعرُّض إليه أو نفيه.
وهذان الأسلوبان يدفعان، فيما يتحَّققان فيه، جميع الشبهات الثلاثة التي أوردناها، إذ بعد حصول العلم أو الاطمئنان بوقوع الحادثة، لا يضر بذلك أن يكون الناقل لهما متحيِّزاً لمذهب أو لمصلحة، أو أن ملاحظته لم تكن منظَّمة؛ إذ المفروض، اتفاق الناقلين على النقل وعلى وقوع الحادثة.
الأسلوب الثالث:
إننا بعد اليأس عن حصول العلم أو الاطمئنان، من النقل التاريخي في نفسه، نستطيع الحصول على الوثوق بقول الناقل، وإن كان منفرداً، بحيث لا يبقى للشبهات السابقة أثر ملتفت إليه.
وهذا يتم بأحد نحوين:
أولهما:
الاطمئنان، بعد البحث في ترجمة هذا المؤرِّخ والاطلاع على خصوصياته الشخصية، بأنه ثقة مأمون عن الكذب والدس والخداع، فيطمأن بأنه لم يتعمَّد الكذب في نقله التاريخي.
ثانيهما:
الاطمئنان بوجود الروح العلمية الموضوعية في نفس هذا المؤرّخ، باعتبار أن الإنسان بعد أن يتمرّس في البحوث العلمية، ويتعوّد على الأسلوب العلمي، فإنه يغلب على الظن حصول الموضوعية العلمية والتجرّد في نفسه، جهد الإمكان. أو على الأقل، لا يضع خبراً مكذوباً نتيجة لمذهبه أو مصلحته، أو بأي دافع شخصي آخر.
الأسلوب الرابع:
الحصول على الاطمئنان بوقوع الحادثة نفسها، بقرائن خارجية أو اعتبارات عقلية، توجب الظن بأنه من المناسب وقوع هذه الحادثة أو عدم وقوعها. كما لو كان القول المنسوب إلى الشخصية التاريخية، أو الفعل المسند إليه، مناسباً مع سلوكه العام المعروف عنه، أو مع وجهة نظره تجاه الدين والحياة.
ولكن هذا لا يضر بوثاقه المؤرّخ الناقل، في سائر ما نقله من أخبار التاريخ، إذ قد يكون الكذب غير مستند إلى تعمّده الشخصي، بل هو إما مستند إلى السهو منه، أو من الرواة السابقين عليه أو اللاحقين له، أو إلى عمّدهم أحياناً، ولا يتحمّل المؤرّخ نفسه، من المسئولية العامة، إلاّ إذا وجدنا في كلامه الكثير من هذه الهفوات، بحيث ينثلم الظن بوثاقته أساساً.
كما أن هذا الأسلوب الرابع، قد يوجب قوة النقل التاريخي الضعيف أو الشاذ؛ بحصول الاطمئنان به بما تقوم عليه من قرائن وما تحفه من اعتبارات.
وبهذه الأساليب الأربعة، نستطيع أن ندفع الشبهات الثلاثة العامة على النقل التاريخي، أو نقلل من تأثيرها جهد الإمكان. فاحتمال التحيُّز يرتفع بقليل أو كثير، مع تعدّد النقل وقيام القرائن الخارجية على صدقه، كما أن احتمال الكذب بدافع شخصي آخر، يكون مرتفعاً لنفس السبب.
كما أننا بعد تأكدنا يقيناً أو اطمئناناً، من صدق الكلام، لا يهمنا أن تكون الملاحظة منظَّمة أو غير منظَّمة. على أن المطلوب في الملاحظة، هو ترسيخ الحادثة في الذهن وتأكيدها في الذاكرة، وهو ما يتوفّر في الملاحظات غير المنظَّمة أيضاً، كما في الحوادث التي يعتاد الإنسان عليها أو يهتم بها اهتماماً كبيراً، أو يتعجّب منها تعجّباً شديداً، أو يفرح بها فرحاً عظيماً أو يخافها خوفاً كبيراً.
فإن الراوي الذي يعيش الحادثة على إحدى هذه المستويات، يندمج بها إلى حدٍ كبير، مما يوجب رسوخها في ذهنه وتعمُّقها في ذاكرته، مما يفتح للمؤرّخ فرصة كبيرة للاستفادة في هذا السبيل. ويندرج كأمثلة لذلك: حوادث الحروب، والمناصب السياسية أو الدينية، والأمور المالية المهمة، سواء منها الخاصة أو العامة، والمعجزات، والوساطات بين الدول أو بين أهل النفوذ.. وغير ذلك.
على أننا لا نعدم الملاحظة المنظَّمة بالنسبة إلى جملة من المؤرّخين. فإن المؤرِّخ وإن كان يعرض للحوادث السابقة على عصره بطريق الرواية، إلاَّ أن بالنسبة إلى سني حياته، وخاصة بعد عزمه على تأليف كتابه التاريخي، لا شك أنه سيلاحظ حوادث عصره بالملاحظة المنظَّمة الناشئة من تعمُّد التسجيل وعمق التفكير. وهذا يتوفّر عادة في أواخر جوامع التاريخ، كالطبري والمسعودي وابن الأثير وغيرهم.
وعلى أي حال، فقد كان التعرُّض لهذه المشكلات وحلها استطراداً على ما نحن بصدده، من عرض مشكلات تاريخنا الخاص، وما هو مورد كلامنا في هذا الكتاب. فلئن كانت هناك أساليب تخفف من شبهات التاريخ بشكل عام، وتؤثِّر بدورها في تاريخنا الخاص، إلاَّ أن تاريخنا يستقل بمشاكل وعقبات، يكون تذليلها أصعب وأعمق إلى حدٍ كبير.
مشكلات تاريخنا الخاص:
وتتلخص المشكلة التي نواجهها في حقلنا، وهو تاريخ الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم، أن المؤرِّخين الذين تعرّضوا لهذا التاريخ، على ثلاثة أقسام:
القسم الأول:
المستشرقون ومَن حذا حذوهم وحاول تقليدهم من الشرقيين المسلمين.
وديدنهم العام على أن ينظروا إلى التاريخ الإسلامي من زوايا خاصة، تتلخص فيما يلي:
الأولى: الزاوية المادية التي يؤمنون بها.. إيمانهم بالحضارة الغربية ووجهة نظرها إلى الكون والحياة، تلك الوجهة التي نتجت بعد عصر النهضة، وأنتجت فصل الدين عن الدولة والكفر بسائر القيم الروحية والأخلاقية.
الثانية: الزاوية المسيحية التي تفترض سلفاً، ومن دون إعطاء أي فرصة للمناقشة، أن الدين الإسلامي باطل، وأن محمد بن عبد الله (صلَّى الله عليه وآله) ليس بنبي، وأن القرآن ليس كتاباً سماوياً؛ فضلاً عن أصحابه وخلفائه وأئمتنا (عليهم السلام).. فضلاً عن أفكار غيبية قد نؤمن بها، كالمعجزات ووجود المهدي، وغيرها.
الثالثة: الزاوية الاستعمارية. فإن جملة منهم عملاء من حيث يعلمون أو لا يعلمون، للدول التي ينتمون إليها أو للحضارة التي يعيشون فيها. فالمستشرق إما مأجور حقيقة، أو "عضو شرف" في قائمة الدس والتلفيق، حيث يشعر بضرورة الانتصار لدولته أو مصالح دينه أو قومه أو لأي شعار من الشعارات المعادية للإسلام.
على أن الأجر المبذول للتبشير الاستعماري المسيحي، ليس بالقليل ولا الضئيل، بل هو مما يعد بملايين، يسيل لها لعاب كثير من المفكرين وتشتري بها عقول عدد من الباحثين.
ومن ثم لم تصلح كتب المستشرقين لإعطاء الباحث صورة واضحة سليمة عن التاريخ الإسلامي، وإنما غاية الباحث في الإطلاع على ما كتبوه، هو التعرُّف على ما فيها من النقد والدس والتلفيق، ومحاولة الجواب عليه، وتذليل ما عرضت فيه من مشكلات.
القسم الثاني:
المؤرِّخون العامة من مؤرِّخي الإسلام، غير الشيعة الإمامية، أولئك الذين يذكرون تاريخ أئمتنا (عليهم السلام) وهم لا يؤمنون بإمامتهم ولا طاعتهم ولا قيادتهم.
وهذا القسم من المؤرِّخين، هو الذي تؤلِّف مؤلَّفاتهم الجزء الأكبر والأهم من التاريخ الإسلامي العام، أو التراجم أو الحديث التاريخي. وأقصد به الروايات التي تتضمَّن حوادث تاريخية معينة،كالطبري وابن الأثير وأبو الفداء وابن خَلِّكان وابن الجوزي وابن الوردي، وبعض ما تتضمنه الصحاح الستة من الحديث التاريخي.
وأعدل ما يقال بالنسبة إلى تعرُّض هؤلاء المؤرِّخين وأمثالهم إلى حياة الأئمة (عليهم السلام): أنه تعرُّض موجز عابر، يكتفي بالحادثة الواحدة والفكرة الشاردة، ويتجنَّب ـ بحذر متعمَّد ـ الخوض في تفاصيل تواريخهم (عليهم السلام).
والسبب في ذلك؛ فيما أرى، يعود إلى عدة أمور:
السبب الأول: التعصُّب المذهبي الذي يتجلّى على أشكال متعدِّدة في ذهن مؤرِّخ وآخر:
الشكل الأول:
عدم الإيمان بقدسية الأئمة (عليهم السلام) وكمالهم، بل الميل إلى ضد ذلك من الطعن فيهم والتنزيل من شأنهم.
الشكل الثاني:
أن المؤرِّخ وإن كان يؤمن بقدسيتهم وكمالهم؛ إلاَّ أن ضيق نظره وضحالة تفكيره، تقوده إلى الاعتقاد بأن شيعتهم أعداء تقليديين له ولأهل مذهبه. إذن، فمن خطل القول أن يهتم بتمجيد قادة أعدائه وأئمتهم.
الشكل الثالث:
أنه وإن كان التعصُّب على ذهن المؤرِّخ قليلاً، باعتبار وعيه الإسلامي الصحيح، إلاَّ أنه ـ على أي حال ـ مناصر لمذهبه، يود زيادة مؤيّديه ورسوخ عقيدتهم فيه. وهو يحتمل ـ على الأقل ـ أنه أن أسهب في بيان تاريخ أئمتنا (ع) وأطال في ذكر أقوالهم وأفعالهم، فإنه قد يميل بعض أبناء جلدته إليهم، ويجد ما يدعوه إلى الإيمان بإمامتهم، وهذا ما لا يريده المؤرِّخ بأيِّ حال من الأحوال؛ فهو يترك الإطالة في تاريخهم تمسّكاً بمذهبه ومحافظة عليه.
السبب الثاني:
أن تاريخ الأئمة (عليهم السلام) لا يعيش في أذهان هؤلاء المؤرِّخين إلاَّ قليلاً، وفي زاوية مهملة من زواياه؛ فإن الذي يستجلب أنظارهم ويستقطب اهتمامهم نحوان من الأشخاص:
النحو الأول:
الأشخاص السياسيون الذين تسنَّموا منصباً في الدولة، أو داروا في فلك الخلافة، أو كانوا أعداء لها وتولُّوا الحروب ضدها. وبالجملة: كل مَن سلك مسلك الحكم والسلطان.
النحو الثاني:
الأشخاص الدينيون والعلماء المسلمون الذين يقتضي مذهب هؤلاء المؤرِّخين الإيمان بهم والدعوة إليهم.
ولم يكن أئمتنا ـ في غالب أمرهم ـ من يندرج في أحد هذين النحوين. إذن، فلا يجد المؤرِّخ حاجة في نفسه إلى ذكرهم بأكثر مما تعرَّض إليه.
السبب الثالث:
ما يعود إلى الجهاز الحاكم المعاصر للمؤرِّخ.
إنّه من المعلوم أنّ الصدر الأوّل من المؤرّخين العامّة، كالذين سبَق أنْ سميّناهم، كانوا يعيشون في عهود الدولة العبّاسية، التي كانت بمسلكها العام معلنة العِداء مع مسلك أهل البيت (عليهم السلام) وعزَل أصحابهم عن المسرح الاجتماعي والسياسي بالكلّية.
ومن ثمّ يتّخذ المؤرّخ، أحد موقفين:
الموقف الأوّل: الحذَر من السلطات واتقاء شرّها، وذلك بالتجنّب عن الخوض فيما لا يحبّون وترك التعرّض إلى ما يكرهون، وذلك: إمّا بترك ذكر تاريخ أئمّتنا وأصحابهم أساساً، كأنّهم ليسوا أناساً كانوا في الوجود وقدّموا إلى البشريّة والإسلام أجلّ الخدَمات، وإمّا أنْ يذكرهم لكن بأقلّ القليل، من الجانب الذي يكون خالياً من الخطَر، بنحوٍ لا يثير على المؤرّخ حِقداً أو يحرّك نحوه عاطفة.
الموقف الثاني: أنْ يسير المؤرّخ في رِكاب الحكّام، يواكبهم في أفكارهم، ويُحاذيهم في أساليبهم، فينخرط إمّا أجيراً أو كـ (عضوِ شرف) في الجهاز الحاكم عِلماً وفِكراً، إنْ لم يكن عمَلاً ونشاطاً، ولا ينبغي السؤال ـ بعد ذلك ـ عن شأن ذكر الأئمّة (عليهم السلام)، في تاريخه، وهو بهذه الصفة!.
وبالرغم من هذه الدواعي الضخمة، إلى الحذَر والاختصار، في تاريخ أئمّتنا (عليهم السلام)، فقد فرَض هؤلاء القادة أنفسهم على المؤرّخين، وتمثّلت جُملةٌ من مواقفهم واتجاهاتهم في كلام المؤرّخين. إلى حد نستطيع أن نستخلص منه أحد أمرين:
الأوّل: معرفة مدى رسوخ الذكر الصالح لأئمّتنا (عليهم السلام) في القواعد الشعبية الإسلاميّة بشكلٍ عام، وتأكّد أعمالهم وعلومهم في أذهان الناس، إلى حدٍّ كانت المسؤوليّة الأدبية التي يواجهها المؤرّخ في ترك التعرّض لتاريخ الأئمّة (عليهم السلام)، أقوى من ضغط الحكّام ومن التعصّب المذهبي، ومن كلّ سببٍ رخيص.
الثاني: الاستفادة ممّا ورد في ما ذكره هؤلاء المؤرّخون، عن أئمّتنا (عليهم السلام) في التعرّف على بعض حوادث حياتهم، وشيء من علوّ مقامهم وتأثيرهم السياسي والاجتماعي، ممّا يكون مورد نفع كبير ـ بالرغم من اختصاره ووجود الفجَوات الكبرى فيه ـ فيما نعتقده فيهم عليهم السلام، وما نريد أنْ نؤرّخه من حياتهم.
القسم الثالث:
المؤرّخون الإماميّون: وهم مؤرّخو الأئمّة (عليهم السلام)، الذين يؤمنون بإمامتهم ويعتقدون بقيادتهم ويستضيئون بأفعالهم وأقوالهم، إلاّ أنّ الحديث في تواريخهم لا يقلّ في شجونه عن الحديث في القسمين الأوّلين، وإنْ كانت شجوناً بشكلٍ آخر.
فإنّه لا يردّ عليهم جملة من الاعتراضات التي كانت ترد على أُولئك المؤرّخين، والسرّ في ذلك واضح: وهو أنّ الأئمّة (عليهم السلام) وتابعيهم، كانوا ولا زالوا يمثّلون الجبهة الواعية المعارضة للجهاز الحاكم على طول التاريخ، وقد بذلوا في هذا السبيل كثيراً من التضحيات، فمِن غير المحتمل في المؤرّخ الإمامي إذا كان مُخلصاً غير منحرف، أنْ يكون تابعاً للجهاز الحاكم الذي يُعاديه ويثور عليه، أو أنْ يكون أجيراً له أو (عضو شرف) يعيش على موائده، كما أنّه من غير المحتمل أنْ يهمل ذكر الأئمّة (عليهم السلام) تحت أيّ ظرفٍ من الظروف، أو أنْ يجعل لهم في ذِهنه زاويةً مهملة، أو في تاريخه قِسطاً قليلاً، بعد أنْ كان يؤمن بهم أئمّةً وسادة وقادةً ومثلاً إسلاميِّين مبدأيِّين.
إلاّ أنّ الشجون تتمثّل عندهم في عدّة جوانب:
الجانب الأوّل: أخذهم بالتقيّة التي يؤمنون بها ويُطبّقونها في جوانب حياتهم، فإنّ الضغط الذي عاشوه، كان يقلّل من نشاطهم ويُكَفكِف مِن أعمالهم، ويثير لديهم الحذَر والكتمان، فيحملهم على التلميح بدَل التصريح، والاختصار عِوَض التطويل.
الجانب الثاني: ما تعرّض له المسلمون بشكلٍ عام، والإماميّون بشكلٍ خاص، مِن القتلِ والتشريد على أَيدي أشرار خَلق الله وأعداء دين الله، وكانت الحروب تنصب فيما تنصب عليه، على المكتبات الفارهة الزاخرة، فيضاف إلى إتلاف النفوس إتلاف الكتب، بالإغراق والإحراق؛ لأجل قطع الأجيال المُقبلة عن دينها المقدّس وعن حديث نبيّها وأئمّتها وتاريخ أبطالهم، وفقههم وعقائدهم.
وكانت أرقام الكتب التالفة، في كلِّ حرب من حروب التتار والمغول والصليبيّين، يرتفع إلى مِئات الآلاف، فكيف بالمجموع؟! ومن المعلوم أنّ تلَف هذه الكميّات الهائلة من الكتب، هو في الواقع تلَف لكمّيات هائلة من الثروة الفكريّة الضخمة التي كان المجتمع المسلم زاخراً بها، من أوّل أيّامه، ولم يبقَ منها اليوم إلاّ القليل.
ومن هنا نحتمل، بل نستطيع أنْ نتأكّد، أنّه كان لمؤرّخي الإماميّة وعلمائها، كلامٌ أكثر، ونقلٌ أزيَد عن أئمّتهم، سَواء في الترجمة أم العلم أم العمل أم غير ذلك من جوانب الحياة، وقد تلَف ذلك ولم يرِد إلينا شيءٌ منه، وقد أصبنا نتيجةً لذلك بمحلٍّ فكري، وحصَل في تاريخنا الإسلامي فجَوات مؤسفة، من الصعب علينا التأكّد ممّا يَملؤها على وجه التحديد.
ولكن النعمة الإلهية والحكمة الأزليّة، الثابتة بمقتضى وعد الله تعالى في كتابه الكريم بأنّ يتمّ نوره ولو كرِه المشركون، اقتضت بأنْ يبقى من الكتب لسدّ ما هو الضروري من حاجات العقائد والتاريخ والفقه، وغيرها من الميادين الإسلاميّة.
الجانب الثالث: وهو ما يعود إلى الأُسلوب العام الذي مشى عليه مؤرّخونا، في حدود ما وصل إلينا من الكتب السالمة من التلَف.
ونحن بهذا الصدد نستطيع أنْ نقسّم مؤرّخينا إلى قسمين:
القسم الأوّل:
من سار في أُسلوبه التاريخي، على غِرار التاريخ العام الذي مشى عليه الأوّلون قبلهم، كالمسعودي واليعقوبي فقد ساروا ـ على خلاف اعتقادهم ـ على ترتيب تسلسل الخلفاء الراشدين والأمويّين والعبّاسيين، وأسهبوا في بيان التاريخ السياسي للسلطات الحاكمة، ولم يعطوا لتاريخ الأئمّة إلاّ القليل، وإنْ كان أكثر بقليل من كثير من المؤرّخين.
وبذلك حرَمنا هؤلاء المؤرّخون، من التاريخ الإمامي العام الذي يشمل سائر جوانب الحياة، الذي يُعطي جانب الأئمّة (عليهم السلام) وأصحابهم من الاهتمام والشرح بقدَر ما يُعطي الجهاز الحاكم، ويذكر للجيمع أعمالهم وأقوالهم بتجرّد وإخلاص، ويدَع الحكم والتحليل للأجيال المقبلة، ولله في خلقه شؤون.
القسم الثاني:
مَن سار في تاريخه، على طريقه سرد الأحاديث والروايات الواردة عن الأئمّة أنفسهم، بالشكل الذي وصلت إليهم على طريقة الرواية المسندة عنهم (عليهم السلام).
وهذا الذي ذكره هؤلاء المؤرّخون، أمثال الشيخ الطوسي والشيخ المفيد والطبرسي وابن شهر أشوب، هو المورد الوحيد الذي أغنانا بثروة مهمّة من أخبار الأئمّة (عليهم السلام) وتراجمهم وأفعالهم وأقوالهم، وهو المصدر الأساسي الذي إذا ركن إليه الباحث، فإنّما يركن إلى تاريخ الأئمّة مأخوذاً من تابعيهم وذويهم، لا من الآخرين الذين لا يعتقدون بهم، ولا يمتّون إليهم في العقيدة بصلة.
نقاط الضعف في التاريخ الإمامي الخاص
وكان هذا الأُسلوب الذي اتخذه علماؤنا ومشايخنا، لا يخلو من عدّة نقاطِ ضعف نستطيع أنْ نعرضها فيما يلي، منطلقين من مورد بحثنا ومحل كلامنا.
النقطة الأُولى: إنّ التأكيد كلّ التأكيد في كُتب هؤلاء الأعلام، والغرَض الأساسي لهم، هو الناحية العقائدية بالخصوص، إذ يبذل المؤلّف منهم جهداً كبيراً ويكرّس كتابه على إثبات إمامة الأئمّة، وذكر فضائلهم ومعاجزهم، ويغفلون عن تخصيصِ فصلٍ يذكرون فيه جهاد الأئمّة (عليهم السلام) ونشاطهم الإسلامي، وما يكتنف استخلاصه عرضاً، ممّا ورد في خلال ما نقوله من المعجزات والفضائل من حوادث التاريخ، وهو الذي استطعنا أنْ نعتمد عليه في خلال بحوثنا الآتية.
غير أنّه من المعلوم، أنّ هذه الحوادث تكون أقلّ عُمقاً حين يكون النظر متوجّهاً إلى غيرها والتأكيد منصرف إلى سواها، وهو أمرٌ يثير في النفس أشدّ الأسف.
النقطة الثانية: مجيء هذه التواريخ، في كلامهم، مبعثرةً مشوّشة إذ تحتوي كلّ رواية على قسم صغير من الحوادث، وقسمٌ كبير من التأكيد العقائدي، ممّا يحتاج ترتيبه وتبويبه وإرجاعه إلى أُصوله، إلى جهدٍ مضاعف وعملٍ كبير.
النقطة الثالثة: مجيء هذه التواريخ مهملة ـ في غالبها ـ من المكان والزمان، لا يُعلم ـ في حدود ما نقلوه ـ عامَ حدوثها ولا مكانها ولا مقارناتها من حوادث التاريخ.
ومن ثمّ اكتنف الغموض أسبابها ونتائجها، واحتاج في ردّها إلى موضعها الطبيعي من عملٍ جديد وجهدٍ جهيد، مع مقارنتها ببعضها البعض، وبالتاريخ العام، كما سنضعه فيما يلي من الحديث.
النقطة الرابعة: التطويل فيما ينبغي فيه الاختصار والاقتضاب فيما ينبغي فيه التطويل، فليس العرض على شكلٍ واحد متساوي الجوانب فقد تحتوي الرواية على وصفٍ مسهب للحياة الشخصية لراويٍ معيّن مقدّمةً لفهمِ كلامه مع الإمام (عليه السلام)، ولكنّها لا تكاد تدخل في المجال التاريخي، على حين أنّك تجد اقتضاباً مخلاًّ إذا أردت التعرّف على تفاصيل موقف الأئمّة (عليهم السلام) أو أصحابهم أو سفرائهم، من الحوادث السياسية السائدة في عصورهم، كثورة صاحب الزنج أو القرامطة مثلاً، أو رأيهم في تأسيس دولة الأندلس الإسلامية في قلب أوروبّا، ودولة ابن طولون في مصر، وغيرها من حوادث العصر الذي نؤرّخ له، ولنْ تجد في هذه المصادر إلاّ إشارات ضئيلة وعبارات قليلة، لا تكفي إلاّ لتكون فكرة شاحبة ذات فجَوات واسعة، عن نشاط الأئمّة (عليهم السلام) ووكلائهم وأصحابهم وقواعدهم الشعبية، ورأيهم في ذلك.
النقطة الخامسة: هي نقطة إسناد الروايات، وحال رواتها السابقين على هؤلاء المؤلّفين الإعلام، من الوثاقة والضعف.
فإنّ هؤلاء الإعلام بذوقهم الموضوعي العلمي، واتجاههم الموسوعي الذي يرمي إلى حفظ كلِّ حديث وارد، والتقاط كلَّ واردٍ وشارد.... قد جمعوا في كتبهم كلّ ما وصلَهم من الروايات عن الأئمّة (عليهم السلام) أو عن أصحابهم، بغضّ النظر عن صحّتها أو ضعفها، وأَوكلوا مسؤوليّة التدقيق والتمحيص إلى مراجعي الكِتاب من الباحثين في الأجيال المقبلة، وهذا ـ إلى هذا الحد ـ عملٌ أمينٌ وجليل، حفظوا فيه التاريخ الإسلامي، واستحقّوا عليه الشكر والثناء.
ولو كان بأيدينا فكرةٌ واضحة مفصّلة عن أحوال الرواة لهذه الأحاديث الكثيرة، لهان الأمر إلى حدٍّ كبير، ولأخذنا بالرواية الموثوقة وأهملنا الرواية الضعيفة، ولم نعتبرها إثباتاً تاريخياً كافياً، إلاّ مع وجود قرائن خاصّة تدلّ على صِدقها ومطابقتها للواقع.
إلاّ أنّه من المؤسف القول، أنّ أعلامنا الأوائل، إذا ألّفوا في علم الرجال وصنّفوا في تراجم الرواة، اقتصروا في ذلك ـ في كلّ كتبهم ـ على الرجال الرواة للأحاديث الفقهيّة التشريعيّة التي تتعرّض للأحكام الشرعية، وأولَوها العناية الخاصّة بصفتها محلّ الحاجة بالنسبة إلى إطاعة الأوامر الإسلاميّة، ولكنّهم أهملوا إهمالاً يكاد يكون تامّاً ذِكر حال الرجال الذين وجِدت لهم روايات في حقولٍ أُخرى من المعارف الإسلاميّة، كالعقائد والتاريخ والملاحم وغيرها، ممّن قد يربو عددهم على رواة الروايات الفقهية.
فإنْ صادف، مِن حسنِ حظّ الراوي، أنْ روى في التاريخ والفقه معاً، وجدنا له ذكراً في كُتبهم، أمّا إذا لم يروِ شيئاً في الفقه، فإنّه يكون مجهولاً، وإنْ كان من خيرِ خلق الله عِلماً وعمَلاً، كما تدلّ عليه الروايات بالنسبة إلى عددٍ منهم.
منهجنا في التمحيص
نستطيع الخروج، من مأزق جهالة حالِ الرواة، بعدّة أُمور:
أوّلاً: الأخذ بالروايات الموثوقة سنَداً، أن فرض كون رواتها مذكورين ومنصوص عليهم بالوثاقة.
ثانياً: الأخذ بالروايات المشهورة في طبَقة أعلامنا المؤلّفين، أو في الطبَقات المتقدّمة عليهم، إذ لعلّ كثرة روايتها منهم، دالٌّ على اطمئنانهم بوثاقة راويها أو الظن بمطابقتها للواقع، ولعلّ الشهرة تصل إلى حدٍّ تكون بنفسها موجبة للاطمئنان الشخصي بصحّة السنَد وصِدق المضمون فتكون بذلك إثباتاً تاريخيّاً كافياً.
ثالثاً: الأخذ بالروايات التي قام شاهدٌ على صِدقها من داخل مضمونها، أو بضمّ قرائنٍ خارجيةٍ إليها، كتلك الروايات التي وردت في تاريخنا الخاص، وتضمّنت ذكر بعض الحوادث والحقائق التاريخية العامّة، كالقرامطة أو ابن طولون، أو بعض الخلفاء العبّاسيّين أو بعض وزرائهم، أو تاريخاً لحادثة معينة، ممّا نجده صادقاً عند مراجعة التاريخ العام، فيكون ذلك دليلاً على صِدقها وصحّتها لا محالة.
كما قد نستطع أنْ نحصل على قرائن من بعضها على البعض، أو مِن مناسبتها لمقتضى الحال، أو نحو ذلك، على ما سوف يأتي في البحوث الآتية.
رابعاً: الأخذ بالروايات المجرّدة عن كلّ ذلك إذا كانت خالية عن المعارض، ولم تقُم قرينةٌ على كذِبها وعدَم مطابقتها للواقع، وكانت إلى جانب ذلك ممّا يُساعدنا في تذليل بعض المشكلات، أو الإجابة على بعض الأسئلة المطروحة على بساط التاريخ، فإنّنا نضطرُّ إلى الأخذ بها بصفتها المصدر الوحيد للجواب.
ولا يبقى بين أيدينا إلاّ الروايات التي هناك شاهدٌ على كذِبها، وإلاّ الروايات المتعارضة التي نُشير إليها في النقطة الآتية.
ولا يخفى أنّ كلَّ ذلك، إنّما هو بالنسبة إلى الحوادث الجزئيّة التي يحتاج إثباتها التاريخي إلى شاهد، وأمّا الأُمور التي هي من ضروريّات مذهبنا، أو قام عليها التواتر في النقل، فإنّنا نعتبر ذلك إثباتاً تاريخياً كافياً، بالرغم من أنّ ضرورة المذهب لا تكون ملزِمة لِمَن لا يلتزم بالمذهب، إلاّ أنّ المراد حيث كان هو التعرّض لتاريخ الإمام المهدي (عليه السلام) في غيبته الصغرى من تاريخنا الخاص كما نؤمن به وصرّح به مؤرّخو الإماميّة، صحّ لنا الاعتماد على مثل هذه القرينة.
النقطة السادسة: إنّ أعلامنا المؤلّفين، بذوقهم الموسوعي واتجاههم إلى حفظ سائر الحديث، أوردوا بعض الروايات المتعارضة، كالروايات الورادة في جواب: أنّ المهدي (عليه السلام) ماذا نطَق في أوّل ولادته؟
أو الواردة في جواب: أنّ الشلمغاني هل كان وكيلاً للسفير الثالث للإمام المهدي (عليهم السلام) أو لم يكن؟ وغيرها.
والإنصاف أنّ من العجيب والطريف الموجب للإعجاب والإكبار لهؤلاء المؤلّفين الأعلام، أنّنا نجد أنّ تعارض الروايات على هذا الصعيد أقلّ منه بكثير ممّا هو في الفقه مثلاً، إذ يُعاني الفقيه عناءً كبيراً للتوفيق بين المتعارضات وحمْل بعضها على بعض، والتوصّل في النتيجة إلى الحكم الشرعي المنشود، أمّا على هذا الحقل التاريخي، فبالرغم من وَفرة الروايات وجهالة جملة من رواتها، فالروايات متّفَقة ومُتعاضدة ويندر فيها ما يكون من قَبيل المتعارضات إلاّ أقلّ القليل.
وعلى أيّ حال فإنّنا إذ نكون بحاجة إلى تذليل الصعوبة الناتجة عن التعارض، لننتفع من نتائج الحلّ في بحوثنا التاريخية، لابدّ لنا أن نسير على إحدى الخطوات التالية:
أوّلاً: إذا كانت إحدى الروايتين أصحّ سنَداً أو أشهر نقلاً، أخذنا بها وطرحنا مدلول الرواية الأُخرى، بمقدار التعارض.
ثانياً: إذا كانت الشواهد والقرائن متوفّرة على صِدق إحدى الروايتين دون الأُخرى، أخذنا، بما قام الشاهد على صحّته وطرحنا الآخر.
ثالثاً: إذا فقدنا المرجّحات بين المتعارضين، أسقطناهما معاً عن قابليّة الإثبات التاريخي، ولم يكن الأخذ بأيٍّ منهما، ولكنّ إلاسقاط يختص بحدود التعارض في المدلول لا محالة، ولا يعني ـ بمقتضى القواعد ـ إسقاط سائر ما دلّت عليه الرواية، فيؤخذ به مع توفّر سائر الشرائط فيه.
فهذه هي أهمُّ نقاط الضعف، في أساليب أعلامنا المؤرّخين مع بيان النهج الذي سنُحاول السير عليه في بحوثنا الآتية.
ثمّ إنّنا سنواكب التاريخ مقتبساً من هذا القسم الأخير من أعلامنا المؤرّخين، لنحظى بعدّة فوائد دفعةً واحدة:
الفائدة الأُولى:
أنْ نعرف تاريخ الأئمّة (عليهم السلام) وأصحابهم، من المؤرّخين المؤمنين بهم الموالين لهم وصاحب البيت أدرى بالذي فيه.
ومن المحتمل، بل المعلوم تسرّب بعض الحقائق إلى كتبهم ممّا حُجِب عن كُتب الآخرين أو تعمّدوا إلى تركه، فإنّ نشاط ألائمّة (عليهم السلام) وعلمهم وأقوالهم، كانت ـ بلا شكّ ـ بالنسبة إلى أصحابهم أكثر ممّا هي بين الآخرين، وقد وصلت إلى أجيالهم المتأخرة دون الآخرين.
الفائدة الثانية:
أنْ نحظى بزيادات كثيرة غير موجودة في كلام غيرهم، فإنّ كلام أعلامنا هو المصدر الوحيد لكثير من الحقائق التي تحلّ لنا المشكلات وتذلّل لنا العقبات وتملأ فجَوات التاريخ إلى حدٍّ كبير، وهي حقائق أهملها الآخرون عندما اقتضبوا الكلام في هذا الحقل، من التاريخ الإسلامي، الدواعي السابقة التي أسلفناها، فلَم يكن من المُمكن لهذا الحقل أنْ يكون تامّاً وأنْ تملأ ما به من فجَوات، بتخصيص الاعتماد على كتب أخوتنا أهل السنّة، في التاريخ العام وغيره.
على أنّنا سوف نعتمد على كتب هؤلاء المفكّرين مَن تعرّض لهذا التاريخ، كابن خلكان وابن الجوزي والخوارزمي وغيرهم؛ لنستفيد من أقوالهم في تحديد العصر الذي نؤرّخه، وخاصّةً في ما سقَط من كلامِ أعلام مؤرّخينا غفلةً أو عمداً.
الفائدة الثالثة:
إنّنا نقتبس هذا التاريخ من أهله، واضحاً صافياً خالياً من الدسّ ونقاط الضعف والخرافات، بنحوٍ نستطيع به ـ بكلّ سهولة ـ أنْ نناقش ما انفتحت به الألسنة من مناقشات وإشكالات، ونواجه به سائر الباحثين من مسلمين وغير مسلمين، فإنّ سائر ما قيل ناشئ إمّا من الجهل بالتاريخ وعدَم الرجوع إلى مصادره الحقيقية، وأمّا من الاعتماد على الروايات الشاذّة والظنون الواهية التي لا تستند على أساس.
فإذا عرضنا التاريخ صريحاً واضحاً ممحّصاً، لم يبقَ أمامنا إشكالٌ، ولم يرد عليه أيُّ سؤال.
وبعد هذه المقدمة، لابد لنا من الدخول في تفاصيل التاريخ، وحيث كنا بصدد عرض تاريخ الإمام المهدي (عليه السلام) في ولادته وغيبته الصغرى؛ لابد أن نلتفت إلى الوراء بقليل لنتعرَّف على تاريخ أبيه وجده (عليهما السلام)، لنستطيع أن نلُمَّ بوضوح بكل الأسباب التي أدت إلى الحوادث في العصر الذي نؤرِّخ له.
ومن ثم قسَّمنا هذا التاريخ إلى قسمين:
القسم الأول: تاريخ الإمامين العسكريين من عام ٢٣٤هـ إلى عام ٢٦٠هـ
الفصل الأول: في عصرهما (عليهما السلام)
لابد لنا ونحن في صدد الكلام عن تاريخ الإمامين العسكريين، ابتداءً من أول سكنى الإمام الهادي (عليه السلام) في سامراء عام ٢٣٤ هـ، حين أشخصه المتوكِّل إليها، وانتهاء بوفاة الإمام العسكري (عليه السلام) ٢٦٠ هـ.. لابد لنا أن نلُمَّ إلمامة كافية بالحوادث الجارية في عصرهما والأفكار السائدة فيه؛ حتى نكون على بصيرة من أمرنا حين نواجه تاريخ هذين الإمامين (عليهما السلام)، ونسمع ما يصدر منهما من أقوال وما يقومان به من أفعال.
وسيكون هذا العرض ـ في واقعه ـ عرضاً لعصر خلافة سامراء، ابتداء من العام المشار إلى قبيل آخره. وسيكون هذا العرض تحليلياً لا تاريخياً صرفاً؛ إذ لا معنى لسرد الحوادث بشكل تفصيلي، مع وجود المصادر الكثيرة للتاريخ العام. وإنما الذي نحن بصدده، هو إعطاء صورة كافية عن اتجاهات الحوادث وأسبابها ونتائجها، بشكل تحليلي منظَّم.
وعلى ذلك، فالذي يظهر أو يستنتج من التاريخ الإسلامي العام: أن المعتصم بالله العباسي، حين رأى ازدحام الموالي في جيشه وقواده من الأتراك والمغاربة والفراغنة، في العاصمة بغداد، وتعرُّضهم إلى الأهالي بالأذى وعدم عنايتهم بالسلوك الحميد تجاه الناس؛(٦) قرر بناء سامراء ونقل مركز الخلافة إليها، لنقل هذا الجيش إليها.
وانتقل إليها فعلاً عام ٢٢٠ للهجرة.(٧) واستقل هؤلاء القواد بالعاصمة الجديدة وسيطروا شيئاً فشيئاً على دفة الحوادث ومجريات الأمور، حتى وصلوا إلى السيطرة على مركز الخلافة نفسها، فأصبحوا يزعجون الخليفة، ويشغبون عليه تارة، ويقتلونه أخرى، ويتحكّمون في تنصيب خليفة ثالثة. وقد ذاق منهم الخلفاء الثمانية الذين تتابعوا على عرش سامراء الأمرَّين، حتى خرج منها المعتمد في عام ٢٧٩(٨) إلى حيث مات، واستهل خَلَفه المعتضد خلافته ببغداد في نفس العام.(٩)
ومن هنا نرى أن سامراء كانت عاصمة الخلافة العباسية أكثر من نصف قرن، أصبحت خلالها زهرة البلدان ودرة التيجان، لا أجمل... ولا أعظم ولا آنس ولا أوسع ملكاً منها،(١٠) وأصبح طول البناء فيها أكثر من ثمانية فراسخ.(١١) ولكنها أصبحت خراباً بمجرد انتقال الخلافة عنها، وغار نبعها دفعة واحدة، حتى لم يبق منها إلاّ موضع غيبة الإمام المنتظر المهدي (ع)، ومحلّة أخرى بعيدة عنها يقال لها: كرخ سامراء. وسائر ذلك خراب، يستوحش الناظر إليه.(١٢)
وقد تعاقب على سامراء من خلفاء بن العباس، ثمانية، هم: المعتصم منذ انتقاله إليها عام ٢٢٧ هـ، حيث بويع بعده للواثق حتى عام ٢٣٢ هـ، حيث بويع بعده للمتوكل حتى عام ٢٤٧ هـ يوم قتله الأتراك بعد ليلة حمراء زاخرة باللهو والشرب،(١٣) فبويع بعده للمنتصر حيث بقي في الخلافة ستة أشهر ويومين.(١٤) وبايع الأتراك بعده المستعين عام ٢٤٨ هـ، حتى خلع نفسه عام ٢٥٢ وبايع للمعتز بالله،(١٥) حتى خلعه الأتراك عام ٢٥٥ وبويع للمهتدي بالله، حتى قتله الأتراك أيضاً عام ٢٥٦ هـ وبويع للمعتمد على الله حتى عام ٢٧٩ هـ، وبويع بعده للمعتضد بالله في بغداد.. وبه كانت نهاية العاصمة (سامراء).
وقد اتصف هذا العصر بعدة خصائص، يشترك بعضها مع بعض ما سبقه من عصور الخلافة، ويستقل بالبعض الأخر. فكان جملة ما يلاحظ على هذا العصر من خصائص، هي:
أولاً: ضعف الخلافة، وسقوط هيبتها من أعين الناس إلى حد كبير؛ نتيجة لعدة عوامل:
منها: استيلاء الأتراك على العاصمة، واستيلاء العمّال والأمراء على الأطراف، وانعزال الخليفة انعزالاً يكاد يكون تاماً عن ممارسة الحكم، حتى قال المعتمد، بعد التجربة التي قاساها:
أَلَـيسَ مِـنَ العَجائِبِ أَنَّ مِثلي * * * يَـرى مـا قَـلَّ مُـمتَنِعاً عَلَيه
وَتُـؤخَذُ بِـاِسمِهِ الـدُنيا جَميعاً * * * وَمـا مِـن ذاكَ شَيءٌ في يَدَيهِ
إلـيه تُـحمَلُ الأمـوالُ طُـرَّاً * * * ويُمْنَعُ بعضَ ما يُجبى إليه(١٦)
ومنها: الليالي الحمراء واللهو والمجون، الذي كان ينغمس فيه الخليفة بعد استلامه كرسي الحكم، وينصرف به جزيئاً أو كلياً عن النظر في شئون الناس. يُستثنى من ذلك المهتدي بالله الذي كان أحسنهم مذهباً وأجملهم طريقة،
حاول أن يكون في بني العباس ما كان عمر بن عبد العزيز في بني أمية.(١٧) إلاَّ أن ذلك كان بنفسه نقطة ضعف في نظر أصحابه الأتراك والمغاربة والفراغنة، فقاتلوه حتى قتلوه.(١٨)
أما حوادث اللهو والخمر والمنادمة، فهذا أوضح من أن يستشهد له، وكتب التاريخ زاخرة به. ولعل خير ما يذكر في المقام، موقف المتوكِّل من الإمام الهادي (عليه السلام)، حيث أرسل جماعة من الأتراك لكبس بيته والقبض عليه في جوف الليل. فألقوا عليه القبض وهو يقرأ القرآن، وحمل إلى المتوكِّل، فمَثُل بين يديه، والمتوكِّل يشرب وفي يده كأس. فلما رآه أعظمه وأجلسه إلى جانبه، وناوله الكأس الذي في يده. فقال: (يا أمير المؤمنين، ما خامر لحمي ودمي قط، فاعفني، فأعفاه)(١٩).. إلى آخر الحادثة التي سوف تأتي في مقبل البحث.
ثانياً: استيلاء الموالى على دفة السياسة العليا، في العاصمة والأطراف، وأكثرهم من الأتراك، وعزل الخليفة جزيئاً أو كلياً عن النظر في شئون الدولة.
فمن هؤلاء: بغا الكبير، وابنه موسى بن بغاء، وأخوه محمد بن بغاء، وكيغلغ وبابكيال واسارتكين، وسيَّما الطويل وياركوج وطايغو واذكوتكين وبغا الصغير الشرابي ووصيف بن باغر التركي.
وقد تفرَّد هذان الأخيران بالأمور،(٢٠) وفيهما قيل:
خـليفةٌ فـي قفصٍ * * * بـين وصيفٍ وبغا
يـقول مـا قالا له * * * كما تقول الببغا(٢١)
وكان هؤلاء القواد الموالى تارة ضدة الخليفة وأخرى ضد أعدائه، بحسب ما يرون من المصلحة. فهم في الوقت الذي لا يجد الخليفة سواهم من يرسله إلى الأطراف لقتال العصاة والخارجين عن الطاعة، فإنهم يكونون خارجين عليه في كثير من الأحيان، ويقومون بقتل الخلفاء، واحداً بعد الآخر: إما لتهديد الخليفة بعض قوادهم،(٢٢) أو لتأخُّر أرزاقهم وروابتهم.(٢٣)
وقد ذكرنا قتلهم للمتوكِّل والمهتدي، ونجد لهم حوادث جمَّة، كخلعهم المعتز والمؤيَّد ابني المتوكِّل من ولاية العهد(٢٤)، واستخلافهم للمستعين،(٢٥) واستيلائهم على الأمول في عهده،(٢٦) ومقاتلتهم إياه عندما غضب عليهم واعتصم ببغداد، ومبايعتهم للمعتز وما رافق ذلك من القتال والجهد والبلاء على أهل بغداد حتى أكلوا الجيف.(٢٧)
وقد تقع الفتنة بينهم حتى يؤدّي الحال إلى القتال، حين احتجَّ المغاربة على الأتراك وقالوا لهم: كل يوم تقتلون خليفة وتخلعون آخر وتعملون وزيراً.(٢٨)
وبقي الأتراك وسائر الموالي هم المتنفِّذين، حتى ظهر صاحب الزنج بثورته العارمة ـ على ما سنذكره ـ فتحوَّل ثقل التفكير والقتال والأموال إلى
مواجهته ومدافعته، ونُسيت النعرات الشخصية إلى حدٍ كبير.
ثالثاً: الشغب والفتن في بغداد. فإنها لم تكن ـ وهي يومئذٍ خالية من الخلافة ـ خالية من المتاعب بالنسبة إلى سامراء. فكان فيها عدة فتن متتالية:
إحداها: ما كان عام ٢٤٩ هـ، فقد شغب الجنود الشاكرية ببغداد، ونادوا بالنفير وفتحوا السجون وأخرجوا من فيها، وأحرقوا أحد الجسرين وقطعوا الآخر. وكان أحد الأسباب لذلك احتجاجهم على الأتراك واستعظامهم قتلهم للمتوكِّل واستيلائهم على أمور المسلمين: يقتلون مَن يريدون من الخلفاء، ويستخلفون مَن أحبوا، من غير ديانة ولا نظر للمسلمين.(٢٩)
ثانيها: ما كان في أيام المستعين، حين سار إلى بغداد غاضباً من شغب الأتراك والموالي، واستيلائهم على دفة الأمور، فوجَّهوا وفداً يعتذر إليه ويسأله الرجوع فلم يصغ إلى ذلك. فبايعوا المعتز في سامراء، فعقد لأخيه أبي أحمد الموفق بن المتوكِّل القيادة لحرب المستعين، وجعل إليه الأمور كلها. وجعل التدبير إلى كلباتكين التركي، فسار في خمسين ألفاً من الأتراك والفراغنة وألفين من المغاربة.(٣٠) وحاصر بغداد، ودام الحصار أشهراً، واشتد البلاء وكثر القتل، وجهد أهل بغدد حتى أكلوا الجيف، وجرت عدة وقعات بين الفريقين، قتل في وقعة منها نحو ألفين من البغاددة، إلى أن أكلوا وضعف أمرهم وقوي أمر المعتز،(٣١) وانتهى الأمر إلى تنازل المستعين عن الخلافة وخلعه لنفسه.(٣٢)
فنرى من هذا المشهد، كيف وقع العداء الفعلي والقتال الشديد بين خليفتين رسميين، معترف بهما من قبل الجمهور، بسبب هؤلاء الأتراك.
ثالثها: ما كان عام ٢٥٢ هـ إذ شغب الجند في بغداء مطالبين بالأرزاق، وأرادوا أن يمنعوا الخطيب من الدعاء للمعتز. وكان لمحمد بن عبد الله بن طاهر، موقف في محاربتهم وتفريقهم. حتى ما إذا رأى الجند قد غلبوا على أصحابه، أمر بالحوانيت التي على باب الجسر أن تحرق، فاحترق للتجار متاع كثيرة، فحالت النار بين الفريقين.(٣٣)
رابعها: ما كان للجند ببغداد من الشعب عام ٢٥٢هـ(٣٤) بسبب مطالبتهم بمبايعة الموفق أبي أحمد بن المتوكِّل، بعد المعتز. ولكنَّهم أرغموا، بعد لأي، على مبايعة المهتدي، بعد أن كانت سامراء قد بايعته.
الرابع: من خصائص هذا العصر، وربما كان من أبرز سماته، وقد نشأ من ضعف الخلافة، وعدم امتلاكها زمام الأمور، وصرف سائر الطاقات والنشاطات في الحروب والمناوشات والعداوات الداخلية، مع الانصراف عن الأطراف وما يقوم به العمَّال من الأعمال. فصار أي واحد من أمراء الأطراف في الدولة الإسلامية الواسعة، غير مقيد بالارتباط الوثيق بالعاصمة: إن شاء كان موالياً وإن شاء أصبح مستقلاً، وناجزوا الآخرين القتال، بحسب أطماعه في ترسيخ ملكه وتوسيع بلاده.
فكانت الحروب تدور في الأطراف، بين الأمراء والولاة، وتستقبل المدن الإسلامية، في كل فترة، وجهاً جديداً يحكمها ويدير شئونها ويجبي خراجها، ولم يكن لأي حاكم ـ بما فيه الخليفة نفسها ـ من شفيع إلاَّ سيفه وما يملك من قوة وعتاد.
فمن أوضح تلك الموارد: الأندلس، التي كانت في تلك الفترة مستقلة بالخلافة تحت حكم عبد الرحمن الناصر الأُموي.(٣٥)
وكان الشمال الإفريقي مستقلاً ـ إلى حد كبير ـ تحت إمرة آل الأغلب، ابتداء بزيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب، وبعده أخوه الأغلب،(٣٦) وانتهاء بزيادة الله بن أبي العباس بن عبد الله(٣٧) الذي زال ملكه بسيف أبي عبد الله الشيعي الذي مهد لسلطان المهدي الإفريقي جد الفاطميين، على ما يأتي في تاريخ القسم الثاني من هذا الكتاب. وفي كل ذلك لا تكاد تجد للخلافة في سامراء أو في بغداد أي رأي أو تصرف.
وأما بلاد فارس وما وراء النهر، فقد كانت في عهد المعتصم مسرحاً للقتال، ففي منطقة زنجان وأردبيل وأذربيجان، حصل صدام مسلح بين بابك الخرَّمي من ناحية وبين حيدر بن كاوس وبغا الكبير من ناحية أخرى عن السلطان، وذلك من عام ٢٢١هـ حتى عام ٢٢٣ هـ، حيث قَدِم الأفشين إلى سامراء ومعه بابك وأخوه عبد الله، فقتله المعتصم، وأرسل رأسه إلى خراسان وصلب بدنه بسامراء.(٣٨)
وفي سنة ٢٢٤هـ أظهر مازيار بن قادن الخلاف على المعتصم بطبرستان،(٣٩) وكان قد اصطنعه المأمون.(٤٠)
وفي سنة ٢٢٣ هـ، كان بأذربيجان قلاقل وحروب استمرأت ثمانية أشهر، قادها محمد بن البعيث بن الجليس وجماعته. حتى أخضعهم بغا الشرابي من قبل السلطان، وفتح المدينة.(٤١) ثم استقدم ابن البعيث إلى سامراء وحُبس فيها وجُعل في عنقه مئة رطل، فلم يزل على وجهه حتى مات.(٤٢)
وفي عام ٢٣٨هـ، كان قتال في تفليس بين بغا وقواده الأتراك من ناحية وبين إسحاق بن إسماعيل من ناحية أخرى. وأحرق بغا المدينة، فاحترق فيها نحو خمسين ألف إنسان، وأسَرُوا مَن سلم من النار وسلبوا الموتى.(٤٣)
وفي عام ٢٥٣هـ في عهد المعتز، حدث قتال في همدان، بين عبد العزيز بن أبي دلف، في أكثر من عشرين ألف من الصعاليك وغيرهم، وبين جيش الخليفة بقيادة موسى بن بغا.(٤٤)
وكانت بلاد فارس ـ والعراق أحياناً(٤٥) مسرحاً خصباً لجيوش يعقوب بن الليث الصفّار وحروبه، من سنة ٢٥٣هـ إلى أن توفِّي عام ٢٦٥ هـ وخلفه أخوه عمرو بن الليث، إلاَّ أنه أصبح موالياً للخلافة.(٤٦)
على أنّ يعقوب كان يجد من مصلحته إظهار الولاء للدولة، وإنْ كان بمنزلةٍ لا تقوى الدولة على قمعِه، فكان الخليفة يستميله ويترضّاه(٤٧) اتقاءً لشره ولم يبرز مكنونة إلاّ في فراش الموت حيث قال لرسول الخليفة إليه: قل للخليفة إنّني عليل، فإنْ مت، فقد استرحت منك واسترحت منّي، وإنْ عوفيت فليس بيني وبينك إلاّ هذا السيف.(٤٨)
ومنذ عام ٢٦١هـ استقلّ ـ إلى حدٍّ كبير ـ نصر بن أحمد الساماني، ببلاد ما وراء النهر، وهي تتمثّل بمناطق بخارى وسمَرقَند إلى خراسان،(٤٩) حتى توفّى عام ٢٧٩ هـ، وولّي بعده أخوه إسماعيل بن أحمد.(٥٠)
وأمّا مصر فقد استقلّ بها أحمد بن طولون ـ وهو مِن الأتراك ـ استخلفه عليها بابكيال التركي عام ٢٥٤هـ في عهد المعتز(٥١) وحين ولّيَ المهتدي وقتَل بابكيال صارت مصر لياركوج التركي، وكان بينه وبين أحمد بن طولون مودّة متأكّدة، فوسّع ولايته على الديار المصرية كلّها، فقوى أمره ودامت أيّامه،(٥٢) حتّى توفّى مبطوناً عام ٢٧٠هـ(٥٣) وكان قد استغنى من ملكه عن الارتباط بالخلافة(٥٤) وإنْ لم يناجزها العِداء فعلاً.
ولم تكن الأطراف القريبة من العاصمة بأحسَن حالاً من الأطراف البعيدة، فقد كانت أيضاً مسرحاً لمصالِح العمّال والقوّاد من ناحية، ومسرحاً لنشاط الخوارج والزنج، ثم القرامطة على ما نشير إليه، من ناحيةٍ ثانية.
فمكّة والمدينة، كانت تتعرّض أحياناً للمصطادين بالماء العكر، فقد أصبحت المدينة عام ٢٣٠هـ وما بعده، مسرحاً لغارات الأعراب المجاورين، حتى ناجزهم بغا الكبير القتال،(٥٥) وقتل عام ٢٥١هـ ثلثئة رجل من مكّة وغلَت الأسعار فيها بسبب شغب مشابه.(٥٦)
وأمّا لو راقبنا سوريا في تلك الفترة، بما فيها حمص وحلب ودمشق، لوجدناها مسرحاً للأطماع وساحة للقتال، ففي عام ٢٢٧هـ في أول خلافة الواثق، كانت دمشق مسرحاً لعصيان مسلح، انتج قتل ما يُقارب الألفَي شخص، من جيش الخليفة والثائرين،(٥٧) وفي عام ٢٤٠هـ وما بعده، كانت حمص مجالاً لسوء تصرّف العمّال والولاة، ممّا أوجب ثورة الأهالي واضطرابهم،(٥٨) وتكرّرت عين المشكلة عام ٢٥٠هـ.
إلاّ أنّ هذا العصيان كان أكبر من سابقه، فوجّه المستعين إليها موسى بن بغا فحاربها، وقتل من أهلها مقتلةً عظيمةً، وأحرقها وأسَر جماعة من أعيان أهلها.(٥٩)
ولم تسلم سوريا حتى بعد أنْ احتلّها أحمد بن طولون، عام ٢٦٤هـ(٦٠) من الحروب، إذ بمجرّد أنْ توفّى ابن طولون عام ٢٧٠هـ(٦١) تحركت نحوها الأطماع، استضعافاً واستصغاراً لخلفه ابنه خماروَيه، فسيّر إليها أبو طلحة الموفّق بن المتوكّل، قائدَين من قوّاده المَوالى، وهما: إسحاق بن كندايق وابن أبي الساج، لاحتلاها، فدخلوها وفتحوا دمشق بعد قتالٍ عظيم،(٦٢) فسار إليها خمارويه بنفسه من مصر واحتلّها مرّةً أُخرى بقتالٍ جديد،(٦٣) وتكرّر القتال عام ٢٧٤هـ و٢٧٥هـ.(٦٤)
وإذا نظرنا إلى الموصل وما حواليها من البلدان، ومَن في تلك المنطقة من الأكراد، لم نجدهم أقلّ بلاءً مِن سائر بلاد الإسلام، فقد تعرّضت عام ٢٥٣هـ لقتالٍ ونهب(٦٥) وفي عام ٢٦٠هـ تعرّضت لتعسّف العامل عليها من قِبل الخليفة، وهو اذكوتكين التركي، فإنّه أظهر الفسوق وأخذ الأموال، فقاتلوه قتالاً شديداً حتى أخرجوه عن الموصل ونهبوا داره(٦٦) وتعرّضت في العام الذي يليه لحروب أيضاً بسبب رفضهم لعاملَين عيّنهما اساتكين التركي عن الخليفة، واختاروا لهم عامِلاً آخر.(٦٧)
وتعرّضت الأكراد لهجوم وصيف التركي عام ٢٣١هـ، وحبَس منهم نحو خمسمِئة، وحصَل وصيف على هذا العمل، جائزة مقدارها خمسَ وسعبون ألف دينار، وتعرّضوا أيضاً لقتال موسى بن أتامش التركي عام ٢٦٦هـ،(٦٨) وفي عام ٢٨١هـ حاربهم الخليفة المعتضد بنفسه.(٦٩)
ولعلّنا نستطيع أنْ نعتبر هذه القلاقل جميعاً، هدؤوا نسبيّاً، وبرداً وسلاماً، إذا قسناه إلى الجحيم الذي أوجَد صاحب الزنج على العراق في عهدِ سامرّاء، والقرامطة في العهد الذي يليه، على ما سنذكره.
الخامس: مِن خصائص هذا العصر، وليست من مختصّاته على كلّ حال، هو وجود الخوارج، وما يسبّبونه باستمرار من شغبٍ وحوادِث، فكان وجودهم شجى في حلق الدولة وحَجَر عثرة أمام اطمئنان الأُمّة.
ويبدأ نشاطهم الملحوظ في هذه الفترة، عام ٢٥٢هـ حين قام مساور بن عبد الحميد بن مساور الشاري البجلي الموصلي، قائد الشراة، وهُم الخوارج الذين يدعون أنّهم شروا الآخرة بالدنيا.
واستولى مساور على أكثر أعمال الموصل وقوِيَ أمره، فقاتله والي الخليفة على الموصل قتالاً شديداً، فاندَحر، فاشتد أمر مساور وعظم شأنه وخافه الناس،(٧٠) وذلك عام ٢٤٥هـ، وكان أنْ صلّى بالمسجد الجامع بالموصل صلاة الجمعة بالناس وخطبهم،(٧١) وفي عام ٢٥٥هـ قاتله عسكر الخليفة فانتصر مساور أيضاً وانهزم عسكر الخليفة.(٧٢)
وفي عام ٢٥٦هـ، ثار بوجه مساور الشاري أحَد الخوارج، بسبب اختلاف بينهما في بعض المسائل الكلاميّة، فاقتتلوا اقتتالاً شديداً أدّى إلى فوز مساور وانهزام الخارجي الآخر، وقتل أكثر جيشه.(٧٣)
وبلَغ مساور من السيطرة والقوّة أنْ استولى على كثير من العراق ومنع الأموال عن الخليفة، فضاقت على الجند أرزاقهم،(٧٤) وبقيَ على مثل هذه الحال إلى أنْ مات عام ٢٦٣هـ،(٧٥) واختلف الخوارج إلى من يرجعوا بعده، وحدث لذلك بينهم قتال، حتى تم أمرهم على هارون بن عبد الله البجَلي الشاري.(٧٦)
* * *
السادس: من خصائص هذا العصر ولعلّه أبعدها خطراً وأعمَقها أثراً، ويختصّ بالقسم الثاني من خلافة سامرّاء، عند ازدياد ضعفها وتفسّخها، وذلك في عهد المهتدي والمعتمد، وهو ظهور صاحب الزنج الذي قتل الأُلوف من النفوس وهتَك الآلاف من الأعراض، أحرق عشَرات المُدِن وسبَب بشكلٍ غير مباشر إلى أمرين مهمّين:
أحدهما: ضعف الخلافة في عهد المعتمد، وبقاء الخليفة صورة بلا واقع لا حلّ له ولا عقد.
ثانيهما: ترسّخ قوّة الخليفة في عهد المعتضد، وذلك بعد انهيار الزنج وزوال سامرّاء كعاصمة للخلافة.
وصاحب الزنج هو الرجل الذي ثار في البصرة عام ٢٥٥هـ(٧٧) اسمه عليّ بن محمّد، وزعَم أنّه علَوي، يتّصل نسبه بزيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام)، ولم يكن كذلك، على ما يَذكر التاريخ؛ فإنّ نسبه في عبد قيس، وأُمّه من بني أسَد بن خزيمة.(٧٨)
واستمرّ يعيث في المجتمع فساداً خمسة عشَر عاماً، إلى أنْ قُتِل عام ٢٧٠ هـ.(٧٩)
وعمدة ما ارتكز عليه في ثورته ـ مضافاً إلى دعواه الانتساب بالنسَب العلَوي ـ أنّه وجّه دعوته بشكلٍ رئيسي إلى العمّال والطبقة الكادحة من الشعب، وخاصّة العبيد المماليك منهم، تلك الطبقة التي تلاقي من إرهاق مستخدميها ومالكيها، ومِن ضغط الدولة أنواع الذلِّ والشقاء.
ومِن ثمّ سمّى صاحب الزنج أي قائد العبيد، فبدأ بعبيد أهل البصرة ودعاهم للإقبال إليه للخلاص من الرقّ والتعَب، فاجتمع عنده منهم خلقٌ كثير، فخطبهم ووعدهم أنْ يقودهم ويُملّكهم الأموال وحلَف لهم بالإيمان أنْ لا يغدر بهم ولا يخذلهم، فأتاه مواليهم وبذلوا له على كلّ عبدٍ خمسة دنانير ليسلّم إليه عبده، فأمَر مَن عنده من العبيد فضربوا مواليهم أو وكلاءهم، كلّ سيّد خمسمئة سوط،(٨٠) وكان هذا أوّل الشر، واكتسب العبيد بذلك قوّةً واندفاعاً وحماساً مضاعفاً، استطاعوا أنْ يكتسحوا بها منطقة ضخمة مِن البلاد.
واتسع شرّهم من البصرة إلى عبادان وإلى الأهواز(٨١) ودستميسان(٨٢) وواسط(٨٣) ورامهرمز(٨٤) وما بينهما من البلدان والمناطق، وحين احتلّوا البصرة، حاربوا أهلها بجيشٍ من الزنج والأعراب ثلاث أيّام، ثمّ أنّه أمّنهم استجابةً لإبراهيم بن يحيى المهلي، ونادى مناديه مَن أراد الأمان فليحضر إلى دار إبراهيم، فحضر أهل البصرة قاطبةً حتى ملؤوا الرحاب ـ فلمّا رأى صاحب الزنج اجتماعهم، انتهز الفرصة لئلاّ يتفرّقوا، فغدَر بهم وأمَر أصحابه بقتلهم، فكان السيف يعمل فيهم وأصواتهم مرتفعة بالشهادة، فقتَل ذلك الجمع كلّه ولم يسلَم إلاّ النادر منهم، وأحرَق الجامع، واحترَقت البصرة في عدّة مواضع منها، وعظُم الخطر، وعمّها القتل والنهب والإحراق، فمَن كان غنيّاً أخذوا ماله وقتلوه، ومن كان فقيراً قتلوه لوقته،(٨٥) ومثل ذلك عمَل الزنج بعبادان الأهواز والأبلّه(٨٦) وأبي الخصيب.(٨٧)
وحين رأت الدولة ذلك منه، ناجزته القتال ببعض قوّادها كسعيد الحاجب(٨٨) ومحمّد المولد(٨٩) وموسى بن بغا،(٩٠) إلاّ أنّهم لم يؤثّروا شيئاً، وكان يستظهر عليهم صاحب الزنج، وكانت اليد الطولى في محاربته ومصابرته والقضاء عليه في النتيجة، لأبي أحمد الموفّق طلحة بن المتوكّل،(٩١) بمعونة ولده أبي العبّاس المعتضد الذي أصبَح أوّل خُلفاء بغداد بعد أُفول نجم سامرّاء، والتحق لمعونته أخيراً عام ٢٦٩هـ لؤلؤ غلام أحمد بن طولون الذي انشقّ على مولاه، وسار إلى الموفّق وهو يُقاتل الزنج(٩٢) وكان له يدٌ طولى في القضاء على حركة الزنج في آخر أيّامها(٩٣) حتى قيل في عسكر الموفّق(٩٤):
كيفما شئتم فقولوا * * * إنّـما الفتح للولو
ولم يكن لجيش الموفّق تجاه الزنج رحمة، وإنّما كانت الحرب معهم حرب إبادة، وقد أعمَل معهم سائر أنحاء القتل من الإحراق والإغراق والمطاردة وغير ذلك،(٩٥) واستنفذوا ما لا يُحصى مِن النساء والصبيان والمساجين.(٩٦)
واستأمن إلى الموفّق عدداً مِن قوّاد الزنج قبل قتله وبعده،(٩٧) وقد كان لقتله والقضاء على حركته أثرٌ كبير على سائر الناس بالشعور بالسرور والأمن، وقيلت في ذلك أشعار كثيرة.(٩٨)
وقد أثّرت مواقف الموفّق هذه على سيطرته التامّة على الأُمور كلّها في الدولة، على الجيش والتعامل مع ولاة الأطراف وجباية الأموال وعزل وتنصيب الوزراء،(٩٩) حتى لم يبقَ لأخيه المعتمد من الخلافة إلاّ اسمها، ولا ينفذ له توقيع لا في قليلٍ ولا في كثير(١٠٠) حتى قال: أليسَ مِن العجائب أنّ مثلي يَـرى ما قلّ ممتنعاً عليه في ثلاثِ أبيات، سبَقت.
وبقيَ الموفّق على ذلك حتى مات عام ٢٧٨هـ،(١٠١) فاجتمع القوّاد وبايعوا ابنه أبا العبّاس بولاية العهد، ولُقّب المعتضد بالله(١٠٢) ولا يخفى ما اكتسابه القوّة والسيطرة أثناء حربه للزنج، وتمرّسه على أنحاء القتال والقيادة، في تولّي الخلافة في العام الذي يلي، أي عام ٢٧٩هـ، بعد المعتمد، فكان أوّل خلفاء بغداد، بعد أُفول نجم سامرّاء.
السابع: من خصائص هذا العصر، وليست من مختصّاته، حصول ثورات متعدّدة في الأطراف داعين إلى الرضا من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)، أو متمرّدين على الظلم والعسف الذي كان ينال المجتمع بشكلٍ عام، وينالهم بشكلٍ خاص.
والفكرة الأساسية التي كانت تقوم عليها الدولة، وقتئذٍ بجميع أجهزتها وطبَقاتها، هو النفرة من العلويّين، ومطاردتهم والضغط علهيم.
لا يختلف في ذلك الخليفة عن القوّاد عن الوزراء عن العامّة أنفسهم، ولمّا كانت الدولة تعاني التفكّك والضعف، كان مجرّد وجود أيّ شبحٍ للحركة العلويّة أو تهمةٍ في ذلك، يثير الرعب لدى الخليفة وأتباعه ويتصدّى القوّاد الأتراك ومَن إليهم بإنزال أقصى العقوبات بالثائرين.
ونستطيع أنْ نستشهد من تاريخنا العام لهذا الحقد، بعدّة أُمور:
منها: ما كان المتوكّل يستشعره من الكراهية تجاه عليّ (عليه السلام) والعلويّين، وكان آل أبي طالب ـ على ما ينصّ التاريخ ـ في أيّامه في محنةٍ عظيمة، قد منعوا من زيارة قبر الحسين (عليه السلام) والغري من أرض الكوفة، وكذلك منع غيرهم من شيعتهم حضور هذه المشاهد، وأمَر بهدم قبر الحسين (عليه السلام) ومحو أرضه وإزالة أثره، وأنْ يُعاقَب مَن وجِد به(١٠٣) وحدث به وزرع فيه، وكان يقصد مَن يبلغه عنه أنّه يتولّى عليّاً وأهله، بأخذ المال والدم(١٠٤) ولم تزَل الأُمور كذلك إلى أنْ استخلف المنتصر، فأمّن الناس وأمَر بالكف عن آل أبي طالب وترَك البحث عن أخبارهم، وأطلق حرّية زيارة قبر الحسين (عليه السلام)، وغيره من آل أبي طالب.(١٠٥)
وسنذكر ما فعَله المتوكّل مِن إزعاج الإمام عليّ بن محمّد الهادي (عليه السلام) وإشخاصه إلى سامرّاء من المدينة. لكي يكون تحت رقابته وفي قبضته، وكان يستدعيه إلى قصره بين الفينة والفينة، مُعدّاً له مؤامرة القتل فتفشل، وتضطرّه هيبة الإمام (عليه السلام) إلى احترامه وإكرامه.(١٠٦)
ومنها: قتل المعتمد للإمام الهادي (عليه السلام)، على ما ذكره ابن بابويه الصدوق.(١٠٧)
ومنها: مراقبة الخلفاء للأئمّة (عليهم السلام) على ما سنذكر، وقضائهم على كلِّ ثورةٍ علويّة.
ولم يكن القوّاد الأتراك بأحسَن من الخلفاء حالاً من هذه الناحية، بل هم أقلّ منهم ضبطاً وأكثر تهوّراً كموسى بن بغا، الذي قضى على ثورة الحسن بن إسماعيل العلَوي(١٠٨) وعلى بن أوتامش(١٠٩) وصالح بن وصيف(١١٠) وأحمد بن عبيد الله بن خاقان(١١١) وسعيد الحاجب،(١١٢) ونحوهم ممّن يمتّ إلى الدولة بخوفٍ أو طمَع أو حاجة.
في هذا الجو المكهرب العاصف، كان يرى بعض العلويّين الذين يتوسّمون في أنفسهم القوّة والأصحاب، وجوب الثورة على الظلم والفساد، وإظهار كلمة الحق أمام المجتمع السادر في غفلته، البعيد عن روح الإسلام وتعاليم القرآن، لعلّ ذلك يكون سبباً من أسباب توعية الأُمّة وإيقاظ ضميرها، والتفاتها إلى واقع حياتها وواجبات دينها.
وكان الغالب منهم يدعو إلى (الرضا من آل محمّد)، ويعنون بذلك: الشخص الذي هو أفضل آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) في ذلك العصر، وليس ذلك إلاّ أحد أئمّتنا (عليهم السلام) الذين كان يعتقد هؤلاء الثوّار بإمامتهم.
وإنّها لالتفاتة بارعة: أنْ يدعو الثائر إلى الرضا من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) بهذا العنوان العام، ولا يدعو إلى إمام زمانه بالخصوص؛ وذلك: لئلاّ يُوقِف الثائر إمامه الذي يدعو إليه، موقف الحرَج تجاه السلطات الحاكمة، وهو يعلم أنّ الإمام (عليه السلام)، أمام سمع الدولة وبصرها، وليس أسهل عليها مِن أنْ تتّهمه بإثارة الحركة والعِصيان، ممّا يؤدّي إلى قتله وخسارة المجتمع المسلم لوجوده، ومعه، فيفكر هذا الثائر أنّه إنْ نجَحت ثورته نجاحاً كبيراً يجعلها أهلاً لمناصرة إمامه (عليه السلام)، فهو المطلوب، وإلاّ كان وصحبه فِداءً لإمامه ولدينه.
وأئمّتنا (عليهم السلام) ـ في عصورهم المتأخّرة ـ كانوا لا يعيشون في الحياة إلاّ قليلاً، ويصعدون إلى بارئهم في رَيعان الشباب، فالإمام الجواد محمّد بن عليّ (عليه السلام) عاش خمساً وعشرين سنة(١١٣) والإمام الهادي عليّ بن محمّد (عليه السلام) عاش إحدى وأربعين(١١٤) والإمام العسكري الحسن بن عليّ (عليه السلام) عاش ثمانياً وعشرين عاماً،(١١٥) ممّا يدلّ على سعي الخُلفاء في القضاء عليهم وكتَم أنفاسهم، ولو بالطريق غير المباشر، مع أنّهم لم يستطيعوا أنْ يحصلوا منهم على أيّ مستندٍ أو دلالة على مشاركتهم في أيّ حركةٍ، وقيامهم بأيّ نشاط، فكيف إذا عرَفوا منهم ذلك، وحصلوا منهم على شكٍّ في ثورة أو تمرّد؟
لكن، لعلّنا نستطيع القول، بأنّ الأئمّة (عليهم السلام)، شاركوا مِن قريبٍ أو بعيد، بقيام بعض هذه الثورات أو قسمٍ منها، أمّا مباشرةً أو بحسَب عموم تعاليمهم وروح إرشاداتهم، التي كانت تؤثّر في نفوس مواليهم أثرَ النار في الحطَب والنور في الديجور، ممّا يؤدّي بهم إلى إعلان العِصيان المسلّح على الدولة، ولكنّ الأئمّة (عليهم السلام) استطاعوا بلباقةٍ تامّة وحذَرٍ عظيم، إخفاء أيّ نوع من المستندات والدلالات على مثل هذا التأثير على الدولة القائمة، وكانوا يستعملون الرموز والمعاني البعيدة والأعمال غير المُلفتة للنظر، في قضاء بعض الحاجات الخطِرة في منطق الدولة، كما هو غير خفي على مَن راجع رواياتهم، وسنعرف بعض ذلك فيما يلي من البحث.
ولعلّ هناك سبباً آخر، في عدَم دعوة ثوّار العلويّين إلى شخص الإمام (عليه السلام)، وهو أنّ الثأر منهم، إنْ لم يكن على اتصال مسبق بالإمام (عليه السلام)، فإنّه يحتمل أنْ لا يكون الإمام موافقاً على ثورته؛ لأنّه لا يجد فيها المصلحة الكافية والأهلية الكاملة للتأييد، أمّا لسوء توقيت الزمان أو لسوءِ اختيار المكان، أو لضعف نيّات هذا الثائر وأصحابه وقلّة إخلاصهم، أو لضعف الثورة في نفسها، بحيث لا أمَل فيها للبقاء، وغير ذلك من المحتملات التي يأخذها الثائر بعين الاعتبار مِن رأي إمامه (عليه السلام)، فلا يدعو إلى شخصه، وإنّما يدعو إلى عنوانٍ عام ينطبق عليه: الرضا من آل محمّد (صلّى الله وعليه وآله).
ونحن ـ لأجل الدقّة والموضوعيّة في البحث ـ لا نستطيع أنْ نقول: إنّ كلّ الثوار العلويّين، كان ثائراً بالمعنى الذي يقوم على أساس الوعي الإسلامي، وهو: الدعوة إلى تطبيق أحكام الإسلام برئاسة الإمام المعصوم (عليه السلام)؛ فإنّه وإنْ كان المُعتَقد أنّ غرض أكثر الثوّار هو ذلك، إلاّ أنّ أفراداً منهم ربّما كان منحرفاً عن ذلك أو غير واعٍ له، فكانت ثورته إمّا للدعوة إلى إمامة نفسه، أو إمامة شخصٍ آخر غير الإمام المعصوم (عليه السلام)، أو لمجرّد التمرّد على الظلم، أو لحبِّ الظهور والسيطرة ونحو ذلك من الأهداف.
ولعلّنا نستطيع أنْ نضع الحدِّ الفاصل في فهم إخلاص الثائر ووعيه، في كونه داعياً إلى الرضا من آل محمّد (صلّى الله وعليه وآله)، فإنْ عرفنا أنّه دعى إلى ذلك، فثورته مخلصة واعية، وإنْ لم يدْعُ إلى ذلك، ينفتح أمامنا فيه احتمال الانحراف وعدَم الإخلاص.
وقد أحصينا من الثوّار العلويّين في العصر الذي نؤرّخه، من خلافة المعتصم إلى نهاية المعتمد، وهو ما يزيد على نِصف قرن، ثمانيةَ عشَر ثائراً.
أوّلهم: محمّد بن القاسم بن عليّ بن عمر بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، ويُكنّى أبا جعفر، وكانت العامّة تُلقّبه بالصوفي لأنّه كان يدمن لباس الثياب من الصوف الأبيَض، وكان من أهل العلم والفقه والدين والزهد وحسن المذهب، وكان يذهب إلى القول بالعدْل والتوحيد، ويرى رأي الزيدية الجارودية.
خرَج في أيّام المعتصم بالطالقان، فأخذه عبد الله بن طاهر ووجّه به إلى المعتصم، بعد وقائع كانت بينه وبينه.(١١٦) وذلك عام ٢١٩هـ، ودعا إلى الرضا من آل محمّد، ولكن أغراه شخصٌ من خراسان إلى الدعوة إلى نفسه،(١١٧) وهناك قوم اعتقدوا بأنّه لم يمُت وأنّه يخرج فيملؤها عدْلاً كما مُلِئت جوراً، وأنّه مهديُّ هذه الأُمّة.(١١٨) أقول: وسيأتي في بعض بحوثنا إنْ شاء الله تعالى مناقشة هذه الدعوى وأمثالها.
ثانيهم: يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن عليّ بن الحسين بن أبي طالب، المكنّى بأبي الحسين،(١١٩) وكانت ثورته لذلٍّ نزَل به وجفوَةٍ لحِقَته ومحنةٍ نالته من المتوكّل وغيره من الأتراك، وكان ذا زهد وورَع ونسك وعلم.(١٢٠)
ثار عام ٢٥٠ هـ في الكوفة، وجمَع جمْعاً كثيراً، ومضى إلى بيت المال فيها ليأخذ ما فيه، وفتَح السجون وأخرج مَن فيها وأخرَج عنها عمّال السلطان، اجتمعت إليه الزيدية، ودعا إلى الرضا من آل محمّد، فاجتمع الناس إليه وأحبّوه، وتولاّه العامّة مِن أهل بغداد، ولا يُعلم أنّهم تولّوا أحداً من بيته سِواه. وبايعه من أهل الكوفة مَن له تدبير وبصيرة في تشيّعهم.
حاربه الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن مصعب، وقتل هذا العلوي في المعركة،(١٢١) وحمل رأسه إلى بغداد وصُلِب، فضجّ الناس من ذلك، لِما في نفوسهم من المحبّة له، لأمرٍ استفتح به أُموره، بالكفِّ عن الدماء والتورّع عن أخذ شيءٍ من أموال الناس، وأظهَر العدل والإنصاف،(١٢٢) وأنشدوا في رثائه شِعراً كثيراً حتى قال أبو الفرج:
وما بلغني أنّ أحداً ممّن قُتِل في الدولة العبّاسية من آل أبي طالب، رُثيَ بأكثر ممّا رُثي به يحيى، ولا قيل فيه الشعر بأكثر ممّا قيل فيه.
أشهرها قصيدة عليّ بن العبّاس بن الرومي التي أوّلها: أمامَك فانظُر أيَّ نَهجَيك تَنهجُ طريقان شتّى مستقيمٌ وأعوَجُ وقد ذكرها أبو الفرَج بطولها في المقاتل.(١٢٣)
ثالثهم: الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، بدأت ثورته عام ٢٥٠هـ أيضاً بطبرستان، فغلَب عليها، وعلى جرجان بعد حروبٍ كثيرة وقتالٍ شديد، وما زالت في يدِه إلى أنْ مات سنة ٢٧٠هـ(١٢٤) ـ وخلفه أخوه محمّد بن زيد ـ فيها، وكان هذا الأخوان يدعوان إلى الرضا من آل محمّد.
واستولى الحسن بن زيد على آمل وعلى الريّ،(١٢٥) وقاتله مفلح وموسى بن بغا عن الدولة(١٢٦) ومحمّد بن طاهر(١٢٧) حاكمها على خراسان.
وقاتله يعقوب بن الليث الصفّار الذي سبَق أنْ سمِعنا به.
وكان الحسن هذا عالماً بالفقه والعربيّة، وفيه يقول الشاعر:
لا تَقُل بُشرى ولكن بُشْرَيان * * * غُرّةُ الداعي وعيدُ المهرجانِ
رابعهم: الحسن بن علي الحسني المعروف بالأطروش، حكَم طبرستان بعد محمّد بن زيد الحسني، وخلفه ولده، ثمّ الداعي الحسن بن القاسم الذي قتله أسفار بطبرستان.(١٢٨)
خامسهم: محمّد بن جعفر بن أحمد بن عيسى بن الحسين الصغير بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، ثار في خراسان، عام ٢٥١هـ، فحاربه حاكمها محمّد بن طاهر وأسَره،(١٢٩) وكان يدعو للحسَن بن زيد صاحب طبرستان.(١٣٠)
سادسهم: إدريس بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، ثار بالريّ مع محمّد بن جعفر السابق الذكر، عام ٢٥١هـ.(١٣١)
سابعهم: أحمد بن عيسى بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، دعا للرضا من آل محمّد، ثار بعد محمّد بن جعفر وحارب محمّد بن طاهر، واستولى على الريّ.(١٣٢)
ثامنهم: الحسن بن إسماعيل بن محمّد بن عبد الله بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، الملقّب بالكركي، وقيل هو الحسن بن أحمد بن محمّد بن إسماعيل... الخ،(١٣٣) كانت ثورته بقزوين، فحاربه موسى بن بغا، وصار الكركي إلى الديلَم.(١٣٤)
تاسعهم: الحسين بن محمّد بن حمزة بن عبد الله بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب،(١٣٥) أو الحسين بن أحمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب.(١٣٦)
ثار بالكوفة عام ٢٥١هـ، وأجلى عنها عامل الخليفة، فسيّر إليه المستعين مزاحم بن خاقان فقاتله، وأطبَق على أصحابه، فلَم يفلت منهم أحد، ودخل الكوفة فرماه أهلُها بالحجارة فأحرَقها بالنار، فاحترَق منها سبعة أسواق،(١٣٧) وقال المسعودي: إنّه اختفى لترك أصحابه له وتخلّفهم عنه.(١٣٨)
عاشِرهم: محمّد بن جعفر بن الحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، كان خليفة الحسين بن محمّد الحرون السابق الذكر، ثار بعده بالكوفة، فكتَب إليه ابن طاهر بتولية الكوفة، وخدَعه بذلك، فلمّا تمكّن بها أخذه خليفة أبي الساج، فحمله إلى سر مَن رأى، فحُبِس بها حتى مات.(١٣٩)
الحادي عشر: إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، ثار في المدينة عام ٢٥٢هـ، وأصاب أهلَها في أيّامه الجهد والضيق، وخلفه بعد وفاته أخوه محمّد بن يوسف، حاربه أبو الساج، ولمّا انكشف من بين يديه، سار إلى اليمامة والبحرين واستولى عليها.(١٤٠)
الثاني عشر: عليّ بن عبد الله الطالبي المسمّى بالمرعشي، ثار في مدينة آمل عام ٢٥١هـ، وحاربه أسد بن جندان.(١٤١)
الثالث عشر: إنسان علَوي، حصلت ثورته بنينوى عام ٢٥١هـ من أرضِ العراق، فحاربه هشام بن أبي دلف، في شهر رمضان، فقتل مِن أصحابه جماعة، وهرَب فدخل الكوفة.(١٤٢)
الرابع عشر: الحسين بن أحمد بن إسماعيل بن محمّد بن إسماعيل الأرقط بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ المعروف بالكوكبي، ثار بناحية قزوين وزنجان، فطرَد عمّال السلطات، عنها عام ٢٥١هـ.(١٤٣)
وبقيَ حاكماً على هذه المنطقة حتى عام ٢٥٢هـ، حيث شارك في الهجوم الري مع جستان، صاحب الديلَم وعيسى بن أحمد العلوي، فقتلوا وسبوا وطردوا وإليها الممثّل للسلطة، فصالحهم أهل الريّ على أنْ يدفعوا لهم مليونَي درهم، ويرتحلوا عنها، ففعلوا.(١٤٤)
وفي سنة ٢٥٣هـ حاربه موسى بن بغا وقضى على حركته بإشعال النار في عسكره بحيلةٍ حربية، ودخل موسى بن بغا قزوين فاتحاً.(١٤٥)
الخامس عشر: إبراهيم بن محمّد بن يحيى بن عبد الله بن محمّد بن عليّ بن أبي طالب، ويُعرف بابن الصوفي، ثار عام ٢٥٦هـ في مصر، واستولى على مدينة إستا ونهَبَها، وعمّ شره البلاد، فسيّر إليه أحمد بن طولون جيشاً، فهزَمه العلوي، وأسَر المقدّم على الجيش، فقطع يدَيه ورجليه وصلبه، فسيّر إليه ابن طولون جيشاً آخر، واقتتلوا قتالاً شديداً فانهزم العلوي وقُتِل كثيرٌ من رجاله، وسار حتى دخل الواحات،(١٤٦) وبقيَ مختفّياً فيها إلى عام ٢٥٩هـ، حيث ظهَر ثانياً ودعا إلى نفسه فتبعه خلقٌ كثير، وسار بهم إلى الأشمونين، فحاربه أحمد بن طولون في وقعتين حتى هرَب العلوي الصوفي إلى مكّة، فقبض عليه واليها، وأرجعه إلى ابن طولون، فطيف به في البلَد ثمّ سجنه، وأطلقه ثمّ رجع إلى المدينة، فأقام بها حتى مات.(١٤٧)
السادس عشر: عليّ بن زيد العلوي، كانت ثورته بالكوفة عام ٢٥٦هـ، فاستولى عليها وأزال عنها نائب الخليفة واستقرّ فيها، فناجزته السلطة القتال عِدّة مرّات، مرّتين بقيادة الشاه بن ميكال، وثالثة بقيادة كيجور التركي، حتى قُتِل بعكبرا سنة ٢٥٧هـ.(١٤٨)
السابع عشر: عيسى بن جعفر العلَوي، ثار مع عليّ بن زيد في الكوفة، قال المسعودي: إنّه عام ٢٥٥هـ، فسرّح إليهما المعتز سعيد بن صالح المعروف بالحاجب في جيشٍ عظيم، فانهزم الطالبيّين، لتفرّق أصحابهما عنهما.(١٤٩)
الثامن عشر: ابن موسى بن عبد الله بن موسى بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، ظهَر بالمدينة بعد إسماعيل بن يوسف السابق الذكر.(١٥٠)
فهؤلاء هُم مَن يُعرف بحملِ السيف في هذه الفترة، في وجه السلطات الحاكمة، وأمّا الذين قُتِلوا أو طُردوا أو سُجِنوا فهم أضعاف هذا العدد، يشير إلى جملة منهم المسعودي في مروجه(١٥١) والأصبهاني في مقاتله.(١٥٢)
* * *
ونستطيع أنْ نستنتج من ذلك أُموراً:
الأمر الأوّل: هو مدى الظلم والعسف الذي كانت تنزله السلطات الحاكمة على العلويّين نسَباً وعقيدة، وإلاّ لم يجد هذا العدد الكبير ـ خلال نصف قرن ـ حاجةً إلى هذه التضحيات الكبيرة؛ فإنّه من المعلوم أنّ ازدياد الثورة تتناسب طرديّاً مع ازدياد الظلم والضغط، وكلّما خفّ الظلم وهان الضغط، قلّت الثورة وخفّ أوارها.
ومن هنا نجد ـ مثلاً ـ أنّه في عهد الخليفة المنتصر، الذي كان يميل إلى أهل البيت، خلافاً لأبيه وسلَفه المتوكّل، لم تحصل ثورة ولم يجز منه على أحد من العلويّين قتل أو حبس أو مكروه،(١٥٣) ولكنّه بقيَ في الخلافة ستّة أشهر فقط!
الأمر الثاني: إنّ الخلافة على ضعفها وعجزها في هذا العهد، وتفاقَم هذا العجز كلّما طال الزمان عليها في سامرّاء، إلاّ أنّ هذا لم يكن بمانعٍ لها عن قمع الثورات العلَيّة مهما بعُدَت عن المركز، ومهما قويَت؛ وذلك لأنّ الخليفة بنفسه، وإنْ كان عاجزاً عن تدبير الأُمور العامّة، منصرفاً إلى لهوه وقصفه، إلاّ أنّ مناوأة الفكرة العلَويّة، ليست خاصّةً به، وإنّما هي عامّة على كثير من القوّاد ـ وبخاصّة الأتراك والمَوالى والعبّاسيّين ـ ومن الوزراء وحكّام الأطراف، حتى المستقلّين منهم، كأحمد بن طولون في مصر، والسامانيّة فيما وراء النهر، وآل الأغلب في شمال أفريقيا، والتاريخ العام والخاص مليء بالشواهد على ذلك.
الأمر الثالث: إنّ بعض هؤلاء الثوّار كانوا ضحيّة تخلّف الوعي وسيطرة المصلحة على أتباعهم وأفراد جيشهم، فإنّ درجة الوعي عند الأُمّة كان منخفضاً جدّاً، بمعنى أنّ ما كان يعيش في أذهانهم دائماً هو الشعور بالظلم وتردّي الحال اجتماعياً وسياسياً وثقافياً واقتصادياً، وهو ما يدركه كلّ شخص من زاوية مصلحته وحياته الخاصّة، دون شعورٍ واضح وإحساسٍ عميق، بالمسؤوليّة الكبرى المُلقاة عليه كفرد من الأُمّة، في الدعوة إلى تطبيق ما هو البديل العادل لهذا الظلم والطغيان.
ومن هنا كان هؤلاء الثوّار يجمعون من الأتباع العدَد الكبير نتيجةً طبيعية لشعور الناس بالظلم وأملهم في الثائر الجديد، إلاّ أنّ هذا العدد الكبير كان ينقسم دائماً إلى قسمين:
أحدهما: وهُم الخاصّة الأقلّون، الواعون لأهدافهم الإسلاميّة، الهادفون إلى خدمة أُمّتهم وأداء رسالتهم والباذلون مهجهم في سبيل عقيدتهم وربّهم.
ثانيهما: وهُم الأكثر عدداً، الذين مثّلوا المجتمع الذي عاشوه بدرجة وعيه وإحساسه، فهم يحسّون بالظلم من زاوية شخصيّة مصلحية، وحين ظنّوا بالثائر خيراً لمصالحهم اتبعوه وذبّوا عنه، ولكنّهم حين أحسّوا بالموت أو النوم في سجون السلطات، وأيسوا من صاحبهم الثائر، ولّوا منهزمين وتفرّقوا عنه وخذلوه كما سمعنا في عدد من الثوار العلويّين.
الثامن: من خصائص هذا العصر، وإنْ لم يكن من مختصّاته، قيام الميزان الأساسي والمعيار الغالب، في تقييم الخلفاء والوزراء والقوّاد والقضاة وغيرهم، ممّن بيده السياسة العُليا للدولة، وتحديد علاقات الصداقة والحرب، كلّها بميزان مادّي مالي خالص، لا يختلف في ذلك مَن يعيش في العاصمة وما حواليها ممّن هو بعيد في الأطراف، إلاّ مَن شذّ وندَر.
ويتّضح بجلاء، من استعراض التاريخ، قيام المجتمع بعد انحرافه عن الإسلام وتناسيه لمسؤوليّته الكُبرى، قيامه على أساس الطبقيّة الملموسة، فالأموال تتركّز بيَد الأقوياء والمتنفّذين في السلطة، ويحضى الأتراك والقوّاد المَوالى بقسطٍ كبيرٍ منها، على حين يعيش سائر الناس بالمستوى المتوسّط فما دونه، إلى حال الفقر المدقع، من دون ضمان عيش أو أمل حياة.
وإذا أردنا أنْ نستعرض تفاصيل ذلك لطال بنا المقام، وخرجنا عن الغرض، لكن يكفي أنْ تعرف طرَفا من ذلك:
فالواثق عام ٢٢٩هـ حبَس كتّاب دولته، وألزمهم أموالاً عظيمة، أخذ من أحمد بن إسرائيل ثمانين ألف دينار، ومن سليمان بن وهَب ـ كاتب أيتاخ ـ أربعمِئة ألف دينار، ومِن الحسن بن وهب أربعة عشر ألف دينار، ومِن إبراهيم بن رباح وكتابه مِئة ألف دينار، ومن أحمد بن الخطيب مليوناً من الدنانير، ومن نجاح ستّين ألفَ دينار، ومِن أبي الوزير مِئة وأربعين ألف دينار.(١٥٤)
فمن الطبيعي للإنسان أنْ يتصوّر أنّ هؤلاء الكتّاب، كم كان مجموع ثرواتهم بحيث أمكنَهم دفع تلك الضرائب، وإذا كان الكاتب العادي لدى الوزير حاصل على مثل هذه الثروات، فكيف بالوزير نفسه ومَن في منزلته مِن القوّاد والقضاة والولاة؟! ولعلّ من نافلة القول وواضحة، أنّ هذه الأموال إنّما تحصل في أيدي هؤلاء، على حساب الأُمّة الإسلاميّة، وفقر الفقراء، والمصالح الكُبرى التي تفوّت بذلك.
وأخذ المتوكّل من أبي الوليد حين قبَض على أبيه أحمد بن دواد، قاضي القضاة يومئذٍ، أخذ منه مِئة وعشرون ألف دينار، وجواهر قيمتها عشرون ألف دينار، حملها إلى المتوكّل اختياراً، ثمّ صُولِح بعد ذلك على دفع ستّة عشَر مليون درهم. وأمّا أبوه الذي كان قاضياً للقضاة، فصادر جميع أملاكه وضياعه.(١٥٥)
ثمّ عيّن المتوكّل لقضاء القضاة يحيى بن أكثَم، وذلك سنة ٢٣٧هـ،(١٥٦) إلاّ أنّه عزَله عام ٢٤٠هـ وغرّمه خمسة وسبعون ألف دينار، وأربعة آلاف جريب في البصرة(١٥٧) فكم كان هذا الرجل قد حصَل عليه من الأموال، خلال هذه السنوات الثلاث؟!
ومن المستطاع القول أنّ مقتل المتوكّل(١٥٨) وخلع المستعين(١٥٩) والمعتز(١٦٠) والمهتدي، وقتلِهم، كان بسببٍ اقتصادي، يعود إلى أطماع الأتراك، وعجز الخليفة عن إيفاء مطالب الدولة من الناحية الماليّة، ولا يبقى من خلفاء سامرّاء مَن مات ـ في هذه الفترة ـ حتفَ أنفه، إلاّ المنتصر(١٦١) والمعتمد.(١٦٢)
ومِن المستطاع القول، بأنّ الحروب المستعرة التي وقعت في بغداد، بين المستعين والمعتز عام ٢٥١هـ، تعود إلى سببٍ اقتصادي، مرجعه إلى سوء تصرّف الأتراك بالأموال بعد تسليطهم الكامل عليها، فإنّ المستعين كان قد أطلَق يدَ والدته ويد أتامش وشاهك الخادم في بيوت الأموال، وأباح لهم أنْ يفعلوا ما أرادوا! فكانت الأموال التي ترِد من الآفاق يصير معظمها إلى هؤلاء الثلاثة.
فأخذ أتامش أكثر ما في بيوت الأموال، وكان وصيف وبغا ـ وهما مِن الأتراك المتنفّذين ـ بمعزل عن ذلك، فشغبوا عليه وقتلوه وقتلوا كاتبه ونهبوا دوره.(١٦٣)
ثمّ كان لهذَين مؤامرةً في قتل المُستعين، فشِلَت وانكشفت له، فقال المستعين لهما: أنتما جعلتماني خليفةً تريدون قتل،(١٦٤) وكان باغر التركي مشتركاً معهما في المؤامرة، فتآمرا ضدّه وقتلاه،(١٦٥) وقد كان قتل باغر الشرارة الأُولى التي أشعلت الحرب في بغداد، تلك الحرب التي أدّت إلى قتل المُستعين عام ٢٥٢هـ.(١٦٦)
وقد كان لأُمّ المعتز تسبيباً إلى قتله، فإنّ الأتراك طلبوا منه المال، فلَم يكن لديه ما يعطيهم، فنزلوا معه إلى خمسين ألف دينار، فلَم يكن يمكنه الدفع، فأرسل إلى أُمّه يسألها مالاً ليعطيهم، فزعَمت أنّ ليس عندها شيء، فقتله الأتراك شرّ قتله.(١٦٧)
وقد وجدوا عندها، بعد مقتل ابنها من الأموال ما لا يقدّر بثمن، فمن النقد مليون وثلثمِئة ألف دينار، ووجدوا في سفطٍ قدَر مكوك زمرّد لم يرَ الناس مثله، وفي سفطٍ آخر مقدار مكوك من اللؤلؤ الكبار، وفي سفطٍ آخر قدَر كيلجة مِن الياقوت الأحمر الذي لم يوجد مثله، فحمل ذلك كلّه إلى صالح بن وصيف، فسبّها وقال:
عرّضت ابنها للقتل في خمسين ألف دينار، وعندها هذه الأموال كلّها.
التاسع: من خصائص هذا العصر، وليست من مختصّاته أيضاً: استمرار الفتح الإسلامي الذي أوجَد بذرته الأُولى وركيزته العظمى وروحه الدافقة، نبيّ الإسلام (صلّى الله عليه وآله).
إلاّ أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أعطى الفكرة الصحيحة الداعية للفتح الإسلامي، فالفتح ليس للقتل ولا الانتقام، وإنّما هو رحمة وشفَقَة على البلاد المفتوحة، وتخليصهاً من نير العبودية والظلم، وتطبيق النظام الإسلامي الأمثل عليها
وإذا كان هذا هو المعنى الواعي للفتح، فإنّه يترتّب عليه أُمور:
أولاً: أنْ تقع المنطقة المفتوحة تحت سيطرة الدولة الإسلاميّة، وإشرافها من حيث الناحيتين العقائدية والسياسيّة، أمنا للدولة الجديدة عن الانحراف واطمئناناً من حدوث شغَب أو اضطراب أو انحراف عن تعاليم الإسلام.
ثانياً: إنّ الفتح لا يكون إلاّ بإشراف رئيس الدولة الإسلاميّة وهو النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في حياته، أو خليفته الشرعي العادل بعد وفاته.
فإنّ هذا الرئيس هو المطّلع على المصالح بشكلٍ أعمَق وأدَق والمُمسك بيده زمام السياسة العُليا، والمستشعر بشكلٍ أوضح وأوعى، المعنى العظيم للفتح الإسلامي البعيد عن المصالح الشخصيّة والمنافع الذاتية، ومِن ثمّ لم تكن الفتوح الإسلاميّة، في زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والخلافة الراشدة منطلقة إلاّ بإذن الحاكم الإسلامي الأعلى.
ثالثاً: إنّ الغنائم ليس لها أهميّة تُذكر، فإنّ المقصود إذا كان هو رفع الظلم عن البلَد المفتوح، فهو حاصل، سَواء غنم الجيش الإسلامي أم لم يغنم، وإنّما تكون الغنيمة من قبيل جوائز التشجيع توزّع على الجيش الإسلامي المنتصر، رفعاً لمعنويّاته وترغيباً له على التكرار.
رابعاً: إنّ الوعي إذا كان على هذا المستوى الرفيع، كان الجيش الإسلامي هو المندفع والمنتصر دائماً والكاسِح لعروش الظلم والفساد، عروش كسرى وقيصر.
بل إنّ الشعب المظلوم المتخلّف، وهو يحسّ بظلامته، بمجرّد أنْ يفهم أنّ الغُزاة المسلمين ليسوا طامعين ولا ناقمين، وإنّما قدموا ليطبّقوا النظام العادل ويكفلوا لمجتمعهم السعادة والرفاه، فإنّهم سوف يكونون قلبيّاً، بل عمليّاً مع الجيش الفاتح ضدّ سلطاتهم وحكّامهم، وعوناً للجيش الإسلامي ضدّهم، ومن هنا وجَب على الجيش الإسلامي أنْ يدعو إلى الإسلام ويَعرض محاسنه على أهل البلاد قبل أنْ يناجزهم القتال.
فهذه أُمور أربعة يقتضيها الجهاد الواعي الذي أسّس أساسه النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وكلّها كانت ضئيلة أو منعدمة في الفتح الجاري أثناء العصر الذي نؤرّخ له.
فنحن نسمع مثلاً: أنّ العبّاس بن الفضل بن يعقوب، خرَج عام ٢٣٧هـ إلى قلعة ابن ثور فغنِم وأسَر وعاد، فقتل الأسرى، وتوجّه إلى مدينة قصريانه، فنهَب وأحرَق وخرّب.(١٦٨)
وفي سنة ٢٣٨هـ خرج حتى بلغ قصريانه، ومعه جمعٌ عظيم، فغنِم وخرّب، وأتى قطانية وسرقوسة ونوطس ورخوس، فغنِم من جميع هذه البلاد وأحرَق، وفي سنة ٤٢هـ، سار العبّاس في جيشٍ كثيف، ففتح حصوناً جمّة.
وفي سنة ٢٤٣هـ سار إلى قصريانة فخرَج أهلها فلقوه وقاتلوه فهزَمهم، وقتل فيهم فأكثر، وقصد سرقوسة وغيرهما فنهب وخرّب وأحرَق، ونزل على القصر الحديد وحصره وضيّق على مَن به مِن الروم، فبذلوا له خمسة عشر ألف دينار، فلم يقبل وأطال الحصر، فسلّموا إليه الحصن على شرط أنْ يطلق مأتي نفس، فأجابهم إلى ذلك وملكه وباع كلّ من فيه سوى مأتي نفس، وهدَم الحصن.(١٦٩)
ونسمع أنّه في عام ٢٤٦هـ غزا عمرو بن عبد الله الأقطع الصائفة، فأخرج سبعة شعر ألف رأس، وغزا قريباس وأخرج خمسة آلاف رأس، وغزا الفضل بن قارن في نحو من عشرين مركباً فافتتح حصن أنطاكية، وغزا بلكاجور فغنم وسبَى، وغزا عليّ بن يحيى الأرمني، فغنِم خمسة آلاف رأس ومِن الدواب والرمك والحمير نحواً من عشر آلاف رأس.(١٧٠)
ولعلّ مِن أعظم الغنائم في ذلك العصر ما غنمه بازمار عام ٢٧٠هـ، بعد أنْ قتل مِن الروم ـ فيما قال ـ سبعين ألفاً وعدداً من قوّادهم، وغنم منهم: سبع صلبان من ذهبٍ وفضّة، وصليبهم الأعظم مِن ذهب مكلّل بالجوهر، وأخذ خمسة عشر ألف دابّة وبغل، ومِن السروج وغير ذلك، وأربع كراسي مِن ذهَب ومِئتي كرسي من فّضة وآنيةً كثيرة، ونحواً من عشرة آلاف علَم ديباج، وديباجاً كثيراً وبزيون وغير ذلك.(١٧١)
ونسمع أنّه في سنة ٢٤٨هـ أغزا المنتصر وصيفاً التركي إلى بلاد الروم، وكان سبب ذلك: أنّه كان بينه وبين أحمد بن الخصيب شحناء وتباغض، فحرّض ابن الخصيب المنتصر وأشار عليه بإخراجه من عسكره للغزو،(١٧٢) فنفّذ المنتصر ذلك وأمره بالمقام بالثغر أربع سنين يغزو في أوقات الغزو، إلى أنْ يأتيه رأيه.
ولم يكن محور حركة الفتح الإسلامي واحداً، بل كانت محاوره متعدّدة، فالخلافة العبّاسية بقوّادها الأتراك وغيرهم كانت تشارك فيه، والدولة الأمويّة في الأندلُس، كانت دائمة المناوشة مع الإفرنج، وكان أحمد بن طولون ممّن يتولّى الغزو أيضاً،(١٧٣) ودولة إفريقية برئاسة محمّد بن الأغلَب وأُسرته كانت تتولاّه أيضاً.(١٧٤)
وبهذا نرى أنّ حوادث الفتح، مختلفة اختلافاً أساسيّاً عن مفاهيم الفتح الإسلامي الواعي الأصيل، فالغزو أصبح للتجارة والحصول على الغنائم، حتى أنّ القائد الغانم كان يُساوم عليه بخمسة عشر ألف دينار فلا يقبل.
ولم تكن الدعوة إلى الإسلام قبل البدء بالقتال موجودة ولا متّبعة، مع أنّ وجوبها من واضحات الشريعة، كما أنّ الأسرى كانت تُقتل، خلافاً لتعاليم الإسلام، كما أنّ البلاد المفتوحة لم تكن تدخل على أثر الفتح في مجموعة البلاد الإسلامية، بل كان القوّاد بمجرّد أنْ يحصلوا على أرباحهم يتركون البلاد تنادي بالويل والثبور، ويرجعون، مِن دون أنْ يجعلوا عليها والياً إسلاميّاً، أو يطلبوا من أهلها الدخول في دين الإسلام أو دفع الجزية.
كما أنّ الروم، وهم عبارة عن الإفرنج عامّة والبزنطيّين خاّصة، حين كانوا يرَون أنّ الفكرة الأساسيّة للجهاد في ذلك الحين هو النفعيّة، كانوا هُم أيضاً يقومون بنفس العمل، فيغزون البلاد الإسلاميّة ويقتلون جملة من أهلها، ويكسبون الربح التجاري ويرجعون، فهم كالمسلمين، من حيث العدّة والعدد، فلماذا يمتنعون عن ذلك؟! وماذا يُميّز المسلمين عنهم من الوعي المقدّس الذي كان قد تبخّر وانتفى، ومن ثمّ نجد أنّ الجيش الإسلامي ليس هو الغالب دائماً في هذا العصر الذي نؤرّخه، بل هناك انتصارات يحرزها الروم، كما سبَق أنْ سمعنا.
كما أنّ الفتح كان، في الأغلَب مستقلاًّ عن خلافة بغداد، وعن رأيها وإذنها، وإنّما كان القوّاد وحكّام الأطراف يقومون به كلٌّ حسب رأيه ومصلحته، ولم نسمع إرسال الخليفة أحداً للغزو، إلاّ فيما سمِعناه مِن المنتصر حين أغزى وصيفاً التركي، على أنّ هذه الحادثة الوحيدة، لم تكن في سبيل الله، وإنّما كانت إيفاءً للأحقاد والتباغض الذي كان بين وصيف وأحمد بن الخصيب، كما سمِعناه.
الفصل الثاني: تاريخ الإمام عليّ بن محمّد الهادي (عليه السلام)
كانت سامرّاء عاصمة الدولة العبّاسية في أوَج عزّها وعُمرانها، وكان المتوكّل هو الذي تسنّم كرسي الخلافة، جاء به جماعةٌ من المَوالى والأتراك عام ٢٣٢هـ، وكان قد تسلّم الخلافة حاقداً على أئمّتنا (عليهم السلام) وعلى أصحابهم، حذِراً منهم كلّ الحذر، وهذا واضح ـ لِمَن يراجع التاريخ ـ كلّ الوضوح(١٧٥) بلَغ في آل أبي طالب ما لَم يبلغه أحد مِن خُلَفاء بني العبّاس قبله، وكان من ذلك أنْ كرَب قبْر الحسين (عليه السلام) وعفى آثاره.
وفكّر المتوكّل أنْ يستقدِم الإمام عليّ بن محمّد الهادي (عليه السلام) إلى سامرّاء من المدينة، آخذاً بالأُسلوب الذي اخترعه المأمون العبّاسي، وسار عليه مِن بعده تجاه الإمام الجواد محمّد بين عليّ (عليه السلام)، ومن بعده الأئمّة (عليه السلام)، فإنّ المأمون حين زوّج ابنته أُمّ الفضل للإمام الجواد (عليه السلام)، كان قد وضَع الحجَر الأساسي للمراقبة الشديدة والحذَر التام من الإمام (عليه السلام) من الداخل، مضافاً إلى مراقبته مِن الخارج، وكان هذا الزواج وتقريبه إلى البلاط، أُسلوباً ناجحاً للوصول إلى هذه النتيجة التي يُراد بها جعل الإمام (عليه السلام) بين سمع الخليفة وبصره، وعزله عن قواعده الشعبية الموالية له، وكفكفة نشاطه.
وإذ توفّيَ الإمام الجواد (عليه السلام)، وتولّى الإمام الهادي (عليه السلام) الإمامة بعده، لم يكن ليفوت المتوكّل ضرورة تطبيق نفس هذا الأُسلوب عليه، فهو يَرى أنّ الإمام حال وجوده في المدينة، بعيداً عنه، يُشكّل خطراً على الدولة لا محالة، إذن فلا بدّ من استقدامه إلى سامرّاء حتى يأمن خطَره ويهدأ باله، ويضعَه تحت الرقابة المباشرة منفصلاً عن قواعده الشعبية.
ومِن ثمّ كانت الوشاية به – وهي ناقوس الخطر – كافيه لحفز المتوكّل على ضعضعة حياة الإمام الهادي (عليه السلام)، ونقله من موطنه وداره في المدينة، إلى العاصمة سامراء، لكي يبدأ تاريخاً جديداً حافلاً في موطنه الجديد.
الاتجاه العام للإمام الهادي (عليه السلام)
في استقدام المتوكّل إيّاه:
لم يكن مِن المصلحة في نظر الإمام (عليه السلام)، إعلان الخلاف ضدّ المتوكّل، وكذلك كانت سياسة أبيه وأبنائه (عليهم السلام) بالنسبة إلى الخلافة العبّاسية، حتى تكلّلت هذه السلبية بغيبة الإمام المهدي (عليه السلام)، ولعلّنا في غنى عن إعطاء الفكرة الكاملة عن سبَب هذه السلبية، بعد وضوح أنّ ما يستهدفه الأئمّة (عليهم السلام) إنّما هو تأسيس المجتمع الإسلامي العادل الواعي الذي يطبّق تعاليم الإسلام بتفاصيلها، ويتعاون أفراده في إنجاح التجربة الإسلامية.
وهذا إنّما يتوفّر بعد وجود عنصرين:
أوّلهما: وجود الخلافة الإسلامية بالشكل الذي كان يؤمن به الأئمّة (عليهم السلام)، وهو تولّيهم بأنفسهم منصب الإمامة ورئاسة الدولة الإسلامية، أو مَن يُعيّنونه ويختارونه لذلك.
ثانيهما: وجود المجتمع الذي يملك أكثريةً كبيرة أو مئة بالمئة، لو تحقّق من الأفراد الواعين المُتشبّعين بفهم الإسلام نصّاً وروحاً، ومستعدّين للتضحية في سبيله، ولقول الحقّ ولو على أنفسهم، ورفض مصالحهم الضيّقة تجاهه، والذين يبذلون – نتيجة لذلك – الطاعة المطلقة للحاكم الإسلامي الحق.
ولعلّنا نستطيع أنْ نستوضح أهمية انضمام هذين العنصرين في تكوين الدولة الدولة الإسلامية، إذا تصوّرنا تخلّي بعضها عن بعض، في صورةٍ ما إذا تولّى الإمام الحق منصِب الرئاسة في مجتمعٍ متضارب الآراء مختلف الأهواء، يعيش أفراده على اللذاذة الآنيّة والمصلحة الشخصيّة، بعيدين عن الإسلام وعن الاستعداد للتضحية في سبيله بأقلّ القليل، هل يستطيع الإمام أنْ يقدّم الخدمات الإسلامية المطلوبة، لمثل هذا المجتمع.
كلا؛ فإنّ تطبيق العدل الكامل، يحتاج إلى العمل الدائب والتضحيات الكبيرة والطاعة المطلقة للرئيس العادل، وكلّ ذلك ممّا لا يُمكن توفّره في المجتمع المنحرف وغير الواعي.
ومِن ثمّ لم يكن الأئمّة (عليهم السلام)، يرَون المصلحة في تولّي رئاسة الدولة الإسلامية في المجتمع المنحرف، الذي أدّى بمَن تولّى هذا المنصب منهم إلى المتاعب المضاعفة، وإلى القتل في نهاية المطاف، وهم: جدُّهم الأعلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ومِن بعده ابنه الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، إذ لو كان المجتمع واعياً ومضحّياً في سبيل دينه في عصرهما (عليهما السلام)، لكان لهما خاصّة وللأُمّة الإسلامية عامّة تاريخ غير هذا التاريخ.
ولم يكن المجتمع في خلال عصور الأئمّة جميعهم بأحسَن حالاً من المجتمع الأوّل، الذي قتل أمير المؤمنين وخذَل ابنه الحسن، وقاتل ابنه الحسين (عليهم السلام)، إنْ لم يكن قد تزايَد لهوَه وبطَرُه وحرصه على المصالح واللذاذات، نتيجة لانكباب الخُلفاء أنفسهم على ذلك، فإنّ الناس بدين ملوكهم، مع انعدام أو ضآلة المدّ الكافي لتوعية المجتمع وإرجاعه إلى فهم دينه الحنيف.
ومِن ثمّ لم يكن لهم في الخلافة مطمع؛ لأنّهم لم يكونوا يريدون السير على الخطّ (الأموي – العبّاسي) للخلافة، ذلك الخط المنحرف الذي يؤمن للناس أطماعهم، ويقسم المجتمع إلى نعمةٍ موفورة وإلى حقٍّ مضيّع.
فكان الهدف الأساسي للأئمّة (عليهم السلام) ينقسم إلى أمرَين مترابطين:
أحدهما: حفظ المجتمع من التفسّخ والانهيار الكلّي، أو بتعبيرٍ آخر: حفظ الثمالة المُشعّة مِن الحق، المتمثّلة بهم وبمواليهم وقواعدهم الشعبية.
ثانيها: السعي إلى تأسيس المجتمع الإسلامي الواعي، ورفع المستوى الإيماني في نفوس أفراده، تمهيداً لنيل الخلافة الحقّة، وتطبيق المنصب الإلهي الذي يعتقدون استحقاقه.
وكانوا يعملون على تنفيذ ذلك، في حدود الإمكان الذي يناسب مع الحذَر من الجهاز الحاكم وتجنّب شرّه، إذ لم يكن من المصلحة، أنْ يقوم الإمام (عليه السلام) بحركة ثورية عشوائية بجماعةٍ قليلةٍ تؤدّي به وبجميع أصحابه إلى الاستئصال التام، ولا يتحقّق شيء من ذَينك الغرَضين.
فهذا هو السرّ الأساسي للسلبية التي سار عليها الأئمّة (عليهم السلام) تجاه السلطات الحاكمة، وهو الذي يُفسّر لنا – على تفصيلٍ وتحقيقٍ لا مجال له هنا – إعلان الإمام الحسن (عليه السلام) الصلح مع معاوية.
ورفْض الإمام الرضا (عليه السلام) ولاية العهد التي عرَضها عليه المأمون.
وهو السبب الذي أدّى إلى الموقف السلبي للإمامين العسكريّين (عليهما السلام)، اللذَين نؤرّخ لهما، وهو الذي أدّى – في نهاية المطاف – إلى غيبة الإمام المهدي (عليه السلام)، على ما سنعرف.
سفَره إلى سامرّاء:
وشى عبد الله بن محمّد الذي كان يتولّى الحرب والصلاة بمدينة الرسول المنوّرة، بالإمام الهادي (عليه السلام)، وكان يقصده بالأذى، فبلغ إلى الإمام خبَر وشايته، فكتَب إلى المتوكّل يذكر تحامل عبد الله بن محمّد عليه وكذبه فيما سعى به.(١٧٦)
فنرى كيف أنّ عبد الله بن محمّد يُمثّل الخطّ العام للدولة، في الفزَع من نشاط الإمام وتصرّفاته، وكيف وصَل به الحال إلى أنْ يرسل إلى المتوكّل بخبَرِه، باعتباره حريصاً على مصالح الدولة، ومنتبهاً على مواطن الخطر! ولعلّه التفت إلى بعض النشاطات المهمّة التي كان يقوم بها الإمام بعيداً عن السلطات، فأوجَس منها خيفة حدَت به إلى هذه الوشاية.
إلاّ أنّ المتوكّل كان يعلم بكلِّ وضوح، عدم إمكان الحصول على أيِّ مستندٍ ضدّ الإمام (عليه السلام)؛ فإنّ للأئمّة (عليهم السلام)، كما سبَق أنْ قلنا أساليباً من الرمزية والإخفاء يمكنهم خلالها القيام بجملةٍ من جلائل الأعمال، لعلّ أهمّ دلائل الإخفاء، هو تصدّيه إلى تكذيب الخبَر برسالةٍ يرسلها إلى المتوكّل نفسه، يكذِّب فيها التهمة، وينفي عن نفسه صفة التآمر على الدولة، فإنّ نشاطه كان مقتصراً في الدفاع عن قواعده الشعبية وتدبير أُمورهم، وليس له ضدّ الدولة أيَّ عمل، وإنْ كان قد أوجَب عمله توهّم عبد الله بن محمّد لذلك.
والمتوكّل هو مَن عرفناه بموقفه المتزمّت ضدّ الإمام (عليه السلام) وكلّ مَن يمتّ إليه بنسب أو عقيدة، ولكنّه يتلقى رسالة الإمام (عليه السلام) بصدرٍ رحِب، ويُرسل له رسالة مفصّلة كلّها إجلالٌ له وإعظامٌ لمحلّه ومنزلته.
يعترف بها ببرائته وصدق نيّته ويوعِز بعزل عبد الله بن محمّد عن منصبه بالمدينة، ويدّعي الاشتياق إليه ويدعوه أنْ يشخص إلى سامرّاء مع مَن اختار من أهل بيته ومواليه.(١٧٧)
وهذا الطلب، وإنْ صاغه المتوكّل بصيغة الرجاء، إلاّ أنّه هو الإلزام بعينه، فإنّ الإمام (عليه السلام) إنْ لم يذهب حيث أمره يكون قد أثبت تلك التهمة على نفسه، وأعلَن العِصيان على الخلافة، وكلاهما ممّا لا تقتضيه سياسة الإمام (عليه السلام).
وأمّا عام سفره هذا، فقد ذكر في الإرشاد(١٧٨): إنّ الرسالة مؤرّخة بجمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين ومِئتين وليس في هذا ما يلفت النظر، لولا ما ذكَره ابن شهر آشوب من أنّ مدّة مقام الإمام الهادي (عليه السلام) في سامرّاء من حين دخوله إلى وفاته، عشرون سنة.(١٧٩)
وإذ نعرف أنّه (عليه السلام) توفّى عام ٢٥٤هـ،(١٨٠) تكون سفرته هذه قبل عشرين عاماً من هذا التاريخ أي سنة ٢٣٤هـ، وهذا أنسب بالاعتبار السياسي، باعتبار كونه بعد مجيء المتوكّل إلى الخلافة بعامين، فيكون المتوكّل قد طبّق منهجه في الرقابة على الإمام في الأعوام الأُولى من خلافته، بخلافه على الرواية الثانية، التي تبعد بالتاريخ عن استخلاف المتوكّل أحَدَ عشَر عاماً، والله العالم بحقائق الأُمور.
أعطى المتوكّل رسالته إلى أحد صنّائعه، يحيى بن هرثمة، ليسلّمها إلى الإمام في المدينة، وأمره باستقدامه إلى سامرّاء، فأسمعه يقول في روايته للحادثة(١٨١): فلمّا صرت إليها – يعني المدينة المنوّرة – ضجّ أهلها وعجّوا ضجيجاً وعجيجاً ما سمِعت مثله، فجعلت أُسكنهم وأحلف لهم أنّي لم أُؤمَر فيه بمكروه، وفتّشت بيته، فلَم أجد فيه إلاّ مصحفاً ودُعاء وما أشبه ذلك.
فنعرف من ذلك، مدى إخلاص أهل المدينة لإمامهم (عليه السلام)، وحرصهم عليه، ومدى تأثيره الحسِن فيهم، ولم يكن هذا الضجيج الكبير منهم، إلاّ لمعرفتهم بوضوح سوء نيّة السلطات تجاه الإمام وابتغائها الدوائر، ضدّه فكان تأسّفهم وتأوّههم ناشئاً مِن أمرين:
أحدهما: انقطاعهم عن الإمام (عليه السلام)، وحرمانهم مِن إرشاداته وألطافه ونشاطه الإسلامي البنّاء، وهذا ما أراده المتوكّل، وقد حصَل بالفعل بمقرّ الإمام، فإنّه لم يعد إلى المدينة بعد ذلك.
الثاني: مخافتهم على حياته، لاحتمال قتله عند وصوله إلى العاصمة العبّاسية، وهذا هو الذي فهمه يحيى بن هرثمة من الضجيج – وحاول أنْ لا يفهم غيره – فحلَف لهم أنّه لم يؤمَر فيه بمكروه.
ولم يثن الضجيج هذا الرجل عن غرضه السياسي في التجسّس ففتّش دار الإمام، بالمقدار الذي حلا له، فلَم يجِد فيه أيّ وثيقةٍ تدلّ على التمرّد أو الخروج على النظام العبّاسي، وبذلك يكون المتوكّل قد فقَد أي مستمسك يؤيّد ما سمِعه عنه أو خافه منه، واستطاع الإمام (عليه السلام) أنْ يُحافظ على مسلكه العام في السلبية.
وخرَج الإمام الهادي (عليه السلام)، مصاحباً لولده الإمام العسكري وهو وصبي، مع ابن هرثمة متوجّهاً إلى سامرّاء، وحاول ابن هرثمة في الطريق إكرام الإمام وإحسان عِشرته، وكان يرى منه الكرامات والحُجَج التي تدلّ على تولّيه طُرُق الحق، وتوضّح لهذا الرجل جريمته في إزعاج الإمام وزعزعته والتجسّس عليه، وجريمة مَن أمره بذلك أيضاً.
ويمرّ الركب ببغداد – في طريقه إلى سامرّاء – فيُقابل ابن هرثمة واليها – بعد انتقال الخلافة عنها، وهو يومئذٍ إسحاق بن إبراهيم الطاهري، وهو بمقتضى منصبه، محلّ الثقة الكُبرى من قِبَل المتوكّل، بحيث جعله والياً على عاصمته الثانية وقائماً مقامه فيها، فنرى إسحاق الطاهري يوصى بن هرثمة بالإمام مستوثقاً من حياته قائلاً له: يا يحيى، إنّ هذا الرجل قد ولده رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، والمتوكّل مَن تعلم وإنْ حرّضته على قتله، كان رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) خصمك.
فيُجيبه يحيى: والله ما وقفت له إلاّ على كلّ أمرٍ جميل.(١٨٢)
ونحن حين نسمَع هذا الحِوار بين الرجلين اللذين يُمثّلان السلطات نفسها ويعيشان على موائدها، نعرف كم وصَل الحقد والتمرّد على النظام القائم يؤمئذٍ، وكيف أنّه تجاوز القواعد الشعبية إلى الطبقة العُليا الخاصّة من الحكّام، مواضع ثقة الخليفة ومنفّذي أوامره، كما نعرف مدى اتساع الذكر الحسِن والصدى الجميل لأفعال الإمام وأقواله بين جميع الطبَقات، حتى بين الحكّام أنفسهم.
وحين يصل الركب إلى سامرّاء، يبدأ ابن هرثمة بمقابلة وصيف التركي، وقد عرفناه قائداً من القوّاد الأتراك المنتفعين بالوضع القائم، ممّن كان يُشارك في تنصيب الخليفة وعزله ومناقشته في أعماله، ويظهر من التاريخ أنّ وصيفاً كان هو الآمر رسميّاً على ابن هرثمة، ومِن هنا قال له وصيف: والله لئن سقطَت من رأس هذا الرجل شعرة، لا يكون المُطالب بها غيري.
يقول ابن هرثمة: فعجِبت من قولهما، وعرّفت المتوكّل ما وقفت عليه وما سمِعته من الثناء عليه، فأحسَن جائزته وأظهر برّه وتكرمته،(١٨٣) وقد عرفنا ممّا سبَق أنّ كلّ هذا الكرم الحاتمي، على الإمام (عليه السلام)، لم يكُن مِن أجل حفظ حقّ الإمام، وإنّما كان تغطيةً للمنهج السياسي الذي يُريد المتوكّل اتباعه، وهو عزل الإمام عن نشاطه وقواعده الشعبية والحذَر ممّا قد يصدِر منه من قولٍ أو فِعل.
ومن هنا نرى، أنّ المتوكّل أمَر أنْ يُحجَب عنه الإمام(١٨٤) في يوم وروده الأوّل إلى العاصمة العبّاسية، ونزَل الإمام في مكان متواضع يُدعى بخانِ الصعاليك، فقام فيه يومه.(١٨٥)
ومرّ عليه وهو في هذا الخان أحد مُحبّيه مقدّري فضله، صالح بن سعيد، فأحزنه حال الإمام (عليه السلام)، فقال له: جُعلت فِداك في كلّ الأُمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك، حتى أنزلوك في هذا الخان الأشنَع، خان الصعاليك.
ويسمع الإمام (عليه السلام) ما قال، فيجيب وكأنّه قد التفَتَ بعد استغراق تفكيرٍ وانشغالِ بالٍ: (ههنا أنت يا ابن سعيد).
ثمّ يريد الإمام (عليه السلام) أنْ يُفهِم هذا المُشفِق، بأنّ الحال الدنيوية وإنْ كانت قد وصلت به؛ نتيجة للظلم والعذر، إلى هذا الحد المنحدر، إلاّ أن ذلك ممّا يرفعه قدراً ويزيده جهاداً، ويضيف إلى فضائله فضيلة. فهو لم يخسر شيئاً، وإنما الأمة الإسلامية هي التي خسرته. وأنه يعيش على الأنوار الروحية واللذائذ العلمية والنفحات القدسية، فكأنّه في روض الجنان. فيومئ الإمام بيده، ويقول: (انظر). قال ابن سعيد: فنظرت! فإذا بروضاتٍ أنقاتٍ، وأنهارٍ جارياتٍ، وجناتٍ فيها خيراتٍ عطراتٍ، وولدان كأنَّهنَّ اللؤلؤ المكنون. فحار بصري وكثر تعجبي. فقال لي: (حيث كنا، فهذا لنا يا ابن سعيد، لسنا في خان الصعاليك).(١٨٦)
نشاطه السياسي في المدينة:
إذا أردنا أن نلتفت إلى أعمال الإمام (عليه السلام) ونوع نشاطه الاجتماعي والسياسي في المدينة المنورة، قبل وروده إلى سامراء، تواجهنا أمور ثلاثة:
أحدها: موقفه العام الذي أوجب إثارة واليها عبد الله بن محمد ضده وإيصاله الأذى إليه، وأوجب السعاية به إلى المتوكل. ذلك الموقف الذي علمنا إطاره العام، واستطاع الإمام واضطر التاريخ إلى إخفاء تفاصيله.
ثانيها: موقفه من بغا الكبير حين ورد على رأس جيش إلى المدينة لمنازلة الأعراب المخرِّبين، وسيأتي التعرُّض له فيما بعد.
ثالثها: رواية تضمّنت بعض تعليقات الإمام (عليه السلام) على بعض الحوادث السياسية الجارية في ذلك الحين، وهو عام ٢٣٢، أي قبل ذهابه إلى سامراء بعامين بالتاريخ الذي رجّحناه.
وذلك: في آخر خلافة الواثق وآخر وزارة محمد بن عبد الملك الزيّات وزيره، حيث عذّبه المتوكل ـ بعد توليه الخلافة بعد الواثق ـ أشد العذاب حتى مات تحت التعذيب.(١٨٧) فقد سأل الإمام (عليه السلام) أحد القادمين إلى المدينة من العاصمة سامراء، يدعى بخيران الساباطي، سأله عن خبر الواثق، قال:
فقلت: جعلت فداك، خلفته في عافية، أنا من أقرب الناس عهداً به. عهدي به منذ عشرة أيام.
فقال لي: (أهل المدينة يقولون إنه مات).
فقلت: أنا أقرب الناس به عهداً.
قال فقال لي: (إن الناس يقولون أنه مات).
فلمّا قال لي: (إن الناس يقولون)، علمت أنه يعني نفسه.
ثم قال (عليه السلام): (ما حال جعفر؟)، يعني المتوكل.
قلت: تركته أسوأ الناس حالاً، في السجن.
قال: فقال لي: (أمَا أنه صاحب الأمر).
وإلى هنا نرى الإمام (عليه السلام) قد تنبّأ بموت خليفة وقيام آخر، بالرغم من أن وجود المتوكل في السجن دال على بُعد توليه الخلافة لا محالة.
ثم قال: (ما فعل ابن الزيات؟).
قلت: الناس معه، الأمر أمره.
فقال: (أمَا أنه شؤم عليه). يشير إلى موته تحت التعذيب بيد الخليفة الجديد: جعفر المتوكل.
ثم أراد الإمام (عليه السلام) أن يربط هذه الحوادث بقدرة الله وعلمه، فقال (الإمام (عليه السلام)) للراوي: (لا بد أن تجري مقادير الله وأحكامه. يا خيران مات الواثق وقعد جعفر المتوكل، وقد قتل ابن الزيات).
فيسأله الراوي: متى؟ جعلت فداك.
فقال: (بعد خروجك بستة أيام).(١٨٨)
وهنا لا بد أن نلاحظ أمرين:
أحدهما: أن الإمام قد صرح بهذه الحقائق حين الأمن من التصريح، بزوال أصحابها عن الحكم. أمّا المتوكل الذي تولّى الحكم، فليس في كلام الإمام ما يشعر بالطعن فيه، لكي نعتبره نقداً سياسياً خارجاً عن الأسلوب العام للسلبية.
ثانيهما: أن الإمام صرّح بذلك بعد أربعة أيام من وقوعه، وهي مدة لم تكن في تلك العصور كافية لتلقّي الأخبار عادة. ولذا كان الراوي متأكداً من أنه أقرب الناس عهداً بالوضع السياسي. فمن هنا يرجحّ أن يكون الإمام قد اطلع على ذلك بنحو غيبي، في زمان لم تكن الوسائل الحديثة متحققة في الوجود.
سلبية الإمام تجاه الأحداث:
وقد عاصر الإمام الهادي (عليه السلام) في سامراء بقية أيام المتوكل، وهي حوالي أربعة عشر سنة، إلى أن قتله الأتراك عام ٢٤٧، ثم أيام المنتصر، ثم المستعين، ثم قسماً من خلافة المعتز، حيث توفّي الإمام (عليه السلام) عام ٢٥٤. وأما المعتز، فقد خلعه الأتراك عام ٢٥٥ كما عرفنا.
وقد تتابعت في خلال هذه الأعوام من الحوادث ما لا يحصى، ممّا عرفناه فيما سبق وممّا لم نعرفه. ولعل أهم ما عرفناه هو حصار بغداد والقتال الذي وقع فيها بين المستعين والمعتز. والذي أدى إلى تولّي الأخير كرسي الخلافة، وخلع الأول نفسه عام ٢٥٢.
كما أن هناك نشاط الخوارج الذي كان يومئذ قوياً فعالاً، مدعماً بالمال والسلاح، بقيادة مساور الشاري. وهناك الثورات والانتفاضات العلوية وغيرها، وهناك الفتوح والحروب الإسلامية على الحدود، في الأندلس وسمبساط وغيرها. وحروب في داخل الدولة بين مختلف الطامعين في القيادة والظهور، وهناك تغيّر الوزارات والقضاة، وهناك الحالة الاقتصادية، بما فيها من مشاكل وتبذيرات البلاط والوزراء والحاشية، وهناك موقف المتوكل من العلويين وهدمه لقبر الحسين (عليه السلام)... إلى غير ذلك من الحوادث مما لا يكاد يحصى.
ولم يرد إلينا تجاه ذلك أي تعليق من قبل الإمام الهادي (عليه السلام) على أي واحد من هذه الحوادث، مهما عظمت أهميته، بل يمكن أن يقال بشكل تقريبي: إنه لم يرد إلينا من موقف الإمام (عليه السلام) مع الخلفاء ـ غير المتوكل ـ إلاّ أقل القليل.
وقد عرفنا فيما سبق الأسباب التفصيلية التي حدت بالإمام إلى اتخاذ موقف السلبية تجاه الأحداث. على أننا يمكن أن نضيف إلى تلك العوامل ما يلي:
أما بالنسبة إلى علاقة الإمام بالخلفاء، فتتحكم فيها العوامل الثلاثة الآتية:
العامل الأول: ما عرفناه من ضعف مركز الخلافة وسقوط هيبتها عن أعين الناس، وخروج الأمر من يد الخليفة إلى زمرة من القواد الأتراك والموالي، البعيدين كل البُعد عن الإسلام وذكر الله تعالى. حتى استطاعوا أن يعزلوا الخليفة وينصبوا الآخر، بما فيهم المتوكل نفسه، وإن استطاع أن يفك نفسه من هذا الأسر إلى حد ما فيقوم ببعض النشاط الاجتماعي ويبقى في المُلك مدة كافية.
أما غير المتوكل من الخلفاء، ممّن وردوا إلى الحكم بعده، فقد أزاد تقوقعه على نفسه وبطره وانصرافه عن شئون الناس إلى اللهو واللعب، فلم يكن لديهم الإدراك الكافي للمسائل الاجتماعية حتى ينظروا إلى الإمام (عليه السلام)، أو يكونوا معه علاقة خاصة واتجاهاً معيناً، سوى الاتجاه العام الذي رسمه أسلافهم.
العامل الثاني: ما عرفناه من أن المتوكل كان من متطرّفي بني العباس في عداوة أهل البيت (عليهم السلام) ومواليهم. وفعل في ذلك ما لم يفعله غيره. وكان من آثار ذلك جلبه الإمام الهادي (عليه السلام) إلى سامراء لزيادة مراقبته والحَجْر عليه، ومعرفة جميع مستويات أعماله، وهو مما يعكس حذراً وتوجّساً في أعمال الإمام (عليه السلام) لا محالة. مضافاً إلى ما قد يريده الإمام بسلبيته من إعلان الاحتجاج الصامت على تلك الأعمال النكراء.
على حين أن ابنه المنتصر حين تولّى الخلافة بعد أبيه، ألآن مسلكه مع أهل البيت وأظهر الميل إليهم؛ فكان أن خفَّ الضغط على الإمام (عليه السلام) وأصحابه ومواليه، إلاّ ما كان من اتجاه الخط العام الضروري لحفظ أساس الدولة العباسية؛ وكان نتيجة لذلك أقل خوفاً من غيره من انتفاض العلويين عليه.
العامل الثالث: إن المتوكل كان يشعر بمسئولية خاصة تجاه الإمام (عليه السلام)؛ باعتبار ما جعجع به من بلده وأقلق حياته الخاصة والعامة. ولم يكن هذا الشعور بالمسئولية ليؤثّر في مثل حقد المتوكل بإكرام الإمام حقيقة، وإلاّ فقد كان الخليق به أن يطلق له حريته، وهو ما لا يريده المتوكل أن يكون. وإنما الشيء الذي أنتجه هذا الشعور بالمسئولية، أو تحسس الإثم، هو أن الإمام أصبح مركز انتباه المتوكل ومحور نشاطه، فكان يجلسه في مجالسه ويركبه في مراكبه ـ على ما يأتي؛ توخياً إلى الأمن منه وكفكفة نشاطه.
وأما بالنسبة إلى عدم تعليق الإمام (عليه السلام) على كثير من الأحداث، الداخلية والخارجية، فلو غضضنا النظر عن العوامل التي ذكرناها في المقدمة، وقلنا: إن عدم الوجدان يدل على عدم الوجود ـ وهذا ما ننكره جزماً؛ باعتبار ظروف النقل التاريخي التي عرفناها ـ فمن الممكن القول: إن هذه السلبية كانت نتيجة طبيعية لانعزاله التام عن الشئون السياسية. فإننا نعلم من النظر في أحوال زماننا وكل زمن، أن مَن يعلن عن آرائه السياسية، هو أحد شخصين أو جهتين:
أحدهما: الشخص أو الجهة التي تمارس الحكم فعلاً، فهي مسئولة ـ لكي توضح موقفها من الأحداث ـ أن تعلن عن رأيها السياسي فيها، حتى يكون هو الميزان أمام الناس والتاريخ، في تقييم هذا الحكم، ولكي تعطي المبرِّرات المنطقية لأجل نشاط معين، في مصلحة أو ضد أمر سياسي أو اجتماعي معين.
ثانيهما: الشخص أو الجهة التي تطمع بتولّي الحكم في يوم من الأيام، ولا يكون محجوزاً عليها أو محدَّداً سلوكها من جهة قاهرة. فهي تعلن أمام الملأ آراءها السياسية ومبادئها الاجتماعية، لكي تحاول إقناع الجمهور بها، فتجتلب بذلك المؤيدين والمناصرين، ليكونوا عوناً لها في معركتها السياسية التي تنشدها.
أما الذي لا يكون متصفاً بأحد هذين الصفتين، مهما كان الفرد عظيماً ووجيهاً، أو ذو جهة نافذة قوية على الصعيد السياسي، فليس من الضروري أو المتوقع أن يعلن عن آرائه السياسية.
والإمام لم يكن يمارس الحكم كما هو معلوم، ولم يكن ممّن يطمع بالحكم في ذلك العصر المنحرف غير الواعي، كما قلنا. على أنه لو كان مريداً ذلك في ضميره، فقد كان مراقباً محجوراً، تُعدُّ عليه أفعاله وأقواله. ومعه لا أمل له في الحكم عادةً. إذن، فقد كان الإمام (عليه السلام) من الناحية السياسية فرداً عادياً من الأمة، وأنه أراد ذلك لنفسه بحسب ما رآه من المصلحة، بالرغم من أنه من الناحية الدينية الإمام والقائد والمثل الأعلى لمحبيه ومواليه.
ولم يكن له (عليه السلام) من أمره يومئذٍ إلاّ الفتوى، والجواب على السؤال الذي يتلقّاه لو وجد مصلحة في الإجابة. ومن الواضح أن شخصاً من صانعي الأحداث في ذلك العصر لم يسأله عن عمل من أعماله، ليأخذ بمشورته ورأيه. فلا يبقى لدينا إلاّ احتمال أن أصحابه كان لهم الوعي الواسع، وكانوا يسألون إمامهم عن آرائه السياسية، وكان يجد مصلحة في جوابهم، فيجيبهم. وهذا الاحتمال وإن كان له ما يبعده، إلاّ أنّ حدوث مثل ذلك، في ذلك الظرف العصيب، لم يكن ليصِل إلينا أكثر ممّا وصَل منه فعلاً.
مضافاً، إلى أنْ جملة من الأحداث، كان في مستطاع أصحاب الإمام (عليه السلام) وأعدائه، كمَا في مستطاع المؤرّخ اليوم، استنتاج رأيه فيها، بصفته الوجود الممتد لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والممثّل للقواعد الإسلاميّة الصحيحة، فنحن لا نحتاج إلاّ مزيد تفكير حين نريد معرفة رأيه بأشخاص الخُلفاء، أو سُلوكهم المنحرف أو الوزراء أو القوّاد، ونشاطهم غير القائم على أساس العدل الإسلامي، أو رأيه في الخوارج، أو في هدْمِ قبر جدّه الحسين (عليه السلام) ومنع الزوّار عنه، فإنّ كلّ ذلك ممّا يرفضه رفضاً باتّاً ويستنكره أشدّ الاستنكار، وكذلك الحروب والمناوشات التي كانت تقَع في داخل البلاد الإسلاميّة، قائمةً على الطمَع والتوسّع، وكذلك تنصيب القضاة غير الأكفّاء بنظر الإمام (عليه السلام) وجميع ما يصدرون من أحكام.
أمّا بالنسبة إلى حروب المسلمين مع الأغيار في الحدود الإسلاميّة، فمِن المستطاع القول بموافقته عليها، باعتبارها القضية التي تخصّ الإسلام، الذي يُمثّل الإمام حقيقته وجوهره، ولو كان الجهاد في ذلك الزمان في سبيل الله محضاً ـ كما كان على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـ لكان الإمام أوّل المُبادرين إلى تأييده، ولكنّنا أسلَفنا في التاريخ العام، أنّ فكرة الجهاد انحدَرت في الأزمان المتأخّرة إلى التجارة والمساومة، فلَم تكن هذه الناحية، من الجهاد، بمرضيّة للإمام (عليه السلام)، وبخاصّة وأنّ الأموال المغتَنمة، لم تكن تُصرَف في مصلحة الدين والأُمّة، وإنّما كانت: في الأغلَب، تصرّف في الشؤون الخاصّة للحكّام.
وإنّما الذي يكون مرضياً للإمام (عليه السلام) هو نتيجة الجهاد، وهو سقوط المنطقة الكافرة بين المسلمين، ودخولها في بلاد الإسلام وخَلاصها مِن حكم الكُفر أو الإلحاد.
الخطوط العامّة لمواقف الإمام (عليه السلام):
كان الإمام الهادي (عليه السلام) في سامرّاء يُمارس وظيفته الاعتياديّة بصفته الإمام والقائد لمواليه، والمشرف على مصالحهم والمدافع عن قضاياهم بمقدار الإمكان، في تلك الحدود الضيّقة التي تُحدَّد بحدود الضغط والرقابة الموجّهة إليه وإلى مواليه.
فكان له في ذلك موقفان:
الموقف الأوّل: إثبات الحقّ أو نقد الباطل، بحسَب وجهة نظره، تجاه الناس من غير الموالين له، سَواء على المستوى العالي في الجهاز الحاكم، أم على مستوى القواعد الشعبية العامّة.
الموقف الثاني: المحافظة التامّة على أصحابه ورعاية مصالحهم وتحذيرهم من الوقوع في الشرك العبّاسي، ومساعدتهم في إخفاء نشاطهم، وما إلى ذلك، بحسَب الإمكان.
ولعلّنا نستطيع أنْ نتكلّم في كلّ موقف من هذَين الموقفين، بما يوضّح الفكرة ويبسّط الأمثلة التاريخية، ويؤسّس الأساس لِما نريد التوصّل إليه في نهاية المطاف، من دون أنْ نكون مضطرّين إلى ذكر كلّ شاردةٍ وواردة في ترجمته (عليه السلام).
الموقف الأوّل: نشاطه (عليه السلام) تجاه من لا يعتقد بإمامته:
ويتجلّى هذا الموقف في عدّة نقاط:
النقطة الأُولى: النقد السياسي على المستوى الأعلى وهو ما يُعبَّر عنه بلغة الفقه، أنهّا كلمةُ حقٍّ أمام سلطانٍ جائر.
ولعلّ أوّل وأوضح ما يندرج في هذا الصدَد، ما ذكره جماعة من المؤرّخين العامّة والخاصّة، من أنّه سُعيَ به (عليه السلام) إلى المتوكّل، وقيل أنّ في منزلة سلاحاً وكُتباً وغيرها من شيعته، وأوهموه أنّه يطلب الأمر لنفسه فوجّه إليه عدّةً من الأتراك ليلاً، فهجموا على منزله على غفلةً، فوجدوه وحده في بيتٍ مغلَق وعليه مدرعة من شعر، وعلى رأسه ملحفة من صوف، وهو مستقبل القبلة يترنّم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد، ليس بينه وبين الأرض بساط إلاّ الرمل والحصى، فأُخِذ على الصورة التي وجِد عليها، وحُمِل إلى المتوكّل في جوف الليل.
فمثل بين يديه والمتوكّل يستعمل الشراب وفي يده كاس، فلمّا رآه أعظمه وأجلسه إلى جانبه، ولم يكن في منزله شيء ممّا قيل عنه ولا حجّة يتعلّل بها، فناوله المتوكّل الكأس الذي في يده، فقال: (يا أمير المؤمنين، ما خامَر لحمي ودمي قط، فاعفني)، فأعفاه، وقال: أنشدني شعراً أستحسنه فقال: (إنّي لقليل الرواية للشعر)، قال: لابدّ أنْ تنشدني شيئاً، فأنشده:
بـاتوا على قُلَلِ الأَجبال تحرسهمْ * * * غُـلْبُ الـرجال فما أغنتهمُ القُلَلُ
واسـتُنزِلوا بعد عِزٍّ من معاقلهم * * * فـأُودعوا حُفَراً يا بئسَ ما نزَلوا
نـاداهمُ صارخٌ من بعدِ ما قُبِروا * * * أيـن الأَسـرّة والتيجان والحُلَلُ
أيـن الـوجوه التي كانت منعَّمةً * * * من دونها تُضربُ الأَستار والكِلَلُ
فـأفصح القبر عنهم حين ساءلهمْ * * * تـلك الـوجوه عليها الدود يَقْتَتِلُ
قد طال دهراً ما أكلوا وما شربوا * * * فأصبَحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا
قال: فأشفق مَن حضَر على عليّ (عليه السلام)، وظنّ أنّ بادرةً تبدر إليه فبكى المتوكّل بكاءً كثيراً، حتى بلّت دموعه لِحيته، وبكى مَن حضره، ثمّ أمَر برفع الشراب، ثمّ قال: يا أبا الحسن، أعليك دين؟ قال:(نعم، أربعة آلاف دينار). فأمر بدفها إليه، وردّه إلى منزله مُكرّماً.(١٨٩)
ولعلّنا نستطيع أنْ نفهم من هذه القصّة، عدّة أُمور:
الأوّل: مقدار الجوّ المُكهرب الذي كان يعيشه الإمام (عليه السلام) تجاه السلطات، وكيفيّة معاملتهم معه، تلك المعاملة التي كان للأتراك اليَد الكبرى في ارتكابها وتحمّل جريرتها.
الثاني: أنّ الإمام هو الذي أراد عن عِلمٍ وعمد أنْ يكون في جوف الليل، على الحالة التي رأوه عندها، فقد علِم بنحوٍ غيبي أو بطريقٍ خاص، بمثل هذا الهجوم المفاجئ، فأخفى مستنداته بنحوٍ تام وبدأ بقراءة آياتٍ في الوعد والوعيد، ممّا يكون حجّةً على هؤلاء الأتراك المهاجمين، وإنْ تخيّل الحكّام والمؤرّخون أيضاً أنّ القيام بهذه العملية كان على حين غرّةٍ منه وغفلة.
الثالث: أنّ الإمام أعطى لهذا المقام مقاله، بالنحو الذي لا يكون مهدِّداً مباشرة للكيان القائم، مع كونه واقعاً موقع التأثير البالغ، لكونه تذكيراً بالموت والعِقاب في وقتِ التلبّس بعِصيان أوامر الله تعالى، وكان له من الشمول لكلّ موقفٍ سياسي أو شخص منحرف، ما يكفي لمتّعظ.
الرابع: أنّ المتوكّل كان في لا شعوره وفي مرحلةٍ غامضة مِن بواطن نفسه، يعترف بأمرين أوّلهما: أنّ الحق في جانب الإمام، وأنّ قضيّته عادلة، ثانيهما: أنّ ما يقترفه من الأعمال، انحراف عن الإسلام وعِصيان لأوامر الله المتّفق على ثبوتها بين المسلمين، فهو يحسُّ بوقع الجريمة ووخز الضمير، إلاّ أنّ كلاًّ مِن هذَين الإحساسَين تغطّيها أغشيةُ المال والمُلك والمصالح الشخصيّة، الذي جعلته في قمّة المنحرفين والمعادين لأهل البيت.
وعلى أيّ حال فقد استطاع الإمام أنْ يمسّ بإنشاده بَواطن إحساسه، فأبكاه ونجا مِن الشرِّ والضرَر الذي كان يحاوله ضدّه، بل زاد المتوكّل على ذلك بإعطائه المال وصرفه إلى منزله معزّزاً مكرّماً.
ومن مثل هذا الموقف ما كان من الإمام (عليه السلام) مع أحمد بن الخصيب، ومَن هو ابن الخصيب؟! هو الذي استوزره المنتصر وندِم على ذلك،(١٩٠) وذلك لأنّ ابن الخصيب كان ضيّق الصدر بطيئاً في حوائج الناس ظالماً، ومن ذلك أنّه ركِب ذات يوم فتظلّم إليه متظلّم بقصّةٍ، فأخرَج رجله من الركاب فزجّ بها في صدر المتكلّم فقتله، فتحدّث الناس في ذلك فقال بعض الشعراء في إثر ذلك:
قُـل لـلخليفة يا ابن عم محمّد * * * اشـكل وزيـرك إنّـه ركـال
اشكله عن ركل الرجال فإنْ ترد * * * مـالاً فـعند وزيـرك الأموال(١٩١)
وقد شارك جماعة الأتراك في تنصيب المستعين بعد المنتصر(١٩٢) ولكنّ المستعين نفاه عام ٢٤٨هـ إلى اقريطش (اليونان).(١٩٣)
ورد أنّ الإمام (عليه السلام) كان يساير أحمد بن الخصيب هذا في أثناء وزارته، وقد قصر أبو الحسن عنه، فقال له ابن الخصيب: سر جُعلت فِداك، فقال له أبو الحسن (عليه السلام): (أنتَ المقدّم)، يقول الراوي: فما لبثنا إلاّ أربعة أيّام حتى وضِع الدهَق على ساق ابن الخصيب، وقُتِل.(١٩٤)
فهذا من النقد الضمني، وإلقاء الحجّة، على هذا الوزير المنحرف، من حيث لا يعلم، ولكن الإمام (عليه السلام) قال له قولاً صريحاً، نتيجةً لاعتدائه عليه، وإلحاحه في الانتقال من الدار التي قد نزَلها وتسليمها إليه. قال الراوي: فبعث إليه أبو الحسن: (لأقعدنّ بك من الله مقعداً لا تبقى لك معه باقية)، فأخذه الله في تلك الأيّام، وهذه هي دعوة المظلوم المستجابة، وخاصّة في مثل شأن هذا الإمام المُمتحن (عليه السلام).
ومن موارد إثبات الحجّة على المستوى الحكومي العالي، ما ورَد بشكلٍ مشهور عن زرافة حاجب المتوكّل، ما حاصله: أنّ مُشعوِذاً هندياً أراد أنْ يأنَسَ المتوكّلُ بلعبِه، وكان الإمام (عليه السلام) حاضراً في المجلس فأراد الهندي أنْ يُخجِله ببعضِ شعوذاته، ووجَد من المتوكّل رغبةً في ذلك، فما كان من الإمام إلاّ أنْ أشار إلى صورةِ أسدٍ مرسومةً على إحدى الوسائد، فوثبت الصورة على شكلِ أسدٍ حقيقي فافترس الهندي المشعوِذ وعاد إلى شكله الأوّل على الوسادة.
قال الراوي: فتحيّر الحاضرون، ونهَض عليّ بن محمّد (عليه السلام) فقال له المتوكّل: سألتك بالله إلاّ جلست ورددته، فقال: (والله لا يُرى بعدها اتسلّط أعداء الله على أوليائه؟!)، وخرج من عنده، ولم يُرَ الرجل بعدها.(١٩٥)
النقطة الثانية ـ إثبات الحجّة على المستوى الشعبي العام:
وذلك: بالنحو الذي لا ينافي السلبية والحذَر، من السلطة القائمة: وذلك: على أحد مستويَين ـ أحدهما: المستوى الشخصي، والآخر: المستوى الجماعي.
المستوى الأوّل: إثبات الحق وإقامة الحجّة تجاه أشخاص بأعيانهم، مثل موقف الإمام تجاه ذلك النصراني الذي جاء دار الإمام حاملاً إليه بعض الأموال، وبمجرّد أنْ وصل أمام الدار خرج إليه خادم أسود، فقال له: أنت يوسف بن يعقوب، قال: نعم، قال: فانزل، وأقعده في الدهليز، فتعجّب النصراني من معرفته لاسمه واسم أبيه، وليس في البلَد مَن يعرفه، ولا دخله قط، ثمّ خرَج الخادم فقال: المِئة دينار التي في كمك في الكاغذ، هاتها، فناولها إيّاه، وجاء فقال: ادخل، فدخل، وكان الإمام وحده، فطالبه الإمام (عليه السلام) بالإسلام والرجوع إلى الحق نتيجةً للآيات التي رآها بقوله: (يا يوسف، ما آن لك؟)، فقال يوسف: يا مولاي، قد بان لي من البرهان ما فيه كفاية لِمَن اكتفى.
فقال: (هيهات إنّك لا تسلم، ولكنّه سيسلم ولدك فلان، وهو مِن شيعتنا، يا يوسف، إنّ أقواماً يزعمون أنّ ولايتنا لا تنفع أمثالك، كذبوا والله، أنّه لتنفع، امض فيما وافيت له، فإنّك سترى ما تُحِب)، قال الراوي: فمضيت إلى باب المتوكّل فنلت كلّ ما أردت وانصرفت.(١٩٦)
وعلى هذا المستوى موقف الإمام (عليه السلام) تجاه سعيد بن سهل البصري المعروف بالملاّح، الذي كان واقفياً، فقال له الإمام (عليه السلام): (إلى كم هذه النومة، أما لَك أنْ تنتبه منها؟)، قال: فقدح في قلبي شيئاً وغشيَ عليّ وتبعت الحق.(١٩٧)
انظر إلى هذه الرمزية التي استعملها الإمام (عليه السلام) في كلامه، بحيث لم يكن يصلح لفهمه إلى المخاطب، وبذلك أدخله في مواليه وقواعده الشعبية، بعد أنْ كان حائداً عنه، إلى غير ذلك من الأمثلة التي نكتفي منها بما نقلناه.
المستوى الثاني: إثبات الحق أمام جماعة أو جماعات، عند سنوح الفرصة وتنجّز المسؤوليّة: بشكلٍّ هادئ ليس فيه تحدٍّ للوضع القائم، أو مقابلة لخطّ الحكّام، فمِن ذلك: أنّه كان لبعض أولاد الخلفاء وليمة دعا إليها الإمام الهادي (عليه السلام)، فلمّا رأوه أنصتوا إجلالاً له، وجعل شاب في المجلس لا يوقره، وجعل يلفِظ ويضحَك، يدعوه إلى ذلك تجاهل وجود الإمام، والتهوين مِن شأنه أمام جماعة المدعوين، فقال الإمام له: (ما هذا الضحك ملء فيك، وتذهل عن ذكر الله، وأنتَ بعد ثلاثة أيّام مِن أهل القبور)، فكفّ عمّا هو عليه، وكان كما قال(١٩٨) حيث مات الشاب في الموعد المحدّد، ولم يكن على أحد من المدعوين، ألاّ أنْ يعرف موعد مدّته، ليعرف حقّ قول الإمام (عليه السلام).
ومن ذلك: أنّ السلطان خرج في يوم من أيّام الربيع، إلاّ أنّه صائف، والناس عليهم ثياب الصيف، أمّا الإمام (عليه السلام) فعليه لباد وعلى فرسه ثوب يحميه المطَر، وقد عقب ذنب فرسه، والناس يتعجّبون منه ويقولون: ألا ترون إلى هذا المدَني، وما قد فعل بنفسه، قال الراوي: فلمّا خرَج الناس إلى الصحراء لم يلبثوا أنْ ارتفعت سحابةٌ عظيمة، هطلَت فلم يبقَ أحد إلاّ ابتل حتى غرق بالمطر، وعاد (عليه السلام) وهو سالم في جميعه،(١٩٩) وهنا كان يكفي كلّ واحد من هؤلاء، قليلاً من الالتفات ليروا كرامة الإمام (عليه السلام).
وهنا نلاحظ أنّ مشاركة الإمام (عليه السلام) لموكب السلطان في الخروج إلى الصيد ـ وهو لهو كان مفضّلاً عند الخلفاء والوزراء في تلك العصور ـ ناتجة في الحقيقة عمّا عرفناه من سياسة الخلافة العبّاسية في حجز الإمام (عليه السلام) في بوتقة البلاط، وعزله عن قواعده الشعبية ونشاطه البنّاء؛ لكي يكون دائماً تحت الرقابة والنظر.
النقطة الثالثة ـ جهاده العلمي:
ذلك الجهاد الذي كان يقوم به (عليه السلام)، لكي يثبت حقّاً أو يدفع باطلاً، أو يجيب عن استفتاءات الخليفة له، أو يدفع تحدّيه عنه.
أمّا ما كان من إثبات الحق محضاً، من دون أنْ يكون مسبوقاً بتحدٍ أو إزعاج، فمنه ما أجاب به (عليه السلام) عن سؤال الأهوازيّين حين سألوه عن الجبْر والتفويض، وهو بيان مطوّل بدأه بمقدّمة حول إثبات الإمامة طبقاً للمفهوم الحق الذي يعتقده، وأتبعه بالجواب الصحيح عن الأمر بين الأمرين.(٢٠٠)
ومنه ما أجاب به أحمد بن إسحاق حين سأله عن الرؤية وما فيه الخلق.(٢٠١)
وأمّا ما كان مِن دفعة للباطل، بعد اشتباه المسألة والتردّد فيما هو الحق عند البعض، فمنه ما تكلّم به (عليه السلام) مع فتح بن يزيد الجرجاني؛ لإزالة بعض الشبهات الواردة في ذهنه،(٢٠٢) وما ردّ به على رجلٍ عبّاسي حين عزّ عليه تقدّم الإمام عليه، مع اعتقاده أنّه أشرف منه نسباً!.(٢٠٣)
* * *
وأمّا المتوكّل واستفتاءاته وتحديّاته للإمام (عليه السلام)، فهو كثير، فإنّ المتوكّل في الوقت الذي يعوزه الفقه في عدد من الوقائع، يضطر إلى الرجوع إلى الإمام لتذليل ما يواجهه من عقبات، ولكنّه كان يمزج استفتاءاته بالتحدّي، فيسأل عن الحكمة أو الدليل بقصد الإحراج لا بقصد الفهم الصحيح، على ما سنعرف، وكان الإمام (عليه السلام) يجيبه بالشكل الذي يراه مناسباً مع فهمه وفهم الحاضرين، وموافقاً للمصلحة مع كونه مثبتاً للحق في نفس الوقت.
فمن ذلك أنّه قدِم إلى المتوكّل رجل نصراني فجَر بامرأة مسلمة، فأراد أنْ يقيم عليه الحدّ، فأسلم، فقال يحيى بن أكثم ـ وهو قاضي القضاة يومئذٍ ـ: قد هدَم إيمانه شركه وفعله، وقال بعضهم: يُضرَب ثلاثة حدود، وقال بعضهم: يفعل به كذا وكذا.
فلمّا رأى المتوكّل هذا الاختلاف بين الفقهاء، أمر بالكتابة إلى أبي الحسن العسكري الإمام الهادي (عليه السلام)، لسؤاله عن ذلك، فلمّا قرأ الكتاب كتب (عليه السلام): (يُضرَب حتى يموت)، فأنكر يحيى وأنكر فقهاء العسكر: سامرّاء ـ ذلك، فقالوا: يا أمير المؤمنين، سله عن ذلك فإنّه شيء لم ينطِق به كتاب ولم تجيء به سنّة.
فكتب إليه: أنّ الفقهاء قد أنكروا هذا، وقالوا: لم تجيء به سنّة ولم ينطِق به كتاب، فبيِّن لنا لِمَ أوجبت علينا الضرب حتى يموت؟.
فكتب (عليه السلام): (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ*فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا)،(٢٠٤) فأمر به المتوكّل، فضُرِب حتى مات.(٢٠٥)
ونستطيع أنْ نفهم من ذلك، بوضوح، أمرَين:
الأول: أنّ المتوكّل بالرغم من افتقاره إلى الرجوع إلى فتوى الإمام (عليه السلام) لحل معضلته، لم يكن على استعداد لتنفيذ ما أمَره الإمام إلاّ بعد مراجعته والتأكيد عليه في طلب الدليل.
الثاني: أنّنا نفهم من سياق الآية التي استشهد بها الإمام، طريقة فهمه (عليه السلام) للموقف، وهو: أنّ الإسلام الذي أظهره هذا النصراني ليس إيماناً صحيحاً، وإنّما هو لقْلَقة لسان أظهرها للتهرّب من إقامة الحد والنجاة من العقاب، وكل من أظهر الإيمان خوفاً من العدل الإلهي، لا يكون الإيمان نافعاً له، ويكون مستحقّاً لمثل هذا العقاب الذي أمر به (عليه السلام).
وقد يكون موقف المتوكّل تجاه الإمام موقف التحدّي صرفاً، لا لأجل الحاجة إلى تطبيق الفتوى، ولا لأجل الحاجة إلى فهم الحقّ في المسألة، ولا لأجل إثبات جدارة الإمام (عليه السلام توخّياً للإيمان به، بل لمجرّد التحدّي، فمن ذلك أنّ المتوكّل يقول لابن السكّيت: اسأل ابن الرضا مسألةً عوصاء بحضرتي! فيسأله ابن السكّيت عن بعضِ ما يراه صعباً ومشكلاً، فيخرج الإمام (عليه السلام) ظافراً من هذا التحدّي، ويجيب بما هو الحق الصريح، وإذ ينتهي الكلام مع ابن السكّيت يبتدر يحيى بن أكثم، فيقول: ما لابن السكّيت، ومناظرته، وإنّما هو صاحب نحو وشعر ولغة، ورفَع قرطاساً فيه مسائل، فأملى عليّ بن محمّد (عليه السلام)، على ابن السكّيت جوابها.(٢٠٦)
انظر إلى تعليق ابن أكثم حين قرأ جواب الإمام، تجده قد تخوّف مِن عمق أجوبته ودقّة علمه، من أنْ يُشارك في الدعاية له وتأكيد صِدق قضيته، وبالنهاية توسيع وتقوية قواعده الشعبية، قال يحيى بن أكثم للمتوكّل: ما تحبّ أنْ تسأل هذا الرجل عن شيء بعد مسائلي هذه، وأنّه لا يرد عليّ بشيء بعدها إلاّ دونها، وفي ظهور علمه تقوية للرافضة.(٢٠٧)
فهذه عدّة نقاط من الموقف الأوّل للإمام في العاصمة العبّاسية.
الموقف الثاني: موقفه مع أصحابه ومواليه.
وهو ما يرجع إلى المحافظة عليهم وحمايتهم من الانحراف ومن الإرهاب العبّاسي، ومساعدتهم على قضاء حوائجهم بحسب الإمكان، ويندرج في هذا الموقف عدّة نقاط:
النقطة الأُولى:
حماية أصحابه وذويه من الانحراف، وبيع الضمير للحكّام بأرخَص الأثمان.
ولعلّ أهمّ وأوضح موقف وقفه الإمام (عليه السلام) في هذا الصدد، موقفه في ردع أخيه موسى بن محمّد بن عليّ بن موسى (على آبائه الصلاة والسلام)، عن الاجتماع مع المتوكّل في المجلس الذي كان يريده المتوكّل له، وهو مجلس اللهو والشراب، ليتوصّل بذلك إلى هتك أخيه الإمام الهادي (عليه السلام) والتشهير به، ولكن الله تعالى أتمّ نوره، ولم يتوصّل المتوكّل إلى مقصوده.
فإنّ المتوكّل، تحت سورة من الحِقد والغضَب، قال لأصحابه في بعض مجالسه: ويحكم قد أعياني أمر ابن الرضا(٢٠٨) وجهدت أنْ يشرب معي وأنْ ينادمني، فامتنع، وجهدت أنْ أجد فرصةً في هذا المعنى فلَم أجدها، فقال له بعضُ من حضَر المجلس: إنْ لم تجد من ابن الرضا ما تريده من هذا الحال، فهذا أخوه موسى قصّاف عزّاف، يأكل ويشرب ويعشق ويتخالع، فأحضره واشهد به، فإنّ الخبَر يشيع عن ابن الرضا بذلك، فلا يُفرّق الناس بينه وبين أخيه، ومَن عرفه اتهم أخاه بمثل فعاله.
وجاء هذا الاقتراح مناسباً مع اتجاه المتوكّل وبلسَماً على جرحِ قلبه، فأمر باستقدامه إلى سامرّاء مكرّماً، وأمَر له باستقبالٍ فخمٍ يحضر فيه جميع بني هاشم والقوّاد وجماهير الناس، وكان عازماً على أنّه إذا قدِم أقطعه أرضاً وبنى له فيها، وحول إليها الخمارين والقيان ـ أي الجواري والمغنّيات ـ وأمَر بصلته وبرِّه، وزاد على ذلك ـ لأجلِ تحقيق غرضه ـ أنْ أفرد له منزلاً سرياً يصلح أنْ يزوره فيه.
وإلى هنا، حاول المتوكّل بسلطته على شؤون الدولة، أنْ تكون مؤامرته على هتك الإمام بواسطة التشهير بأخيه تامّة، إلاّ أنّ ذلك ممّا لا يمكن أنْ يفوت الإمام خبَرُه، ولا يمكن أنْ يتغاضى عنه؛ لأنّه هو المقصود بالذات، في هذا التخطيط، والعمل ضدّه عملٌ ضدّ الدين وضدّ سيّد المرسلين، باعتبار أنّه يعتقد أنّه الممثل الأساسي الأكمل لهذا المبدأ المقدّس، فوقف الإمام (عليه السلام) ضدّ هذه المؤامرة موقفه الحاسم.
خرج (عليه السلام) مع المستقبلين، فتلقّى أخاه في قنطرةِ وصيف، وهو موضع يتلقّى فيه القادمون، فسلّم عليه ووفاه حقّه، ثمّ جاء دَور تحذيره من المؤامرة وتنبيهه على ما ينبغي أنْ يتصرّف، بالنحو الذي يقتضيه رضاء الله تعالى وتعاليم الإسلام.
فقال له الإمام: (إنّ هذا الرجل(٢٠٩) قد أحضرك ليهتكك ويضع منك، فلا تقرّ له أنّك شرِبت نبيذاً قط، واتق الله يا أخي أنْ ترتكب محظوراً)، فقال له متجاهلاً: وإنّما دعاني لهذا، فما حيلتي؟ قال له الإمام (عليه السلام): (فلا تضَع من قدرك ولا تعصِ ربّك ولا تغفل ما يشينك، فما غرضه إلاّ هتكك).
وهنا بدأ الإعراض والتشكيك من موسى أخيه، إذ لعلّه كان يُحسن الظنّ بالمتوكّل وينكر مؤامرته، أو لعلّه يدركها وليس لديه منها مانع، بالرغم ممّا فيها من الهتك له ولأخيه ولدينه، فكرّر عليه أبو الحسن القول والوعظ، وهو مقيمٌ على خلافه، فلمّا رأى أنّه لا يُجيب، وجد الإمام (عليه السلام) أنْ آخر الدواء الكيّ، وأنّه لابدّ أنْ يقول قوله الحاسم، مستمدّاً من وراء الغيب، فقال له: (أمّا أنّ المجلس الذي تُريد الاجتماع معه عليه لا تجتمع عليه أنت وهو أبداً).
ثمّ انظر كيف يتمّ الله نوره، ويأخذ بيد الإمام (عليه السلام)... أنّ المتوكّل لأسبابٍ مجهولة، تحوّل من ذلك الحماس العظيم للاجتماع مع موسى في دارٍ منفردة في مجلس اللهوِ والطرب، تحوّل إلى محاولة إبعاده وحجبه عنه وعدَم الاجتماع به، حيث أقام موسى ثلاث سنين، يبكر كلّ يوم إلى باب المتوكّل، فيقال له: قد تشاغَل اليوم، فيروح، ويبكر، فيُقال له: قد سكر فيبكر، فيقال له: قد شرِب دواء، فما زال على هذا ثلاث سنين حتى قُتِل المتوكّل،(٢١٠) ولم يجتمع معه على شراب.(٢١١)
النقطة الثانية:
حمايته لأصحابه من الإرهاب العبّاسي، وذلك بمقدار إمكانه، ولا ينافي خطّه السلبي العام.
ولعلّ أوضح موقف يُروى من ذلك، هو موقف الإمام مع محمّد بن الفرج الرخجي، إذ كتب إليه محذّراً: (يا محمّد، اجمع أمرك وخُذ حِذرَك)، فلَم يفهم ماذا أراد الإمام بكلامه هذا، ولو كان قد فهِم لدفَع عن نفسه شرّاً مستطيراً، يقول هذا الراوي: فأنا في جمع أمري لست أدري ما الذي أراد بما كتب، حتى ورَد عليّ رسول حملني من وطني مصفّداً بالحديد، وضرَب على كلِّ ما أملك، وكنت في السجن ثماني سنين.
ثمّ انظر إلى لطف الإمام (عليه السلام) به مرّة أُخرى، حيث كتَب إليه وهو في السجن: (يا محمّد بن الفرج، لا تنزل في ناحية الجانب الغربي)، قال الراوي: فقرأت الكتاب وقلتُ في نفسي: يكتب إليّ أبو الحسن بهذا وأنا في السجن إنّ هذا لعجَب، فما لبِث إلاّ أيّاماً يسيرة حتى فُرِّج عنّي وحُلّت قيودي وخلِّيَ سبيلي.(٢١٢)
ويندرج في مساعدته لهم بطريق الدعاء، وهو الطريق الغيبي المتوفّر دائماً، للإنقاذ من المصاعب وحلّ المشاكل، فكان الإمام (عليه السلام) يلجأ إليه حين يجِد المصلحة في ارتفاع الصعوبة عن هذا الطريق.
فمِن ذلك ما حدَّث به أحدُ المعاصرين لذلك العصر المتضرّرين من الحكم العبّاسي، حيث يقول: قصدَت الإمام يوماً فقلت: إنّ المتوكّل قطَع رزقي، وما أتهم في ذلك إلاّ علمه بملازمتي لك، فينبغي أنْ تتفضّل عليّ بمسألته... ولم يتفضّل الإمام بالوساطة الى المتوكّل - كما طلب - وإنّما تفضّل (عليه السلام) بالوساطة مع الله تعالى، وهو غاية المأمول ونهاية المسؤول ذو القوّة المتين، فقال لهذا الرجل: (تُكفى إنْ شاء الله)، يقول هذا الراوي: فلمّا كان الليل طرَقَني رُسُل المتوكّل رسول يتلو رسولاً، فجئت إليه فوجدته في فراشه، فقال: يا أبا موسى، يشتغل شغلي عنك وتُنسينا نفسك، أي شيء لك عندي به، فقلت: الصلة الفلانية، وذكرت أشياء، فأمر لي بها وبضعفها.
وإلى هنا تأكّد في ذهن هذا الرجل بأنّ الإمام قد نفّذ وساطته المطلوبة... فبدَر إلى الوزير الفتح بن خاقان وقال له مستفهماً: وافى عليّ بن محمّد إلى ههنا، أو كتب رقعة؟ فأجاب الوزير بالنفي.
قال: فدخلت على الأمام، فقال لي: (يا أبا موسى، هذا وجه الرضا)، فقلت ببركتك يا سيّدي، ولكن قالوا: إنّك ما مضيت ولا سألت، فأجابه الإمام (عليه السلام)... انظر إلى جوابه إذ يسند النتيجة إلى الإرادة الإلهيّة والعون الإلهي حيث لا يوجد المُعين، فإنّ أهل البيت (عليهم السلام) قد أجابوه إلى كلّ ما يُريد فأجابهم عزّ وجل إلى كلِّ ما يريدون، وكلّ من كان كذلك حصل على هذه النتيجة الكبرى.
لا محالة، قال الإمام (عليه السلام): (إنّ الله تعالى علِم منّا أنّا لا نلجأ في المهمّات إلاّ إليه، ولا نتوكّل في الملمّات إلاّ عليه، وعوّدنا ـ إذا سألناه ـ الإجابة، ونخاف أنْ نعدِل فيعدل بنا).(٢١٣)
ويشبه هذا الموقف، موقفه (عليه السلام) مع أيّوب بن نوح ـ وهو من ثقات أصحابه(٢١٤) ـ حين تعرّض له بالأذى قاضي الكوفة السائر في خطّ الجهاز الحاكم، المدعو بجعفر بن عبد الواحد القاضي، فكتب إلى الإمام يشكو إليه ما ناله من الأذى.
قال الراوي: فكتب إليّ: تُكفى أمره إلى شهرين، فعُزِل عن الكوفة في شهرين، واسترحت منه.(٢١٥)
ولعلّنا في غنىً عن التعليق على هذا الموقف من الإمام بأمرَين:
أحدهما: إنّ الإمام (عليه السلام) اطلع بطريق سرّي غيبي أو طبيعي على قرار عزْل هذا القاضي قبل شهرين من صدوره.
ثانيهما: إنّ الإمام (عليه السلام) استعمل في الجواب عبارة غامضة، يمكن أنْ تخفى على الرقيب، فإنّه لم يكن يمكن أنْ يفهم أحد أنّ المقصود هو قاضي الكوفة غير أيّوب بن نوح.
النقطة الثالثة:
قضاء الإمام لحوائج أصحابه بحسب الإمكان، لعلّنا قد تمّ لدينا ـ إلى حدِّ الآن ـ التعرّف على ما كان يُعانيه أصحابه وقواعده الشعبية من ضيق في الحالة الاجتماعية والاقتصادية معاً، نتيجةً لإبعادهم عن المسرح العام سياسياً واجتماعياً، وقد كان الإمام (عليه السلام) يتوخّى من وراء مساعدتهم عدّة فوائد:
أوّلاً: قضاء حوائجهم الخاصّة.
ثانياً: تركيز ثقتهم به، بصفته قائدهم الأعلى ومأملهم الأسمى عند الظروف القاسية، والمُعين عند عدم وجود المعين.
ثالثاً: تجديد نشاطهم الاجتماعي، بحسَب ما يراه لهم (عليه السلام) وتقتضيه سياسته في ذلك العصر، وهي ـ على ما عرفنا ـ: العمل في سبيل الله والعدل الإسلامي بشكلٍ لا يثير الحقد والخطر عليهم.
وأهمّ ما يندرج في هذا الموقف: أنّه دخل على الإمام جماعة مِن أفضل أصحابه وأوجههم عنده وعند قواعده الشعبية، وهُم: أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري، وأحمد بن إسحاق الأشعري، وعليّ بن جعفر الهمَداني، فشكا إليه أحمد بن إسحاق دَيناً عليه، فقال (عليه السلام) لعثمان بن سعيد، وكان وكيله: (يا أبا عمرو، ادفع إليه ثلاثين ألف دينار وإلى عليّ بن جعفر ثلاثين ألف دينار، وخذ أنت ثلاثين ألف دينار)، ويُعلّق على ذلك عُلماؤنا: بأنّ هذه معجزة لا يقدر عليها إلاّ الملوك، وما سمِعنا بمثل هذا العَطاء.(٢١٦)
وأمّا نحن فيمكننا أنْ نكتشف مِن وراء ذلك... الموقف القيادي المركزي الذي كان يقوم به الإمام بين قواعده الشعبية ومواليه، ذلك الموقف الذي كانت تحاول الدولة العبّاسية الحيلولة دونه... ولم تكن موفّقة في ذلك إلى حدٍّ كبير، فالإمام يستلم الأموال الطائلة ـ بالطرُق السرّية أو العلَنية المُمكنة ـ ممّا يكون لدى مواليه من الضرائب الإسلاميّة كالخراج والزكاة والخُمس، وهذا ما يتّضح أيضاً لِمَن راجع تاريخ آبائه (عليهم السلام)، وسيأتي في تاريخ ولده الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ما يشبه ذلك.
وإنّما يتمّ تسليم هذه الأموال لكي تُصرَف في المصالح الإسلامية الاجتماعية العامّة ـ بعيداً عن العاصمة العبّاسية ـ في تلك المهامّ التي تقتضي صرف عشرات الآلاف من الدنانير، ونحن مهما بلغ بنا الخَيال، لا يمكن أنْ نتصوّر وصول الدين، في قضاء الحوائج الشخصية، إلى ثلاثين ألفاً، إلاّ أنْ يكون دَيناً في عملٍ اجتماعي واسع أكبر من المصالح الشخصيّة والمسؤولية العائلية، وخاصّة في أمثال هؤلاء من الفقهاء والورعين، مضافاً إلى أنّنا رأينا الإمام (عليه السلام) يُعطي الاثنين بدون طلَب أو شكوى في دَين.
وعلى أيّ حال فهذه هي الخطوط العامّة لسياسة الإمام (عليه السلام)، فيما تمثّله من موقفَيه الرئيسيَّين تجاه مواليه وتجاه الآخرين.
موقف الخلافة العبّاسية مِن الإمام:
أشرنا فيما سبَق أنّ موقف الخلفاء العبّاسيّين، يتجلّى ـ فيما وصل إلينا من النقل التاريخي ـ في خصوص المتوكّل، ولا يبدو لغيره أثر يُذكر، وقد ذكرنا ما يمكن أنْ يكون سبباً لذلك، فمن هنا ينحصر عنواننا في المقام في موقف المتوكّل من الإمام (عليه السلام)، ونستطيع أنْ نلخّص موقفه في عدّة نقاط:
النقطة الأُولى: تحدّيه من الناحية العلمية، كما سبَق، وقد رأينا كيف يخرج الإمام ظافراً من هذا التحدّي.
النقطة الثانية: تقريبه من البلاط ودمجه في حاشية الخلافة بمقدار الإمكان، ليكون الإمام على طول الخطّ بين سمعهم وأبصارهم فلا تفوتهم منه شاردة ولا واردة، وقد رأينا مقدار نجاحهم الضئيل في ذلك.
وقد سبَق أنْ لاحظنا أنْ هذا كان هو الهدف الأساسي من استقدام الإمام إلى العاصمة العبّاسية، وكان الإمام يُعطي من نفسه بإزاء ذلك وكأنّه يوافق الدولة العبّاسية على سياستها تجاهه، فكان يحضر موائدهم ويخرج في مواكبهم كما سمعنا. ونستطيع أنْ نفهم موقف الإمام (عليه السلام) هذا، لا على أساس التنازل أو التسامح مع الدولة، فإنّ هذا ممّا لا يمكن أنْ يكون من شخصيةٍ كشخصية الإمام المبدئيّة الإسلاميّة القائدة لجماهير قواعده الشعبية من المسلمين.
وكان أيُّ تنازل منه يعني السعي ضدّ المصالح الإسلامية لهذه الجماهير، وهو ما لا يخفى ما فيه من قُبح وخيانة على الشخص الاعتيادي فضلاً عن القائد العام، مضافاً إلى أنّه لو تنازل لشعَرَت الدولة بتنازله... فكان في الإمكان أنْ ينال عندها أقصى الحظوة والمنزلة والراحة... ولارتفع ما كان مُحاطاً به من المراقبة والضغط مع أنّه كان يتزايد باستمرار، حتى أنّ المتوكّل في آخر أيّامه انتهى به الأمر إلى زجّ الإمام في السجن على ما سنسمع.
إذن فلَم يكن موقفه متضمّناً لشيءٍ من التنازل، وإنّما كان ناشئاً من المصالح والمبرّرات الآتية:
أوّلها: الضغط والإكراه: فإنّ السياسة العبّاسية حيث استقرّت على دمج الإمام بالبلاط، كان مقتضى رفض هذه السياسة والانصراف عن إجابة دعواتهم والحضور في مجالسهم.... إعلاناً صريحاً للمعارضة... أو على الأقل إثارةً لشكِّ الحكّام بأنّ الإمام متصدٍّ للمعارضة وخارج على الدولة، وكل ذلك ممّا لا يريده الإمام (عليه السلام) بمقتضى سياسته السلبيّة تجاه الدولة.....
ثانيهما: أنّ الإمام (عليه السلام) كان حذِراً مِن براثن الدولة عليه وعلى مواليه، فكأنّه أراد التصريح بشكلٍ عملي بعدَم وجود ما تخشى منه الدولة عنده، وهذا ما يؤثّر نفسياً في تخفيف الشك ضدّه... ومعه فقد ينفتح مجال جديد لنشاط جديد.
ثالثها: أنّ الإمام حين يعيش بين أكناف حكّام الدولة، مع مَن يحيطهم من القواعد والبطانة والمنتفعين والخدَم وغيرهم من مختلف الطبقات.. فإنّه (عليه السلام) يستطيع بلباقةٍ تامّة واحتراسٍ شديد وبمقدار الفرصة السانحة.. أنْ يقول الحق بينهم ويُدافع عن قضيّته بين ظهرانيهم... وهناك احتمال كبير – يؤيّده احترامهم لشخصٍ المهدي وإكبارهم لعلمه ونسبه:- أنْ يصل كلامه إلى قلوب بعضهم، فإنّ السياسي مضافاً إلى كونه حاكماً مصلحياً، هو في عين الوقت إنسان ذو عقلٍ وقلب، وقول الحق يجد طريقه في العقل والقلب من أضيَق طريق.
وبذلك يكتسب الإمام العطف على قضيته في المستويات العُليا من الدولة، وقد سبَق أنْ حملنا فكرة عن مقدار نجاحه في ذلك، ولعلّ فيما يأتي من البحث ما يضيف إلى ذلك شواهد أُخرى.
رابعها: إنّ الكيان الحكومي يومئذٍ كان قائماً بالصراحة على المحسوبية، تؤثّر فيه المصالح الشخصية وتجد فيها الوساطات طريقها المستقيم، وهذا وإنْ كان دالاً على انحدار الأُمّة إلى حضيض لا تُغبَط عليه على أيّ حال، وغير ملائم مع اتجاهات الإمام ومثله...إلاّ أنّه هو الواقع.. ومن الممكن الاستفادة من هذا الواقع بما ينفع الناس ويكون مصلحةً لهم، إذن فاتصال الإمام بالحكّام مثل هذا الاتصال الوثيق يفتح أمامه فرصةً أوسَع للتوسّط في تيسير حوائج أصحابه ومواليه وتخفيف ضرّهم ودفع الأخطار عنهم... بحسَب ما يراه من المصلحة.
ولعلّنا نستطيع أنْ نستوضح ملامح الموقف الليّن الذي كان يقفه الإمام (عليه السلام) تجاه المتوكّل من المثال التالي: فإنّ المتوكّل ابتليَ بقرحةٍ وخراج أشرَف على الموت، وكان داؤه عند أطباء عصره منحصراً بأنْ يُمَسّ الجرح بحديدة، فلَم يجسر أحد أنْ يقوم بذلك لاحتمال أنّ المتوكّل سوف يأمر بقتل مَن يقوم بذلك لما سيجده مَن الألم.
ووجلت أُمّه وجَلاً شديداً...وكانت تعتقد بالإمام (عليه السلام) وقربه مِن الله تعالى...فنذرت أنّه إذا عوفيَ أبنها المتوكّل فإنّها تحمل إلى أبي الحسن الهادي (عليه السلام) مالاً جليلاً من مالها، ونبّهها الفتح بن خاقان على أنْ تطلب من الإمام أنْ يصف دواء للمتوكّل.. فأرسلت رسولاً بهذا الشأن إلى ألإمام، فقال (عليه السلام): (خذوا كسب الغنَم فديفوه بماء الورد وضعوه على الخراج فإنّه نافع بإذن الله)، أقول: ولا يخفى ما في ذلك من ترطيب للجرح خفيَ سرّه على الطب القديم الذي كان يداوي الدُمّل بإمرار الحديد عليه!
وعلى أيّ حال فقد هزأ مَن حضَر مجلس المتوكّل من هذا الدواء باعتباره لم يسمَع من طبيب، فينبري الفتح بن خاقان مدافعاً عن اقتراحه قائلاً: وما يضر من تجربة ما قال... فوالله إنّي لأرجو الصلاح به.
فأحضروا هذا العقار ووضع على الخراج فانفتح وخرَج ما كان فيه.
وبُشّرت أُم المتوكّل بعافية ولدها، فحملت إلى أبي الحسن (عليه السلام) عشرة آلاف دينار مختومة بختمها، من دون علم ولدها المتوكّل، ويحافظ الإمام (عليه السلام) على البدرة – وهي حزمة المال – غير مفضوضة الخاتم ولا مستعملة.. أيّاماً، حتى حصلت كبسة سعيد الحاجب على داره بأمر المتوكّل، على ما سنذكر في النقطة التالية، فيجد عنده البدرة المختومة، فينقلها مع كيس آخر مختوم وسيف إلى المتوكّل، فلمّا نظر المتوكّل إلى خاتم أُمّه على البدرة بعث إليها وسألها فذكرت له نذرها عند مرضه، وقالت هذا خاتمي على الكيس ما حرّكه... وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمِئة دينار...فأمر لأنْ يُضمّ إلى البدرة بدرة أُخرى وقال لسعيد الحاجب: احمل ذلك إلى أبي الحسن.. واردد عليه السيف والكيس بما فيه، قال سعيد: فحملت ذلك إليه واستحييت منه، فقلت له: يا سيّدي عزّ عليّ دخولي دارك بغير إذنك، ولكنّي مأمور! فقال ليّ: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).(٢١٧)
انظر إلى الاحترام والتقديس الذي يتمتّع به الإمام (عليه السلام) في البلاط، وإلى المكاسب التي حصَل عليها فيه، ولا ينبغي أنْ تفوتنا المبرّرات السابقة لسياسة الملاينة التي ينتهجها الإمام، بالرغم من أنّه يتلو حين يدقّ ناقوس الخطَر قوله تعالى: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).
النقطة الثالثة: اضطهاد المتوكّل للإمام الهادي (عليه السلام) حيث أمر بكبس منزل الإمام (عليه السلام) عدّة مرّات، فإنّ السعايات والوشايات التي كانت ترتفع إلى المتوكّل ضدّ الإمام بين آونةٍ وأُخرى.. كانت توقظ شكوكه وتثير توجّسه الكامن في نفسه تجاه الإمام، ولعلّنا نستطيع القول: بأنّ شخصاً من الضالعين بركاب الحكم، يطّلع صدفةً على بعض آثار نشاط الإمام (عليه السلام) في سبيل مصالح مواليه، فيُبالغ هذا الشخص فيه، تملّقاً للدولة، ويجعله خطراً يهدّد كيانها القائم، مع أنّنا عرفنا أنّ مثل هذا النشاط - بشكله المبالغ فيه - لم يكن موجوداً لدى الإمام (عليه السلام)، وعلى أيّ حال يثير هذا الساعي كوامن الخوف والتوجّس في نفس المتوكّل، فيغريه ذلك بكبس دار الإمام للتأكّد من صدق الوشاية أو كذبها.
والملاحظ في هذه العمليات أمران:
أحدهما: أنّ الوشاية دائماً كانت تبوء بالفشَل ويرجع جواسيس الخليفة مؤكّدين أنّهم لم يجدوا في دار الإمام ما يثير التوجّس، ممّا يوجب عود المتوكّل إلى هدوئه واستمراره على إظهار احترام الإمام وتقديره.
وقد سبق أنْ أرجعنا ذلك، إلى أنّ الإمام أفلَح، لطريقٍ غيبي أو طبيعي، في إخفاء مكامن الشك عن الدولة، بالرغم ممّا كان يرده من الأموال والكتب ما كان يقوم به من اتصالات، وقد أطلعنا على صور موجزة للأساليب الرمزية التي كان يستعملها الإمام، حين يُريد التعبير عن أمرٍ محظور في نظر الدولة.
ثانيهما: إنّ ألإمام وإنْ كان يظهر - عند الكبس على داره – سخطه بتلاوة أيةٍ من القرآن كالذي سمعناه من قوله تعالى: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا....) الآية، إلاّ أنّه كان يعين الشرطي المتجسّس على مهمّته.. فيسرج له الضياء ويدلّه على غُرَف الدار... توخّياً في الإيضاح العمَلي للدولة بأنّه لا يملك أيّ نشاط غريب، على أنّه لو أظهر أيّ مناوءة لمثل هذه المحاولة لكان مثيراً جديداً للشك.. هو في غنىً عنه، ومنافياً لسياسة الإمام السلبية تجاه الدولة.
وقد حدثت عدّة حوادث كبس على داره (عليه السلام)، فمن ذلك ما سبَق أنْ نقلناه عن ابن خلكان وجمهور من المؤرّخين الخاصّة والعامّة، من كبس داره في نصف الليل وحمله إلى المتوكّل وهو على مجلس الشراب، واستنشاده الشعر، فأنشَد الأبيات التي أوّلها:
باتوا على قُلَل الأجبال تحرُسهم * * * غـلَب الرجال فلم تنفعهم القُلَل
ومن ذلك كبسة لدار الإمام نتيجة لسعاية البطحاني به إلى المتوكّل وزعمه: أنّ عنده أموالاً وسلاحاً، فأمر المتوكّل سعيد الحاجب أنْ يهجم عليه ليلاً ويأخذ ما عنده من الأموال والسلاح ويحمله إليه، فأخذ سعيد معه سلّماً وذهب إلى دار الإمام وصعد عليها من الشارع إلى السطح ونزَل خلال الظلام فلَم يدر كيف يصل إلى الدار، قال سعيد:
فناداني أبو الحسن (عليه السلام) من الدار: (يا سعيد، مكانك حتى يأتوك بشمعة)، أقول: انظر إلى مساعدته (عليه السلام) لهذا المتجسّس.. وإلى علمه بشخصه قبل رؤيته.. وإنّما ناداه بذلك لإثبات الحجّة عليه، أثناء تلبسّه بالجرم.
يقول: فلم ألبَث أنْ أتوني بشمعة، فنزلت فوجدت عليه جبّة صوف وقلنسوة منها وسجادته على حصير بين يديه، وهو مقبل على القبلة، فقال لي: (دونك البيوت) – يعني الغُرَف - فدخلتها وفتّشتها، فلَم أجد فيها شيئاً، ووجدت البدرة مختومة بخاتم أُمّ المتوكّل وكيساً مختوماً معه، فقال لي أبو الحسن (عليه السلام): (دونك المصلّى، فارفعه)، فوجدت سيفاً في جفن ملبوس، فأخذت ذلك...إلى آخر الرواية كما سمعناها.
ويضطّر هذا المتجسّس، في نهاية الشوط إلى الاعتذار من الإمام (عليه السلام) بكونه مأموراً، فيتلو الإمام قوله تعالى: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).(٢١٨)
وفي حادثةٍ أُخرى: يصل إلى المتوكّل خبَر مال يصل مِن قم ـ وهي إحدى مراكز الولاء للإمام (عليه السلام) ـ إليه (عليه السلام)، فيأمر وزيره الفتح بن خاقان أنْ يراقب الوضع ويأتي بالخبَر، فيرسل الوزير بعض مأموريه يُدعى أبو موسى إلى الإمام، فيجلس في مجلسه ساكتاً، فيُطالبه الإمام بتبليغ رسالة المتوكّل قائلاً: (لا يكون إلاّ خيراً.. يا أبا موسى، لم لم تُعِد الرسالة الأولة)، فيجيب أبو موسى: أجللتك يا سيّدي، فيدله الإمام بكلّ وضوح على طريق الإطّلاع على هذا المال وييسّر له السبيل إلى ذلك بقوله: (المال يجيء الليل وليس يصلون إليه، فبِت عندي).
إنّما يجيء المال ليلاً تخفّياً عن عيون الدولة، ولكن ما الحيلة بعد اطلاع الدولة عليه، وتحديد سياسة الدولة بالسلبية.
وعلى أي حال، يبات أبو موسى عنده، وحين يجيء الليل يشتغل الإمام بالصلاة، مدّة من الزمن.. وبينما هو في الركوع في إحدى صلواته، إذ يقطعه بالسلام قبل إتمام ركعات الصلاة، ويقول لأبي موسى: قد جاء الرجل ومعه مال وقد منعه الخادم الوصول إليّ، فاخرج فخذ ما معه.(٢١٩)
النقطة الرابعة:
إلقاء القبض على الإمام (عليه السلام)، حين ضاق المتوكّل ذرعاً بحقدِه على الإمام وبنشاط الإمام الذي لم يكن بمستطاعه التعرّف عليه بسِعةٍ ووضوح، وقد بذَل كلّ ما بوسعه ولا زال إلى الجانب المهمّ من ذلك النشاط غامضاً عنه يظن به الظنون ولا يمكنّه أنْ يحيط بمحتواه، وقد حمل المتوكّلَ توجّسُه وحقده على أنْ يزجّ الإمام في السجن، وذلك في الأيّام الأخيرة من خلافته.
ولا يخفى ما في ذلك من التحدّي للقواعد الشعبية والجماهير الواسعة المؤمنة بالإمام قائداً ورائداً وموجّهاً وإماماً، فإنّ سجن القائد بمنزلة سجن كلّ قواعده الشعبية، ويكون تحدّياً لها وللمبدأ الذي يتّخذه والهدَف الذي يهدفه، وهذا ما لم يكن للمتوكّل منه مانع، وهو الذي خرّب قبر الحسين (عليه السلام) ومنع الزوّار عنه، على ما سمعنا.
وقد وردت في سجن الإمام روايتان تتّفقان على وقوع ذلك في وقتٍ واحد قبل ثلاثة أيّام من موت المتوكّل، ولكنّها تختلف في جملةٍ من التفاصيل.
الرواية الأُولى: أنّه حين قبض المتوكّل على الإمام (عليه السلام) سلّمه إلى عليّ بن كركر ليزجّ به في السجن ويراقبه فيه، فصادف أنْ سمِعه بغا أو وصيف ـ الشك من الراوي ـ، وهما القائدان التركيّان المتنفّذان في الدولة يومئذٍ، على ما عرفنا في التاريخ العام، سُمِع الإمام وهو في السجن يُزمزم قائلاً: (أنا أكرَم على اللهِ مِن ناقةِ صالِح (تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ))، لا يفصح بالآية ولا بالكلام.
ولم يفهَم هذا القائد التركي مُراد الإمام، فسأل عنه، وكان المسؤول هو راوي هذه الرواية، قال الراوي: قلت: أعزّك الله، توعّد، انظر ما يكون بعد ثلاثة أيّام، فلمّا كان مِن الغد أطلقه واعتذر إليه.
فلمّا كان في اليوم الثالث: ثار عليه الأتراك، ومنهم باغر ويغلون واوتامش، وقتلوه وأقعدوا ولده المنتصر مكانه.(٢٢٠)
ويطيب لي أنْ أعلّق على هذه الرواية بأمرَين:
أحدهما: أنّ وعيد الإمام كان رمزيّاً إلى حدٍّ كبير، إلى حدٍّ لم يفهمه القائد التركي.. وكان من الأهميّة في الدولة، بحيث أنّ الراوي حين فسّره خاف أنْ يُصرّح بما فهِمه بوضوح، وإنّما اختصر كلامه اختصاراً خشيةَ أنْ يناله ضرَر، ولا زال المتوكّل في الحياة والحكم.
ثانيهما: إنّنا نستطيع أنْ نعرف بالدقّة تاريخ هذا التوعّد الذي ذكره الإمام حال سجنه، وهو اليوم الثاني لعيد الفطر من شهر أيلول عام ٢٤٧ للهجرة، وقد قُتِل المتوكّل والفتح بن خاقان بيَد باغر ويغلون وجماعة مِن الأتراك، في مجلس شرابه ليلة الرابع من شوّال في نفس العام،(٢٢١) ولم يكن بغا ولا وصيف ممّن شارك في قتله، وسلّموا على ابنه المنتصر بالخلافة.
الرواية الثانية: إنّ المتوكّل دفَع الإمام أبا الحسن الهادي (عليه السلام) إلى سعيد الحاجب – الذي عرفناه – ليقتله. فوضعه سعيد في السجن حتى يتمّ قتله، وحين قدِم الراوي إلى سامرّاء في ذلك الحين دخَل على سعيد، وكان سعيد يعلَم بكونه موالياً للإمام (عليه السلام)، فقال له: أتحبّ أنْ تنظر إلى إلهك، يقصد بذلك الإمام استهزاءً واستصغاراً، ولكن الراوي كان غافلاً فلَم يفهم وأجاب: سُبحان الله إلهي لا تدركه الأبصار.
فأوضح سعيد مراده قائلاً: هذا الذي تزعمون أنّه إمامكم، فصادَف ذلك رغبةً في نفس الراوي، إلاّ أنّه أجاب بحذَر قائلاً: ما أكره ذلك، فأفهمه سعيد القصد من سجن الإمام (عليه السلام) وقال: وقد أمَرني المتوكّل بقتله وأنا فاعله غداً، وعنده صاحب البريد، فقال: إذا خرَج فادخل إليه.
وحين يخرج صاحب البريد من الإمام (عليه السلام) يدخل الراوي في الدار - يعني الغرفة – التي حُبِس فيها الإمام، فيَرى قبراً يُحفَر، قال: فدخلت وسلّمت وبكيت بكاءً شديداً، فقال: (ما يبكيك؟) قلت: لما أرى، قال: (لا تبكِ، فإنّه لا يتمّ لهم في ذلك)، فسكن ما بي، فقال: (إنّه لا يلبث من يومين حتى يَسفِك الله دمَه ودم صاحبه الذي رأيته)، قال: والله ما مضى يومان حتى قُتِل.(٢٢٢)
وهذه الرواية لا تنافي الرواية الأُولى، في التوقيت، فإنّ المراد من قتله في يومين: قتله بعد يومين: قتله بعد يومين ويكون سفك دمه في اليوم الثالث، وهو نفس الموعد في الرواية الأُولى، كما لا تنافي بينهما في تعيين مَن دفَع المتوكّل الإمام إليه، إذ من المُمكن أنْ نفترض أنّ المسؤول عن قتله هو سعيد الحاجب والمشرف عليه في سجنه هو عليّ بن كرر الذي تذكره الرواية الأُولى كما أنّ خلوّ الأوّل مِن ذكر كون الغرَض هو قتل الإمام ليس تنافياً صريحاً، إذ مِن المُمكن أنْ نفترض أنّ الغرَض هو ذلك.
ولكنّه لم يرِد في تلك الرواية لنسيان الراوي لتفاصيل الحادثة، أو خوفه من بعض سامعيه في ذكر محاولة المتوكّل لقتل الإمام، أو غير ذلك من الأسباب.
إلاّ أنّ الرواية الأُولى أرجَح من الثانية على أيّ حال، فإنّ الثانية تتضمّن مُضعِّفاً لاحتمال صحّتها غير موجود في الأُولى؛ وذلك أنّها نُسبت للإمام (عليه السلام) قوله: (أنّه لا يلبث مِن يومين حتى يَسفِك الله دمه ودم صاحبه الذي رأيته)، فيقع السؤال عن صاحبه الذي قصَده.
وظاهر الكلام أنّ المراد به سعيد الحاجب؛ لأنّه هو الذي كان الراوي قد رآه.
مع أنّ سعيد لم يُقتل مع المتوكّل، بل بقيَ حيّاً حتى سنة ٢٥٧ حين أرسله المعتمد لحرب الزنج،(٢٢٣) وإنّما قُتِل معه الفتح بن خاقان، فلابدّ أنْ نفترض فرضاً مخالِفاً لظاهر الكلام: أنّ الراوي كان قد رأى الفتح بن خاقان أيضاً، وأنّه فهم من كلام الإمام ذلك، والله العالم.
كما أنّ الرواية الأُولى تتضمّن مرجِّحاً لاحتمال صحّتها،وهو تسمية مَن باشر قتْل المتوكّل مِن الأتراك، وهو مطابق للتاريخ العام بشكلٍ عام، وقد ذكرنا في المقدّمة أنّ هذا يصلح قرينةً على صحّة الرواية، كما يصلح مرجِّحاً للأخذ بها عند التعارض، ولكنّنا بعد إسقاط الأضعَف في مقدار التعارض يُمكن أنْ نأخذ بها في مداليلها وتواريخها الأُخرى.
خاتمة المطاف:
لابدّ لنا في نهاية الحديث عن تاريخ إمامنا الهادي (عليه السلام)، أنْ نشير إلى موقفَين له مهمّين، يُشار إليهما في التاريخ بشكلٍ موجَز يكاد يكون عابراً.
الموقف الأوّل: موقفه (عليه السلام) من المَوالي عامّة والأتراك خاصّة، وهُم مَن كانت العاصمة العبّاسية الجديدة ـ سامرّاء ـ تزخَر بهم، وقد عرفنا ممّا سبَق مدى تأثيرهم على السلطة وسيطرتهم على الخلفاء، تنصيباً وعزلاً واختياراً وقتْلاً، وكان الخليفة يضطرّ إلى أنْ يأخذهم بنظر الاعتبار كلّ الاعتبار.
ولا يخفى علينا قبل كلّ شيء، أنّ هؤلاء المَوالي لم يكونوا من الموالين للإمام ولا مِن قواعده الشعبية، بل كان أكثرهم الغالب ضدّه، ومختلفين معه في المبدأ والمنهج، ومِن المسايرين لمبدأ الدولة ومناهجها، والمنتفعين من الخلافة العبّاسية. وكان جملةٌ منهم قوّاداً متنفّذين بيدِهم إعلان الحرب والسلْم مع أيِّ شخصٍ في أطراف الدولة، وكانوا يخوضون الحروب في الغالب في الجيش الممثّل للدولة وهو المنتصر في الحرب غالباً، وبذلك يغتنم الأتراك ومَن إليهم أموالاً طائلة، مِن الثراء على حسَاب المظلومين المقهورين تحت الحروب.
ولم يكن الإمام (عليه السلام) ليوافق على تصرّفاتهم، التي لم تكن قائمة على شيءٍ مِن تعاليم الدين والعدلِ الإسلامي الصحيح، وبخاصّة أنّه يعلم موقفهم ضدّه وضدّ مواليه، حتى كان الخليفة العبّاسي يستخدمهم في الكبس على دار الإمام وحبسه وإزعاجه كما عرفنا.
ومن هنا ينبثق موقف الإمام (عليه السلام) حيث كان يحاول، بحسَب الإمكان، وببطء وحذر، لإقامة الحجّة عليهم وإفهامهم صدْق مبدئه وعدالة قضيته، ولا يخفى ما في ذلك من الفائدة المباشرة للإمام وأصحابه ومواليه؛ فإنّه بنشاطه هذا يخفّف من غلواء المندفع منهم ضدّه ويقرّب المعتدل منهم إليه، أو يجعل الفرد منهم يشكّ في حال نفسه ويعيد النظر في سلوكه وشأنه.
ونستطيع أنْ نقسّم موقف الإمام (عليه السلام) منهم إلى نقطتين، باعتبار موقفه من عامّتهم تارة، وموقفه من كبرائهم وقوّادهم أُخرى.
النقطة الأُولى: في موقف الإمام (عليه السلام) من جمهور الموالي وعامّتهم في العاصمة العبّاسية.
ومن المستطاع القول بأنّ جهوده المستمرّة أثمرت بعض الشيء في تقريب بعضهم إليه، وإيمانهم بفضله وربّما بإمامته. وكانت جهود الإمام (عليه السلام) متواصلة في ذلك.
فمِن ذلك: أنّه مرّ به تركي: فكلّمه بالتركية، فنزل عن فرسه فقبّل حافر دابته، قال الراوي: فحلّفت التركي أنّه ما قال لك الرجل؟ قال: هذا كتابي باسمٍ سُمّيتُ به في صِغَري ببلاد الترك، ما علِمه أحد إلاّ الساعة،(٢٢٤) ولعلّك لاحظت معي هذا التأثير الكبير الذي استطاع الإمام أنْ يصهر به التركي، بإقامته هذه المعجزة البسيطة له، ومن ذلك: ما عن عليّ بن مهزيار – وهو مِن ثقات الأئمّة (عليهم السلام) ومعتمديهم – قال: أرسلت إلى أبي الحسن الثالث ـ يعني الإمام الهادي (عليه السلام) – غلامي وكان صقلبياً، فرجَع الغلام إليّ متعجّباً، فقلت له: مالك يا بني؟ فقال: وكيف لا أتعجّب؟ ما زال يكلمني بالصقلبية كأنّه واحدٌ منّا، وإنّما أراد بهذا الكتمان عن القوم.(٢٢٥)
ولعلّك لاحظت معي، أنّ الإمام استطاع بتكلّمه بتلك اللغة أنْ يحصل على فائدتين: إحداهما: التأثير على الغلام واكتساب إعجابه وتعجّبه من اطلاع الإمام ومعرفته، إنْ لم يعتبرها معجزةً من معاجزه.
ثانيهما: إنّه بهذا الأُسلوب أخفى مضمون الكلام عمّن لا يُريد اطلاعه عليه من عيون الدولة، فتراه يتكلّم مع الغلام بلغته مع كونه عالماً بكونه يُحسن اللغة.
النقطة الثانية: موقفه (عليه السلام) من كبرائهم وقوّادهم، ولا يخفى ما في الموقف الايجابي منهم من الدقّة والحرَج؛ فإنّهم بصفتهم ممثّلين للجهاز الحاكم، يكون الحذَر منه حذَرا منهم أيضا، وبخاصّة إنّ أكثرهم ينهج نهج أعدائه والطعن في شأنه.
ومِن ثمّ لا نجِد موقفا منقولا في التاريخ للإمام (عليه السلام) تجاههم، ما عدا موقفه من بغا الكبير، الذي كان يعتبره واحداً من اثنين أو ثلاثة من القوّاد الأتراك ومتنفّذيهم، فإنّه كان يملك تجاه الإمام موقفاً معتدِلاً ويشفق على قضيّته بعض الشيء، وربّما أنتج ذلك أحياناً استعمال مركزه في رفع بعض الظلامات عنه وعن أصحابه.
يقول المسعودي(٢٢٦): وكان بغا كثير التعاطف والبِر على الطالبيّين
ثمّ ينقل له تعطّفاً على بعض الطالبيين، حيث كان قد حاول قتل عامل المعتصِم على الكوفة، فأمَر المعتصم بغا هذا بإلقائه إلى السباع.. فلَم يلقه.
إلاّ أنّه أمره بأنْ يجهد ألاّ يظهر في أيّام المعتصم..فوعده بذلك.
وكان هذا النشاط البنّاء لهذا القائد التركي، في قضاء حوائج المؤمنين، يرِد مورد الرضا في نظر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومن هنا نسمع بغا يقول: رأيت في نومي النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومعه جماعة مِن أصحابه، فقال لي: (يا بغا، أحسنت إلى رجلٍ من أُمّتي، فدعا لك بدعوات استجيبت له فيك)، قال: فقلت: يا رسول الله، ومن ذلك الرجل؟ قال: (الذي خلّصته من السباع)، فقلت: يا رسول الله، سل ربّك أنْ يطيل عمري.
فرَفع يدَيه نحو السماء وقال: (اللهمّ أطل عمره وأتمّ أجلَه)، فقلت: يا رسول الله، خمسٌ وتسعون سنة، فقال رجلٌ كان بين يدَيه: (ويوقى من الآفات)، فقلت للرجل: من أنت؟ قال: (أنا عليّ بن أبي طالب).
فاستيقظت من نومي وأنا أقول: عليّ بن أبي طالب.(٢٢٧)
ومهما كان رأيك في صدق الأحلام وكذبها، فإنّنا وجدنا بغا يعيش نيفاً وتسعين سنة حتى توفّي عام ٢٤٨،(٢٢٨) وفي نقل آخر أنّه كان حيّاً عام ١٥٣ حين قُتِل وصيف التركي(٢٢٩)... وعلى أيّ حال فهذا لا يعدو أنْ يكون مرجّحاً لطول عمره.
وينقل التاريخ للإمام الهادي (عليه السلام) موقفاً واحداً تجاه بغا الكبير يدلّ على التأييد الضمني له، وذلك أثناء وجود الإمام في المدينة المنوّرة قبل انتقاله إلى سامرّاء، فإنّه في عام ٢٣٠ هـ أغار الأعراب من بني سليم على المدينة ونهَبوا الأسواق وقتلوا النفوس، ولم يُفلح حاكم المدينة في دفعهم رغم القتال الشديد، بل انتصروا فازداد شرّهم واستفحل أمرهم، فوجّه إليهم الواثق العبّاسي بغا الكبير ففرّقهم وقتَل منهم وأسَر آخرين وانهزم الباقون.(٢٣٠)
وبالطبع فإنّ مثل هذه الحوادث المؤسفة تؤلم قلوب الناس وبخاصّة قلب المؤمن الذي يشعر بتعاليم الإسلام والمسؤولية الدينية، فكيف بحال الإمام (عليه السلام)؟!... ومِن ثمّ نرى الإمام حين ورود بغا بجيشه الى المدية، نراه يقول لأصحابه: (اخرجوا بنا حتى ننظر الى تعبئة هذا التركي)، يقول الراوي: فخرجنا فوقفنا.(٢٣١)
وكان الإمام (عليه السلام) بصفته الرئيس والموجّه لأصحابه ومواليه يريد أنْ يشجّع بغا ويؤيّده ضدّ هذا العمل التخريبي المؤسف، وإنْ كان التاريخ قد أهمل تماماً، ما إذا وقَع بين الإمام وبغا شيء من الكلام أو بين أصحابهما شيء من المداولات.
الموقف الثاني: للإمام (عليه السلام) تمهيده لغيبة حفيده محمّد بن الحسن بن عليّ الحجّة المنتظر، وذلك بتحضير الذهنيّة العامّة لدى قواعده الشعبية، لتقبّل فكرة الغيبة.
وتبليغ الإمام عن ذلك كان منصبّاً على مواليه ومقتصراً على أصحابه الخاصّين، ولم يكن يعمّ الآخرين؛ لأنّهم لم يكونوا يؤمنون بتسلسل خطّ الأئمّة الاثني عشر، إذن فيكون تبليغهم بذلك تبليغاً بلا موضوع.
ويلاحظ في تبليغ الإمام (عليه السلام) التخطيط لحماية الحجّة المهدي عند غيبته، فكلام الإمام حوله محاط بهالةٍ من القدسيّة والغموض، ومشفوع بالتأكيد المتزايد بأنّه لا يحلّ لأحدٍ ذكر اسمه، وذلك توصّلاً إلى عدَم تسرِّبه إلى الجهاز الحاكم.
وقد وردَت عنه ـ بهذا الصدد ـ عدّة أحاديث نقتصر على بعضها:
فمن ذلك قوله (عليه السلام) – في كلامٍ له: (ومِن بعدي الحسَن ابني، فكيف للناس بالخلف من بعده)، قال الراوي: فقلت: وكيف ذلك يا مولاي؟.
قال: (لأنّه لا يُرى شخصه، ولا يحلُّ ذكر اسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قِسطاً وعدلا، كما مُلِئت جوراً وظلماً).
ومن غامض قوله (عليه السلام) في ذلك: (إذا رُفِع عِلمَكم مِن بين أظهُرِكم فتوقّعوا الفرَج من تحتِ أقدامكم)، وقوله: (وأنّى لكم بالخلَف بعد الخلَف).(٢٣٢)
ولا يخفى ما في الغموض من مصلحةِ خَفاء المهدي (عليه السلام) حتى مِن أصحابه ومواليه؛ فإنّ المستوى العام الذي يجب أنْ يشتركوا فيه هو الإيمان بوجوده، وأنّه الثاني بعد الإمام الهادي (عليه السلام) وهو معنى: الخلَف بعد الخلف، إلاّ أنّ معرفتهم بالتفاصيل فهو ممّا لا سبيل إليه؛ لأنّ أفراد أصحابه ومواليه يختلفون في مقدار ضبطهم وصمودهم أمام الإغراء والتهديد، فإذا عرفنا أنّ الدولة كانت مستعدّة لبذل المستحيل ومختلف أساليب الإغراء والتهديد في سبيل القبض عليه، لعلمنا أنّه يجب أنْ يبقى اسم المهدي (عليه السلام) ومكانه وسائر أُموره غامضة ومختفِية، حتى عن كثيرٍ من الموالين، لما يخشى من ضعفهم أمام الجهاز الحاكم.
ولذا سنرى الإمام الحسَن العسكري لا يعرض ابنه المهدي (عليه السلام) إلاّ على القليل من أصحابه بالمقدار الذي تقوم به الحجّة على الناس مع الضمان الكامل لنجاته من براثن الجهاز الحاكم، فكان موقف الإمام الهادي (عليه السلام) تمهيداً لموقف ابنه الإمام العسكري (عليه السلام) من ذلك، وتهيئة للذهنية العامّة تجاهه.
الفصل الثالث: تاريخ الإمام الحسن بن عليّ العسكري (عليه السلام)
ولد (عليه السلام) بالمدينة عام ٢٣٢(٢٣٣) وانتقل مع أبيه إلى سامرّاء بأمر المتوكّل – على ما عرفنا – عام ٢٣٤ هـ وعمره حوالي العامَين، ومِن ثمّ فقد قضى القسط الأهم من حياته في العاصمة العبّاسية، وواكب في العقدين الأُوّلَين من حياته، وهي فترة معاصرته لأبيه، جميع الظروف ولا ملابسات والموقف التي كان يواجهها أبوه (عليه السلام) أو يقوم بها، وكان يتلقّى ذلك بصمتٍ وضبط وإتقان استعداداً لتولّي الأمانة بعد والده.
وإذ توفّيَ والده الإمام الهادي (عليه السلام) عام ٢٥٤هـ(٢٣٤) في أيّام المعتزّ العبّاسي، قبل خلعهِ بعامٍ واحد سنة ٢٥٥هـ(٢٣٥).. يكون عمره (عليه السلام) آنئذ، حين تسلّمه مركز الإمامة الفعلية لموالية والمؤمنين بقيادته.. اثنين وعشرين عاماً.
وقد واكب في عصر إمامته (عليه السلام)، عاماً واحداً من أيّام المعتز، ثمّ المهتدي حتى ثار عليه الأتراك وقتلوه عام ٢٥٦هـ،(٢٣٦) ثمّ واكب من أيّام المعتمد حوالي أربعة أعوام حتّى توفّيَ (عليه السلام) عام ٢٦٠هـ.(٢٣٧)
على حين استمرّ المعتمد في الحكم إلى عام ٢٧٩ هـ، حيث خرَج من سامرّاء وقُتِل، وبذلك انتهت هذه البلدة عن كونها عاصمة للخلافة العبّاسية، وعادت الخلافة إلى بغداد..، قد سبق في الفصل الأوّل أنْ حملنا عن ذلك فكرةً كافية.
موقفه(عليه السلام) تجاه الأحداث العامّة:
وهنا نواجه نفس الفجوة التاريخية التي كنّا نواجهها في تاريخ الإمام الهادي (عليه السلام)، وهو عدم ورود تعليقات الإمام العسكري (عليه السلام) على جملة من الحوادث العالميّة في أيّامه، وقد أعطينا فيما سبَق المبرّرات الواقعية لذلك مفصّلاً.
والمهم أنْ نعرف أنّه واكب عصر الإمام العسكري (عليه السلام) العديد من الحوادث المهمّة المختصّة به، فالعام الأوّل من إمامته (عليه السلام) هو العام الأوّل لبدء دولة أحمد بن طولون في مصر، حيث بدأت بتولّيه الحكم على مصر والياً، من قِبَل أحَد الأتراك هو بابكيال...أوّلاً، ثمّ آخر منهم هو ياركوج(٢٣٨) حيث استعمله الأخير على ديار مصر كلّها وسلّطهُ عليها فقوِيَ أمره وعلا شأنه ودامت أيّامه.
وفي أيّامه (عليه السلام)، كانت سيطرة الحسن بن زيد العلَوي على طبرستان، في ثورته الكبرى ضدّ السلطة التي دامت عدّة سنوات، وما قام به وما نفذ ضدّه من حروب.
ويتكلّل كل ذلك، من ناحية الأهميّة بالنسبة إلى الكيان العبّاسي القائم، بل لشعب المنطقة كلّه، بظهور صاحب الزنج بثورته العارمة الصاخبة، التي عرفناها فيما سبَق وقد استمرّت حوالي الخمسة عشَر عاماً.
وسنجد للإمام (عليه السلام) تعليقاً بسيطاً على صاحب الزنج، أمّا الحوادث الأُخرى فلَم نسمع منه عليها تعليقاً، وإنّما كان كأبيه يقتصر في نشاطه بصفته إماماً موالياً لمواليه وأصحابه مشرفاً على مصالحهم العقائدية والاجتماعيّة مضافاً إلى تمهيده المباشر لغيبة ولده الحجّة بن الحسن المهدي (عليه السلام).
ومن الغريب المؤسف، أنّ ظروفاً صعبة نراها تمرّ على الخلافة العبّاسية في هذا العصر بالذات، ضعُفت فيها الخلافة، وسيطر على الحكم الموالي والأتراك وجماعة آخرين كالموفّق طلحة بن المتوكّل، ونرى المهتدي يتحنّث ويتشبّه بعُمَر بن عبد العزيز في بني أُميّة، وينصب قبّةً للمظالم ويتقرّب إلى الله بما يعتقده من خدمة الناس وقضاء حوائجهم،(٢٣٩) كلّ ذلك لم يوجب خفّة الضغط الموجّه ضدّ الإمام وأصحابه ومواليه، بل كان في ازديادٍ مستمر وتصاعدٍ كبير، على ما نرى من المعتمد عند وفاة الإمام العسكري وتقسيم أمواله وبِدء الغيبة الصغرى على ما سنسمَع، بالرغم ممّا كان يتمتّع به المعتمد من سلبيّة وانصراف عن شؤون الدولة.
والسبب في ذلك واضح وهو أن التوجس من الإمام وأصحابه والخوف من تحركاته، لو كان مقتصراً على شخص الخليفة أو بطانته لهان الأمر، ولاستطاع الإمام بكثير من الوسائل إخفاء نشاطه وبثّ تعاليمه بعيداً عن أنظار الدولة، ولكنّ الأمر ليس كذلك، بل كان هذا التوجّس والانحراف متمثّلاً في خطٍّ اجتماعيٍّ عام لم يكن الخليفة إلاّ أحد أفراده... يضمّ كلّ مَن سيطَر على الدولة وكسَر شوكة الخلافة، كالموفّق نفسه وجماعة الأتراك والموالي في أكثر قوّادهم وعامّتهم، كما يضمّ ـ إلى جانب ذلك ـ عدداً كبيراً من المصلحين والمنتفعين و(أعضاء الشرف) في جهاز الدولة الكبير.
فكان هذا الخطِّ الاجتماعي العام يتعاوَن ويتضامَن ضدّ الخطِّ العام الذي تمثّله قيادة الإمام (عليه السلام)، ويحاول بكلّ صراحةٍ وجد أنْ يُبعِد الإمام وأصحابه عن المسرح السياسي والاجتماعي ويعدّ عليهم أنفاسهم ويحاسبهم على القليل والكثير، فمِن ثمّ لا ينبغي أنْ نتوقّع خفّة الضغط بتوالي الأعوام، بل شدّته وترسّخه وعمق تأثيره.
وعلى أيّ حال، فينبغي أنْ نكون على ذكرٍ من ذلك، في مستقبل البحث فإنّه يُمثّل أحد الأسباب المهمّة لحدوث الغيبة.
تفاصيل مواقفه:
إذا نظرنا إلى مواقفه وأعماله (عليه السلام)، نجدها امتداداً طبيعياً لمواقف وأعمال والده (عليه السلام)، كما هو غير خفيَ لدى مقارنة بعضها من بعض، ومعرفة أنّها تستقي مِن معينٍ واحد وتتّجه اتجاهاً متشابهاً.
ونستطيع أنْ نُقسّم مواقفه (عليه السلام) إلى أربعة:
الموقف الأوّل: موقفه تجاه مَن لا يؤمن بإمامته، حُكّاماً ومحكومين كإقامة الحجّة عليهم، أو تعليقه على بعض أعمالهم.
الموقف الثاني: جهاده العلمي في ردِّ الشبهات وإيضاح الحق.
الموقف الثالث: موقفه من أصحابه، محذّراً لهم مِن الوقوع في الشرك العبّاسي، أو مُعيناً لهم على نوائب الدهر.
الموقف الرابع: تمهيده لغيبة ولده قائم آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
فلابدّ من الدخول في تفاصيل هذه المواقف:
الموقف الأوّل: موقفه تجاه مِن لا يؤمن بإمامته:
ومن خلال تفاصيل هذا الموقف يُمكن أنْ نضع يدنا على عدّة نقاط:
النقطة الأُولى: موقفه مِن خلفاء عصره:
كانت السياسة العبّاسية تجاه الأئمّة (عليهم السلام)، تلك السياسة التي سنّها المأمون تجاه الإمام الجواد وطبّقها المتوكّل تجاه الإمام الهادي، وهي ربط الإمام بالبلاط ودمجه بالحاشية توصّلاً إلى دوام مراقبته، ودقّة الإطلاع على أمره، وفصله عن قواعده الشعبية الموالية له.. كانت هذه السياسة سارية المفعول تجاه الإمام العسكري، فكان كوالده محجوزاً في سامرّاء مسؤولاً عن الذهاب إلى بلاط الخلافة كلّ اثنين وخميس.(٢٤٠)
إلاّ أنّ علاقتَه بالخلفاء كانت باحتراسٍ وحذرٍ مضاعفَين، وكانت خاليةً من الضجيج الذي كان يُثار حول والده (عليه السلام)، بل كانت تُقام بشكلٍ روتيني رتيب، تمسّكاً بتلك السياسة العامّة بدون أنْ يُنقل خبَر في التاريخ عن تفاصيل العلاقات بينه وبين كلِّ واحدٍ من خلفاء عصره.
وإنّما اقتصر التاريخ على نقل تنبّؤات الإمام (عليه السلام)، بموتِ مَن مات في عصره من الخلفاء، وهُم اثنان: المعتز، والمهتدي.
أمّا بالنسبة إلى المعتز، فنجِد الإمام (عليه السلام) يكتب إلى أحد أصحابه قبل موت المعتز بنحوٍ من عشرين يوماً: (الزَم بيتك حتى يحدث الحادث)، فيتخيّل الرجل أنّ المُراد الإشارة إلى حادثٍ آخر.. فلمّا قُتِل بريحة كتب إليه: قد حدَث الحادث فما تأمرني. فكتب الإمام إليه: (ليس هذا الحادث، الحادث الآخر)، فكان من المعتز ما كان،(٢٤١) وكلّنا يعرف ما الذي كان، من مقتل المعتز عام ٢٥٥هـ بيَد الأتراك على أساس ضيق ذات يدِه عن دفع الرواتب والأرزاق، وبُخل أُمّه عن إمداده بالمال، على ما سمِعنا من التاريخ العام في الفصل الأوّل.
لاحظ معي قول الراوي: فكان من المعتز ما كان، بما فيه مِن تعمّد الإغماض وبعد الإشارة إلى مقتل المعتز، كما أنّ تعبير الإمام عن ذلك أشدّ غموضاً، وقد عرفنا إلى الآن تفاصيل الظروف التي أوجبت إغماض العبارتين.
ومثله في الغموض تنبّؤه الآخر بقتل المعتز، حيث يروى أنّ المعتز أمَر سعيداً الحاجب بقتل الإمام بعيداً عن عيون الناس.
قائلاً له: أخرج يا محمّد إلى الكوفة ثمّ اضرب عنقه في الطريق، قال الراوي: فجاء توقيعه (عليه السلام) إلينا – يعني إلى أصحابه -: (الذي سمعتموه تكفونه)، فخُلِعَ المعتز بعد ثلاث وقُتِل.(٢٤٢)
ولا يخفى ما في هذه العبارة الغامضة تجاه الجهاز الحاكم، من وضوح تجاه أصحابه (عليه السلام)، ورفع لمعنويّاتهم، أنْ يعلموا أنّ إمامهم وقائدهم المهدّد سيقبى على قيد الحياة، وأنّ الذي هدّده هو الذي سيبوء بالفناء والدمار، مضافاً إلى أنّها ستكون دليلاً جديداً على إيمانهم وصدق مقاعدهم، عند تحقّق النبوءة فتزيدهم قوّةً في العمل وتحمّلاً للتضحية في سبيل الحق.
وأمّا بالنسبة إلى المهتدي العبّاسي، فما قد يلاحظه التاريخ من كونه متحنّثاً متديّناً، يتشبّه بعُمَر بن عبد العزيز، وكان يواصل الصيام وكان يركَع ويسجد إلى أنْ يدركه الصبح(٢٤٣) وأنّه بنى القبّة للمظالم جلَس فيها للعام والخاص وأمَر بالمعروف ونهى عن المنكر وحرّم الشراب ونهى عن القيان وأظهر العدل(٢٤٤)..... هذا وإنْ كان تقدّماً نحو الحقِّ بالنسبة إلى أسلافه وتخلّصاً عن كثير من العثرات والانحرافات التي وقعوا فيها، إلاّ أنّه على أيّ حال حقٌّ بمقدار فهمه وإدراكه... حقٌّ مبتور ناقص.. لا يمكن أنْ يكون هو التطبيق الصحيح للإسلام، ومِن ثمّ وقف الناس منه موقف الرافض المستنكر، وذلك انطلاقاً من إحدى وجهَتيّ النظر:
وجهة النظر الأُولى:
وجهة من يجعل إلهه هواه، ويستصعب الحقّ والعدل ويستكين إلى اللهو واللعب الذي عوّدهم عليه الخلفاء السابقون، فكان مسلك هذا الرجل ضيقاً عليه وإحراجاً لموقفه، يمثّل هذه الوجهة أكثر الشعب وأكثر القوّاد والوزراء والمنتفعين، بقول المسعودي: فثقلت وطأته على العامّة والخاصّة، فاستطالوا خلافته وسئموا أيّامه وعملوا الحيلة عليه حتى قتلوه.(٢٤٥)
وجهة النظر الثانية:
وجهة الإمام لحقيقة المشكلة الاجتماعية من ناحية، وللعدل الإسلامي من ناحيةٍ أُخرى، فليست المشكلة الأساسيّة في المجتمع، ما أدركه المهتدي من سُوء القضاء، أو انصراف الخليفة عن مصالح الناس، أو كثرة البذخ في البلاط، أو زيادة مكتسبات القوّاد ورواتبهم، فإنّ كل ذلك وإنْ كان ظالماً خارجاً عن حكم الإسلام، إلاّ أنّ ذلك كلّه فرع الحقيقة الكبرى للمشكلة، وهو انحراف المجتمع أساساً عن العدل الإسلامي وعدَم وعيه له، وعدم استعداده لتطبيقه والتضحية في سبيله.
والحل لابدّ أنْ ينطلق من محاولة إيجاد الوعي وتثقيف الناس، حتى يخضعوا للحكم العادل ويكون طيّباً على نفوسهم.
كما أنّ العدل الإسلامي ليس هو ما يقضي به المهتدي؛ فإنّه على أيّ حال ليس جامعاً لشرائط القاضي العادل في الإسلام، وبالنتيجة فإنّ هذا الرجل هو ثمرةٌ لخطٍّ طويل، منحرف – في نظر الإمام (عليه السلام) – وغاصب للحقِّ الأوّلي الذي يؤمن به الإمام لنفسه ولآبائه، ومِن ثمّ لم تكن سيرة المهتدي لتشفع تجاه الإمام بحيث يخرج بها هذا الرجل عن كونه ظالماً إلى كونه عادلاً.
زِد على ذلك، أنّ هذا الرجل الذي يدّعي العدل، قد مارس سجن الإمام (عليه السلام)، إذن فهو – على ما هو عليه – ممثّل للحقد التقليدي للدولة العبّاسية تجاه الإمام، وقد صرح الإمام في سجنه لأحد أصحابه المسجونين معه قائلاً: في هذه الليلة يبتر الله عمره، قال الراوي: فلمّا أصبحنا، شغَب الأتراك وقتل المهتدي وولي المعتمد مكانه،(٢٤٦) وإذا رجعنا إلى التاريخ العام نرى كيف أنّ الأتراك بقيادة بابكيال قاتلوه وحاجَجوه على سيرته وعزَلوه وقتلوه.
ومن طريف ما قالوا له: إنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان مع قومٍ قد زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة، كأبي بكر، وعُمر، وعثمان، وعليّ، وغيرهم.
وأنتَ إنّما رجالك ما بين تركي وخزرجي وفرعاني ومغربي وغير ذلك من أنواع المعاجم.. لا يعلمون ما يجب عليهم من أمر آخرتهم، وإنّما غرضهم ما استعجلوه من هذه الدنيا، فكيف تحملهم على ما ذكرت من الواضحة.(٢٤٧)
ومن طريف ما فعل يومئذٍ: أنّه بعد انهزام جيشه في قتال الأتراك، دخل سامرّاء وحده مستغيثاً بالعامّة مستنصراً للناس، وهو ينادي: يا معشر المسلمين، أنا أمير المؤمنين قاتلوا عن خليفتكم، فلَم يُجبه أحد من العامّة إلى ذلك.(٢٤٨)
ونسمَع للإمام تنبّؤاً آخر عن موت المهتدي أسبَق من ذلك التنبّؤ بأيّام مقروناً بتعليقٍ سياسي، وذلك: أنّ المهتدي بعد أنْ استفحَل الأمر بينه وبين المَوالي، عزَم على استئصالهم(٢٤٩) وحلَف قائلاً: لأجلينهم عن جديد الأرض، فخطَر في ذهن بعض أصحاب الإمام أنّ انشغال المهتدي بذلك يصرفه عن ملاحقة الإمام وتهديده له، فكتب إلى الإمام: يا سيّدي، الحمد لله الذي شغله عنك، فقد بلغني أنّه يتهدّدك.
فانظر بما أجاب... أنّه إذ يعيش الجوَّ السياسي آنئذ يرى بوضوح أنّ المَوالي أقوى من المهتدي وأكثر عدّةً وعدداً، وإذا فهِم الموالي قصده ضدّهم.. فما أسهل من قتلهم إيّاه، ومِن ثمّ يكون تهديده لهم جنايةً من نفسه على نفسه وقطعاً لعمره، من دون أنْ يترتّب غرضه.
فقد وقّع الإمام بخطّه: (ذاك أقصر لعمره، عدّ من يومِك هذا خمسةَ أيّام ويُقتَل في اليوم السادس، بعدَ هوانٍ واستخفافٍ يمرّ به)(٢٥٠)، يشير إلى القتال والمناقشات وعدَم خروج الناس لنصرته.. فكان كما قال.(٢٥١)
موقف المعتمد تجاه الإمام:
نرى للمعتمد موقفاً غريباً لم يسبِق لأحدٍ من أسلافه أنْ قام به، وهو موقف التذلّل للإمام والتضرّع إليه.
فإنّه كان يكفي لهذا الرجل أدنى تفكير.. ليتوصّل إلى الشكّ في بقائه في الخلافة يوماً أو بعض يوم، فضلاً عن العام والأعوام، إذ يكفي أنْ يستعرض آجال أسلافه من الخلفاء وكيف كتبها الموالي والأتراك بسيوفهم وآرائهم، ليدرك ضعف موقف الخلافة بشكل عام لا في السيطرة على الحكم فقط، بل في السيطرة على الخلافة نفسها.
إذن فهو بصفته سائراً في هذا الخطِّ، فلا يكون أحسن حالاً من أسلافه، بل قد يكون ـ في نظره ـ أسوأ حالاً باعتبار كونه مغلوباً على أمره، مسلوباً عن التصرّف بالكلّية على حين كانوا أقوى منه وأكثر حرية وأنفذ حكماً.
لذا فقد وجَد أقرب طريق لدفع الشرِّ المستطير عن نفسه وضمان طول عمره وامتداد حكمه، ولا زال في أوّل أعوام خلافته، هو أنْ يقصد الإمام (عليه السلام) في داره ويتضرّع إليه ويسأله أنْ يدعو له بالبقاء عشرين سنة في الخلافة، فيجيبه الإمام قائلاً: (مدّ الله في عُمرك).(٢٥٢)
انظر إلى هذه المدّة التي حدّدها لنفسه... إنّها أقصى همّة المعتمد وأبعد أهدافه! ومهما يكن رأيك في الدعاء.. فإنّنا نجد أنّ مدّة خلافته زادت على العشرين بثلاثِ سنين (من عام ٢٥٦هـ إلى عام ٢٧٩هـ)، كما يطلعنا على ذلك التاريخ العام، على حين لم يبقَ المتوكّل – وهو أقوى خُلفاء تلك الفترة – في الحكم غير خمسةَ عشَر عاماً (من عام ٢٣٢هـ إلى عام ٢٤٧هـ).
ولعلّ السر في زيادة الثلاث سنين على العشرين هو أنّه عاش بعد دعاء الإمام عشرين سنة، ولذلك تشير الرواية قائلة: فأُجيب – يعني الإمام – وتوفّى (المعتمد) بعد عشرين سنة(٢٥٣) مع افتراض أنّ المعتمد طلب الدعاء من الإمام بعد ثلاث سنين من خلافته، يعني عام ٢٥٩هـ.
وهو أوّل عام لإحساسه بالضعف نتيجةً لبدء سيطرة الموفّق على دفّة الحكم والإدارة، بعد أنْ عقَد له المعتمد بنفسه وعيّنه قائداً لحرب صاحب الزنج قبل هذا التاريخ بعام، أي سنة ٢٥٨هـ.
ولكنّنا نستطيع الآن أنْ نرى بوضوح السرّ الطبيعي لاستجابة دعاء الإمام (عليه السلام)، فإنّ المعتمد كان واهماً في كون ضعفه وانصرافه عن الحكم موجباً لقلّة مدّته وقصر عمره، فإنّ القوم من الأتراك وغيرهم إنّما كانوا يقتلون أسلافه نتيجةً لغضبهم من تصرّفاتهم وأقوالهم، وأمّا إذا كان الخليفة نكرة سلبيّاً لا قولَ له ولا فِعل... فهو الأمَل الأساسي لهم لكي تنثني لهم الوسادة، وتنفتّح أمامهم الفرصة في التصرّف التام في شؤون البلاد، ولعلّ المعتمد قد فهِم ذلك – لا شعوريّاً على الأقل، ففضّل بقاءه في الخلافة على السعي إلى تطبيق المصالح الإسلامية العُليا ومِن ثمّ استكان للذلّ والانعزال، وبهذا أمكَن استجابة الدعاء وبقاء المعتمد في الخلافة هذه المدّة المتطاولة التي تزيد على تاريخ وفاة الإمام العسكري بحوالي تسعة أعوام.
ولعلّك لاحظت معي أيضاً، كيف أنّ المعتمد يعرف موطن الحقِّ ويؤمِن في باطن نفسه بصحّة موقف الإمام (عليه السلام) وعدالة قضيته، وإنْ كانت شؤون المُلك العبّاسي قد أخذت بخناق المعتمد وأوجبت غلظته على الإمام (عليه السلام) وعلى أصحابه، وأمّا لو لم يكن المعتمد مؤمناً بذلك لَما وجَد أيّ داع في نفسه لمِثل هذا الطلب والتضرّع، ولاختار شخصاً آخر للقيام بمثل هذه المهمّة.
فليكن هذا على ذكرٍ منك فإنّه ينفعنا في تفسير جملة من تصرّفات المعتمد عند وفاة الإمام العسكري (عليه السلام).
* * *
وأمّا موقف الإمام (عليه السلام) في استجابته لطلب المعتمد في الدعاء له.
فقد كان واضحاً كلّ الوضوح، فهو:
أوّلاً: لم يرد إعلان التمرّد والخلاف على الدولة، للذي عرفناه من سياسته وسياسة أبيه (عليهما السلام)، وكان رفضه لطلب الخليفة بالدعاء له تجسيداً لموقف التمرّد والخلاف على الدولة، بشكلٍ أو بآخر، وهو ما لا يريده الإمام (عليه السلام).
ثانياً: كان يريد (عليه السلام) إثبات الحجّة على هذا الرجل، وعلى غيره ممّن يعرف هذه الواقعة، حين يرى الناس، وبخاصّة الخليفة نفسه، في نهاية حياته، أنّه قد استُجيب الدعاء وقد استمرّت مدّة حكمه بالفعل عشرين سنة، فيتأكّد بذلك من عدالة قضيّة الإمام وانحراف الخطِّ الحاكم.
وقد يخطر في الذهن كان هذا الدعاء من الإمام (عليه السلام) يستوجِب طول عمر شخص يعتقد الإمام نفسه ظالماً منحرفاً، وجوابه: أنّ الإمام كان يعلَم أنّ المعتمد متى وافته المنيّة – سَواء طال زمانه أم قصر – فلنْ يخلفه شخص إلاّ مثله من حيث الفكرة والاتجاه، ولم يكن الإمام على ما عرفنا يُخطّط لنيل الحكم؛ لكي يكون موت المعتمد موجباً لفوز الأُمّة الإسلامية بالحكم الإسلامي بقيادة الإمام (عليه السلام).
إذن فيتمحّظ الموقف في حصول على المصالح التي أشرنا إليها، وهي إقامة الحجّة ضدّ موقف المعتمد، لإثبات عدالة قضيّة الإمام وأصحابه.
خلطٌ تاريخي:
والذي نوَدّ أنْ نشير إليه، ونحن في صدَد الكلام عن موقف الإمام من الخلفاء، أنّه وقَع في هذا الصدَد بعض التخليط في الروايات، حيث تذكر موقفاً للإمام العسكري (عليه السلام) تجاه المستعين،(٢٥٤) وهذا لا يُمكن أنْ يكون صحيحاً، فإنّ هذا الإمام وإنْ كان معاصراً لعهد المستعين إلاّ أنّ ذلك كان في زمان حياة أبيه (عليه السلام) قبل تولّيه الإمامة الفعلية، ونحن نعرف من العقائد الإسلامية أنّ كلّ إمام يبقى في زمان أبيه صامتاً غير ذي نشاط، وإنّما يبدأ علاقاته ونشاطه كلّه بعد موت أبيه وتولّيه الإمامة الفعليّة لمُواليه؟
فهذه الروايات إمّا أنْ تكون مكذوبة، مِن قِبل الرواة أو أنّها تحتوي على تحريفٍ وتخليط بين أسماء الخلفاء، فإنّه قد يحصل مثل هذا الاشتباه لمدى التشابه اللفظي بين ألقابهم، أو أنّه حصل الاشتباه في اسم الإمام (عليه السلام)، إذ قد يكون الموقف لأبيه، وقد نُسِب تشابه اللفظي بين ألقابهم، أو أنّه حصل الاشتباه في اسم الإمام (عليه السلام)، إذ قد يكون الموقف لأبيه وقد نُسِب إليه، باعتبار أنّ كليهما كان يُسمّى بالإمام العسكري، وإنْ كان هذا اللقب على الحسَن بن عليّ (عليه السلام) أشهر.
ومثله ما رويَ من علاقته (عليه السلام) بالمتوكّل(٢٥٥) فإنّه لم يكن معاصراً لعصر إمامته (عليه السلام)، وقد التفتَ الأربلي في كشف الغمّة(٢٥٦) إلى هذا التخليط ونسبَه إلى غلَطِ الرواة والنُّسّاخ، ثمّ قال: وللتحقيق حكم. أقول: وعلى أيّ حال تسقط هذه الروايات عن كونها صالحةً للإثبات التاريخي.
النقطة الثانية: موقف الإمام العسكري مِن وزراء عصره.
نجد للإمام (عليه السلام) موقفاً حافلاً مع الوزير عبيد الله بن يحيى بن خاقان، الذي استوزَره المعتمد في أوّل تسلّمه الحكم عام ٢٥٦هـ(٢٥٧) وله مجلس قصير معه يرويه لابنه أحمد.
وكان شديد النصب والانحراف عن أهل البيت (عليهم السلام)، ومع ذلك نسمعه يقول: (ما رأيت، ولا عرفت بسَر من رأى رجلاً من العلويّة، مثل الحسَن بن عليّ بن محمّد بن عليّ الرضا، في هديه وسكونه وعفافه ونُبلِه وكبرته عند أهل بيته وبني هاشم كافّة، وتقديمهم إيّاه على ذوي السنّ منهم والخطر، وكذلك كانت حاله على القوّاد والوزراء زعامة الناس.
ونحن إذ نسمع هذا المدح والإكبار من أحمد بن عبيد الله، نعرف أثر هذا المجلس الذي سيرويه بنفسه، وتغير عقيدته من النصب إلى الحبّ، ولكنّه على أيّ حال لم يؤمن بالإمامة.
وإذ يفكر الإمام العسكري (عليه السلام) أنْ يزور عُبيد الله بن خاقان إبّان وزارته، فإنّه يتوخّى عدّة مصالح ومبرّرات كلّها أو بعضها:
أحدهما: إنّ هذه الزيارة امتداد لتلك السياسة القديمة التي سار فيها المتوكّل تجاه أبيه، من التقريب إلى البلاط، والدمج بالحاشية، ولم يكن الإمام بسلبيته، مُريداً الخروج على هذه السياسة أو الاحتجاج ضدّها.
ثانيهما: إنّ الإمام كان يستهدف مِن وراء هذه الزيارة بعض مصالح أصحابه، أمّا تأليفاً لقلب هذا الوزير تجاههم، أو أنّه كان قاصداً إليه بحاجة مهمّة معيّنة، لم يذكرها له، لانقطاع مجلسه معه بدخول أبي أحمد الموفّق زائراً للوزير على ما سنذكر.
ثالثهما: إنّ هذا الوزير كان يحترم الإمام ويعتقد بقدسيّته وعظمته وجدارته، كما يدلّ عليه كلامه الذي سنسمعه عنه، وكان الإمام (عليه السلام) يعلم منه ذلك، فذهب لزيارته تأييداً لهذه الجهة في نفسه وإذكاءً لهذا النور في قلبه، كأنّه يريد أنْ يُفهِم الدولة بشكل عمَلي أنّه (عليه السلام) إلى جنب الوزير، في انتقاده للظلم وانحراف الصادر من رجال الحكم، فإنّه (عليه السلام) يعطي التأييد لكلّ حق، أينما وجِدَ الحق وليس له عداوة شخصية مع أحد، فإنّه قضية أُمّة ودين، وهي أعلى وأوسَع من الأشخاص والأرقام.
وقد اختار الإمام (عليه السلام) أنْ تكون زيارته في مجلسه العام لكي يُحقّق ذلك الهدف، ولئلاّ تكون زيارةً خاصّة قد تثير الشكوك.
وكان مجلس الوزير محتشماً مهيباً باحتشام الوزير وهيبته؛ فكان لا يُكنّى أحد بحضرته ولا يمشي مستقبلاً أو مودّعاً أحداً ولا يجوز الدخول إليه إلاّ بعد إذنه الخاص.
وفي أثناء جلوسه في مجلسه، وولده أحمد يقف خلفه إذ يدخل حجّابه قائلين: أبو محمّد بن الرضا بالباب، فيأخذ هذا الخبر اهتماماً في نفس الوزير ويقول بصوتٍ عالٍ محاولاً إسماع الزائر الكريم: ائذنوا له، قال ولده أحمد: فتعجّبت ممّا سمِعت منهم ومِن جسارتهم أنْ يكنّوا بحضرة أبي، ولم يكن يُكنّى عنده إلاّ خليفة أو وليَّ عهد، أو مَن أمر السلطان أنْ يُكنّى.
يقول: فدخل رجلٌ حسنُ القامة جميل الوجه جيّد البدَن، حديثَ السن، له جلالةٌ وهيئةٌ حسنة. أقول: كان عمره في أوّل وزارة عُبيد الله بن خاقان أربعاً وعشرين سنة، وإنّما استجلب عمره انتباه أحمد، باعتبار كثرة ما رأى له من تبجيل واحترام، ممّا لا يكون غالباً للفتى في مثل عمره (عليه السلام)، بحسَب فهم هذا الرجل وتصوّره.
قال أحمد: فلمّا نظَر إليه أبي، قام فمشى إليه خُطاً، ولا أعلمه فعَل هذا بأحد مِن بني هاشم والقوّاد، فلمّا دنى منه عانقه وقبّل وجهه وصدره، وأخذ بيده وأجلسه على مصلاّه الذي كان عليه وجلس على جنبه مُقبِلاً عليه بوجهه، وجعَل يكلّمه ويُفدّيه بنفسه. أقول: ولا يخفى أثر هذا الاحترام على مجموع الحاضرين، في مثل هذا المجلس المحتشم، وبخاصّة في نفسِ أحمد بن عُبيد الله، الذي كان مُتعجّباً ممّا يرى من أبيه.
وبعد برهةٍ قصيرة إذ دخَل الحاجب مُعلناً عن مجيء الموفّق (طلحة بن المتوكّل) الذي يكلّفه المعتمد يومئذٍ بقتال صاحب الزنج.
وكان الموفّق إذا دخَل على هذا الوزير تقدّمه حجّابه وخاصّة قوّاده، فوقفوا يمين مجلس الوزير والدار، على شكلِ صَفّين من حين دخول الموفّق إلى حين خروجه.
وكان الوزير لا يزال مُقبلاً على أبي محمّد (عليه السلام) يُحدثه حين سمِع بمجيء الموفّق، وهو يعلم كلّ العِلم بما في عثور الموفّق على الإمام في هذا المجلس من الخطَر عليه وعلى الإمام معاً، فأراد أنْ يعرفه بكلّ أدَب واحترام قبل دخول الموفّق، فقال له (إذا شئت، جعلني الله فِداك ـ يكنى بذلك عن طلب القيام منه ـ ثمّ عانقه وأمر حُجّابه بالأخذ بيد الإمام وراء أحد الصفّين، ليكون في إمكانهم أنْ يُخرجوه خِلسة.
وأمّا أحمد بن عُبيد الله فقد بقيَ قلِقاً متفكّراً في أمر أبيه وأمر الإمام، حتى استغلّ فرصةً سانحة لأبيه فاستأذنه بالسؤال وقال: يا أبه، من الرجل الذي رأيتك بالغداة، فعلتَ به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل، وفدّيته بنفسك وأبوَيك؟ قال: فقال: يا بني، ذاك إمام الرافضة الحسَن بن عليّ المعروف بابن الرضا، ثمّ سكَت وأنا ساكت، ثمّ قال: - وانظر إلى ما قال! -: يا بني، لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العبّاس ما استحقّها أحد من بني هاشم غيره؛ لفضله وعفافه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه، ولو رأيت أباه رأيت رجُلاً جَزْلاً نبيلاً فاضلاً.
وهذا يدلّ بكلِّ وضوح، على الذي عرفناه في تاريخ الإمام الهادي (عليه السلام)، مِن أنّ عظمة الإمام وعدالة قضيّته قد تمشّت في قلوب الناس وأفكارهم، نتيجةً لجهود الإمام المتضافرة، فلَم تدَع حتى المنتفعين من الدولة والمنخرِطين في سِلكها، فضلاً عن جمهور العامّة وسائر الناس.
قال أحمد: فلم تكُن لي همّة بعد ذلك إلاّ السؤال عن خبَرِه والبحث عن أمره، فما سألت أحداً من بني هاشم والقوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء، وسائر الناس، إلاّ وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام والمحلّ الرفيع والقول الجميل، والتقديم له على أهل بيته ومشايخه، فعظم قدره عندي، إذ لم أرَ له وليّاً ولا عدوّاً إلاّ وهو يُحسِن القول فيه والثناء عليه.
النقطة الثالثة: موقف الإمام من صاحب الزنج.
نستطيع أنْ نحلّل موقف صاحب الزنج نفسه إلى ثلاثة أُمور:
الأوّل: خروج على الدولة العبّاسية وخلافتها.
الثاني: زعمه الانتساب إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، حيثُ زعَم أنّه عليّ بن محمّد بن عيسى بن زيد بن علي ّبن الحسين بن عليّ بن أبي طالب.(٢٥٨)
الثالث: خروجه على القانون الاجتماعي السائد بما فيه تعاليم الدين الإسلامي نفسه، من قتلِه الرجال وسلبه الأموال وإحراقه المُدن وسبيه النساء، كلّ ذلك بالجملة وبلا حساب وبأعداد الآلاف لا الآحاد والعشرات.
أمّا ألأمر الثالث: فموقف الإمام (عليه السلام) منه واضح كلّ الوضوح وهو الاستنكار والرفض التام القاطع لكلِّ تلك الأعمال، على أساس منافاتها الفاضحة لعَدالة الدين وتعاليم سيّد المرسلين، تلك التعاليم التي يُمثّل قمّتها العُليا في نظره – على الأقل –.
ونحن في غنىً في معرفة ذلك عن وروده في الروايات، وستأتي الإشارة إلى سبَب سكوت الإمام عنه، مضافاً إلى وضوحه وأخذه مسلّماً ومفروض الصحّة بينه وبين أصحابه.
وأمّا الأمر الثاني، فهو الذي وردنا عن الإمام (عليه السلام) نفيَه، فإنّه بصفته أعظَم فرد في عصره من الذرّية العلوية، يكون هو المسؤول عن إيضاح نسبة هذا المدعي وبطلانها، وبخاصّة بعد أنْ توجّه السؤال إليه في ذلك.
فأجاب قائلاً: - ضمن كلام له -: (وصاحب الزنج ليس منا أهل البيت).(٢٥٩)
ولا يخفى ما في تجريده عن هذه الصفة من سوقٍ رائجة عند الناس، فإنّ العقل والشرع وإنْ حكَما بأنّه (لا تزِرُ وازرةٌ وزْرَ أُخرى) وإنّه لا نقصَ في الأب إذا كان أحد ذرّيته منحرفاً ظالماً، كيف وأنّ إبراهيم الخليل (على نبيّنا وعليه السلام) كان له ذرّيةٌ ظالمون، أخرجهم الله تعالى عن عهده بقوله عزّ مَن قائل: (لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). إلاّ أنّ الجمهور سوف يقول ما يشاء ويلوك العلويّين بما هُم منه بَراء، ومِن ثمّ نستطيع أنْ نتصوّر أثر ادعاء صاحب الزنج الانتساب إليهم، وأثر تكذيب الإمام (عليه السلام) إيّاه.
ولم يسأل الإمام عن التفاصيل السياسية لثورة الزنج لعدَم تحمّله مسؤوليّة بيانها باعتباره ليس حاكماً ولا في طريق الحُكم، وكلّ مَن يكون كذلك لا يكون مسؤولاً عن بيان آرائه السياسيّة كما أسلفنا.
مضافاً إلى أنّ نقد صاحب الزنج في تفاصيله يحتوي على تأييد ضِمني للدولة، وبخاصّة إذا عرَفنا أنّ المنازل له في حَومة القتال هو الموفّق الذي خشيَ عُبيد الله بن خاقان أنْ يجتمع بالإمام في مجلسه – فاستنكار ثورة الزنج يجب أنْ يُعطى من قِبل الإمام بحذَرٍ بالغ بشكلٍ لا يُستشعَر منه ذلك التأييد، فإنّ الأمر الأوّل الذي ذكرناه لصاحب الزنج وهو خروجه على الدولة العبّاسية ووقوفه منها موقف المعارض، أمر ينبغي المحافظة على معنويّته، من حيث كونه مؤدّياً إلى إضعاف الحكم وكسر شوكته، وهذا معنى الفكرة القائلة: بأنّ المعارضين ـ مهما اختلفوا ـ يشتركون في مناوئة الوضع القائم.
على أنّ هناك فائدة أُخرى قد ينالها الإمام وأصحابه من وراء حركة الزنج، فهي في نظرهم وإنْ كانت واقعاً مؤسفاً إلاّ أنّها حقيقة واقعة يُمكن استغلالها؛ وذلك لأنّ الدولة لم تكن من القوّة بحيث يُمكن أنْ تحارب في جبهَتين، وأنْ تعطي لكلّ جبهةٍ ثقلها المطلوب.
إذن فاتجاهها لحرب الزنج يعني – إلى حدٍّ ما – خفّة الضغط على الإمام وأصحابه، ولكنّنا يجب ألاّ نُبالغ في ذلك فإنّ الدولة كانت تبذل المستحيل في سبيل صدِّ نشاط الإمام والوقوف ضدّه، بل إنّها تراه ـ في واقعه ـ أشدّ خطراً وأبعد أثراً من الزنج، وهي – على أيّ حال – لا تتكلّف تجاه الإمام وأصحابه حرباً حقيقيةً وإنّما غاية ما تتكلّفه هو البذل على التجسّس والسجن والتشريد، وهو أمرٌ لا ينافي القيام بالحرب في جبهةٍ أُخرى.
النقطة الرابعة: موقف الإمام من ساجنيه.
وأقصد بهم من يتولّى سجنه والإشراف عليه من قِبَل الدولة، فقد كان (عليه السلام) يُقيم عليهم الحجّة الواضحة التي يجعلهم بها يؤمنون به أعمَق الإيمان، وبالتالي، بجريمةِ مَن أمَر بسجنه ورضيَ به.
إلاّ أنّه كان يُقيم الحجّة بطريقٍ غير مباشر، لا يستخدم فيه الوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وإنّما يقيمها بأفعاله... بعبادته... بزهده... بالآيات التي يتعمّد إقامتها أمامهم بكلّ بساطة وهدوء، ومن ثمّ نرى أنّ السجّان حين يؤمِن به، يختصّ إيمانه بشخصِ الإمام من دون ثقافةٍ تفصيليّة، تلك الثقافة التي لم تكن متوفّرة عند أمثال هؤلاء إلاّ بأقلّ القليل، ما لم يفترض أنّ الإمام يستطيع أنْ يُزرَق إليه بالكناية ولبَاقة التعبير بعض التوجيهات، وخاصّة بعد أنْ أصبَح السجّان وهو عين الدولة عليه – موالياً له لا يُحتمَل في شأنه أنْ يشيَ به.
فمِن ذلك أنّه حُبِس أبو محمّد (عليه السلام) عند عليّ بن اوتامش، وهو أحد الأتراك في العاصمة العبّاسية، وكان شديد العداوة لآل محمّد (عليهم السلام) غليظاً على آل أبي طالب.. فما أقام إلاّ يوماً حتى وضَع خدّيه له، وكان لا يرفَع بصره إجلالاً وإعظاماً، وخرَج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة وأحسنهم قولاً فيه.(٢٦٠)
وهذه الرواية، والتي نذكرها بعدها أيضاً، تهملان ذكر الخليفة الذي أمَر بسجن الإمام، هذا من فجَوات التاريخ التي يصعب الوقوف فيها على أمرٍ يقين.
ومن ذلك أنّه عندما حُبِس الإمام (عليه السلام)، دخل العبّاسيون على صالح بن وصيف فقالوا له: ضيّق عليه، فلَم يستنكر ابن وصيف ذلك، إلاّ أنّه أراد أنْ يعلن اعتذاره عن عجزِ عن التضييق عليه، فقال: وكّلت به رجُلَين مِن شرِّ مَن قدرت عليه: عليّ بن بارمش واقتامش...فقد صارا من العبادة والصلاة إلى أمرٍ عظيم يضعان خدّيهما له.
ثمّ إنّ ابن وصيف أمَر بإحضارهما لاستجوابهما أمام النفَر العبّاسيين عن هذا التغير الذي طرَأ عليهما، فقال لهما: ويحكما! ما شأنكما في شأن هذا الرجل؟ فانظر بماذا أجابا وكيف يكون قولهما دعايةً تلقائيّةً صافيةً للإمام (عليه السلام) أمام هؤلاء المتعنّتين، فقد قالا: (ما نقول في رجلٍ يقومُ الليل كلّه، ويصوم النهار لا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة، فإذا نظرنا إليه ارتعدَت فرائصنا وداخَلَنا ما لا نملكه مِن أنفسنا).(٢٦١)
ولعلّك لاحظت معي معنى عجز الدولة عن التضييق عليه في سجنه، فإنّ أمرها تجاه الإمام الثائر دار بين شيئين: فأمّا أنْ تقتصر في الإشراف عليه على فردٍ أو أفراد معيّنين يواكبون كلّ الأيّام التي يقضيها الإمام في سجنه، فهؤلاء سيصبحون بعد قليل من الاندفاع تجاه الإمام بحيث يُعدّ من المستحيل إقناعهم بتعذيبه والتضييق عليه، فلربّما قدّموا نفوسهم دونه أو عذابهم على راحته، أو اشتغلوا بالعبادة عن تنفيذ ما يوجّه إليهم مِن أمرٍ بهذا الخصوص، وإمّا أنْ ترى الدولة ضرورة تجنّب ذلك فتستعين بكثيرين يقوم كلّ يوم واحد أو أكثر في الإشراف على السجن، فهذا يكون أنكى عليها؛ لأنّ هؤلاء برمّتهم سيؤمنون بالإمام، ويصبحون ـ بشكلٍ أو بآخر ـ من قواعده الشعبية ومؤيّديه.
ثمّ إنّه من المعتقد أنّ كِلتا الروايتين تعربان عن حادثةٍ واحدة لسجن الإمام (عليه السلام)، إلاّ أنّ الثانية توسّعت في النقل أكثر فاقتصرت الأُولى على بيان حال عليّ بن اوتامش مع الإمام فإذا تمّ احتمال: أنْ يكون المراد من عليّ بن بارمش في الرواية الثانية هو عليّ بن أوتامش نفسه، مع حصول التحريف في نقله، إذا تمّ ذلك لَم يبقَ أيُّ تهافت بين الروايتين، أمّا صالح بن وصيف فلَم يكن هو السجّان، وإنّما كان بمنزلة مدير السجن، أمّا الإشراف المباشر فلِعليّ بن أوتامش وصاحبه.
النقطة الخامسة: موقفه (عليه السلام) من عامّة مَن لا يؤمن بإمامته، وبخاصّة المَوالي والأتراك، لأجل إقامة الحق أو دفع الشبهات.
ونحن هنا في غنىً عن الإشارة إلى ما سبَق أنْ عرفناه في تاريخ أبيه (عليه السلام)، مِن أهمّية هذا الموقف في زيادة المخلصين له وتوسيع قواعده الشعبية... وبالتالي: بذر الشك في نفوس الناس من الحُكم العبّاسي السائد.
فمِن ذلك أنّ أبا محمّد (عليه السلام) كان كثيراً ما يُكلّم غلمانه بلغاتهم وفيهم ترك وروم وصقالبة، قال الراوي: فتعجّبت من ذلك وقلت: هذا ولِد بالمدينة ولم يظهَر لأحدٍ حتى مضى أبو الحسن (عليه السلام)، ولا رآه أحد، فكيف هذا؟ وبينما يُحدّث نفسه بذلك إذ أقبل الإمام (عليه السلام) عليه وقال له: (إنّ الله جل ذكره أبان حجّته مِن سائر خلقه، وأعطاه معرفة كلّ شيء، فهو يعرِف اللغات والأنساب والحوادث، ولولا ذلك لم يكن بين الحجّة والمحجوج فرق).(٢٦٢)
فقد دلّت هذه الرواية على أُمورٍ رئيسية ثلاثة:
الأمر الأوّل: أنّ الإمام (عليه السلام) كان يمتلك غُلماناً كثيرين.
ولعلّك تتوسّع في الظنِّ إلى الاعتقاد بأنّه كان يملك إلى جانب ذلك ما يوازيه ويقضيه مِن الدار الواسعة والأموال والعلاقات.
وهذا، لو فُرِضت صحّته فهو ناشئ من أحد منشأين:
المنشأ الأوّل: ما سبَق أنْ عرفناه من السياسة التي اتبعها العبّاسيّون تجاهه وتجاه والده وجدّه (عليهم السلام)، تلك السياسة التي كانت قائمة – بحسب التحليل – على ركائز ثلاثة: أوّلها: تقريب الإمام من البلاط والدمج بالحاشية.
ثانيها: مراقبته والفحص عن أُموره صغيرها وكبيرها جملةً وتفصيلاً.
ثالثها: إكرامه، واحترامه ظاهراً، لأجل ذرِّ الرماد في عيون الناس، وإسكات من يحاول الاحتجاج على مراقبته ومضايقته.
ومن الطبيعي أنْ يحتاج تقريبه من البلاط إلى حياة مرفّهة توازي كلّ مَن هو قريب من البلاط ومندمج في الحاشية، ولا يمكن أنْ تدرك الدولة العبّاسية غير ذلك، كما أنّ الدولة كلّما شدّدت على المراقبة والمطاردة احتاجت إلى رماد أكثر لتذره في عيون الناس بطبيعة الحال.
ومن الطبيعي أنْ نتصوّر أنّ الإمام قد حصَل على عدد من هؤلاء الغلمان نتيجةً لهذه السياسة، والإمام يتقبّلها لأمرين: الأوّل: تمشّياً مع سياسته السلبيّة تجاه الدولة وتجنّباً لإثارة الخلاف معها، الثاني: كون ذلك في مصلحة العبيد أنفسهم، من حيث إنقاذهم من براثن الباطل والانحراف وانتقالهم إلى طريق معرفة الحق..، سيرهم في طريق الانعتاق في نهاية الشوط.
المنشأ الثاني: ما عرفناه أيضاً من أنّ الإمام (عليه السلام) بصفته الرئيس الأعلى لمُواليه والمؤمنين به، يستقطب بحسب الإمكان، كميّات الأموال التي كانت ترِد إليه من الأطراف مِن الحقوق الشرعيّة وغيرها ممّا يرسله مُواليه، وكان يصرف القسم الأكبر منها على المصالح الاجتماعية والإسلاميّة لأصحابه ومواليه، وقد يبقى عنده – بعد ذلك – كميّة من الأموال التي يستطيع الحصول بها على عدد من العبيد، لأجل مصالحه العامّة والخاصّة ومصالح العبيد أنفسهم أيضاً.
ولا يفوتنا في هذا المجال أنْ نحتمل – على الأقل – أنّ جملة الأموال قد ترِد إليه ـ حين ترِد ـ على شكل عبيد لا على شكل نقود، فيكون ذلك موجباً لتكدّسهم لديه.
على أنّ الرواية عبّرت بالغلمان، والغلام في اللغة: العبد والأجير.. فربّما كان عدد منهم أحراراً ولم يكونوا عبيداً، كان يستأجرهم للقيام بأُمورٍ معيّنة تعود إلى مصالحه الخاصّة والعامّة، والرواية لم تدِل على اجتماعهم دفعةً واحدة ليُقال: أيّ حاجةٍ إلى هذا المقدار من الإجراء يوميّاً.
الأمر الثاني: ممّا يُلاحظ دلالة الرواية عليه، كما قُلناه أنّ القاعدة العامّة تقتضي كون الإمام خلال حياة أبيه أنْ يكون منعزلاً عن المسؤوليّة فارغاً عن شؤون القيادة وأعمالها، وتطبيقاً لهذه القاعدة كان الإمام الهادي (عليه السلام) يحجب ابنه عن المجتمع ويُبعده عن العلاقات العامّة.
وكان التركيز على الإمام العسكري (عليه السلام) من هذه الناحية أشدّ، تهيئة الذهنية العامّة لتقبل احتجابه تقديماً لتهيئتها لغيبة الإمام المهدي (عليه السلام)، على ما سوف نشير إليه.
الأمر الثالث: إنّ الإمام (عليه السلام)، مضافاً إلى هدايته لغُلمانه المَوالي ولإقامة الحجّة عليهم، فإنّه أقام الحجّة على الرواي أيضاً، بعد أنْ تعجّب من معرفة الإمام بمختلَف اللغات، وكان حاصل مُراد الإمام في جوابه: أنّ الإمام يجب أنْ يكون المثال الأعلى للشعب المسلم وخير أفراد الأُمّة الإسلامية، إذا فُرِض أنّه كان جاهلاً باللغات ـ مثلاً ـ فإنّه يكون مشتركاً مع سائر الأفراد في هذا الجهل وليس له عليهم مزية، وهو معنى قوله (عليه السلام): لم يكن بين الحجّة والمحجوج فرق، ومِن ثمّ جعل الله تعالى للإمام هذه الخصوصية وهي العِلم بكلِّ شيء، حتى يتحقّق فعلاً أنّه أفضل سائر الأُمّة الإسلامية.
ويندرج في هذه النقطة من مواقف الإمام (عليه السلام)، ما رُوي من أنّ رجُلاً بالأهواز ناظَر رجُلاً من الثنويّة، بقصد إفحامه وإقامة الدليل الإسلامي الصحيح ضدّه، ولكنّه كان ضعيف الثقافة الإسلامية، فبدَل أنْ يؤثّر فيه تأثّر منه، وقويَت حجّة ذلك الثنَوي في نفس الرجل، ثمّ أنْ قدِم سامرّا... يقول: فحين رأيت أبا محمّد أومأ بسبّابته: أحد أحد، فخرَرْت مغشيّاً عليَّ.(٢٦٣)
أقول: إنّما تكون هذه الإشارة دليلاً على المطلوب، مع أنّها تكرار لنفس الدعوى بدون زيادة.. باعتبار أنّ الإمام استطاع استعمال المعجزة لإثبات الحجّة، فيكون في مستطاع هذا الرجل لأنْ يقول في نفسه: بأنّ هذا الإمام قطعيِّ الصدق باعتبار معجزته ـ وهي علمه بما في نفسي بدون سابق معرفة ـ وهو يرشدني إلى أنّ الربَّ الذي وهبَه هذا العِلم ربٌّ واحد لا إله إلا هو، إذن فيثبت المطلوب، بالدليل الإنّي باصطلاح الفلاسفة.
ويندرج في هذه النقطة أيضاً، ما روي من إقامته للحجّة على رجلٍ من وفد جاء إلى سامرّاء من الأهواز من مَوالي الإمام عليّ (عليه السلام).
وقد صادف يوم وصول الوفد، يوم خروج السلطان إلى صاحب البصرة ـ على حدِّ تعبير الرواية يعني خروج الموفق لمنازلة صاحب الزنج الذي كان مسيطراً على منطقة البصرة والأهواز ـ وكان الإمام العسكري (عليه السلام) خارجاً من موكب السلطان، أقول: وهذا تطبيق جزئي لسياسة دمج الإمام بحاشية البلاط.
وإذ يرجع الإمام يمرُّ في طريقه على جماعة الوفد، وحين يقرب منهم يقِف ويمدّ يدَه إلى قلنسوته فينتزعها عن رأسه ويمسكها بيده ويمرّ بيده الأُخرى على رأسه، ثمّ يلتفت إلى رجلٍ من الحاضرين فيبتسِم في وجهه... ويكون لهذا الموقف بالغ التأثير في نفس الرجل، فيُبادر إلى القول: أشهد أنّك حجّة الله وخيرته، قال الراوي: فقلنا: يا هذا، ما شأنك؟
قال: كنت شاكّاً فيه، فقلت في نفسي: إنْ رجَع وأخَذ القلنسوَة مِن رأسه قلتُ بإمامته.(٢٦٤)
ويطيب لي أنْ أُعلّق على هذه الرواية بما يلي:
أوّلاً: إنّنا نستطيع أنْ نحدّد تاريخ مجيء هذا الوفد من الأهواز إلى سامرّاء، بعد أنْ عرفنا أنّه وقَع في اليوم الذي عقد فيه المعتمد للموفق قائداً لحرب الزنج، ونحن نعرف من التاريخ العام أنّ ذلك قد وقَع في ربيع الأوّل من عام ٢٥٨ هـ... وأنّ المعتمد قد رَكِب معه يُشيّعه حين خروجه(٢٦٥) ومِن هنا نعرف أنّ الإمام (عليه السلام) كان في موكِب المعتمد.
ثانياً: إنّ القواعد الشعبية الموالية للإمام (عليه السلام)، قد اتسعت وشملت كثيراً من المناطق الإسلامية، وكانوا يرجعون في تحديد وضعهم الديني والاجتماعي والاقتصادي إلى الإمام، ويتمّ ذلك بأحد طريقين:
الطريق الأوّل: إرسال الوفود، لنقل الأموال التي تحصل من الحقوق والضرائب الإسلامية وتسليمها إلى الإمام، ولنقل الاستفتاءات والأسئلة حول مختلف الأحوال الشخصيّة والاجتماعية والعقائدية من أهل البلاد، ومعرفة جوابها من الإمام، وقد ورد هذا الوفد من الأهواز ليقوم بمثل هذه المهمّة.
الطريق الثاني: الاتصال بوكلاء الأئمّة (عليهم السلام): فإنّه كان لهم وكَلاء في مختلف أنحاء البلاد الإسلامية، وفي كلِّ منطقة تخضَع للإمام بالولاء، يكون الوكيل مشرفاً عامّاً على مصالحهم في حدود تعاليم الإمام وقواعد الشريعة الإسلامية، وسيأتي من الأخبار الكثيرة الدالّة على ذلك.
ثالثاً: لعلّك لاحظت معي كيفيّة إقامة الحجّة على هذا الرجل على شكلٍ سرّي لا يطلع عليه غيره، ولا يُمكن أنْ يدخل تحتَ رقابةٍ أو ضبط، ولو لن ينبس الرجل ببنتِ شَفَة لبقِيَت الحجّة مكتومة من غيره إلى الأبَد، وبهذا قد حصَل الإمام موالياً متيقّناً بإمامته، من دون دخوله تحت طائلة رقابة الدولة.
الموقف الثاني: جهاده العلمي.
من حيث قيامه بمسؤوليته الإسلامية في ردّ الشبهات وإقامته الحق، بطريق المناقشة العلمية والجدَل الموضوعي، أو إصدار البيانات العلمية أو تأليف الكُتُب ونحو ذلك.
فمِن ذلك موقف الإمام (عليه السلام) من الكندي (أبي يوسف يعقوب بن إسحق) فيلسوف العراق في زمانه، حين أخَذ في التأليف في تناقض القرآن، وشغَل نفسه بذلك وتفرّد به في منزله، فسلّط الإمام عليه أحَد طلاّبه بكلامٍ قاله له: جعله يتوب ويحرق أوراقه.
وملخّص الفكرة التي بذرها الإمام في ذِهن هذا الفيلسوف، بعد أنْ وصَفه لتلميذه أنّه رجلٌ (يفهم إذا سمِع)... هو احتمال أنْ يكون المُراد بالآيات القرآنيّة غير المعاني التي فهِمَها وذهَب إليها.
وحين ذكر له تلميذه هذا الاحتمال فكّر في نفسه ورأى ذلك مُحتَملاً في اللغة وسائغاً في النظر، فقال: أقسَمت عليك إلاّ تخبرني مِن أين لك؟ فقال: إنّه شيءٌ عرَض بقَلبي فأوردته عليك، فقال: كلاّ، ما مثلَك مَن اهتدى إلى هذا، ولا مَن بلَغ هذه المنزلة، فأخبرني مِن أين لك هذا؟ فقال: أخبرني به أبو محمّد، فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا إلاّ من ذلك البيت. ثمّ إنّه دعا بالنار وأحرَق جميع ما كان ألّفه.(٢٦٦)
وهذه الرواية تدلّ على أنّ الكندي مرّ بمرحلةٍ فكريّةٍ لم يكُن يعترف فيها بالإسلام، وهو وإنْ كان أمراً محتمَلاً، إلاّ أنّنا لا نستطيع التشبّث بهذه الرواية ضدّ الكندي؛ فإنّها من المراسيل التي لا تصلح للإثبات التاريخي،(٢٦٧) ولم نجدها في المصادر الأُخرى لتاريخنا الخاص، كما لم نجِد ما يوازيها في تاريخ الكندي نفسه، في حدود ما اطلعنا عليه من مصادر.
ومن بياناته العلمية إيضاحه لأبي هاشم الجعفري، وهو من خاصّة أصحابه مسألة خلْق القرآن(٢٦٨) وله (عليه السلام) بيانات تفصيلية في تفسير القرآن، وفي عصمة الملائكة وفي الأخلاق الفاضلة.(٢٦٩)
ويذكر له ابن شهر آشوب(٢٧٠) مُرسلاً، بياناً ضافياً أرسله (عليه السلام) إلى عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي، وهو من أجلّة عُلمائنا المتقدّمين فقهاً ووثاقةً، يُخاطبه فيه: (يا شيخي، يا أبا الحسن)، ونحن نعرف أنّ ابن بابويه توفّيَ عام ٣٢٩هـ(٢٧١) فتكون وفاته بعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) المتوفّى عام ٢٦٠هـ بتِسع وستّين عاماً، فمِن المحتمل أنّه (عليه الرحمة) عاصَر الإمام شاباً في نحو العشرين من العمر، وكان وهو في مقتبل العمر شيخاً جليلاً له المرتبة الفضلى التي تؤهّله لأنْ يُخاطبه الإمام بهذا الأُسلوب والله العالم بحقائق الأُمور.
وعلى أيّ حال، فالإمام – حسَب الرواية – يؤكّد في بيانه هذا على غيبة ولده الإمام المنتظر (عليه السلام)، وعلى الخلق الذي ينبغي أنْ يتحلّى به الفرد المسلم في أيّام الغيبة، وهو الصبر وانتظار الفرَج، فيكون هذا البيان إحدى تمهيداته (عليه السلام) للغيبة، وسوفَ نعرض لها في مستقبل البحث.
ونُسِب إليه أيضاً، بشكلٍ غير موثوق، التفسير المشهور: بتفسير الإمام العسكري، وهو يحتوي على تفسير سورتي الحمد والبقرة باستطرادات كثيرة حول مناقشاتٍ دينيّة أو مذهبية أو روايات تاريخية وغير ذلك، وهو ـ على أيّ حال ـ ليس بقلم الإمام (عليه السلام)، بل بتقرير بعض طلاّبه عن تدريسه إيّاه، فكان (عليه السلام) يدرس الطالب حسَب ما يَراه مناسباً مع فهمه، وكان الطالب يتلقّى عنه ويكتب ما يفهمه منه، ومِن هنا جاء مستوى التفسير منخفضاً عن مستوى الإمام بكثير، على أنّ روايته ضعيفة، لا تصلح للإثبات التاريخي.
ونُسِب إليه أيضاً كتاب ترجمة في جهة رسالة المقنعة، يشتمل على أكثر من علم الحلال والحرام، ألّفه سنة خمسٍ وخمسين ومئتين، وأوّله: أخبَرني عليّ بن محمّد بن موسى(٢٧٢) يعني والده (عليه السلام)، إذن فهو كتاب في الفقه بنحو الرواية.
وإذا نظرنا، نجد أنّ المقنعة كتاب في الفقه للشيخ المفيد أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان، أحد مشايخ الطائفة الإجلاّء وعلمائها القدماء. المتولّد سنة ٣٣٦هـ والمتوفّى عام ٤١٣هـ. وقد كتب عليه الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي قدّس الله روحه شرحه المشهور الموسوم بتهذيب الأحكام.
فخرّج فَتاواه كلّها من الأخبار، أقول: وهذا الكتاب لا يُناسب أنْ يكون هو المقصود؛ لوجود البُعد الزمني بينهما، إذ كانت ولادة الشيخ المُفيد متأخّرة عن وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) بستٍّ وسبعين سنَة، ولا نعلَم بوجودِ كتابٍ آخَر بهذا الاسم في عصره (عليه السلام).
على أنّه لم يعرف معنى قوله: كتاب ترجمة في جهة رسالة المقنعة، فهل هو نقلٌ لهذا الكتاب من لغةٍ أُخرى، أو هو استدراك عليها أو ردّ عليها أو تخريج لفتاواها أو أنّه مكتوب على غرارها؟.. كلّ ذلك وغيره محتمل.. والله العالم، على أنّ الرواية في المناقب مرسلة غير قابلة للإثبات التاريخي، وهذا الكتاب غير موجود في اليَد فِعلاً، ومعه فلا يُمكن نسبته إلى الإمام (عليه السلام).
الموقف الثالث: موقفه (عليه السلام) تجاه أصحابه.
محذراً لهم من الوقوع في الشرك العبّاسي، أو معيناً لهم على نوائب الدهر من الناحية الاقتصادية والاجتماعية.
والإمام (عليه السلام) في هذا الموقف يُمارس نشاطه، بصفته إماماً لمُواليه، والمسئول الأعلى عن مصالحهم وأغراضهم الإسلامية.
وينقسم هذا الموقف إلى قسمين:
القسم الأوّل: قضاء الإمام للحاجات الشخصية الخاصّة بأصحابه، كإرشادهم إلى حقيقةٍ عقائدية أو الدعاء لهم بمجيء ولد أو الاقتراح عليهم بتسميته، أو الدعاء بالشفاء من المرض أو إعطائهم كمّيات محدودة من المال، ونحو ذلك، وهو ما يخرج بنا استقصاؤه عن الغرض المقصود.
القسم الثاني: وقوف الإمام لمصالح أصحابه وشدّ أزرهم من الناحية الاجتماعية أو السياسية، الاقتصادية، وهذا ما نحاول استعراضه فيما يلي وتحديده في عدّة نقاط:
النقطة الأُولى: تحذيره (عليه السلام) لأصحابه من الوقوع في الشرك العبّاسي أو تبشيره لهم من النجاة منه، فهنا – باعتبار ذلك ـ جانبان:
الجانب الأوّل: تحذيره (عليه السلام) إيّاهم من الوقوع في الشرك العبّاسي أو تهيئته الوسائل للنجاة منه.
فمِن ذلك ما سبَق في موقفه (عليه السلام) مع الخلفاء أنّه كتَب إلى أحد أصحابه قبل موت المعتز بنحو عشرين يوماً: (الزم بيتك حتى يحدث الحادث)(٢٧٣) يعني بذلك موت المعتز، وكأنّه (عليه السلام) كان يرى عليه خطراً يُحيط به لو أنّ الرجل خرَج مِن منزلة في حياة المعتز.
ومن ذلك، أنّه كتب بنفس المناسبة، وهو موت المعتز، إلى محمّد بن عليّ السمَري، وهو من خاصّة أصحابه ورابع نوّاب ولده الحجّة المهدي في غيبته الصغرى، كتب إليه مخاطباً أصحابه: (فتنةٌ تضلّكم، فكونوا على أهبة). قال السمَري: فلمّا كان بعد ثلاثة أيّام وقَع بين بني هاشم، وكانت لهم هِنةٌ لها شأن، فكتبت إليه: أهي هذه؟ قال: (لا. ولكن غير هذه فاحترسوا). فلمّا كان بعد أيّام كان من أمر المعتز ما كان.(٢٧٤)
ويلاحظ في هذه الرواية عدة أمور:
الأمر الأوّل: احتجاب الإمام (عليه السلام)، ومخاطبة أصحابه عن طريق الخطابات المكتوبة وعدَم المواجهة والمشافهة، ويندرج هذا ضمن التخطيط الذي كان يتّبعه (عليه السلام) للتمهيد إلى الغيبة، على ما أشرنا وسيأتي تفصيله.
الأمر الثاني: أنّه ما الذي وقَع بين بني هاشم، حين كانت لهم هنةٌ ذات شأن؟.. لم يشأ الراوي الإفصاح عن ذلك ولم يشأ التاريخ بيانه أيضاً، ولعلّ نِزاعاً أو شغَباً وقَع بينهم نتيجة لمصالح خاصّة أو انحراف لدى بعضهم.. فكان لهم نتيجةً لوقوع هذا الحادث هنة.. يعني قد اتضحت أمام الآخرين إحدى نقاط الضعف، التي كان ينبغي أنْ تختفي عنهم وأنْ يرتفع الهاشميّون عن مستواها فيما بينهم.
الأمر الثالث: إنّنا نستطيع أنْ نفهم من قوله: فكان من المعتز بعد إمامة الإمام العسكري (عليه السلام).
ولكنّنا ينبغي أنْ نلوذ بالصمت تجاه السؤال عنه المصلحة التي يراها الإمام في تحذيره لأصحابه من موت المعتز، وما الذي كان يحدث لأصحابه حين موت المعتز زيادة على حالهم الجارية آنئذ، لو لم يأخذوا حذرهم؟.. هذا ممّا لا يُستطاع الجواب عنه تاريخياً، وإنّما هو موكول إلى الظروف والملابسات التي يقدّرها الإمام (عليه السلام) في العصر الذي يعيشه.
ولعلّنا نستطيع أنْ نقدّم لذلك أطروحتين محتملتين:
الأطروحة الأُولى: أنّ الدولة حين انتهاء رئاسة شخص وابتداء رئاسة خلَفه، تكون عادةً في ضعفٍ وهبوط، ويكون في هذه الفترة من الهبوط نشاطٌ ملحوظ للحاشية والبِطانة والوزراء ونحوهم؛ لأجل صيانة أساس الحُكم والكيان القائم عند تبدّل الرئيس، وهذه الفترة كانت تعيشها الأُمّة الإسلاميّة بين كلِّ خليفتين، وبالطبع.. يكون الجزء الأكبر من الحذر والمراقبة موجهاً ضدّ الإمام وأصحابه، بصفتهم أهم الجهات المعارضة للدولة.
وحيث كانت سياسة الإمام (عليه السلام) قائمةً على نوع من السلبية تجاه الدولة.. فقد أمَر أصحابه بالصمت والكف عن النشاط الاعتيادي، ما دامت الدولة في حالة تأهّبٍ وحذَر، ريثما تعود المياه إلى مجاريها، ويستتبّ الأمر للخليفة الجديد.
الأطروحة الثانية: إنّ مراد الإمام التحذير ممّا وقَع عام ٢٥٤هـ حيث أوقَع مُفلِح – وهو أحد القوّاد المُوالين للحكومة – بأهل قم، فقتَل منهم مقتلةً عظيمة،(٢٧٥) ونحن نعرف ما في قم من القواعد الشعبية المهمّة للإمام (عليه السلام) وبينهم الكُبَراء والعلماء والأعيان، وهذا العام هو أوّل أعوام تولّي الإمام العسكري للإمامة بعد أبيه.
ومِن هنا نستطيع أنْ نفترض أنّ تحذير الإمام كان مرسَلاً إلى قم قُبَيل وقوع هذا الحادث، لأجل أنْ يأخذ أصحابه أهبتهم تجاهه، وهذا الحادث وإنْ نُسِب في الرواية – على فرض إرادته – إلى المعتز، حين قال الراوي: فكان من أمر المعتز ما كان، إلاّ أنّه لا ينافي قيام (مفلِح) به، فإنّ القائد إنّما يقوم بأعماله انطلاقاً من أوامر الخليفة، فصحّ نسبته إليه.
الجانب الثاني: تبشيره (عليه السلام) لأصحابه بالنجاة من بعض ما كان يقع عليهم من الحيف والسجن ونحوه.
ولا يخفى ما في ذلك من رفع لمعنويّاتهم، وتجديد لاستعدادهم إلى العمل الجديد.. وتركيز إيمانهم بسبَب تحقيق النبوءة بالبشارة.
فمِن ذلك: إنّ الإمام حين يكون هو وبعض أصحابه في سجن المهتدي العبّاسي يقول لأحدهم: في هذه الليلة يبتر الله عمره، قال الراوي: فلمّا أصبحنا شغَبَ الأتراك وقتل المهتدي وولّيَ المعتمد مكانه، وقد سبَق الحديث في ذلك.
ومن ذلك: موقفه (عليه السلام) تجاه جماعة من أصحابه كانوا رهن الاعتقال تحت إشراف صالح بن وصيف، وهم: أبو هاشم الجعفري، وداود بن القاسم، والحسن بن محمّد العقيقي، ومحمّد بن إبراهيم العمري وغيرهم، فبينما هُم فيه إذ يدخل عليهم الإمام ومعه أخوه جعفر، فيخف الجماعة لاستقباله والترحيب به فيقول لهم فيما يقول: (لولا أنّ فيكم مَن ليس منكم لأعلمتكم متى يُفرَج عنكم)، ويومي إلى جمحي كان معهم في الحبس يدّعي أنّه علوي، ويأمره بالخروج فيخرج، قال الراوي: فقال أبو محمّد: هذا ليس منكم فاحذروه، فإنّ في ثيابه قصّةٌ قد كتَبها إلى السلطان يُخبره فيها بما تقولون فيه... فقام بعضهم ففتّش ثيابه فوجَد القصّة يذكرنا فيها بكلِّ عظيمة.(٢٧٦)
ولعلّك تلاحظ مقدار صرامة الدولة في ملاحقة أصحاب الإمام (عليه السلام) وملاحقتهم، حتى في أثناء الاعتقال، حيث وضَعت عليهم عيناً يرفَع عنهم التقارير إلى الدولة، من دون أنْ يعلموا بهويّته، وقد كان بارعاً في أداء عمله بادعاء كونه علويّاً لئلاّ يكون لهم حرَج في التكلّم أمامه.
ومن هنا نرى أنّ الإمام يكشفه أوّلاً لأصحابه أمام هذا الرجل نفسه، ثمّ يُحذّرهم منه، ثمّ يُخبرهم بالتقرير الذي يحمله، أمّا تفتيش ثياب الرجل فهو (خطوة ثورية) لم تكُن بأمرِ الإمام لمنافاتها لمنهج السلبية.. وإنّما كان ارتجالاً من أحد أصحابه حيث حمله الغضَب من هذا الرجل على ذلك، ولم يردعه الإمام لأجل الإظهار العمَلَي لصِدق قوله عند استخراج التقرير منه.
وسيكون هذا درساً عمليّاً لهذه الجماعة الصالحة لم يكونوا يعرفوه قبل ذلك، وهو إمكان ملاحقة الدولة لهم بالرقابة السرّية حتى في السجن، واحتمال أنْ يكون أحد المسجونين عيناً عليهم، ومِن هنا يكون لِزاماً عليهم تطبيق سياسة السلبيّة حتى في مثل هذه المواطن.
وهناك أمثلةٌ أُخرى لمواقف الإمام هذه، يطول بنا المقام عند استيعابها، على أنّنا لسنا في مقام التفصيل والاستيعاب.
النقطة الثانية: من موقف الإمام تجاه أصحابه: مساعدته لهم بالإمداد المالي لأجل مصالحهم الشخصية والعامّة.
ونحن عرفنا فيما سبَق الموارد الماليّة للإمام (عليه السلام)، حينما تكلّمنا عنها في الإمام الهادي (عليه السلام)، وقلنا إنّها تتكوّن من الأموال التي تُجلَب طِبقاً للأحكام الإسلامية من مختلف بقاع بلاد الإسلام، التي تحتوي على قواعده الشعبية، بواسطة الوكلاء المنتشرين فيها.
وبالرغم من محاولة إخفاء هذه الناحية إخفاءً تامّاً، من قِبل جانب الإمام من جهة وجانب السلطات من جهة أُخرى، والسرّية التامّة التي كانت تكتنف كثيراً منها، إلاّ أنّه وردنا – بالرغم من ذلك – المقدار الكافي لتكوين فكرةً واضحة.
فالإمام (عليه السلام) يقبض من بعض الرسُل أربعة آلاف دينار(٢٧٧) ومِن آخرين مِئة وستّون صرّة من الذهب والفضّة(٢٧٨) ويدفع رسول آخر ما معه من المال إلى المبارك خادم الإمام بأمرٍ منه (عليه السلام)، وكان قد حمَله من الموالين في جرجان(٢٧٩) وستبقى هذه الأموال ترِد إلى حين وفاة الإمام وبعده، فمنها مالٌ جليل جمَعه محمّد بن إبراهيم بن مهزيار(٢٨٠) ومنها سبعمئة دينار يأتي بها أحد الموالين(٢٨١) وثمانية عشَر قيراطاً من... الذهب، وحبّة يأتي بها شخصٌ آخر،(٢٨٢) فكن على ذكر من ذلك، فإنّه يشكّل إحدى النقاط الرئيسيّة لنشاط نوّاب الحجّة المهدي (عليه السلام) بعد الإمام العسكري (عليه السلام).
وإذ يتشكّل من هذه الواردات المال الضخم الذي يُمكّنه أنْ يسدّ حاجات الآلاف من المحتاجين، ويموّل العشرات من المشاريع الاجتماعية الضخمة.. نرى الإمام الهادي (عليه السلام) فيما سبَق يبذل في إحدى أعطياته تسعين ألفاً من الدنانير لثلاثة من أصحابه، وترى الإمام العسكري الآن يبذل ما يفوق هذا الرقم بأكثر من ضعفة، حيث وصَل الرقم إلى مئتَيّ ألف دينار، أعطاه لاثنين مِن مواليه.
فقد حجّ أبو طاهر بن بلبل، فنظَر إلى عليّ بن جعفر الهمداني وهو يُنفق النفقات العظيمة، فلمّا انصرف كتب بذلك إلى أبي محمّد (عليه السلام)، فأمر لهما بهذا المال.(٢٨٣)
ويفهم من ذلك بوضوح أنّ عليّ بن جعفر الهمداني، كان ينفق النفقات في الحِجاز، والرواية وإْن لم تصرّح بالوجوه التي كان يُنفِق فيها هذه الأموال، حفاظاً على منهج الكتمان، إلاّ أنّ ضخامة الأرقام تلنا على كونه مشروعاً اجتماعياً ضخماً أو عدّة مشاريع، وإقرار الإمام إيّاه وإمداده له يدلّ على إخلاصه وتوفّر المصلحة الإسلامية فيه.
وتستطيع أنْ تلاحظ بوضوح، كيف استطاع الإمام، وهو المضطهد المُمتَحَن مع كلّ مواليه، أنْ يقبض هذه الأموال مِن مواردها وأنْ يعطيها في مصادرها، طِبقاً للمصالح التي يراها، بشكلٍ تقف الدولة العبّاسية تجاهه عاجزةً مكتوفةَ الأيدي عن منعهِ، بالرغم من بذل أقصى وسعها في ذلك، ولا زال في الذهن ما سمِعناه في تاريخ الإمام الهادي، كيف أنّها تُحاول السيطرة على كلِّ مال يرِد إليه، حتى ولو وصَل في جوف الليل، مع ذلك استطاع الإمام العسكري (عليه السلام) أنْ يُسيطر وأنْ يكون له زِمام المبادرة إلى ذلك، باعتبار مسلك السرّية والرمزيّة الذي يلتزمه، الأطراف في الأخذ بهذا المسلك.
وعلى أيّ حال، فهذا مثال لعطائه الضخم ومساعداته الاجتماعية الكبرى، وأمّا أُعطياته على المستوى الخاص، فأكثر من أنْ تُحصى: فمنها: سبيكةٌ من الذهب تقدّر بنحو خمسمِئة دينار أعطاها الإمام (عليه السلام) لأبي هاشم الجعفري، إذ شكا إليه الحاجة، وقال: (خذها يا أبا هشم واعذرنا).
ومنها: المِئة دينار التي أرسلها إليه أيضاً مرفقةً بكتاب، يقول (عليه السلام) فيه: إذا كانت لكَ حاجة فلا تستحِ ولا تحتشِم واطلبها تأتيك على ما تُحِب إنْ شاء الله.(٢٨٤)
ومنها: أيضاً الخمسمِئة درهم التي أعطاها لعليّ بن إبراهيم والثلاثمئة التي أعطاها لابنه محمّد.. أعطاهما دون أنْ يقابلهما.. أوصلها إليهما خادمه،(٢٨٥) وهذا جزءٌ من مخطّطِ الاحتجاب الذي كان يسير عليه الإمام العسكري (عليه السلام) تمهيداً لغيبة ولده المهدي (عليه السلام) وقد سبَق أنْ عرفنا صوراً منه أيضاً.
النقطة الثالثة: موقفة (عليه السلام) في نصح أصحابه وتوجيههم ورفع معنويّاتهم.
إذ هم في معمعة التضحية الاجتماعية الكبرى.. تلك التوجيهات التي تشكّل حجّر الزاوية في تأجيج نار الإيمان ونور الإخلاص، وعاطفة العقيدة عند أصحابه ومُواليه، وزرع روح التضحية والجهاد فيهم.. وهم أحوج ما يكونون إلى التضحية والجهاد.
وهذا التعليم والتوجيه كان مستمرّاً من كلّ إمام من آبائه (عليهم السلام) تجاه مُواليه وأصحابه في عصره، بالشكل الذي يتلائم وحوادث ومتطلّبات ذلك العصر، ومِن هنا نجد أنّ الإمام العسكري يشارك آباءه في هذا التعليم الإيماني والتوجيه الجهادي، حفاظاً على الخطِّ العريض، وسيراً على المخطّط الكبير الذي التزموه (عليهم السلام)، فنجد أنّ شخصاً من أصحابه يكتب إليه يشكو إليه الفقر، وقد سبق أنْ سمعنا شكايات عديدة مماثلة، ونحن نعرف منشأها بوضوح.. إنّ الفرد من أصحاب الإمام (عليه السلام) لو ذاب في الدولة وسايَر الحكّام وباعهم ضميره ونشاطه، لنال عندهم المال الوفير والعيش الرغيد والجاه العريض، وإنّما عانت هذه الزمرة المضطهدة الفقر، باعتبار ما تُحاوله الدولة العبّاسية على استمرار مِن إبعادهم عن المسرح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وتواجه أمامها لديهم صموداً ونُبلاً وإرادة، فكانوا ينزلون همومهم وآلامهم بقائدهم الأعلى وموجّههم الأكبر.. إمامهم العسكري (عليه السلام).
فكان تارةً يتبرّع بالمال، كما سمِعنا، وأُخرى يقوم بالتوجيه الفكري العقائدي، لأجل تصعيد روح التضحية والجهاد والصبر على المصاعب في سبيل الحق الكبير والهدف العظيم، تحت قيادته الرشيدة، فيقول: (الفقر معنا خيرٌ من الغنى مع غيرنا، والقتل معنا خيرٌ من الحياة مع عدوّنا.. ونحن كهفٌ لِمَن أعتصَم بنا، مَن أحبّنا كان معنا في السنام الأعلى ومن انحرف عنّا فإلى النار).(٢٨٦)
ومن ذلك أنّ أبا هاشم، وقد عرفناه من خاصّة أصحاب الإمام (عليه السلام)، حين يرى معالِم الانحراف في المجتمع واتباع المصالح والشهوات، وهو يعلم أنّ حزب الله هُم المُفلحون وأنّ حزب الشيطان من أصحاب السعير.. يقول: اللهمّ اجعلني في حزبك وفي زمرته، إنْ كنت بالله مؤمناً ولرسوله مصدّقاً وبأوليائه عارفاً ولهم تابعاً.. ثمّ ابشر(٢٨٧).. فهذا هو الإنسان الذي يكون في حزب الله.. عادلاً واعياً.. يُمثّل في عقيدته وسلوكه المستوى العالي للتطبيق الإسلامي العادل.. ومن ثمّ يستحق البشارة ببلوغ قصده ونيل الرضا به، والخلود في الجنّة في منتهى شوطه.
ولا يخفى أنّ هذه التعاليم الإسلامية الواعية، لم يكن يبلغها الإمام إلاّ للخاصّة من أصحابه، الذين يتحلّون بالصمود تجاه الضغط الحكومي، والحفاظ على هذه التعاليم وعدم بثّها في متاهات الانزلاق والشبهات.
أمّا سائر القواعد الشعبية المُوالية، فكانت محرومةً بشكلٍ عام، من هذا التوجيه العالي الواعي؛ وذلك لعدّة أسباب أهمّها أمران: أوّلهما: ما خطَّتْه الدولة للإمام من الانفصال عن قواعده الشعبية بتقريبه إلى البلاط ودمجه في الحاشية، وقد كان رفض ذلك من قِبله (عليه السلام) منافياً لسياسة السلبية تجاه الدولة التي اختطّها وآباؤه مِن قبله. وثانيهما: إنّ الفرد العادي لهذه القواعد يعيش المعترك بكلّ ثقله، ويتّصف عادةً بضعف الإرادة تجاه التيّار الحكومي، فمن المحتمل أنْ يتسرّب منه هذا التوجيه الواعي المضاد للدولة و(الخارج على القانون!) إلى الجهات الحاكمة، وهو ما لا يريده الإمام (عليه السلام).
الموقف الرابع: تمهيده (عليه السلام) لغيبة ولده المهدي (عليه السلام).
إنّ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) حين يعلم بكلّ وضوح تعلّق الإرادة الإلهية الأزلية بغيبة ولده؛ لأجل أنْ يكون مذخوراً لإقامة دولة الحق، وتطبيق العدل الإسلامي على الإنسانية، والأخذ بيد المستضعفين في الأرض والموتورين من دوَل الظلم والانحراف... ليتبوّأوا فيها حيث يشاؤون.. يبدّل خوفهم أمناً.. يعبدون الله لا يشركون به شيئاً.. فيُؤسّسوا ـ بذلك ـ دولة المؤمنين المتّقين الذين لا خوف عليهم ولا هُم يحزنون.
حين يعلَم (عليه السلام) بذلك.. يعرف أنّ عليه جُهداً مضاعَفاً ونشاطاً متزايداً في التمهيد لغيبة ولده، والسبب في ذلك: أنّ البشر – بشكلٍ عام – مربوطون في مدركاتهم بالحسّ والعادة التي يعيشونها وفي حدود الزمان والمكان، ومن الصعب على الشخص الاعتيادي أنْ ينظر نظَراً معمّقاً تجريديّاً، أسمى من هذه الحدود، ما لَم يطّلع الفرد على البرهان الصحيح المدعم بالإيمان الراسخ القائل: بأنّ الكون أوسَع من العالم المنظور ومن حدود الزمان والمكان.. وأنّ في عالم الوجود قِوى كبرى وإرادات واسعة، تستقي تدبيرها وإدارة شؤونها من الإرادة الأزليّة والحكمة اللانهائية.. من الله تعالى.
والإنسان كلّما سما روحيّاً وتعمّق فكريّاً، استطاع استجلاء هذه الحقيقة الكبرى أكثر، كما أنّه كلّما تسافل روحيّاً وأخلَد إلى الأرض واتبع هواه وتغافَل عن صوت عقله.. كلّما كان أبعد من ذلك وأكثر انشداداً إلى حسّه وعادته.
ولم يكن المجتمع الذي يعيشه الإمام (عليه السلام).. لم يكن – بشكلٍ عام – إلاّ متكوّنا من الإنسان المتسافل روحيّاً، المشدود إلى مصالحه وخدمة ذاته وانحرافه بعيداً عن عمق الإيمان وعن سموّ الروح ودقّة الفكر، لا يختلف في ذلك الحاكم عن المحكوم والمولى عن العبد، ولعلّ فيما استعرضناه في الفصل الأوّل من التاريخ العام لهذا العصر ما يعطي فكرةً واضحة عن ذلك.
نعم.. يُستثنى من ذلك – بشكلٍ وآخر – رجالُ الفكر في ذلك العصر وقادة النهضة العلمية فيه.. بما فيهم أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) الذين تربّوا على توجيهات الإمام العسكري وآبائه (عليهم السلام)، إلاّ أنّ ذلك لا يكفي في تحقيق الغرض المنشود، فإنّ فكرة الغيبة يجب أنْ تكون عامّة بين سائر الناس وليست خاصّة برجال العلم والفكر والنظر.
والغيبة، التي يجد الإمام نفسه مسؤولاً عن التخطيط لها، حادث قليل النظير في تاريخ البشريّة ويحتوي إلى حدٍّ كبير على عنصر غيبي، خارج عن حدود المحسوس والمعتاد من الحياة فإنّ عنصر اختفاء المهدي (عليه السلام) وإنْ أمكن تفسيره تفسيراً طبيعيّاً(٢٨٨) إلاّ أنّ طول عمره مُتمحّض بالإرادة الإلهيّة الخاصّة وبالعامل الروحي النازل من فوق الكون المنظور.. لأجل حفظ مصلحة الإسلام العُليا، وانجاز يوم الله الموعود.
إذن فستكون الغيبة التي يُمهّد لها الإمام العسكري (عليه السلام) أمراً غريباً على الأذهان بعيداً عن الطباع، يحتاج إلى تكرارٍ وتفهيم وجُهدٍ مضاعَف كبير.
وكانت الإرهاصات المُسبقة والتبليغات المتوالية عن المهدي.. متتابعة متواترة عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله).. رواها مؤلّفوا الصحاح وهم معاصرون أو متقدّمون على هذه الفترة بما فيهم البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل، ومتتابعة متواتره عن الأئمّة (عليهم السلام) يرثها أصحابهم جيلاً بعد جيل حتى أصبحت من ضروريّات المذهب، بل من قطعيّات الإسلام.. وكان كلّ إمام يقوم بدوره الكافي في التبليغ والإرشاد إلى هذه الفكرة الكبرى.
وقد كان لكلّ هذه التبليغات أثرها الكبير في ترسيخ فكرة المهدي في نفوس المسلمين بشكلٍ عام.. يأخذ كلّ فردٍ منهم ما يُناسبه منها بحسب عُمق إيمانه وسعة تفكيره واتجاه مذهبهه في الإسلام، وستعرف أنّها استطاعت أنْ تثير اهتمام السلطة الحاكمة بشكلٍ حاد ومركّز، لا بالإيمان بها، بل بالوقوف ضدّها ومحاولة القضاء عليها.
فالإمام العسكري (عليه السلام)، وهو يواجه المسلمين بهذه الفكرة، يجد بالرغم من إخلادهم إلى مصالحهم وانحرافهم وحدود حسّهم.. يجد عندهم مسبقات ذهنيّة وقاعدة فكرية مشحونة بالإيمان بفكرة المهدي والاعتقاد بإمكان وقوعها، ممّا يجعل له أرضية ممهّدة للسير من قبله بهذا الشوط إلى نهايته.
وإنّما الأمر الكبير الذي يتحمّل الإمام العسكري (عليه السلام) مسؤوليته، بصفته والداً مباشراً للمهدي (عليه السلام).. هو فكرة التطبيق، وأنّهم قد ظلّهم زمان الغيبة وأوشكَت على الوجود والتنفيذ، وهو أمرٌ صعب بالنسبة إلى الفرد العادي استطيع أنْ اسمّيه بـ (الصدمة الإيمانية)، فإنّ هناك فرْقاً كبيراً في منطق إيمان الفرد العادي بين إيمانه بالغيب بشكلٍ مؤجّل لا يعلم أمده إلاّ الله تعالى ولا يكاد يحسّ الفرد بأثره في الحياة، وبين الإيمان بالغيب مع اعتقاد تنفيذه في زمان معاصر ويكفيك أنْ تتصوّر نفسك وحالتك الإيمانية الوجدانية إذا أخبرك شخص لا تشكّ بصدقه بقرب حدوث يوم القيامة مثلاً أو قرب موتك مثلاً، فإنّ مثل هذا الخبَر يُعتبَر صدمة للإيمان؛ لأنّه يحتاج إلى مؤونة زائدة وقوّة مضاعَفة من الإيمان والإرادة والتفكير.. ويحتاج الفرد فيه إلى حشدِ كلّ ما في نفسه من قِوى الإيمان ومقدّمات البرهان، بالشكلِ الذي يسعفه بالقناعة بأمرٍ غيبي كهذا.
ومِن ثمّ كان على الإمام أنْ يبذل جُهداً مضاعَفاً لتخفيف هذه الصدمة وتذليلها، وتهيئة الذهنية العامّة لتقبّل الفكرة الجديدة، وتعويد أصحابه على الالتزام بما تتطلّبه الغيبة من أنحاء من العقيدة والسلوك، وخاصّة وهو يُريد تربية جيلٍ واعٍ، متحمل للمسؤولية تجاه ذلك ليكون هو البذرة الأساسية لتربية الأجيال الآتية، التي ستبني بجهدها – الغثَّ والسمين – تاريخ الغيبيتَين: الصغرى والكبرى.
فإذا عطفنا على ذلك، ما عرفناه من ظروف الإمام وأصحابه، والمعانات الصعبة التي كانوا يعيشونها من قِبل الدولة، وأخذنا بنظر الاعتبار أنّ فكرة المهدي ـ وهي الفكرة الإصلاحية الثورية الكبرى ـ تُعتبر في منطق الحكّام، أمراً مخوّفاً يهدّد كيانهم ويقض مضاجعهم، ويعتبر التصريح بها والدعوة إليها خروجاً على قانونهم وتمرّداً على أساس دولتهم.. على حين كان الإمام قد اتخذ سياسةَ السلبية والمسالَمة مع الدولة، وعدم مصارحتها بالخلاف.
من كل ذلك نستطيع أنْ نتميّز بكلّ وضوح دقّة مهمّة الإمام (عليه السلام) وصعوبة موقفه، في التوفيق بين سلبيته تجاه الدولة، وبين إيضاح فكرة المهدي للأجيال.
ومن ثمّ سار الإمام على مخطّطٍ معيّن، توصّل به إلى كلا الغرَضَين وحقّق كلا الهدفين كما سنرى.
ونستطيع أنْ نقسّم نشاط الإمام (عليه السلام) حول ذلك إلى قسمين:
أحدهما: نشاطه بلحاظ ولادة المهدي (عليه السلام) وتربيته وصيانته وحجبه عن أعيُن الناس، مع إظهاره لبعض خاصّته ونحو ذلك.
ثانيهما: بيانه لفكرة الغيبة وإفهام الناس تكليفهم ومسؤوليّتهم الإسلامية تجاهها، وتعويدهم على متطلباتها.
أمّا القسم الأوّل، فمِن المُستحسَن إرجاء الحديث عنه إلى الفصل الرابع الآتي، حين نتعرّض لتاريخ المهدي (عليه السلام) خلال حياة أبيه، وسنرى حينئذٍ المواقف التفصيليّة التي اتخذها الإمام العسكري (عليه السلام) تجاه ولده.
وأمّا القسم الثاني، فهو الذي يحسن التعرّض له في المقام، وهو ما يعود إلى موقفه (عليه السلام) تجاه الآخرين في مخطّطه للتمهيد للغيبة، باعتبار المهام الكبرى التي أشرنا إليها.
ويُمكن تحديد نشاطه (عليه السلام) في هذا السبيل ضمن نقاط ثلاث:
النقطة الأُولى: تعاليمه وبياناته عن المهدي، كحلقةٍ من تبليغات آبائه وأجداده عنه (عليه السلام)، مع زيادةٍ جديدة تخصّ الإمام العسكري (عليه السلام) بصفته الوالد المُباشر للمهدي والمخطّط الأخير لغيبته.
وتتّخذ هذه البيانات على لسان الإمام أشكالاً ثلاثة:
الشكل الأوّل: بيان عام كبيانات آبائه (عليهم السلام)، في صفات المهدي بعد ظهوره وقيامه في دولة الحق.
فمن ذلك قول الإمام العسكري (عليه السلام) في جوابه لبعض أصحابه حين سأله عن القائم، إذا قام بمَ يقضي وأين مجلسه الذي يقضي فيه؟، فكتب (عليه السلام): (سألتَ عن القائم، فإذا قام قضى بين الناس بعلمه، كقضاء داود، لا يَسأل البينة).(٢٨٩)
وأودّ أنْ أُشير في هذه الرواية إلى جهتين:
الجهة الأُولى: إنّ السؤال والجواب بين السائل والإمام (عليه السلام) كان بطريق المكاتبة لا المشافهة، وهذا تطبيق لسياسة الإمام في الاحتجاب تمهيداً لفكرة الغيبة على ما سنعرف.
الجهة الثانية: إنّ المزيّة الرئيسيّة لقضاء داود (عليه السلام) هو عدَم المطالبة بالبيّنة، حيث تراه قال للمدّعي: (لقد ظلَمك بسؤال نعجتك إلى نِعاجه)،(٢٩٠) من دون أنْ يلتفت إلى صاحبه فيسأله عن رأيه ولا أنْ يُطالب المدّعي بالبيّنة المثبتة لدعواه.
وعلى أيّ حال، فتطبيق ذلك من قِبل المهدي (عليه السلام) يتوقّف الجزم به على صحّة هذه الروايات التي أعرَبت عنه. وفي بعضها ما يدلّ على أنّه (عليه السلام) يقوم بذلك بعد ظهوره مرّة واحدة امتحاناً لأصحابه واستيثاقاً منهم؛ كما كانت نفس الحادثة بالنسبة إلى النبيّ داوود (عليه السلام) امتحاناً له: (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ). ولعلّنا نعرض إلى تفصيل ذلك في بعض بحوثنا الآتية.(٢٩١)
الشكل الثاني: أنْ يتخذ بيان الإمام (عليه السلام) عن المهدي شكلَ النقد السياسي لبعض الأوضاع القائمة آنئذ، مقترنةً بفكرة أنّ المهدي (عليه السلام) حينما يظهر فإنّه بأمر بتغييرها، وكلّ ما يأمر المهدي بتغيّره فهو باطل للتسالم على كون حكمه قائماً على العدل الإسلامي، كما جاء به رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
فمِن ذلك قوله (علية السلام): إذا خرَج القائم يأمر بهدْم المنابر والمقاصير التي في المساجد.. والمقاصير غرَف معيّنة بناها الخلفاء في المساجد حتى يصلّوا فيها بإمامة الجماعة منفصلين عن جماعتهم، لأجل حفظ غرضين من أغراضهم، هما: الأمن أثناء الصلاة من الاعتداء، وزرع الهيبة في نفوس الآخرين. وهذا العمل ممّا يعتقد الإمام بطلانه، ولا زال من واضحات الفقه الإمامي فساد الجماعة إذا صلّيت بانفصال الإمام عن المأمومين، ومِن ثمّ يكون من الحق أنْ يأمر المهدي بإزالة ذلك عن الوجود.
غير أنّنا نجد الراوي لم يفهم الوجه في ذلك، وتساءل في نفسه مستغرباً: لأيّ معنى هذا، فيقبل عليه الإمام ويقول: معنى هذا أنّها محدثة مبتدعة لم يبنها نبيّ ولا حجّة.(٢٩٢)
الشكل الثالث: أنْ يتّخذ بيان الإمام شكل الوصيّة العامّة والنصيحة التوجيهية الكبيرة، لقواعده الشعبية، وإعطائهم الفكرة الصحيحة الحقّة، فيما هو تكليفهم الإسلامي في سلوكهم النفسي والاجتماعي تجاه ما سيعانونه، من غيبة إمامهم وانقطاعهم عن القيادة المعصومة رَدحاً من الدهر.
فنراه (عليه السلام) يكتب إلى أحد علمائنا الأبرار أبي الحسن عليّ بن الحسين بابويه القمّي، رسالةً بهذا الشأن يقول فيها: (عليك بالصبر وانتظار الفرَج، قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أفضل أعمال أُمّتي انتظار الفرَج.. ولا يزال شيعتنا في حزنٍ حتى يظهر ولدي الذي بشَّر به النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، فصبر يا شيخي يا أبا الحسن علي، وأمر جميع شيعتي بالصبر، فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين).(٢٩٣)
فهذا هو أعلى مستوىً إسلامي واعي، للسلوك الصحيح للفرد المسلم في أثناء الغيبة، ومن هنا نرى الإمام (علية السلام) يؤكّد في عبارته هذه على عدّة مفاهيم:
المفهوم الأوّل: الصبر.
بمعنى تحمّل المشاق والعقَبات والارتفاع فوق مستوى الآلام، التي تنجم عن فعل الظالمين خلال عصر الغيبة، وعن انعدام القيادة الرشيدة الموحّدة، فإنّه يجب أنْ لا تكون المصاعب مثبطات للعزْم وموهنة لقوّة الإرادة التي تحمّلها المؤمن بين جنبيه، تجاه مسالمة الباطل والتعاون مع المُبطلين.
المفهوم الثاني: انتظار الفرج.
وتوقّع اليوم الذي ينفذ الله تعالى به وعده الكبير الذي قطعه على نفسه في كتابه الكريم بقوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً)(٢٩٤)... الوعد بإعطاء القيادة العلميّة والتوجيه البشري العام بيد الزمرة المؤمنة الصالحة، التي كانت في عصور الظلم والفساد مضطهدة خائفة.. الوعد الذي تظهَر به نتائج جهود كلّ الأنبياء والأوصياء والشهداء والصالحين وتتكلّل كلّ متاعبهم بالنجاح.. الوعد الذي يتمّ بتخطيطٍ من الله عزّ وجل وتنفيذٍ من قِبل القائد الأكبر الحجّة المهدي (عليه السلام).
ولا يخفى ما في الانتظار المنسجم مع المبادئ الإسلامية العُليا، من الأثر الايجابي على نفس المؤمن وسلوكه، إذا تصوّرنا ما في اليأس والقنوط من أثَرٍ سلبيٍّ عليه، في إضعاف معنويّاته وكبْح جماحه والكفكفة من نشاطه.. إذا لم يكن لنشاطه أمَل يُرجى أو نتيجةً تُقصَد، على حينِ أنّ هذا الانتظار أو الأمَل يعطيه الدفع الثوري، الكافي إيماناً وسلوكاُ لكي ينخرط الفرد في سلك الأنبياء والشهداء والصالحين.. ويُشارك بمقدار جهده بتمهيد المقدّمات ليوم الله الموعود.
المفهوم الثالث: إعطاء القيادة العامّة في زمن الغيبة إلى العلماء بالله، الذين يمثّلون خطّ الإمام (عليه السلام).
ذلك المفهوم الذي أعطاه الإمام الصادق (عليه السلام) صيغته التشريعية بقوله: (ينظر إنْ من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظَر في حلالنا وحرامنا وعرَف أحكامنا، فليرضَوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكَم بحكمنا فلَم يُقبل منه، فإنّما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ، والراد علينا رادٌّ على الله وهو على حدِّ الشرك بالله).(٢٩٥)
أوضحه وأعطاه صيغته الاجتماعية الكاملة الإمام الهادي (عليه السلام) حين قال: (لولا مَن يبقى بعد غيبة قائمكم (عليه السلام) من العلماء الداعين إليه والدالّين عليه، والذابّين عن دينه بحُجَج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شِباك إبليس ومرَدَته، ومِن فخاخ النواصِب، لَمَا بقيَ أحدٌ إلاّ عن دين الله.. ولكنّهم الذين يمسكون أزِمّة قلوب ضعفاء شيعتنا كما يمسك صاحب السفينة سكّانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عزّ وجل).(٢٩٦)
والأساس العام الذي تقوم عليه هذه البيانات، هو: أنّ المسلمين الممثّلين لخطّ الأئمّة (عليهم السلام) وقواعدهم الشعبية الكبرى يجب أنْ لا تبقى – في زمَن الغيبة وانقطاع القيادة المعصومة ومصدر التشريع – خليّةً عن المُرشد والموجّه والمفكّر المدبّر.. يعطيهم تعاليم دينهم ويرتفع بمستوى إيمانهم وعقيدتهم، ويشرح لهم إسلامهم، ويوجّههم في سلوكهم إلى العدل والصلاح ورضاء الله عزّ وجل، فإنّ من هذه الجماهير – إنْ لم يكن الأكثر – مَن يكون ضعيف الإيمان والإرادة، يحتاج في تصعيد مستواه الروحي وعمله الإيماني إلى مرشد وموجّه، وإلاّ كان لقمةً سائغةً لمَردة إبليس وشباكه من أعداء الدين والمنحرفين وذوي الأغراض الشخصيّة والمصالح الظالمة.
ومن هنا نرى الإمام العسكري (عليه السلام) أيضاً يؤكّد على ذلك، فإنّ ابن بابويه حلقة من سلسلة العلماء الصالحين، فهو يريد أنْ يشجّعه أكبر تشجيع ويجعل له بين قواعده الشعبية عنواناً كبيراً وأمراً نافذاً فيقول له تارة: (يا شيخي يا أبا الحسن). ويقول له تارة أُخرى: (وأمر شيعتي بالصبر)، فكأن مراسلته مراسلة للجميع وتبليغه بالتعليم تبليغ للكل؛ لأنّه هو المُشرف على مصالح هذه الجماهير الموالية للائمّة (عليهم السلام)، في عصره الخاص الذي سيكون من عصور الغيبة في أوّل وجودها.
المفهوم الرابع: إنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده.. والعاقبة للمتّقين.
فليست الأرض لأيّ حاكم من البشر، وإنّما هي بإرادة الله وإدارته.. أنّها لله وإذا كانت لله فهو الذي يعطيها لمَن يشاء من عباده.. وقد شاء الله تعالى أنْ يكون ميراث الأرض والحكم النهائي فيها للمتّقين ليكونوا خيَر خلَف لشرِّ سلَف، فتُملأ الأرض بهم عدلاً بعد أنْ مُلِئت جوراً، وإذا كانت هذه هي إرادة الله، فالمؤمن لا بدّ له أنْ يخضع لها ويقوم بمتطلّباتها.
إذن فليست عصور الظلم والانحراف، التي تعيشها في عصور الغيبة – بالرغم من وضوحها في الأذهان ورسوخها في النفوس – ليست إلاّ نتيجة للإمهال الإلهي الذي قدّره لعُمرِ أيّ حضارةٍ من الحضارات قال الله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ.(٢٩٧) بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)(٢٩٨)، وقال عز وجل: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ).(٢٩٩)
فليس هذا الكفر والانحراف قدراً اضطرارياً أو وضعاً جبرياً، يجب الاعتراف به والخضوع لتيّاره، بل هو مهلةٌ لهم وفسحةٌ في حياة حضارتهم، حتى يستكملوا انحرافهم ويتمرّسوا في ظلمهم وتتمّ الحجّة الدامغة عليهم.. فإذا أراد الله تعالى تنفيذ وعده العظيم، أخذهم بذنوبهم وألبَسَهم نفس اللباس الذي كانوا يضطهدون به المؤمنين: لباس الجوع والخوف، وأورَث الأرض لعباده الصالحين يتبوّأون فيها حيث يشاؤون، تحت راية المهدي (عليه السلام)، ولنعم عقبى المتّقين.
أقول: ومثل هذا الشكل من البيان بجميع مفاهيمه، ممّا يختصُّ به الإمام العسكري (عليه السلام)، ولم يكن ليصدر عن أحد من آبائه (عليهم السلام) لمدى البُعد الزمَني بين عصورهم وعصر الغيبة، وإنّما يصدره الإمام العسكري بصفته الإمام الأخير، فيما قبل عصر الغيبة، والمخطّط المباشر لها والمسؤول الأكبر عن تطبيق مستلزماتها، ممّا يستدعي التفصيل والتأكيد أكثر من ذي قبل بطبيعة الحال.
النقطة الثانية: من موقفه (عليه السلام) تجاه الغيبة:
احتجابه عن الناس، إلاّ عن خاصّة أصحابه، وإيكال تبليغ الأحكام والتعليمات إلى أُسلوب المكاتبات والتوقيعات بينه وبين أصحابه، وإزجاء حاجاتهم بواسطة عدد من خاصّته.
لأنّه (عليه السلام) كان يعلم أنّ المنهج العام لابنه المهدي (عليه السلام) في غيبته الصغرى سيسير على هذا النسَق، وهو احتجاب شخص الإمام مع إيصال التعليمات بواسطة الخاصّة، وهو أمر – كما قلنا – قد يبدو غريباً على الأذهان إذا بدأه المهدي (عليه السلام) بدون سابقة، ولعلّ مضاعفات غير محمودة تنتج من استغراب الناس من ذلك. إذن فلابدّ من اتخاذ منهجٍ خاص لتهيئة الذهنية العامّة لاستساغة هذا الأُسلوب وحسن تقبّله.
أمّا جعل الوكلاء وإيصاء الناس بالرجوع إليهم في مسائلهم ومشاكلهم، فهو ممّا اعتاد عليه الناس ردحاً من الزمن، تحت ظلّ آبائه (عليهم السلام)، فإنّه لم يكن يمكن الارتباط بالبلاد البعيدة ذات القواعد الشعبية المُوالية، إلاّ عن هذا الطريق، وانّما تنحصر المشكلة في الاحتجاب ومخاطبة الناس ـ على طول الخط – عن طريق المكتبات وقبض الأَموال – على الدوام – عن طريق الوكلاء وهو الأمر الذي ينبغي تهيئة الذهنيّة العامّة له وزرعه في المجتمع من جديد.
وكان قد بدأ بالتخطيط لذلك ـ بعض الشيء ـ الإمام الهادي (عليه السلام)، ليكون تعوّدهم على هذا المسلك تدريجيّاً بطيئاً موافقاً للفهم العام لدى الناس، روى المسعودي(٣٠٠) أنّ الإمام الهادي (عليه السلام) كان يحتجب عن كثير من مواليه إلاّ عن عدد قليل من خواصه، وحين أفضى الأمر إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، كان يتكلّم مِن وراء الستار مع الخواص وغيرهم، إلاّ في الأوقات التي يركب فيها إلى دار السلطان.
ونحن في حدود التاريخ الذي استعرضناه، قد نجد في عبارة المسعودي شيئاً من المبالغة، بعد أنْ وجدنا الإمام العسكري، يذهب إلى دار السلطان (البلاط) كل اثنين وخميس ويزور الوزير عُبيد الله بن خاقان ويزور أصحابه في السجن.. ونحو ذلك، إلاّ أنّنا إلى جانب ذلك، حملنا من تاريخه (عليه السلام) فكرةً واضحة، عن سيره على هذا المخطّط واتّصاله بأصحابه عن طريق الكتب والمراسلات، حتى اعتاد أصحابه على ذلك وأصبح المفروض عند مواليه، أنّ الاتصال به والسؤال منه لا يكون إلاّ عن طريق المراسلة، وقد مرّت بنا كثير من الشواهد على ذلك.
فهذا تختلج في صدره مسألتان يريد الكتاب – الكتابة – بهما إليه (عليه السلام)(٣٠١) وأبو هاشم الجعفري يكتب إليه شاكياً ضيّق الحبس وكِلَب الحديد،(٣٠٢) والإمام يكتب إلى أصحابه مبشّراً لهم ومحذّراً بموت المعتز(٣٠٣) أكثر مِن مرّة، وبموت المهتدي(٣٠٤) أيضاً ومُخبراً لهم عن موت الزبيري،(٣٠٥) ويكتب لهم عن رأيه في صاحب الزنج وعن وصفه لقضاء المهدي القائم في دولته، ويعطي لمحمّد بن إبراهيم خمسمِئة درهم ولأبيه ثلاثمئة من وراء الباب بواسطة غلامه،(٣٠٦) وقد سبَق أنْ سمعنا كلّ ذلك وشواهده أكثر من أنْ تُحصى.
ولأجل ذلك يدخل عليه أحمد بن إسحاق، وهو من خاصّته، فيطلب إليه أنْ يكتب لينظر إلى خطّه فيعرفة عند وروده ليكون آمناً من التدنيس والتزوير، فيكتب له الإمام (عليه السلام) في ورقة، ثمّ يلفت نظره إلى احتمال تغير القلَم في كتاباته (عليه السلام)، قائلاً: (يا أحمد، إنّ الخطّ سيختلف عليك ما بين القلَم الغليظ والقلم الدقيق، فلا تشكن).(٣٠٧)
وكان غاية أمَل جمهور مواليه في رؤيته (عليه السلام).. هو الجلوس في الطريق، في وقت مروره ذاهباً إلى البلاط وراجعاً منه، فمِن ذلك ممّا سمِعناه مِن مجيء الوفد من الأهواز ومقابلته في الطريق حين رجوع موكب المعتمد من توديع الموفّق حين خروجه لحرب الزنج.
وسمِعنا عن ذلك الشخص الذي أثّرت فيه شبهة الثنوية، فلقيه الإمام في طريق رجوعه من زيارة البلاط وأشار إليه بسبابته: أحد أحد.
ويجلس شخص من الموالين للإمام (عليه السلام)، في أحد الشوارع فيرى الإمام مارّاً حين خروجه من منزله قاصداً مجلس الخليفة، فيفكر في نفسه أنّه لو صاح الآن بأعلى صوته مُعلناً بالحق الذي يعتقدة مصرّحاً بإمامة هذا الإمام على البشر أجمعين، فماذا سوف يحدث؟!
قال الراوي: فقلت في نفسي: ترى إنْ صحْتُ: أيّها الناس، هذا حجّةٌ الله عليكم، فاعرفوه، يقتلوني؟.. فلمّا دنا منّي أومأ بإصبعه السبابة على فيه أنْ اسكت، ثمّ يراه هذا الرجل فيما يرى النائم محذّراً له من القتل وموجباً عليه الكتمان قائلاً: (إنّما هو الكتمان أو القتل، فاتقِ الله على نفسك).(٣٠٨)
وممّا يندرج في هذا الصدد إفهامه (عليه السلام) لأحدٍ أصحابه وهو راكبٌ في الطريق.. بالإشارة أنّه يُرزق ولداً ولكنّه ليس بذكَر.. فولَدت زوجته ابنةً،(٣٠٩) وذلك العبّاسي الذي يجلس للإمام على قارعة الطريق ويشكو له الحاجة ويحلف له: أنّه ليس عنده درهم فما فوقه ولا غطاء ولا عشاء، قال: فقال: (تحلف بالله كاذباً وقد دفنت مِئتيّ دينار، وليس قولي هذا دفعاً لك عن العطيّة، يا غلام، أعطه ما معك)، فأعطاني مئةَ دينار.(٣١٠)
إذَن فالإمام (عليه السلام) كان سائراً على طبقَ مخطّط الاحتجاب، تعويداً لأصحابه وقواعده الشعبية على فكرة الغيبة وأُسلوبها، ورفعاً لاستغرابهم الذي كان سيحدث لو لم يكن هذا المخطّط.
ولعلّنا نستطيع – بهذا الصدد – أنْ نحمل فكرةً واضحةً من أنّ فكرة غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) هي بذاتها بكرة احتجاب أبيه، وأنّ أُسلوبهما في قيادتهما واحد من الناحية الكيفيّة لا يختلف.
نعم، غيبة المهدي، من الناحية الكمّية أشدّ من احتجاب أبيه وأكثر حذَراً وأبعد عن الناس، فالإمام العسكري (عليه السلام) كان يراه جملةٌ من الناس من أصحابه وغيرهم عند زيارته للبلاط، على حين أنّ المهدي (عليه السلام) لا يراه إلاّ أقل القليل على طول التاريخ، كما أنّ الإمام العسكري توفّيَ ودفِن بمشهد ومرأى من الجميع، على حينِ ضمن المخطّط الإلهي طول العمر لابنه المهدي (عليه السلام)، وكان الإمام العسكري (عليه السلام) معروف الشكل والهيئة لدى الناس، وأمّا الحجّة في غيبته الكبرى، من دون أنْ تحمل إيّ فكرةٍ عن شكل المهدي وسحنته وهيئته وجسمه.. إلى غير ذلك من الفروق.
النقطة الثالثة: اتخاذه نظام الوكلاء:
ليس الإمام العسكري (عليه السلام) أوّل مَن سنّ هذا النظام وإنّما كان موجوداً في زمان أبيه الإمام الهادي (عليه السلام) وما قبله، وكان ذلك أحدَ الطرق الرئيسيّة لاتصالهم (عليهم السلام) بقواعدهم الشعبية وقضائهم لحوائجهم، واتصال القواعد الشعبية بهم، وإرسال الأموال والحقوق الإسلامية إليهم.
وحيثُ اتخذ الإمام العسكري (عليه السلام) مسلَك الاحتجاب الذي عرفناه كان إلى نظام الوكالة أقرَب وله ألزم، واتخذه بشكلٍ يشمل أكثر الأُمور أو جميعها، ممّا يتّصل بأُمور المجتمع حتى في داخل المدينة التي يسكنها الإمام (عليه السلام) نفسها، فكانت عامّة اتصالاته وتوقيعاته والأموال التي تصل إليه، ما عدا القليل.. يتمّ عن طريق الوكلاء.
وأعلى وأهمّ مَن يندرج في هذه القائمة لمدى وثاقته وعِظَم شأنه: عثمان ين سعيد العمري الزيّات أو السمّان، الذي سيصبح الوكيل الأوّل لولده المهدي (عليه السلام)، وإنّما يقال له السمّان؛ لأنّه كان يتّجر السمن تغطيةً على هذا الأمر، يعني على نشاطه في مصلحة الإمام (عليه السلام)، وكان الشيعة إذا حملوا إلى أبي محمّد (عليه السلام) ما يجب عليهم في الإسلام مِن الأموال، نفذوا إلى أبي عمرو، فيجعله في جراب السمن وزقاقه، ويحمله إلى أبي محمّد (عليه السلام) تقيّةً وخوفاً، وحمايةً للمال عن أنظار الحاكمين؛ لأنّهم إذا عرفوه صادروه، كما سمِعنا ما فعله المتوكّل في الأموال التي علِم وصولها إلى الإمام الهادي (عليه السلام).
وقد أثنى الإمام الهادي والإمام العسكري (عليهما السلام) على السمّان ثناءً عاطراً، كقول الإمام الهادي فيه: (هذا أبو عمر والثقةُ الأمين، ما قاله لكم فعنّي يقوله، وما أدّاهُ فعنّي يؤدّيه)(٣١١) وقوله: (العمري ثقتي، فما أدّى فعنّي يؤدّي، وما قال لك فعنّي يقول، فاسمع له وأطع؛ فإنّه الثقةُ المأمون).(٣١٢)
وقول الإمام العسكري (عليه السلام) فيه: (هذا أبو عمر والثقةُ الأمين، ثقة الماضي، وثقتي في المحيى والممات، فما قاله فعنّي يقوله وما أدّى إليكم فعنّي يؤدّيه).(٣١٣)
وقوله في العمري وابنه محمّد بن عثمان: (العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا فعنّي يؤدّيان، وما قالا فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما؛ فإنّهما الثقتان المأمونان)، قال أبو العبّاس الحميري: فكنّا كثيراً ما نتذاكر هذا القول، ونتواصف جلالة محلِّ أبي عمرو.(٣١٤)
وهذا الرجل الجليل وابنه، سوف يكونان وكيلين عن الإمام المهدي (عليه السلام) في غيبته الصغرى، ولنْ يكون ذلك نشازاً على الأذهان، بعد أنْ كانا بهذه المنزلة والرفعة عند أبيه وجده (عليهما السلام) وعند الجماهير الموالية لهما.
وقد عرفنا ما لأبي هاشم داود بن القاسم الجعفري وأحمد بن إسحاق الأشعري، مِن عِظَم قدرهم لدى الإمام العسكري (عليه السلام) ووثاقتهم عنده، وكانا يمارسان أعمال الوكالة عنده أيضاً كما تدلّ عليه بعض الروايات، ومن وكلائه أيضاً محمّد بن أحمد بن جعفر، وجعفر بن سهيل الصيقل.(٣١٥)
وسنجد أنّ نظام الاحتجاب والوكلاء هو الذي سيكون ساري المفعول في الغيبة الصغرى، بعد أنْ اعتاد الناس عليه، في مسلك الإمامين العسكريين (عليهما السلام)، وخاصّةً الحسن الأخير (عليه السلام).
هل مات الإمام مقتولاً؟
لم يبقَ لدينا الآن ممّا يدخل ضِمن غرضنا من تاريخ الإمام الحسن العسكري، إلاّ التعرّض لوفاته، وهذا ما نُرجئه إلى الفصل القادم فإنّه ألصَق به كما سيأتي.
وإنّما الذي نودّ الإشارة إليه، هو أنّه هل من المستطاع القول أنّ الأئمّة (عيهم السلام) جميعاً ماتوا مستشهدين على أيدي خُلفاء زمانهم، وبتسبيبٍ من قِبلهم.. بحيث إنّ الإمام الهادي (عليه السلام) قتله المعتز والإمام العسكري (عليه السلام) قتله المعتمد... أو لا يمكن ذلك، وقد يمكن القول – لو أنكرناه –: إنّ الإمام مات حتفَ أنفه.
وما يمكن به إثبات استشهاد الإمام أحد وجوه ثلاثة محتملة:
الوجه الأوّل: الاستناد إلى ما رُوي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (ما منّا إلاّ مقتول أو شهيد)،(٣١٦) فجميع الأئمّة (عليهم السلام) إنّما يخرجون مِن الدنيا بالقتل أو الشهادة، وليس فيهم من يموت حتف أنفه.
والقاتل لهم على طول الخط.. هو الحكّام الذين كانوا دائماً على حذَر من الأئمّة (عليهم السلام)، ومن نشاطهم الإسلامي؛ لأنّهم (عليهم السلام) كانوا يمثّلون دائماً جبهةَ المعارضة الصامدة ضدّ الانحراف الأساسي عن تعاليم الإسلام، الذي تمثّله الخلافة الأموية والعبّاسية، ومِن ثمّ تُنسب وفاة كلّ إمام – مع عدَم وجودِ إثباتٍ تاريخي آخر – إلى الخليفة الذي توفّي في عصره، فالامام الهادي (عليه السلام) توفّي في عصر المعتز، قد قتله المعتز أو تسبّب إلى موته بالسمّ بشكلٍ من الأشكال، والإمام العسكري الذي توفّي في عصر المعتمد، قد قتله المعتمد وتسبّب إلى ذلك بالسمّ من طرفٍ خفيّ.
وعلى هذا الوجه اعتمد جملةٌ من علمائنا قدّس الله أرواحهم، قال الطبرسي:(٣١٧) وذهب كثيراً من أصحابنا إلى أنّه – يعني الإمام العسكري (عليه السلام) – مضى مسموماً، وكذلك أبوه وجدَه وجميع الأئمّة (عليهم السلام)، خرجوا من الدنيا بالشهادة، ثم ذكر الطبرسي استشهادهم بالحديث المنقول عن الإمام الصادق (عليه السلام)، ثمّ قال: والله أعلم بحقيقة ذلك.
أقول: وهذا يتوقّف على صحّة هذا الحديث وثبوته، ولعلّ في اعتماد علمائنا عليه ما يرجّح ثبوته.. والله العلم.
الوجه الثاني: الانطلاق من الفكرة القائلة: بأنّ الإمام المعصوم (عليه السلام)، خلقه الله تعالى، كاملاً في بنيته الجسميّة وتركيبه البدني، معتدلاً من جميع الجهات، ولا يُمكن أنْ يصيبه الموت أو التلَف إلاّ بعارضٍ خارجي، من قتلٍ ونحوه، وأمّا لو لَم يحدث عليه حادث فإنّه قابل للبقاء أبد الدهر دون هرَمٍ ولا موت.
واستنتجوا من هذه الفكرة ثلاث نتائج:
النتيجة الأُولى: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لابدّ وأنْ تكون وفاته مسبّبة عن القتل؛ فإنّه لم يكن قابلاً للموت التلقائي، وخاصّةً في مثل العمر الذي مات فيه، واختلفوا في سبب قتله، فقال جمهور إخواننا أهل السنّة: إنّ السمّ الذي أكله في الذراع الذي قدّمته له اليهودية، أثّر فيه بعد عدّة سنوات، وقال بعضُ الخاصّة: إنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مات نتيجةً لعملٍ تخريبيٍّ مباشر، من قِبل بعض المنافقين.
النتيجة الثانية: إنّ الأئمّة (عليهم السلام) جميعاً، ماتوا بسببِ القتل، ضرباً بالسيف أو تناولاً للسم، فما كان من تلك الأسباب معروفاً وثابتاً تاريخياً، كان مؤيّداً لهذه الفكرة التي انطلقنا منها، وما لَم يكن له إثباتٌ تاريخي، صارت هذه الفكرة إثباتاً له.
النتيجة الثالثة: إنّ الحجّة المهدي المنتظر (عليه السلام)، حيث إنّه لم يُصَب بحادثٍ تخريبيٍّ يودي بحياته، فهو باقٍ في الحياة، وسوف تستمرّ حياته ما دام لم يُصَب بسوء، وأمّا موته بعد ظهوره وقيامه بدولة الحق، فيكون بالقتل أيضاً، على ما ورَد في رواياتنا، على ما سنذكره في محلّه من بحوثنا الآتية.(٣١٨)
بل إنّ بقاء الحجّة المهدي، طوال هذه المئات من السنين، يكفي إثباتاً لهذه الفكرة، عند مَن يريد أنْ يأخذ بمدلولها؛ فإنّه (عليه السلام) إمامٌ معصوم، وكلّ إمام معصوم غير قابل للموت والفناء إلاّ بعارضٍ خارجيٍّ كالقتل، ومن هنا لا يكون (عليه السلام) قابلاً للموت مهما طال الزمن، بعد إحراز عدم طروِّ شيءٍ من الحوادث عليه.
والذي أودّ أنْ أُشير إليه: إنّ هذه الفكرة، لا تنافي قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)، ولا تكون هذه الآية دليلاً على بطلانها؛ لأنّ الآية تُعرِب عن موتِ كلِّ حيّ، وهو ما يتحقّق في الخارج حتى للمعصومين (عليهم السلام) قبل يوم القيامة على أيّ حال، وليس المدّعى فيهم الخلود أو ضرورة الحياة، وإنما المدعى هو وجود قابليّة الحياة لدى المعصوم ما لم يحدِث حادث يوجب الموت، ومعه يكون تطبيق هذه الآية بالنسبة إلى المعصومين هو طرو الحوادث الني توجب الوفاة.
وعلى أيّ حال، فإنّ هذه الفكرة تحتاج إلى إثبات، ولم أجِد في حدود تتبّعي، نصّاً في الكتاب أو السنّة يدلّ عليها، لكن قد يُستدلّ لها بالرواية التي ذكرناها في الوجه الأوّل: (ما منّا إلاّ مقتول أو شهيد)، إذا كان المستفاد منها عدم إمكان موتهم إلاّ بطريق الشهادة والقتل.
كما قد يُستشهد لهذه الفكرة بما رُوي عن الإمام العسكري (عليه السلام) مِن قوله: (ولسنا كالناس فنتعَب كما يتعبون)،(٣١٩) باعتبار أنّ ذلك إنّما هو لأجل توفّر القوّة البدنية بشكلٍ غير متوفّر في سائر الناس، ولازمُ ذلك أنّ الناس بقواهم العاديّة يكونون قابلين للموت، وأمّا إذا كانت هذه القوّه العُليا موجودة فيكون فيها مقتضى الحياة، ولا تكون قابلةً للموت إلاّ بمؤثّرٍ خارجي وحادثٍ طارئ.
الوجه الثالث: لاستشهاد الأئمّة (عليهم السلام)، وهو وجهٌ خاص بالمتأخّرين منهم (عليه السلام).
وذلك: نظراً إلى أنّ الإمام الجواد والإمام الهادي والإمام العسكري (عليهم السلام)، لم يُكتَب لهم أنّ يُعمّروا، بل وافتهم المنيّةُ وهم في إبّان شبابهم على اختلاف أعمارهم، فالإمام الجواد كان له يومَ قُبِض خمسٌ وعشرون سنة وأشهِر،(٣٢٠) والإمام الهادي له إحدى وأربعون سنة،(٣٢١) والإمام العسكري له ثمانٌ وعشرون سنة(٣٢٢) على ما عرفنا من تاريخ ولادته ووفاته.
والغالب حتى في الفرد العادي، هو أنْ يُعمّر أكثر من ذلك، خاصّةً في الإمامين: الجواد والعسكري (عليهما السلام)، بل إنّ في عصرنا الحاضر من الشباب في هذا العمر مَن يعتبر نفسه غير خارجٍ من دور الطفولة بعد!! ولو سألته عمّا بقيَ لديه من العمر لم يُشكُّ في كونه خمسون أو ستّون سنة على أقلِّ تقدير.
إذن، فلماذا توفّي هؤلاء الأئمّة بهذا العمر القصير؟ ليس لذلك إلاّ أحد سببين:
أحدهما: المرَض.
والآخر: القتل من قِبل السلطات.
أمّا المرَض، فهو غيرُ محتمَل لأحدِ أُمورٍ ثلاثة:
الأمر الأوّل: إنّه غيرُ منقول عن الإمام الجواد والإمام الهادي (عليهما السلام)، وإنّما نُقِل قي الإمام العسكري (عليه السلام) أنّه كان معتلاًّ قبل وفاته، على ما سوف نقول في حينه، ولكنّنا لم نُحرِز أنّ هذه العلّة مستقلّة عن الفعل التخريبي من قِبل السلطات، إذ لعلّها ناشئة من السمّ المدفوع إليه، وهذا الاحتمال لا دافعَ له، وهو المقصود.
الأمر الثاني: إنّه إذا كان المرَض القتل في إبّان الشباب محتملاً في واحدٍ بعينه، فهو غير محتمل في ثلاثة، كلّهم يموتون صدفةً بسببِ مرضٍ يُصيبهم في زهرة العمر، من دون سببٍ مشترك أو علّةٍ وراثيّةٍ ونحو ذلك.
الأمر الثالث: القاعدة التي أُعطيت في الوجه الثاني: القائلة بأنّ جسم الإمام غير قابل للتلَف إلاّ بعارضٍ خارجي، ولا أقلّ من احتمالهما، فإذا بطل احتمال المرض، غير المستند إلى التخريب، بأحَد هذه الوجوه أو جميعها، تعيّن السبب الآخر للموت وهو وفاته شهيداً بيَد السلطات الحاكمة يومئذٍ، إذ ليس هناك سببٌ آخر محتمل، كسقوط شيءٍ عليه أو وقوعه من شاهق أو قتله بيدِ لصٍّ مثلاً، فإنّ كلّ ذلك ممّا لم يقل به أحد.
وكلّنا يعرف شأن السلطات الحاكمة يومئذٍ، فإنّنا بعد أنْ نحمل فكرةً مفصّلةً عن ذلك، مِن وقوف الأئمّة (عليهم السلام) موقف المعارضة ضدّ انحرافات الحكّام، ومن الحقد الوراثي عند الحكّام ضدّ الخطِّ الذي يُمثّله الأئمّة (عليهم السلام)، وكانت كلُّ مصادر القوّة والسلاح ونفوذُ الحكم بيد الخُلفاء، ولم يكن بيَد الأئمّة ولا أصحابهم شيء، وإنّما كانوا يمثّلون دور المعارضة بشكلٍ أعزَل لا يُراد به إلاّ العدل الإسلامي ورضاء الله عزّ وجل.
أقول: ولعلّ هذا الوجه الثالث على استشهاد الأئمّة هو أقرَب هذه الوجوه إلى الوجدان؛ فإنّه يورِث القطع بنتيجته، وهي استشهاد الأئمّة (عليهم السلام) بيد السلطات الحاكمة، سَواء كان السبب المباشر لذلك هو الخليفة نفسه، باعتبار كونه المسؤول الرئيسي في المحافظة على كيان الخلافة العبّاسية، أم غيره من صنائعه أو المسيطرين عليه، كبعض المَوالي والأتراك، أو القوّاد أو القضاة.
* * *
وأمّا إذا لم تتم عند أحد هذه الوجوه، وتوخّينا الإثبات الخاص على كلّ إمامٍ بمفرده أنّه مقتولٌ أو شهيد، فسوف لنْ يسعفنا التاريخ بطائل، حتى إنّ الشيخ المفيد في الإرشاد يقول عن الإمام الجواد (عليه السلام): وقيل أنّه مضى مسموماً، ولم يثبت بذلك عندي خبَر.(٣٢٣)
وأمّا الإمام الهادي (عليه السلام) فنجد بعض مَن تعرّض لوفاته يذكر أنّه: قيل أنّه مات مسموماً، كابن الجوزي في تذكرته،(٣٢٤) والمسعودي في المروج،(٣٢٥) وقال عنه الطبرسي: إنّه استشهد،(٣٢٦) وقال ابن شهر آشوب: إنّه استشهد مسموماً، وأضاف وقال ابن بابويه: وسمّه المعتمد،(٣٢٧) أقول: وهذا غيرُ محتمل لما عرفنا من أنّ الإمام الهادي (عليه السلام) توفّيَ في أيّام المعتز قبل خلافة المعتمد بسنتين، وذلك في عام ٢٥٤هـ واستخلف المعتمد عام ٢٥٦ هـ.
وعرفنا أنّ الإمام الذي توفّيَ في أيّام خلافة المعتمد هو الإمام العسكري (عليه السلام)، إذن فهذا النقل سهو، أمّا مِن ابن بابويه أو من ابن شهر آشوب رضي الله تعالى عنهما.
وأمّا المفيد في الإرشاد والأربلي في كشف الغمّة وابن خلكان في تاريخه، وسائر مؤلّفي التاريخ العام ممّن تعرّض لوفاة الإمام الهادي، كابن الأثير، وأبي الفداء، وابن الوردي وابن العماد، فلَم يذكروا لوفاته سبباً.
ونفس هذا الموقف يقفه هؤلاء جميعاً بالنسبة إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، يُضاف إليهم ابن الجوزي فإنّه أيضاً لم يُصرّح هنا بشيء، وقال ابن شهر آشوب: ويقال إنّه استشهد،(٣٢٨) وأمّا الطبرسي فقد عرفنا موقفه من ذهاب كثير من الأصحاب إلى أنّه (عليه السلام) ذهب مسموماً للحديث الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام)، وكان تعليق الطبرسي على ذلك قوله: والله أعلم بحقيقة الحال. ممّا يدلّ على عدَم تأكّده منه، على أقلِّ تقدير، وعلى أيّ حال فإنّه إنْ أعوَزَنا التاريخ، كفانا ما أثبتناه من القرائن العامّة على ذلك، والله من وراء القصد.
الفصل الرابع: في تَاريخ الإمَام المهْدي (عليه السلام) خِلالْ حَيَاة أبيَه
وهذا الفصل في حقيقته مكمّلٌ للقسم الأوّل من الكتاب، ولتاريخ الإمام العسكري (عليه السلام) بالذات، حيث يعرض إلى موقفه (عليه السلام) من ولده مفصلاً، ثمّ إلى وفاته (عليه السلام) وإلى النتائج التي ترتّبت على ذلك، حيث يبدأ تاريخ الغيبة الصغرى الذي نعقد له القسم الثاني الآتي إنْ شاء الله تعالى.
عرضٌ عام:
تَميّزنا بوضوح خلال سيرنا التاريخي، الظروف التي عاشها الإمامين العسكريّين (عليهما السلام) وولد فيها الإمام المهدي (عليه السلام)، فالبلَد سامرّاء عاصمة الدولة العبّاسية يومذاك، وأبوه وجدّه (عليهما السلام)، قد قُهِرا من قِبَل السلطات على الإقامة في سامرّاء تطبيقاً لسياسة التقريب إلى البلاط.. التي عرفناها.
وهما (عليهما السلام) يتكفّلان الإصلاح الإسلامي مهما وسعهما الأمر، ويُمثّلان جانب المعارضة الصامدة أمَام انحراف الحكّام عن الخطّ الرسالي الذي جاء به نبيّ الإسلام (صلّى الله عليه وآله وسلّم)... بالشكل الذي لا يتنافى مع سياسة الملاينة، التي اتخذاها تجاه الدولة، وهما يقومان في عين الوقت بالرعاية العامّة لمصالح أصحابها ومواليهما، في شؤونهم العامّة دائماً والخاصّة في كثير من الأحيان، ويكون النشاط في الغالب سرّياً مُحاطاً بالكتمان والرمزية قولاً وعملاً، ويختصّ الصريح منه بالخاص من الأصحاب الذين تعرف منهم قوّة الإرادة والصمود أمام ضغط الحكّام.
والإمامين (عليهما السلام) يقبضان الأموال ويوزّعانها بحسَب الإمكان عن طريق الوكلاء المنتشرين لهم في مختلف بقاع البلاد الإسلامية، والوفود ترِد بين حينٍ وآخر ـ من المُوالين لهم في الأطراف ـ حاملةً المال والمسائل مِن بلادهم؛ لأجل تسليمها وتبليغها للإمام (عليه السلام).
وأمّا السلطات، بما فيهم الخليفة نفسه، على اختلاف شخصه وبما فيهم الأتراك والمَوالي، وخاصّةً القوّاد منهم، وكذلك العبّاسيون بشكلٍ عام وعلى رأسهم الموفّق طلحة بن المتوكّل، وكذلك الوزراء والقضاة كابن أبي دؤاد وابن أكثَم وابن أبي الشوارب وغيرهم.. كلّ هؤلاء يمثّل خطّاً واحداً من الناحية السياسية والاجتماعية، أساسه الانتفاع المصلحي من الدولة القائمة المتمثّلة بالخلافة العبّاسية، والحرص عليها أشدّ الحرص، حفاظاً على مصالحهم ومنافعهم، فكان ذلك موجِباً لحذَر السلطات الدائم والتوجّس المستمر، من كلّ قولٍ أو فعل يصدر من الإمام (عليه السلام) أو من أحد أصحابه.. فكان السجن والأغلال هو النهاية الطبيعية لكلِّ مَن يفكّر في ولاء الإمام، أو التعامل الاجتماعي معه.
بل إنّ الأمر ليشتدّ ويتأزّم أحياناً فينتهي الأمر إلى إلقاء القبض على الإمام نفسه، ومِن المعلوم أنّ إلقاء القبض على القائد، هو سجنٌ لكلِّ مبادئه ومُثُله وقواعده الشعبية وتحدٍّ لها، ويبقى الإمام مسجوناً مدّةً، ثمّ يخرج ليُسجن مرّةً ثانية.
وكانت السلطات تُحاول جاهدةً عزل القواعد الشعبية، للإمام عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فكان الفرد منهم يُعاني الخوف والفقر والمرَض، من دون أنْ يجد ناصراً أو معيناً سوى أدعية إمامه (عليه السلام) وقلوب إخوانه.
على أنّنا عرفنا أنّ الإمام لم يكن مُريداً الاستيلاء على السلطة في ذلك المجتمع المنحرف.. وإنّما كان غاية همّه رعاية مصالح أصاحبه وإدارة شؤونهم.. وكان هذا النشاط هو الذي يثير السلطات وينفّرها، منظمّاً إلى وهمِها الخاطئ باحتمال أخذ الإمام بحقّه الذي يعتقده مشروعاً في الاستيلاء على السلطة.. فكانت تبذل الجهود الجبّارة ضدّ ذلك.
وقد استطاع الإمامان (عليهما السلام)، بالرغم من كلِّ ذلك ومن سياسة المراقبة والتقريب إلى البلاط.. أنْ يخفيا نشاطهما ويسترا الأموال والواردة إليهما والصادرة عنهما والتعاليم التي تبلّغ من قِبلهما، وبذلك استطاعا أنْ يأمنا قسطاً كبيراً من العذاب الذي كان يصيبهما وأصحابهما لولا ذلك، وأنْ يُحقّقا كثيراً من المصالح التي كانت ممّا يُحال دونهما بغير ذلك.
على أنّ السلطات بمختلف طبَقات حكّامها وموظّفيها وأهل الأمر النافذ فيها، وعلى تفاوتهم في التعصّب أو حُسن التفكير.. كانوا يعرفون في قرار قلوبهم وداخل نفوسهم، حقّ الإمام ويحترمونه بالغ الاحترام ويعتبرونه خير خلقِ الله في عصره؛ بما له من العبادة والعِلم والأخلاق والنسَب.. لا يختلف في ذلك المُوالون عن غيرهم، ولا الخلفاء عمّن سِواهم، وبخاصّةً المعتمد الذي رأيناه – في إبّان إحساسه بالضعف – يأتي إلى الإمام العسكري (عليه السلام) بنفسه، ويتوسّل إليه أنْ يدعو له بالبقاء في الخلافة مدّة عشرين عام.. فيُجيبه الإمام إلى طلبه ويدعو له.
وهذا الخليفة العبّاسي هو الذي عاصر أيّام الإمام المهدي (عليه السلام) من أوّلها، وتوفّيَ الإمام العسكري (عليه السلام) في أيّامه، وهو الذي تصدّى للفحص عن تركة الإمام ووَرَثته ومراقبة الحوامل من نِسائه على ما سنذكر.. وكل ذلك يدلّ على أنّه يعرف الحقّ ويَخاف منه.. ويَفرَق مِن فكرة المهدي ووجوده؛ لعِلمه أنّه الإمام القائم بالحق، الساحق للانحراف والمنحرفين من الحكّام والمحكومين.
وقد كانت أفكار المسلمين وبخاصّة المُوالين للأئمّة (عليهم السلام)، مليئةً بالاعتقاد بوجود المهدي (عليه السلام)؛ للتبليغ المستمر المتواتر مُنذ زمان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إلى زمان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، يتعاضد في ذلك سائر المذاهب الإسلامية، ففي عين الوقت الذي يبلّغ الإمامان العسكريّان (عليهما السلام) عن ولدهما المهدي (عليه السلام)، يكتب البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة في صِحاحهم أخباره وكلّهم يعيشون في تلك الفترة مِن الزمن أو متقدّمون عليها قليل(٣٢٩).. يروون هذه الأخبار عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جيلاً بعد جيل.
ولم يكن ليفوت الإمامين العسكريّين (عليهم السلام) التمهيد المُباشر لغيبة الإمام المهدي (عليه السلام) وتعويد أصحابهم فِكراً وسلوكاً عليها، وذلك باتخاذ نظام الوكلاء أوّلاً وتخطيط الاحتجاب عن الناس ثانياً.. وكلا الأمرين سوف يكون مطبّقاً في الغيبة الصغرى للمهدي (عليه السلام) قليلاً مُجملاً لبُعده النِسبي عن عهد المهدي (عليه السلام)، وقد تكفّل القسط الأكبر من ذلك أبوه الإمام العسكري (عليه السلام).
فهذه هي الظروف العامّة والخاصّة التي ولِد فيها الإمام المهدي، وقد عرفنا لكلّ فقرة منها شواهد ودلائل استعرضناها بالتفصيل.
أُمّ المهدي (عليه السلام):
يحسن بنا، وقد عرفنا تفاصيل أبيه وجده (عليهما السلام)، أنْ نحمل فكرةً كافية عن أُمّه الراضية المرضية المجاهدة، كما وردت في التاريخ بشكلٍ عام وفي مصادر الخاصّة بشكلٍ خاص.
كانت رضيَ الله عنها قُبَيل حملها بولدها المهدي (عليه السلام) أمَةً مملوكةً جُلِبت بواسطة الفتح الإسلامي، الذي كان جارياً على قدَمٍ وساق في تِلك العصور من بعض مُدِن الكُفر إلى سامرّاء، ودخلت في ملكية بعض أفراد أُسرة الإمام العسكري (عليه السلام).
وكانت تُسمّى في ذلك المجتمع بأسماءٍ مختلفة، فهي: ريحانة ونرجس وسوسَن وصقيل. وإنْ كان الغالب عليما بين أفراد العائلة: نرجس.
ويعود تعدد أسمائها إلى أحد أسباب:
السبب الأوّل: صلة الحب والرحمة بالجارية من قِبل مالكها، فهو يناديها بأفضل الأسماء لديه وأجملها في ذوقه، ولذا كان جملة منها من أسماء الأزهار، لكن لا على أنْ يكون كلّ ذلك اسمها الحقيقي.. بل على أساس أنْ يحتفظ بالاسم الحقيقي في نفسه ويناديها بأيِّ اسمٍ شاء.. تودّداً واستلطافاً.. وهي تعتاد أنْ تجيب مالكها عن أيّ اسمٍ وقع اختياره، وإذ تسامع الناس باختلاف النداء زعموا أنّ لها أسماءً كثيرة، وورَدنا في التاريخ ذلك.
كذلك كان حال الجواري المحضيّات عند مواليهن... ولعلّه يكون منطبقاً على أُمِّ المهدي (عليه السلام).
السبب الثاني: إنّ المجتمع في ذلك الحين، إذ كان يجلِب العبد أو الأَمَة بطريقٍ السبي من البلاد البعيدة، التي لا يحمل عنها وعن لغتها أيَّ فكرةٍ محدّدة... ويكون للمالك حقَّ التصرّف فيه، يستخدمه ويبيعه ويشتريه.. ولا يشعر بوجودِ شخصيّةِ هذا العبد أو إرادته، أو أنْ يكون في مستقبل الدهر علَماً من الأعلام.. لكنْ يجب أنْ يُحدّد اسمه ويرسم معالِم شخصيّته؛ لكي تبقى واضحة المعالم في أذهان مؤرّخيه، بل إنّ العبد حين يُجلَب، يعجَز العربيُّ عن نطق اسمه الأصلي غالباً، لقيامه على لغةٍ أجنبية لا يقوى على تلفّظ كلماتها، وهو لا يهتم بأنْ يصنع لعبده أو أمَته أسماً معيّناً، وإنّما حسبه أنْ يدعوه باللغة العربية بأيِّ لفظٍ جرى على لسانه، ومن هنا تكوّنت عادة في ذلك المجتمع، بإسباغ عدّة أسماء على العبيد، فكان أنْ أخذت أُسرة الإمام العسكري (عليه السلام) بهذه العادة، وأسبغت على هذه الجارية عدّة أسماء، حتى إنّنا رأينا الأُسرة إذ وجدت أنّ أثر الحمل لا يظهر عليها، على ما سنسمَع، لم تتحاشَ عن إسباغ اسمٍ جديد عليها، هو صقيل.
السبب الثالث: أنّها رضوان الله عليها عاشت تخطيطاً خاّصّاً، في تبديل اسمها بين آونةٍ وأُخرى، ودعائها بعدّة أسماء في وقتٍ واحد أو في أوقاتٍ مختلفة، عاشَت ذلك مُنذ دخلَت هذه العائلة الكريمة؛ لأنّها ستصبح أُمّاً للمهدي (عليه السلام)، وسترى المطاردة والاضطهاد من قِبل السلطات، وستعيش في السجن مدّةً من الزمَن... إذن فيجب القيام بهذا المخطّط تجاهها إمعاناً في الحذَر وزيادةً في التوقّي عليها وعلى ابنها، ولأجل أنْ يختلط في ذهنِ السلطات أنّ صاحبةَ أيٍّ من هذه الأسماء هي المسجونة، وأيٍّ منها هي الحامل وأيٍّ منها هو الوالدة وهكذا... حيث يكون المفهوم لدى السلطات كون الأسماء لنساءٍ كثيرات، ويغفلون عن احتمال تعدّدها في شخصِ امرأةٍ واحدة.
وهذا الاحتمال الثالث، هو – بلا شك – الاحتمال الراجح في أُمّ المهدي (عليه السلام).
وإذ نُريد أنْ نعرف أوّل مالك لهذه الجارية من أُسرة الإمام (عليه السلام).. تواجهنا فرضيّتان، باعتبار اختلاف الأخبار الواردة عن ذلك:
أحدهما: أنها كانت مُلكاً للإمام الهادي (عليه السلام).
وثانيتهما: أنّها كانت مُلكاً لحكيمة أُخت الهادي رضيَ الله عنها، ولكلٍّ من الفرضيّتين خبَرٌ وقصّة.
الفرضية الأُولى: أنّها دخلَت أوّلاً في ملكيّة الإمام على الهادي (عليه السلام)، وهو الذي قام بتزويجها لابنه العسكري (عليه السلام).
وذلك: أنّ الإمام (عليه السلام) حين يُريد أنْ يحصل على زوجة ابنه أُمّ المهدي (عليه السلام)، يدعو نخّاساً من بائعي العبيد موالياً له قد علّمه أحكام الرقيق وفقّهه في تجارته، يُدعى بِشر بن سليمان النخّاس... يدعوه فيأمره بالسفَر من سامرّاء إلى بغداد ويحدّد له الزمان والمكان والبائع، ويصِف له الجارية وبعض سلوكها، فمِن ذلك: أنّها تمتنِع من السفور ولمْس مَن يُحاول لمسها، وإذ يضربها النخّاس، تصرخ بالرومية صرخةً، قال الإمام: (فاعلم أنّها تقول: وا هتك ستراه!).. ومن ذلك: أنّها تنطق العربية بطلاقة، ويعطيه الإمام (عليه السلام) صرةً من النقود وكتاباً مُلصَقاً بخطٍّ روميٍّ ولغةٍ روميّة ومختوم بخاتمه الخاص، ويذهب بِشر النخّاس إلى بغداد ويُشاهد كلّ ما حدّده له الإمام، ورآها تدفَع عن نفسها المشترين بضراوةٍ قائلةً لأحدِهم: (لو برزَتُ في زي سليمان وعلى مثل سريرِ مُلكه ما بدَت لي فيك رغبة.. فأشفَق على مالك، فيقول بائعها النخّاس: فما الحيلة ولابدّ من بيعك، فتقول الجارية: وما العجَلة، ولابدّ من اختيار مبتاعٍ يسكن قلبي إلى أمانته، وهنا يقوم بِشر إلى بائعها ويقدّم له الكتاب ويأمره بدفعه إلى الجارية قائلاً: إنّه لبعض الأشراف كتبَه بلغةٍ روميّة وخطٍّ روميّ، ووصَف فيه كرمه ووفاءه ونُبلَه وسخاءه، فناولها لتتأمّل منه أخلاق صاحبه، فإنْ مالت إليه ورضيَت به فأنا وكيله في ابتياعها منك، وقد جرى كلّ ذلك بحسبِ وصف الإمام وأمره وتخطيطه.
وإذ تقرأ الكتاب، ينقلب منها الحال انقلاباً عجيباً، فتبكي بكاءً شديداً، وتقول لبائعها: بعني من صاحب هذا الكتاب، فإنْ امتنعت قتلت نفسي، وتحلف بالأيمان المحرجة المغلّظة على ذلك، وإذ يرى بائعها ذلك يطلب من بشر النخّاس ثمناً كبيراً، فتطول المعاملة بينهما حتى يستقرّ الثمن على مقدارِ ما في الصرّة التي حملها من الإمام، فيعطيه للبائع ويستلم الجارية، ويذهب بها إلى الحجرة التي كان يأوي إليها في بغداد.
وإلى هنا رأينا في هذه الجارية أربعة أوصاف، يندر وجود واحد منها ـ فضلاً عن المجموع ـ في جاريةٍ مسبيّةً حديثة العهد بهذا المجتمع، وكلٌّ منها جارٍ على خلاف السلوك الاعتيادي للعبيد، فهي: أوّلاً: تنطق العربيّة بطلاقة، وثانياً: تمتنِع من السفور وتتحاشى يدَ اللامس، وثالثاً: ترفض أيَّ مشترٍ يتقدّم لشرائها، وتقترح على بائعها أنْ تعيّن هي مشتريها لأجل أنْ يسكن قلبها إلى أمانته، ورابعاً: أنّها رغبت رغبةً شديدةً بالإمام (عليه السلام)، وبكيَت وهدّدت بالانتحار إذا لم يبعها منه، فماذا قرأت في الكتاب وكيف حصل لها معه هذه الرابطة القويّة والرغبة الأكيدة؟!.
كلّ ذلك يراقبه بشر النخّاس ويعجَب منه، وتتولّد في ذهنه علامات استفهام كبيرة! وتتأكّد هذه العلامات وضوحاً حين رآها أنّها بمجرّد أنْ استقرّ بها المقام في غرفته في بغداد.. أخرجت كتاب الإمام (عليه السلام) من جيبها وصارت تلثمه وتضعه على خدِّها وتطبقه على جفونها وتمسحه على بدنها، فيقول لها متعجّبً منها: أتلثمين كتاباً لا تعرفين صاحبه؟!.
وإذ تُجيبه عن سؤاله.. تراها تُعطيه بياناً ضافيّاً، عن تاريخها وأحوالها، يُفسّر كلَّ تصرّفاتها الحالية.. نلخّص منه المهم فيما يلي: إنّها مليكة بنت يشوعاء بن قيصر ملك الروم، وأُمّها مِن ولد أحدِ الحواريّين المنتسب إلى وصيِّ المسيح شمعون.
ويحدِث في يومٍ من الأيّام أنْ يُحاول جدّها القيصر تزويجها من ابن أخيه، فيعقد لذلك أعظَم مجالسه أبهةً وجلالةً، وأكثرها من حيث عدد الحاضرين وأسخاها من حيث الذهب والجواهر الموزّعة على أطراف المكان، وعلى العرش الموضوع هناك المهيّأ للعريس الجديد.. فبينما يصعد ابن أخيه على العرش تتساقط الصلبان وتنهار الأعمدة ويخرُّ الصاعد مغشيّاً عليه، ويتشائم القيصر والأساقفة، ويبادره كبيرهم قائلاً: أيّها الملك أعفنا من ملاقات هذه النحوس الدالّة على زوال هذا الدين المسيحي والمذهب الملكاني.
وعلى أيّ حال.. فهيَ ترى في تلك الليلة فيما يَرى النائم أنّه انعقد في قصرِ جدّها القيصر مجلس متكوّن مِن المسيح وشمعون وعدّة من الحواريّين، ويدخل محمّد (صلّى الله عليه وآله) وجماعةٌ معه وعدَد من بنيه فيخفُّ المسيح لاستقبال معتنقاً له، فيقول له نبيّ الإسلام (صلّى الله عليه وآله): (يا روح الله، إنّي جئتك خاطباً مِن وصيّك شمعون فتاته مليكة لابني هذا)،
تقول: وأومَئ بيده إلى أبي محمّد صاحب هذا الكتاب، فنظر المسيح إلى شمعون فقال: (قد أتاك الشرَف، تصِل رحمَك برحِم رسول الله (صلوات الله وسلامه عليه) قال: قد فعلْت، فصعدوا ذلك المنبر وخطَب محمّد (صلّى الله عليه وآله) وزوّجني من ابنه.. وشهِد المسيح (عليه السلام) وشهد بنو محمّد (صلّى الله عليه وآله) والحواريّون).
وعلى أثر هذا الحلم يعلَق في نفسها حبِّ الإمام العسكري أبي محمّد (عليه السلام)، بالرغم من أنّها تخاف أنْ تقصّ هذه الرؤيا على أبيها وجدّها مخافة القتل، ثمّ إنّها تُصاب على أثَر حرمانها من حبيبها بمرضٍ شديد، ويَحضِر لها جدّها كلّ الأطبّاء فلا يفهمون مِن دائها شيئاً، ويطول بها الداء.. فيقترح عليها جدّها أنْ تقترح عليه شيئاً ترغبه لكي ينفذ لها رغبتها عسى أنْ تحسّ بالسعادة في مرضها، فتقول له: يا جدّي، أرى أبواب الفرَج عليَّ مغلقة، فلو كشفت العذاب عمّن في سجنك من أُسارى المسلمين وفككت عنهم الأغلال وتصدّقت عليهم ومنّيتهم بالخلاص.. رجوت أنْ يهَب المسيح وأُمّه فيَّ عافيةً وشِفاء، فينفذ لها جدّها القيصر رغبتها.. فتتجلّد في إظهار الصحّة وتتناول يسيراً من الطعام، فيُسرّ جدّها بتحسّن حالتها ويزيد في إكرام الأُسارى وإعزازهم.
ثمّ إنّه يزورها في المنام بعد أربَع ليال: مريَم بنت عمران وفاطمة بنت محمّد (عليهما السلام)، فتقوم العذراء بتعريف الزهراء لمليكة قائلةً: هذه سيّدة النساء أُمّ زوجك أبي محمّد (عليه السلام)، وإذ تعرفها مليكة تتعلّق بها وتبكي وتشكو إليها امتناع أبي محمّد (عليه السلام) من زيارتها، فتجيبها الزهراء (عليها السلام): (إنّ ابني أبي محمّد لا يزورك وأنتِ مشركة بالله على دين مذهب النصارى)، ثمّ تأمرها بأنْ تشهد الشهادتين، فيدفعها الحبُّ والشوق إلى امتثال هذا الأمر، وتدخل في الإسلام في عالم الرؤيا، واذ تسمع منها الزهراء (عليها السلام) ذلك، تضمّها إلى صدرها وتعدها بزيارة أبي محمّدٍ لها.
وبعد ذلك يبدأ أبو محمّد بزيارتها كلَّ ليلة، بدون استثناء، قائلاً لها: (ما كان تأخيري عنك إلاّ لشركك، وإذ قد أسلمت فأنّي زائرك كلّ ليلة.. إلى أنْ يجمع الله شملنا في العيان).
ثمّ إنّ أبا محمّد (عليه السلام) يُخبرها في بعض زياراته، بأنّ جدّها سيجرّد جيشاً لقتال المسلمين في موعد حدّده لها. وأمرها أبو محمّد (عليه السلام) – وهو يُريد أنْ يخطّط لها طريق الاجتماع به في العيان – أمرها أنْ تتنكّر في زيِّ الخدَم وتخرج من طريقٍ معيّن لتلحق بطلائع الجيش الإسلامي، ليأسروها وينقلوها إلى بلادهم، ففعلت ذلك حتى وصلت إلى بشر النخّاس، وأنكرت في غضون ذلك شخصيّتها، ولم تخبِر أحداً بانتسابها إلى قيصر الروم، وإذ يسألها مالكها عن اسمها: تدّعي أنّ اسمها: نرجِس، إذن فهيَ التي اختارت لنفسها هذا الاسم.
وإذ تنتهي الجارية في قصّتها إلى هذا الحد.. يستطيع بِشر النخّاس أنْ يفسّر كلّ تصرّفاتها، ما عدا معرفتها للغة العربية، فيسألها عن ذلك فتخبره بأنّه بلَغ مِن ولوع جدّها وحمله إيّاها على تعلّم الآدب أنْ عيّن لها امرأة ترجمان تزورها صباحاً ومساءً وتفيدها اللغة العربية، حتى استمرّ عليها لسانها واستقام.
ويذهب بها بِشر النخّاس إلى سامرّاء ويُدخلها على الإمام الهادي (عليه السلام)، فيقول لها: (كيف أراك الله عِزّ الإسلام وذلّ النصرانية، وشرف أهل بيت محمّد (صلّ الله عليه وآله)؟)، قالت: كيف أصف يا ابن رسول الله، ما أنت أعلَم به منّي.
ثمّ يتصدّى الإمام (عليه السلام) لامتحانها وسبر أغوار إيمانها ومعرفة درّة إخلاصها، فنظر كيف يخيّرها بين العاجل والآجل.. بين الدنيا والدين.. إذ يقول لها: (فإنّي أُريد أنْ أُكرمَك، فأيّما أحبُّ إليك عشرة آلاف درهَم أم بُشرى لك بها شرَف الأبد). قالت: بل الشرف، وإذ وجدها الإمام واعيةً لموقفها مضحّيةً في سبيله بكلِّ عالٍ ورخيص، قال لها: (فابشري بولدٍ يملِك الدنيا شرقاً وغرباً، ويملأ الأرض قِسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجوراً).
قالت: ممّن؟ قال (عليه السلام) متسائلاً: (ممّن خطبك رسول الله (صلّى الله عليه وآله؟) - وعيّن لها الوقت – قالت: مِن المسيح ووصيّه، قال: (فممّن زوّجك المسيح ووصيه؟)، قالت: من ابنك أبي محمّد، قال: (فهل تعرفينه؟). قالت: فهل خلَوتُ ليلةً من زيارته إيّاي منذ الليلة التي أسلمتُ فيها على يدِ سيّدةِ نساء العالمين، أُمّه.
وعندئذٍ يستدعي الإمام الهادي (عليه السلام)، أُخته حكيمة ويأمرها بأنْ تأخذ نرجس إلى منزلها وتعلّمها أحكام الإسلام، ويقول: (فإنّي قد زوّجت أبا محمّد الحسن (عليه السلام) وأُمّ القائم (عليه السلام)).(٣٣٠)
وأودّ أنْ أُعلّق على هذا الخبَر بعدّة تعليقات:
التعليق الأوّل: أنّنا نستطيع أنْ نُعيّن تاريخ شِراء الجارية وزواج الإمام العسكري (عليه السلام) بها؛ فإنّه كان في زمان الإمام الهادي (عليه السلام)، وقد أراد أنْ يُزوّج ابنه الحسن (عليه السلام) قبل أنْ يتوفّى عام ٢٥٤هـ؛ ليولد من هذه المرأة الجليلة مهديَّ هذه الأُمّة القائم بدولة الحق، وسيأتي أنّ ولادة المهدي (عليه السلام) كانت بعد وفاة جدّه الهادي (عليه السلام)، فإذا استطعنا أنْ نعرف أنّه لم يمر زمانٌ طويل بين زواجها وولادتها، أكثر من المقدار الضروري للحمل والولادة عرفنا أنّ زواجها كان في نفس هذا العام ٢٥٤ هـ.
التعليق الثاني: إنّه قد يورَد على هذا الحديث بعض الاعتراضات التي يُمكِن الجواب عنها على أُصولنا الاعتقادية، ويبقى الجواب عنها عند مَن لا يؤمن بهذه الأُصول علّقاً على التسليم بها، على أنّنا سنقول إنّنا غير مُلزَمين باعتبار هذا الخبَر إثباتاًًًًًًً تاريخيّاً كافياً.
الاعتراض الأوّل: أنّه متضمّن لعِلم الإمام الهادي (عليه السلام) بأُمور غائبة غير منظورة، في حين أنّ الغيب لا يعلمه إلاّ الله تعالى.
والجواب على ذلك: إنّه بعد فرض ثبوت إمامته، يكون ذلك ممكناً في حقّه، ونحن لا ندّعي علمه بالغيب مباشرةً كعلم الله عزّ وجل، وإنّما ندّعي أنّ الإمام إذا أراد أنْ يعلم شيئاً أعلمه الله تعالى إيّاه، كما نطقت بذلك بعض الأخبار.
والمصلحة الرئيسية من الناحية الاجتماعية، في ذلك هي أنّ الإمام قائدٌ لأُمّة ورئيسٌ لدولة، وموكولٌ إليه تطبيق العدل الإسلامي الإلهي على البشرية، فأحسن طريق لنجاح عمله وقيادته، من الناحيتين النظريّة والعملية معاً، وهو منصوب لتطبيق أعلى أهداف الإسلام وممثّل لأحد أيّام الله الكبرى، التي أخذها الله تعالى بنظر الاعتبار في كونه.
الاعتراض الثاني: إنّ الإيمان بمضمون هذا الحديث، متوقّف على الإيمان بالأحلام، وهو خرافةٌ من الخرافات.
والجواب عن ذلك: يكون بأحدِ أُمورٍ ثلاثة:
أوّلاً: إنّ ما هو الخرافة، هو الإيمان المطلق بصدْقِ جميع الأحلام، وهذا لم يقل به مفكّر، ولا هو الذي ندّعيه ولا يتوقّف عليه صحّة هذا الحديث، وإنّما الشيء الذي لا شكّ فيه هو صحّة بعض الأحلام وتحقّقها في الواقع، وهذا أمرٌ ضروريٌّ لمَن راجَع حوادث الحياة، ونظَر في الكتب المؤلّفة في ذلك، كدار السلام للحاج ميرزا حسين النوري، والأحلام للدكتور عليّ الوردي، وغيرها.
إذن فمِنَ المُمكن أنْ يكون هذا المذكور في الحديث أحَد الأحلام المطابقة للواقع، وخاصّةً بعد أنْ اتصف بحوادث ومميّزات لا تعدو عِلم الحياة والعين، فلو صلُحت هذه الرواية للإثبات التاريخي لم تكن هذه الجهة موجبة لضعفها أو الطعن فيها.
ثانياً: إنّ هناك فكرةً تقول: بأنّ رؤية النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) في المنام لا يُمكن أنْ تكون كاذبة؛ لأنّ المنام الكاذِب مِن الشيطان، والشيطان لا يُمكن أنْ يتصوّر بصورة النبيّ أو الإمام، ويستشهد لذلك بما نُسب إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من قوله: (مَن رآنا فقد رآنا)، ويقول الإمام العسكري (عليه السلام) لأحد أصحابه في المنام أيضاً: (واعلم أنّ كلامنا في النوم مثل كلامنا في اليقظة).(٣٣١)
فإذا تمّت هذه القاعدة ـ والله العالم بحقيقتها ـ لم يكن بالإمكان أنْ يقال: بأنّ ذلك الحِلم الذي وجد فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام)، بما فيهم الإمام العسكري (عليه السلام)، أو هو مستقلاًّ حين كان يأتيها كلّ ليلة... حلم كاذب.
ثالثاً: إنّنا غير مضطرّين لأنْ نلتزم من هذا الحديث بحرفيّة الرؤيا، بل يُمكننا أنْ نحمله على نحوٍ من الرمزية ونقول: إنّ أُمّ المهدي (عليه السلام) كانت وهي في بلادها الأُولى، كانت ملهمة ـ بشكلٍ غامض ـ بعضَ خطوطِ مستقبلِها والحنين إليه بمقدار، بحيث إنّها حين واجهَت هذا المستقبل أحبّته وأخلصَت له.
وهذه مصلحة إلهيّة عظيمة، باعتبار ما يعلمه الله تعالى من كونها أُمّاً للمهدي (عليه السلام)، وما سوفَ ترى في سبيل ذلك مِن الضغط والمطاردة والعذاب، إذن فهي تحتاج إلى إلهامٍ خاص – ولو بشكلٍ لا شعوريٍّ غامِض – يوجِب تربيتها وتوجيه عواطفها بالشكلِ المخلص المؤمن، فإنّها، لو كانت مجرّدة عن هذا الإلهام وكانت مشتراة من السوق من دون إخلاصٍ سابق وتربيةٍ داخلية، لأمكن لها أنْ تجزَع من التعذيب فتبوحِ بأمر ولدها، ويؤدّي الحال إلى إلقاء القبض عليه وقتله، وهو ما لا يُريده الله تعالى أنْ يكون.. كيف؟. وقد ذخره الله عزّ وجل بقدرته الكبرى لمستقبل الإسلام وإرساء قواعد الحق.
أمّا إنكار وجود الإلهام كحقيقة كونيّة إلهيّة، تتحقّق بإرادة الله تعالى عند وجود المصلحة.. فهذا تكذيب للقرآن إذ يُنسَب الإلهام إلى النحل قائلاً: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً).(٣٣٢) وينسِب عزّ وجل هذا الإلهام بعض مراتبه إلى الإنسان إذ يقول عزّ من قائل: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ).(٣٣٣)
إذن فلتكن الظاهرة التي أحسّت بها وعاشتها أُمّ المهدي، شكلاً من أشكال الإلهام.
الاعتراض الثالث: إنّ هذا الحديث دالٌّ على أنّ إسلامها وزواجها كان في عالَم الرؤيا، وهو ممّا لا يُمكن أنْ يُعترَف بشرعيّته وقانونيّته.
والجواب عليه: إنّ هذا الحديث وإنْ كان دالاًّ على ذلك، إلاّ أنّنا لا ندّعي الاكتفاء به بطبيعة الحال، وإنّما أصبحت مسلمةً في عالم اليقظة والعَيان... أمّا حال وجودها في بلادها الأُولى بعد أنْ اعتقدت بصحّة الطيف ومطابقته للواقع، فاستيقظت معتقدةً للإسلام، أو أنّها أسلمت حين قالت للإمام الهادي (عليه السلام): يا ابن رسول الله، فإنّ هذا الوصف متضمّن للاعتراف بالإسلام بكلِّ وضوح، أو أنّها أصبحت مسلمةً حين علّمتها حكيمة تعاليم الإسلام امتثالاً لأمر أخيها (عليه السلام)، وعلى أيِّ حال فقد تمّ إسلامها قبل زواجها من الإمام العسكري (عليه السلام).
وأمّا ما قد يخطِر على البال من أنّها إذا كانت قد بقيَت غير مسلمة في عالم اليقظة والعَيان، حتى حين وصولها إلى سامرّاء، فكيف زارها الإمام أبو محمّد (عليه السلام) في المنام.. فجوابه: إنّ هذا كلامُ من يؤمِن بالأحلام.. وأمّا مَن لا يؤمن بها لا يعتبر الزيارة في عالم الرؤيا شيئاً يؤخَذ بنظر الاعتبار، ومعه فنقول للمؤمن بالأحلام المتكلّم بهذا الكلام: إنّ زيارة الإمام في المنام يكفي فيها الإسلام في المنام، وأمّا لقاء العيان واليقظة فيحتاج إلى إسلامٍ حقيقيٍّ في عالم اليقظة.
وأمّا زواجها، فلم يكن ما وقَع منه في المنام كافياً أيضاً، وإنّما تمّ بإنشاء الإمام الهادي (عليه السلام) لعقد الزواج حين قال ـ كما نطق الحديث ـ: (فإنّي قد زوّجت أبا محمّد الحسن (عليه السلام) وأُمّ القائم (عليه السلام)).
بعد أنْ أحرَز رضاها ورضاه، وهو وليُّهما ووليُّ المؤمنين،
الاعتراض الرابع: إنّ هذا الحديث دالٌّ على تساقط الصلبان وانهيار الأعمدة، من دون سببٍ ظاهر، فكيف كان ذلك؟
والجواب عن ذلك: إنّه ممّا لا شكَّ فيه، من الناحية الإسلامية، أنّ ما يعتقده المسيحيّون أصبَح بعد بعثة نبيّ الإسلام (صلّى الله عليه وآله) باطلاً، والمُقيم عليه ضالاًّ مُضلاًّ، وأنّ مقتضى الهداية إلى الصراط المستقيم هو الاهتداء بنور الإسلام، والاعتقاد بعقائده والالتزام بعدله.
فمِن المُمكن القول: إنّ هذا الذي حدَث، هو معجزةٌ إلهيّة حدثت للتوصّل إلى غرَضين: أحدهما: استنكار بقاء هؤلاء على المسيحيّة مع إمكانهم الدخول في الإسلام ومعرفتهم بوجوده؛ فإنّ الأُولى بمصالحهم أنْ يعتنقوه لا أنْ يُحاربوه، ثانيهما: استنكار زواج هذه ألامرأة من ابن عمّها، فإنّها مقدّرة في عِلم الله الأزَلي لأنْ تكون زوجةً للإمام العسكري وأُمّاً للمهدي، لا أنْ تكون كما يشاء جدّها، زوجةً لابن أخيه، بحدوث هذه المعجزة يحصل في قلوبهم تشاؤم من حصول هذا الزواج، فلا يقومون به، كما قد أعرضوا عنه فعلاً.
الاعتراض الخامس: إنّ هذه الرواية تدلّ على شيئين متنافيين، فبينما تنصُّ في أوّلها على أنّ الإمام الهادي (عليه السلام) هو الذي كتب الكتاب، الذي حمله بِشر النخّاس إلى الجارية... نراها تدَلّ بعد ذلك على أنّ كاتبه هو الإمام العسكري (عليه السلام)، كقولها: وأومأ بيده إلى أبي محمّد صاحب هذا الكتاب، وقولها: بعني على صاحب هذا الكتاب.
والجواب عن ذلك: إنّ الرواية دلّت على أنّ كاتب الكتاب هو الإمام الهادي (عليه السلام)، إلاّ أنّها دلّت في عين الوقت أنّ هذه الجارية كانت تتوهّم أنّ كاتبه هو فتى أحلامها وزوج مستقبلها الإمام العسكري (عليه السلام)، وليس بين الأمرَين أيّ تنافي، ولا نعلم أنّ ما في الكتاب يدلّ على تحديد شخصيّة كاتبه حتى تعرفه بذلك.
إذن فليسَ شيءٌ من هذه الاعتراضات وارداً على هذا الحديث ومضعّفاً لدلالته، وما يعرب عنه من حديث وتاريخ، وإنّما الاعتراض الوحيد الذي يُمكن صدقه، هو أنّ هذا الحديث ضعيف من ناحية إثباته التاريخي، باعتبار كونه مجهول الرواة ضعيف السند.
التعليق الثالث: الذي نعلّقه على هذه الرواية:
إنّ هذه الرواية مهملة من حيث التاريخ، ونحن وإنْ استطعنا أنْ نعرف وقت شِراء الجارية، إلاّ أنّه لا يُمكن تحديد وقت هذا القتال الذي وقَع بين الروم والمسلمين، ذلك القتال الذي أصبحت مليكة نتيحةً له أسيرة للمسلمين، كما أنّه لا يُمكن تحديد مكانه على وجه التعيين؛ فإنّ سائر أطراف الدولة الإسلامية كانت مسرحاً لحروبٍ ومناوشات وفتوحات في ذلك العصر. وأغلبها كان بين الروم والمسلمين.
فإنّ لفظ الروم كان يستعمله العرَب في ذلك الحين بشكلٍ مجمَل واسع المعنى، فإنّهم كانوا يصطلحون بهذا اللفظ على كلِّ بلادٍ مسيحيّةٍ خارج حدود بلاد الإسلام، وهذا معنى شامل لكثير من مناطق الأرض، فهو يشمل سوريا ولبنان وتركيا قبل فتحها الإسلامي، ثمّ يستمرّ إلى ما وراءها شمالاً ممّا هو الآن تحت حُكم الاتحاد السوفييتي، وقد دخل قسمٌ منه في الإسلام وبقيَ الكثير منه مسيحيّاً إلى حدِّ الآن، كما يمتدّ هذا اللفظ غرباً ليشمل أُوروبا كلّها، بما فيها اليونان وإيطاليا وفرنسا واسبانيا وصقلية، وغيرها ممّا كان معروفاً يومذاك، وكانوا إذا أرادوا التدقيق في التعبير عن أُوروبا، قالوا: الفرنجة أو الإفرنج، تمييزاً لها عن سائر بلاد الروم، وهو أيضاً لفظٌ مجمل يشمل كلّ أقطار أُوروبا تقريباً.
لا يستثنى من لفظ الروم، بحسَب اصطلاحهم.. من وجهِ العالم المعروف يومئذٍ، إلاّ ما كان في شرق بلاد الإسلام: كالهند، والصين، وما كان في جنوبها كأفريقيا.
والصحيح تاريخيّاً أنّ الروم هُم شعب دولة روما، التي هي الآن عاصمة إيطاليا، وكان الاسم الرسمي للملك عندهم هو القيصر، وهي دولةٌ استطاعت أنْ تُسيطِر على رقعةٍ ضخمةٍ من العالم.. من حوض البحر الأبيض المتوسط، كالشمال الأفريقي واليونان وتركيا وسوريا ولبنان، وفلسطين، حتى كانت تسمّى كلّ هذه المناطق بدولةِ الروم، ومِن هنا وقع الإجمال والاختلاط في معناه لدى الناس في تلك العصور... وحتى كانت العاصمة لهذه الدولة الجبّارة هي القسطنطينيّة، وهي ليست في إيطاليا، وغير قريبة من روما! وإنّما تقع في الجزء الأُوروبّي من تركيا فعلاً، وتسمّى اليوم بـ (استانبول)، وكان لسقوطها بأيدي الجيش الإسلامي من الأهميّة و(الإستراتيجية) الشيء الكثير، إذ يعني انحسار الحكم الروميّ عن بلاد الشرق وانكماشه في داخل أوروبّا المسيحيّة. وعلى أيِّ حال، فإنّه يُمكن أنْ يُفهم من هذه الرواية أنّ الملك نفسه كان خارجاً مع جيشه للحرب، وهو ما كان يحدث فعلاً في الحروب المهمّة الواسعة، فبذلك يُمكن أنْ نلتفت إلى الحادثة التي ينقلها التاريخ العام في سنة ٢٤٩ هـ، حيث نزَل ملك الروم بنفسه إلى الحرب مع خمسين ألفاً، وحصل بينه وبين المسلمين قتالٌ شديد، قُتِل فيها من الفريقين خلقٌ كثير،(٣٣٤) فالمظنون أنّ هذه هي الحادثة المُشار إليها في الحديث.
وكان الإمام العسكري (عليه السلام) في هذا العام، عمره سبعةَ عشَر عاماً، يعيش تحت ظلِّ أبيه (عليه السلام)، ثمّ إنّ أُمّ المهدي (عليه السلام) بعد أنْ سُبِيَت في الحرب بقِيَت عند مالكها حتى عام ٢٥٤هـ حين أراد بيعها، فاشتراها الإمام (عليه السلام) ليزوّجها من ابنه (عليه السلام)، والرواية على أيِّ حال، لا تدلّ على سرعة بيعها بعد الأسر، وإنْ كان المفهوم منها بشكلٍ عام، هو ذلك، والله العالم.
الفرضية الثانية:
إنّ المالك لهذه الجارية من أُسرة الإمام (عليه السلام)، هو حكيمة أُخت الإمام الهادي (عليه السلام) وهذه فرضيّة بسيطة ومختصرة، تكفينا في الإثبات التاريخي إنْ لم تكفنا الفرضية الأُولى، ولم نقتنع بمدلول ذلك الخبَر. والخبر الوارد في هذه الفرضيّة يهمل بالكلّية التعرّض لأصل هذه الجارية، أو ترجمة حياتها أو تاريخ ورودها إلى بلاد الإسلام، أو تاريخ شرائها.
وإنّما يبدأ الحديث أنّه في يومٍ من الأيّام يزور الإمام العسكري (عليه السلام) عمّته حكيمة (رضي الله عنها)، فيرى جاريتها فيحدّ النظر إليها، فتقول له: يا سيّدي لعلّك هويتها أفأرسلها إليك، فينفي الإمام (عليه السلام) الهوى الجنسي عن نفسه، فإنّه منافٍ لمقام الإمام وعصمته، ويعطي السبب المنطقي الصحيح لعمله، وذلك إنّه أجاب عمّته قائلاً: (لا يا عمّة، ولكنّي أتعجّب منها)، فقالت له: وما أعجبَك؟ فقال (عليه السلام): (سيخرُج منها ولدٌ كريمٌ على الله عزّ وجل، الذي يملأ اللهُ به الأرضَ عدْلاً وقِسطاً كما مِلئت ظلماً وجوراً)، فقالت له: فأرسلها إليك يا سيّدي؟، فيوقف الإمام العسكري (عليه السلام) ذلك على إذن أبيه، قائلاً: (استأذني في ذلك أبي).
قالت: فلبست ثيابي وأتيت منزل أبي الحسن (عليه السلام)، فسلّمت عليه وجلست، فبدأني وقال: (يا حكيمة ابعثي نرجس إلى ابني أبي محمّد (عليه السلام). فقلت يا سيدي، على هذا فصدتك.. أنْ نستأذنك في ذلك، فقال لي: (يا مباركة، إنّ الله تبارك وتعالى أراد أنْ يشركك في الأجر، ويجعل لك في الخير نصيباً.
وتبادر العمّة إلى الرجوع إلى منزلها، وتقوم بتزيين نرجس وتهبها لأبي محمّد (عليه السلام)، وتجمع بينه وبينها في منزلها، فيقيم الإمام عندها أيّاماً، حتى يتوفّى والده (عليه السلام) بعد أيّام، فينتقل الإمام العسكري (عليه السلام) مع زوجته إلى دار أبيه.(٣٣٥)
وهذه الرواية تتفّق مع سابقتها على عدّة خصائص، منها: أنّ أُمّ المهدي (عليه السلام) كانت جاريةً مملوكة، وأنّ اسمها نرجس، وأنّ زواج الإمام العسكري كان في حياة أبيه وإذنه، ولذا نستطيع أنْ نعتبر اتفاقهما على ذلك إثباتاً تاريخيّاً كافياً له، إلاّ أنّ هذه الرواية تعيّن وقوع الزواج في الأيّام الأخيرة من حياة الإمام الهادي (عليه السلام)، ولم يكن هذا واضحاً من الرواية السابقة.
وليس على هذه الرواية من اعتراض من الناحية الشكلية، إلاّ اعتراضٌ واحد، وهو أنّ الإمام العسكري (عليه السلام) حين زار عمّته كيف جاز له أنْ يحدّ النظر إلى جاريتها مع أنّها ليست زوجته ولا مملوكته في ذلك الحين، ويأتي الجواب واضحاً بسيطاً، وهو أنّه نظر إليها بإذن مالكتها، والمالك إذا إذن لشخص في النظر إلى مملوكته جاز للمأذون له النظر شرعاً في حدود إذن المالك.
وهذا وإنْ لم يُذكَر في الرواية إلاّ أنّه أخذٌ مفروض التحقّق في الرواية؛ للتسالم الواضح في المجتمع المسلم على عدَم جواز النظر إلى مملوكة الغير إلاّ بإذنه، لذا كان من الواضح في ذهن الراوي أنّ السامع المسلم سوف يفهم تلقائيّاً وجود الإذن في النظر... ومن هنا أهمله من سرده مِن لفظ الرواية.
ولادة الإمام المهدي (عليه السلام):
ولِد (عليه السلام) عند الفجر من يوم النصف من شهرِ شعبان،(٣٣٦) وحيث يقَع الفجر ما بين الليل والنهار، فقد عبّر بعضهم أنّ ولادته كانت في الليل، وبعضهم عبّر باليوم حيث قال: في يوم الجُمعة، كالصدوق في إكمال الدين، وابن خلكان في الوفيات.
أمّا عام ولادته فالمشهور أنّه عام ٢٥٥هـ(٣٣٧) وليس على ذلك اعتراض إلاّ ما يذكره الكليني في الكافي، والصدوق في إكمال الدين، فإنّهما يرويانها على وجهين، فتارةً قالا: إنّه ولِد عام ٢٥٥هـ وتارةً أُخرى قالا: إنّه ولد عام ٢٥٦هـ،(٣٣٨) وتنافيهما في الرواية يوجِب الأخذ بالمشهور كما هو واضح.
وعلى ذلك يكون قد ولِد (عليه السلام) بعد وفاة جدّه الإمام الهادي (عليه السلام) بحَوالي عام، وبعد مجيء المهتدي العبّاسي إلى الحكم بأقلِّ من شهر، حيث استخلف المهتدي لليلة بقيَت من رجَب وولد الإمام المهدي في النصف من شعبان في نفس العام، وبقى المهتدي في الحكم حوالي عام واحد حيث أزاله الأتراك وبايعوا المعتمد عام ٢٥٦هـ، وبقيَ المعتمد في الحكم ثلاثاً وعشرين سنة، حتى عام ٢٧٩هـ على ما سمِعنا فيما سبَق.
ويعاصر الإمام المهدي (عليه السلام) من حياة أبيه خمسَ سنَوات، حيث يصعد أبوه إلى الرفيق الأعلى عام ٢٦٠هـ على ما سبَق أنْ عرفنا، وقد انصبّ النشاط الرئيسي خلال ذلك على أمرين رئيسيّين: أحدهما: الحذَر التام مِن السلطة الحاكمة. ثانيهما: تعرّف خواص أبيه (عليه السلام).
ومهما يكن من أمر، فالمهم الآن أنْ نحمل فكرةً عمّا تدلّنا عليه الروايات، من حوادث ولادة الإمام المهدي (عليه السلام):
إنّ الإمام العسكري (عليه السلام) تزوره عمّته حكيمة في يومٍ من الأيّام، وتبقى عنده إلى المساء، وحين تُريد أنْ تنصرف يرجوها الإمام (عليه السلام) إنْ تبيت في داره هذه الليلة، فإنّه سيولَد فيها المولود الكريم على الله عزّ وجل، حجّة الله في أرضه، فتسأله العمّة: ومَن أُمّه؟. فيقول الإمام (عليه السلام): (نرجس!)، فتنفي العمّة أنْ يكون بنرجس أثَر للحمل، فيؤكّد لها الإمام (عليه السلام) ذلك قائلاً: (هو ما أقول لك)، فتفحصها العمّة جيّداً وتقلّبها ظهراً لبطن فلا تجد أثرَ الحمل، فتعود فتخبره تارةً أُخرى، فيبتسم الإمام (عليه السلام) ويعطيها الحجّة الواضحة والمبرّر الإلهي الصحيح في ذلك، قائلاً: (إذا كان وقت الفجر يظهَر لك الحبل؛ لأنّ مثَلها كمثلِ أُمّ موسى لم يظهر بها الحبل ولم يَعلم بها أحد إلى وقت ولادتها؛ لأن فرعون كان يشقّ بطونَ الحبَالى في طلب موسى (عليه السلام)، وهذا نظيرُ موسى (عليه السلام)).
وحاصل البُرهان الذي يتضمّنه كلام الإمام (عليه السلام) بعد إيضاح مقدّماته هو: أنّ الله تبارك وتعالى اقتضت حكمته الأزلية أنْ يستهدف في خلقِ البشرية هدايتها وإرشادها وإخراجها من الظلمات إلى النور. قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)،(٣٣٩) ولأجل هذا الهدَف الأعلى كانت بعثات الأنبياء والرسُل مُبشّرين ومُنذرين، ومن هنا كان وعد الله القاطع بإقامة دولة الحق على الأرض؛ فإنّ الأرض لله يرثها عباده المتّقون.
والهدف الإلهي إذا كان لزوميّاً ومهمّاً توصّل الله تعالى إليه بقدرته، بما شاء من الوسائل والطُرُق، فإنّه القادر على كلّ شيء، الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، فإنْ كان في الإمكان تحقّق الهدف بالطريق الطبيعي، فهو.. وإلاّ توصّل الله تعالى إلى إيجاده عن طريق خرقِ النظام الكوني الطبيعي بالمعجزات، كما تَحدّثنا عنه وفصّلنا القول فيه في رسالتنا عن المعجزة في المفهوم الإسلامي، وأهوَن بالجهد البشري أنْ يكون حائلاً أو مانعاً بين إرادة الله تعالى، وبين تنفيذ ما يريده من الأهداف في خلقهِ.
وإذ يكون ضغط السلطات الحاكمة عالياً، ويكون لوجود الفرد المطارَد أثراً مهمّاً في تحقّق الهدَف الإلهي، ولم يمكن حفظه من السلطات بطريقٍ طبيعي، إذن يتعيّن حفظه بطريقٍ إعجازي.. توصّلاً إلى الهدَف الكبير وهو هداية البشريّة في مستقبل الدهر.
وبين يدَينا الآن مثالان لذلك: أحدهما: النبيّ موسى بن عمران (على نبيّنا وعليه السلام)، فإنّ الله تعالى حين تعلّق غرضه المُهِم المُلزِم بهداية البشريّة به في زمانٍ مستقبل.. وكان ذلك متوقّفاً على ولادته صحيحاً سالِماً، ولم يكن ذلك مُمكِناً للضغط العالي المتوجّه من قِبَل سلطات فرعون يومئذ، إذن يتعيّن حفظه بطريقٍ إعجازيٍّ تحفّظاً على الغرَض الإلهي الكبير الذي سيكون موسى (عليه السلام) المسؤول الرئيسي لتنفيذه وتطبيقه في حينه.
المثال الثاني: الإمام المهدي (عليه السلام)، الذي تعلّق الغرَض الإلهي المُهم الملزِم بهداية البشريّة به في الزمان المستقبل، وتنفيذ وعد الله تعالى بدولة الحق على يده، وذلك يتوقّف على ولادته وبقائه سالماً، ومن هنا أفاض الله تعالى عنايته الخاصّة وإرادته اللانهائية، تحفّظاً على غرَضِه الكبير وتحدّياً للجُهد البشري المتواضع الذي تبذله السلطات.. بإقامة المعجزة في إخفاء الحمل من ناحية، وفي بقائه أمَداً طويلاً من الدهر من ناحية ثانية.
وحيث كان المثال الأوّل واضحاً في أذهان المسلمين، إذن فلابدّ في قدرة الله تعالى أنْ يقوم بذلك بالنسبة إلى المهدي (عليه السلام) أيضاً، والمعجزة في إخفاء الحمل يكون – في الأرجَح – على هذا الترتيب: وهو أنّ النطفة خلال مدّة الحمل تنمو ببطءٍ شديد أو لا تنمو على الإطلاق، ثمّ إنّها قبل الولادة بوقتٍ قصير قد لا يزيد على دقائق تنمو بسرعةٍ حتى يكتمل الجنين، ويكون قابلاً للميلاد، في الجوِّ السرّي الخاص، البعيد عن أعيُنِ السلطات.
وبذلك لا يتمكّن أحدٌ من الفاحصين حتى القوابل، خلال المدّة الاعتيادية للحمل.. من التعرّف على وجوده، فضلاً عن مجرّد النظر؛ وذلك لأنّ الطب إلى يومنا الحاضر عاجز عن التعرّف إلى الحمل في شهره الأوّل، فكيف بالعصور السابقة.. عصور الخلافة العبّاسية؟! فلو بقيَ الجنين، بإرادة الله تعالى على شكله في الشهر الأوّل طيلة مدّة الحمل، لم يتمكّن أحد أنْ يُخمّن وجود الحمل على الإطلاق، في تلك العصور.
ولا يخفانا أيضاً، ما في التوقيت في الفجر، من أهميّةٍ خاصّة في زيادة الحذَر والخفاء، فإنّ هذه العائلة كانت في ذلك الوقت في يقظة، وكل من يتولّى السلطة والتجسّس يغطُّ في نومٍ عميق.
ثمّ إنّ حكيمة إذ تسمَع تأكيد الإمام (عليه السلام)، تعود إلى نرجس فتُخبرها بما قال وتسألها عن حالها، فتقول نرجس: يا مولاتي ما أرى بي شيئاً من هذا، ثمّ إنّ نرجس نامَت واشتغلت حكيمة بالصلاة، لكي تؤدّي صلاة الليل، وجلسَت للدعاء عقيب الصلاة، وهي في كلّ ذلك ترقب نرجس، فلا تجد عليها إلاّ النوم الهادي لا تقلب جنباً عن جنب، وهناك من الأخبار ما يدلّ على أنّ نرجس نفسها قامت من نومتها فأدّت صلاة الليل، ثمّ نامت مرّةً أُخرى، وهي لا تحسُّ بشيء.
حتى إذا كان وقت طلوع الفجر، وثبَت نرجس من نومها فزِعة، فضمّتها حكيمة إلى صدرها، وقالت لها: اسم الله عليك، هل تحسّين بشيء، قالت: نعم يا عمّة. أقول: نعرف مِن ذلك أنّ جنينها قد كبُر واكتمَل، وتمّ هذا في دقائق أو أقل، وهذا يُفسّر لنا وثوبها من نومها فزِعة.
وهنا يأمر الإمام (عليه السلام) حكيمة بأنْ تقرأ عليها سورة الدخان التي تبدأ بقوله تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ)، ولا يخفى ما في قراءة هذه الآيات من المناسبة لمقتضى الحال.
وحينما يحين وقت الولادة، يحدِث نوعٌ من الغموض بين الأمرأتين بحيث لا تطلع حكيمة على نرجس، وقد عُبّر عن ذلك في بعض الروايات بالفترة.. وهي نوعٌ من الغفلة أو النعاس.. أصابتهما معاً، وعُبّر عنه في روايةٍ أُخرى، بقول حكيمة: حتى غيّبت عنّي نرجس فلم أرها، كأنّه ضُرِب بيني وبينها حِجاب، والمعنى المفهوم منها واحد، والغرَض منه هو عدَم الاطّلاع على نرجس حين خروج الإمام (عليه السلام).
وتنتبه حكيمة، فتجد الإمام المهدي (عليه السلام) ساجداً على الأرض يقول شيئاً من الكلام، يُعطى به المفهوم الواعي الكبير الذي خلقه الله من أجله، والغرض الذي أوكله إليه، والوعد العظيم الذي أناطه به، لكن الروايات تختلف في اللفظ الذي قاله، ففي أحدها أنّه قال: (أشهد أنّ لا إله إلاّ الله وأنّ جدّي محمّد رسول الله وأنّ أبي أمير المؤمنين)، ثم عدّ إماماً إماماً إلى أنْ بلَغ إلى نفسه، ثمّ قال: (اللهمّ أنجز لي ما وعدتني وأتمّم لي أمري وثبّت وطأتي، واملأ الأرض بي عدلاً)، وفي روايةٍ أُخرى أنّه قال: (الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، زعمت الظلمة أنّ حجّة الله داحضة، ولو أُذِن لنا في الكلام لزال الشك). وفي رواية ثالثة: أنّه (عليه السلام) تلا قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ..) إلى آخر الآية وفي روايةٍ رابعة: أنّه تلا قوله تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) إلى آخر الآية.
ونحن كمسلمين، لا ينبغي أنْ نستغرب ذلك أو نستنكره، فانّه ليس بدعاً في الدهر، وليس شاذّاً في أفعال الله تعالى وقدرته الكبرى، وهذا القرآن يُصرّح بكلِّ وضوح بنطق عيسى بن مريم في المهد: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا..) إذن فهو نبيٌّ في صغره أيضاً، والمهدي (عليه السلام) له الشبه به من كِلتا الناحيتين، أمّا النطق فباعتبار هذا الذي سمعناه، وأمّا الإمامة في الصغر فلأنّه تولاّها وعمره خمسَ سنَوات بعد وفاة أبيه عام ٢٦٠ للهجرة.
وينزل الحجّة المهدي (عليه السلام) إلى الأرض بدون دماء نظيفاً مفروغاً منه فيستدعى به أبوه (عليه السلام)، فتحمله حكيمة إليه، فيأخذه ويضَع لسانه في فيه ويمرّ يده على عينيه وسمعَه ومفاصله، ثمّ يقول له: (تكلّم يا بني). فقال: (أشهد أنّ لا إله إلاّ الله وحده لا شريكَ له وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم))، ثمّ صلّى على أمير المؤمنين وعلى الأئمّة إلى أنْ وقف على أبيه، ثمّ أحجَم.
أقول: والروايات تنسب إليه (عليه السلام) بعد ميلاده كلاماً واحداً، ولكنّها تختلف في زمانه، فالأكثر أنّه تكلّم عند أوّل ولادته، وواحدة منها تقول: إنّه تكلّم بعد حمله إلى أبيه – وهو ما نقلناه أخيراً – ويكون مقتضى الجمع بين الروايات أنّه قد تكلّم مرّتين، باعتبار أنّ كلّ روايةٍ أثبتت شيئاً لم تنفه الرواية الأُخرى، إلاّ أنّ النتيجة، وهي تكلّمه مرّتين، يكون متنافياً مع فحوى سائر الروايات، فالأرجَح هو الأخذ بالروايات الأكثر، وهو أنّه تكلّم بكلامٍ واحد بعد ولادته مباشرة، فإنّها بتعدّدها تكفي للإثبات التاريخي، وإنْ كان القطع بمثل هذه المسألة ممّا لا حاجةَ إليه من الناحية الدينيّة أو الاجتماعية.
والمفهوم من سياق أكثر الروايات أنّه لم يكن حال ولادة المهدي إلاّ أمّه وحكيمة، وكان والده يشتغل بالصلاة والدعاء في طرفٍ آخر من الدار، مراقباً للوضع عن كثب، إلاّ أنّ هناك رواية تصرّح باستقدام عجوز قابلة من جيرانهم بشكلٍ غامِض شديد الكتمان، للقيام بالتوليد(٣٤٠) وفي هذا منافات لأكثر الروايات، ومعه فالأرجح الأخذ بالأكثر دون هذه الرواية.
ما بعد المولد:
يولد الإمام المهدي (عليه السلام)، شأنه في ذلك شأن آبائه (عليهم السلام)، مختوناً، ولكن والده يقرّر إمرار الموسى عليه لإصابة السنّة(٣٤١) فإنّه لا ينبغي أنْ تتخلّف السنّة الإسلامية عن أحد.
ويأمر الإمام العسكري (عليه السلام)، أبا عمر وعثمان بن سعيد، وهو من أخصِّ أصحابه لديه.. بأنْ يعقّ عن المولود الجديد عدَداً من الشياه وأنْ يشتري عشرة آلاف رطل من الخبز، وعشرة آلاف رطل لحمَاً ويوزّعه على الفقراء(٣٤٢) وما أكثرهم في ذلك المجتمع المنحرف، وخاصّةً في القواعد الشعبية للإمام المعزولين اجتماعيّاً واقتصاديّاً.
وقد وصلت شاةً مذبوحة إلى محمّد بن إبراهيم الكوفي، باعتبارها عقيقة عن المولود الجديد.(٣٤٣)
ويتباشر الأصحاب الخاصّون بميلاد الإمام المهدي (عليه السلام) فيزور أحدهم الإمام العسكري (عليه السلام)، فيهنّئه بولادة ابنه القائم،(٣٤٤) ويجتمع اثنان من الأصحاب فيُبادر أحدهما الآخر قائلاً: البشارة، ولِد البارحة في الدار مولودٌ لأبي محمّد (عليه السلام)، وأمَر بكتمانه، فيسأله الآخر السؤال المعتاد... يسأله عن اسم المولود الجديد، فيقول له: سُمّيَ محمّد وكُنّيَ بجعفر.(٣٤٥)
ويبقى على الإمام العسكري (عليه السلام)، وظيفة مزدوجة تجاه ولده الجديد، تحتاج كل منهما إلى تخطيطٍ خاص، ويحتاج الجمع بينهما إلى غاية في الحذَر واللباقة الاجتماعية:
الوظيفة الأُولى: إثبات وجود الإمام المهدي (عليه السلام) تجاه التاريخ وتجاه الأُمّة الإسلامية، وتجاه مُواليه الذين يعتبرون المولود الجديد إمامهم الثاني عشر بحسَب نصّ النبيّ (صلّى الله الله عليه وآله) حين قال: (يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش)، فليس من المُمكن ولا المنطقي أنْ يبلغ الحذَر والتوقّي إلى إخفائه الكامل بحيث يؤدّي انطماس اسمه وإنكار وجوده، مع كونه (عليه السلام) الإمام الثاني عشَر لمُواليه والقائد المذخور لدولة الحق.
على أنّه لابدّ من إقامة الحجّة في وجوده على المُوالين خاصّة وعلى المسلمين عامّة، بحيث يكون هناك تواتر في الأخبار عن وجوده ورؤيته، يُدحض به قول مَن يزعَم عدَم وجوده ورؤيته، أو أنّه ليس للإمام العسكري (عليه السلام) من ولد.
الوظيفة الثانية: حماية الإمام المهدي (عليه السلام) من السيف العبّاسي والمطاردة الحكوميّة، التي عرفنا مناشئها وتخطيط السلطات لها، وتجنيد كلّ قواها وعيونها من أجلها.
أضف إلى ذلك ما أشرنا إليه من أنّ الجهاز الحاكم، كان يعرف في دخيلة نفسه حقّ الإمام وعدالة قضيّته وصدق قولة، إنّما كان يمنعهم عن إتباع الحق: الملِك العقيم والمصالح العريضة المتعلّقة بالخلافة العبّاسيّة.
مضافاً إلى تعصّبٍ وراثيٍّ قديم، ومِن هنا كانوا يشعرون أنّ ولادة المهدي (عليه السلام)، وهو الشخص الذي ملأ رسول الله (صلّى الله الله عليه وآله) أسماعهم بأنّه يملأ الأرض قِسطاً وعدلاً كما، ملئت ظلماً وجوراً... إنّ ولادته يعني الحكم على نظامهم بالموت المحتّم، وفضح مخطّطاتهم المنحرفة وأساليب عصيانهم لأوامر الإسلام، وإهمال طاعة الله تعالى وعدَم الاهتمام بالأُمّة الإسلاميّة، وبعبارةٍ أقرب: إنّهم كانوا يدركون أنّ مجتمعهم الذي يحكمونه قد امتلأ.. بفعل انحرافهم وسوء تصرّفهم... ظلماً وجوراً، إذن فمِن المنطقي أنْ يتصدّى الإمام المهدي (عليه السلام) لكي يملأهُ قسطاً وعدلاً... وهذا ما يخافونه ويرهبونه.
وهم وإنْ لم يحدّدوا بالضبط تأريخ ميلاد الإمام المهدي (عليه السلام)؛ لمدى السرّية التامّة المُحاطة فيها تجاههم... إلاّ أنّهم يعلمون على الإجمال أنّ زمانه قد أظلهم وأنّه على وشك الوجود، فإنّه يكفيهم أنْ يعرفوا أنّ الإمام العسكري (عليه السلام) يكون في السلسلة التي وعَد بها رسول الله (صلّى الله الله عليه وآله) الإمام الحادي عشر... لكي يكون ولده الثاني عشر... وهو المهدي، ويدلّ على ذلك أيضاً وعلى جهلهم بتحديد التاريخ ما نعرض له من مراقبتهم للحوامل عند وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) ظنّاً منهم بوجود الإمام المهدي (عليه السلام) جنبناً في رحم إحدى النساء، مع أنّه كان مولوداً قبل خمسِ سنوات، كما اطلع على ذلك الخاصّة مِن مُواليه.
وإذا كان نشاط الإمامين العسكريّين (عليهما السلام)، وهو مقتصر على حفظ مصالح قواعدهم الشعبية، ومشفوعاً بسياسة السلبيّة والمسالمة مع الجهاز الحاكم على ما قلنا.. إذا كان هذا النشاط مثيراً ومغضباً للسلطات.. فكيف بالنشاط الموعود للمهدي المنتظر الذي يكون غليظاً في الحقّ لا يتسامَح ولا يُسالِم ولا يعفو عن الانحراف.
ومن هنا كان عمَل السلطات في تلك الظروف أقرب شبَهاً بالحرَكات العصبيّة التي يقوم بها المخنوق عند خنقه، أو الغريق قبل إنقاذه.. فإنّها تعلَم بوجودِ شيءٍ خطَر مُشرِف عليها، شديد الأهمّية بالنسبة إليها.. ولكنّها تشعر بالعجْز تجاهه، وضيق الباع في الوصول إليه والوقوف عليه، بالرغم من وجود القوّة والمال والضمائر الأجيرة في جانبها، وليس في الجانب الآخر إلاّ العزل والفقراء والمضطهدون... ولعلّها تحسّ تجاه ذلك بالتحدّي لقوّتها وعزّتها فتزيد من نشاطها وتبذل المستحيل في سبيل الحصول على الإمام المهدي (عليه السلام) والقبض عليه.
فكانت هاتان الوظيفتان المزدوجتان للإمام العسكري (عليه السلام)، توقّفه في موقف غاية من الدقّة والحرَج.. وبخاصّة وأنّ كلتا الوظيفتين ضروريّة بالنسبة إليه، لا يُمكنه أنْ يتخلّى عنها.
ويزيد الموقف دقّة، أنّ الإمام العسكري يعيش في هذا المجتمع الصاخب، تحت الأضواء المسلّطة عليه من كلّ الجهات والرقابة الاجتماعية التي تلاحقه، لعدّة أسباب:
منها: أنّه الرجل المثالي الإسلامي في عبادته وأخلاقه وعِلمه ونسَبَه في نظر الجميع.
ومنها: أنّه القائد والموجّه لقواعد شعبية واسعة من المسلمين، ومنها: أنّه يمثّل جبهة المعارضة ضدّ السلطات الحاكمة.
ومنها: أنّ الحكومة تستمرّ في تقريبه من البلاط ودمجه في الحاشية. ومن المعلوم أنّ الشخص الذي يكون له بعض هذا الخصائص، فضلاً عن جميعها، يكون لولده أهمّية كبيرة وخبَراً منتشراً واسعاً، وخاصّة إذا كان للمولود أهميةٌ خاصّة... كان مهديّ هذه الأُمّة.
إذن، فمِن طبيعة المجتمع إنْ تتوجه الأنظار مِن كلّ حدبٍ وصوب إلى ميلاد الإمام المهدي (عليه السلام)، وبخاصّة من قِبل السلطات الذين يعيش في بلاطهم ويزوره في الأُسبوع مرّتين. ومِن ثمّ كان أقرب تخطيط للخروج من هذا المأزق، ترك الإعلان الاجتماعي عن ولادة المولود الجديد بالكلّية، وكأنّ شيئاً لم يحدث على الإطلاق، بالنسبة إلى الفهم العام، وترك الأحداث تسير في مجراها الاعتيادي من دون إثارة أيّ انتباه أو فضول، أو شكٍّ من أحَد في شيءٍ من النشاط أو القول أو العمل، حتى إنّ خادم الباب في بيت الإمام العسكري لم ينتبه إلى شيء، ولم يفهم شيئاً.(٣٤٦) وإذا لم يحصل الشكُّ والانتباه، لم يحصل الفحص والسؤال.
وممّا ساعد الإمام العسكري (عليه السلام) على الإخفاء مساعدةً كبرى، تطبيقه سياسة الاحتجاب على نفسه، وانقطاعه عن أصحابه ومواليه إلاّ بواسطة المراسلات، كما عرفنا، حيث استطاع (عليه السلام) بذلك تحقيق نتيجتين أساسيّتين:
إحداهما: تعويد قواعده الشعبية على فكرة الاحتجاب والقيادة غير المباشرة، كما سبَق أنْ أوضحنا.
وثانيهما: استقطاب المهام التي كان يقوم بها، والحوادث التي كان يعيشها.. بشكل منفرد بعيد عن الانتباه وتسليط الأضواء والضوضاء.. لا يكاد يُعرف بكلّ مهمّةٍ أحد إلاّ أهل الصلاة بها، وحيث كان إخفاء ولده من مهامّه الرئيسيّة، فلم يكن ذلك بممتنِع عليه بعد تخطيط الاحتجاب.
وقد ساعد على الإخفاء أيضاً مساعدةً كبيرة، تحوّل انتباه الدولة والمجتمع إلى حربِ صاحب الزنج، الذي بدأ أعماله التخريبيّة في جنوب العراق والأهواز في عام ميلاد المهدي (عليه السلام).. عام ٢٥٥ على المشهور في ميلاده، والمتتبّع للتاريخ العام يعرف ما أوجده هذا المخرّب، من الفزَع والقلَق في أذهان الشعب عامّة والجهاز الحاكم خاصّة، ومِن المعلوم أنّ المجتمع الذي يسوده القلَق الذهني يكون فكره مركزاً على ما يَخاف منه ومن الصعب أنْ يلتفت إلى شيءٍ آخر، كالفرد الواحد إذا خاف وحشَاً تركّز نظره وفكره وقوّته عليه، فكذلك المجتمع بشكلٍ أو بآخر، فكان وجود صاحب الزنج خيرَ صارفٍ ذهنيٍّ للفهم العام عن الالتفات إلى ميلاد الإمام المهدي (عليه السلام).
إلاّ أنّ هذه الفكرة سوف تبقى تجيش بشكلٍ غامِض في ذهن السلطات المتمثّلة في الخليفة المعتمد نفسه.. وتتجلّى بأوضح صوَرها على ما سوف يقوم به عند وفاة الإمام العسكري (عليه السلام)، إذ يكون المعتمد في ذلك الحين مرتاحاً بعض الراحة من الناحيتين السياسيّة والعسكرية.. بعد أنْ أوكَل قتال صاحب الزنج إلى أخيه أبي أحمد الموفّق، قبْل عامين.. سنة ٢٥٨هـ كما عرفنا، وقد استقلّ الموفّق تدريجاً بالحرب وغير الحرب من شؤون الدولة، وعزَل الخليفة عن الأمر والنهي وعن النشاط السياسي بالكلّية، فمِن هنا توفّر للمعتمد بعض الوقت للتفكير في أمرٍ آخر... هو البحث عن الوريث الشرعي للإمام (عليه السلام).
وعلى أيّ حال، لم يكن إلى حدِّ التاريخ الذي نتكلّم عنه، قد ثار حول ولادة المهدي (عليه السلام) أيُّ إحساسٍٍ أو التفات أو شك من قِبل المجتمع أو السلطات.. نتيجةً لمجموع هذه الخصائص والملابسات... وكأنّه حادثٌ غير موجود!.
وإلى هنا استطاع الإمام الحسَن العسكري (عليه السلام) أنْ يضمِن بكلِّ بساطة.. حمايةَ ولده المهدي (عليه السلام) من الجهاز الحاكم ومن كلِّ مَن يدور في فلَكِه.. وبذلك قام بالوظيفة الثانية خير قيام.
وأمّا الوظيفة الأُولى له (عليه السلام)، وهي إثبات وجوده للتاريخ وللأُمّة الإسلامية عامّة ولمواليه خاصّة... فكان يجب ـ تحت الظروف التي عاشَها الإمام ـ أنّ تتقلّص وأنْ تُضمَر، وأنْ يختصّ التبليغ بوجوده ورؤيته، بكلِّ شخصٍ يُعلَم من قوّة إيمانه وإخلاصه في عقيدته أنّ له من صلابة الإرادة، ما لا يُمكن أنْ تلين أمَام أيَّ ضغطٍ مِن السلطات، بحيث يكون على استعداد أنْ يُقدّم نفسه فِداءً في سبيل امتثال أمرِ إمامه (عليه السلام) بالكتمان. كما أّنه لابدّ أنْ يعلم من رجاحة عقله اتزانه ولباقته أنّه يكتم ذلك في المجتمع كتماناً تامّاً، ولا يتهوّر بإذاعة السرِّ إلى مَن لا ينبغي أنْ يذيعه له، وله الخبرة الكافية بالخاصّة الذين يُمكن أنْ يتبادل وإيّاهم هذا الخبَر... وهكذا كان.. وبمقدار هذا التبليغ خطّط الإمام العسكري (عليه السلام).
وكان هذا سبباً لحجْب المولود الجديد، حجباً تامّاً مطلقاً عن الجمهور غير المُوالي له، بل حتى عن جمهور الموالين ممّن لم يُحرَز فيه قوّة الإرادة وعمق الإخلاص.
وكان كل مَن يطلعه الإمام على المولود الجديد، فيرويه إيّاه أو يخبره عنه، مكلّفاً تكليفاً إلزاميّاً بأمرَين لا مناص له منهما، وهو يطبّقهما باعتبار إخلاصه وقوّة إرادته وإيمانه، وهما:
أوّلاً: وجوب الكتمان، وقد سمِعنا فيما سبَق أنّ أحد الأصحاب يقول للآخر: ولِد البارحة في الدار مولودٌ لأبي محمّد (عليه السلام) وأمَر بكتمانه، ويكتب الإمام العسكري (عليه السلام) لأحمد بن إسحاق: (ولِد لنا مولود، فليَكن عندك مستوراً وعن جميع الناس مكتوماً، فإنّا لم نُظهِر عليه إلاّ الأقرب لقرابته والمَولى لولايته، أحببنا إعلامك ليسرّك الله به، مثل ما سرّنا به، والسلام).(٣٤٧)
وقد عرفنا، بكلِّ وضوح وجه المصلحة في هذا الكتمان.
ثانياً: حرمة إطلاع أحد على اسمه (عليه السلام)، وهو أُسلوبٌ في الكتمان ورَد التأكيد عليه بشكلٍ خاص.
ولا يخفى أنّ اسم المهدي المنتظر أساساً، معلوم لدى الأُمّة، بإخبار نبيّها (صلّى الله عيه وآله) حين قال: (اسمه اسمي..)، وهذا يعني بكلّ وضوح أنّ اسمه محمّد، وهذهِ المعرفة لا يختلف فيها الناس من مُوالين وغيرهم.
ولكن السلطة القائمة، إذ تُريد أنْ تُطارد المهدي المنتظر في شخصِ المولود الجديد، لابدّ لها من أمرين: أوّلاً: أنْ تعرف ولادته، إذ مع الغفلة عنها لا يمكنها بطبيعة الحال أنْ تجرّد المطاردة الفعليّة الحقيقيّة ضدّ المولود. وثانياً: أنْ تعرف شخصه باسمه. إذ بدونه لا يُمكن أنْ تحارب فيه المهدي المنتظر؛ لاحتمال أنْ يكون المهدي هو ولدٌ آخر للإمـام العسكري (عليه السلام) لعلّه ولِد ولعلّه لم يولد بعد – فيما تحتمله السلطة – وهي ليس لها غرضٌ معيّن إلاّ ضدّ المهدي المنتظر على وجه التعيين.
مضافاً إلى وضوح أنّ الاسم يكسِب الفرد شخصيّته القانونيّة والاجتماعية، التي يُمكن أنْ تعيّن ويُشار إليها به، وأمّا مع الجهل به إلى جانب الجهل بشكله أيضاً، فيكتسب بذلك نحواً من الغموض وعدَم التعيين، في ذهن السلطات، فتحار عند البحث عنه، أنّها تبحث عن أيِّ شخصٍ على وجه التحديد، وهذا الغموض – على أيِّ حال – يُعطي المهدي المبحوث عنه رهبةً في صدورهم وهالةً قدسيّةً في إحساسهم وشعوراً بالعجز تجاهه، وفي هذا ما فيه من التسبّب إلى ضعف معنويّات السلطة وخاصّة الجنود الفاحصين المُطاردين من قِبل الدولة.
وطبقاً لهذا التكليف الثاني.. سمعنا الإمام الهادي (عليه السلام) حين يُبشّر بحفيده المهدي (عليه السلام) يقول: (لأنّكم لا ترون شخصه، ولا يحلّ لكم ذِكره باسمه). قال الراوي فقلت: فكيف نذكره؟ قال: (قولوا: الحجّة من آل النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)).
ونسمع عثمان بن سعيد العمري، وهو الوكيل الأوّل للحجّة (عليه السلام) يقول لِمَن يسأل عن اسمه:
إيّاك أنْ تبحث عن هذا،(٣٤٨) ويقول لآخر: نُهيتم عن هذا،(٣٤٩) وفي حادثةٍ مشابهة يقول: ابنه الوكيل الثاني محرّمٌ عليكم أنْ تسألوا عن ذلك، ويضيف: ولا أقول هذا مِن عندي وليس لي أنْ أُحلّل وأُحرّم، ولكن عنه (عليه السلام)، يعني الحجّة المهدي (عليه السلام)، ولكنّنا لا نجد نهيَاً عن التسمية وارداً عن الإمام العسكري (عليه السلام)، وهذا له سببٌ نقوله في مستقبل البحث إنْ شاء الله تعالى.
والذي أوَدّ إيضاحه في هذا الصدد، أنّ هناك احتمالاً راجِحاً تؤكّده الحوادِث، هو أنّ المُراد مِن كتمِ الاسم كتمِ الشخص نفسه وإخفاء ولادته عمّن لا ينبغي أنْ يصل إليه الخبر. وعليه فهناك تكليف واحد بالكتمان متعلّق بالولادة والاسم معاً، باعتبارهما يُعبّران عن معنىً أصيل واحد، وليس المُراد بكتمانِ الاسم حرمة التصريح به مع غضِّ النظر عن حرمة التصريح بولادته المحافظة عليه بشكل عام.
ومِن ثمّ نرى أنّ مَن يضطلع ببيان ذلك هو عثمان بن سعيد دون الإمام العسكري (عليه السلام)، وذلك: لما سنسمَعه من أنّ السلطات بعد أنْ أيِست من العثور على الوريث الشرعي للإمام العسكري، قرّرت الجزم بعدَم وجوده أساساً، وتقسيم ميراث الإمام بين الورَثَة الآخرين.
وبذلك أسقطت السلطة وجود الحجّة المهدي (عليه السلام) من حساب قانونها وغضّت النظر عنه بالكلّية، وإنْ كانت المخاوف تبقى تعتمل في نفسها على ما سنسمع، ومن المعلوم والحال هذه أنّ أيّ تصريحٍ جديد باسم المهدي (عليه السلام) أو تلويحٍ بشخصه أو تأكيدٍ على ولادته، سوف يُثير من جديد التفات السلطات وتجديدها للمطاردة والبحث، وهذا هو الخطَر الذي كان قد ابتعد عن الإمام إلى حدٍّ كبير، بعد يأس الدولة من العثور عليه، ومِن هنا تأتي التأكيدات من قِبل عثمان بن سعيد في هذا الزمَن المتأخّر نسبيّاً بالنهي عن التسمية.. فهو تارةً يقول: إيّاك أنْ تبحث عن هذا؛ فإنّ عند القوم أنّ هذا النسل قد انقطع(٣٥٠) والمراد بالقوم الحكّام، وبهذا النسل الأئمّة (عليهم السلام)، ويعلله في روايةٍ أُخرى قائلاً: فإنّ الأمر عند السلطان أنّ أبا محمّد (عليه السلام) مضى ولم يُخلّف ولداً وقسّم ميراثه، وأخذه مَن لاحقّ له، وصبر على ذلك.(٣٥١) إلى غير ذلك من التأكيدات التي سنبيّنها في فترتها التاريخية الخاصّة.
ومن الواضح أنّ إثارة السلطات من جديد لا يُفرّق فيه بين ذكر اسمه أو مولده، أو التعرّض لأيّ شأنٍ من شؤونه، وأمّا الإمام الهادي (عليه السلام)، فالمظنون أنّه يشير إلى خصوص هذه الفترة التاريخيّة، أو إليها وإلى ما بعدها إلى انتهاء زمان الغيبة الصغرى، فإنّ التصريح باسمه والإخبار عن ولادته ووجوده، كان خطَراً عليه في مثل تِلك الأزمنة.
ومعه نعرف أنّ هذا الحكم غير ساري المفعول إلى أيّامنا هذه، إذ من المعلوم عدَم وجود إيّ خطرٍ عليه من التصريح باسمه هذا اليوم.. إنْ لم يكن – بالعكس – متضمّناً للدعوة إليه ونشر فكرته العادلة وأهدافه الكبرى، وأمّا الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، فكان الموقف في أيّامه مختلفاً عن الموقف في عصرِ الغيبة الصغرى الذي يبدأ بوفاته، ويفتتحه عثمان بن سعيد بسفارته عن المهدي (عليه السلام)؛ فإنّ السلطات في ذلك العصر المتأخّر كانت قد أيِست من إلقاء القبض على المهدي (عليه السلام)، حتى قرّرت إلغاء وجوده القانوني كوريثٍ شرعيٍّ لأبيه، فكان في التصريح باسمه إعادةٌ للشكّ إلى ذهن السلطة، وأمّا في زمان أبيه (عليهما السلام)، فلَم تكن السلطة قد التفتَت إلى ولادته أو أحسّت بشيءٍ يدلُّ عليه، ومن المعلوم اختلاف الحالة النفسيّة عند السلطة بين كونها غافلةً أساساً عن الشيء، وبين كونها ملتفتةً عاجزة آيسةً. فإنّها في هذه الحالة الثانية تكون أقرب ذهناً وأكثر توجّهاً إلى تصيّد الخبَر الشارد واللفظ الوارد عن الإمام المهدي (عليه السلام).
إلاّ أنّنا سنلاحظ من الإمام العسكري (عليه السلام)، أنّه وإنْ لم ينهَ عن التسمية.. إلاّ أنّه يأخذ الحيطة من هذه الجهة.. فلا يُصرّح باسمه لأحدٍ من خاصّته ممّن يُريهم ولده المهدي، بل يكتفي بقوله لهم: (هذا صاحبكم)، يعني أنّه الإمام بعده (عليه السلام)، ويقتصر في التصريح باسمه على أقلِّ القليل.
وفي الحقيقة أنّ التكليف الشرعي الإسلامي، المتعلّق بالإمام العسكري (عليه السلام) بالتبليغ وإقامة الحجّة على وجود ولده، والتكليف المتعلّق بأصحابه بالإيمان بإمامهم الثاني عشر....يكفي فيه هذا المقدار من الإطلاع، وإنْ كان الاسم مجهولاً؛ إذ يكفيهم بينهم وبين الله أنْ يؤمنوا بوجودِ إمامٍ يرجعون إليه في الأحكام والمشاكل، ولا يتوقّف ذلك على معرفة شخصهِ وإمكان الاتصال به عن طريق سُفرائه.
وإذ يُريد الإمام العسكري (عليه السلام) أنْ يثبت وجود ولده المهدي (عليه السلام)، يختار من مواليه وأصحابه مَن كان له صلابةٌ في الإيمان وعمقٌ في الإخلاص، وبخاصّة أُولئك الذين يربطون بينه وبين قواعده الشعبية، وينقلون منه وإليه المراسلات والتوقيعات، فإنّهم خيرُ مَن يستطيع أنْ يبلغ خبر ولادة الحجّة المهدي إلى الجماهير الموالية للإمام (عليه السلام) فإن هذه الجماهير تعرف سلفاً وثاقة هؤلاء الأشخاص وإيمانهم وإخلاصهم واعتماد الإمام عليهم في الربط بينه وبينهم.
* * *
ومِن ثمّ لنْ يفرّق شيئاً على الفرد من القواعد الشعبية الموالية، بين أنْ يرى الإمام المهدي بنفسه أو يسمَع عنه من أبيه... وبين أنْ يبلغه وجوده محفوفاً بقرائن الإثبات مِن قِبل هؤلاء الأصحاب الموثوقين... يستلم الفرد منهم الخبَر كما يستلم الفتوى من الإمام (عليه السلام).
على أنّنا سنعرف أنّ الكثيرين من الأصحاب قد تيسّرت لهم رؤيته، كان جملة مَن حاول الوصول إلى المهدي (عليه السلام) في الغيبة الصغرى، تيسّر له ذلك، إذن فيكفي الفرد المُوالي أنْ يُكثِر السؤال مِن كثيرين ممّن يعرف فيه التقدّم والرسوخ في علاقته مع الإمام العسكري (عليه السلام)، وممّن شاهد ولده المهدي (عليه السلام) من غيرهم... ليحصل عنده التواتر الموجب للعلم بوجود إمامه الثاني عشر، ولئن كان التواتر قد وصلنا من الطرق الخاصّة والعامّة إلى هذا العصر.. فكيف في ذلك الزمَن الذي كانت كلّ القرائن تدلّ عليه وكل الأيدي تشير إليه؟!، وكان همُّ أبيه ووكلائه وأصحابه... هو التأكيد على وجوده والتبليغ عنه إلى كلِّ صالح للتبليغ.
ولعلّ أوسَع إعلان يقوم به الإمام العسكري بين أصحابه عن ولادة ابنه وإمامته من بعده، ووجوب طاعته عليهم، وأنّه (عليه السلام) قبل وفاته بأيّام، وقد كان مجلسه غاصّاً بأربعين من أصحابه ومخلصيه، منهم: محمّد بن عثمان العمري، ومعاوية بن حكيم، ومحمّد بن أيّوب بن نوح..... يعرض عليهم ابنه (عليه السلام) ويقول: (هذا إمامكم مِن بعدي، وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرّقوا مِن بعدي فتهلكوا في أديانكم)، ويضيف منبّهاً لهم إلى أنّ هذه هي فرصتهم الوحيدة في المهدي (عليه السلام) قائلاً: (أما أنّكم لا ترونه بعد يومكم هذا).(٣٥٢)
ونجد أنّه (عليه السلام) عرَض ولده على أصحابه في اليوم الثالث مِن ولادته، وأعطاهم المفهوم الصحيح الأساسي الذي أوكله الله تعالى إليه، وعيّن لهم تكليفهم تجاهه بصفته الإمام بعد أبيه، وقال لهم: (هذا صاحبكم بعدي، وخليفتي عليكم..وهو القائم الذي تُمَدّ إليه الأعناق بالانتظار، فإذا امتلأت الأرض جوراً وظلماً، خرَج فملأها قسطاً وعدلاً).(٣٥٣)
فهذا وذاك هو الإعلان الرسمي الكبير الذي قام به الإمام العسكري (عليه السلام)، على طرَفيّ المدّة، بعد الميلاد وقبل الوفاة...لكي يكون هو الأساس الضخم لإقامة الحجّة تجاه القواعد الشعبية المُوالية، وكان خلال هذه المدّة يعرضه على أشخاصٍ بمفردهم حين يزورونه، فمنهم: عمرو الأهوازي حيث أراه أبو محمّد (عليه السلام) ولده المهدي (عليه السلام) وقال: (هذا صاحبُكم).(٣٥٤)
ومنهم شخصٌ آخر يزور الإمام (عليه السلام) ويُريد أنْ يتأكّد من وجود الإمام بعده قائلاً: يا سيّدي، من صاحب هذا الأمر، يعني الإمامة، فيأمره الإمام العسكري (عليه السلام) برفع سترٍ كان مسبلاً على بابٍ غرفةٍ إلى جنبه، فيرفعه الرجل، فيخرج إليهم غلام يقدره الراوي بعشرِ أو ثمانِ سنين، واضح الجبين أبيضٌ درّيّ المقلتين شثن الكفّين معطوف الركبتين، في خدّه الأيمن خال، وفي رأسه ذؤابة، فيجلس على فخِذ أبي محمّد (عليه السلام)، فيقول الإمام للرجل: (هذا هو صاحبكم)، ثمّ وثَب الغُلام، فقال له أبوه: (يا بني، ادخل إلى الوقت المعلوم)(٣٥٥)، يعني وقت ظهوره (عجّل الله فرجه)، ولا يخفى في تقدير الراوي لعُمر المهدي (عليه السلام)، لا ينافي مَا عرفناه، من أنْ عمره حين وفاة أبيه خمس سنين، فإنّ هذا بحسَب عدَد السنين هو الصحيح، وأمّا بحسَبِ النظر إلى نموِّ المهدي (عليه السلام) ونشاطه البدَني، فلا يُمكن أنْ نستبعد أنْ يبدو في ظرفِ خمسِ سنين أو أقل، كابن ثمان سنين أو أكثر، وذلك انطلاقاً من أحدِ أساسَين:
الأساس الأوّل: الميزان الطبّي الطبيعي: فإنّه مِن المشاهد وجداناً أنّ كثيراً من الناس لا يُمكن تقدير أعمارهم بشكلٍ دقيق؛ إذ يبدو للناظر أنّهم أكبر من عمرهم الحقيقي بعدّة سنَوات، أو أصغر بعدّة سنوات.
فإذا أضفنا إلى ذلك نشاطاً متزايداً وصحّةً موفورة لم نستبعد أنْ يبدو الصبيّ على ضعف عمره الحقيقي...حتى على الموازين الطبّية الطبيعيّة.
الأساس الثاني: ما ورَد في بعض رواياتنا من أنّ نموّ الإمام المعصوم يكون عادةً أسرَع من غيره، فمن ذلك ما ورَد عن الإمام العسكري (عليه السلام) نفسه يقول: (إنّ أولاد الأنبياء والأوصياء إذا كانوا أئمّة ينشأون بخلاف ما ينشأ غيرهم، وأنّ الصبيّ منّا إذا كان أتى عليه شهر كان كمَن أتى عليه سنة).(٣٥٦)
ولعلّ بالإمكان أنْ نُفسّر هذا الأساس الثاني بالأساس الأوّل أيضاً، والله العالم.
وممّن عرضه عليه الإمام العسكري (عليه السلام)، رجلٌ من أهل فارس قصَد الإمام (عليه السلام) لتشرّفه بخدمته فأذن له الإمام بذلك، فكان مع الخدَم يشتري لهم الحوائج من السوق، وبقيَ على هذه الحال حتى أصبح خاصّاً وارتفعت الكلفة بينه وبين الإمام.. فكان يدخل الدار من دون استئذان إذا لم يكن فيها إلاّ الرجال.
وبينما هو داخل عليه في يومٍ من الأيّام، والرجال عنده، إذ سمِع حركةً في البيت – يعني الغرفة – وناداه الإمام: (مكانك لا تبرَح). يقول: فلَم أجسِر أخرج ولا أدخل، فخرجَت عليّ جاريةٌ معها شيءٌ مغطّى، ثمّ إنّ الإمام ناداه وأمره بالدخول فدخل الغرفة، فنادى الجارية فرجِعت، فأمرها الإمام أنْ تكشف ما معها، فكشفَت عن غلامٍ أبيض حسن الوجه، قدره الراوي بسنتين، وقال الإمام: (هذا صاحبكم)، ثمّ أمر الجارية فحملته فلم يره بعد ذلك حتى توفّيَ الإمام العسكري أبو محمّد (صلوات الله عليه).(٣٥٧)
فنرى هذا البوّاب بالرغم من ملازمته للدار ودخوله من دون استئذان أحياناً.. لم يفهم بولادة الإمام المهدي (عليه السلام) ولم يحسَّ بتجدّد أيّ أمرٍ جديد في الدار، واكتفى الإمام العسكري (عليه السلام) بعرضه عليه مرّةً واحدة كما هو الشأن مع جملةٍ أصحابه وخاصّته، بل حتى لو فرضنا أنّ هذا البوّاب قد ورَد إلى خدمة الإمام (عليه السلام) بعد ميلاد ولده (عليه السلام)، فإنّه أيضاً لم يفهم به إلاّ في اليوم الذي شاء له الإمام ذلك، وهذه الرواية وإنْ كان المفهوم السطحي منها يدلّ على اختصاص الرؤية بهذا البواب، لكنّنا لو دقّقنا النظر نجِد أنّ الرجال الذين كانوا عند الإمام والجارية التي جاءت بالمهدي (عليه السلام) كلّهم قد شاهدوه بطبيعة الحال، وإنْ كان الراوي ناقلاً للقصّة مِن زاويته الخاصّة.
وممّن عرضه الإمام العسكري عليه رجلٌ من أصحابه يقول: رأيت صاحب الزمان (عليه السلام)، ووجهه يضيء كالقمر ليلة البدر، ورأيت على سرّته شَعراً يجري كالخط، وكشفتُ الثوب عنه، فوجدته مختوناً، فسألت أبا محمّد (عليه السلام)، عن ذلك فقال: (هكذا ولِد وهكذا ولِدنا، ولكنّنا سنمرّ الموسى عليه لإصابة السنة)،(٣٥٨) يشير بذلك إلى أنّ القانون العام في الأئمّة (عليهم السلام) أنْ يولدوا مختونين.. ولكنّ السنّة الإسلاميّة في الختان لا ينبغي أنْ تتخلّف عن أحد. فلابدّ من إمرار الموسى عليه تحفّظاً على شكلِ الخِتان، وعلى التعليم الإسلامي العام.
ومِن هنا نعرف أنّ هذه الرؤية كانت قبل إمرار الموسى، وهو ما يستحبّ عمله في الإسلام في اليوم الثالث أو السابع من حياة الطفل.
وممّن عرَضه الإمام العسكري (عليه السلام) من أصحابه: أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري، وهو مِن خاصّة الإمام وثُقاته، وأعطاه الفكرة الواعية الصحيحة عن غيبة الإمام المهدي، وأفهمه عدّة براهين عن إمكان الغيبة وصحّتها، ومجال البحث والتدقيق في هذه البراهين ليس هو هذا الكتاب، بعد أنْ كان مقتصراً على الجهة التاريخية للإمام المهدي (عليه السلام)، ولعلّنا نستقصي الكلام فيها في بحثٍ مقبِل.
وعلى أيّ حال فإنّ أحمد بن إسحاق يقصد زيارة الإمام (عليه السلام)؛ يُريد أنْ يسأله عن الخلَف مِن بعده... ومن يتولّى الإمامة بعد وفاته ويضطلع بشؤون الأُمّة عند ذهابه إلى ربّه، فيدخل على الإمام، فيقول له الإمام مبتدئاً: (يا أحمد بن إسحاق، إنّ الله تبارك وتعالى لم يخلِ الأرض منذ خلَق آدم (عليه السلام) ولا يخليها إلى أنْ تقوم الساعة، من حجّةٍ على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه يُنزِل الغيث وبه تخرج بركات الأرض).
قال: فقلت: يا ابن رسول الله، فمَن الإمام والخليفة بعدك؟
فينهض الإمام(عليه السلام) مسرعاً ويدخل إحدى الغرف، ثمّ يخرج وعلى عاتقه غلامٌ كأن وجهه القمر ليلة البدر، من أبناء ثلاث سنين.
ثمّ يقول: (يا أحمد بن إسحاق، لولا كرامتك على الله عزّ وجل وعلى حجَجِه؛ ما عرضت عليك ابني هذا، إنه سميُّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وكنيُّه،(٣٥٩) الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.
يا أحمد بن إسحاق، مثله في هذه الأُمّة مثَلُ الخضر (عليه السلام)، ومثله مثَل ذي القرنين. والله، ليغيبَنّ غيبةً لا ينجو فيها من الهلَكَة إلاّ مَن ثبّته الله عزّ وجل على القول بإمامته، ووفقه الله للدعاء بتعجيل فرجه).
قال أحمد بن إسحاق: فقلت: يا مولاي، فهل من علامةٍ يطمئنّ بها قلبي، فنطق الغلام (عليه السلام) بلسانٍ عربيٍّ فصيح: (أنا بقيّة الله في أرضهِ والمنتقم من أعدائه، ولا تطلب أثَراً بعد عين، يا أحمد بن إسحاق).
قال أحمد بن إسحاق: فخرجت مسروراً، فلمّا كان الغد عدت إليه، فقلت له: يا ابن رسول الله، لقد عظُم سروري بما منَنتَ عليّ، فما السنّة الجارية مِن الخضر وذي القرنين، قال: (طول الغيبة يا أحمد)، قلت: يا رسول الله، إنّ غيبته لتطول؟ قال: (إي وربّي، حتى يرجع عن هذا الأمر أكثر القائلين به، فلا يبقى إلاّ مَن أخذ الله عزّ وجل عهده بولايتنا، وكتَب في قلبه الإيمان وأيّده بروح منه، يا أحمد بن إسحاق، هذا أمرٌ من أمر الله وسرُّ من سرِّ الله وغيب مِن غيب الله، فخذ ما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين، تكن معنا في علّيّين).
وفاة الإمام العسكري (عليه السلام):
وإذ يؤدّي هذا الإمام الممتحَن الصابر مسؤوليّته التامّة تجاه دينه ومجتمعه وولَدِه، يُريد الله تعالى أنْ يلحقه بالرفيق الأعلى.. وذلك عام ٢٦٠ للهجرة... حيث اعتلّ (عليه السلام) في أوّل يوم من شهرِ ربيع الأوّل من ذلك العام،(٣٦٠) ولا زالت العلّة تزيد فيه والمرَض يثقل عليه حتى توفّيَ في الثامن من الشهر.
ويُتوفَّى (سلام الله عليه) عن تسعٍ وعشرين سنة مِن العمر، وقد سبَق أنْ ذكرنا أنّ الغالب في البشَر أنْ يكون الفرد في مثل هذا العمر في أوجِّ الصحّة والقوّة، فما الذي أودى بهذا الإمام المُمتحَن الصابر في زهرة شبابه، غير العمَل التخريبي من قِبل الجهاز الحاكم، ولم يكن يُنقل عنه ضعفٍ في المزاج أو اعتلالٍ سابقٍ في الصحّة أو مرضٍ وراثي، ولا أيَّ شيءٍ غيره.
وبمجرّد أنْ يعتلّ الإمام (عليه السلام) يصل الخبَر إلى الوزير عُبيد الله بن يحيى بن خاقان، الذي رأينا الإمام (عليه السلام) يزوره في بعض الأيّام فيحتفي به حفاوةً بالغة، ويقول لولده أحمَد حيثُ سأله عنه: يا بني، لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العبّاس ما استحقّها أحد مِن بني هاشم غيره.
وهنا تنتصب أمامنا همزةُ استفهامٍ كبيرة...في سبب الوصول السريع لهذا الخبَر إلى الوزير، ربّما كان ذلك انتشار الخبَر في المجتمع، باعتبار شعور المجتمع بالأسَف تجاه مرض الإمام (عليه السلام)، وربّما كان عن طريق ما لدَيهم من العيون والمخبرين المنتشرين بين أفراد الشعب، المطاردين للإمام ومواليه، وربّما كان لإطلاع الوزير على سبب مرضه باعتباره ناشئاً من الجهاز نفسه، وهو إلقاء السمِّ إليه من قِبَل بعض المُجرمين مِن محسوبي الدولة، والذي يُبعِد الاحتمالين الأوّلين ما عرفناه من انعزال الإمام واحتجابه حتى من مواليه، وجملة من أصحابه فضلاً عن عيون الدولة ومخبريها.. فكيف يصل الخبر بمثل هذه السرعة إلى الوزير، ما لَم يتحقق الاحتمال الثالث، وهو عِلم الوزير بالسبب، ومِن هنا نراه يعرف ويجزم أنّ الإمام يشرف على الموت، ولا يبدي احتمالاً في شفائه، وإنّما يعيّن له الجماعة التي تلازمه وترقَب ساعة موته، فلو لم يكن يعرف السبب لفكّر باحتمال شفائه، ولو باعتباره شابّاً قويَّ البنية لا تؤثّر فيه الأمراض عادةً.
وعلى أيّ حال، فهو يركب من ساعته إلى البلاط (دار الخلافة) لكي يخبر الخليفة بمرض الإمام (عليه السلام) ويستصدّر منه الأمر بتعيين جماعةٍ من خدَمِه الثقات لديه للإشراف على حالِ الإمام، ومراقبته في صورة القيام بخدمته وتنفيذ حاجاته، وهكذا كانت السياسة العبّاسية تجاه الإمامين العسكريّين، وكان الإكرام والإعظام يستبطِن دائماً قصدَ المراقبة والمطاردة والتنكيل، وقد رأينا ذلك من المتوكّل تجاه الإمام الهادي (عليه السلام) بكلِّ وضوح، ونراه بوضوح الآن أيضاً.
ثمّ يرجع الوزير مستعجِلاً، ومعه خمسةٌ من خدَم المعتمد، كلّهم من ثقاته وخاصّته، منهم نحرير الخادم، ومَن نحرير هذا؟! إنّه الذي تولّى سجن الإمام (عليه السلام) في يومٍ من الأيّام، وكان يُضيّق عليه ويؤذيه، وحلف: والله لأرميّنّه إلى السباع.(٣٦١)
ويأمرهم الوزير بلزوم دار الحسَن (عليه السلام) وتعرّف خبره وحاله؛ فإنّ الإمام في مثل هذا الحال يحتاج إلى الرعاية الدائمة، والدولة تحتاج إلى الاتصال الدائم بإخباره ومعرفة ساعة وفاته، وتحتاج إلى معرفة أمرٍ آخر..أعمَق من ذلك وأعقد.. وهو السرُّ العميق الذي لا زال الإمام (عليه السلام) يُحافظ على كتمانه خمسةَ أعوامٍ متطاولة....وهو وجود ولده المهدي (عليه السلام)، فلعلّ بقاء الخدَم الخمسة في الدار ومرابطتهم الدائمة فيها.. تنتج ولو صدفة – إطلاع أحدِهم على أيّ تصرّفٍ مريبٍ أو على أيِّ همزةٍ للاستفهام تدلّ الطريق على الإمام المهدي (عليه السلام).. والدولة كما عرفنا، لم تكن مطلعة إلى ذلك الحين على ولادته.. ولكن قلنا أنّها كانت تعرف الحق، وتعترف في دخيلة ضميرها بصدق الإمام.. فهي تتوقّع ـ بكلِّ وضوح ـ إنجاب الإمام العسكري (عليه السلام) للمهدي وها قد أوشكَت حياته على الانتهاء، ولم يبلغها وجود ولده، إذن فهي تُحاول جاهدة أنْ تعرف.. وأنْ تتنسّم الهواء، وأنْ تتشمّم الأنباء عن ذلك بكلِّ طريق.
وبعث الوزير إلى نفَرٍ من المتطبّبين، فأمرهم بزيارته وتعهّده صباحاً ومساءً، إلاّ أنّ طبّهم لم يكن مُجدياً ورأيهم لم يكن حصيفاً... ولعلّهم لم يُباشروا العلاج بشكلٍ حقيقي يُتوَقّع منه الشفاء؛ فإنّه لم يمر إلاّ يومين أو ثلاثة حتى أوصلوا الخبَر إلى الوزير، بأنّ الإمام قد ضعُف وأنّ حاله قد ثقُل.. فأمر هؤلاء الأطبّاء بملازمة داره وعدَم مغادرته.
وبعث إلى قاضي القضاة، وهو على ذلك الحين: الحُسين بن أبي الشوارب الذي تولّى هذا المنصب منذ عام ٢٥٢هـ(٣٦٢) فأحضره إلى مجلسه فجاءه ابن أبي الشوارب، فأمر الوزير أنْ يختار عشرة ممّن يوثَق بدينه وورعه وأمانته... فاختارهم له وأحضرهم، فأرسلهم الوزير إلى دار أبي محمّد الحسن (عليه السلام).. حيث الإمام المريض (عليه السلام) وأمرهم بملازمته ليلاً ونهاراً، إذن فقد أصبح عدد الملازمين له – سوى الأطباء – خمسَة عشر نفَراً مِن قِبَل الدولة، وكلّهم في حالةِ مراقبةٍ وإنصاتٍ وتأهّب، ويبقون ملازمين له حتى يتوفّى (عليه السلام).(٣٦٣)
ولكن وجود هؤلاء القوم في الدار، لم يمنَع الإمام من أنْ يتفرّغ في ليلة وفاته في إحدى غُرَف الدار، لأجل كتابة عددٍ كبير من الكتب إلى المدينة... وأنْ يُرسِل رسولاً إلى المدائن بكتبه.. كلّ ذلك لأجل حفظِ عددٍ من المصالح الاجتماعيّة والتخطيط لها إلى ما بعد وفاته (عليه السلام).
وإذ يطلع الفجر من اليوم الثامن من ربيع الأوّل، لا يكون ساعتئذٍ معه في الغرفة إلاّ صقيل الجارية، وهي نرجس أُمّ المهدي (عليه السلام)، وعقيد الخادم، وهو من خدَم الإمام (عليه السلام) ـ تقول الرواية ـ: ومِن عِلم الله عزّ وجل غيرهما، تُشير إلى وجود ولده المهدي (عليه السلام) أيضاً معهم.
فيأمر الإمام (عليه السلام) أنْ يؤتى بماءٍ مغلي بالمسطكي، فجاءوا به في قدَح، فيقرّر الإمام البدء بأداء الصلاة أوّلاً..ويأمرهم بأنْ يُساعدوه، فجاءوا له بمنديل وبسطوه في حِجره لأجل الوضوء، فيأخذ (عليه السلام) من صقيل الماء ويتوضّأ ويصلّي صلاةَ الصبح على فراشه...وإذ ينتهي من الصلاة يأخذ القدَح لكي يشرب، فيستولي عليه ضعف المرض، فترتجِف يده، ويضرب القدَح ثناياه مع حركة اليَد الرتيبة، ولم يستطع أنْ يستمرّ بالشرب، فتأخذ صقيل القدَح من يده، فيستلقي ويسلّم الروح من ساعته (صلوات الله عليه).(٣٦٤)
وبذلك نفهم أنّ الإمام استطاع بطريقته في الإخفاء والرمزية، وبلباقته الاجتماعية..أنْ يقضي الرجال الخمسة عشر، عن مجاوراته ويحجبهم عن أُموره الخاصّة، فيُكمل ما ينبغي أنْ يقوم به من أعمال قبل أنْ تدركه المنيّة، ثمّ يتوفّى بمعزلٍ عنهم.
وإذا كان هذا النشاط الذي قام به، قد خفيَ عليهم، فمِن الأولى والأوضح أنْ يخفقوا في مهمّتهم الأساسية.. ويبقى ما هو أهم في الإخفاء وأعمَق في غور الإبهام عليهم.. وهو وجود المهدي (عليه السلام).. يبقى في حجابه وخفائه.. لم يستطيعوا أنْ يجدوا له أيَّ أثر، أو يقعوا على ما يؤدّي إليه أو يدلَّ عليه.
* * *
وبمجرّد أنْ يُذاع خبَر وفاته في سامرّاء، وهي البلدة التي يؤمن كلُّ مَن فيها بأنّ الإمام خيرُ مَن فيها عِلماً وزهداً وعبادة ونسَباً، لا يختلفون في ذلك باختلاف مناصبهم وأعمالهم وباختلاف ولائهم وعدائهم، فمن الطبيعي لهذه البلدة وهي تفقد هذا الرجل العظيم أنْ تضجّ ضجّةً واحدة، وأنْ تعطّل أسواقها، وأنْ يجتمع الناس للشهادة والسير في جنازة الإمام (عليه السلام)، حتى كان ذلك اليوم شبيهاً بيوم القيامة، وركب بنو هاشم والكتّاب والقضاة والمعدّلون إلى جنازته وتجهيزه، وإذ يفرغون من تهيئته وتجهيزه، يبعث الخليفة المعتمد إلى أخيه أبي عيسى بن المتوكّل، فيأمر بالصلاة عليه، فلمّا وضِعت الجنازة للصلاة عليه، دنى أبو عيسى منه، فكشف عن وجهه، فعرضه على الحاضرين من بني هاشم من العلويّين والعبّاسيّين والقوّاد والكتّاب والقضاة والمعدّلين وقال – ما أطرف ما قال -: هذا الحسَن بن عليّ بن الرضا (عليهم السلام)، مات حتفَ أنفه على فراشه.
وحضره من خدَم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان، ومِن القضاة فلان وفلان ومن المتطبّبين فلان وفلان، ثمّ غطّى وجهه وصلّى عليه وأمر بحمله.
إنّ ذهن الجهاز الحاكم، المتمثّل الآن بأبي عيسى بن المتوكّل، مشحون بالتوجّس والحذَر، ممّا يرونه مرتسماً في أذهان الناس بوضوح، وإنْ لم تصرّح به الأفواه، وهو التهمة للجهاز الحاكم بأنّه هو الذي سبّب موت الإمام (عليه السلام) بشكلٍ أو آخر؛ لأنّه كان يُمثّل دور المعارضة الصامدة الصامتة ضدّه، ولعلّنا نستطيع الآن أنْ نلمس اللاعِج الكبير الذي يختلج في ذهن الجهاز الحاكم، بعد أنْ أجهز على الإمام فِعلاً وتسبّب إلى موته حقيقةً.. إنّه يُريد – بأيِّ طريق – أنْ يبقى هذا الأمر في غاية الخفاء، وأنْ يبقى ثوبه، على المستوى العام.. أبيض نقيّاً من دم الإمام (عليه السلام) حتى لا يبوء بلعنة التاريخ وانتقام الأُمّة، والمثل يقول: يكاد المجرُم أنْ يقول خذوني!
انظر إلى الأُسلوب الطريف الذي نفيت به هذه التهمة! إنّ الدولة تستخدم شخصيّتها وقوّتها في (الفتوى) بنزاهتها، أمام هذا الجمع الغفير، وتتّخذ من سكوت الجمع دليلاً على الموافقة، متغاضيةً عن أنّ شخصاً من هؤلاء لا يُمكنه، بأيّ حالٍ، أنْ يفتح فاهُ بأيِّ اعتراضٍ أو استنكار، وإلاّ سيكون مصيره معروفاً لدى لجميع.
والأطرف من ذلك، أنّ جميع الحاضرين، وكل المجتمع متسالمون على ذلك في نفوسهم، ويعلمون شأن هذه (الفتوى)، إلاّ أنّها الأُسلوب الغريب الذي تلجأ إليه السلطات رغم كلّ ذلك.
وكانت هناك صلاةٌ أُخرى...خاصة.. قد صُلِّيَت على الإمام قبل ذلك في داره... بعيداً عن المستوى الرسمي العام الذي سمعناه.. بين أصحابه ومواليه.
وهنا تبرز شخصيةٌ جديدة لم تكن قد برَزَت في التاريخ لحدِّ الآن، هي شخصيّة (جعفر بن عليّ) أخو الإمام العسكري وعمّ الإمام المهدي (عليهما السلام).. وهو الذي سيكون له الأثر السيّئ في إثارة السلطة على عائلة الإمام (عليه السلام) على ما سوف نسمَع في مستقبل الحديث.
يرى جعفر أنّ الإمام العسكري (عليه السلام) سوف لنْ يكون له خلَفٌ ظاهر وريثٌ واضح، إذن فهناك فرصة موسّعة للاصطياد بالماء العكِر، ولابدّ – في نظرِه – من استغلال هذه الفرصة للوصول إلى التزعّم على القواعد الشعبية المُوالية لأخيه، واستقطاب الأموال التي كانت ولا تزال تُحمَل إليه من أطراف البلاد الإسلامية، والحصول على إرث أخيه العسكري (عليه السلام)، ويتمّ كلّ ذلك بإدّعاء الإمامة بعد أخيه.. وأوّل مستلزمات ذلك وأقربها هو أنْ يُباشر الآن الصلاة عليه.
ومِن ثمّ نجد الإمام العسكري (عليه السلام) بعد وفاته، وقبل إخراجه للجمهور، مسجّى في داره، وجعفر بن عليّ واقفٌ على باب الدار يتلقّى مِن موالي أخيه التعزية بالوفاة والتهنئة بالإمامة، وهو مرتاح له كأنّه هو الوضع الطبيعي، ولا يخفى أنّ إجمال الفكرة في أذهان هؤلاء من حيث وجود ولد عند الإمام وعدَم وجوده.. ساعَد على هذا الإيهام إلى حدٍّ كبير، وقد عرفنا أنّ الظروف القاسية التي عاشها الإمام (عليه السلام)، لم تكن مساعدةً بأيّ حالٍ على إيضاح الفكرة وإبلاغ المفهوم إلى سائر القواعد الشعبية في العاصمة وغير العاصمة.
ولكنّا سنسمع بعد قليل مخطّط جعفر بن عليّ قد مات في مهده ولم يكتب له النجاح، واستطاع الإمام المهدي أنْ يستقطب عواطف وقيادة مُواليه.. أمّا مباشرةً أو عن طريقِ نوّابه وسُفرائه على ما سنعرف.
وبعد قليل يخرِج عقيد الخادم، الذي سمِعنا اسمه في حادثة الوفاة، ويقول له: يا سيّدي، قد كُفِّن أخوك، فقُم للصلاة عليه فيدخل جعفر ويدخل جماعة من الشيعة يقدمهم عثمان بن سعيد العمري المعروف بالسمّان، الذي سيصبح النائب الأوّل للإمام الغائب، فيرَون الإمام العسكري (صلوات الله عليه) على نعشه مكفّناً، فتقدّم جعفر بن عليّ ليصلّي على أخيه.
وإذ صلّى جعفر، فقد اكتسب في نظَر المجتمع بعض الحق، ووضَع لبنةً أساسية في مخطّطه، وحصل على سابقةٍ قانونيّةٍ يمكنه أنْ ينطلق منها للتغرير بجماهير الموالين، وهو ما لا يُمكن أنْ يحدث مع وجود الإمام المهدي (عليه السلام) وقدرته على الأخذ بزمام المبادرة لدفع هذه الشبهة، ورفع البدعة، وإنقاذ مواليه من التورّط بغير الحق من حيث لا يعلمون.
إذن فلابدّ أنْ يبادر الإمام المهدي (عليه السلام) إلى منع عمّه عن الصلاة على الإمام (عليه السلام)، ويحرمه من هذه (السابقة القانونية)، ويحوز هذه السابقة لنفسه، وهو أحقُّ بذلك.. لكونه الإمام بعد أبيه والوريث الشرعي له، ومِن ثمّ يُشاهد الواقفون صبيّاً يخرج بوجههِ سمرة، بشعره قطَط بأسنانه تفليج، فيجذب رداء جعفَر بن عليّ ويقول له: (تأخّر يا عم، فأنا أحقُّ بالصلاة على أبي)، فيتأخّر جعفر، من دون مناقشة، وقد أربَد وجهه وعلّته صفرة، ويتقدّم الصبيّ (عليه السلام)، ويصلّي على أبيه.(٣٦٥)
لاحظْ معي... إنّه كان في إمكان المهدي (عليه السلام) أنْ يصلّي على جثمان أبيه في الخَفاء قبل أنْ يُدعي جعفر للصلاة عليه...لكي تبقى صلاة جعفر بن عليّ هي الصلاة الرسميّة على المستوى الخاص.. إلاّ أنّ هذا هو الذي لا يُريده المهدي، ويُحاول التأكيد على نفيه و(إقامة الحجّة) ضدّه.
انظر الآن..أنّ من جملة الواقفين إنْ لم يكن أكثرهم، هو ممّن هنّأ جعفر بالإمامة قبل لحظات.. يرى الآن بأُمِّ عينه فشَل جعفر، وتتضّح أمامه بدعته ومغالطاته، وسوف يكون كلُّ فردٍ لساناً في نقل ما رأى من الحق إلى الآخرين... فقد كان ذلك بمنزلة الإعلان العام من قِبَل الإمام المهدي (عليه السلام) في فضحِ مخطّط عمّه وإحباط مقصوده.
وكان جعفر ليّناً في تأخّره عن الصلاة.. بالرغم مِن اصفرار وجهه، أسَفَاً على فشَل مخطّطه،وخجَلاً من هؤلاء الحاضرين الذين تقبّل منهم التهنئة بالإمامة، من دون أنْ ينفيها عن نفسه.. إنّه على أيِّ حال، لا يستطيع مكافحة الحقِّ الراسخ في ضمير الأُمّة، بسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وجهود الإمام العسكري (عليه السلام).. فإنّه سيفتضح إنْ فعل ذلك.. أكثر ممّا هو عليه... وسوف لنْ يرى إلاّ الاشمئزاز والازورار من القواعد الشعبية التي يتوقّع منها التأييد.
وعلى أيِّ حال، فبعد أنْ تنتهي هذه الصلاة الخاصّة، يُحمل جثمان الإمام (عليه السلام) للجمهور لكي تُصلَّى عليه صلاةً أُخرى (رسميّة!) ويتمُّ تشييعه وحمله إلى مثواه الأخير، وقد دُفِنَ إلى جنب أبيه الهادي (عليهما السلام).
جعفر بن عليّ:
يحسن بنا الآن أنْ نستعرض بإيجاز سوابق جعفر بن عليّ وماضيه حتى يتّضح لنا التحديد التام لموقفه، وما سيقوم به من نشاط.
وأوّل ما يواجهنا من ذلك، موقف أبيه الإمام الهادي (عليه السلام) منه في أوّل ولادته، حيث نرى أنّ العائلة كلّها سُرّت بولادته سِوى أبيه (عليه السلام) فسألته امرأة في ذلك، فقال: (هوني عليك، وسيضلُّ به خلقٌ كثير).(٣٦٦)
ولمّا ترَعرَع وشبّ انحرف عن تعاليم الإسلام وعن توجيه والده وإمامه (عليه السلام)، واتخذ طريق اللهوِ وشرب الخمر والمجون، تأثّراً بهذا الخطِّ المنحرف الذي كان يعيش على موائده الكثيرون في تلك العصور.
ومِن ثمّ نرى والده (عليه السلام) يأمر أصحابه بالابتعاد عن جعفر وعدَم مخالطته، معلّماً إيّاهم بأنّه خارج عن تعاليمه، عاصي لأمره ونهيه، وكان يقول لهم: (تجنّبوا ابني جعفراً، فإنّه منّي بمنزلة نمرود من نوح، الذي قال الله عزّ وجل فيه: قال نوح: (.. إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي): قال الله: (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ))(٣٦٧)، فإنّ المنطق القرآني، قائم على أنّ الولد إذا كان مقتفياً خُطى والده في اتباع الحق فهو ولده على الحقيقة، وأمّا إذا كان زائغاً عن الحق منحرفاً عن طريق العدل... فهو وإنْ كان مولوداً منه، إلاّ أنّه ليس من أهله؛ لأنّه عملٌ غير صالح، وهذا بعينه هو حال الإمام الهادي (عليه السلام) مع ابنه جعفر.
وأصبَح هذا المسلَك معروفاً عنه مشهوراً فيه، حتى لَنرى أنّ أحمد بن عُبيد الله بن خاقان، الذي يروي اجتماع والده بالإمام العسكري (عليه السلام)، نراه إذ سألوه عن جعفر يقول: ومَن جعفر فيَسأل عن خبَره أو يقرِن بالحسن (عليه السلام)، جعفر معلن بالفسق فاجر شريب خمور.
أقلّ مَن رأيته من بالرجال، وأهتكهم لنفسه، خفيفٌ، قليلٌ في نفسه،(٣٦٨) ونرى أبا الأديان حين رأى جعفر يهنَّأ بالإمامة – كما سمعنا – يقول في نفسه: إنْ يكُن هذا الإمام فقد بطلُت الإمامة، ويضيف لأنّي كنْت أعرِف بشربِ النبيذ ويُقام في الجوسق – القصر – ويلعب بالطنبور.(٣٦٩)
ولكنّه بالرغم من ذلك، كان يُحاول أخوه الإمام العسكري (عليه السلام) جهد الإمكان، الستر عليه والتخفيف من انحرافه، وذلك: باستصحابه معه تارةً، وبالتوسّط لدى السلطات تارةً أُخرى، وهكذا.
إلاّ أنّ ذلك لم يكُن مفيداً في كفكفة جماح جعفر أو التخفيف من انحرافه.
فقد سمعنا في فصل تاريخ الإمام العسكري (عليه السلام) أنّه يدخل على أصحابه في السجن لأجل أنْ يُبشّرهم بموعد خروجهم، ويدلّهم على رجلٍ كان عيناً للسلطات ضدّهم، وكان معه أخوه جعفر(٣٧٠) وقد كانا معاً مسجونين في عهد المعتمد، فيُرسل المعتمد رسولاً إلى السجن لأجل إبلاغ الإمام العسكري سلامه وإطلاق سراحه، وحين يصل الرسول يجِد على الباب حِماراً ملجَماً والإمام قد لبِس خفّه وطيلسانه، فأدّى له الرسالة. يقول الراوي: فلمّا استوى على الحمار، وقَف، فقلت له: ما وقفك يا سيّدي؟ فقال لي: (حتى يجيء جعفر). فقلت: إنّما أمرني بإطلاقك دونه، فقال لي: (ترجع إليه فتقول له: خرجنا من دارٍ واحدة جميعاً، فإذا رجَعت وليس هو معي كان في ذلك ما لا خفاء به عليك).
فمضى الرسول وعاد فقال: يقول المعتمد: قد أطلقت جعفراً لك، لأنّي حبسته بجنايته على نفسه وعليك، وما يتكلّم به. فخلّى سبيله فصار معه إلى داره.(٣٧١)
وكلّ ذلك لم يكن يؤثّر في جعفر، في شدّة انحرافه وقوّة اندفاعه، ونراه أنّه بمجرّد أنْ يرى أخاه قد أسلَم الروح، يتصدّى للاصطياد بالماء العكِر، واستغلال الموقف بالشكل الذي يحرِز به الزعامة وجباية الأموال.. لولا أنّ الله تعالى أتمّ نوره ولو كرِه المنحرفون.
ويُستفاد من الأخبار أنّ لهذا لرجل، بصورة رئيسيّة، ثلاث نشاطات منحرفة مضادّة للحق وللإمام المهدي (عليه السلام).
أوّلاً: ادعاؤه الإمامة بعد أخيه الحسن بن عليّ العسكري (عليهما السلام)، وقد توسّل إلى ذلك بوسائل منها: ما سمِعناه من محاولته الصلاة على أخيه، ومنها ما سنسمعه من توسّطه عند الدولة في أنْ تَجعل له مرتبة أخيه في الزعامة على القواعد الشعبية المُوالية، وقد باء في كلتا المحولتين بالفشل الذريع.
ثانياً: إنكاره وجود الوريث الشرعي للإمام العسكري (عليه السلام)، ومن ثمّ ادعاؤه استحقاق الترِكة، واستيلاؤه عليها بإذنٍ من السلطات الحاكمة، وسنجِد أنّ الإمام المهدي (عليه السلام) يقف بنفسه ضدّ هذا النشاط بشكلٍ لا يُنافي مع غيبته الصغرى.
ثالثاً: إنّه حين يسمَع الاحتجاج عليه، يوعِز إلى الدولة باحتمال وجودِ المهدي (عليه السلام)، فتتجدّد في قلبها الشجون، وتبدأ سلسلة من المطاردات والاعتقالات على ما سوف يأتي، وتنتهي الحملة باضطهاد الموجودين مِن عائلة الإمام العسكري (عليه السلام)، وعدَم العثور على الإمام المهدي (عليه السلام).
وهذا هو الذي عُبّر عنه في الأخبار بكشف ما أوجَب الله عليه كتمانه وستره.
ونحن لابدّ أنْ نسير مع كلِّ واحد من هذه النشاطات، لنرى مخطّط جعفر بن عليّ ونتائجه، وأُسلوب وقوف المهدي (عليه السلام) ضدّه.
ادعاؤه الإمامة بعد أخيه:
وقد ساعدت عدّة أُمور على تخطيط هذا الإدعاء، أو تخيلها جعفر مساعدة له:
الأمر الأوّل: ما قلناه من خلوِّ الجوِّ على الصعيد الاجتماعي مِن منافسٍ ظاهر مطالب بحقّه بين الناس، وإذا خلا الجو للقبّرة كان لها أنْ تبيض وتصفر، وللمنحرف أنْ يصطاد بالماء العكِر.
الأمر الثاني: ما قلناه أيضاً من إجمال فكرة وجود المهدي (عليه السلام) وولادته فِعلاً، في أذهان الناس الأمر الذي ساعَد عليه ما عرفناه من عدَم تمكّن الإمام العسكري (عليه السلام) من الإعلان الاجتماعي العام عن وجود ولده..، كان يوصي كلّ مَن يعرضه عليه بالكتمان ووجوب الستر والسكوت.
الأمر الثالث: ما حاوَل جعفر من الصلاة على أخيه، باعتبار أنّها تعطيه (سابقةً قانونية) يستفيد منها اجتماعيّاً في إدعائه للإمامة؛ لأنّ المفروض أنّه لا يُصلّي على الإمام إلاّ وريثه الشرعي أو الإمام الذي بعده، على ما نطَقَت به بعض الأخبار.
الأمر الرابع: توسّطه إلى الدولة، لكيّ تجعل له مثل مقام أخيه في شيعته، بإزاء مالٍ سنَوي يدفعه إليها مقابل عشرين ألف دينار.(٣٧٢)
انظر إلى مقدار الربح الذي يتوقّعه جعفر حين وصوله إلى هدَفه وتولّيه الإمامة المزعومة.. بحيث يستطيع أنْ يتحمّل بها مثل هذه الغرامة السنويّة الكبيرة.
وهذا يُفسّر لنا إطلاعه على مقادير الأموال التي كانت تصِل مِن أطراف العالم الإسلامي إلى أبيه وأخيه، وتقديره للموقف من هذه الناحية تقديراً حسناً.
إنّه يشعر بذلك ويُريد أنْ يستفيد منه لمصالحه الخاصّة، من دون أنْ ينظر بعينه للمصادر التي كان أبوه وأخوه (عليهما السلام) يصرفان فيها هذه الأموال، والمشاريع والمساعدات الاجتماعية التي كانا يقومان بها، ممّا سمعنا طرفاً منه فيما سبَق.
وقد باءت كلُّ هذه الأُمور بالفشَل، بسبب عدّة عوامل استطاعت أنْ تحول ضدّ نجاحها واستشراء نتائجها:
العامل الأوّل: كونه مشهوراً بالفِسْق واللهو والمجون.. وقد سمعنا تعليق أحدهم وهو يرى جعفراً يهنَّأ بالإمامة، بقوله: إنْ يكن هذا هو الإمام، فقد بطلت الإمامة.
ومِن المعلوم أنّ جميع أفراد المجتمع، وخاصّةً القواعد الشعبية الإمامية، يدركون أنّ مِن أوّليّات وواضحات سلوك الإمام، هو السلوك الصالح والخُلُق المثالي الرفيع... كذلك اعتادوا من الإمامين العسكريّين (عليهما السلام) وآبائهما (عليهم السلام)، وأمّا مع خلاف ذلك، فمِن غير المحتمل تقليد الفرد للإمامة بأيِّ حالٍ من الأحوال، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى لإبراهيم الخليل (عليه السلام): قال: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)،(٣٧٣) والانحراف الذي كان عليه جعفر هو الظلم بعينه، إذنْ فهو لا ينال عهد الله بالإمامة.
العامل الثاني: إنّ الموقف أصبَح مختلفاً اختلافاً كبيراً في الزمان المتأخّر عن وفاة الإمام العسكري (عليه السلام)، عمّا كان عليه ساعة وفاته حين تمكّن جعفر أنْ يتلقّى التهاني بالإمامة.
فالموقف في تلك الساعة، وإنْ كان صعباً ومعقّداً، حتى أنْ السمّان وهو عثمان بن سعيد الذي سيصبح الوكيل الأوّل للحجّة، وعقيد الخادم الذي رأيناه يحضر وفاة الإمام العسكري (عليه السلام).. لم يكن لهما رأي أو مناقشة في صلاة جعفر على أخيه، بالرغم ممّا يعلمان به من وجود الإمام المهدي (عليه لسلام).
ومهما تكن وجهة نظرهما آنئذ، فإنّ الموقف أصبح ينكشف والطريق يتعبّد، كلّما تقدّم الزمان، بفضل جهود العاملين في سبيل إعلاء راية الحق، وعلى رأسهم الوكيل الأوّل عثمان بن سعيد نفسه، فأنّنا وإنْ فهمنا أنّ الفكرة كانت مجملة في أذهان الجمهور العام.. إلاّ أنّ الصفوة المختارة التي عرَض عليها الإمام العسكري (عليه السلام) ولده، وهُم أكثر من خمسين، كانت لا تزال في الوجود متحمّسة للدفاع عن قضيّتها ضدّ أيّ انحراف، يضاف إليهم مِن يُشاهد الحجّة المهدي (عليه السلام) في غضون هذا الزمَن ومَن يصل إليه توقيعاته في قضاء حاجاته الشخصيّة والاجتماعية.. وهم عددٌ ضخم لا يُستهان به.
وأوّل من فتَح الباب لاتضاح هذا الطريق هو الحجّة المهدي (عليه السلام) حين بادَر إلى منع عمّه من الصلاة على الإمام (عليه السلام)، أمام جماعةٍ من مُواليه، كان جملةٌ منهم قد هنَّأ جعفراً بالإمامة، وقد رأينا جعفراً لم يُمانع في تأخّره عن الصلاة.
وإنّ نفس وقوع الجدَل بين الموالين.. في إمامة جعفر، والمحاولات الجاهدة لإحباط خططه من قِبَل المخلصين، ليتمخّض شيئاً فشيئاً عن وضوح الفكرة وانجلاء الغمامة الذهنيّة عن العموم.
العامل الثالث: البيان الذي أصدره الإمام المهدي (عليه السلام) بنفسه، في نفي إمامة عمّه، والتأكيد على بطلانها والبرهنة على كذبها.
وذلك أنّ جعفر كتب إلى بعض المُوالين كتاباً يدعوه إلى نفسه، ويعلمه أنّه القيّم بعد أخيه ويدّعي أنّ عنده مِن عِلم الحلال والحرام ما يحتاج إليه، وغير ذلك من العلوم كلّها، وحين يصل الكتاب إليه يستنكر مضمونه ويشكُّ بما فيه، فيذهب على أحمد بن إسحاق الأشعري، والذي يعرفه وعرفناه أنّه أخصُّ أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام) وأقربهم لديه، فيُخبره بأمرِ هذا الكتاب ويعرضه عليه، فيُبادر ابن إسحاق للكتابة إلى الحجّة المهدي (عليه السلام) بواسطة سفيره، ويجعل كتاب جعفر في ضِمن كتابه ليطّلع عليه المهدي (عليه السلام).
فيرد الجواب إلى أحمد بن إسحاق شديد اللهجة، مستنكراً أشدّ الاستنكار، متحدّياً لجعفر في إثبات الإمامة أقوى التحدّي، ويؤسفنا أنْ يكون ذِكرُ نصِّ الكتاب خروج عمّا نتوخّاه من الاختصار،(٣٧٤) ولكنّنا نذكر بإيجاز النقاط التي أكّد عليها الحجّة المهدي (عليه السلام) في كتابه:
أوّلاً: وجود الخطأ الإملائي في كتاب جعفر:
ثانياً: إنّ الله تعالى ميّز آباءه مِن الأئمّة (عليهم السلام) عن إخوتهم وبني عمّهم بميّزات، وجعل بينهم فَرْقاً واضحاً، (.. بأنْ عصمهم من الذنوب وبرأهم مِن العيوب، وطهّرهم من الدنَس ونزّههم من اللبس، وجعلَهم خزانَ عِلمه ومستودَع حكمته وموضع سرّه، وأيّدهم بالدلائل ولولا ذلك لكان الناس على سَواء ولادعى أمرَ الله عزّ وجل ـ الإمامة ـ كلّ أحَد، ولمّا عُرِفَ الحقُّ من الباطل ولا العلم من الجهل...).
ثالثاً: نفيه لكون جعفر عالِماً بالحلال والحرام، وأنّه لا يعرف حتى حدَّ الصلاة ووقتها، وإنّما يزعم ذلك طلَباً للشعوذة.
رابعاً: تذكير الناس بفسقه، وأنّ ظروف مُسكِره منصوبة، وآثار عصيانه مشهورة قائمة.
خامساً: تحدّيه بمطالبته إقامة آيةٍ أو حجّة أو دلالة، فإنْ كان فليذكرها، وإلاّ بطلت دعواه.
سادساً: تحدّيه من الناحية العلمية، ومطالبة أحمد بن إسحاق أنْ يمتحنه في ذلك، ويسأله عن آيةٍ من كتاب الله يُفسّرها أو صلاةٍ يُبيّن حدودها وما يجب فيها، فإنْ لم يجب علِم السائل حاله ومقداره من العلم.
سابعاً: نفي أنْ تكون الإمامة في أخوَين بعد الحسن والحسين (عليهما السلام):
ويختم المهدي (عليه السلام) كتابه بالدعاء لله بحفظ الحق على أهله، ويقول: (وإذا أذن الله لنا في القول ظهَر الحقُّ واضمحلّ الباطل وانحسَر عنكم).
العامل الرابع: ممّا أدّى إلى فشَل مخطّط جعفر بن عليّ: هو شعور الدولة بالعجز عن تأييده وإجابة طلبه، فإنّه إذ يعرض الطلب الذي سمِعناه على الوزير عُبيد الله بن يحيى بن خاقان، ويقول له: اجعل لي مرتبةَ أخي..وأنا أُوصِل إليك كلّ سنةٍ عشرين ألف دينار... يشعر الوزير بعجزِ الدولة تماماً عن إجابته؛ فإنّه لا يُمكن بأيِّ حالٍ أنْ يفرض جعفراً إماماً على الجماهير المُوالية لأبيه (عليه السلام)؛ فإنّ العقائد ليست ممّا يُمكن فرضه ولا ممّا يُشترى بالمال، ولا ممّا يحصِل بقوّة السلاح ولا بأيِّ طريقٍ آخر، سِوى صِدق البرهان والتوفيق الإلهي لشخصٍ بالإمامة، فإنّه حينئذٍ يستطيع أنْ يثبت إمامته لأيِّ أحدٍ بالطريق الذي يراه كما تيسّر لآبائه (عليهم السلام)، وأمّا مع فقدان ذلك فليس إلى فرض الإمامة من سبيل.
وأنّ التجربة المعاصرة، لتعيش في ذهن الوزير بوضوح، وهي أنّ الجماهير الموالية للائمّة (عليهم السلام) بالرغم من اضطهاد الدولة لهم، ومطاردتهم والتنكيل بهم، ومعاناتهم الفقر والمرض والعزلة السياسية والاجتماعية، كانوا لا يزدادون إلاّ ولاءً وتقرّباً من الأئمّة (عليهم السلام)، فالدولة حين أرادت أنْ تتوصّل إلى رفض إمامة الأئمّة (عليه السلام) بكلِّ ما تملك من سلاح، لم تستطِع، فكيف تستطيع الدولة أنْ تزرَع إماماً جديداً في قلوب المعارضة لها، المنكرة لتصرّفاتها المعانية من آلامها ونكباتها؟!.
ولذا نرى الوزير يستهين بجعفر ويزجره ويُسمِعه ما يكره، ويقول له الحقيقة الواضحة: يا أحمق، السلطان أطال الله بقاءه جرّد سيفه في الذين زعموا أنّ أباك وأخاك أئمّة ليردّهم عن ذلك، فلم يتهيّأ له ذلك، فإنْ كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً، فلا حاجةَ بك إلى سلطان يُرتّبك مراتبهم، ولا غير سلطان، وإنْ لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا،(٣٧٥) ثمّ إنّ الوزير استقلّه واستضعفه وأمَر أنْ يُحجَب عنه فلَم يأذن له في الدخول عليه حتى مات.
وإذ تضيق بجعفر هذه الوجوه، يصعد إلى الخليفة، آمِلاً أنْ يجد في البلاط ما لَم يجده عند الوزير، فإنّ جعفر يعلم أنّ من مصلحة الدولة إيقاع الخلاف والاغتشاش بين الجماهير الموالية لآبائه (عليه السلام)، وإيقاع الشكِّ فيهم في اتجاه خطِّ الإمامة، وأنّه يعرض خدَماته على الدولة للقيام بمثل هذا العمل، لا بإزاء مالٍ يقبضه منها، بل بإزاء مالٍ يدفعه إليها.
ولكنّه يواجه عند الخليفة المعتمد ما واجه عند الوزير، من الموقف النفسي والازدراء الاجتماعي.
قال له المعتمد: اعلم أنّ منزلة أخيك لم تكن بنا، إنّما كانت بالله عزّ وجل، ونحن كنّا نجتهد في حطِّ منزلته والوضع منه. وكان الله عزّ وجل يأبى إلاّ أنْ يزيده كلّ يومٍ رِفعةً، لِما كان له من الصيانة وحُسن السمت والعِلم وكثرة العبادة، فإنْ كنت عند شيعة أخيك بمنزلتهِ، فلا حاجة بك إلينا، وإنْ لم تكن عندهم بمنزلته، ولم يكن فيك ما كان في أخيك، لم نغنِ عنك في ذلك شيئاً.(٣٧٦)
إنّه نفس الأُسلوب الذي اتخذه الوزير وعين الاتجاه، وهو يؤكّد ما سبَق أنْ أكّدنا عليه، من معرفة الخليفة بالحقّ، وإيمانه بصدق الإمام العسكري وعدالة قضيّته، وإنّما كان يمنعه من اتباعه التمسّك بالسلطان وبالمصالح الشخصيّة والنظر إلى الهدف القصير.
وإنّما يصرّح المعتمد بهذا التصريح الخطير، بالنسبة إليه وإلى كيانه.. باعتباره يواجه جعفراً وهو ابن الإمام وأخو الإمام، وهو مَن أعرَف الناس بهما، بالرغم من انحرافه عنهما، فلَيس هذا التصريح بالنسبة إليه سرّاً يكشف أمراً خفيّاً يُذاع، وليس جعفر من القوّاد الأتراك أو مِن متعصّبي بني العبّاس ليخشى المعتمد من سطوته عليه.
كما أنّه ليس من الجماهير الموالية للإمام ـ بشكلٍ عام ـ، ليخاف تحوّلهم إلى الولاء نتيجةً لهذا التصريح، وإنّما جاء هذا التصريح عفو الخاطر، باعتباره العذر الوحيد في رفض طلَب جعفر وبيان العجز عن تنفيذه.
ادعاؤه أنّه الوريث الشرعي لترِكة الإمام العسكري (عليه السلام):
وقد انطلق جعفر بن عليّ في ادّعائه هذا من فكرتين ادّعائيّتين أيضاً:
إحداهما: عدَم وجودِ ولدٍ للإمام العسكري (عليه السلام)، ليكون هو الوريث الشرعي، ومِن هنا كان هو الوريث، باعتباره أخاً للموروث.
ثانيتهما: كونه الإمام بعد أخيه، إذن فهو – على أقلّ تقدير – المشرف الأساسي والوليّ الأعلى على هذه الأموال الموروثة.
وكلا هذين الأمرين، قد علِمنا زيفهما بكلِّ وضوح، بعد وجود الحجّة المهدي (عليه السلام) ولداً للإمام العسكري (عليه السلام) وكونه هو الإمام بعده، دون عمّه.
ولكنّ جعفراً انطلق من هذه المدّعيات إلى الحجز على ميراث الإمام (عليه السلام) كلّه، والاستيلاء عليه ومنع سائر الورَثة منه، وساعدته السلطات على ذلك، فإنّها بعد أنْ بحثَت وبذلَت جهدها في الفحص والمطاردة، ولم تقَع للمهدي على أثر، لم تجِد وريثاً غير جعفر، ولم تجِد في دعوى جعفر للوراثة الشرعيّة كذِباً واضحاً ـ في مرتبة الإثبات القانوني على الأقل ـ فسمَحت له بالاستيلاء على مجموع الترِكة.
ولئن كانت عاجزةً عن تنفيذ مطلبه الأوّل، حتى لقد انصرفت عنه وهي آسفة، فمطلبه هذا على أيّ حال مُمكن التنفيذ، وتمكينه من التصرّف في الأموال أمرٌ ميسور.
وهذا هو الذي يشير إليه عثمان بن سعيد في بعض مجالسه مع أصحابه ـ على ما سمعنا ـ قائلاً: فإنّ الأمر عند السلطان أنّ أبا محمّد (عليه السلام) مضى ولم يخلّف ولَداً وقُسِّم ميراثه، وأخذه مَن لا حقَّ له، وصبَر على ذلك، وهو ذا عياله يجولون وليس أحدٌ يجسر أنْ يتعرّف عليهم أو ينيلهم شيئاً.(٣٧٧)
انظر إلى الأثر الاجتماعي التخريبي الذي أنتجه مخطّط جعفر، فإنّه وإنْ فشِل في الإمامة، إلاّ أنّه لم يفشَل في الاستيلاء على الميراث، ولم يكتفِ بحصّته من الإرث، بحسَب ما هو المشروع في الإسلام، لو كان وارثاً.. بل استولى على المجموع، فنتج عن ذلك بطبيعة الحال، أنّ أفراد العائلة الآخرين لم يبقَ لهم مأوى ولا ملبَس ولا مطعم، فبقوا يجولون في الطرقات..لا يستطيع أحد أنْ يلتفت إليهم أو يدّعي معرفته بهم أو يمدّهم بشيءٍ من الخير؛ لأنّه بذلك يُعرّض نفسه للتنكيل من قِبَل الدولة.
* * *
(لماذا لم يظهر الإمام المهدي (عليه السلام)، ويمدّ عائلته بما تحتاج إليه مِن أسباب المعاش؟)
يبقى اعتراضٌ واحد قد يخطر على الذهن، وهو أنّ المهدي (عليه السلام) نفسه كان يتمكّن مِن أنْ يظهَر ويسيطر على العالَم، ويمدّ عائلته بما تحتاج إليه مِن أسباب المعاش، فلماذا لم يفعل؟
وجواب ذلك واضح كلَّ الوضوح، وهو: إنّه لو كان يظهر في ذلك الحين، لكان يُقتَل لا محالة، بعدما عرفنا وسنعرف الجهود المضنية التي تبذلها الدولة في البحث عنه، ولفَشَل مخطّطه في هِداية العالَم والسيطرة عليه، إذ لا يطيعه يومئذٍ ولا يسير في إمرته إلاّ أقلّ القليل من أصحابه، ممّن لا يغني لفتح شبرٍ من الأرض، فضلاً عن البسيطةِ كلّها، وأمّا المجتمع فلنْ يستمع إلى ندائه، وسيكون عوناً للدولة عليه.
وإنّما أعدّ الله تعالى ظهوره عند وجود عددٍ مهمٍّ من ذوي النفوس القويّة والقلوب المؤمنة والعقول الواعية، بحيث يستطيع أنْ يفتح بهم العالم، كما سيأتي برهانه في الكتاب الثاني من هذه الموسوعة، وحيث لا يكون الوقت ملائماً للظهور، وكانت هداية العالَم لا تتحقّق إلاّ بالتأخير، إذن فمِن المنطقي جدّاً بل الضروري حقيقةً، التضحية بمصالح عائلته الخاصّة في سبيل ذلك الهدَف الإلهي الأعلى.
وربّما يُعتَرَض هنا فيقال: إنّه وإنْ لم يُمكنه الظهور، إلاّ أنّه يمكنه مساعدة أهله حال غيبته، فإنّه يُمكن إرسال الأموال إليهم بالطريق الذي كانت تخرج به التوقيعات والمراسلات عنه (عليه السلام).
وجوابه أيضاً واضح، بعد العلم أنّ التوقيعات والمراسلات، إنّما كانت تصدر عن المهدي (عليه السلام) في النطاق السرّي الخاص الذي لا يتجاوز مُواليه، إلى أيِّ شخصٍ يُشكُّ بارتباطه بالسلطة أو ضعفه تجاهها، إذ مِن الواضح أنّ السلطة لو كانت تطّلع على هذه المراسلات، لكانت المُستَمسَك الرئيسي الذي تأخذه ضدّه (عليه السلام).
إذا عرفنا ذلك نعلم أنّ دفع المهدي (عليه السلام) للأموال إلى عائلته بشكلٍ يُغنيهم ويُيسّر حالهم، يكون مُلفتاً للنظر ومثيراً للتساؤل في ذهن السلطة، وخاصّةً وأنّ هذه العائلة لا زالت تحت المراقبة والتركيز.. فيكون له مِن المضاعفات ما لا يخفى، وأمّا مواصلتهم سرّاً بالمال اليسير عن طريق سفرائه.. فهو أمرٌ محتمل، لا يُمكن نفيه.
* * *
(موقف الإمام المهدي (عليه السلام) من عمّه جعفر):
وقبل أنْ ننطلق إلى النشاط الثالث لجعفر بن عليّ، يحسن بنا أنْ نتميّز بوضوح موقف الإمام المهدي (عليه السلام) من عمّه تجاه ذلك، بحسَب ما هو المروي في تاريخنا الخاص.
حيث نجد الإمام (عليه السلام)، يقف أمام عمّه وجهاً لوجه، ويصارحه بالحقّ، توخّياً إلى كفكفة اندفاعه والتخفيف من النتائج المؤسفة التي ترتّبت على أعماله... لو كان جعفر ممّن يُمكن أنْ يؤثِّر فيه النصح والتوجيه.
فنراه (عليه السلام)، حينما يُنازع جعفر في الميراث، ويحاول الاستيلاء عليه، يخرج (عليه السلام) على عمّه من موضعٍ لم يعلم به ويجابهه بالقول: (يا جعفر، مالَك تعرِض في حقوقي)، ثمّ يغيب عنه ويذهب (عليه السلام) إلى حيث لا يَعلم به عمّه، فيتحيّر جعفر ويُبهَت، ويطلبه بعد ذلك في الناس ويُحاول أنْ يقَع له على أثر فلم يستطع.
وفي حادثةٍ أُخرى بعد ذلك، نجد المهدي (عليه السلام) يقف من عمّه مثل هذا الموقف الحاسم، وذلك: أنّ الجدة أُمّ الإمام العسكري (عليه السلام)، توفّيت، وكانت قد أوصَت أنْ تُدفَن في الدار.. إلى جنب زوجها وولدها الإمامين العسكريّين (عليهما السلام)، ونازع جعفر، محتجّاً بمزاعمه القديمة وقال: هي داري لا تُدفَن فيها.
وهنا، تكتسب القضيّة شأناً أكبَر من الميراث.. إنّه ضرورة احترام هذه الجدّة المقدّسة،وتنفيذ وصيّتها، طِبقاً لتعاليم القرآن الكريم، والدار وإنْ كانت لجعفر، بحسَب قانون السلطات الحاكمة، ولكنّها في الواقع، ملكٌ للوريث الشرعي الحقيقي، وهو الولد، وليس للأخ أيُّ حصّةٍ من المال مع وجود الولد في قانون الإسلام.
ومَن لا يملك ليس له حقٌّ في أنْ يأذن وأنْ يتصرّف.
ومن هنا بادر الإمام المهدي (عليه السلام)، على مجابهة عمّه بالقول بنحو الاستفهام الاستنكاري: (يا جعفر، دارك هي؟!)، ثمّ لم يستطع جعفر أنْ يراه بعد ذلك.(٣٧٨)
وسنبقى جاهلين – باعتبار غموض النقل التاريخي – بما إذا كان لهذا القول أثره في نفس جعفر وضميره، فسمَح بدفن الجدّة في الدار... أو لَم يسمح..وكان سبيل هذا القول هو سبيل القول الأوّل، وهو التسامح والعصيان له.
وعلى أيّ حال، يكون المهدي (عليه السلام) قد أدّى ما يشعر به من المسؤوليّة تجاه أعمال جعفر، مِن ضرورة إفحامه في دعاواه الباطلة والتوصّل ـ جهد الإمكان ـ إلى التخفيف من نتائجها السيّئة.
كشفه ما أوجب الله عليه ستره:
وهو الإفصاح عن وجود المهدي (عليه السلام) بنحوٍ أو بآخر أمام السلطة، ممّا أوجب شدّتها في المراقبة والمطاردة.
ونحن في هذا الصدد، لابدّ أنْ نعود بالكلام عن تاريخ الإمام (عليه السلام)، مِن حيث تركناه، لنعرف ـ بالتفصيل – الترابط بين الحوادث التاريخية التي أنتجت أنْ يقوم جعفر بمثل هذا العمل.
تركنا جثمان الإمام العسكري مسجّى في الدار وقد انتهى ولده المهدي (عليه السلام) من الصلاة عليه.. بعد أنْ سحَب عمّه عنها، فتأخّر وقد علا وجهه الاصفرار، ولكنّنا نجده مع ذلك، لا يترك موقفه، بل يبقى مستمرّاً في مخطّطه ممثّلاً دور الإمام بعد أخيه.
وإذ ينتهي الإمام المهدي (عليه السلام) من الصلاة ويذهب، وقد اتضح لجميع الحاضرين وجه الحق.. يتوجّه أحدُهم إلى جعفر بالسؤال عن هذا الصبيّ الذي أقام الصلاة، لكي يُقيم الحجّة على جعفر ويَفهَم ما إذا بقيَ مستمراًُ على مخطّطه بعد اتضاح الحق أوّلاً، فيقول له: يا سيّدي، من الصبي؟ فيجيب جعفر: والله ما رأيته قط ولا أعرفه.
ولعلّه صادق في أنّه لم يرَه، فإنّه – بفسقه – لم يكن أهلاً لأنْ يُريه الإمام العسكري (عليه السلام) إيّاه، ولكنّه كاذب في نفي معرفته، بعد أنْ سمِع هذا الصبيّ يقول: (تأخّر يا عم، فأنا أحقُّ بالصلاة على أبي)، وهلاّ لو كان قد بقيَ جاهلاً بمعرفته، أنْ يصمد على موقفه ويكذّب الصبيّ في دعواه.. أو يعيد الصلاة مرّةً ثانية، مع أنّ شيئاً من هذا لم يحدث، ممّا يدلُّ على اتضاح الحق لكلِّ الحاضرين، وتسالمهم على أنّه هو الإمام المهدي (عليه السلام).
وبعد فترةٍ من الوقت يردُ وفدٌ مِن الوفود التي كانت تتواتر على الإمام العسكري (عليه السلام) من أطراف العالم الإسلامي، فتصل إليه وتسلّمه ما تحمله من الأموال من مختلف ما دفعوا الحقوق الإسلامية في تلك البلاد، وتسأله ما تشاء من الشمائل الشخصيّة والاجتماعية، فتنهل منه مختلف التعاليم والتوجيهات.
ويكون هذا الوفد مِن قم، يدخل سامرّاء وهو لا يعلم بوفاة الإمام العسكري (عليه السلام)... فيسأل عنه الناس فيقول لهم الناس: إنّه قد فُقِد، قالوا: فمَن وارثه؟... فيشير الناس إلي أخيه جعفر بن عليّ، فيسأل الوفد عنه، فيُقال لهم: إنّه قد خرَج متنزّهاً وركِب زورقاً في دجلة يشرب ومعه المغنّون، فيتشاور الوفد فيما بينهم ويقولون: هذه ليست مِن صفة الإمام.. وقال بعضهم: أمضوا بنا حتى نردّ هذه الأموال على أصحابها، ثمّ يقرّرون مقابلته واختباره.
فانتظروا رجوعه مِن نزهته، ودخلوا عليه وحيّوه وعزّوه وهنّوه، وقالوا له: يا سيّدي، نحن قومٌ من أهلِ قم، ومعنا جماعةٌ من الشيعة وغيرها، وكنّا نحمل إلى سيّدنا أبي محمّد بن عليّ الأموال، فقال: أين هي؟... قالوا: معنا!..قال: احملوها إليّ!... وإلى هنا يرى جعفر إحدى أمنياته في استيلائه على الإمامة قد تحقّق، وقد كسَب الربح الأوّل في اليوم الأوّل.
ولكنْ يقف دون ذلك حجرُ عثرة وعائقٌ صعب، لم يستطع اقتحامه، وذلك أنّهم قالوا له: إلاّ أنّ لهذه الأموال خبَراً طريفاً، فقال: وما هو؟ قالوا: إنّ هذه الأموال لجمع – أي لعددٍ من الناس – ويكون فيها عامّة الشيعة الدينار والديناران، ثمّ يجعلونها في كيسٍ ويختمون عليه، وكنّا إذا ورَدنا بالمال على سيّدنا أبي محمّد (عليه السلام) يقول جملة المال كذا وكذا ديناراً، من عندِ فلان كذا وكذا، ومن عند فلان كذا وكذا، حتى يأتي على أسماء الناس كلّهم، ويقول ما على الخواتيم من نقش.
انظر إلى أُسلوبهم الذي استطاعوا به (اصطياد) جعفر وإفحامه.. إنّهم ولا شك، لم يكونوا بحاجةٍ لأنْ يسمعوا كلّ هذه التفاصيل من الإمام العسكري (عليه السلام) في كلِّ مرّة يغدون عليه، وإنّما كان هذا هو الأُسلوب الأساسي الذي يعرفون به إمامة الإمام الجديد إذا تولّى هذا المنصب العظيم بعد أبيه، لأجل أنْ يتأكّدوا أنّ الأموال قد دُفِعت إلى وليّها الحقيقي والإمام الصادق الذي استطاع إقامة الحجّة.
فكان الوفد، يطلب إقامة الحجّة من الإمام الجديد عن هذا الطريق... وعلى هذا الأساس طلبوا من جعفر ذكر التفاصيل، فإنْ أجاب علِموا أنّه هو الإمام، ودفعوا إليه عن طيب خاطر ورضاءِ ضمير، وإنْ لم يجب.. فهو ليس بإمام، وليس له الصلاحيّة لقبض هذه الأموال في الشريعة الإسلامية.
ولكنّ جعفر يُحاول أنْ يجد في كلامهم نقطة للمناقشة ليُحاول النفوذ منها.. فيقول لهم: كذبتم، تقولون على أخي ما لا يفعله، هذا علم الغيب... متغافلاً عن قوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ..)، وأنّه يُمكن لكلِّ شخصٍ أنْ يعلم ما يُعلِمه الله تعالى إيّاه، فليس مُستَبعداً أنْ يكون الإمام، وهو الوجود الثاني للقيادة الإسلامية بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله) والامتداد الطبيعي لرسالته العالمية...أنْ يكون مُلهَماً من قِبل الله عزّ وجل بعضَ الحقائق؛ ليستعملها في شؤون قيادته وإقامة لحجّة على إمامته، عند اقتضاء المصلحة لذلك.
فلمَّا سمع القوم كلام جعفر، جعل بعضهم ينظر إلى بعض: إنَّ هذا ليس الإمام، وليس في الإمكان دفع المال إليه وقد فشل في نتيجة الاختبار.
فقال لهم جعفر: احملوا هذا المال إليَّ.
قالوا: إنَّا قوم مستأجرون، وكلاء لأهل المال. لا نسلِّم المال إلاَّ بالعلامات التي نعرفها من سيدنا أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام). فإن كنت الإمام فبرهن لنا. وإلاَّ رددنا الأموال على أصحابها يرون فيها رأيهم.
إنه تحدٍ صارخ لجعفر.. وهو تحدٍ لا يستطيع إلاَّ الإمام الحق أن يخرج من مأزقه. أما صاحب المخطط التخريبي، فلم يعلمه الله تعالى شيئاً ليقوله لأحد. وأحسَّ جعفر بالانهيار والضعف مرة أخرى، بعد تنحيته عن الصلاة على أخيه.. إن للإمامة مسئوليات لا يستطيع ظهره أن ينوء بها.. لكنّه لا يستطيع أن يتنازل أو يتخاذل.. لابد أن يقف صامداً مخطَّطه إلى آخر الخط. فإنه إذا فشل في المحاولة الأولى بالحصول على المال، فسوف يفشل في المحاولات الأخرى.. أمام الوفود الأخرى. إن أقرب طريق وأقوى ضمان للاستيلاء على هذه الأموال، هو التوسط لدى السلطات لأجل إلزام هؤلاء القوم بدفعها.
ومن هنا يبادر جعفر بالذهاب إلى المعتمد، وهو يمثِّل أعلى سلطة في البلاد ـ من الناحية القانونية على الأقل ـ لكي يتملَّق له ويشكو عنده هذا الوفد ليساعده في ابتزاز ما عندهم من المال.
وإذ يسمع المعتمد الشكوى يأمر بإحضار الوفد، فيحضرون ويدور بينهم وبينه المحاورة التالية:
قال الخليفة: احملوا هذا المال إلى جعفر.
قال الوفد: أصلح الله أمير المؤمنين، إنَّا قوم مستأجَرون، وكلاء لأرباب هذه الأموال، وهي وداعة جماعة. وأمرونا أن لا نسلمها إلاَّ بعلامة ودلالة. وقد جرت بهذا العادة مع أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام).
فقال الخليفة: وما كانت العلامة؟
قال الوفد: كان يصف الدنانير وأصحابها، والأموال وكم هي. فإذا فعل ذلك سلمناها إليه، وقد وفدنا عليه مراراً، فكانت هذه علامتنا معه ودلالتنا، وقد مات. فإن يكن هذا الرجل صاحب هذا الأمر ـ يعني الإمامة ـ فليقم لنا بما كان يقيمه لنا أخوه، وإلاَّ رددناها على أصحابها.
وهنا بدر جعفر فقال: يا أمير المؤمنين، إن هؤلاء قوم كذّابون على أخي.. وهذا علم الغيب.
نفس الاستدلال من القوم، ونفس الجواب من جعفر، يريد به إفحام القوم أمام المعتمد، لأجل أن يكسب مساعدته ضدهم. وهم وإن لم يوافقوا على اعتراضه، باعتبار اعتقادهم بالإمامة، واعتبروا ذلك دليلاً على عدم إمامته. إلاَّ أن المفروض في المعتمد، وهو يمثَّل خطَّاً لا يؤمن بالإمامة، أن يوافق على هذا الاعتراض ويلزم القوم بما لا يعتقدون. إلاَّ أنه يشاء الله تعالى... ويريد المعتمد أن ينتصر الحق أمام جعفر، وعلى طول الخط.. ليبوء مخططه بالفشل.
إن المعتمد غير مطلع على نوايا جعفر وأهدافه بالتفصيل.. إلى حد الآن، ولكنه يعلم أنه خائن لمسلك أبيه وأخيه، والخائن يجب ترك نصرته والوقوف إلى جانبه... إن المعتمد لا ينطلق في جوابه من حيث انطلق جعفر في اعتراضه... وإنما ينطلق من منطلق الوفد نفسه.. من الحقيقة الواضحة بأن الوكيل لا يستطيع التصرف إلاَّ في حدود إذن موكِّله، وحيث ذكر هؤلاء أنهم غير مأذونين بتسليم المال إلاَّ بعد الدلالة وإقامة الحجة، إذن فلا بأس بعدم تسليمهم المال.
ومن هنا قال المعتمد: القوم رُسُل، وما على الرسل إلاَّ البلاغ المبين. فبهت جعفر ولم يرد جواباً. إنه يسمع من المعتمد لأول مرة ما لم يكن متوقّعاً.. إنه قول منصف، إلاَّ أن جعفر ليأسف أن يكون قول المنصف دائماً، ضد مخططه.
ثم يطلب القوم من الخليفة أن يأمر لهم شخصاً يدلهم على الطريق، حتى يخرجون من البلدة، فأمر لهم بنقيب فأخرجهم منها.
وإذ يصبحون في خارج البلدة، ويحدث ما لم يكن في الحسبان... أنهم جاءوا إلى هذه البلدة يحملون الأموال إلى الإمام (عليه السلام)... ومن غير المنطقي أن يرجعوا إلى بلدهم آيسين ويعلنوا عدم وجود الإمام، فتبقى الأمة في حيرة وضلال، مع أن الحجة المهدي موجود وقادر على الاتصال بهم وإفهامهم ما هو الحق، إن ذلك لن يكون بادرة حسنة في منطق الدعوة الإلهية.
إذن، فلا بد من الاتصال بهذا الوفد، وإقامة الحجة عليه وإفهامه وجود إمامه.. على الطريقة المتبعة مع سائر الموالين.. ليكون هذا الوفد لساناً للحق في بلاده، ونقطة انطلاق إلى القواعد الشعبية الموالية، وستكون مقابلة هذا الوفد للإمام المهدي (ع) ثاني اتصال له بالناس في يوم وفاة أبيه، وكان الأول هو صلاته عليه (السلام الله عليهما).
يرسل المهدي (ع) خادمه إلى خارج البلدة، ويعطيه المفتاح الرئيسي لإفهام هذا الوفد الحائر ما هو الحق. فيأمره بأن يتبعهم ويناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم.. ويلقنها إياه، ويخرج الخادم خارج البلدة، ويصيح بهم بأسمائهم، قائلاً لهم: أجيبوا مولاكم.
وهنا يجد القوم أن هذا الخادم قد علم الغيب فيخطر لهم احتمال أنه هو الإمام.. غافلين عن إمكان التعلم لأي أحد إذا وجد الفرصة المناسبة، فيبادرونه قائلين: أنت مولانا؟ فقال الخادم: معاذ الله، أنا عبد مولاكم. فسيروا إليه، واستصحبهم معه حتى وصلوا إلى دار الإمام العسكري (عليه السلام). فدخلوا فوجدوا الإمام المهدي قاعداً على سرير كأنه قمر، عليه ثياب خضر. فسلموا عليه فرد عليهم السلام. ثم قال (عليه السلام): (جملة المال كذا وكذا ديناراً، حمل فلان كذا، وحمل فلان كذا).. ولم يزل يصف، حتى وصف الجميع، ثم وصف ثيابهم ورحالهم وما كان معهم من الدواب، فخرّوا سُجَّداً لله عزّ وجلّ لِمَا عرّفهم، وقبَّلوا الأرض بين يديه، وسألوه عما أرادوا، فأجابهم، فحملوا إليه الأموال.
وهنا، وأمام ذلك الوفد القُمِّي، يفتح الإمام المهدي (عليه السلام) باب التاريخ الجديد: تاريخ الغيبة الصغرى، تاريخ الوكالة والسفارة، وهو تاريخ سوف يعيشه الناس سبعين عاماً من الدهر على ما سنسمع.. فيأمر الوفد أن لا يحمل إلى سر مَن رأى بعدها شيئاً من المال، وأنه ينصب لهم ببغداد رجلاً تحمل إليه الأموال وتخرج منه التوقيعات.. ويخرج الوفد.(٣٧٩)
وبقي جعفر يجتر حقده.. إنه يعلم مَن هو المقصود بهذه الأموال، فما هو بالبعيد عن بيانات أبيه وأخيه، وقد رأى المهدي (ع) في هذا اليوم وهو يدفعه عن الصلاة.. إذن، فهو المقصود بالأموال. وستصل إليه حين يشاء. وما دام المعتمد، معتمده من أول الأمر، بعد أن باع ضميره للسلطات وتمرغ في أوحال الانحراف، فمن المنطقي في نظره أن يشكو وفد القميين، مرة أخرى، إلى الخليفة... إنه سيقول له: إنهم دفعوا المال إلى المهدي. وسوف لن تكون هذه الشكوى ضد الوفد نفسه، بعد أن وقف المعتمد إلى جانبهم، بل ستكون ضد المهدي نفسه، وتتضمن بكل صراحة تأليباً للسلطات عليه.
وتجد السلطات بغيتها القصوى وهدفها الأعلى الذي كانت ولا تزال تجد في طلبه فلا تقع عليه، إنه الآن رهن يديها وقريب المتناول منها... أليس عمه الآن يعرب عن وجوده ويدل على نشاطه.. إنها ستقبض عليه.. وبذلك تستطيع أن تتخلص من الوجود الرهيب الذي يقض مضاجعها ويملؤها رعباً وفرَقاً؛ لأنه سوف يبدّل ظلمها عدلاً، ويحوّل جورها قسطاً.
يفكّر المعتمد بذلك بمنطق المصلحة العليا والمهمة التي يمليها عليه المُلك، والجانب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في دولته، ويمليها عليه هذا العدد الضخم من القواد والوزراء والقضاة والعاملين في الدولة، ويمليها عليه سائر المحسوبين والمنسوبين إلى الدولة، والموالين لها، والسائرين في خطها بشكل وآخر. فيأتي كل ذلك في ذهنه ضخماً مجللاً مهماً، لا يمكنه التخلّي عنه بحال من الأحوال.. وأي فشل ذريع وفضيحة كبرى سوف تناله وتنال دولته لو حصل ذلك.. ولا يمكن أن يحوّل احترامه للإمام العسكري (ع) والإيمان بعدالة قضيته دون ذلك، ودون المبادرة إليه بكل حزم وشدة.
ومن هنا نرى المعتمد حيت يستمع لكلام جعفر، ووشايته بالمهدي (ع)، يرسل الخيل والرجال إلى دار الإمام الحسن العسكري (ع)، فيكسبونه ويفحصون في كل غرفه ودهاليزه، فلا يجدون شيئاً. وليتهم يكتفون بذلك، وإنما اشتغلوا بالنهب والسلب والغارة على ما رأوا من متاع الدار.
وبينما هم مشغولون بالنهب، يتحيّن الإمام المهدي فرصة غفلتهم، ويخرج من الباب،
تقول الرواية:
وهو يومئذ لابن ست سنين ـ وقد عرفنا أنه ابن خمس سنين ـ فلم يره أحد منهم حتى غاب.(٣٨٠) إنهم لا يعرفون بالتحديد عمن يبحثون، وأي شخص سوف يجدون، فالفكرة غامضة في أذهانهم بعيدة عن مخيّلتهم.. فلن يكن من البعيد، أن لا يلتفتوا وهم في نشوة السلب والنهب، إلى وجود صبي يخرج من بين أيديهم، بكل بساطة وبلا ضوضاء.
ولا يجد هؤلاء الرجال في الدار، بعد أن تبعثر أصحابها وتشتت شملها، إلاَّ الجارية صقيل أم المهدي (عليه السلام)، فيقبضون عليها ويرفعونها إلى الجهات الحاكمة.
ومن هنا تبدأ المحنة الأساسية لهذه الجارية الصابرة المجاهدة، تلك المحنة التي واجهتها بكل صمود وإخلاص وإيمان، واستطاعت ـ برغم الضغط الحكومي ـ أن تخرج ظافرة في المعركة، وأن لا تبوح بالسر العزيز الذي باح به جعفر، وقد أوجب الله تعالى عليه كتمانه، وأبقت ولدها محجوباً مصوناً من الاعتداء.
إنهم ـ أولاً ـ طالبوها بالصبي، فأنكرته. ومعناه أنها ادعت أنها لم تلد، وأنه لا وجود لهذا الصبي على وجه الأرض.. إنها تخبر بما لا تعتقد.. ولكنه كذب جائز، بل واجب في الشريعة الإسلامية. فإننا نعرف أن الكذب يكون جائزاً في ما إذا كان سبباً في إصلاح ذات البين، ويكون واجباً فيما إذا توقف عليه إنقاذ نفس محترمة من الموت أو ما دونه من أنواع التنكيل الشديد.. وهو الآن كذلك بالنسبة إلى ولدها المهدي (ع). فكيف إذا توقّف على هذا الكذب البسيط مستقبل الإسلام وسعادة البشرية وقيام المهدي بدولة الحق.
وتزيد الوالدة الصابرة الممتحنة في إخفاء ولدها، وتأخذ الحيطة له، فتدّعي أن لها حملاً. ويقع كلامها في ذهن الحكّام موقعاً محتملاً.
فإننا عرفنا أن الدولة كانت تنتظر ولادة المهدي (عليه السلام) من الإمام العسكري (عليه السلام)، وها قد انتهت حياته ولم تر له ولداً. فهو إذن، إما موجود في الخارج، أو محمول في الأرحام. وحيث لا تكون الدولة مسبوقة بوجوده في الخارج، وهي قد جرّدت حملة التفتيش ولم تجده.. إذن فهو حمل.. ومن المحتمل أن يكون هذا الحمل الذي تدّعيه هو المهدي المطلوب، فحسبهم أن يراقبوا هذه الجارية إلى حين ولادته.
ومن هنا وقعت هذه الجارية تحت المراقبة الشديدة المستمرة، حيث جعلوها بين نساء المعتمد ونساء الموفق ونساء القاضي ابن أبي الشوارب.. وهن نساء أعلى رجال لدولة. ولا زالوا يتعاهدون أمرها في كل وقت ويراعونها، وطالت المدة ولم يحصلوا على شيء. وبقيت الجارية على هذه الحال حتى واجهت الدولة مشكلات أساسية في المجتمع، واضطرت إلى خوض الحروب في عدة جبهات، فاشتغلوا بذلك عن هذه الجارية، فخرجت عن أيديهم، والحمد لله رب العالمين.
وتعد الرواية أربع حوادث رئيسية شغلت الدولة،(٣٨١) وكلها حقائق راهنة نسمعها في التاريخ العام:
إحداها: اقتراب يعقوب بن الليث الصفَّار من العاصمة، بعد أن كان يمارس نشاطه في الأطراف. فإنه بعد أن استولى على بلاد فارس، ونازل الحسن بن زيد العلوي فيها في وقعات عديدة، شعر المعتمد في سنة ٢٦٢ بالعجز عن يعقوب بن الليث، فكتب إليه بولاية خراسان وجرجان، فأبى يعقوب ذلك حتى يوافي باب الخليفة، فخاف المعتمد. فتحول من سامراء إلى بغداد. وجمع أطرافه وتهيأ للملتقى. وبذلك تحولت جبهة القتال من فارس إلى بغداد. وتحوَّل معاندوا الصفَّار من الحسن بن زيد وغيره من حكام الأطراف، إلى الخليفة نفسه.
وجاء يعقوب في سبعين ألف فارس، فنزل واسط، فتقدّم المعتمد وقصده يعقوب. فتقدّم المعتمد أخاه الموفّق بجمهرة الجيش، واستطاع الموفّق أن يهزم الصفَّار، فاستبيح عسكره وكسب أصحاب الخليفة ما لا يحد ولا يوصف. وعاد الصفَّار بنفسه منهزماً إلى فارس.(٣٨٢)
وبالرغم من أن المعتمد كان قد عقد للموفَّق لحرب صاحب الزنج منذ عام ٢٥٨، وخرج بنفسه لتشييعه كما سمعنا. إلاَّ أننا نرى الموفّق، إلى حين منازلته للصفَّار، لم ينازل الزنج منازلة فعالة، وإنما كانت تلك المهمة ملقاة على عاتق قواد آخرون في الدولة، ولم ينازله الموفق، إلاَّ بعد أن ظهر عجز الآخرين واندحارهم، في زمن متأخر جداً.
ثانيهما: خروج هؤلاء الحكام، المعتمد والموفّق، من سامراء إلى بغداد كما سمعنا.
ثالثهما: موت عبيد الله بن يحيى بن خاقان، الوزير، الذي استوزره المعتمد من حين تسلّمه للحكم عام ٢٥٦، وكان له مع الإمام العسكري (عليه السلام) وأخيه جعفر موقفاً محموداً، فقد حصل موته فجأة بسبب سقوطه عن دابته في الميدان، فسال دماغه من منخريه وأذنه، فمات لوقته وذلك عام ٢٦٣.(٣٨٣)
رابعهما: مشاكل صاحب الزنج.
وقد حملنا عنه في الفصل الأول فكرة منفصلة، وقد كان ذلك إلى ذلك الحين يحاول سبق الزمن في التخريب والقتل والإحراق، وإبادة الجيوش التي تنازله واستباحة الأموال والنساء كما عرفنا.
ولعلَّنا نستطيع أن نضع أيدينا على سبب آخر، لانشغال الدولة عن أم المهدي (عليه السلام)، هو موت ابن أبي الشوارب، قاضي القضاة عام ٢٦١(٣٨٤) الذي عرفنا أنها سلِّمت إلى نسائه.
وعلى أي حال، فنفهم من ذلك أن أم المهدي (ع)، بقيت تحت رقابة الدولة أكثر من عام، بل أكثر من عامين؛ لأننا عرفنا أن إلقاء القبض عليها كان بعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام)، بمدة غير طويلة، نتيجة لوشاية جعفر... إذن فقد تم ذلك خلال شهر ربيع الأول من عام ٢٦٠.
على حين أن هذه الحوادث التي دهمت الدولة، وقع أولها ـ وهو موت ابن أبي الشوارب ـ عام ٢٦١، وكانت واقعة الصفار عام ٢٦٢، وموت الوزير عام ٢٦٣. والمظنون أن حادثة الصفَّار، بما أوجبته من خروج المعتمد والموفق من سامراء، كانت هي السبب الرئيسي في خروجها من الأسر. وقد وقعت بالتحديد خلال شهر جمادى الثانية من عام ٢٦٢(٣٨٥) فتكون أم المهدي (عليه السلام)، قد بقيت في الأسر عامين وما يزيد على الشهرين.
ومن هنا تعرف أن المقصود الأساسي من حجزها ومراقبتها ليس هو البحث عن جنينها أو انتظار ولادتها، وإلاَّ كان يكفي للتأكد من ذلك أن تمضي عدة أشهر فقط، وإنما كان المقصود هو اضطهادها وعزلها عن مجتمعها أولاً، واحتمال اتصال ولدها بها خلال هذه المدة، لو كان موجوداً ثانياً. إلاَّ أن مخططهم باء بالفشل الذريع.
تعليق على الأحداث:
أودّ في ختام هذا الفصل أن أشير إلى عدة نقاط مهمة، عسى أن تتجلى بعض جوانب الغموض فيما عرفنا من التاريخ:
النقطة الأولى: إن غيبة الإمام المهدي (عليه السلام)، ليس لها مبدأ معين نستطيع أن نشير إليه، وإنما الأمر هو الذي عرفناه من وجود الإمام (عليه السلام) من حين ولادته، في جو من الكتمان والحذر والاحتجاب، وحرص والده (عليه السلام) على المحافظة البالغة عليه، وعدم وصول خبره إلى السلطة أو مَن يدور في فلكها أو مَن يلين أمامها، ولم يكن يعرض ولده إلاَّ على الخاصة من أصحابه كما عرفنا.
وبقي نفس هذا المعنى ساري المفعول بعد وفاته (عليه السلام)، متمثّلاً في حرص المهدي (ع) نفسه وحرص سفرائه وأصحابه في الكتمان والحذر. ومن الملاحظ في سيرة الإمام المهدي (ع) أنه كلَّما كان الزمان يمر كان يحجب نفسه عن أصحابه أكثر، فإنهم كلما اعتادوا على مقدار من الاحتجاب زادهم شيئاً قليلاً، وهكذا. وهذا هو الملاحظ من حين ولادته في زمان أبيه إلى آخر غيبته الصغرى حين بدات الغيبة الكبرى، وبدأ الاحتجاب التام إلاَّ بإذن الله عزَّ وجلَّ.
وسوف نناقش في مستقبل البحث، الخرافة القائلة بأن بدأ الغيبة كان من حين نزول المهدي (عليه السلام) إلى السرداب، تلك الخرافة التي نفخ فيها جملة من المفكرين وضخّمها عدد من المؤرّخين، واعتبروها من المآخذ على عقيدة الإمامية في المهدي. وسنرى أن رواية واحدة مجهولة السند واردة في ذلك، على أننا لو اعتبرناها إثباتاً تاريخياً، فهي تنص على أنه خرج من السرداب أمام الجلاوزة الذين كبسوا على الدار على ما سنسمع.
مضافاً إلى أن الاعتقاد بذلك متضمِّن لمفهوم خاطئ كاذب.. وهو أن المهدي (ع) وقبل نزوله إلى السرداب لم يكن محتجِباً، وكان من المتيسر لكل الناس أن يروه، وكانت حادثة السرداب هي الحد الفاصل بين الظهور والاحتجاب. وقد عرفنا بكل وضوح وتفصيل بطلان ذلك وعدم قيامه على أساس، وقد حملنا فكرة كافية عن حرص والده على حجبه وإخفائه، فلم يكن لحادثة السرداب أي أثر.
على أننا سنعرف أن هذه الحادثة لا تصلح ـ من حيث وجودها التاريخي لو صحت ـ أن تكون مبدأ للغيبة، فإننا سنعرف أنها وقعت بفعل المعتضد العباسي، وقد استُخلف عام ٢٧٩، أي بعد وفاة الإمام العسكري (ع) وبدء عصر الغيبة الصغرى.. عصر إمامة المهدي (ع) وقيادته للمجتمع بواسطة السفراء... بتسعة عشر عاماً، فاسمع واعجب!!
النقطة الثانية: إن الإمام المهدي (عليه السلام)، بدأ بنفسه عصر سفارته ووكالته، المسمّى بعصر الغيبة الصغرى، حيث استطاع أن يتصل بالمجتمع، متمثّلاً بوفد القُمِّيين، ويصرّح لهم (شفوياً) بتنصيبه للسفير حين يكون الناس على بينة من أمرهم في نشاطهم وتصرفهم وأموالهم، وتكون الحجة قائمة، في هذا النص القانوني، على صدق السفارة والسفير.
ولم يكن أمر السفارة غريباً على أذهان الجماهير الوالية، بعد أن كان نظام الإمامين العسكريين (عليهما السلام)، إذ يوعز إلى الوفد بحمل المال إلى وكيله في بغداد. لا يسمي لهم شخصاً معيناً يكون هو الوكيل، وذلك لعدم حاجتهم إليه. باعتبار أن هذا المال الذي كانوا يحملونه قد وصل إلى الإمام نفسه، وسوف لن يحملوا مالاً آخر قبل مضي عام من الزمن تقريباً، فان الوفد من كل بلد يكون عادة قي كل عام مرة، فإذا جاءوا حينئذ فسوف يستطيعون التعرّف عليه والسؤال عن اسمه وسوف يدلهم الكثيرون عليه.
إذن، فغاية ما يستطيع هذا الوفد أن يبلغه الآن إلى جماهير الموالين في سامراء وقم وغيرهم من المدن، هو أن يعطيهم أصل فكرة الوكالة، وضرورة الرجوع إلى الوكيل في بغداد، وعدم لزوم البحث عن مقابلة المهدي (ع) بنفسه.
وأما اسم الوكيل وتعيينه في عثمان بن سعيد العمري، فهذا ما يحتاج إلى بيان آخر. وفي الحق أنه قد صدرت فيه عدة بيانات، بعضها من فم الإمام العسكري (ع)، وبعضها من المهدي (ع) نفسه، على ما سنسمع في القسم الثاني من هذا التاريخ.
النقطة الثالثة: إن مركز الثقل والإدارة السياسية للقواعد الشعبية الموالية اجتماعياً واقتصادياً، ستنتقل ـ بإيعاز من الإمام المهدي (عليه السلام) ـ من سامراء إلى بغداد، بالرغم من بقاء سامراء عاصمة للخلافة العباسية ما دام المعتمد في الحياة تسعة عشر عاماً أخرى وتنتهي بانتهاء حياته عام ٢٧٩، ثم ينتقل مركز الثقل في الخلافة أيضاً إلى بغداد مع بدأ خلافة المعتضد بن الموفق بن المتوكل في ذلك العام.
إن الوكيل ـ منذ الآن ـ سيمارس نشاطه في بغداد، وستحمل الأموال إليه هناك، وتخرج التوقيعات منه. وفي ذلك ما لا يخفى من البعد عن الرقابة المباشرة للسلطات عن الاحتكاك الدائم بالطبقة الأرستقراطية في العاصمة، من القواد الأتراك وغيرهم ممّن يمثّل خط الدولة على طوله.
ولئن كان الإمامان العسكريان قد فرضت عليهم الإقامة الجبرية في سامراء، وسياسة التقريب من البلاط، والدمج في حاشية الخليفة.. وكان الإمامان لا يريدان إعلان الاحتجاج وإثارة النزاع.. لئن كان ذلك، فهو أمر خاص بحياتهما. وأما بعد أن ذهبا إلى ربهما العظيم صامدين صابرين، وآلت الإمامة إلى المهدي (عليه السلام)، وهو الثائر على الظلم والطغيان، فقد آن لهذه السياسات المنحرفة أن تنتهي، ولهذا المخطّط الحكومي أن يقف عند حده، ينبغي لوكلاء المهدي (عليه السلام) أن يواجهوا الجمهور متخلّصين من هذا العبء، متحرّرين من هذا الاضطهاد؛ حتى يستطيعوا أن يمارسوا عملهم بشكل أفضل وبحرية أوسع. وبخاصة أن مواقفهم ـ بصفتهم وكلاء عن المهدي ـ تجعل موقفهم دقيقاً حرجاً تجاه السلطة، ويزيد حراجة فيما إذا كانوا يمارسون عملهم في سامراء.
على أننا ينبغي أن لا نبالغ في الحرية التي سيكتسبونها عند البُعد عن العاصمة، إنها حرية نسبية، بمعنى أن حالهم في بغداد أحسن بقليل، وإخفاء نشاطهم أسهل. ولكن الخط العام الذي كانت ـ ولا زالت ـ تمشي عليه الحكومة موجود أيضاً، وهو مطاردة الجمهور الموالي ومراقبته وإبعاده عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فالحجز والضيق بمعناه العام، لا تختلف فيه بغداد عن سامراء شيء.
وهذه الحرية النسبية التي سيكتسبها الوكلاء في بغداد، ستبقى سارية المفعول، ما دامت بغداد بعيدة عن العاصمة، وأن تسعة عشر عاماً يمر على ذلك، كفيل بترسيخ الوكلاء اجتماعياً، والتفاف الجماهير الموالية حولهم، بحيث لن يكون لانتقال العاصمة إلى بغداد تارة أخرى، أهمية ضد نشاطهم كالأهمية التي ستكون فيما لو انتقلت العاصمة مع بدء عصر الوكالة، أو وجدت الوكالة في قلب العاصمة.. وهذا كله يجري في النطاق الخاص.
وأما السلطات الحاكمة، فسون لن تكون مسبوقة بذلك؛ لِمَا يحيط كل نشاط يقوم به الوكلاء من السرية والرمزية، بشكل يشبه من بعض الوجوه ما رأيناه من الإمامين العسكريين (عليهم السلام). على أنه من المستطاع القول بأن الوكلاء أضيق من الإمامين (ع) نشاطاً، وأقل منهما رمزية، وإن كانوا أكثر منهما سرية وتستّراً، وقد أوجبت هذه السرية تعذّر تطبيق تلك السياسة القديمة على الوكلاء، من قبل السلطات، بطبيعة الحال.
وأما على المستوى الحكومي، فالحملة ضد المهدي (عليه السلام) ستبقى سارية المفعول عشرين عاماً على أقل تقدير، حتى بعد الانتقال إلى بغداد، ولا تسأم الحكومة من ذلك ولا تيأس.. وإن أسقطت وجوده القانوني وميراثه عن نظر الاعتبار. وبالطبع، فإنه مما يحدد عزمها ويثيرها، ما يبلغها بشكل مباشر عن نشاط الوكلاء، وما ترى من اعتقاد الجمهور الموالي بوجود المهدي (عليه السلام) وغيبته، ونيابة هؤلاء السفراء عنه (عليه السلام)، ولكنها لن تستطيع النجاح، وسيحالفها الفشل.. إلى آخر الخط.
النقطة الرابعة: إننا سبق أن عرفنا عدة حوادث ولم نعرف تاريخها المحدّد:
منها: توسّل جعفر بن علي بالوزير عبيد الله بن خاقان، على أن يجعل له مرتبة أخيه (عليه السلام).
ومنها: توسّله بالمعتمد لتنفيذ نفس الغرض.
ومنها: وقوف المهدي (عليه السلام) تجاه أطماع جعفر حين مطالبته بالإرث.
ومنها: وقوفه (عليه السلام) مطالباً تنفيذ وصية جدته.
ومن المؤسف أننا لا نستطيع الوصول إلى التحديد المنضبط لهذه الأمور، فإنه من مناطق الفراغ في التاريخ على أي حال. وإنما غاية ما نتوخّاه هو الالتفات إلى ما تقتضيه طبيعة الأشياء في ترتيب هذه الحوادث.
المظنون أن أُولى هذه الحوادث وقوعاً، هو مطالبة جعفر بن علي بالإرث، فإن مناقشات الإرث تقع عادة في غضون الأيام الأولى من وفاة المورِّث، وخاصة إذا كان أحدهم حريصاً ومستعداً للمناقشة والجدل، كجعفر نفسه.
وأما توسّله إلى السلطات، فقد كان بعد أن مضت مدة كافية، ثبت فيها بالتجربة عند جعفر بأن مخططه قد فشل، وأن إمامته قد رفضت لدى كل مَن اتصل به من جماهير الموالين وشيوخهم، وهذا ما يحتاج إلى بعض الزمان حتى يتمخض الجدل الذي قام بين الموالين حول إثبات ذلك أو رفضه: ونشر الموقف الذي اتخذه المهدي (عليه السلام) تجاه عمه بينهم.
وحيث كانت السلطات هي الركيزة الأساسية لجعفر في مخطّطه فقد لجأ إليها، مبتدئاً بالوزير ومنتهياً بالخليفة، لعلها تستطيع أن تفرض جعفر على الموالين فرضاً، وقد عرفنا ما واجهه من عجز السلطات ورفضها لطلبه.
وعلى أي حال فمَن المستطاع القول أن هذه الحوادث الثلاث جميعاً، قد حدثت خلال الأشهر الأولى المتعقبة لوفاة الإمام العسكري (عليه السلام) في نفس عام ٢٦٠.
وأما وفاة الجدة (رضي الله عنها)، فهو متأخر عن مطالبته بالإرث، كما تدل عليه الرواية نفسها،(٣٨٦) ولكنه على أي حال غير محدّد الموعد، فلعله كان في نفس السنة، ولعله كان في العام الذي يليه. وعلى أي حال، فقد حصلت وفاتها في غضون ممارسة جعفر لنشاطه وإصراره على دعواه، قبل أن ييأس من تنفيذ مخطّطه ويرفع يده عنه ويتوب.
النقطة الخامسة: إنه لا بد لنا من أجل حفظ الحقيقة والموضوعية في البحث؛ أن نذكر من أشرنا إليه قبل قليل، وهو أن جعفر بعد أن مضى عليه زمان يمارس النشاط العدائي للإمام المهدي وعائلته، والممالئ للسلطات الحاكمة، أيِسَ من نجاحه، وسيطر عليه الحق؛ فكبح جماح نفسه، وترك عمله، ورفع اليد عن سلوكه المنحرف، وتاب إلى الله من ذنوبه. وعندئذٍ يخرج التوقيع من الإمام المهدي (عليه السلام) في العفو عنه والتجاوز عن تقصيره، تطبيقاً لقوله تعالى: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣٨٧)، وقوله تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى).(٣٨٨)
يخرج هذا التوقيع بواسطة السفير الثاني: محمد بن عثمان بن سعيد العمري، جواباً على سؤال في ضمن عدة استفتاءات تقدم بها إسحاق بن يعقوب إلى الإمام المهدي (عليه السلام) بواسطة هذا السفير. وكتب الإمام (عليه السلام) فيما يخص جعفر قائلاً: (وأما سبيل عمي جعفر وولْده، فسبيل أخوة يوسف (عليه السلام))(٣٨٩) يشير بذلك إلى عفو الله تعالى عن إخوة يوسف (عليه السلام)،(٣٩٠) بعد أن كانوا قد ناصبوه العداء وغرّروا به على ما تحدّث القرآن، ثم عفا عنهم حين اعتذروا و(قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).(٣٩١)
وهذا البيان من الإمام المهدي (عليه السلام) يدل على العفو عن جعفر، لنفس السبب الذي عفى به عن أخوة يوسف، وهو اعتذارهم ورجوعهم إلى الحق وتوبتهم عما فعلوه.
ومن المؤسف أن لا يكون تاريخ هذا البيان معروفاً بالتحديد، وإنما غاية ما نعرفه هو خروجه بواسطة الوكيل الثاني للإمام المهدي (عليه السلام): محمد بن عثمان العمري المتوفّى عام ٣٠٥.(٣٩٢) وأما تاريخ تولّيه الوكالة بعد أبيه، فمجهول؛ لجهالة تاريخ وفاة أبيه عثمان بن سعيد على ما سنسمع. ومن هنا لا نستطيع أن نحدِّد مقدار الزمان الذي استمر جعفر يمارس نشاطه فيه. ولا الزمان الذي تاب فيه وصدر عنه العفو، غير أنه كان قبل سنة ٣٠٥، وهو تاريخ مديد غير محدَّد، وهذا من فجوات التاريخ المؤسِفة، وعلى الله قصد السبيل.
خاتمة هذا القسم:
استطعنا في هذا القسم الأول أن نحيط بالمهم من الظروف والملابسات التي اكتنفت حياة الإمامين العسكريين (عليهما السلام)، هذه الظروف التي انبثقت فيها الغيبة الصغرى. كما أحطنا بالمهم من تاريخ الإمام المهدي (عليه السلام) بحسب ما ورد في تاريخنا الخاص، في ولادته ونشأته في زمان أبيه، وما نتج عن ذلك بشكل مباشر بعد وفاة أبيه.
وبذلك ينتهي القسم الأول من هذا التاريخ، وهو في واقعه قسم تمهيدي؛ لِمَا كُرِّس له هذا التاريخ: من ذكر للغيبة الصغرى والإحاطة بخطوطها العامة، وأساليب الإمام (عليه السلام) في تدبير أمور مواليه وقيادتهم، وهذا ما نتعرَّض له خلال القسم الثاني.
القسم الثاني: تاريخ الغيبة الصغرى من عام ٢٦٠ إلى عام ٣٢٩
تمهيد: في تحديد الغيبة الصغرى
تبدأ الغيبة الصغرى مِن حين وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) وتولّي الإمام المهدي (عليه السلام) الإمامة، وقد بدأها (عليه السلام) بالإيعاز بنصبِ وكيله الأوّل، حين قابله وفد القُمِّيين كما سمعنا.
ولذا نجد أنّ الأمر لا يخلو من المسامحة، إذا قلنا إنّ الغيبة الصغرى بدأت بإصدار هذا البيان، لا بساعةِ وفاة أبيه (عليه السلام)، على أنّ الأمر ليس مهمّاً بعد اتحاد تاريخها، في نفسِ اليوم الواحد، بل الصباح الواحد، حيث توفّيَ الإمام العسكري بعد الفجر من اليوم الثامن من شهر ربيع الأوّل عام ٢٦٠، وقابل وفد القُمِّيين الإمام المهدي (عليه السلام) قبل الظهر في نفس اليوم.
ومِن المستطاع القول بأنّ المُميّزات الرئيسيّة لهذه الفترة ثلاثة:
الميزة الأُولى: كونها مبدأ تولّي الإمام المهدي (عليه السلام)، للمنصب الإلهي الكبير في إمامة المسلمين بعد أبيه الراحل (عليه السلام)، لكي يتولّى مسؤوليّته الكبرى في قيادة قواعده الشعبية خاصّةً، والبشرية كلّها عامّة، إلى قواعد السعادة والسلام.
الميزة الثانية: عدَم الاستتار الكلّي للمهدي (عليه السلام)، وإنّما كان يتّصل بعددٍ مهمٍّ من الخاصّة، لأجل مصالح كبرى ستعرفها فيما بعد، على حين بدأ الاستتار الكلّي ـ إلاَّ فيمن شاء الله عزّ وجل ـ بانتهاء هذه الفترة.
الميزة الثالثة: وجود السفراء الأربعة، الموكّلين بتبليغ تعاليم الإمام المهدي إلى الناس من قواعده الشعبية، بحسَب الوكالة الخاصّة المنصوص عليها من قِبل المهدي نفسه، أو من قِبَل آبائه (عليهم السلام)، وكان الأُسلوب الرئيسي للمهدي (عليه السلام)، في قيادة قواعده الشعبية وإصدار التعليمات وقبض الأموال، هو ما يكون بتوسّط هؤلاء السُفراء وما يتسنّى لهم القيام به مِن قولٍ أو عمَل.
وقد خسِرت الأُمّة الإسلاميّة هذه الوكالة الخاصّة، بوفاة السفير الرابع، وانتقل التكليف الإسلامي، بعده إلى الاتكال على الوكالة العامّة، الثابتة في الكتاب والسنّة، كما هو المعروض في محلّه مِن كتب البحوث والأحكام الإسلاميّة.
ولم تخل هذه الفترة من تهْويشات وصعوبات، عاناها السفراء والمهدي (عليه السلام) ـ وهو في غيبته ـ من أجل ادعاء أفراد معيّنين للوكالة الخاصة زوراً، ومعارضتهم للسفراء الحقيقيّين، وإغرائهم للناس بالجهل. غير أنّه كانت تُكتب لهم الخيبة والفشَل؛ نتيجةً للجهود الواسعة التي يبذلها السفراء في تكذيبهم وعزل الناس عنهم، استشهاداً بأقوال الإمام المهدي وبياناته فيهم.
وأهمّ هؤلاء المدّعين وأكبرهم تأثيراً في جماعاتٍ من الناس، هو (الشلمغاني ابن أبي العزاقِر)، وسيأتي التعرّض إلى موقفه وموقف المهدي (عليه السلام) منه تفصيلاً.
كما أنّ هذه الفترة، لم تخلُ مِن مصاعب بلحاظ المطاردة الحادّة التي كانت السلطات توجّهها إلى الإمام المهدي (عليه السلام) بالخصوص، وقواعده الشعبية على وجه العموم، وبلحاظ المناقشات وأنحاء الكلام والطعن الذي كان يصدر من القواعد الشعبية غير الموالية للأئمّة (عليهم السلام)، وخاصّة أُولئك المتملّقين للدولة والمستأكِلين على مائدتها والمنتفعِين بسياستها.
ولعلّ الثغرة التي كان يُمكن لهؤلاء أنْ يصلوا إليها في مناقشاتهم، كانت أوسَع بعض الشيء ممّا كانت عليه مناقشات أمثالهم في زمان ظهور الأئمّة (عليهم السلام)، فإنّ القواعد الشعبية الموالية كانت في هذه الفترة فاقدة للاتّصال المباشر بشخصية الإمام (عليه السلام)، تلك الشخصية الفذّة النيّرة التي تُعطي مِن توجيهها وتدبيرها في نقض الشبهات وحل المشكلات الشيء الكثير، ممّا يصعب على الوكلاء والسفراء القيام به إلاَّ بشكلٍ يكون أضيق دائرة وأقلّ درجة.
على أنّ الإمام (عليه السلام) في بياناته ومقابلاته للآخرين لم يكن يألُ جُهداً في المناقشة والتوجيه والتدبير، على ما سنذكر في مستقبل البحث بتوفيق الله عزّ وجل، مضافاً إلى أنّ فكرة غيبة المهدي (عليه السلام) وطول عمره، وما يترتّب على ذلك مِن فائدة، ونحوها من الأسئلة التي أصبَحت تُثار من قِبل المناقشين، لم يكن لها أيّ موضوعٍ أو مجال في زمان ظهور الأئمّة (عليهم السلام).
وهذا بنفسه يُكلّف السفراء، ومِن ثَمّ الإمام المهدي (عليه السلام) نفسه، إلى مناقشة مثل هذه الشُبُهات وتذليل مثل هذه المشكلات بنحوٍ منطقيٍّ مُقنِع.
والآن يُمكننا أنْ نستعرض تاريخ الغيبة الصغرى، معتمدين عدّة فصول:
الفصل الأوّل: في التاريخ العام لهذه الفترة
تبدأ هذه الفترة التي نؤرّخها: عصر الغيبة الصغرى، بوفاة الإمام العسكري (عليه السلام)، في الثامن من شهرِ ربيع الأوّل عام ٢٦٠ كما قلنا، وتنتهي بوفاة السفير الرابع أبي الحسَن عليّ بن محمّد السمري في النصف من شعبان، عام ٣٢٩.(٣٩٣)
وهي سبعون عاماً حافلةٌ بالأحداث الجِسام والتقلّبات العِظام، انتقل فيها عمر التاريخ الإسلامي من عقدِه الثالث إلى عقدِه الرابع.
وانتقلت الوكالة الخاصّة أو السفارة عن الإمام المهدي (عليه السلام) بين أربعةٍ من خيار خلقِ الله وخاصّته، هم: عثمان بن سعيد العمري، وابنه محمّد بن عثمان، والحسين بن روح، وعليّ بن محمّد السمري (رضيَ الله عنهم)، وانتقلت الخلافة بين ستّة مِن خُلفاء بني العبّاس، بينهم المعتمد الذي عاصر وفاة الإمام العسكري (عليه السلام)، ومبدأ الغيبة الصغرى..
حتى عام ٢٧٩، حيث آلت الخلافة إلى المعتضد إلى عام ٢٨٩، فاستخلَف المكتفي إلى عام ٢٩٥، وبعده المقتدر إلى عام ٣٢٠، ثمّ القاهر بالله سنة ٣٢٢، ثمّ الراضي بالله حتى عام ٣٢٩ وهو عام وفاة النائب الرابع السمري (عليه الرحمة)، ونهاية العهد الذي نؤرّخ له.
والخطوط العامّة للمجتمع، هي ذاتها التي عرفناها في التاريخ العام السابق الذي عرفناه...فضعف الخلافة يتفاقم بمضي الأعوام، ولئن كانت سيطرة المَوالي والأتراك على دفّة الحكم، وتأثيرهم في نصب الخليفة وعزله، في الفترة السابقة، ملفتاً للنظر، باعتبار كونهم جديدوا عهدٍ بمثل هذا العمل، فقد أصبَح تأثيرهم في هذا التاريخ طبيعيّاً وأمراً حتميّاً، فهم القوّاد والمحاربون والمالكون للأطراف والمتصرّفون بشؤون الدولة، وخاصّةً الخلفاء حيناً وأعداءهم أحياناً، والمؤثّرون في عزل الخليفة ونصبه بكل بساطة ووضوح، بل من المستطاع القول... بأنّهم بالرغم من كونهم شجى في حلق الخلافة، إلاَّ أنّهم الساعد الأيمن لها والمستفيد منها، والمتاجر باسمها في طول البلاد وعرضها.
وقلّما يموت الخليفة حتف أنفه، فالمعتمد يكثر من الأكل في عشاء على الشط ببغداد، فيموت مبطوناً،(٣٩٤) والمعتضد يموت مسموماً من قِبل إحدى جواريه أو غيرها،(٣٩٥) والمقتدر يموت بشرِّ قتلة من قِبل قومٍ من المغاربة والبَربَر، وكان منفرداً منقطعاً عن أصحابه فشهروا سيوفهم في وجهه، فقال لهم: ويحكم أنا الخليفة! فقالوا: قد عرفناك يا سفلة..أنت خليفة إبليس.. وقتلوه وأخذوا جميع ما عليه حتى سراويله، وتركوه مكشوف العورة إلى أنْ مرّ به رجلٌ من الاكرة فستره بحشيش، ثمّ حفَر له موضعه ودُفِن وعُفِيَ قبره.(٣٩٦)
والقاهر ثار عليه جماعة من القوّاد الساجيّة والحجريّة واقتحموا عليه قصره، فلمّا سمِع القاهر الأصوات والجلبة، استيقظ مخموراً وطلب باباً يهرب منه.. ولا زال يُماطلهم منفرداً حتى أدركوه وقتلوه.(٣٩٧)
وهذا القاهر، هو الذي ذاق طعم الخلافة لمدّة يومين في غضونِ أيّام سلفِه، حيث خلَع المقتدر وشهِد جماعة على خلعه. وذلك بأيدي بعض القوّاد المَوالي والوزراء، ولكن القاهر حين رأى المقتدر راجعاً إلى دَسَّت الخلافة قائلاً له: يا أخي، قد علمت أنّه لا ذنب لك، وأنّك قُهِرت.. ولو لقّبوك بالمقهور لكان أولى من القاهر. بكى القاهر وقال: يا أمير المؤمنين، نفسي نفسي...أذكر الرحم التي بيني وبينك.(٣٩٨)
وأمّا حال الوزارة والوزراء، الذين يتناوبون على دسَّت الحكم، وسرعان ما يبدو فشلُهم في معاملة الناس وفي توزيع الأموال وتدبير الشؤون السياسية، فيُعزَلون وقد يذوقون بعد العزل صنوف العذاب والسجن ونهب الأموال، فحدّث عن هذه الحال ولا حرج... بما يطول المقام في ذكر تفاصيله.
والصعوبات والحروب المتكرّرة التي تتكبّدها الدولة مِن الخوارج كثيراً، ومِن الأكراد(٣٩٩) والأعراب(٤٠٠) أحياناً، ومن الخارجين عليها الطامعين في الملَك والغلَبة على الأطراف دائماً.. قائمة باستمرار على قدَمٍ وساق.
والفتح الإسلامي، لا زال تجاريّاً لا يُقصد به إلاَّ السلب والنهب والغارة، ويعتبر بالنسبة إلى الدولة مورداً ضخماً، يُصرف أكثره في الخلافات الداخليّة والخلافات الشخصيّة، ولم يكن الفتح محلّ عنايةِ الدولة أكثر من ذلك، إلى حدٍّ أصبحنا نسمَع أنّه ضعفت الثغور الجزرية في أيّام المقتدر عن دفع الروم عنهم: كملطية، وميافارقين، وآمد وارزن وغيرها، وعزموا على طاعة ملكِ الروم والتسليم إليه لعجز الخليفة عن نصرهم، وأرسلوا إلى بغداد يستأذنون في التسليم ويذكرون عجزهم ويستمدّون العساكر لتمنع عنهم.. فلَم يصغ إليهم أحد، فعادوا خائبين؛(٤٠١) لأنّ العاصمة علِمَت أنّ هذا الموقف لنْ يكون تجارياً، وإنّما هو لأجل إنقاذ حقيقي لمنطقة إسلاميّة من براثن الاستعمار الكافر.
والحروب من أطراف الدولة الإسلامية، بين الطامعين والمترئّسين، قائمة على قدَمٍ وساق بنحوٍ خارج عن اختيار العاصمة وأمرها، على الأغلب، وتكون هذه الحروب هي الحكم الفصل في إبراز أمير وفشل أمير. يكفيك ما كان يقوم به يعقوب بن الليث الصفّار في بلاد فارس والأهواز، إلى أنْ مات عام ٢٦٥، فآلت قيادة الحروب إلى أخيه عمرو،(٤٠٢) وما يقوم به الخجستاني وخلفه رافع بن هرثمة في هَراة حتى قُتِل عام ٢٧٩،(٤٠٣) وما عمله الخلنجي بمصر(٤٠٤) عام ٢٩٢ وما بعده، والحسين بن حمدان عام ٣٠٣،(٤٠٥) والحروب الطاحنة التي عملها مرداويج في فارس، حتى ملَك طول البلاد وعرضها وهتَك المحارم وطغى وعمل له سريراً من ذهب يجلس عليه، وسريراً من فضّة يجلس عليه أكابر قوّاده، وخافه الناس خوفاً شديداً،(٤٠٦) حتى قتله خدَمه في الحمّام عام ٣٢٣.(٤٠٧)
(بعض التفاصيل التاريخية التي يختصّ بها هذا العصر):
إذن فالخطوط العامّة الرئيسية هي بذاتها موجودة والناس هم الناس، وإنّما المهم أنْ نتعرّض لبعض التفاصيل التاريخية التي يختصّ بها هذا العصر، وهي عدّة أُمور:
الأمر الأوّل: انتقال الخلافة إلى بغداد، وإعراضها عن سامرّاء إعراضاً تامّاً، حيث بُويع للمعتضد أبي العبّاس بن الموفّق في بغداد عام ٢٧٩،(٤٠٨) وبقيت سامرّاء لقمّة سائغة للاضمحلال والفناء، وقد حاول المكتفي عام ٢٩٠ الرجوع إليها، فصرفه وزيره عن ذلك لجَسامة الأموال التي يجب أنْ تُصرَف فيها قبل انتقاله، فبقيَت سامرّاء على الخواء والتخلّف.
الأمر الثاني: شهِد هذا العصر نهاية صاحب الزنج عليّ بن محمّد، بعد أنْ عاث في البلاد الفسَاد وقتَل وأحرَق واستعبد الشيء الكثير حيث قُتِل عام ٢٧٠،(٤٠٩) وقد خلّف قتله الشعور بالسرور والبهجة في المجتمع، وقيلت في ذلك الأشعار.(٤١٠)
وكان أعظم مَن بلي في قتاله بلاءً حسناً طلحة بن المتوكّل الموفّق وابنه المعتضد بالله ولؤلؤ غلام أحمد بن طولون الذي انشق عن مولاه.
وقد سبَق أنْ ذكرنا، أنّ الحروب التي قام بها المعتضد في هذا المضمار أهّلته للخبرة والقوّة، والالتفات إلى السياسات العامّة، والإدارة التي طبّقها في أثناء خلافته.
ومن طريف ما يُنقَل عن المعتضد أنّه بالرغم من قسوته المظلمة واستهانته بالدماء، وآلام التعذيب خلال خلافته،(٤١١) كان متسامحاً مع العلويّين، حتى إنّه ورَد من محمّد بن زيد من بلاد طبرستان مالٌ ليفرَّق في آل أبي طالب سرّاً، فغُمِز بذلك إلى المعتضد، فأحضَر الرجل الذي كان يَحمِل المال إليهم، فأنكر عليه إخفاء ذلك، وأمره بإظهاره وقْرْب آل أبي طالب إليه،(٤١٢) وإنّما كان ذلك بسبب رؤيته في المنام أمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث بشّره بمصير الخلافة إليه، وأوصاه بوِلْده خيراً، فقال له المعتضد: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين.(٤١٣)
وهو الذي عزَم على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر، وأمَر بإنشاء كتاب يُقرأ على الناس،(٤١٤) يُذكر فيه الشيء الكثير من مثالب بني أُمية، والأحاديث النبويّة، والآيات القرآنيّة في الطعن فيهم ووجوب البراءة منهم، وبَقيَ مصراً على كلامه، حتى قال له القاضي يوسف بن يعقوب: فما نصنع بالطالبيّين الذين يخرجون من كلّ ناحية ويميل إليهم خلقٌ كثير من الناس لقرابتهم من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فإذا سمِع الناس ما في الكتاب من إطرائهم، كانوا إليهم أميَل، وكانوا هُم أبسط ألسنةً وأظهر حجّةً منهم اليوم. فأمسَك المعتضد ولم يأمر في الكتاب بعد ذلك بشيء.(٤١٥)
ومِن طريف ما يُنقل عن المعتضد(٤١٦) أنّه في عام ٢٨٤ ظهَر له شخصٌ في صورٍ مختلفة في داره، فكان تارةً يظهر في صورةِ راهب ذي لِحيةٍ بيضاء وعليها لباس الرهبان، وتارةً يظهر شابّاً حسَنُ لوجه ذا لِحيةٍ سوداء بغير تلك البزّة، وتارةً يظهر شيخاً أبيض ببزّةِ التجّار، وتارةً يظهر بيدهِ سيفٌ مسلول وضرَب بعضَ الخدَم فقتله! فكانت الأبواب تؤخَذ وتغلق، فيظهر له أين كان، في بيتٍ أو صحنٍ أو غيره، وكان يظهر له في أعلى الدار التي بناها. فأكثر الناس القول في ذلك واستفاض الأمر واشتهر في خواصِّ الناس وعوامّهم، وسارت به الركبان، وانتشرت به الأخبار والقول في ذلك، على حسَب ما كان يقَع في ذهنِ واحدٍ منهم.
والمظنون أنّ هذه الظاهرة ليست من الجن ولا الشياطين، ولا من اختلال في العقل، وإنّما هو نتيجةٌ للإحساسِ بوخزِ الضمير نتيجةً للظلمِ والقسوة التي كان يستعملها تجاه الناس، بنحوٍ كان يشعر أنّها من مقوّمات شخصيّته وملكه ولا يمكنه التخلّي عنه، إذن فهو مضطرٌّ إلى عصيان صوت الضمير وتحمّل وخزِه في كلِّ وقت، وإذا تفاقم الشعور بالإثم فقد يصل إلى مثل هذا الخيال إذ قد يتجسّد له بعض الذين قتلهم بين يديه تحت التعذيب، حتى ليحسبهم حقيقة واقعة.
ومن المعلوم أنّ هذا الوهم يتبع شخص المعتضد حيث وجِد ولا تحول دونه الأبواب والأقفال والحراسة المشدّدة، ومن أجل ذلك كانت تختلف أزياء هذا الشبَح وأحواله، بحسَب اختلاف اتجاه تفكير المعتضد في خلوته.
وأمّا أنّ هذا الشبح قد قتل أحد الخدم بسيفه، فهذا ممّا لا يُمكن تصديقه، وإنّما هو من النسيج الذي أُضيف إليه من قِبَل الناس، حينما تداولوا هذه الحادثة وسارت بها الركبان.
الأمر الثالث ـ ممّا اختص به هذا العصر ـ: أنّه شهد نهاية الدولة الطولونيّة في مصر.
فإنّها كانت قد بدأت عام ٢٥٤ في عهد المعتز بأحمَد بن طولون التركي، حيث ولاه عليها بإيكبال التركي، من قبل الخلافة العبّاسية، على ما سبَق، وبقيَ مالِكاً لمصر وسوريا، متحدّياً للعاصمة أحياناً،(٤١٧) حتى مات مبطوناً عام ٢٧٠.(٤١٨)
فخلف ابنه خمارويه(٤١٩) الذي أصهر إليه المعتضد عام ٢٧٩،(٤٢٠) وبقيَ مستمرّاً على ملك أبيه إلى أنْ قتله مخموراً بعض خدمه، ومنهم من شرح لحمه من أفخاذه وعجيزته، وأكله السودان من مماليكه.(٤٢١)
وبقيَت الدولة الطولونيّة حتى عام ٢٩٢ حيث استولى الخليفة المكتفي على دولتهم وأموالهم، وولّي على مصر عيسى النوشري،(٤٢٢) وانقرضت بذلك دولتهم وزال ملكهم بعد أنْ لعِبَت دوراً في التاريخ حوالي الأربعين عاماً.
الأمر الرابع: ظهور شخص في شمال إفريقيا يدّعي أنّه هو المهدي.
وأنّه من ذرّية إسماعيل بن جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام)، وهو جدُّ الفاطميّين في مصر، وقد استولى على دولةٍ واسعة الأرجاء عام ٢٩٦،(٤٢٣) بعد أنْ مهّد له أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمّد بن زكريا الشيعي، مِن أهل صنعاء وقضى على دولته آلُ الأغلب في تلك المنطقة، وطرد آخر أُمرائها زيادة الله بن محمّد(٤٢٤) وملَك قِسماً كبيراً من الشمال الإفريقي بما يُقابل ليبيا وتونس والجزائر من الدول الحاضرة.
وبعد أنْ استتبّت له الأُمور وخافته القبائل، أخرج رجلاً يُدعى بعُبيد الله بن الحسن من سجنه في سجلماسة، وأعلنه مهديّاً وتبّرع له بكلّ مُلكه، فاستقامت له البلاد ودانت له العباد، وباشر الأُمور بنفسه وكفّ يد أبي عبد الله الشيعي ممّا كان عليه، ويد أخيه أبي العبّاس، فسعى أبو العبّاس إلى التشكيك في مهدويّته قائلاً: إنّ هذا ليس الذي كنّا نعتقد طاعته وندعو إليه؛ لأنّ المهدي يختم بالحجّة ويأتي بالآيات الباهرة. فأخذ قوله بقلوب كثير من الناس، منهم إنسان من كتامة يُقال له شيخ المشايخ، فواجه المهدي بذلك وقال: إنْ كنت المهدي فاظهر لنا آيةً فقد شككنا فيك، فلم يكن من هذا المهدي إلاَّ أنْ قتله.(٤٢٥)
وعلى أيّ حال فقد باشر الفتح الإسلامي مستقلاًّ عن سلطات بغداد، وحاول احتلال مصر مرّتين، فلَم يفلح، نتيجةً لما كانت تبذله الخلافة العبّاسية في دفعه، كانت أولاهما عام ٣٠١،(٤٢٦) وثانيتهما عام ٣٠٧.(٤٢٧) واحتلّ قِسماً من المغرب عام ٣١٥،(٤٢٨) وبنى مدينةً محصّنة سمّاها المهديّة، وجعلها عاصمةً لِمُلكه، وجعل لها سوراً محكماً، وأبواباً عظيمة، وزنُ كلِّ مصراع مئة قنطار. وكان ابتداءً بنائها يوم السبت الخامِس من ذي القعدة سنة ٣٠٣،(٤٢٩) وبقيَ على ذلك إلى أنْ توفّي عام ٣٢٢،(٤٣٠) وخلفه ولده محمّد الملقّب بالقائم إلى أنْ توفّيَ عام ٣٣٣(٤٣١) بعد أنْ قاتل أبا يزيد الخارجي قتالاً مريراً.(٤٣٢)
ومن الطريف أنْ تقع دولة هذا المهدي المدّعي في غضون الغيبة الصغرى للمهديّ المنتظر (عليه السلام)، وقد سبَق أنْ أشرنا في بعض أبحاثنا إلى أنّ هذه الدعوة للمهدويّة، وأمثالها ممّا كانت على مدى التاريخ، إنّما هي استغلال منحرف لإيمان الأُمّة بالمهدي الذي بشّر به النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، ولسنا الآن ونحن في مقام العرض التاريخي، بصدد مناقشة هذه الدعوى، وإنّما نحيلها إلى أبحاثنا الأُخرى.
وإنّما نقتصر في المقام على القول: إنّنا لا نعني بالمهدي إلاَّ ذلك القائد الذي يملأ الأرض قِسطاً وعدلاً، ويحكم البشريّة جمعاء بالعدل الإسلامي. فكلُّ مدّعٍ للمهدويّة إذا انقضت حياته ولم يتوفّق لهذا الهدَف، فلَيس هو المهدي المقصود.
الأمر الخامس: ظهور القرامطة.
بما كبّدوا الشعب المسلم من انحراف ودماء، وما كبّدوا الدولة العبّاسية من أموال ونفوس.
ويحسن الآن التكلّم مجملاً في:
ـ عقائدهم أوّلاً،
ـ وفي أعمالهم ثانياً؛
لنكون على خبرةٍ كافيةٍ عنهم، تنفعنا في مستقبل البحث:
أمّا عقائدهم: فالذي يظهر من كُتُب الفِرَق ـ كالنوبختي وسعد بن عبد الله الأشعري ـ أنّهم فرقةٌ من الإسماعيليّة، يؤمنون بسبعة أئمّة، هم: علي بن أبي طالب، والحسن، والحسين، وعليّ بن الحسين، ومحمّد بن عليّ، وجعفر بن محمّد، ومحمّد بن إسماعيل بن جعفر. هو الإمام القائم المهدي، وهو رسول، وهو حيٌّ لم يمُت، وأنّه في بلاد الروم.
ومعنى القائم عندهم أنّه يُبعث بالرسالة وبشريعةٍ جديدةٍ ينسَخ بها شريعة محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وأنّ محمّد بن إسماعيل من أُولي العزم من الأنبياء، وهم عندهم: نوح، وإبراهيم، وعيسى، ومحمّد، ومحمّد بن إسماعيل.
وزعموا أنّ محمّد بن إسماعيل هو خاتم النبيّين الذي حكاه الله عزّ وجل في كتابه، وأنّ الدنيا اثنا عشر جزيرة، في كلّ جزيرةٍ حجّة، وأنّ الحُجَج اثنا عشر، ولكلِّ حجّةٍ داعية، ولكلِّ داعيةٍ (يدٌ)، يعنون بذلك أنّ اليد رجل له دلائل وبراهين يقيمها، ويسمّى: الحجّة الأب، والداعية الأُم، واليد الابن (يضاهون قول النصارى في ثالث ثلاثة).
وهم من الباطنية، القائلين بأنّ جميع الأشياء التي فرضها الله تعالى على عباده، وسنهّا نبيّه (صلّى الله عليه وآله) وأمر بها، لها ظاهرٌ وباطن. وأنّ جميع ما استعبد الله به العباد في الظاهر فأمثالٌ مضروبة، وتحتها معانٍ هي بطونها، وعليها العمل وفيها النجاة، وأنّ ما ظهر منها ففي استعماله الهلاك والشقاء.
قالت المصادر: وهذا أيضاً مذهب عامّة أصحاب أبي الخطّاب.
واستحلّوا أعراض الناس بالسيف وقتلهم؛ واعتلّوا في ذلك بقول الله عزّ وجلّ: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).
ورأوا سبيَ النساء وقتْل الأطفال؛ واعتلّوا بذلك بقول الله تبارك وتعالى: (لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً).
وزعموا أنّه يجب عليهم أنْ يبدأوا بقتل مَن قال بالإمامة ممَّن ليس على قولهم، وخاصّة مَن قال بإمامة موسى بن جعفر وولَده من بعده، وتأوّلوا في ذلك قول الله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ).(٤٣٣)
وذكر بروكلمان: لأنّهم يؤمنون بالشركة بالأموال، وبالتأويل الباطني للشريعة، ويعدّون المريد إعداداً ليأخذ أخيراً بالطاعة العمياء للجماعة ولرؤسائه، وحُرّر من جميع القيود العقائدية، ومن جميع أغلال القانون في وقت واحد.(٤٣٤)
وذكر لهم ابن الأثير صلاةً خاصّة تختلف عن صلاة سائر المسلمين، وآذاناً يختلف عن آذانهم ـ يذكرون فيه الأنبياء من أُولي العزم واحداً واحداً ـ وذكر أنّ قبلتهم بيت المقدِس، وعطلتهم يوم الإثنين.(٤٣٥)
ولكنّه ينقل في موضعٍ آخر(٤٣٦) عن رجلٍ منهم أعرب عن عقيدته أمام السلطات، فذكر أنّه لابدّ لله من حجّةٍ في أرضه، وأنّ إمامهم هو المهدي المُقيم ببلاد المغرب، وهو عُبيد الله بن الحسَن الذي أشرنا إليه فيما سبَق، وقد كان معاصراً لهم في ذلك الحين. إلاَّ أنّ حركة القرامطة أسبَق من حركة هذا المهدي المدّعي، فإنّ حركته كانت عام ٢٩٦ كما عرفنا، في حين أنّ ظهور القرامطة في ابتداء أمرهم بسَواد الكوفة، كان قبل ذلك بثمانية عشر سنة، عام ٢٧٨.(٤٣٧)
ويدلّ على اعتقادهم أيضاً بإمامة عُبيد الله بن الحسن، ما سنسمعه من تعنيفه للقرامطة على قلعهم للحجَر الأسود من الكعبة، بحيث أوجَب إرجاعهم له على أثر ذلك. وقد يُنافي في اعتقادهم هذا، ما عرفناه من إيمانهم بكون محمّد بن إسماعيل بن جعفر بن محمّد هو المهدي، مع العلم أنّه لا يحتمل وجود مهديَّين في العالم، ويبعد جدّاً اعتقادهم بذلك.. والله العالم بحقائق الأُمور.
وأمّا أعمالهم: فلَم يكد المجتمع المسلم يشعر بالراحة، بعد القضاء على صاحب الزنج عام ٢٧٠ كما عرفنا، حتى ابتُلي مِن جديد بحرَكة القرامطة بعد ثمانية سنَوات من هذا التاريخ.
وكانوا يتّصفون بالصرامة والشدّة والاستهانة بالدماء، إلى حدٍّ لم يكن لِيَقف أمامهم جيشٌ مقاتل، أو تصمد أمامهم مدينةٌ محاربة. وكان مجرّد احتمال مهاجمة القرامطة لبعض المناطق، يوجب بثّ الرعب في الناس، وانهيار معنويّاتهم إلى حدٍّ كبير.
وقد كبّدوا العراق وسوريا والبحرين تضحياتٍ جليلة، إلى أنْ قُتِل قائدهم (صاحب الشامة) بعد القبض عليه وتعذيبه عام ٢٩١،(٤٣٨) وشيخهم زكرويه بن مهرويه عام ٢٩٤،(٤٣٩) وكبيرهم في البحرين أبو سعيد الجنابي عام ٣٠١.(٤٤٠) ومعنى ذلك أنّ صاحب الشامة وزكرويه قُتِلا قبل حركة المهدي المغربي عام ٢٩٦.
ولكن ذلك لم يفل من عزمهم، إذ شهِد عام ٣١١ مأساةَ البصرة التي أحدثوها بقيادة أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الهجري القرمطي، فقد وضَع السيف في أهل البصرة وقتَل خلقاً كثيراً، وطرَح الناس أنفسهم في الماء فغرق أكثرهم. وأقام أبو طاهر سبعةَ عشَر يوماً يحمل ما يقدر عليه من المال والأمتعة والنساء والصبيان،(٤٤١) ثمّ هاجم الكوفة هجوماً مُميتاً عام ٣١٥.(٤٤٢)
وأمّا هجومهم على قوافل الحجّاج وإبادتهم لهم، أعواماً متعدّدة فحدّث عنه ولا حرَج. بدأت عام ٢٩٤ بقيادة زكرويه، حيث غدَروا بقافلةٍ خراسانيّة للحجّاج وقتلوهم عن آخرهم، وبقِيَ يُقاتل القوافل حتى جمَع القتلى كالتل، وأرسَل خلف المنهزمين مَن يبذِل لهم الأمان. فلمّا رجعوا، قتَلَهم وغنموا مليونيّ دينار. وكان في جملة ما أخذوا فيها أموال الطولونية وأسبابهم.(٤٤٣)
وتكرّر عام ٣١٢ حين نهَب أبو طاهر القرمطي قوافل الحجاج، وأخذ جِمَال الحجّاج جميعها وما أراد من الأمتعة والأموال والنساء والصبيان وعاد إلى هجر، وترك الحجاج في مواضعهم، فمات أكثرهم جوعاً وعطَشاً من حرِّ الشمس،(٤٤٤) فتسبّبوا في هذا العام إلى أنْ لا يحجَّ مِن الناس أحد،(٤٤٥) وفي العام الذي يليه ٣١٣ جبى القرامطة ضريبةً من الحجّاج وكفّوا عنهم فساروا إلى مكّة.(٤٤٦)
وتكلّلت هذه الجرائم عام ٣١٧، بالهجوم المُباشر على مكّة المكرّمة وقتل الحجّاج ونهبهم، وسفك الدماء في المسجد الحرام، وطرح القتلى في بئر زمزم. وأخذ أبو طاهر كسوةَ البيت فقسّمها بين أصحابه ونهَب دور أهل مكّة، وقلَع الحجَر الأسوَد وأنفذه إلى هجَر(٤٤٧) حيث بقيَ ثلاثين سنة.(٤٤٨)
قالوا: فلمّا بلغ ذلك المهدي أبا محمّد عُبيد الله العلَوَي بإفريقية، كتَب إليه ينكر ذلك ويلومه ويلعنه ويقيم عليه القيامة! ويقول: قد حقّقت على شيعتنا ودعاة دولتنا اسم الكفر والإلحاد بما فعَلت، وإنْ لم تردَّ على أهل مكّة وعلى الحجّاج وغيرهم ما أخذت منهم، وتردّ الحجَر الأسود إلى مكانه وتردّ كسوة الكعبة، فأنا بريءٌ منك في الدنيا والآخرة.
فلمّا وصله هذا الكتاب، أعاد الحجَر الأسود، واستعاد ما أمكنه من الأموال من أهل مكّة فردّه، وقال: إنّ الناس اقتسموا كسوةَ الكعبة وأموال الحجّاج ولا أقدر على منعهم.(٤٤٩)
وفي هذا دلالةٌ واضحةٌ على تبعيّة القرامطة للمهدي الإفريقي، وكونهم القائمين بنشرِ دعوته وقتل مُخالفيه في الشرق، ومِن ثَمّ صحّ له أنْ ينصب من نفسه قيّماً على أعمالهم ومشرفاً على تصرّفاتهم، وكأنّه لم يجد من أعمالهم شيئاً منكراً إلاّ قلع الحجَر الأسود. ولله في خلقه شئون.
وعلى أيّ حال، فمِن المستطاع القول أنّ أكثر هذه الفترة التي نؤرّخ لها، كانت مسرحاً لعبث القرامطة بين مدٍّ وجزر.
الأمر السادس: من خصائص هذا العصر، أنّه شهِد ميلاد الدولة البويهية عام ٣٢١،(٤٥٠) حيث اتسعت قيادة وسيطرة عماد الدولة على بن بويه في فارس، وتوسّع ملك الدولة البويهية نتيجةً لذلك، في ظروفٍ لسنا الآن بصدد تفصيلها.
الأمر السابع: قلّة عدد الثوّار العلويّين في هذه الفترة التاريخيّة، فإنّنا قد لاحظنا في الفترة السابقة كثرة عدد الثوّار منهم، حيث قارب عدد القائمين بالسيف، ممّن وصَلَنا ذكره منهم: العشرون ثائراً في أقلِ من نصفِ قرن، بينما نرى أنّ السبعين سنة التالية، وهي الفترة التي نؤرّخ لها الآن، تكاد تكون خاليةً من ذلك إلاّ في حدود الأفراد القلائل.
وأبو الفرج الأصبهاني وإنْ ذكر في المقاتل لهذه الفترة عدداً من المقتولين، إلاّ أنّ مَن باشَر الحرب منهم لا يزيد على اثنين أو ثلاثة. والباقون كلّهم بين ميّتٍ في السجن، وبين مقتولٍ بسيف القرامطة، أو بسيف الدولة العبّاسية، بدون حرب.(٤٥١)
ويعود السبب في ذلك إلى أمرين:
الأمر الأوّل: استغراق أكثر هذه الفترة بحروب القرامطة وتحرّكاتهم ضدّ الدولة، ومن الواضح أنّ كلَّ ثورة تحدث في معارضة الدولة في ذلك العصر، فإنّها تُنسب من قِبل دعايات الدولة إلى تأييد القرامطة وممالاتهم والاشتراك معهم ضدّ الجهاز الحاكم، وهذا ما لا يريده الثوّار لأنفسهم.. كيف لا، وهم يعلمون أنّ القرامطة مختلفون معهم في العقيدة.. ويستحلّون دماءهم؟!، بل يبدءون بقتلهم قبل غيرهم؛ لِما عرفنا من تأوّلهم لقوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ).
وقد قتلوا بعضاً منهم في طريق مكّة.(٤٥٢) فاتِّهامهم بتبعيّة القرامطة ـ كما حدَث لأثنين منهم(٤٥٣) ـ أمرٌ غير صحيح.
الأمر الثاني: وهو ـ بكلِّ تأكيد ـ أهم من السبب الأوّل، وهو انتهاء زمن ظهور الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) وانقطاع اتصالهم بالناس بأوّلِ يومٍ من وفاة الإمام العسكري (عليه السلام)، وابتداء الغيبة الصغرى التي نعرض لتاريخها الآن.
وقد عرفنا في تاريخ الفترة السابقة، مدى تأثير وجود الأئمّة (عليهم السلام) وتوجيههم المباشر وغير المباشر للثورات الداعية إلى الرضا من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)... بنحوٍ استطاع الأئمّة أنْ يخفوه عن السلطات تماماً. ومِن المعلوم ما للأئمّة (عليهم السلام) من مكانةٍ في المجتمع الإسلامي وتأثيرٍ معنويٍّ في النفوس، وتاريخٍ جليلٍ حافلٍ بجلائل الأعمال، ممّا يوفّر لكلامهم وتوجيههم ـ وخاصّة في نفوس الثائرين الغاضبين على الظلم والعصيان ـ طريقاً مَهْيَعاً للاندفاع والتأثير.
وأمّا في هذه الفترة، وبعد أنْ غاب آخر الأئمّة.. المهدي (عليه السلام)، وانقطَع عن الاتّصال بالناس والاحتكاك بقواعده الشعبية.. فقد تضاءل ذلك الدافع الثوري والتوجيه القويّ إلى التمرّد والقيام بالسيف.
وأمّا الوكلاء الأربعة الذين أمسكوا بأزِمّة الأُمور في هذه الفترة، وكانوا همزة الوصل بين الإمام وقواعده الشعبية، فهم وإنْ كانوا في غاية الورَع والصلاح، إلاّ أنّهم ـ على أيّ حال ـ لا يتمتّعون بمثل مكانة الأئمّة (عليهم السلام) في قلوب المجتمع الإسلامي. على أنّه لم يكن مِن المصلحة على الإطلاق أنْ يصدر منهم الأمر بالتمرّد وتوجيه الثورات ولو بشكلٍ سرّي وغير مباشر؛ وذلك لأجل المحافظة على المصالح التي كانوا يقومون بها بين قواعدهم الشعبية، وهُم يعلمون ـ في حدود الظروف المُعاشة يومئذٍ ـ أنّ هذه الثورات لنْ تكون أحسَن حالاً مِن سوابِقها التي باءت بالفشَل وأُخمدت في مهدِها.
إذن، فالتعرّض للثورة أو التحريض عليه، لنْ ينتج إلاّ التغرير بحياة الوكلاء، والتضحية بخيط الاتصال بالإمام الغائب (عليه السلام)، والتغرير بمصالح القواعد الشعبية الموسّعة التي أوكلَت إليهم قيادتها، وهي مهام جسام لا تعادل التحريض على ثورة معلومة الفشل والخُسران.
مضافاً إلى استقلال الوكلاء عن المهدي(عليه السلام) بالتحريض أمر غير صحيح بطبيعة الحال، ومناف لوظيفتهم الاجتماعية الإسلاميّة. وأمّا تحريضهم على الثورة بأمر من المهدي (عليه السلام)، فهم ممّا لا يحدث؛ فإنّ المهدي (عليه السلام) لنْ يقوم إلاّ بثورته الكبرى حين يملأ الأرض قِسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجوراً، ولنْ تكون التمرّدات الصغرى مهمّة في نظره ولا دخيلة في وظيفته الإسلاميّة.
وعلى أيّ حال، فالذي أشعر به مليّاً، أنّ نوع الثورات الداعية إلى الرضا من آل محمّد، قد انقطع بانقطاع عهد الظهور، عهد اتصال الأئمّة (عليهم السلام) بالناس، وكلّ الثورات اللاحقة لذلك في التاريخ الإسلامي إلى عصرنا الحاضر، إنّما هو انعكاس صحيح أو منحرف، أو تأثُّر بقليل أو بكثير بتلك الثورات الجليلة المخلصة، التي بدأت بثورة الحسين (عليه السلام) وانتهت بانتهاء عصر الظهور.
الفصل الثاني: الاتجاهات العامة في هذه الفترة
ويتدرّج في ذلك الاتجاه العام للإمام المهدي (عليه السلام) نفسه، خلال هذه الفترة التي تُمثّل غيبته الصغرى، كما يندرج فيه الاتجاهات العامّة لمُواليه المعتقدين بإمامته، ولسفرائه الذين يُمارسون قيادة المجتمع بالوكالة عنه، وللدولة بما فيها من حكّام وسلطات.
ونتكلَّم في ذلك ضمن عدّة أقسام:
القسم الأوّل: الاتجاه العام للإمام المهدي (عليه السلام).
كان الاتجاه العام لسياسة المهدي (عليه السلام) في اتصاله بقواعده الشعبية وقيادته لهم، على ما يدلّنا عليه تاريخنا الخاص... مندرجاً في عدّة نقاط:
النقطة الأُولى:
إقامة الحجّة على وجوده بشكلٍ حسّي واضح؛ لكي يكون مستمسَّكاً واضحاً أكيداً لدحض ما قد يُثار من الشُبهات والأسئلة حول ولادته ووجوده.
وكانت هذه النقطة ممّا سار عليه والده الإمام العسكري (عليه السلام) كما عرفنا في تاريخ الفترة السابقة، حيث رأيناه يعرض ولده المهدي على الخاصّة من أصحابه، وينصُّ على إمامته بعده، وأنّه هو الذي يملأ الأرضَ قسطاً وعدلاً.
واستمرّ المهدي (عليه السلام) سائراً على ما سار عليه أبوه في ذلك، لاستمرار الأسئلة والإشكال عن قصدٍ أو غير قصد، خاصّةً مع اختفاء الإمام وغموض مكانه، ووجود الانحرافات بين أصحابه، كالذي عرفناه مِن عمّه جعفر، وسمِعناه ونسمعه عن الشلمغاني وغيره.
وكان للمهدي في إثبات وجوده بالطريق الحسّي الواضح عدّة طُرُق:
الطريق الأوّل: تمكين عدَد من الخاصّة مِن مشاهدته عياناً، وإيصائهم بتبليغ ما شاهدوه إلى الناس، وخاصّةً القواعد الشعبية المُوالية للإمام (عليه السلام)، مع إيصائهم بكتمان المكان وغيره مِن الخصوصيّات، التي قد تدلّ عليه وتيسّر للسلطات طريق الوصول إليه.
الطريق الثاني: إقامة المُعجِزة بطريقٍ غير مباشر لبعض الأشخاص، ممّن لا يواجهه مباشرةً، بإرسال رسالة شفويّة إليه عن طريقِ خادمٍ أو غيره، تتضمّن اسم الشخص (إنْ كان ممّا ينبغي عادةً أنْ يكون مجهولاً)، ووصفهِ للمَال الذي يحمله والبلَد الذي جاء منه ونحو ذلك، ممّا لا يُمكن أنْ يصدر إلاّ عن حجّة الله تعالى على خلقه.
الطريق الثالث: الأجوبة على المسائل وحل المشكلات وقضاء الحاجات عن طريقِ وكلائه بطريقٍ منطقيٍّ حكيم، منسجم مع أُسلوب آبائه (عليهم السلام) في مثل هذه المواقف، بنحوٍ يُعلَم بعدم تمكّن السفير من أنْ يأتي بمثله أو أنْ يخطر على باله، وخاصّةً إذا اقترن ذلك بأمرٍ يجهله السفير أَساساً، ممّا قد أثبته المهدي (عليه السلام) في توقيعه.
الطريق الرابع: التزام نحوٍ معيّنٍ من الخطِّ الذي كان يعرفه الخاصّة من مواليه وموالي أبيه (عليهما السلام)، فإنّ اختلاف الخطوط باختلاف الأشخاص مِن أوضَح الواضحات، وهو يُستخدَم على التعرّف على صاحبه في مختلف المجالات، القانونية والفقهية وغيرها.
فكان لخطّ الإمام المهدي (عليه السلام) مميّزاته الخاصّة التي يعرفها الخاصّة، والتي لا يُمكن تقليدها، كخطِّ أيِّ شخصٍ آخر، حتى للسفير نفسه، على أنّها محفوظة بذاتها، ومتشاكلة على أيدي السُفَراء الأربعة، على اختلاف خطُوطهم الشخصيّة وطبائعهم النفسية.(٤٥٤)
فهذه هي العناوين العامّة لهذه الطُرق، وسيأتي التعرّض للتفاصيل التاريخية في مستقبَل البحث.
النقطة الثانية: الاختفاء عن السلطات اختفاء تامّاً، بحيث يتعذّر وصولهم إليه مهما كلّفهم الأمر.
ويتمّ ذلك بعدّة طُرق:
الطريق الأوّل: عدَم تمكين المشاهدة إلاّ ممَّن يُحرِز فيه عمق الإخلاص وعدَم إفشاء السرّ الذي قد يؤدّي إلى الخطر.
الطريق الثاني: إيصاء الشخص المشاهِد ـ تأكيداً لذلك ـ بعدَم الإفشاء والاحتياط من هذه الناحية على إمامه، بحيث يكون الفرد ذو مهمّةٍ مزدوجة: فهو يجِب عليه التبليغ من مشاهدة الإمام (عليه السلام)، كما يجب عليه الالتزام في أخباره وتبليغه بأنْ لا ينزلق إلى ما لا يُحمد عقباه.
الطريق الثالث: تحريم التصريح بالاسم، ومنعه منعاً باتّاً، إلى حدٍّ يمكن أنْ يقال: إنّه كان مجهولاً عن الكثير من الخاصّة المُوالية، فضلاً عن سائر المسلمين، وخاصّةً مَن يمُتّ إلى السلطات بصلة.
ومِن هنا كان يُعبِّر عنه الخاصّة ـ عند الحاجة ـ بتعبيراتٍ مختلفة تُشير إليه إجمالاً، ولا تعنيه شخصيّاً.. كالقائم، والغريم، والحجّة، والناحية، وصاحب الزمان.. ونحو ذلك، ويتجنّبون بالكلّية التعرّض لاسمه الصريح، فإنّهم (إنْ وقفوا على الاسم أذاعوه، وإنْ وقفوا على المكان دلّوا عليه).(٤٥٥)
الطريق الرابع: الاختفاء التامّ عن السلطات، وعن كلّ مَن لا يُواليه.. اختفاء تامّاً مطلقاً. فلئن كان (عليه السلام) في غضون الغيبة الصغرى، قد يجتمع ببعض المُوالين، فإنّه لا يجتمع بمَن سواهم على الإطلاق، إلاّ ما كان لإقامة الحجّة وإظهار التحدّي للسلطات، مع عدَم إمكان إلقاء القبض عليه، كما حدَث لرشيق صاحب المادراي حين أرسلته السلطات للكَبس على دار المهدي (عليه السلام) في سامرّاء على ما سوف نسمَع.
الطريق الخامس: تحويل مكانه بين آونةٍ وأُخرى، بنحوٍ غيرِ ملفت للأنظار. وهذا هو المُستنتَج من مجموع الروايات على مكانه في الجملة، حيث تدلّ بعضها على وجودهِ في مكان، وتدلُّ بعضها على وجوده في مكانٍ ثانٍ أو ثالث وهكذا. وهذا صحيحٌ باختلاف الأزمان وتعدّد الأيّام والسنين خلال الغيبة الصغرى.. وسنسمع تفصيل ذلك في فصلٍ آتٍ من هذا التاريخ.
الطريق السادس: السكوت التام.. ومِن ثمّ الغموض المطلق، بل الجهل الكامل بطريقة اتصال الوكيل الخاص بالمهدي (عليه السلام)، هل هو بطريقِ المواجهة أو بطريقٍ آخر، وأين تحدث المواجهة وكيف؟ ولو لم تحدث المواجهة فكيف تصل أجوبة المسائل وحلول المشكلات؟ كل ذلك كان مجهولاً تماماً لدى كلِّ إنسان مهما كان خاصّاً ومقرّباً، ما عدا السفير نفسه، الذي يضطلع بهذه المهمّة.
ومِن المُمكن القول بأنّ السفير كان منهيّاً عن التصريح به أساساً لكلِّ أحد، ومِن ثَمّ كان الشخص يقدّم السؤال ثمّ يأتي بعد يومَين أو أكثر ليأخذ جوابَ سؤاله، ولم يرد في الروايات أيُّ إشارةٍ لطريقة استحصال الجواب من الإمام (عليه السلام).
الطريق السابع: إيكال الوكالة الخاصّة، أو السفارة، إلى أشخاصٍ يتّصفون بدرجةٍ من الإخلاص عظيمة، بحيث يكون من المستحيل عادةً أنْ يشوا بالإمام المهدي (عليه السلام)، أو أنْ يُخبروا بما يكون خطراً عليه، ولو مُزِّق لحمهم ودُقّ عظمهم، ولا يتوخّى بعد ذلك أنْ يكون السفير هو الأعمق فقهاً أو الأوسَع ثقافةً، فإنّ السفارة عن الإمام (عليه السلام) لا تعني إلاّ التوسّط بينه وبين الآخرين، ولا دخل للأفضلية الثقافية فيه، ومِن هنا قد تسند الوكالة الخاصّة إلى المفضول من هذه الجهة؛ توخّياً لتلك الدرجة من الإخلاص.
وهذا هو الذي ذُكِر في بعض الروايات، حيث اعترضوا على أبي سهل النوبختي، فقيل له: كيف صار هذا الأمر (أي السفارة) إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح دونك؟ فقال: هم أعلم وما اختاروه. ولكن أنا رجلٌ ألقى الخصوم وأُناظرهم، ولو علِمتُ بمكانه كما علِم أبو القاسم وضغطتني الحجّة، لعلّي كنت أدلّ على مكانه. وأبو القاسم لو كان الحجّة تحت ذيلِه، وقُرّض بالمقاريض، ما كشَف الذيل عنه.(٤٥٦)
النقطة الثالثة: قبض المال وتوزيعه بواسطة سفرائه أو غيرهم.
والمال المقبوض يكون عادةً من الحقوق الشرعية التي يعطيها أصحابها من الموالين للإمام (عليه السلام)، في مختلف البلاد الإسلامية، فكان إذا اجتمع عند قومٍ أموال من هذه الحقوق، أرسلوها بيد أحدِ أُمنائهم إلى الناحية.
وقد يكون المال المقبوض هبةً شخصيّةً للإمام (عليه السلام) من قِبَل أحد مواليه، عيناً أو ثوباً أو غير ذلك، وقد يكون المال موصى به من قِبل أحد الأشخاص للإيصال إلى الإمام (عليه السلام) بعد موته، أو غير ذلك من الوجوه.
وهذه الأموال منها ما يصل إلى الإمام مباشرةً، ومنها ما يبقى في يدِ الوكيل، يوزّعه بحسَب نظر الإمام وقواعد الإسلام.
كما أنّ حامل الأموال إلى الإمام، قد يوفَّق إلى دفعها إلى السفير مباشرةً، وقد لا يستطيع حتى ذلك، بل يؤمر بوضع المال في مكان معيّن، يذهب بعده في حال سيبله، وذلك بحسَب اختلاف الظروف والأحوال التي يعيشها السفراء بشكلٍ خاص، والقواعد الشعبية الموالية بشكل عام، على ما سوف نشير إليه في مستقبل البحث.
النقطة الرابعة: أجوبته (عليه السلام) على الأسئلة التي كان إيصالها إلى الإمام (عليه السلام) من أهمّ مهامّ السفراء، والتي كانت تجتمع عند السفيرة بكثرة من مختلف طبقات المُوالين.
والجواب قد يكون توقيعاً، أي جملةً مختصرةً مكوّنة من بعض كلمات، وقد يكون مطوّلاً مُسهَباً بحسَب ما يراه المهدي من مصلحة السائل والمجتمع.
تندرج في ذلك الأسئلة الفقهيّة والعقائدية التي كانت توجّه إليه، والطلبات الشخصيّة: كاستئذانٍ بالحج، وسؤاله عن ميلاد الوالد، أو التوفيق بين زوجين متشاكين. كما يندرج في ذلك مناقشاته للشُبُهات التي كانت قد تنجم بين المُوالين، وللدعاوي الكاذبة بالسفارة عنه (عليه السلام)، ولعن المدّعي وكشف اتجاهاته المنحرفة.
كما يندرج في ذلك ما خرج عنه (عليه السلام) من الترحّم على السفير الأوّل وتعزية وَلَدِه: السفير الثاني، وما خرج في بيان انقطاع السفارة بعد السمَري السفير الرابع.. وغير ذلك من التوقيعات.. كما سيأتي التعرّض لكلّ ذلك تفصيلاً إنْ شاء الله تعالى.
النقطة الخامسة: قضاؤه (عليه السلام) لحوائج الناس من قواعده الشعبية من الناحية الشخصية.
يندرج في ذلك المال الذي يأخذه بعضهم من المهدي (عليه السلام) مباشرة إذا وفِّقوا للقائه، والمال الذي يأخذه الآخرون من السفراء أو غيرهم ممّن يمُت للإمام بصلة، وهي بمجموعها، أموالٌ مهمّة لا يُستهانُ بها.
كما يندرج في ذلك نصحه (عليه السلام) لمستنصِحِيه بالقيام بعملٍ معيّن كالحجِّ أو غيره، أو الامتناع عنه، بحسب ما يرى من المصلحة التي يتّضح بعد ذلك للسائل مطابقتها لمقتضى الحال، كما يندرج في ذلك الأكفان والحنوط والأثواب التي كان يعطيها لبعض الخاصّة، مع الطلب أو بدونه، وذلك قبل موت ذلك الشخص بقليل.. سيأتي التعرّض لتفاصيل ذلك فيما يلي من البحث.
النقطة السادسة: عدَم التعرّض في كلام المهدي (عليه السلام) إلى شيءٍ من الحوادث العامّة في المجتمع، أو في الدولة، أو في الخارج، وما يقوم به الخُلفاء أو الوزراء أو القوّاد أو الأُمراء أو القضاة، أو غيرهم ممّن له شأن، أو ممّن ليس له شأن.
فإنّه بالرغم ممّا عرفناه من وجود الحوادث المهمّة في التاريخ العام.. تلك الحوادث التي أقلقت الدولة وكلّفت المجتمع الشيء الكثير.. ومنها ما حرّك ضمير المسلمين، كقلْع القرامطة للحجَر الأسوَد ونقله إلى هجَر.
بالرغم من ذلك، لا نجد في كلامه وتوقيعاته وتوجيهاته (عليه السلام)، أيَّ تعرّضٍ لهذه الحوادث على الإطلاق أو أيَّ تعليقٍ عليها.
وذلك لمبرّراتٍ ثلاثة مجتمعة أو متفرّقة:
المبرّر الأوّل: إنّ هذا الإعراض الكامل يُشكّل احتجاجاً صامتاً وشجبَاً سلبيّاً، لمجموع الخطّ الذي يَسير عليه الناس المنحرفون وذوو المصالح الشخصيّة، الصانعين لتلك الحوادث المُمثّلين لها على مسرح التاريخ، ابتداءً من الدولة وانتهاءً بقواعدها الشعبية.. ذلك الخطِّ المُنفصل عن خطِّه (عليه السلام)، والمنهج المُغاير لمنهجه.. ذلك الخطِّ الذي تشترِك الدولة وأعداؤها بالسير عليه والانتفاع به، فإنّهم مهما اختلفوا في شيءٍ، فهم لا يختلفون في معادات الإمام (عليه السلام) وإنكار وجوده، ومطاردة قواعده الشعبية.
والمهم لديه، وهو المؤمَّل لإقامة الحق المطلق في الأرض، أنْ يهمل هذا الانحراف إهمالاً تامّاً، ويتسامى عن مسيرته أو القول فيه أو التعليق عليه جملةً وتفصيلاً، حتى كأنّ شيئاً لم يحدث، وكأنّ الموجود في الأرض ليس إلاّ حقّه المطلوب وأهدافه المنشودة.
المبرّر الثاني: إنّ دَيدَن المهدي في بياناته وتوقيعاته، كان في الغالب مُكرّساً على أجوبة الأسئلة التي كانت تُرفَع إليه مِن مُواليه بواسطة سُفرائه، ولم يَخرُج منه توقيع ابتدائي بدون سؤال إلاّ نادراً، كأنْ يخصّ حالَ سُفرائه كالتعزية بسفيره الأوّل، والإعلان عن انقطاع السفارة بموتِ الرابع.
ومن هنا يصبَح من المنطقي أنْ لا نتوقّع من المهدي (عليه السلام) تعليقاً على أحدِ الحوادث العامّة، إلاّ إذا سأله عنه بعض المُوالين، أو طلب منه التعليق عليه، وهذا ممّا لم يُنقل في رواياتنا حدوثه.
والسبب في إهمال السؤال عن هذه الأُمور، هو: أنّ القواعد الشعبية الموالية للإمام (عليه السلام) تنقسم إلى قسمين:
القسم الأوّل: وهُم الأكثر والأغلب.. أُناسٌ يقلّ وعيهم ويتضاءل فهمهم الاجتماعي إلى حدٍّ كبير، فهُم وإنْ اطلعوا على أحكامهم الدينيّة من الناحية الشخصية على مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، إلاّ أنّهم لم يكونوا مُدركين بوضوحٍ الاتجاه الاجتماعي والسياسي لأئمّتهم (عليهم السلام) خاصّة، ولأحكام الإسلام عامّة.
وخاصةً وأنّ التاريخ القريب الذي عاشوه كان يذكي أوار الجهل ويؤكّد هذا التخلّف فيهم، وذلك لِما عرفناه من السياسة العبّاسية في عزل الأئمّة (عليهم السلام) عن قواعدهم الشعبية، وحجزهم في العاصمة وتقريبهم إلى البلاط... لأجل الأغراض التي عرفناها وفصّلناها، وممّا سبّب نموَّ جيلٍ من الشعب المُوالي منفصل عن قادته وموجّهيه، محرومٌ من علومهم ووعيهم وثقافتهم.
وقد أصبح هذا الجيل، خلال الغيبة الصغرى هو الجيل السائد الذي يمثّل الأغلبية الكاثرة، الجاهلة.. ومن ثَمّ لا ينبغي أنْ نتوقّع من مثل هذا الجيل أنْ يسأل عن رأي الإمام (عليه السلام)، أو فتوى الإسلام في أيِّ شيءٍ من الحوادث الاجتماعية أو الدولية.
القسم الثاني: وهُم الأقل... واعون مثقّفون بتعاليم الأئمّة السابقين (عليهم السلام)، وهم العارفون لاتجاهاتهم وطُرق تفكيرهم وتدبيرهم. فمثل هؤلاء إمّا أنْ يكونوا عالمين برأي الإمام (عليه السلام) سلَفاً بدون حاجةٍ إلى سؤال؛ وذلك لوضوح اتحاد اتجاهه (عليه السلام) مع اتجاه آبائه، وهم يعرفون القواعد الإسلامية العامّة التي يقيسون بها الأحداث الاجتماعية والدولية، فالفرد منهم يسأل نفسه عن تفسير الأحداث ويُجيبها، ويتّخذ تجاهها مسلكاً موزوناً بميزان وعيهِ وفَهمهِ الإسلامي الذي تلقّاه عن أئمّته (عليهم السلام)، من دون الحاجة إلى تجشّم مؤونة السؤال.
وأمّا أنْ لا يكون الفرد من هؤلاء الخاصّة عالماً بالرأي الإسلامي في حادثةٍ أو عِدّة حوادث.. ولكنّه مع ذلك لا يمكنه السؤال عنها؛ لأنّ هؤلاء الخاصّة معروفون للدولة: تراقب أعمالهم، وتحسب عليهم أقوالهم.. وهذا يكون من أكبر الموانع عن السؤال عن مثل تلك الأُمور.
المبرّر الثالث: خوف الإمام المهدي (عليه السلام) على قواعده الشعبية من عسف الدولة وضيق الخناق إذا وجِد لديهم رأي الإمام في أمرٍ سياسيٍّ أو حادثٍ اجتماعيٍّ، وذلك بأحد اعتبارين:
أحدهما: أنّ التعليق إذا كان على ما يمسّ الدولة من قريبٍ أو بعيد، أو على ما تؤيده من أشخاصٍ أو أحداث.. كان ذلك إعلاناً صريحاً للخلاف على الدولة.. الأمر الذي لا يُعرّض الفرد الذي وجِد عنده أو سُمِع منه ذلك للخطر فقط.. بل يُعرّض جماعةً كبيرةً من متعلّقيه، بل سائر أفراد الشعب المُوالي للإمام (عليه السلام)، إلى أنحاء من الخطَر وأنواع من التهديد هم في غنىً عنه لولا ذلك، وهو ممّا لا يريده لهم الإمام المهدي (عليه السلام)، كما لم يكن يُريده لهم آباؤه (عليهم السلام).
ثانيهما: أنّ تعليق الإمام على الأحداث، سَواء كان ممّا يوافق الدولة أم يخالفها، يدلُّ على وعي مَن وجِد عنده أو سُمِع منه، بل يدلّ على وعي جماعةٍ ممّن يكونون بمستواه الثقافي والفكري، وهذا معناه ـ كما تدركه الدولة بوضوح ـ كون الفرد والجماعة على مستوى الأحداث، وعلى مستوى تحمّل المسئولية، وإجابة نداء الحق وإطاعة تعاليم الإمام المهدي على أيِّ مستوى من المستويات.
وهذا ما تخافه الدولة وتخشاه بكلّ كيانها وطبقاتها، وتقف دونه بكلّ قواها، فإذا عطفنا على ذلك إحساس الدولة بما يصدر عنها من ظلم، وجهلها بقلّة الواعين المخلصين، استطعنا أنْ نشعر بعِظَم الخطَر وتفاقم الخطب.
ومِن ثمّ كان المهدي(عليه السلام) يرى ضرورة التخلّص من هذا الإحساس أساساً، وذلك بعدَم إشعار الدولة بوعي الواعين مِن مواليه؛ تجنيباً لهم عن الأخطار، وتمكيناً لهم بالاتّصال بالناس بشكلٍ أوسَع، من أجلِ حِفظ المصالح الكبرى التي يتوخّاها الإمام المهدي في المجتمع.
وأنّ مِن أسهل الطُرق لذلك، هو أنْ لا يوجد بينهم أو على ألسنتهم أيُّ تعليقٍ (رسمي)، على أيِّ حادِثٍ اجتماعي أو سياسي. وإذا وجِد شيء من ذلك، فلابدّ أنْ يبقى منحصراً في النطاق الخاص، محروساً عن الوصول إلى الدولة أو إلى أيِّ عميلٍ من عملائها. ومِن ثَمّ نسمع أنّه حين كان جماعة من الخاصّة في مجلس السفير محمّد بن عثمان العمري يتذاكرون شيئاً من الروايات، وما قاله الصادقون (عليهم السلام)، حتى أقبل أبو بكر محمّد بن أحمد بن عثمان المعروف بالبغدادي، ابن أخي أبي جعفر العمري (رض). فلمّا بصر به أبو جعفر، قال للجماعة: أمسكوا فإنّ هذا الجائي ليس من أصحابكم.(٤٥٧)
والذي أودّ الإلماح إليه في المقام مختصراً، هو أنّ ندرة التعليق الاجتماعي الواعي من الأمام المهدي (عليه الإسلام)، إنّما يدلّ على وجود مثل هذه المصالح، ولا يدلّ على كون الإمام المهدي (عليه السلام) بعيداً عن الأحداث، منصرفاً عن تطوّرات المجتمع.
ولا نُريد، في المقام، أنْ نستشهد بما نعتقده في الإمام من العصمة والتعليم الإلهي، وأنّه متى ما شاء أنْ يعلم فإنّه يعلم. كما لا نريد أنْ نقول بأنّ نفس فكرة السفارة وما يترتّب على ذلك من المصالح، لأكبر دليل على استيعاب المهدي للأحداث، ووعيه الكامل للمشاكل وحلولها الإسلامية على المستوى القيادي، لا على المستوى الاعتيادي.
بل غاية ما نذكره هو الإشارة إلى الروايات المتعدّدة الواردة في تاريخنا الخاص، الدالّة بكلِّ وضوح على ذلك: كتركه (عليه السلام) الجواب على سؤالِ شخصٍ كان قد أصبح قرمطيّاً،(٤٥٨) وكالذي قاله لعليّ بن مهزيار الأهوازي في شأن أهل العراق(٤٥٩) وكالبيان الذي صدر منه (عليه السلام) للشيخ المفيد (عليه الرحمة)، وقد تضمّن جملة من الأفكار والأخبار،(٤٦٠) وقصّة شقّه لثوب المرجي،(٤٦١) وغير ذلك من الروايات الدالّة على استعراض الإمام المهدي للأحداث ومتابعته للمشاكل الاجتماعية، وسيأتي تفصيل ذلك بما يزيده وضوحاً ورسوخاً.
فهذه هي النقاط الرئيسيّة للاتجاه العام الذي كان يلتزمه الإمام (عليه السلام) إبّان غيبته الصغرى، استعرضناه بنحو الاختصار، وسيأتي تفصيل الحوادث المُشار إليها، في الفصول الآتية من الكتاب.
* * *
القسم الثاني: الاتجاه العام للشعب الموالي.
كان الاتجاه العام للشعب الموالي لخطّ الإمام (عليه السلام)، خلال الغيبة الصغرى، مركّزاً حول عدّة نقاط، تكاد تكون مترابطة:
النقطة الأُولى: الاعتماد التام والتوثُّق الكامل من السفراء، وحسن الظن بهم بأفضل أشكاله.. بما هُم أهلٌ لذلك؛ لما هو معروف عند الشعب المُوالي من نصوص أئمّته الماضين (عليهم السلام) في توثيق وتجليل ومدح السفيرَين الأَوّلَين، على ما سوف نعرضه في ترجمتهما.
مضافاً إلى التجربة الفعليّة، والمُعاشرة مِن قريبٍ أو بعيد... التي عاشها الناس مع السُفراء الأربعة، قبل سفارتهم وبعدها، فعُرِفوا بالإخلاص والإيمان والصدق والتقوى، بنحوٍ يجعلهم في السنام الأعلى من خاصّة الشعب الموالي. فكانوا لا يشكّون، بأيِّ حالٍ مِن الأحوال، بما ينقله أحدُ السفراء إليهم شفَويّاً أو كَتْبيّاً عن المهدي (عليه السلام).
مضافاً إلى ما عرفناه من استدلالهم على صِدق الرسالة من خطّها، ومن مضمونها، ومن أُسلوب تبليغها.
النقطة الثانية: الرجوع في مشكلات الأُمور العقائدية والفقهيّة والشخصيّة إلى الإمام (عليه السلام)، عن طريق سفرائه؛ لكي يذلّلها لهم برأيه وحكمته.. على ما سوف يأتي تفصيله في مستقبل البحث.
وبذلك يكون المهدي (عليه السلام)، وهو في غيبته، قد أخذ زمام الإدارة لقواعده الشعبية ومواليه وتدبير أُمورهم، وإرشادهم فيما ينبغي أنْ يفعلوا أو أنْ يتركوا.
النقطة الثالثة: الاعتماد على التسالم على أمر من الأُمور الموجودة بين أفراد الشعب الموالي، أو الرأي العام الذي يوجد لديه تجاه أي مسألة أو مشكلة.
فكان الفرد منهم، يرجع ـ فيما يرجع إليه من قواعد شريعته ـ إلى ما تَسالَم عليه إخوانه في العقيدة تجاه الأمر الذي يُفكّر فيه، لو كان أمراً متسالَماً عليه، كما هو الحال في عدَد من الأُمور والأفكار.. التي لا يستطيع الفرد مخالفتها إلاّ بإعلان مخالفته مع الشريعة نفسها، والكشْف عن انحرافه وفساد عقيدته أو سلوكه.
وهذا التسالم، تستقيه القواعد الشعبية من خاصّتها وموجّهيها وعُلمائها على وجهِ العموم، ومِن السفراء على وجه الخصوص. وأمّا هؤلاء الخاصّة، فيتسالمون على الأمر نتيجةً للقواعد الإسلامية التي يعرفونها، أو باعتبار صدورِ نصٍّ فيها من قِبل الإمام المهدي (عليه السلام) على يدِ أحدِ سفرائه، أو باعتبار تجربةٍ حسّية عاشوها مع سُلوك الفرد الذي تسالموا على انحرافه.
وذلك كالتسالم على وثاقة السفيرَين الأَوّلَين،(٤٦٢) وعلى وثاقة السفير الثالث الحسن بن روح،(٤٦٣) بل على وثاقة السفراء الأربعة جميعهم، وكالتسالم على انحراف ولعن الشلمغاني ابن أبي العزاقر،(٤٦٤) والتسالم بأنّ كلّ مَن ادعى السفارة بعد السمَري فهو كافرٌ ضالٌّ مُضِل.(٤٦٥)
فكانت هذه الأُمور وأمثالها من الأُمور الواضحة، غير القابلة للمناقشة، يتلقّاها الخلَف عن السلَف، والجاهل عن العالم، والعامّة عن الخاصّة، وتُعتبر جزءاً من معالم الدين.
فهذه هي النقاط الرئيسيّة، لِما كانت تتوخّاه القواعد الشعبية المُوالية في علاقتهم مع إمامهم المهدي وسُفرائه.
* * *
القسم الثالث: الاتجاه العام للسُفراء
يتلخّص الاتجاه العام للسفراء الأربعة، في حياتهم الاجتماعية الإسلاميّة، في عدّة نقاط:
النقطة الأُولى: الاضطلاع بقيادة قواعدهم الشعبية الموالية للإمام المهدي (عليه السلام)، من الناحية الفكرية والسلوكية، طبقاً لأوامره (عليه السلام). أو بتعبيرٍ آخر: التوسّط في قيادة المهدي (عليه السلام) للمجتمع وتطبيق تعاليمه فيه، طِبقاً للمصالح التي يراها ويتوخّاها.
النقطة الثانية: الإخلاص في السفارة عن المهدي (عليه السلام)، وفي خدمة قواعدهم الشعبية المفتقرة إلى قيادتهم وسفارتهم كلّ الافتقار.. والتضحية في سبيل ذلك بالغالي والنفيس.
النقطة الثالثة: أنْ لا يكون عملهم مُلفتاً للنظر، وأنْ تكون حياتهم وتجارتهم طبيعيّة جدّاً، غير مثير لأيِّ تساؤل أمام الدولة وعملائها وقواعدها الشعبية.
وقد سمِعنا كيف أنّ عثمان بن سعيد العمري السفير الأوّل، كان يوصل الأموال إلى الإمام العسكري (عليه السلام) في جراب الدهن الذي كان يُتاجر به، ولم يتغيّر الخطّ الأساسي الذي كانت تسير عليه الدولة بعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) وبدء الغيبة الصغرى... فنعلم من ذلك، استمرار العمري على أمثال هذا الأُسلوب عند سفارته عن المهدي (عليه السلام) خلال هذه الفترة.
كما أنّنا سمِعنا أنّ الحسين بن روح، السفير الثالث، لم يكن له خدَم ولم يكن حوله جماعة، على حين كان لمُدّعي السفارة ـ زوراً ـ خدَم وجماعة.(٤٦٦)
على أنّ هذا المسلك لم يكن خاصّاً بالسفراء، بل شامِلاً لسائر الخاصّة ممّن كان ينتهج النهج الصحيح المتّفق عليه، فمِن ذلك أنّه كان عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي، مستمرّاً في تجارته، يجلس كلّ يوم ويخرج حسابه ودواته كما يكون التجّار،(٤٦٧) إلاّ أنّ ذلك لا يُنافي قيامه بالواجب، وإيفائه لحقِّ العقيدة الحقّة.. إذ يأمر بجرِّ الحسين بن منصور الحلاّج مِن رجليه وإخراجه من محلّ تجارته، باعتبار ادعائه السفارة كذباً وزوراً.(٤٦٨)
النقطة الرابعة: التزامهم بمسلك التقيّة: مهما أحوجهم الأمر إلى ذلك.. ويجعلونه طريقاً لتهدئة الخواطر عليهم وإبعاد النظر عنهم؛ لكي تنفسح لهم فرصةٌ أوسَع ومجال أكبر للعمل ممّا إذا كانوا مراقَبين ومطارَدين بشكلٍ مستمرٍّ أكيد.
فمِن ذلك: أنّ أبا القاسم الحسين بن روح (عليه الرحمة)، كان يحضر مجالس العامّة غير المُوالين للأئمّة (عليهم السلام)، فصادَف في بعض المجالس أنْ تَناظر اثنان، فادّعى أحدهما: أنّ أبا بكر أفضل الناس بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ثمّ عمر، ثمّ علي. وقال الآخر: بل عليّ أفضل مِن عمر، فزاد الكلام بينهما، فقال أبو القاسم (رضي الله عنه): الذي اجتمعت الصحابة عليه هو تقديم الصدّيق، ثمّ بعده الفاروق، ثمّ بعده عثمان ذو النورين، ثمّ الوصيّ. وأصحاب الحديث على ذلك، وهو الصحيح عندنا، فبقيَ مَن حضَر المجلس متعجّباً من هذا القول، وكان العامّة الحضور يرفعونه على رءوسهم وكثُر الدعاء له، والطعن على مَن يرميه بالرفض!!،(٤٦٩) هذا وهو قائد الرافضة وسفير إمامهم.
فقد ظهر أبو القاسم (رحمه الله) في قوله هذا أشدّ تطرّفاً من كلا المتناظرين، فإنّهما كانا متّفقين على تقديم أبي بكر بالأفضليّة على الجميع، كما كانا متّفقين على تأخير عثمان عن الجميع...واختلفا في أفضلية عمر وعليّ. أما أبو القاسم، فقد أظهر أنّ عليّاً هو الرابع في الأفضليّة والمتأخّر عن الجميع.. ولله في خلقه شئون.. إلى حوادث أُخرى من هذا القبيل، لعلّنا نستعرضها في الفصل الآتي.
وعلى أيّ حال، فمِن المُحرَز المتيقّن أنّ هذا الاتجاه الذي كان يسير عليه السفراء، قد استقوا خطوطه العامّة من المهدي (عليه السلام) بحسَب ما يرى من المصالح في ذلك الحين، والظروف التي كانت تعيشها قواعده الشعبية تجاه الدولة والآخرين، وكان كلّ سفير منهم يطبّقه بمقدار ظروفه وشكل تطوّر الحوادث في زمنه.
وأما بحسب ما هو المعلوم من درجة إيمانهم وإخلاصهم، تلك الدرجة التي أهلتهم لنيل السفارة الخاصة دون غيرهم من الخاصة، فهم كانوا على استعداد لأكبر التضحيات وأوضحها، لو اخذوا التعاليم بالقيام بشيء منها من المهدي (عليه السلام)، أو اقتضتها المصالح الإسلامية العليا، كيف وقد سمعنا شهادة أحد الخاصة العظماء في حق الحسين بن روح (رحمه الله): أنه لو كان الحجة تحت ذيله وقرض بالمقاريض ما كشف الذيل عنه.
ولكن كلما كان الموقف أشد وأدق، والنشاط المفتقر إليه في قيادة القواعد الشعبية الموسعة أكبر، والمصالح المتوخاة تطبيقها فيهم أعظم، كانت الحاجة إلى صَرف نظر الدولة ومَن يسير على خطها عن هذا النشاط وتلك المصالح.. أشد وأكثر. وقد استطاع السفراء ـ كما قد استطاع الأئمّة (عليه السلام) قبلهم ـ أن ينالوا بمسلك التقية أو السلبية من المصالح العامة، في قيادة قواعدهم الشعبية وهدايتها والمحافظة عليها أضعاف، ما كان في الإمكان أن ينالوا من الحركات الانتحارية العشوائية.. لو كان فيها شيء من الخير.
القسم الرابع: الاتجاه العام للدولة.
ونريد بالدولة.. الجهاز الحاكم.. خليفة ووزراء وقضاة وقواداً ومحسوبين.. يعطف على ذلك مَن يسير في ركاب الدولة عقيدة ومصلحة بنحو من الأنحاء.. من أفراد الشعب المسلم.. الذي يمثّل مع الدولة خطّاً واتجاهاً محفوظاً على ترتب الأجيال وتطاول السنين.
وهذا الخط التاريخي الطويل لا شك أنه كان موجوداً في هذه الفترة بأوضح صوره، شأنه في ذلك شأن الفترة السابقة. حيث أشرنا إلى أن ضعف الخلافة في السياسة العامة، لا يعني بحال تخفيف الوطأة على خط الأئمة (عليهم السلام)؛ لما قلناه من أن اتجاه الدولة العام ليس بيد الخليفة وحده، بل بيد مجموع الجهاز الحاكم.
إلاّ أن الشيء الذي يظهر من التاريخ الإسلامي العام، وتؤيّده بعض القرائن التاريخية، هو أن الخلافة في هذه الفترات بالذات، كانت متسامحة إلى حد ما، وغاضة للنظر عن الشعب المسلم الممثِّل لخط الأئمة (عليهم السلام).
فالمعتضد، وهو أقوى خلفاء هذه الفترة، وأكثرهم غلظة وسيطرة، وقد تولَّى الحكم في أوائل هذه الفترة، بعد تسع سنين من وفاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).. والجرح لما يندمل، والعواطف لمّا تهدأ، فكانت فترة خلافته من أعقد الفترات في الغيبة الصغرى.
ولكن المعتضد، مع ذلك، لم يكن ـ كما سمعنا في الفصل الأول من هذا القسم ـ شديداً تجاه العلويين، وبالتالي تجاه سائر الخط الذي يمثِّله الشعب الإمامي، فهو الذي رأيناه يعمم كتاباً على الناس في الطعن على بني أمية، حتى قال له بعض القضاة ما قال.. ويسمح بتقسيم المال الذي ورد من محمد بن زيد العلوي في بلاد طبرستان، ليوزع على آل أبي طالب سراً... فأنكر المعتضد ذلك، أمر الرجل بإظهار ذلك، وقرب آل أبي طالب.
وقد يدل هذا الاتجاه على أن المعتضد ومَن لحقه من الخلفاء في هذه الفترة، ومَن يحف بهم من القواد، كانوا يحاربون العدو المشترك بينهم وبين خط الأئمة (عليهم السلام).. وهو كل من القرامطة الذين سمعنا من عقائدهم عزمهم على قتل كل مَن يخالف رأيهم في الإمامة، أيّاً كان مذهبه. وهم ـ في حدود تلك الفترة ـ العامل الأشد وطأة على الدولة، وأقسى ضراوة على المجتمع. والخوارج، وهو أطول مدى وأعمق تاريخاً وأرسخ تأثيراً على المدى البعيد، وكانوا يكبّدون الدولة على جانب القرامطة الشيء الكثير.
إلاّ أن الدولة ـ بالطبع ـ لم تكن تشعر بحال، عند منازلتها لهؤلاء الأعداء، أنهم العدو المشترك بهذا المعنى، ولا يهمّنا أن يكونوا كذلك أو لا يكونوا، بل لعل الاتجاه العام للدولة ـ من هذه الناحية ـ مركّز حول كونها العدو المشترك للقرامطة والخوارج من ناحية، ولخط الأئمة (عليهم السلام) من ناحية أخرى، وأقصى ما تدرك الدولة من الفرق بينهما، هو أن القرامطة والخوارج حاقدون دائماً، ومستحلّون لقتل المسلمين على طول الخط. في حين أن لخط الأئمة رويّة وحكمة وتقية.. لا ينافيها قيام الثورات منهم بين آن وآخر في مختلف البقاع الإسلامية.
على أن الدولة تعرف بوضوح قرب خط الأئمة (عليهم السلام) إلى قلوب المسلمين، وإلى واقع التشريع الإسلامي، كما يبدو واضحاً من تصريح القاضي يوسف بن يعقوب السابق، وقد دلت عليه القرائن التاريخية الكثيرة كما سمعنا في غضون البحوث السابقة. على حين أن القرامطة والخوارج بعيدون عن الضمير الإسلامي وعن قناعة الجماهير المسلمة بفكرتهم وصواب رأيهم.
ولكن الدولة، على أي حال، تدرك بشكل أو بآخر، قيامها بعمل مشترك مع خط الأئمّة (عليهم السلام) أحياناً. وذلك: عند رفضها لعمالة جعفر بن علي، كما سبق أن سمعنا. وعند قتلها لأبن أبي العزاقر على يد الخليفة الراضي عام ٣٢٢.(٤٧٠) وعند قتلها للحسين بن منصور الحلاج على يد المقتدر عام ٣٠٩.(٤٧١) وكلا هذين الأخيرين قد ادعيا السفارة عن المهدي (عليه السلام) زوراً. وكان لأبن أبي العزاقر موقف عدائي كبير، على ما سنسمعه.
هذا هو الخط العام لاتجاه الدولة، كما ترسمه هذه القرائن التاريخية، ولكننا يجب أن لا نتناسى في هذا الصدد عدة أمور، لا بد أن تدخل في نظر الاعتبار؛ فقد يتغيّر الميزان حينئذٍ:
الأمر الأول: تصريح رواياتنا بأن الأمر كان حاداً جداً في زمان المعتضد، والسيف يقطر دماً ـ كما يقال ـ،(٤٧٢) وأن سنوات تلك الفترة على وجه العموم (مليئة بالظلم والجور وسفك الدماء) كما صرح به المستشرق رونلدسن.(٤٧٣)
الأمر الثاني: جو التكتّم المكهرب الذي كان يعيشه الشعب الإمامي بشكل عام، والخاصة منهم بشكل خاص، والسفراء الأربعة بنحو أخص.
إذا كانت السفارة سراً بين الخاص من أهل هذا الشأن، وكان ما يحمل إلى أبي جعفر ـ السفير الثاني ـ لا يقف من يحمله على خبره ولا حاله، وإنما يقال: امض إلى موضع كذا وكذا فسلم ما معك من غير أن يشعر بشيء، ولا يدفع إليه كتاب الوصول لئلا يتسرب إلى الدولة شيء من ذلك.(٤٧٤)
وقد سمعنا مقدار الخفاء والتكتم الذي كان يلتزمه السفير الأول عثمان بن سعيد، حين كان ينقل المال في جراب الدهن.. ومقدار التقية التي كان يسير عليها السفير الثالث ابن روح في حياته العامة.
وسيأتي التعرض لتفاصيل هذا المسلك فيما يلي من البحث، والذي نريد التوصل إليه الآن، هو أن هذا المسلك يدل لا محالة على سببه. فإن هؤلاء السفراء لو كانوا يشعرون بنسيم من الحرية، أو غض النظر من الدولة، في أي يوم من أيامهم، لم تصل الحال إلى هذا التكتم الشديد والإخفاء المضاعف العميق. فهذا المسلك نفسه، يدل بكل وضوح على ما كان يشعر به هؤلاء من الضغط والمطاردة والمراقبة، ومن العقاب الصارم والنتائج الوخيمة لو ظهر منهم أمر، أو حصلت الدولة تجاههم على مستمسك خطير.
الأمر الثالث: مظاهر الاضطهاد الواسع للقواعد الشعبية الإمامية ولعدد من كبرائهم أيضاً. يكفينا في ذلك العدد الضخم الذي ضبطه أبو الفرج في المقاتل(٤٧٥) ممّن قضت عليه الدولة من العلويين، وفيهم العظماء والفقهاء. ونحن وإن ذكرنا قلة وجود الثورات الداعية إلى الرضا من آل محمد خلال هذه الفترة، إلاّ أن المصروعين تحت يد الدولة، ممّا لا يمكن إحصاؤه.
الأمر الرابع: المطاردة الجادة للإمام المهدي (عليه السلام)، ومحاولة إلقاء القبض عليه مهما كلّفها الأمر. والدولة وإن اعتبرته في ظاهر قانونها الشخصي غير معترف بوجوده، إلاّ أنها تعرف بوضوح ـ متمثّلة بشخص الخليفة وبعض خاصته ـ كون المهدي (عليه السلام) هو الممثل الحقيقي للحق والعدل الإسلامي الذي يهز كيانها المنحرف من الصميم.
ومن ثم كانت الدولة تجرّد بين الحين والحين، حملة لكبس داره وتفتيشها، ولم تكن تفلح في أي منها بالوصول إلى غرضها المطلوب.
وقد ورد في تاريخنا الخاص ثلاث حملات للكبس، نذكرها في مستقبل البحث إن شاء الله تعالى، مضافاً إلى الانتباه المتواصل، والإصغاء الدائم إلى كل كلمة وكل عمل يشير إليه أو يدل عليه من قريب أو من بعيد.. فإذا كان رأي الدولة ومسلكها تجاه الإمام القائد هو ذلك، فكيف رأيها ومسلكها تجاه القواعد الشعبية! وكم ستشعر هذه القواعد بالضغط والمطاردة بمجرد أن تعرف ـ وهي دائماً ملتفتة عارفة ـ بمطاردة إمامها وغيبة قائدها خوفاً وتكتماً من السلطات.
فهذه الأمور تبرهن بكل وضوح، على الجو المكهرب الذي كان يعيشه الشعب الموالي للإمام (عليه السلام)، بالرغم من الهدوء والتسامح الظاهري الذي يعكسه التاريخ العام عن الدولة في تلك الفترة.
ومن المستطاع القول: إنّ الدولة إنّما لم نتكّل بهم وتذيقهم ظلمة السجن وحر السيف بوضوح.. لأنهم كانوا أبرع منها في تدبير أمورهم وإخفاء نشاطهم، إلى حد لن تستطع عيون الدولة أن تصل إلى شيء صادر منهم يعد خطراً على الدولة، أو يدل من قريب أو من بعيد، على وجود المهدي (عليه السلام).
والدولة إذ تعدم ذلك تكون، بطبيعة الحال، أهدأ بالاً، مما إذا عثرت على شيء من ذاك القبيل. ومن ثم استطاعت الدولة أن تحتفظ على هدوئها النسبي الظاهري خلال فترة الغيبة الصغرى، بفضل جهود السفراء وخواصهم بالإخفاء والتكتم، بحيث لا يظهر منهم ما يثيرها أو ينفرها.
* * *
وبعد هذه الجولة الموجزة في الاتجاهات العامة السائدة في المجتمع خلال هذه الفترة.. لا بد لنا من الدخول في تفاصيل تاريخ الغيبة الصغرى:
فنتكلم ـ أولاً ـ عن الوكلاء الأربعة في حياتهم الشخصية ووكالتهم وأسلوب نشاطهم، ونحو ذلك من الأمور.
ثم نتكلم عن ظاهرة الوكالة التي ادعاها عدة أشخاص في تلك الفترة، مع الإلماع إلى أساليبهم وطرق دفعهم ومحاربتهم من قبل المهدي (عليه السلام) من ناحية، ومن قبل الدولة من ناحية أخرى.
ثم نبدأ بالتكلم عن المهدي (عليه السلام) بشخصه، لنتعرف على حياته ونشاطه وتوجيهاته، خلال هذه الفترة.
وهذا ما نعتمده خلال الفصول الآتية.
الفصل الثالث: السفراء الأربعة حياتهم ونشاطهم
عرفنا أنّ السفراء الأربعة، الذين تولّوا الوكالة الخاصة عن الإمام المهدي (عليه السلام) خلال غيبته الصغرى، هم كل من: عثمان بن سعيد العمري، وابنه محمد بن عثمان العمري، والحسين بن روح النوبختي، وعلي بن محمد السمري. ووجودهم يشكّل في الواقع المزية الرئيسية لهذه الفترة، وبانتهائهم انتهى عهد الغيبة الصغرى.
وضبط السفراء بهذا الشكل من ضروريات المذهب لدى المعتقدين بغيبة الإمام المهدي (عليه السلام)، ومن واضحات تاريخهم الخاص، فلا حاجة إلى تجشم العناء في إثباته.
وإنما المهم هو التكلم ـ أولاً ـ في حياتهم الشخصية وترجمة كل واحد منهم، وسرد ما ورد في شأنهم من نصوص. ثم التكلم ـ ثانياً ـ عن أساليبهم في التبليغ وطرقهم في الاتصال بالناس. ومن ثَمَّ نقسم هذا الفصل إلى قسمين رئيسين:
القسم الأول: في تراجم السفراء الأربعة
إنّ التعرض إلى حياة السفراء الأربعة الخاصة والعامة، سيكون في حدود ما وصل إلينا من تاريخهم.
السفير الأول:
هو الشيخ الموثوق محمد بن عثمان بن سعيد العمري، أبو عمرو الأسدي. وإنما سمي العمري نسبة إلى جده. (وقد قال قوم من الشيعة: إن أبا محمد بن علي العسكري (عليه السلام) قال: (لا يجمع على امرئ بين عثمان وأبو عمرو)، وأمر بكسر كنيته فقيل: العمري(٤٧٦) (بفتح العين وسكون الميم). ويقال له العسكري أيضاً؛ لأنه كان من عسكر، وهي سامراء. ويقال له: السمَّان؛ لأنه كان يتَّجر بالسَّمْن تغطية على الأمر. وكان الشيعة إذا حملوا إلى أبي محمد (عليه السلام) ما يجب عليهم حمله من الأموال أنفذوا إلى أبي عمرو، فيجعله في جراب السمن وزقاقه، ويحمله إلى أبي محمد (عليه السلام) تقية وخوفاً).(٤٧٧)
له من الأولاد: محمد ـ وهو السفير الثاني ـ، وأحمد.(٤٧٨)
لم يرد في المصادر التاريخية تحديد عام ولادته، ولا عام وفاته، وإنما يرد اسمه أول ما يرد كوكيل خاص للإمام الهادي (عليه السلام).(٤٧٩) وكان يستوثقه ويمدحه بمثل قوله: (هذا أبو عمرو الثقة الأمين: ما قاله لكم فعني يقول، وما أداه إليكم فعني يؤديه).(٤٨٠)
وهذا النص بنفسه، يدل على سنخ النشاط الذي كان يقوم به أبو عمرو، وهو نقل المال والمقال من الإمام الهادي (عليه السلام) وإليه، فكان يمثّّل مع جماعة آخرين دور الوساطة بينه وبين قواعده الشعبية، في الفترة التي عرفنا أن الإمام (عليه السلام) بدأ بتطبيق مسلك الاحتجاب عن مواليه، تعويداً لهم على الغيبة التي سوف يواجهونها في حفيده المهدي (عليه السلام).
وحين يلقى الإمام الهادي (عليه السلام) ربه عام ٢٥٤، يصبح أبو عمرو وكيلاً خاصاً موثوقاً للإمام العسكري (عليه السلام)، ذا نشاط ملحوظ وبراعة في العمل. فقد سمعنا كيف كان يحمل المال في زقاق السمن، ويسير على المسلك الذي يخطه له الإمام في الإخفاء والتكتم، ويظهر أمام الناس كتاجر اعتيادي بالسمن، تغطية على حاله ومسلكه وعقيدته.
وكان الإمام العسكري (عليه السلام) يكثر من مدحه والثناء عليه في مناسبات مختلفة وإمام أناس كثيرين.
فمن ذلك أنه (عليه السلام) قال: (هذا أبو عمرو الثقة الأمين. ثقة الماضي وثقتي في المحيا والممات. فما قاله لكم فعني يقوله، ما أدى إليكم فعني يؤدي)،(٤٨١) وقال أمام وفد من اليمن: (امض يا عثمان، فإنك الوكيل والثقة المأمون على مال الله).(٤٨٢)
حتى اشتهر حاله وجلالة شأنه بين الشعب الموالي. قال أبو العباس الجميري: فكنا كثيراً ما نتذاكر هذا القول (يعني مدح الإمام العسكري له)، ونتواصف جلالة محل أبي عمرو).(٤٨٣) وقال وفد اليمن حين سمع من الإمام مدحه: يا سيدنا، إن عثمان لمن خيار شيعتك، ولقد زدتنا علماً بموضعه من خدمتك وإنه وكيلك وثقتك على مال الله تعالى.(٤٨٤) فلم تزل الشيعة مقيمة على عدالته(٤٨٥) وتتسالم على وثاقته وجلالة قدره.
وحين يولد للإمام العسكري (عليه السلام) ولده المهدي يبعث إلى أبي عمرو يأمره بأن يشتري عشرة آلاف رطل خبز وعشرة آلاف رطل لحم ويفرّقه على بني هاشم، وأن يعق بكذا وكذا شاة.(٤٨٦)
وينص الإمام العسكري (عليه السلام) في مجلس حافل بالخاصة، يعدون بأربعين رجلاً، عرض فيه ولده المهدي (عليه السلام) ونص فيه على إمامته وغيبته.. ينص على وكالة عثمان بن سعيد عن المهدي (عليه السلام) وسفارته له قائلاً: (فاقبلوا من عثمان ما يقوله، وانتهوا إلى أمره)، أو (اقبلوا قوله فهو خليفة إمامكم والأمر إليه).(٤٨٧)
وحين يلقى الإمام العسكري (عليه السلام) ربه عام ٢٦٠، يحضر أبو عمرو وعثمان بن سعيد تغسيله، ويتولى جميع أمره في تكفينه وتحنيطه وإقباره.(٤٨٨) وبرر الشيخ الطوسي ذلك بأنه كان "مأموراً بذلك للظاهر من الحال التي لا يمكن جحدها ولا دفعها إلاّ بدفع حقائق الأشياء في ظواهرها"(٤٨٩) يشير إلى اختفاء المهدي (عليه السلام)، وعدم تمكنه من القيام بتغسيل والده والقيام بأمره.
ولكننا ـ على أي حال ـ سبق أن سمعنا كيف أن الإمام المهدي (عليه السلام)، أقام الصلاة على أبيه بنفسه، ودفع عن ذلك عمه جعفر أمام جماعة من الناس، منهم عثمان بن سعيد السمَّان نفسه. ومن ثَمّ يمكن القول: بأنه يمكن للإمام المهدي (عليه السلام) أن يغسل أباه في داره سراً، قبل أن ينقل جثمانه أمام الجمهور. وظاهر عبارة الشيخ قيامه (عليه السلام) بالتغسيل بحضور أبي عمرو. ثم قيام أبي عمرو بنفسه بباقي شئونه من تكفين وتحنيط وإقبار. والله العالم بحقائق الأمور.
وعلى أي حال، فهو يصبح من ذلك الحين السفير الأول للمهدي (عليه السلام)، بنص الإمام العسكري (عليه السلام) كما سمعنا، ونص الإمام المهدي أمام وفد القميين، كما سبق في القسم الأول من هذا لكتاب... فيضطلع بالمهمة العظمى في ربط الإمام بقواعده الشعبية وتبليغ توجيهاته وتعاليمه وأنحاء تدبيره وإدارته إليه وتنفيذ أوامر الإمام وتوجيهاته فيهم.
ويبقى أبو عمرو مضطلعاً بمهام السفارة، قائماً بها خير قيام، إلى أن يوافيه الأجل. فيقوم ابنه أبو جعفر محمد بن عثمان بتغسيله وتجهيزه.(٤٩٠) ويدفن كما قال أبو نصر هبة الله محمد ـ في الجانب الغربي من بغداد، في شارع الميدان في أول الموضع المعروف بدرب جبلة في مسجد الدرب، يمنة الداخل إليه، والقبر في نفس قبلة المسجد.
قال الشيخ الطوسي: رأيت قبره في الموضع الذي ذكره، وكان بني في وجهة الحائط، به محراب المسجد، وإلى جنبه باب يدخل إلى موضع القبر في بيت ضيق مظلم، فكنا ندخل إليه ونزور مشاهرة.
قال: وكذلك من وقت دخولي إلى بغداد، وهي سنة ثمان وأربعمئة إلى سنة نيف وثلاثين وأربعمئة. ثم نقض ذلك الحائط الرئيس أبو منصور محمد بن الفرج، وأبرز القبر إلى برا ـ أي الى الخارج ـ وعمل عليه صندوقاً، وهو تحت سقف يدخل إليه مَن أراده ويزوره.
قال الشيخ: ويتبرّك جيران المحلة بزيارته، ويقولون:هو رجل صالح، وربما قالوا:هو ابن داية الحسين (عليه السلام). ولا يعرفون حقيقة الحال فيه. وهو إلى يومنا هذا ـ وذلك سنة سبع وأربعين وأربعمئة ـ على ما هو عليه.(٤٩١)
أقول: وقبره شهيد الآن مشيد معروف ببغداد، يزار ويتبرَّك به.
ونستطيع أن نعرف من جهالة الناس لحقيقة قبره في زمان الشيخ الطوسي "قده"، مقدار الغموض والكتمان الذي كان يحيط السفارة المهدوية، في حياة السفير وبعد مماته، بل بعد ما يزيد على مائتي سنة على دفنه.
ولم يفت أبو عمرو قبل وفاته أن يبلغ أصحابه وقواعده الشعبية، ما هو مأمور به من قبل المهدي (عليه السلام)، من إيكال السفارة بعده إلى ابنه محمد بن عثمان، وجعل الأمر كله مردوداً إليه.(٤٩٢)
ويكون لوفاته رنة أسى في قلوب عارفي فضله ومقدِّري منزلته، وخاصة الإمام المهدي (عليه السلام) نفسه، فنراه يكتب إلى ابنه السفير الثاني يعزيه بابيه قائلاً: (إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. تسليماً لأمره ورضاءً بقضائه. عاش أبوك سعيداً ومات حميداً، فرحمه الله وألحقه بأوليائه ومواليه (عليهم السلام). فلم يزل مجتهداً في أمرهم، ساعياً فيما يقربه إلى الله عز وجل وإليهم. نضّر الله وجهه وأقال عثرته).
وفي فصل آخر من كتابه إليه يقول (عليه السلام): (أجزل الله لك الثواب وأحسن لك العزاء، رزيت ورزينا، وأوحشك فراقه وأوحشنا فسرَّه الله في منقلبه. كان من كمال سعادته أن رزقه الله تعالى ولداً مثلك يخلفه من بعده، ويقوم مقامه بأمره، ويترَّحم عليه، وأقول: الحمد لله، فإن الأنفس طيبة بمكانك وما جعله الله تعالى فيك وعندك. أعانك الله وقوَّاك وعضدك ووفقّك، وكان لك ولياً وحافظاً وراعياً وكافياً).(٤٩٣)
وفي هذين النصين، من المعاني الإسلامية السامية، في أسلوب الترحم على المؤمن والدعاء له والثناء عليه، ما فيه بصيرة لمَن ألقى السمع وهو شهيد.
السفير الثاني:
هو الشيخ الجليل محمد بن عثمان بن سعيد العمري، تولّى السفارة بعد أبيه، بنص من الإمام العسكري (عليه السلام)، حيث قال (عليه السلام) لوفد اليمن الذي أشرنا إليه: (واشهدوا عليَّ أن عثمان بن سعيد وكيلي، وأن ابنه محمد وكيل ابني مهديكم).(٤٩٤) وبنص أبيه على سفارته بأمر من المهدي (عليه السلام).(٤٩٥)
وكانت قواعده الشعبية مجتمعة على عدالته وثقته وأمانته، لا يختلف في ذلك اثنان من الإمامية، وكيف لا وفيه وفي أبيه، قال الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) لبعض أصحابه: (العمري وابنه ثقتان: فما أدّيا فعني يؤدّيان، وما قالا لك فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان).(٤٩٦)
وكلمات الإمام المهدي (عليه السلام) فيه متظافرة ومتواترة، فقد سمعناه يعزّيه بوفاة أبيه ويثني عليه الثناء العاطر، ويشجّعه وهو في أول أيام اضطلاعه بمهمته الكبرى. وقال في حقه: (لم يزل ثقتنا في حياة الأب ـ رضي الله عنه وأرضاه وأنضر وجهه ـ يجري عندنا مجراه ويسدُّ مسدَّه، وعن أمرنا يأمر الابن وبه يعمل)(٤٩٧)... وغير ذلك من عظيم الإجلال والإكبار.(٤٩٨)
والتوقيعات كانت تخرج على يده من الإمام المهدي (عليه السلام) في المهمات طول حياته، بالخط الذي كانت تخرج في حياة أبيه عثمان. لا يعرف الشيعة في هذا الأمر غيره، ولا يُرجع إلى أحد سواه. وقد نقلت عنه دلائل كثيرة، ومعجزات الإمام ظهرت على يده. وأمور أخبرهم بها عنه زادتهم في هذا الأمر بصيرة.(٤٩٩)
وبقي مضطلعاً بمسئولية السفارة نحواً من خمسين سنة.(٥٠٠) حتى لقي ربه العظيم في جمادى الأولى سنة خمس وثلاثمئة،(٥٠١) أو أربع وثلاثمئة.(٥٠٢)
ومعنى ذلك أنه توفّي بعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) بخمس وأربعين سنة، وحيث أن والده (رضي الله عنه) قد اضطلع بالسفارة عدة أعوام، فالأولى أن يقال: إن سفارته امتدت حوالي الأربعين عاماً، لا نحواً من الخمسين، كما قال الشيخ في الغيبة.
وإذ يكون تاريخ وفاة أبيه مجهولاً مع الأسف، يكون مبدأ توليه للسفارة مجهولاً أيضاً. غير أنّا نعرف أنه كان سفيراً قبل عام ٢٦٧؛ لأن ابن هلال الكرخي طُعن في سفارته، وكان أحد المنحرفين عن خطه على ما سنسمع في الفصل الآتي، وكانت وفاة ابن هلال عام ٢٦٧،(٥٠٣) أي بعد وفاة الإمام العسكري بسبع سنين، وبذلك يمكن القول على وجه التقريب: إن الشيخ عثمان بن سعيد تولّى السفارة خمس سنوات وتولاّها ابنه أربعين سنة.
وبهذا التحديد لمدة سفارته، نستطيع أن نعرف أنه (رضي الله عنه) أطول السفراء بقاء في السفارة، ومن ثم يكون أكثرهم توفيقاً في تلقّي التعاليم من الإمام المهدي (عليه السلام)، وأوسعهم تأثيراً في الوسط الذي عاش فيه، والذي كان مأموراً بقيادته وتدبير شئونه.
وكان لأبي جعفر العمري كتب مصنّفة في الفقه، مما سمعه من أبي الحسن العسكري (عليه السلام)، ومن الصاحب "المهدي" (عليه السلام)، ومن أبيه عثمان بن سعيد عن أبي محمد وعن أبيه علي بن محمد "الإمام الهادي" (عليهما السلام). فيها كتب ترجمتها: كتب الأشربة.
ذكرت الكبيرة أم كلثوم بنت أبي جعفر أنها وصلت إلى أبي القاسم الحسين بن روح (رضي الله عنه) عند الوصية إليه، وكانت في يده. قال أبو نصر وأظنها قالت: وصلت بعد ذلك إلى أبي الحسن السمري (رضي الله عنه وأرضاه).(٥٠٤)
كان يعلم ـ بإرشاد من الإمام المهدي (عليه السلام) ـ بزمان موته، إذ حفر لنفسه قبراً وسواه بالساج. يقول الراوي: فسألته عن ذلك، فقال: للناس أسباب. وسألته عن ذلك، فقال: قد أُمرت أن أجمع أمري فمات بعد ذلك بشهرين.
وكان قد أعد لنفسه ساجة نَقش النقَّاش آيات من القرآن الكريم وأسماء الأئمة (عليهم السلام) على حواشيها. قال الراوي: فقلت له: يا سيدي ما ما هذه الساجة؟ فقال لي: هذه لقبري تكون فيه، أوضع عليها. أو قال: أسند عليها. وقد عرفت عنه. وأنا في كل يوم أنزل فيه فاقرأ جزءاً من القرآن فيه وأصعد. وأظنه قال: فأخذ بيده وأرانيه. فإذا كان يوم كذا وكذا من شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا، صرت إلى الله عزَّ وجلَّ، ودفنت فيه وهذه الساجة معي.
فقال الراوي: فلما خرجت من عنده اثبتُّ من ذكره، ولم أزل مترقِّباً به ذلك، فما تأخر الأمر، حتى اعتل، فمات في اليوم الذي ذكره من الشهر الذي قاله من السنة التي ذكرها(٥٠٥) ولم يفت أبو جعفر العمري (رضي الله عنه)، أن يوصي إلى خلفه السفير الثالث: الحسين بن روح، بأمر من الحجة المهدي (عليه السلام)، وسنعرف تفاصيل ذلك فيما يلي.
وعندما توفِّي أبو جعفر العمري دُفن عند والدته في شارع باب الكوفة في الموضع الذي كانت دوره ومنازله فيه. قال الراوي: وهو الآن في وسط الصحراء. أقول: وقبره الآن مشيَّد معروف "بالخلاني" يزار للذكرى والتبرك (قدَّس الله روحه).
السفير الثالث:
هو الشيخ الجليل أبو القاسم الحسين بن روح ابن أبي بحر النوبختي من بني نوبخت. وهو كغيره من السفراء وغيرهم لم تذكر عام ولادته، ولا تاريخ مبدأ حياته. وإنما يلمع نجمه أول لمعانه كوكيل مفضَّل لأبي جعفر محمد بن عثمان العمري، ينظر في أملاكه، ويلقي بأسراره لرؤساء الشيعة، وكان خصيصاً به، حتى إنه كان يحدِّثه بما يجري بينه وبين جواريه لقربه منه وأنسه. فحصل في أنفس الشيعة محصلاً جليلاً؛ لمعرفتهم باختصاصه بأبي جعفر وتوثيقه عندهم، ونشر فضله ودينه، وما كان يحتمله من هذا الأمر (يعني الدعوة الإمامية المهدوية). فمُهِّدت له الحال في طول حياة أبي جعفر، إلى أن انتهت الوصية إليه بالنص عليه، فلم يُختلف في أمره ولم يُشك فيه أحد.(٥٠٦)
وقد قدِم بعض الموالين بمال على أبي جعفر العمري مقداره أربعمئة دينار للإمام (عليه السلام)، فأمره بإعطائها إلى الحسين بن روح. وحين تردد هذا الشخص في ذلك؛ باعتبار عدم وصول السفارة إليه يومئذٍ، فأكد له أبو جعفر عليه ذلك وأمره مكرَّراً بإعطاء المال لأبن روح، وذكر له أن ذلك بأمر الإمام المهدي (عليه السلام).(٥٠٧)
وكان تحويله على أبي القاسم ابن روح قبل موته بسنتين أو ثلاث،(٥٠٨) حتى ما إذا اشتدّت بأبي جعفر العمري حاله، اجتمع لديه جماعة من وجوه الشيعة، منهم: أبو علي بن همام، وأبو عبد الله بن محمد الكاتب، وأبو عبد الله الياقطاني، وأبو سهل إسماعيل بن علي النوبختي، وأبو عبد الله بن الوجناء، وغيرهم من الوجوه والأكابر. فقال لهم: هذا أبو القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختي، القائم مقامي، والسفير بينكم وبين صاحب الأمر (عليه السلام)، والوكيل والثقة والأمين، فارجعوا إليه في أموركم، وعوِّلوا عليه في مهماتكم، فبذلك أُمرتُ، وقد بلَّغتُ.(٥٠٩)
ويروى عن أبي جعفر بن أحمد بن متيل ـ وهو من متقدِّمي أصحابه وأجلاَّئهم ـ أنه قال: لمَّا حضرت أبا جعفر محمد بن عثمان العمري الوفاة، كنت جالساً عند رأسه أسأله وأحدِّثه، وأبو القاسم ابن روح عند رجليه. فالتفتَ إليَّ ثم قال: أُمرت أن أوصي إلى أبي القاسم الحسين بن روح. قال ابن متيل: فقمتُ من عند رأسه وأخذت بيد أبي القاسم وأجلسته في مكاني، وتحوّلتُ إلى عند رجليه.(٥١٠) إلى غير ذلك من تأكيدات أبي جعفر عليه، وإعلان وكالته. والسبب المهم في هذا التأكيد، هو كون الحسين بن روح لم يكن قد عاش تاريخاً زاهراً حافلاً بإطراء وتوثيق الأئمة (عليهم السلام)، كالتاريخ الذي عاشه السفيران السابقان، حتى قبل توليهما للسفارة. ومن ثم احتاج أبو جعفر العمري، من أجل ترسيخ فكرة نقل السفارة إلى الحسين بن روح، وتوثيقه في نظر قواعده الشعبية الموالية لخط الأئمة (عليهم السلام)، أن يكرِّر الإعراب عن مهمته في إيكال الأمر إليه، وأن يأمر بدفع أموال الإمام (ع) إليه قبل وفاته بعامين أو أعوام... بأمر من الإمام المهدي (عليه السلام).
على أن أبا القاسم ابن روح، على جلالة قدره وقربه من السفير الثاني واختصاصه به، لم يكن خير أصحابه، ولم يكن الأخص تماماً به، فقد كان لأبي جعفر مَن يتصرّف له ببغداد نحو من عشرة أنفس، وأبو القاسم ابن روح (رضي الله عنه) فيهم. وكلهم كانوا أخص به من ابن روح، حتى إنه كان إذا احتاج إلى حاجة أو إلى سبب فإنه ينجزه على يد غيره، لِمَا لم تكن له تلك الخصوصية. فلمَّا كان وقت مضى أبو جعفر (رضي الله عنه) وقع الاختيار عليه، وكانت الوصية إليه.(٥١١)
فكان في إيكال السفارة إليه، مصلحتان مزدوجتان:
المصلحة الأولى: وصول هذا المنصب إلى الشخص المخلص إخلاصاً بحيث لو كان المهدي تحت ذيله وقرّض بالمقاريض، لَمَا كشف الذيل عنه.. كما سمعنا في حقه. وقد سبق أن قلنا: إن مهمة السفارة إنما تستدعي هذه الدرجة من الإخلاص لأهميتها وخطر شأنها، ولا تستدعي العمق الكبير في الثقافة الإسلامية، أو سبق التاريخ مع الأئمة (عليهم السلام)، فإنها إنما تعني بشكل مباشر نقل الرسائل من المهدي (عليه السلام) وإليه، وتطبيق تعاليمه.. وهذا يكفي فيه ما كان عليه أبو القاسم ابن روح، من الإخلاص والثقافة الإسلامية.
المصلحة الثانية: غلق الشبهة التي تصدر من المرجفين، من أنه إنما أوكل الأمر إلى ابن روح، باعتبار كونه أخص أصحاب أبي جعفر العمري، وألصقهم به... فإنه لم يكن بأخصهم ولا بألصقهم. وإن كان من بعض أخصائه في الجملة. بل كانت الأذهان بعيدة عنه، وكان احتمال الإيكال إليه ضعيفاً عند الواعين والمستبصرين بشئون المجتمع من أصحابه، حتى احتاج أبو جعفر لأجل ترسيخ فكرة الإيكال إليه وإيضاحها، إلى تكرار الإعلان عن ذلك، وتقديمه على ساعة موته بسنوات.وإنما كانت الظنون تحوم حول اشخاص آخرين، أرسخ من أبي القاسم ثقافة وتاريخاً كجعفر بن أحمد بن متيل، وأبيه، باعتبار خصوصيته وكثرة كينونته في منزله، حتى بلغ أنه كان في آخر عمره لا يأكل طعاماً إلاَّ ما طُبخ في منزل جعفر بن أحمد بن متيل وأبيه.
وبالرغم من ذلك فقد أوكلت السفارة إلى الحسين بن روح. فسلَّم به الأصحاب، وكانوا معه وبين يديه، كما كانوا مع أبي جعفر (رضي الله عنه).(٥١٢) ولم يزل جعفر بن أحمد بن متيل من جملة أصحاب أبي القاسم ابن روح وبين يديه، كتصرّفه بين يدي أبي جعفر العمري، إلى أن مات (رضي الله عنه)، فكان من طعن على أبي القاسم فقد طعن على أبي جعفر، وطعن على الحجة (صلوات الله عليه).(٥١٣)
وعلى أي حال، فقد تولّى الحسين بن روح السفارة فعلاً، عن الإمام المهدي (عليه السلام).. بموت أبي جعفر العمري عام ٣٠٥ كما عرفنا، إلى أن لحق بالرفيق الأعلى في شعبان عام ست وعشرين وثلاثمئة. فتكون مدة سفارته حوالي الواحد والعشرين سنة.
فإن استطعنا أن نضيف العامين أو الثلاث، التي أمر فيها أبو جعفر العمري قبل موته بتسليم الأموال إليه، ونص عليه بالوكالة، وتصورنا أن السفارة حينئذٍ كانت مسندة إلى شخصين دفعة واحدة.. فتكون مدة سفارته ثلاثة وعشرون عاماً، أو أكثر.
وكان أول كتاب تلقّاه من الإمام المهدي (عليه السلام)، كتاب يشتمل على الثناء عليه، ومشاركة الحملة التي بدأها أبو جعفر العمري في تعريف الحسين بن روح للرأي العام والأصحاب، ممّن مشى على خط الأئمة (عليهم السلام)، وقد مثل هذا الكتاب آخر وأهم خطوة في هذا الطريق، لكي يبدأ هذا السفير بعدها مهمته بسهولة ويسر.
وقد دعا له المهدي (ع) في الكتاب، وقال: (عرّفه الله الخير كله ورضوانه، وأسعده بالتوفيق. وقفنا على كتابه، وثقتنا بما هو عليه. وأنه عندنا بالمنزلة والمحل اللذين يسرَّانه. زاد الله في إحسانه إليه.. إنه ولي قدير. والحمد لله لا شريك له، وصلَّى الله على رسوله محمد وآله وسلّم تسليماً كثيراً).
وقد وردت هذه الرقعة يوم الأحد لست خلون من شوال سنة ٣٠٥. بعد حوالي الخمسة أشهر من وفاة أبي جعفر العمري، الذي توفِّي في جمادى الأولى من نفس العام.
وقد اضطلع أبو القاسم منذ ذلك الحين بمهام السفارة، وقام بها خير قيام. وكان من مسلكه الالتزام بالتقية المضاعفة، بنحو ملفت للنظر، بإظهار الاعتقاد بمذهب أهل السنة من المسلمين. يحفظ بذلك مصالح كبيرة، ويجلب بها قلوب الكثيرين، على ما يأتي التعرّض له فيما يلي من البحث. حتى إننا نسمع أنه يدخل عليه عشرة أشخاص تسعة يلعنونه وواحد يشكّك، فيخرجون منه تسعة منهم يتقربون إلى الله بمحبته وواحد واقف.
يقول الراوي: لأنه كان يجارينا من فضل الصحابة ما رويناه وما لم نروه، فنكتبه نحن عنه (رضي الله عنه)،(٥١٤) وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على لباقته وسعة اطلاعه وتوجيهه على هذا المسلك من قبل الإمام المهدي (عليه السلام). وقد تولّى (رضي الله عنه) أيام سفارته الحملة الرئيسية ضد ظاهرة الانحراف عن الخط وادعاء السفارة زوراً، بتبليغ القواعد الشعبية توجيهات المهدي (عليه السلام) في ذلك وشجبه لظاهرة الانحراف.. كما سيأتي التعرّض له في الفصل الآتي.
وبقي مضطلعاً بمهامه العظمى حتى لحق بالرفيق الأعلى عام ٣٢٦ كما عرفنا، ودفن في النوبختية في الدار التي كانت فيه دار علي بن أحمد النوبختي النافذ إلى التل، أو إلى درب الآخر، وإلى قنطرة الشوك (رضي الله عنه).(٥١٥)
أقول: كذا قال التاريخ. وقبره اليوم في بغداد معروف... مقصد ومزار.
السفير الرابع:
هو الشيخ الجليل أبو الحسن علي بن محمد السمري أو السيمري أو الصيمري. والمشهور جداً هو الأول مضبوطاً بفتح السين والميم معاً. والآخرين مضبوطين بفتح أولهما وسكون الياء وفتح الميم وربما قيل بالضم أيضاً.
لم يذكر عام ميلاده، ولا تاريخ فجر حياته، وإنما ذكر ـ أولاً ـ كواحد من أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام)،(٥١٦) ثم ذكر قائماً بمهام السفارة المهدوية ببغداد، بعد الشيخ ابن روح، بإيعاز منه عن الإمام المهدي (عليه السلام).(٥١٧)
ولم يرد في هذا الإيعاز خبر معين، وإنما يعرف بالتسالم والاتفاق الذي وجد على سفارة السمري بين الموالين، الناشيء لا محالة من تبليغ ابن روح عن الإمام المهدي (ع). وقد سبق أن قلنا إن مثل هذا التسالم والاتفاق، كانت القواعد الشعبية الموالية للإمام (ع) تعتمده وتتبعه، فيتبع في ذلك الجاهل العالم، والبادي والحاضر. ووجود هذا التسالم مأخوذ في التاريخ جيلاً بعد جيل عن جيل الغيبة الصغرى، مما يعلم بوجوده ويحرز تحقّقه بالقطع واليقين.
تولّى السفارة من حين وفاة أبو القاسم بن روح عام ٣٢٦، إلى أن لحق بالرفيق الأعلى عام ٣٢٩ في النصف من شعبان،(٥١٨) فتكون مدة سفارته عن الإمام المهدي (عليه السلام) ثلاثة أعوام كاملة، غير أيام.
ولم ينفتح للسمري خلال هذا الزمان القصير، بالنسبة إلى أسلافه، القيام بفعاليات موسّعة، كالتي قاموا بها، ولم يستطع أن يكتسب ذلك العمق والرسوخ في القواعد الشعبية كالذي اكتسبوه. وإن كان الاعتقاد بجلالته ووثاقته كالاعتقاد بهم. فما ذكره بعض المستشرقين، من أنه ـ أي السمري ـ ربما أدركته الخيبة، فشعر بتفاهة منصبه وعدم حقيقته كوكيل معتمد للإمام المفترض.(٥١٩) ناشئ من عقيدة ذلك المستشرق في إنكار الإسلام وإنكار وجود المهدي (عليه السلام). وإلاّ فأيُّ تفاهة في مثل هذا المنصب الخطير الذي عرفنا خطوطه وأهميته، وهو يمثل القيادة العامة للملايين، بالنيابة عن إمامهم، في ظروف معاكسة خطرة، ودولة مراقبة ومطاردة لهذا الخط وللسائرين عليه؟!
كما أن الشعور بعدم حقيقة الوكالة، أمر لا معنى له على الإطلاق بالنسبة إلى موقفه المباشر من الإمام المهدي، وتلقّي التعليمات والتوقيعات منه، واستيثاق قواعده الشعبية وعلماء الطائفة ـ يومئذٍ ـ به وركونهم إليه، وإنما كلام هذا المستشرق ناشيء من عقائده الخاصة.. ولله في خلقه شئون.
نعم، لا يبعد أن يكون لِمَا ذكره ذلك المستشرق من كون تلك السنوات (مليئة بالظلم والجور وسفك الدماء)،(٥٢٠) دخل كبير في كفكفة نشاط هذا السفير وقلة فعاليّاته. فإن النشاط الاجتماعي يقترن وجوده دائماً بالجو المناسب والفرصة المواتية، فمع صعوبة الزمان وكثرة الحوادث وتشتت الأذهان، لا يبقى هناك مجال لمثل عمله المبني على الحذر والكتمان.
وهذا بنفسه، من الأسباب الرئيسية لانقطاع الوكالة بوفاة السمري وعزم الإمام المهدي (عليه السلام) على الانقطاع عن الناس، كما انقطع الناس عنه، وفرّقتهم الحوادث عن متابعة وكلائه.. إلى أسباب أخرى نشير إليها في فصلٍ آتٍ من هذا التاريخ.
ولذا نجد السمري (رضي الله عنه) يُخرج إلى الناس قبل وفاته بأيام، توقيعاً من الإمام المهدي (عليه السلام)، يعلم فيه انتهاء الغيبة الصغرى وعهد السفارة بموت السمري، ويمنعه أن يوصي بعد موته إلى أحد ليكون سفيراً بعده.
ويقول (عليه السلام) فيه:
(بسم الله الرحمن الرحيم
يا علي محمد بن السمري! أعظم الله أجر إخوانك فيك. فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام، فاجمع أمرك ولا توصِ إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك. فقد وقعت الغيبة التامة. فلا ظهور إلاَّ بإذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي لشيعتي مَن يدّعي المشاهدة، إلاَّ فمَن أدعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذبٌ مفترٍ. ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم).
فكان هذا خطاب خرج من الإمام المهدي (عليه السلام) عن طريق السفارة الخاصة.. آخر ارتباط مباشر بينه وبين الناس في الغيبة الصغرى.
قال الراوي: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده. فلمّا كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: مَن وصيّك من بعدك. فقال: (لله أمر هو بالغه) وقضى، فهذا آخر كلام سمع منه (رضي الله عنه وأرضاه).(٥٢١)
وأودع الأرض في قبره الذي هو في الشارع المعروف بشارع الخلنجي من ربع المحول، قريب من شاطيء نهر أبي عقاب.(٥٢٢)
أقول: وله الآن في بغداد مزار معروف.
تلخيص وتطبيق:
ظهر مما سبق أن فترة الغيبة الصغرى دامت على التحديد تسعاً وستين عاماً وستة أشهر وخمسة وعشرين يوماً:
شغل منها السفير الأول: عثمان بن سعيد، حوالي الخمس سنوات، أي أنه لم يتعد فترة خلافة المعتمد، فكما عاصر هذا الخليفة وفاة الإمام العسكري (ع) عاصر أيضاً وفاة السفير الأول (رضي الله عنه).
وشغل السفير الثاني: محمد بن عثمان حوالي الأربعين عاماً منها، عاصر فيها خلافة المعتمد، ثم خلافة المعتضد، ثم خلافة المكتفي، ثم عشر سنوات من خلافة المقتدر، حين توفِّي عام ٣٠٥ من الهجرة.
وشغل السفير الثالث: الحسين بن روح، بعد وفاة سلفه، أحد وعشرين عاماً، عاصر فيها بقية خلافة المقتدر، وقسماً من خلافة الراضي حيث خلفه السفير الرابع علي بن محمد السمري، حيث بقي في السفارة ثلاث سنين، وتوفّي عام وفاة الراضي نفسه، وإن عاصر خلفه المتقي مدة خمسة أشهر وخمسة أيام.
فما ينقل عن بعضهم من أن مدة الغيبة الصغرى أربعاً وسبعين سنة،(٥٢٣) مبني على التسامح في الحساب. أو على ادعاء أن الغيبة الصغرى تبدأ من حين ميلاد الإمام المهدي نفسه عام ٢٥٥. أي قبل خمس سنوات من عام وفاة الإمام العسكري (ع). فإذا أضفناها إلى التسع وستين سنة، كان المجموع ٧٤ عاماً.
إلاَّ أن هذه الدعوى، مبنية على التسامح في الاعتبار أيضاً، فإن الإمام المهدي (ع) وإن كان غائباً في حياة أبيه (عليه السلام)، كما سبق أن عرفنا، إلاَّ أن هذه الغيبة لا تعد من الغيبة الصغرى البتة؛ لأن المهدي كان طول مدتها معاصراً لأبيه (عليه السلام)، والإمام في زمان أبيه غير متحمل للمسئولية، ولا تربع على منصب الإمامة، وإنما يتولاَّها ـ على أي حال ـ بعد أبيه لا محالة. إذن، فالإمام المهدي (عليه السلام) إنما تولّى الإمامة بعد وفاة أبيه (عليه السلام).
ونحن إنما نتحدّث عن غيبته عن قواعده الشعبية بصفته إماماً مفترض الطاعة عليهم، حيث يكون من المفروض ـ لولا الغيبة ـ أن يكون مرتبطاً بهم وقائداً لهم وموجّهاً لمجتمعهم، وهذا مما لم يتحمّل المهدي (ع) مسئوليته في حياة أبيه. إذن، فيتعيّن القول: بأن الغيبة الصغرى للإمام المهدي (ع) هي غيبته بصفته إماماً، مع اقترانها بفكرة السفارة، ومعه تكون مدتها ما قلناه لا ما ادعوه.
القسم الثاني: في نشاط السفراء
بعد هذه الجولة في تراجم السفراء الأربعة، ينبغي لنا أن نحيط علماً بأوجه النشاط والفعاليات التي كان يقوم بها السفراء وأساليبهم في ذلك، والنتائج المتوخاة منها.. ونحو ذلك من التفاصيل.
ونحن خلال هذا البحث، لا نحاول استقصاء كل ما ورد في تاريخهم من أخبار، وإنما حسبنا أن نعطي لكل عنوان من الأمثلة ما يجليه، دون إسهاب وتطويل.
ونحن إذ نتحدّث عن نشاط السفراء، نتحدّث عنهم بنحو عام، لأنهم يكادون أن يكونوا متماثلين في الأسلوب، متشابهين في الأهداف، باعتبار صدورهم من مصدر واحد، هي: توجيهات الإمام المهدي (عليه السلام)، بحسب ما يرى من المصالح، ما عدا ما قد يقوم به بعض السفراء من عمل إضافي وأسلوب زائد، سنراه في مستقبل البحث.
ونتكلم في هذا القسم عن حقلين رئيسين:
أولهما: في الخصائص العامة والمضمون الاجتماعي للسفارة.
وثانيهما: في تفاصيل أعمال السفراء.
الحقل الأول: في الخصائص العامة والمضمون الاجتماعي للسفارة.
ويقع الحديث حول ذلك ضمن عدة أمور:
الأمر الأول: إن ما أشرنا إليه قبل قليل من كون السفراء على العموم متماثلين في الأسلوب والأهداف، لم يؤثّر على بحثنا فحسب، بل أثّر فعلاً على النقل التاريخي لأعمالهم وللتوقيعات التي تخرج على يدهم. ففي عدد مهم من الموارد يُهمل اسم السفير إهمالاً، وإنما يقال ـ مثلاً ـ: كتبتُ إلى الناحية، وجاء الجواب. ولا يكون هناك أي تعرّض للسفير المتوسّط في الأمر.
والسر في ذلك غير خفي، فإن المدبّر الحقيقي للأمور ومَن يتكفّل حل المشكلات، هو الإمام المهدي (ع) نفسه، من دون دخّل لشخص السفير في ذلك، سوى كونه ناقلاً للسؤال ووارداً بالجواب. فليس المهم في نظر السائل حين يروي سؤاله أن يذكر الواسطة فيه، وإنما المهم أن يذكر حل المشكلة الذي صدر عن الإمام المهدي فحسب. مضافاً إلى ما في إهمال ذكر السفير، من الأخذ بالحيطة والحذر له، لاحتمال تسرّب اسمه إلى السلطات. وإنما يذكر اسم السفير في المحافل الخاصة عند ارتفاع الخطر واطمئنان النفوس.
ومن هنا نكون نحن ـ أمام هذا النقل التاريخي ـ في إجمال من ناحية نسبته إلى أي سفير من السفراء، بل يُعتبر هذا النقل نقلاً عن الإمام (ع) نفسه بواسطة أحد سفرائه في الجملة. وإن كان لا يبعد وجود الظن والترجيح في نسبة جل هذه التوقيعات إلى السفيرين الثاني والثالث؛ لاستغراق سفارتهما أكثر فترة الغيبة الصغرى، وانفتاح فرص العمل في عهدهما أكثر نسبياً من الآخرين. وإن كان هذا الترجيح لا يصل ـ بطبيعة الحال ـ إلى حد الإثبات التاريخي.
نعم، وجد في عدد آخر مهم من النقول التاريخية تسمية السفير بشخصه: إما تبرّعاً من الراوي، أو لخصوصية في الحادثة تقتضي الإشارة إليه، ففي مثل ذلك تكون نسبته إلى السفير المعين إثباتاً تاريخياً كافياً.
الأمر الثاني: إن السفارة صُرفت عن العلويين صرفاً تام، وأُنيطت بغيرهم، مع أن في العلويين يومئذٍ مَن يعلو شأنه في العلم والفقه والعبادة.
والسر في ذلك واضح جداً، يبرزه التاريخ الذي عاشه العلويين من حين ثورة الحسين (ع) إلى العصر الذي نؤرّخ له، وهو تأريخ الثورات والتمرّدات على الواقع الفاسد، والاحتجاج على الظلم والطغيان، فكانت الصورة الرئيسية التي تحملها الدولة على كل علوي، هو كونه موالياً للأئمة (عليهم السلام) من ناحية، وثائراً على الظلم والفساد من ناحية أخرى. أو بتعبيرٍ آخر: أنه ثائر على كيانها القائم بشكل لا تستره بقية ولا يجدي في تغييره حذر.
وإذا كانت النظرة تجاه الفرد هي تلك، فاخلق به أن يكون عاجزاً عن النفع العام والعمل الاجتماعي، لدى المراقبة والمطاردة والتنكيل الذي يحيط به.. ومن ثَّمَ يكون عاجزاً عن مهام السفارة المهدوية التي لم تؤسِّس إلاَّ للنفع العام والعمل الاجتماعي.
وهذا بخلاف الحال في غير العلويين، ممَّن لا تكون هذه النظرة تجاههم متحقّقة، فإنهم مهما كانوا خاصين بالأئمة (عليهم السلام) ومقرّبين منهم، إلاَّ أنه في مستطاعهم على طول المدة أن يغطّوا اختصاصهم هذا بالحذر والكتمان، في القول والعمل، ويكون العمل ـ في حدود ذلك ـ ممكناً لهم على أي حال. ومن هنا يكون الفرد منهم، إذا كان على المستوى الرفيع من الإخلاص وقوة الإرادة، أكثر تسلّطاً على القيام بمهام السفارة وأفسح مجالاً لها من أي شخص علوي.
الأمر الثالث: إن جميع السفراء الأربعة مارسوا أعمالهم في بغداد، ولم يرد قيامهم بأي عمل اجتماعي في خارجها؛ يدل على ذلك عدة أمور:
أحدها: ما قاله الإمام المهدي (عليه السلام) لوفد القميين في اليوم الأول من وفاة أبيه (ع) كما سبق أن سمعنا، من أنه ينصب لهم ببغداد رجلاً تُحمل إليه الأموال وتخرج من عنده التوقيعات.
ثانيهما: ما سمعناه ـ أيضاً ـ من أنه كان لأبي جعفر العمري (رضي الله عنه) مَن يتعرّف له في بغداد عشرة أنفس، كلهم أخص به من ابن روح. مما يدل على أن محل تجارته ومحل عمله منحصر في هذه المدينة. كما أنه يدل على أن العمل التجاري لابن روح كان في بغداد أيضاً، فأخلق بأن يكون عمله الاجتماعي هناك أيضاً على ما نشير إليه.
ثالثهما: ما عرفناه أيضاً من أن قبورهم جميعاً في بغداد. إذن، فقد قضوا حياتهم جميعاً في بغداد، وماتوا فيها ودفنوا في أرضها. والسر في ذلك واضح: فإن عملهم التجاري حيث كان موجوداً في بغداد، فإن عملهم الاجتماعي لا يمكن أن يكون خارجاً عن هذا النطاق؛ لما عرفناه من أن نشاطهم وسفارتهم كانت مبتنية على مضاعفة الكتمان والتخفّي. فكان ذلك يمنع عن أن يقوموا بعمل ليس له مبرّر من واقع حياتهم أو تجاراتهم.. بحيث يكون ملفتاً للنظر وجالباً للانتباه. وإنما هم يقتصرون ـ بحسب ظاهر حالهم ـ على تجاراتهم وأعمالهم الاعتيادية، غير الملفتة للنظر كما سبقنا أن أشرنا.
ومن هنا نعرف، أن السفير إذا اقتضى عمله التجاري البقاء في بغداد، ولم يتطلّب منه الخروج إلى محل آخر، لم يكن من المصلحة أن يخرج بقصد تنفيذ أعمال سفارته محضاً؛ لأنه بذلك لا يمكنه أن يعطي التبرير المقنع للسلطات وعيونها ومَن يدور في فلكها؛ تبريراً مستمدَّاً من واقع حياته أو تجارته. وإن هو أعطى التبرير الواقعي، خرج عن مسلك الكتمان والحذر.
إلاَّ أن عدم النقل لذلك، لا يعني بحال أن السفير قد يحتاج إلى الخروج من بغداد لغرض حياتي، أو تجاري مشروع من ناحية الدولة، أو غرض عبادي كالحج، فيستطيع أن يقوم ـ ضمناً ـ بعمله المهم بصفته سفيراً للإمام المهدي (ع). كما أن انحصار وجود هؤلاء السفراء في بغداد لا يعني انحصار توجيهات وتوقيعات الإمام المهدي بهذا البلد. لما سنعرف من اتصال السفراء بالوافدين إلى بغداد من الأطراف، ولِمَا سنراه من وجود وكلاء عددين لهؤلاء السفراء في مختلف البلاد الإسلامية.. كانوا ينشرون تعاليم الإمام المهدي (ع) عن طريقهم، وكان الاتصال بينهم وبين السفراء قائماً على قدم وساق، على ما سنسمع.
الأمر الرابع: إنه لم يرد إلينا في النقل التاريخي الخاص، قيام السفراء بأعمال اجتماعية واسعة ومؤسسات مهمة، حتى على النطاق الخاص.. إلاَّ أقل القليل. والسر في ذلك يكمن في أحد أمور أربعة، تتضح مما قلناه في غضون البحوث السابقة من هذا القسم من التاريخ:
الأمر الأول: احتمال عدم قيامهم أساساً بمثل هذا النشاط باعتباره مخالفاً لمسلك الكتمان الذي كانوا يسيرون عليه. والنشاط الواسع، مهما حاولوا إخفاءه، فإن أثره يظهر لا محالة، ولو بالوسائط للسلطات، مما يوجب تسليط خطرها عليهم، ومن ثم على خط المهدي (ع) كله. فوجود مثل هذا التحذر في أذهانهم، كان يحد من نشاطهم بطبيعة الحال.
الأمر الثاني: أنه يصح أن نفترض أنهم قاموا بنشاط اجتماعي كبير ولو على النطاق الخاص، مع إمكان عرضه أمام السلطات والآخرين على أنه عمل لشخص السفير بصفته تاجراً متدّيناً، لا بصفته سفيراً عن الإمام المهدي (ع). إلاَّ أن نفس تلك الظروف الصعبة التي عاشوها كانت تمنع من روايتها ونقلها، لئلاَّ يتسرّب سرّها إلى السلطات، وهذا بنفسه أوجب عدم وصول أخبار نشاطهم إلينا في النقول التاريخية.
الأمر الثالث: احتمال أن خبر النشاط الذي كانوا يقومون به كان مما يتناقله الخاصة في ذلك العصر. إلاَّ أن المؤرخين وأصحاب المجاميع من أصحابنا، أهملوا التعرّض إليها، لا لشيء إلاَّ لأنهم يقتصرون في النقل على موارد فضائل الأئمة ومعاجزهم، فما خرج عن ذلك من الحوادث، مهما كان مهماً ومؤثراً، فإنهم لا يعيرونه الأهمية المطلوبة، ويندر أن يكون مروياً في مجاميعهم.
الأمر الرابع: احتمال أن يكون النشاط مروياً في بعض المجاميع التاريخية، ولكنه تلف في عشرات الآلاف من الكتب التي تلفت في حملات أعداء الإسلام على البلاد الإسلامية.. كالمغول والصليبيين وغيرهم.
وعلى أي حال، فكل واحد من هذه الأمور الأربعة، وإن كان لا يزيد عن الاحتمال، إلاَّ أن واحداً منها أو أكثر متحقق جزماً، ولكنّنا ـ في النتيجة ـ نبقى مفتقرين إلى النقل التاريخي الذي يوصل لنا قيام السفراء بنشاط واسع مهم.
الأمر الخامس ـ من هذا الحقل الأول ـ: أننا يجب إلاَّ نبالغ في التوقّع من السفير أن يقوم بعمل اجتماعي فعّال. وإنما الميزان الأساسي الصحيح لقياس قيمة العمل الذي قام به كل سفير، هو أن يكون متضمّناً للقيام بمسئوليته على الوجه الذي كُلِّف به وطُلِب منه، وهذا ما قام به كل واحد منهم خير قيام.
والغرض الأساسي من السفارة أمران:
الغرض الأول: تهيئة الأذهان للغيبة الكبرى، وتعويد الناس تدريجياً على الاحتجاب، وعدم مفاجئتهم بذلك، فإنه ينتج نتيجة سيئة لا محالة؛ إذ قد يؤدّي إلى الإنكار المطلق لوجود المهدي (عليه السلام). ومن ثَمَّ رأينا كيف أن الإمامين العسكريين (عليهما السلام) بدءا الاحتجاب عن الناس تدريجياً، وضاعفه الإمام العسكري (ع) على نفسه. كما أن الإمام نفسه تدرج في عمق الاحتجاب كما سمعنا.. فكانت فترة السفارة أيضاً إحدى الفترات المرحلية لتهيئة الأذهان لهذا التدرّج.
ومن المعلوم أن هذا الغرض من السفارة يتحقق بنفس تحقّق فكرة السفارة، ووجود السفير في المجتمع ولو بأقل ما يقوم به من عمل، فضلاً عن اضطلاعه بالمسئولية بالنحو المطلوب.
الغرض الثاني: القيام بمصالح المجتمع، وخاصة القواعد الشعبية الموالية للأئمة (عليهم السلام)... تلك المصالح التي تفوت ـ بطبيعة الحال ـ بانعزال الإمام واختفائه عن مسرح الحياة.. شأن أي مصلحة للمجموع تفوت بفوات القائد والموجِّه. ومن ثَمَّ جُعلت السفارة، لكي يقود الإمام المهدي (عليه السلام) برأيه إن فاتت قيادته بشخصه، ويكون التطبيق بين السفراء في حدود الإمكان، وبحسب المصالح والتصرفات التي يراها ويخطّطها المهدي (عليه السلام) نفسه.
وهذا الغرض، قد قام به كل واحد من السفراء خير قيام، حيث اضطلع بحفظ مصالح المجتمع، في حدود الجو المكهرب والمراقبة الشديدة والتحفّظ. وهذا الجو مما لا ينتج أكثر من ذلك.
الأمر السادس: تدل كثير من النقول ـ على ما سيأتي تفصيله ـ على كون السفراء عالمين بالغيب، بنحو وآخر. فنرى ـ مثلاً ـ أن الحسين بن روح يتكلّم باللسان الآبي(٥٢٤) من دون سبق تعليم، وأنه يفهم ما في خاطر الآخر، فيجيب عنه ابتداء.(٥٢٥) ومحمد بن عثمان العمري يُعيّن عام وشهر ويوم وفاته.(٥٢٦) وعلي بن محمد السمري يترحّم على الشيخ علي بن الحسن بن بابويه القمي، فيكتب المشايخ تأريخ ذلك اليوم،(٥٢٧) إلى غير ذلك من الحوادث.
وقد سبق أن أشرنا مجملاً إلى الجواب عن شبهة استحالة ذلك بغض النظر عن الأسس الفلسفية النظرية لهذه المسألة. وتفصيله: أن ما نؤمن باختصاص الله (عزَّ وجلَّ) به من علم الغيب هو العلم الابتدائي، الذي يكون أزلياً لا بتعليم من أحد، فإنه سبحانه يكون عالماً بما يكون غائباً عنا ومجهولاً لنا من أجزاء الكون، وبما كان وما يكون من الأزل إلى الأبد. وهذا العلم يستحيل ثبوته لغير ذاته المقدسة (جلَّ وعلا).
وأما علم الغيب الذي ننسبه إلى الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) أجمعين، فهو تعليم من قبل العالم بالغيب (جلَّ وعلا)، والبشر قابل للتعليم، ولا يكون الأنبياء والأئمة (ع) أسوأ تعلّماً من غيرهم وهم في مراق كبيرة من الكمال.
إلاَّ أن أنحاء هذا التعليم تختلف، فهو في الأنبياء بالمباشرة والمشافهة ـ لو صح هذا التعبير ـ عن طريق الوحي ونحوه، وهو في الأئمة (عليهم السلام) بالتلقّي عن النبي (ص) جيلاً بعد جيل حتى الإمام الثاني عشر: المهدي (ع)، بل إن الروايات أثبتت للإمام شيئاً أكثر من ذلك، هو أن الإمام (ع) ـ وهو القائد للأمة الإسلامية جميعاً، بل أوجه البسيطة؛ باعتبار عالمية الدعوة الإسلامية والدولة الإسلامية ـ وقد أعطى القابلية من الله (عزَّ وجلَّ) على ذلك؛ إذ جاء لمصلحة تمكينه من القيادة العامة.. أنه متى احتاج إلى شيء، أخطره الله في ذهنه وصار ذلك معلوماً له بعد أن كان مجهولاً. ومن هنا كان علم الغيب ـ بهذا المعنى ـ ممكناً من الأئمة (عليهم السلام)، بما فيهم الإمام الثاني عشر المهدي (ع) على ما سيأتي.
وأما بالنسبة إلى غير الأئمة من الناس، فيكون بالتعلّم من الأئمة (ع). فمثلاً يخبر الإمام المهدي سفيره الرابع بموعد وفاة ابن بابويه القمي، أو يُخبر سفيره الثاني بموعد وفاة نفسه، أو يُعلِّم سفيره الثالث اللسان الآبي، ولو بمقدار حاجته من تلك الواقعة، إلى غير ذلك من الأمثلة.
وهناك أمران آخران، يمكن أن ننسبهما إلى السفراء في علة ما يخبرونه به من علم الغيب:
أحدهما: الحدس الاجتماعي، الذي يحدث لمَن يعيش في معمعة المجتمع، إذا كان ذكياً وبعيد النظر... فإنه يستطيع أن يحدس بوقوع بعض الحوادث قبل وقوعها، بلحاظ ما يعرف من مجموع الملابسات. والسفراء ليسوا بأدنى من هذا المستوى في الذكاء وبُعد النظر على أي حال، وكانوا يعيشون الحوادث بكل إحساسهم.. ففي الإمكان أن يحدسوا بأمور عديدة قبل وقوعها.
ثانيهما: الحدس الإيماني، وهو ما يُعبَّر عنه فيقال: المؤمن ينظر بنور الله تعالى. فإن الإيمان وعمق الإخلاص لله (عزَّ وجلَّ) يعطي ـ بمقدار درجته ـ نحواً من الصفاء الذهني والكمال النفسي يستطيع الإنسان بواسطته استشمام الحوادث قبل وقوعها، والحديث عنها قبل حدوثها.
وهذا في واقعه، درجة ضعيفة جداً من درجات العلم الذي قلنا بإمكانه للمعصوم (ع). والفرق بينهما إنما هو في درجة الإيمان والإخلاص بين الإمام وغيره. فالإمام يبلغ به كماله النفسي إلى أن يصيب الواقع بعلمه بوضوح. وأما غيره، فقد يحدس وقد لا يحدس... كما قد يصيب حدسه الواقع وقد يُخطىء.
وعلى أي حال، فبالمقدار الذي نثبته من الحدس لسائر المؤمنين المخلصين بالدرجة العليا، يمكن أن نصدّق بثبوته للسفراء أيضاً، في هذه المرتبة من الإيمان والإخلاص، بطبيعة الحال.
إلاَّ أن كلا من الحدسين: الاجتماعي والحدس الإيماني، لا يمكن أن يصل إلى بعض ما أخبر به السفراء، كتحديد وفاة شخص مع بعد المكان أو الزمان، فينحصر تفسير مثل هذا المستوى من العلم عند السفراء بالتعلّم من الإمام المهدي (ع)، ومعه يكون من الواضح أن أي شيء قالوه في هذا الصدد كما يكون فضيلة من فضائل السفير، كذلك يكون ـ بالأولى ـ فضيلة للإمام المهدي نفسه باعتباره الموجّه والمعلم لذلك.
الأمر السابع: كان الخط الذي يستعمله الإمام المهدي (عليه السلام) في توقيعاته وبياناته، خطاً موحّداً يعرفه الناس المتتبّعون لذلك، فهو لا يختلف باختلاف أشخاص السفراء واختلاف خطوطهم، مما يحصل القطع بصدوره عنه (عليه السلام)، كما سبق أن أشرنا وقلنا باستعمال الخط في معرفة صاحبه أمر عقلاني متسالم عليه بين الأمم. ولئن كان يمكن افتراض أن أحد السفراء ذو فن في مضاهات الخط وتزويره، فهو بالنسبة إلى مجموعهم، يكون عادة من المحالات.
وقد توخّى الإمام المهدي (عليه السلام) أن تصدر بياناته بنفس الخط الذي كانت تصدر بيانات أبيه (عليه السلام)، فإننا عرفنا أن الإمام العسكري (عليه السلام) استعمل مسلك الاحتجاب تعويداً للناس على فكرة الغيبة، وكان يتصل بقواعده الشعبية عن طريق التوقيعات والبيانات المكتوبة. فقد كان خط الإمام العسكري (ع) معروفاً لدى جملة من قواعده الشعبية، وخاصة مَن كان من خاصتهم ومبرّزيهم، وقد سمعنا كيف طلب أحدهم من الإمام العسكري (عليه السلام) عند مقابلته أن يكتب شيئاً في ورقه، حتى يطابقه مع التوقيعات الصادرة منه لأجل أن يأمن من التزوير، فقد استعمل الإمام المهدي نفس الخط طيلة مدة الغيبة الصغرى، فقد كانت الأجوبة تخرج من ناحيته المقدسة بالخط الذي يخرج في حياة الحسن (ع)(٥٢٨)؛ لسبق معروفية هذا الخط عند الأصحاب، مع جهالة خط الإمام المهدي لو كان خطاً مستقلاً ذو شكل جديد، فقد يتدخّل فيه احتمال التزوير، وبذلك تكون شهادة الخط أوسع وأعلى من شهادة السفير، بكون هذا البيان صادراً عن الإمام المهدي (عليه السلام). فإن انضمت الشهادتان وتصادقتا على ذلك، كان في ذلك الكفاية لمَن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وقد يعترض: بأنه كيف يمكن أن يكون الوالد والولد على شكل واحد في الخط؟! مع أن العادة بين الناس تقضي بخلاف ذلك.
وجوابه يكون من وجوه:
أولاً: إمكان ذلك في نفسه.. وإن كان لا يحدث إلاَّ نادراً، إلاَّ أن حدوثه بين الوالد والولد، أقرب من الحالات الأخرى كما هو واضح. فإن شكل الخط منوط بعوامل عضلية في اليد والبدن ونفسية وفكرية وراثية واجتماعية متعددة، وانحفاظ هذه العوامل وتشابهها في الوالد والولد، من الناحيتين الوراثية والاجتماعية، قريب إلى حد كبير.
ثانياً: إن فرض أن خط الإمام ليس بالكثير، فإن الخط ينحفظ فيه التسلسل الوراثي، كما ينحفظ في خلق الوجه والبدن، فكما يحمل الابن بعض الملامح العامة من أبيه في خلقه كشكل وجهه ويده وطريقة مشيه وتكلّمه.. كذلك تنحفظ المعالم العامة للخط بنفس المقدار. فإذا أضيف إلى ذلك، أن هناك تعمداً خاصاً وعناية معينة قام به الوالد والولد، لتطبيق خط أحدهما على الآخر؛ لمصلحة من المصالح المطلوبة لهما، فبالإمكان أن يكون خط الولد قريباً من خط الأب إلى حد كبير.
فإما أن يكون هذا القرب هو المقصود من النقل التاريخي بتشابه الخطين، أو أن الإمام المهدي (عليه السلام)؛ لأجل حفظ المصالح العامة، كان قادراً أن يمثّل خط أبيه (عليهما السلام) لمدى القرب بينهما، وإن كان لو خلّي ونفسه، ولم تتوفّر تلك المصالح، لكان الفرق بينهما واضحاً.
ثالثاً: أنه مع غض النظر عن هذه الطرق الطبيعية، فإن المصالح ما دامت مهمة، يتوقف عليها حفظ المجتمع طيلة زمان الغيبة الصغرى؛ إذ مع اختلاف الخط يقع احتمال التزوير، ومع وقوعه ينفتح للشبهات مجال كبير.
فما دامت المصلحة مهمة تمس العقيدة والمجتمع المسلم وإقامة الحجة على الحق، وهي مصالح ملحوظة لله (عزَّ وجَلَّ) في هدايته لخلقه؛ فكان من مقتضى حكمته الأزلية، أن يعطي المهدي (ع) قدرة في تكييف خطه على شكل خط أبيه، متى احتاج الأمر إلى ذلك، ولو كانت هذه القدرة بسبب إعجازي، خارج عن مجرى القوانين الطبيعية.
إذن نعرف بأحد هذه الوجوه، إمكان مشابهة خط الإمام المهدي لخط أبيه (عليه السلام). فكانت التوقيعات والبيانات تخرج على يد السفير الأول بالخط الذي كانت تخرج على يده أو على يد غيره من الوكلاء في زمن الإمام العسكري عنه (عليه السلام).
وحين مضى السفير الأول إلى ربه (عزَّ وجَلَّ)، واضطلع الثاني بمهامه، كانت الكتب تخرج عنه بنفس الخط الذي كانت تخرج أيام سلفه،(٥٢٩) إلى حدٍ أصبح هذا معروفاً واضحاً، فيُعبَّر ويُقال: إن هذا التوقيع بخط مولانا صاحب الدار،(٥٣٠) يعني: الإمام المهدي (عليه السلام).
وبقي الخط محفوظاً في عهد السفيرين الأخيرين أيضاً.. إلى نهاية الغيبة الصغرى... والتاريخ وإن لم ينص على ذلك بوضوح، إلاَّ أن السبب في ذلك هو وضوح هذا المعنى في أذهان الرواة المعاصرين لتلك الفترة. إذ أن الأربعين عاماً التي قضاها السفير الثاني في سفارته.. والتوقيعات التي خرجت على يده بخطٍ واضح، كافية في ترسيخ هذه الفكرة في أذهان مَن اطلع على ذلك من القريب والبعيد، وإلى حدٍ يكون من القول المستأنف تكرار التأكيد عليه بالنسبة إلى السفيرين الأخيرين. فما سكت عنه في النقل، إلاَّ لأن ذلك متيقّن الوجود على أي حال.
الأمر الثامن: بقيت في التوقيعات التي كان يصدرها المهدي (ع) جهات هامة لا بد من بحثها في هذا الصدد:
الجهة الأولى: في معنى التوقيع.
يطلق التوقيع في لسان روايتنا، مطابقاً مع العرف السائد آنئذٍ: على الكلمات القصار التي تمليها أقلام الكبراء في ذيل الرسائل والعرائض ونحوها، لأجل جواب السؤال الذي تتضمنه، أو حل المشكلة التي تحتويها، أو التعبير عن وجهة نظر معينة فيها.
إذن، فتوقيعات الإمام المهدي (عليه السلام): ما كان يذكره (عليه السلام) بخطه في جواب الأسئلة والعرائض بواسطة سفرائه من الكلمات القصار، في مختلف ميادين المعرفة.. من الناحية العقائدية أو الفقهية أو الاجتماعية أو غيرها.
الجهة الثانية: في احتياج التوقيع إلى سؤال.
لم تكن التوقيعات الصادرة عنه (عليه السلام) مقتصرة على الجواب على الأسئلة فقط، وإن كان الأغلب هو ذلك، بل كانت التوقيعات والبيانات المهدوية، تتخذ أحياناً شكل بيان ابتدائي يطول ويقصر حين تقتضي المصلحة ذلك، بدون سؤال يقتضيه ويتطلّبه.
ومن أمثلته: التوقيع الذي أصدره (عليه السلام) مترحّماً على سفيره الأول، والبيان الذي أعلم فيه انتهاء السفارة بموت السفير الرابع.. وقد سمعناها. والرسالة التي رويت عنه (عليه السلام) للشيخ المفيد (رحمه الله).. وسيأتي التعرّض لها في الفصل الثالث من هذا القسم من التاريخ.
الجهة الثالثة: (التوقيعات نشاط وعمل لكل من الإمام المهدي والسفراء).
إن التوقيع كما يعتبر عملاً للإمام المهدي (عليه السلام) باعتبار معناه وخطّه، فإنه هو الذي كتبه حلاً لمشكلة أو جواباً على سؤال أو بياناً لمصلحة... كذلك يعتبر عملاً من أعمال السفير، باعتبار أن للسفير يداً في إظهاره إلى النور وإطلاع أصحابه وقواعده الشعبية عليه. بل إن السفير أيضاً واسطة في إيجاده بنحو من الأنحاء؛ إذ لولا أن المهدي (عليه السلام) يعلم بوجود السفير الأمين لنقله لما كتبه.
ومن هنا فكما يمكن أن تندرج التوقيعات في هذا الفصل الذي نحن بصدده، وهو: نشاط السفراء، كذلك يمكن أن نتدرج في فصلٍ آتٍ، نعقده لأعمال المهدي ونشاطه الخاص، وسندرج ذلك في كلا الفصلين بهذا الاعتبار، بنحو لا يلزم منه التكرار جهد الإمكان.
الجهة الرابعة: في مدة خروج التوقيع.
يحتاج خروج التوقيع جواباً على سؤال معين إلى حوالي اليومين أو الثلاثة... كما هو ظاهر عدد من الروايات. كقول الراوي في إحداها: فلمَّا كان بعد أيام، قال لي صاحبي ألا نعود إلى أبي جعفر فنسأله عن حوائجنا التي كنا سألناه(٥٣١)؟ وقوله في رواية أخرى: ثم أخبرني ـ أي السفير أخبره بالجواب ـ بعد ذلك بثلاثة أيام.(٥٣٢)
كما أن الجواب يأتي شفوياً، يبلغه السفير نفسه، كقول ابن روح لبعضهم: إنكم أُمرتم بالخروج إلى الحائر.(٥٣٣) وقد لا يرد الرد على السؤال أصلاً؛ لبعض المصالح التي يراها المهدي (عليه السلام)، وقد تكرر ذلك في عدة موارد، مثاله: ذلك الراوي الذي سأل الإمام (ع) أن يدعو له أن يرزق ولداً ذكراً (ثم قول الراوي نفسه:) "فلم يجبني إليه"(٥٣٤) لأنه يعلم بعدم كونه من الرزق المقسوم. ومثله ذلك الرجل الذي كان من الأصحاب فقدّم سؤالاً، فلم يرد جوابه. قال الراوي: فنظرنا في العلة فوجدنا الرجل قد تحول قُرمطياً.(٥٣٥) وما دام قد انخرط وتبع القرامطة، إذن، فمقتضى الدعوة المهدوية أنْ لا يُجاب؛ فإنها والمنحرفين على طرفي نقيض.
وعلى أي حال، فمدة الثلاثة أيام أو نحوها مدة معقولة في رد الجواب، وعليه تحمل سائر الروايات التي تعرّضت إلى خروج الرد من دون ذكر المدة... باعتبار وضوح ذلك في الأذهان، وتكرّره إلى حدٍ أصبح متسالماً عليه، لا يحتاج إلى تكرار وتأكيد.
وفي خلال هذه المدة يمكن افتراض أن السفير حصل على الجواب حصولاً اعتيادياً، غير إعجازي. فقد كان السفير عادة يجمع عدة أسئلة في ورقة واحدة، كما يظهر من عدد من الروايات،(٥٣٦) ويرد الجواب عنها دفعة واحدة في درج واحد.
ومن هنا يمكننا أن نتصور ـ اعتيادياً ـ أن السفير في هذه المدة يحمل الأسئلة معه إلى الإمام المهدي (ع)، فإنه المطلع الوحيد على مكانه، فيقابله فيه ويعرض عليه الأسئلة، فيقرؤها الإمام ثم يجيب على واحدٍ واحدٍ منها... إن شاء كتابةً وإن شاء شفوياً. وإن شاء لم يجب بحسب ما يرى من المصالح التي يتوخّاها.
إلاَّ أن بعض الروايات، تدل على خلاف ذلك. فبعضها تنيط ورود الجواب بعدة ساعات، من الصبح إلى ما بعد صلاة الظهر،(٥٣٧) وفي بعضها أنه يرد الجواب والمداد رطب لم يجف.(٥٣٨) وهناك رواية تنيط الجواب بنفس الآن. حيث يخطر السؤال على ذهن الشخص، فيرى الجواب مكتوب على الورقة في ذلك الحين. وقد وجد الراوي ذلك غريباً على الأذهان. فأقسم عليه قائلاً: فوالذي بعث محمداً (ص) بالحق بشيراً.(٥٣٩)
فلو صحت هذه الرواية، أمكننا أن نفترض أن السفير يتلقى الأجوبة بهذا الأسلوب أيضاً، من دون أن يذهب إلى مقابلة الإمام المهدي (عليه السلام).
ويمكن أن يرجَّح ذلك بمرجحات:
أحدهما: كون هذا الأسلوب طريقة سرية للغاية لا تخطر في ذهن السلطات على الإطلاق.. ومن هنا كانت أنسب بكثير بمسلك التكتم والحذر الذي كان يسير عليه السفراء، وهو أولى جداً من أن يرى السفير ذاهباً إلى مكان المهدي (عليه السلام) وعائداً منه، على أنه قد تعرض للإمام المهدي (عليه السلام) مصلحة في تغيير مكانه في بعض الأيام من دون علم السفير، فيترتب على ذلك انقطاع الجواب إلى حين اللقاء.
والمهدي (ع) قد يضطر على السفر البعيد، زيادة في الحيطة، أو لأجل الذهاب إلى الحج،(٥٤٠) فينفصل عن السفير، وهو في بغداد، انفصالاً تاماً. ولا يمكن للسفير متابعته، بالخروج من بغداد والرجوع إليها؛ لأن ذلك مما يثير عليه الاستفهام والانتباه.
ثانيهما: أنه يظهر من جملة الروايات، أن المهدي (عليه السلام)، كان يمضي الوقت في أول الغيبة الصغرى، إلى عدة سنوات، في سامراء على ما سوف يأتي. ومعه كيف يمكن للسفيرين الأول والثاني مقابلته.. وهما لا يستطيعان الخروج من بغداد بشكل ملفت للنظر. على أن الخروج من بغداد إلى سامراء كان يستدعي السفر أياماً متعددة، مما يُوقف تجاراتهم ويحس الناس بغيابهم وهذا غير وارد في تواريخنا على الإطلاق.
ثالثهما: إن كل مَن شاهد المهدي (ع) في فترة غيبته الصغرى لم يجد معه أحد سفرائه ولا في مرة واحدة.. لا داخلاً إليه ولا خارجاً عنه ولا باقياً عنده. بل إن علي بن مهزيار بقي عند المهدي (ع) عدة أيام،(٥٤١) فلم يجده إلاَّ منفرداً لم يدخل عليه أي شخص آخر.
رابعها: قول محمد بن عثمان العمري ـ السفير الثاني ـ وهو يتحدَّث عن لقائه مع المهدي (ع): آخر عهدي به عند بيت الله الحرام، وهو يقول: (اللَّهُم أنجز لي ما وعدتني).(٥٤٢)
وهذا يستلزم بكل وضوح عدم وقوع المقابلة ما بين موسم الحج إلى زمان هذا الكلام.
فبهذه المرجِّحات قد يستنتج استحصال السفراء على الأجوبة والتوقيعات بطريق: إعجازي بدون مقابلة، أو بالمقابلة بسبب إعجازي. وهذا يناسب مع كون المهدي (عليه السلام) في أي مكان من الأرض، وبكونه بعيداً عن إلفات النظر، وقريباً من مسلك الحذر. ونحن نقول بإمكان المعجزة عقلاً إذا توقّفت عليها مصلحة الدعوة الإلهية كما أثبتناه في محلّه.
إلاَّ أن كل هذه المرجِّحات لا توجب إلاَّ الظن، ومجرد إمكان الشيء لا يعني وقوعه في الخارج.. فإننا ننكر توقف الدعوة الإلهية على خروج التوقيع الإعجازي دائماً، وإن كان ثبوته أحياناً محتملاً، كما في الرواية التي أشرنا إليها.
ومناقشات جملة من هذه المرجحات واضحة، وبعضها يحتاج إلى عمق في العرض، نحمل به فكرة عن اتجاه المهدي (عليه السلام) في أسلوب مقابلته لسفرائه.
فإننا سبق أن عرفنا أن أسلوب وكيفية استحصال السفير على الجواب مجمل جداً في الروايات، حتى يكاد أن يكون مجهولا مطلقاً. ولم يُصرِّح ولم يُلوِّح به أيُّ سفير من السفراء لشخص من الخاصة، فضلاً عن سائر الناس. ولم يتصد شخص لسؤال أي سفير عن ذلك بحسب ما وردنا من نقول.
ومعنى ذلك أن المقابلات التي كانت تحدث مع السفراء هي من السرية والحذر بمنزلة عظيمة حتى لا يمكن أن يخطر في ذهن بشر مكان ذلك أو زمانه. والله وحده هو العالم به. ومعه تكون سائر مرجِّحات الطريقة الإعجازية مندفعة وغير صحيحة:
أما المرجح الأول ـ وهو كون الطريقة الإعجازية أنسب بالكتمان والحذر ـ فهو وإن كان صحيحاً، إلاَّ أنه يمكن الدقة (في) اتخاذ مكان وزمان خفيين للمقابلة، لا يفطن إليهم أحد. والمهدي بعمق نظره هو الذي كان يدبّر ذلك. ومن المعلوم أن الدولة في ذلك الحين لم يكن لها من شبكات الاستخبار والتجسّس ما عليه الدول فعلاً، بل كانت دون ذلك بكثير، مما يسهل المهمة ويجعل إخفاءها أيسر.
ولا نريد بـ "اتخاذ المكان الخفي للقاء" أنه لا يتم إلاَّ في سراديب بعيدة أو أماكن شاذة، وإنما قد يكون ذلك متحقّقاً وإنْ لم يكن قابلاً للبقاء مدة طويلة على غفلة من الناس. وقد يكون ـ وهو الأرجح والأشد خفاء الإبقاء على السرية ـ أن تكون العلاقة بين المهدي وسفيره على صعيد المجتمع الواضح، علاقة بائع ومشتري، أو دائن ومدين، أو عامل وصاحب عمل.. وهكذا، ويكون المهدي قد اتخذ اسماً آخر وشخصية أخرى تختلف عن واقعه تماماً، ويكون له بعض العلاقة مع السفير بصفته شخصاً من التجار، فيدس له السفير الأسئلة والطلبات بشكل غير ملفت للنظر، فيأخذها المهدي ويجيب عليها بصفته الحقيقية. وهذه الطريقة محتملة على أي حال، وسيأتي إيضاح تفاصيلها في التاريخ القادم إن شاء الله.
وأما مسألة اضطرار المهدي إلى السفر بعيداً عن بغداد أو ذهابه إلى الحج، فهو أمر قد يتحقق، إلاَّ أنه لا يمنع عن خروج التوقيعات عنه في الوقت المناسب. ولا دليل لنا على تتابع خروج التوقيعات عنه بشكل منظَّم، في كل أسبوع أو في كل شهر، بحيث اعتلا الناس على ذلك المظنون أن المسافات الزمنية، ما بين التوقيعات مختلفة بنحو مشوّش؛ حتى لا يكون تأخرها أحياناً موجباً لإلفات النظر أو إثارة التساؤل.
ومن ثَمَّ يمكن أن نتصور أن المهدي (عليه السلام) يذهب إلى الحج أو إلى أي مكان أراد، ثم يرجع إلى بغداد أو إلى بعض المناطق القريبة منها لأجل تمكين سفيره من مقابلته.
وأما المرجح الثاني ـ وهو سكنى المهدي (ع) في أول الغيبة الصغرى في دار أبيه في سامراء ـ فإن نفس الروايات الدالة على ذلك، تدلنا على عدم حصول المقابلة أحياناً بينه وبين السفير، بل كان السفير في تلك الفترة يحوَّل مَن جاء بالأموال إلى بغداد، ويأمره بحملها إلى سامراء، على ما سوف يأتي في الفصل الرابع من هذا التاريخ.
وهذا هو الذي يفسِّر أيضاً ندرة صدور التوقيعات والبيانات على يد السفير الأول، وكثرتها على يد السفيرين اللذين بعده.
وأما المرجح الثالث ـ وهو أن مَن شاهد الإمام (عليه السلام) لم يجد عنده أحداً من سفرائه ـ فهو واضح بعد الذي عرفناه من توخّي إخفاء المقابلة عن كل بشر، حتى عن الخاصة الذين يشاهدون الإمام المهدي (عليه السلام). فمن الممكن، بل لا بد أن نفترض، كون المقابلة تقع في أوقات غير أزمنة تلك اللقاءات. ومقابلة علي بن مهزيار له عدة أيام ليست بدعاً من ذلك. وقد عرفنا أنه لم تكن ثَمَّة ضرورة إلى خروج التوقيع يومياً أو أسبوعياً، بل من الممكن تأخّر خروجه خلال هذه الأيام.
وأما المرجح الرابع ـ وهو عدم مقابلة السفير الثاني له (عليه السلام) منذ موسم الحج ـ فبالإمكان أن نفترض، إن لم يكن راجحاً فعلاً، قرب هذا الحديث من موسم الحج، بمدة معتادة لتأخر التوقيعات.
إذن، فالطريق الإعجازي لخروج التوقيع، وإن كان ممكناً عقلاً، إلاَّ أنه لم يدل عليه دليل خارجاً، ومما لا تتوقف عليه مصلحة الدعوة الإلهية المتمثلة بالمهدي (ع) وسفرائه بعد إمكان ما قلناه في هذه المناقشات.
نعم، نحن لا ننكره، بل نقول بضرورته عند وجود هذا التوقف، ولعل تلك الرواية التي أشرنا إليها من هذا القبيل، على تقدير صدق نقلها وصحة سندها.
إذن، فالراجح، إن لم يكن المتيقن، أن اتصال السفير بالإمام واستحصاله التوقيعات والتوجيهات منه، يكون عادة بطريق طبيعي غاية في الخفاء والستر والحذر، ومما يؤيد ذلك، وجهان:
الوجه الأول: إن الغالب ـ كما عرفنا ـ تأخّر التوقيعات لعدة أيام بعد توجيه السؤال. ومعنى ذلك حصول مقابلة المهدي (ع) في الأثناء. ولو كان البناء على حصول الطري الإعجازي، لأمكن استحصال الجواب بمجرد كتابة السؤال، أو بمجرد إطلاع السفير عليه، مما يوفّر المصالح ويقلص الجهود. أو على الأقل، كان في إمكان السفير ـ زيادة في الحيطة ـ تأخير الرد عدة ساعات أو يوماً واحداً، ولم يكن مضطراً للتأخير لعدة أيام.
الوجه الثاني: إن المهدي (ع) ـ كما تدل عليه الروايات ـ كان يُنِيل سفراءه المطالب العقائدية والثقافة الإسلامية، كما كان يحمّلهم الجواب على عدد من الأسئلة شفوياً كما سمعنا، فهل كان ذلك عن طريق المعجزة؟!.. وكيف؟ ونحن نسمع السفير الثالث يؤكد قائلاً: لأن أخُرَّ من السماء فتخطَّفني الطير أو تهوي بي الريح في مكان سحيق، أحبُّ إليَّ من أن أقول في دين الله برأيي ومن عند نفسي، بل ذلك من الأصل ومسموع من الحجة.(٥٤٣)
فهذه أربع جهات من مهم الحديث عن شئون التوقيع المهدوي وخصائصه. وبها تم الكلام عن الأمر الثامن في هذا الحقل.
الأمر التاسع: في خفاء السفراء عن السلطات:
إن مسلك التستر والحذر الذي سلكه السفراء، أنتج تماماً ما هو المقصود، وهو الخفاء على القواعد الشعبية السائرة في ركاب السلطات، وعيون الدولة، وعلى المنتفعين منها والضالعين بركابها.
وليس أدل على ذلك، مما سمعناه من موقف السفير الثالث في تفضيل الخلفاء الثلاثة جميعاً على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، في مجلس للعامة.. فرفعه العامة على رءوسهم وكثر الدعاء له والطعن على مَن يرميه بالرفض.(٥٤٤)
وإن دلّ هذا على شيء، فإنما يدل على جهلهم التام بسفارته وأنهم غاية ما يحملون عنه من فكرة.. أنه متهم بالرفض.. وهذا القول منه ماحٍ لهذه التهمة ودليل على كذبها في نظرهم.. وإذا لم يكن رافضياً فكيف يكون سفيراً لإمام الرافضة. وهذا هو الذي كان يتوخّاه ابن روح من كلامه ذلك: إبعاد احتمال السفارة عن أذهانهم إبعاداً تاماً، وجعلها بشكلها لا يمكن أن تخطر في ذهنهم، فضلاً عن أن يصدّقوا بها.
وإذا كانوا لا يعلمون به، فهم لا يعلمون بأسلافه أيضاً، ولا بخلفه بطريق أولى. يندرج في هذه القائمة، سائر السائرين على هذا الخط من حكّام ومحكومين، غير شخص الخليفة. فإن حول بعض أشخاص الخلفاء قرائن تاريخية تدلنا على أنه كان عارفاً بالحق وبموضعه، كما صرّح به الشيخ الصدوق في (إكمال الدين)(٥٤٥).. وقد فصّلنا القول فيه في تاريخ الفترة السابقة. فكان أن سمعنا موقف المعتمد من الإمام العسكري (عليه السلام) حين طلب منه الدعاء له بالبقاء بالحكم، ورأينا موقفه نفسه من جعفر بن علي حين ادعى الإمامة بعد أخيه، حاول التوسّط إلى الدولة لنيل ذلك.
ونسمع في هذه الفترة.. بالنسبة إلى المقتدر أنه كان للشيخ بن روح محل عظيم عنده.(٥٤٦) هذا وإن كان يمكن تفسيره باعتبار جهل المقتدر بتشيُّعه، فضلاً عن سفارته؛ لِمَا سمعناه من التزامه بالتقية والحذر. فكان المقتدر يقرّبه لأجل علمه وسعة إطلاعه وحضور خاطره، جاهلاً بواقعه وحقيقته.
وهذا الاحتمال، وإن كان لا يخلو من قوة في الذهن، إلاَّ أن له مضعفات تاريخية وقرائن موهنة له:
منها: أن المقتدر نفسه حبسه مدة يسيرة منها، وأن الشيخ ابن روح استتر مدة من الزمن.(٥٤٧) لو كان بالمنزلة التي سمعناها، مع غض النظر عن سفارته، لما كان هناك موجب لذلك كما هو واضح. وإنما يحدث ذلك، لما قد يبلغ السلطات بشكٍ غامضٍ وغير مباشر، ما قد يقوم به ابن روح من أعمال بصفته سفيراً عن الإمام المهدي (عليه السلام). وإذ لا يكون لها أي مستمسك ضده، فإنها تغض النظر عنه وتطلق سراحه... وعلى أي حال، يكون مسبوقاً في الجملة بذلك.
ومنها: إذا ضممنا هذا الموقف من المقتدر، إلى موقف المعتمد قبله وموقف الراضي بعده. فإننا قد نحصل على سلسلة من الخلفاء العارفين بالأمر، إلى بعض الحدود، وإن لم يجدوا أي أسلوب معين للوقوف ضده أو لحيلولة دونه، ثم نسمع بالنسبة إلى الراضي، في حادثة يأتي التعرض لها في الفصل الآتي، أنه ذُكِر ابن روح في مجلسه، ذكره أحد مؤيِّدي الشلغماني المدَّعي للسفارة زوراً... فقال عن صاحبه الشلغماني: إنه لم يدع الإلهية، وإنما أدعى أنه الباب إلى الإمام المنتظر مكان ابن روح.(٥٤٨) فلم يسأله الراضي عن ابن روح هذا، ولم يستفصله عن خبره، ومن أين يعرف أنه كان سفيراً؟ ولو كان الراضي جاهلاً بذلك ومحاولاً التنكيل بالسفير لأخفى السؤال عن ذلك، ولكان بيده أول مستمسك يدلّه على الإمام المهدي (عليه السلام). فيدل ذلك على أنه كان عالماً به إلى حدٍ ما، بل وعالماً بسفارته عن الإمام المنتظر (ع) الذي أشار الرجل في كلامه.
إذن، فالمعتمد والراضي، بل والمقتدر أيضاً على احتمال كبير، كانوا يعلمون بالاتجاه الذي يسير فيه خط الأئمة (عليهم السلام) وبممثليه إلى حدٍ كبيرٍ.
وتنفتح أمامنا ثلاثة أسئلة لا بد من التصدي للجواب عنها:
السؤال الأول: هل كان الخلفاء الآخرون يعلمون بذلك أيضاً، أم أن هذا العلم خاص بهؤلاء؟
السؤال الثاني: إن هؤلاء الخلفاء من أين علموا بذلك، ومن أي طريق وصلهم الخبر؟
السؤال الثالث ـ وهو الأهم ـ أنهم إذا عرفوا ذلك، فلماذا غضوا النظر عن السفراء، ولم يلقوا القبض عليهم، لأجل فصلهم عن قواعدهم الشعبية أولاً، واستجوابهم عن الإمام المهدي ثانياً، تمشّياً مع الخط العام للدولة في محاربة الخط العام للأئمة (عليهم السلام).
وتوخياً لتقسيم الكلام، يقع الجواب، ضمن بيانات ثلاثة لكل سؤال بيان:
البيان الأول: أننا حيث عرفنا الجهل التام بحال السفراء، من سائر القواعد الشعبية الموالية للدولة، بمختلف طبقاتها، فإنه لا يبقى أي دليل على اطلاع جميع الخلفاء بذلك. فإن الخلفاء لم يكونوا يتقابلون أثناء خلافة أحدهم وبدء عهد الآخر.. لكي نفترض أنه أسرَّ بهذا الأمر، بل إن الخليفة منهم يتولّى منصبه أم بعد موت الآخر، أو بعد أن يشارك في عزل سلفه وقتله، وفي كلا الحالين لم يكن الظرف يسمح تلك المقابلة.
كما أن الخليفة الجديد دائماً غير مسبوق بتوليه للخلافة قبل أن يدخل أن يتولاها فعلاً، تحت الظروف وتأثيرات معينة، فهو لم يكن يستعد لجعل نفسه أهلاً للخلافة قبل ذلك، حتى يسأل سلفه عن بعض الأمور التي قد تخفى عليه. ومن ثم يستحيل أن نفترض أن الخبر بحال السفراء تسلسل بين أشخاص الخلفاء واقتصر عليهم، بل أنَّ افتراض ذلك يعني: أن هذا الخبر موجود بين الطبقات العليا من رجال الدولة، يتناقلونه فيما بينهم لكي يكون كل خليفة مسبوقاً بالحال من قَبْل خلافته.
وشيوع الخبر بهذا النوع غير محتمل أساساً؛ فإننا إذا افترضناه لم يكن بد من تجديد الحملات الشعواء على السفير وعلى قواعده الشعبية. بل لعل المهدي (ع) نفسه يكون في خطر ولم يكن لابن روح ولا لغيره أي مجال للتقية والمداراة. ولكننا عرفنا أنه كان متمكناً من مدارات الطبقات العليا فضلاً عن الدنيا، وهذا معناه ـ بكل وضوح ـ جهل تلك الطبقات بالأمر. إذن، فمن أين يصل خبر السفراء إلى سائر الخلفاء؟
ومعه فيتعين أن يكون هؤلاء الخلفاء العالمين بخبر السفراء، هم وحدهم المطَّلعون على ذلك، إلاَّ أن يكون غيرهم قد سلك نفس سبيلهم في الإطلاع على الخبر. على ما سنذكره في البيان الثاني.. وهذا لم يرد في التاريخ ما يدل عليه.
كما يتعين أيضاً أن يكون الخليفة العالم بالخبر حريصاً على عدم التصريح به أمام أي شخص. إذ لو صرّح به أمام بطانته وخاصته لأنتشر الخبر، ولبدأت الحملات القوية ضد السفراء؛ من حيث إن القواد والموالي كانوا أشد تطرّفاً من أشخاص الخلفاء في ذلك، ولكان هذا االقول من الخليفة أحسن مستمسك ضده من قبل مواليه ومعارضيه على حد سواء.
البيان الثاني: أننا بعد أن عرفنا أنَّ أي خليفة من خلفاء هذه الفترة لا يمكنه أخذ الخبر من سلفه ولا من خاصته، كما لا يمكن أن نفترض أنه حصل عليه بعد توليه الخلافة من قبل بعض الموالين للسفراء، لأن شخص الخليفة، وهو على قمة الدولة، أولى مَن يجب الحذر منه، وأخص من ينبغي التكتم أمامه. ووصول الخبر إليه بالواسطة غير محتمل أيضاً لعد إطلاع أحد على سفارة السفير ما لم يكن قوي الإرادة، صلب الإيمان، قابلاً للصمود أمام المطاردة والتعذيب.
إذن، فيتعيّن أن يكون هؤلاء الخلفاء الاثنين أو الثلاثة، قد عرفوا حال السفراء قبل تولّيهم للخلافة، وتصيّدوا أخبارهم عن طريق اتصالهم ببعض القواعد الشعبية للسفير، من عامتهم أو خاصتهم، ممَّن يكون مسبوقاً بالخبر.
وإيضاح ذلك: أننا عرفنا أن الفرد من الخلفاء لم يكن عالماً بأنه سيتولّى الخلافة، وقد لا يخطر في ذهنه أن ذلك سيحدث له في يوم من الأيام، لكثرة رجال بني العباس الصالحين لها في نظره، وعدم ابتناء الخلافة على أساس قانوني مضبوط. وإنما يُنصَّب الخليفة عجالة بعد موت سلفه، تحت ظروف غير معينة وبرأي جماعة غير معينين، فاحتمال تولّي الفرد العباسي للخلافة كان ضعيفاً، بل قد يكون في غاية الوهن لدى الكثرة الكاثرة منهم.. إلاَّ بمجرد الصدفة وتجمّع الظروف المقتضية لذلك، عند موت أحد الخلفاء.. تلك الظروف المشوّشة التي لا يمكن أن يحسب لها حساب قبل أيام فضلاً عن أعوام.
وإذا كان الفرد بنفسه جاهلاً بخلافته، قبل حدوثها، فبالأولى أن يجهلها الناس، بل أن يغفلوا عنها غفلة مطلقة.
إذا عرفنا ذلك، فهمنا بوضوح كيف يتسنّى لجماعة من علماء العامة وأهل السنة، بما فيهم بعض بني العباس، الاتصال بالخاصة وغير الخاصة من الموالين لخط الأئمة (عليهم السلام)، وعقد المجالس العلمية المتعددة معهم، بل وعقد أوثق الصلاة القائمة على تبادل حسن النية في جملة من الأحيان بينهم، ولا زال هذا هو الديدن محفوظاً ومتّبعاً بين أصحابهم إلى هذه الفترة التي نؤرّخ لها.
ويكفينا أن نسمع حضور السفير ابن روح نفسه لمجالسهم، كما أن أبا سهل النوبختي كان يعرب عن مناظراته ومحاججاته(٥٤٩) إلى غير ذلك مما يطول تعداده. وبالجملة كان الارتباط بين علماء المذاهب الإسلامية كبيراً في بغداد في تلك الفترة. وكان الخاصة الموالون، إذا وجدوا من شخص انفتاحاً وتقبلاً وذهناً واسعاً وصدراً رحباً، ازدادوا ثقافة ومعرفة وإطلاعاً. وإذا اطمأنُّوا بشخص وأحسوا منه الميل إليهم والقناعة باتجاههم، زرقوا له بعض ما يعرفون مما هو أعلى من المستوى العام المعروف من الإسلام.
ومن ثم يكون المظنون، بل المتعيَّن جزماً، بعد سد سائر الاحتمالات الأخرى ـ كما سبق ـ أن يكون الراضي والمقتدر قد استقيا معرفتهما عن هذا الطريق.. حيث كانا قبل خلافتهما يعيشان العقيدة على البساطة والصفاء، بعيداً عن جو الدولة الصاخب، فامتزجا بعلماء الخاصة فأحسّوا منهما الانفتاح والميل إلى حد ما، فزرقواا إليهما بعض ما يعتبر سراً عن الآخرين كاسم السفير وعمله.
ومن ثم لم يندهش الراضي من إيراد اسم الحسين ابن روح! ولم يستفسر من المتكلم عن حاله ولم يسأله عن سفارته ومكانه، فإن الحسين بن روح كان قد تولّى السفارة قبل خلافة الراضي بعدّة سنوات (عام ٣٠٥، واستخلف الراضي عام ٣٢٢، وتوفِّي ابن روح عام ٣٢٦ كما عرفنا)، فيمكن للراضي أن يكون قد عرف بسفارته قبل خلافته بزمن ليس باليسير. كما أن الراجح أن المقتدر، إنما يبدي الاحترام المتزايد لابن روح باعتبار ذلك.
وهذا البيان يشمل أي خليفة يفترض أنه يحمل فكرة عن السفراء من خلفاء تلك الفترة، ما عدا المعتمد الذي بدأت تلك الفترة أثناء خلافته، فإنه لا ضرورة إلى افتراض كونه مسبوقاً بالاتصال بعلماء الخاصة قبل خلافته، بل يكفي فيه ما علمناه من احترام الإمام العسكري (عليه السلام) والإيمان بقدسيته وصدق سجيته.. إلى حد طلب منه أن يدعو له، فإن مسلك الإمام في العلم والتقوى، كافٍ لأخذ مثل هذه النتائج المهمة.
ولم يُعلَم من المعتمد أنه كان عالماً بالسفراء بقليل ولا بكثير، وخاصة أن خبر السفارة في أول وجودها، وهو محاط بالكتمان والحذر، أقل انتشارا من أزمنتها المتأخرة. علماً أن شخص الخليفة وخاصته، هم أولى مَن يكتم عنه ويتَّقي منه، فلم يكن ليصل إليهم الخبر بحال من الأحوال، وإنما حصل بعض الخلفاء المتأخرين على الخبر، قبل خلافتهم، بصفتهم أفراداً من العامة المتفتِّحين.
البيان الثالث: أننا نستطيع أن نجيب عن السؤال الثالث بوجهين:
الوجه الأول: وهو مترتب على البيان الثاني الذي ذكرناه، وذلك: أن الخليفة العالِم بأمر السفراء، لمَّا لم يصبح عالماً بأمرهم إلاَّ بعد كونه منفتحاً على خطهم ومطمئناً إليه بقليل أو بكثير، فهو لا يستطيع التخلُّص نفسياً وفكرياً من هذا الاطمئنان، بعد توليه الخلافة.
إذن، فبالرغم من كونه يجد نفسه عالماً بحقيقة السفراء، ومسئولاً عن حماية خط الخلافة العباسي.. إلاَّ أنه يحس بالمسئولية أيضاً تجاه السفراء، في حفظهم والستر عليهم؛ وفاء للخط الذي انفتح عليه قبل خلافته، وفي الحدود التي لا تنافي الأمن العام في الدولة. ومعه فهو لا يصرّح برأيه لأحد من خاصته؛ حفاظاً على السفراء وعلى نفسه أيضاً.
أما محافظته على السفراء، فباعتبار علمه أنه لو صرّح بذلك لخرج الأمر من يده ولبدأت الحملات على السفراء وقواعدهم الشعبية من دون الرجوع إلى رأيه.. من قبل قوَّاده ووزرائه، فإنهم لا ينفتحوا انفتاحه ولم يروا رأيه.
وأما محافظته على نفسه، فلعلمه أنهم لو علموا بحاله لما انتخبوه، وأنهم على استعداد لإزالته بمجرد تهمته بذلك فضلاً عن العلم به منه. وعلى أي حال، نرى الخليفة يلوذ بالصمت تكتُّماً وحذراً.
ومن هنا يتضح: أن هذا الشأن خاص بالخليفة وحده ولا يشمل الآخرين. ومن هنا نجا السفراء من المطاردة الفعلية، واستطاعوا التكتم في عهد المقتدر والراضي العارفين بشأنهم؛ لأن مَن يعلم بهم ـ وهو شخص الخليفة ـ غير عازم على مطاردتهم، ومَن هو عازم على مطاردتهم ـ وهم الآخرون ـ غير عالمين بشأنهم.
كما يتضح: إن القواعد الشعبية العامة الموالية للدولة، بمختلف طبقاتها، كانت خالية الذهن عن اتصالات الخليفة قبل خلافته. أو أنهم ـ على الأقل ـ علموا بها ولكنهم لم يطلعوا على ميله وانفتاحه، ومن هنا وقع عليه الاختيار للخلافة. فإنه كان يتكتم جزماً بذلك قبل خلافته وبعدها، بحيث يخفى حاله على الآخرين وعلى التاريخ العام المدوّن أيضاً.
كما يتضح من ذلك: أنه يمكن القول: بأن قتل المقتدر للحسين بن منصور الحلاج عام ٣٠٩، وقتل الراضي لابن العزاقر الشلغماني عام ٣٢٢ كما سبق أن عرفنا ـ وكلاهما ادعى السفارة زوراً ـ، قد كان مستنداً إلى انفتاحهما أيضاً. أي أن ما قلناه سابقاً من أن قتلهما لهذين الرجلين المنحرفين، عمل مشترك في مصلحة خط السفراء.. هذا المعنى كان ملحوظاً للخليفة فعلاً، وإن ألبسه بلباس آخر، تكتماً وتحذراً.
يبقى سؤال واحد، وهو: أن الخليفة على فرض انفتاحه على خط السفراء وميله إليه، كيف رضي بأن يتولّى الخلافة، ولماذا لم يسلّمها إلى مَن يرى أنها حقه بعد أن تولاها.
ومختصر الجواب: أننا إن فرضنا أن الخليفة كان قد أصبح قبل خلافته شيعياً مخلصاً تماماً.. إذن، فقد يصبح معرَّضاً للقتل على تقدير تصريحه برأيه ورفضه للخلافة. على أنه ـ لو كان كذلك ـ لعلم أنه ليس هناك ممَّن يدفع الخلافة إليه، فإن المهدي (ع) غائب والسفير غير مأمور بتولِّي الخلافة.. كما أنه ليس هناك مَن يقبل تنازله عنها، فإنه لو تنازل يعود الحكم إلى شخص عباسي آخر، لا إلى من يعتقده أهلاً لذلك، ولعله يكون أسوأ اتجاهاً ضد السفراء منه فيما إذا تولاّها.
وإن لم نفترض في مثل هذا الخليفة ذلك، ولا حاجة إلى مثل هذا الافتراض بطبيعة الحال، بل يكفي فيه افتراض كونه وفيّاً للصحبة السابقة مع الخاصة، محترما ًلعلمهم وتقواهم.. وهذا هو الذي أكدنا عليه في البيان الثاني. فإن كان الحال كذلك، فإنه لا يحتمل في حقه رفض الخلافة حين تُعرض عليه، بما فيها من ملك وقوة وإغراء، فإنها مما تنال بالسيف وتهرق في سبيلها الدماء.. فكيف إذا حصل عليها بطريق سهل بسيط!
* * *
الوجه الثاني: أن نغض النظر عن الوجه الأول، فنفترض الخليفة عالماً بسفارة السفراء، وغير حريص عل الوفاء معه، بل يرى السير على خط الدولة ألزم، والمحافظة على أمنها وصيانتها أرجح.
إلاَّ أننا نقول: إنه كان عاجزاً عن تجريد الحملات على السفراء للقبض عليهم واستجوابهم وتعذيبهم. أو على الأقل لم يكن يرى من مصلحة الدولة حدوث ذلك.
وذلك: لما يراه الخليفة عياناً ويعيشه من التصدع في أركان الدولة والحروب في أطرافها عن قرب وعن بعد.. فصاحب الزنج أولاً، والقرامطة ثانياً، والخوارج ثالثاً، وقواد الأطراف رابعاً، ومشاكل الوزراء والحرس وتمرُّداتهم واحتجاجاتهم على كثير من الأوضاع خامساً.. كل ذلك مما يشتّت قوى الدولة ويدعها تحارب في عدة جبهات وتضطر لصرف الأموال في مختلف الجهات.
مضافاً إلى أن نجم الخلافة كان لا زال مستمراً بالأفول، ولم تواجه الأمة بعد المعتضد ـ خلال هذه الفترة ـ خليفة قوياً يؤبه به ويركن إليه. فالخليفة لم يكن يجد القدرة، أو لم يكن يجد المصلحة، في أن تفتح الدولة جبهة جديدة للحرب، بتجديد الحملات ضد السفراء، وما يحتمله من استتباع ذلك من تحرّكات وإراقة دماء في نفس العاصمة بغداد.. مسكن الخلافة والسفراء، وما قد يستتبعه من ثورات في الأطراف من قبل المخلصين الداعين إلى الرضا من آل محمد.. وقد عرفنا مقدار حذر الدولة من هذه الثورات وفرقها من حدوثها.
وما قلناه من قلة هذه الثورات خلال هذه الفترة.. إنما هو أمر ندركه بعد نجاز الحوادث وتمخض النتائج خلال التاريخ. ولم تكن الدولة يومئذٍ بمدركة لذلك، وهي تعيش تلك الأحداث مباشرة وقريبة العهد من كثير من هذه الثورات، ومعاصرة لبعضها بالفعل، والتي من أهمها دولة طبرستان. فكل ذلك مانع لا محالة للدولة عن أن تجرِّد الحملات ضد السفراء، حفاظاً على البقية االباقية من قوى الدولة، في جبهاتها المختلفة.
وهذا هو الذي يوضح لنا كيف أن الخليفة لا يصرِّح للآخرين بما يعلمه من أمر السفراء. فإنه يعلم أنه لو صرَّح بذلك لخرج الأمر من يده، ولبدأ الآخرون الحملات التي لم يكن مقتنعاً بكونها صحيحة وذات مصلحة بالنسبة إلى