فهرس المكتبة التخصصية
 كتاب مختار:
 البحث في المكتبة:
 الصفحة الرئيسية » المكتبة التخصصية المهدوية » كتب أخرى » موسوعة الإمام المهدي عليه السلام الكتاب الثاني تاريخ الغيبة الكبرى
 كتب أخرى

الكتب موسوعة الإمام المهدي عليه السلام الكتاب الثاني تاريخ الغيبة الكبرى

القسم القسم: كتب أخرى الشخص المؤلف: السيد محمد الصدر تاريخ الإضافة تاريخ الإضافة: ٢٠١٤/١٠/٢٠ المشاهدات المشاهدات: ٦٠٨٩٠ التعليقات التعليقات: ٠

موسوعة الإمام المهدي (عليه السلام)
الكتاب الثاني: تاريخ الغيبة الكبرى
يتكفل فهما إسلاميا جديدا لغيبة الإمام المهدي (عليه السلام) وشرائط ظهوره وعلاماته وتكليف الفرد المسلم خلال ذلك

تأليف: محمد الصدر

الفهرس

مقدمة الناشر

بحث تمهيدي في انقسام الغيبة

المقدمة

القسم الأول: تاريخ شخص الإمام المهدي عليه السلام

الفصل الأول: في السر الأساسي لغيبة المهدي عليه السلام

الفصل الثاني: في التكليف الاسلامي للإمام المهدي عليه السلام في غيبته الكبرى وما يقوم من أعمال

الفصل الثالث: في الحياة الخاصة للمهدي عليه السلام

الفصل الرابع: في مقابلاته خلال غيبته الكبرى

الفصل الخامس: مراسلته عليه السلام للشيخ المفيد رحمه الله

القسم الثاني: في تاريخ الانسانية في عصر الغيبة الكبرى

الفصل الأول: في تمحيص اخبار التنبؤ بالمستقبل

الفصل الثاني: فيما دلت عليه الأخبار من التنبؤات

الناحية الأولى: فيما تقتضيه القواعد العامة (التخطيط الإلهي لليوم الموعود)

الناحية الثانية: في ذكر النصوص الدالة على التنبؤ بالمستقبل

الفصل الثالث: في التكليف الاسلامي خلال عصر الغيبة الكبرى

العزلة أو الجهاد

التقية

الانتظار

القسم الثالث: في شرائط الظهور وعلاماته

الفصل الأول: في شرائط الظهور

التخطيط الخاص بايجاد القائد

الفصل الثاني: في علامات الظهور

في تحديد المنهج العام

في الحوادث التي دلنا التاريخ على حدوثها

في ما دل على اقامة المعجزات اكثر مما يقتضيه قانون المعجزات

في تعداد مفردات العلامات

أهم مصادر هذا التاريخ

مقدمة الناشر

من دواعي البهجة والسرور لنا تقديم هذا الكتاب القيّم للأمة الإسلامية لتتعرف على حياة قادتها الواقعيين وما يتمثل في غضونها من معاني الجمال وما جسدّه هؤلاء القادة من نُبلٍ وشموخ.
إن التعرف على حياة هؤلاء القادة وتحليل صفاتهم وأفعالهم لأمر ضروري للأمة وذلك لتتعرف على الإسلام العملي السائر على الأرض في هذه الشخصيات القيادية كما تعرفت عليه في جانب الفكر ثم تجعل منها نبراساً تستنير بها في ظلم الحياة. ومن الضروري أيضاً التمييز بين الغث والسمين من قضايا التاريخ من الأشخاص لئلا يجعل من بعضها حجة على وهن عقلية قوم أو صحة اعتقاد آخرين.
إن من عوامل عظمة الأمة وسموها أن تملك قادة عظماء في الأفكار والأعمال والآمال لأن هذا خير حافزٍ للأمة أن تبعث من جديد والذين يجدر بنا أن نسميهم قادة في الأمة الإسلامية – حقاً – هم الأئمة من أهل البيت ثم العلماء الذين تغذوا على موائدهم. والكتاب مهم جداً في موضوعه وموفق في غايته.
وهذا الكتاب هو الجزء الثاني من تاريخ الغيبة لمؤلفه الحجة السيد محمد الصدر حفظه الله أقوم الآن بتقديمه للقراء الكرام بعد أن قمت بنشر الجزء الأول منه. وكان الإقبال على الجزء الأول كبيراً مما دلّ على اهتمام الأمة بمثل هذه المواضيع الحساسة وشدة تعلقها بالاطلاع على تاريخ الزاهر ورجالها الأبطال. وخاصة إذا كانت هذه المواضيع ترق من قبل كتّاب قديرين كالكاتب الفاضل والمؤلف القدير، وكان ذلك مما حدا بي ودفعني للإقدام على نشر الجزء الثاني منه بتوفيق من الله.
ولقد تعوّد مني القراء دائماً أن أتحفهم بمثل هذه الكتابات الثمينة، وهكذا آليت على نفسي منذ افتتاح الدار أن أكون على مستوى المسؤولية كإنسان ملسم عليه مسؤوليته، فلا أنشر إلا ما فيه الهداية والخير للأمة وما فيه رضا الله وحبه، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

الناشر

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة على أشرف الخلق محمد وآله الطاهرين

بحث تمهيدي: في إنقسام الغيبة
- ١ -
لا شك أن للمهدي (عليه السلام) غيبتين اثنتين. وهذا من واضحات الفكر الإمامي، بل من قطعياته التي لا يمكن أن يرقى إليها الشك. ووافقهم عليه بعض علماء العامة. وقد وردت في ذلك الروايات في مصادر الفريقين.
روى السيد البرزنجي(١) عن أبي عبدالله الحسين بن علي عليهما السلام أنه قال: لصاحب هذا الأمر – يعني المهدي عليه السلام – غيبتان. إحداهما تطول حتى يقول بعضهم مات وبعضهم ذهب. ولا يطلع على موضعه أحد من ولي ولا غيره إلا المولى الذي يلي أمره.
وأخرج النعماني(٢) بإسناده عن إسحاق بن عمار قال سمعت أبا عبدالله جعفر بن محمد (ع) يقول: للقائم غيبتان إحداهما طويلة والأخرى قصيرة. فالأولى يعلم بمكانه فيها خاصة من شيعته. والأخرى لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة مواليه في دينه.
وأخرج(٣) عن إبراهيم بن عمر الكناسي قال سمعت أبا جعفر الباقر (ع) يقول: إن لصاحب هذا الأمر غيبتين.
وأخرج(٤) عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبدالله (ع) كان أبو جعفر (ع) يقول، لقائم آل محمد غيبتان إحداهما أطول من الأخرى، فقال: نعم... الحديث. وأخرجه الطبرسي في أعلام الورى(٥) أيضاً...
وأخرج النعماني أيضاً(٦) عن محمد بن مسلم الثقفي عن الباقر أبي جعفر (ع) أنه سمعه يقول: إن للقائم غيبتين. يقال في إحداهما: هلك، ولا يدري في أي واد سلك.
وأخرج أيضاً عن المفضل بن عمر قال سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: إن لصاحب هذا الأمر غيبتين، في إحداهما يرجع إلى أهله، والأخرى يقال: هلك في أي واد سلك.
وأخرج الشيخ(٧) عن حازم بن حبيب عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: يا حازم إن لصاحب هذا الأمر غيبتين، يظهر في الثانية. إن جاءك من يقول: أنه نفض يده من تراب قبره، فلا تصدقه.
إلى غير ذلك من الأخبار، وهي كثيرة وكافية للإثبات التاريخي.
- ٢ -
ولهم هذه الأخبار أطروحتان رئيسيتان:
الأطروحة الأولى:
وهي الموافقة للفهم غير الإمامي للمهدي (عليه السلام) القائل: بأن المهدي رجل يولد في زمانه فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً.
وهي: إن الغيبتين منفصلتان يتخللهما ويفصل بينهما ظهور للناس. ويكون الظهور بعد الغيبة الثانية هو يوم الثورة الكبرى. وتكون مدة كلتا الغيبتين محددة بسنين قليلة... توجبهما مصالح وقتية محددة ترجع إلى شخص المهدي (عليه السلام) أو إلى مصلحة انتصاره بعد الظهور.
وهذه الأطروحة هي المتعينة لا خيار في تعديها، طبقاً لهذا الفهم غير الإمامي... لوضوح عدم إمكان وجود الغيبة الطويلة، مع العمر المحدد من السنين.
وهذه الأطروحة هي التي فهمها البرزنجي(٨) من هذه الأخبار حين قال: وهاتان الغيبتان – والله أعلم – ما مر آنفاً أنه يختفي بحبال مكة ولا يطلع عليه أحد. قال: ويؤيده ما روي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر، أنه قال: يكون لصاحب هذا الأمر غيبة في بعض هذه الشعاب، وأومأ بيده إلى ذي طوى. أقول: ولم يذكر البرزنجي الغيبة الثانية.
الأطروحة الثانية:
وهي الموافقة للفهم الإمامي للمهدي (عليه السلام) القائل: بأن المهدي حي منذ ولادته في القرن الثالث الهجري إلى حين ظهوره في اليوم الموعود.
وهي الأطروحة التي فهمها العلماء الإماميون بشكل عام، ونص قدماؤهم على مضمونها بشكل خاص. وهي من ضروريات مذهبهم.
قال النعماني(٩) هذه الأحاديث التي يذكرونها: إن للقائم عليه السلام غيبتين، أحاديث قد صحت عندنا بحمد الله. وأوضح الله قول الأئمة عليه السلام وأظهر برهان صدقهم فيها.
فأما الغيبة الأولى، فهي التي كانت السفراء فيها بين الإمام وبين الخلق قياماً منصوبين ظاهرين موجودي الأشخاص... وهي الغيبة القصيرة التي انقضت أيامها وتصرمت مدتها. والغيبة الثانية هي التي ارتفع فيها أشخاص السفراء والوسائط، للأمر الذي يريده الله هو التدبير الذي يمضيه في الخلق بوقوع التمحيص والامتحان... وهذا زمان ذلك قد حضر... الخ كلامه.
وقال المفيد في الإرشاد(١٠): وله قبل قيامه غيبتان: إحداهما أطول من الأخرى، كما جاءت بذلك الأخبار. فأما القصرى منهما، منذ وقت مولده إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته وعدم السفراء بالوفاة، أما الطولى فهي بعد الأولى، وفي آخرها يقوم بالسيف.
وقال الطبرسي(١١): فانظر كيف حصلت الغيبتان لصاحب الأمر على حسب ما تضمنت الأخبار السابقة. أما غيبته الصغرى منهما فهي التي كان فيها سفراؤه موجودين وأبوابه معروفين، لا تختلف الإمامية القائلون بإمامة الحسن بن عليه (ع) فيهم... الخ كلامه.
وقال ابن الصباغ(١٢) – وهو مالكي المذهب –: وله قبل قيامه غيبتان: إحداهما أطول من الأخرى. فأما الأولى فهي القصرى، فمنذ ولادته إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته. وأما الثانية، وهي الطولى، فهي التي بعد الأولى. في آخرها يقوم بالسيف. قال الله تعالى: (لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون). إلى غير ذلك من الأقوال التي يطول المقام بنقلها.
وقد سبق أن عرفنا في التاريخ السابق، وسنزيده في هذا التاريخ توضيحاً... مقدار الفرق بين الغيبتين الكبرى والصغرى. وتتلخص الفروق فيما يلي:
أولاً: قصر مدة الغيبة الصغرى، إذ كانت حوالي السبعين عاماً. بخلاف الغيبة الكبرى، فإنها غير معروفة الأمد، باعتبار جهلنا بموعد ظهور المهدي (عليه السلام).
ثانيا: اقتران الغيبة الصغرى بالسفارة الخاصة، القائمة بين المهدي (عليه السلام) وقواعده الشعبية، وانقطاع ذلك في الغيبة الكبرى.
ثالثاً: انتهاء أمد الغيبة الصغرى بوفاة السفير الرابع على بن محمد السمري. وأما الكبرى، فلا زالت سارية المفعول، وتنتهي بيوم الظهور الموعود.
رابعاً: إن المشاهدين للمهدي (عليه السلام) خلال غيبته الصغرى، أكثر بنسبة مهمة عنهم في غيبته الكبرى.
ويمكن أن يكون الفرق الأول، هو سبب تسمية الغيبتين بالصغرى والكبرى... حيث تكون الأولى قصيرة والأخرى طويلة. كما يمكن أن يكون الفرق الأخير هو سبب التسمية، ويكون المقصود هو قلة الاحتجاب في الصغرى وكثرته في الكبرى.
وعلى ذلك فالغيبتان متصلتان لا يفصل بينهما ظهور.
وقد سبق في التاريخ السابق،(١٣) أن عرفنا الحكمة الأساسية من إيجاد الغيبة الصغرى، وهو التمهيد الذهني لوجود الغيبة الكبرى في الناس. إذ لو بدأ المهدي (عليه السلام) بالغيبة المطلقة فجأة، وبدون إنذار وإرهاص، لما أمكنا إثبات وجوده في التاريخ. فتنقطع حجة الله على عباده.
وستعرف في هذا التاريخ تفصيلاً وجه الحكمة من وجود الغيبة الكبرى، سواء ما يعود إلى المهدي نفسه أو إلى المخلصين من أصحابه أم إلى البشرية كلها من حيث ما يعود عليها من الخير في اليوم الموعود.
- ٣ -
وبالمقدار الذي تكتسبه الغيبة الكبرى من أهمية وصعوبة وعمق في المدى البعيد... يكون التركيز عليها في الأخبار. فبينما يكون التركيز على الغيبة الصغرى قليلاً. كالحديث الذي أخرجه الصدوق عن أبي عبدالله الصادق (ع) أنه قال: – في المهدي (عليه السلام) – يغيب عنكم شخصه ولا يحل لكم تسميته. وقد عرفنا في التاريخ السابق أن حرمة التسمية خاصة بعصر الغيبة الصغرى.
... نجد أن التركيز على الغيبة شديد في الأخبار.
أخرج النعماني(١٤) عن أبي عبدالله (ع) في حديث، قال فيه: والله ليغيبن سبتاً(١٥) من الدهر، وليخملن حتى يقال: مات أو هلك، بأي وادي سلك. ولتفيضن عليه أعين المؤمنين. ليكفأن كتكفئ السفينة في أمواج البحر، حتى لا ينجو إلا من أخذ الله ميثاقه، وكتب الإيمان في قلبه وأيده بروح منه... الخ الحديث. وذكر له عدة أسانيد.
وهذا بالضبط هو الذي سيحدث في عصر الغيبة الكبرى. على ماسنسمع فيه هذا التاريخ.
وأخرج أيضاً(١٦) عن موسى بن جعفر عليه السلام، أنه قال: إذا فقد الخامس من ولد السابع فالله الله في أديانكم، لا يزيلنكم عنها. فأنه لا بد لصاحب هذا الأمر من غيبة، حتى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به. إنما هي محنة من الله يمتحن الله بها خلقه... الحديث.
وأخرج(١٧) عن أبي الجارود عن أبي جعفر (ع) قال: قال لي: يا أبا الجارود، إذا دار الفلك، وقالوا: مات أو هلك وبأي واد سلك، وقال الطالب له: أنى يكون ذلك، وقد بليت عظامه. فعتد ذلك، فارتجوه. الحديث.
وعن(١٨) أبي عبدالله: إن القائم إذا قام يقول الناس: أنى ذلك وقد بليت عظامه.
وعن(١٩) أبي عبدالله أنه قال: إذا فقد الناس الإمام، مكثوا سبتاً لا يدرون أياً من أي. ثم يظهر الله عز وجل لهم صاحبهم.
وعنه (ع)(٢٠) قال: كيف أنتم إذا صرتم في حال لا يكون فيها إمام هدى ولا علماً يرى... الحديث.
وأخرج الصدوق(٢١) هم تلجسيم بم هلي عليه السلام في حديث: له غيبة يرتد فيها أقوام ويثبت على الدين فيها آخرون. فيؤذن ويقال لهم: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين. أما أن الصابر في غيبته على الأذى والتكذيب بمنزلة المجاهد بين يدي رسول الله وآله الطاهرين الأخيار.
وعن علي بن الحسين عليه السلام أنه قال:... ثم تمتد الغيبة بولي الله الثاني عشر... أن أهل زمان غيبته، القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره، أفضل من أهل كل زمان، لأن الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة. وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله بالسيف... الحديث.
- ٤ -
فهذه هي الأخبار التي تدل على أهمية الغيبة في المدى البعيد. وأما الأخبار التي تدل عليها بشكل مباشر، فكثيرة:
أما الغيبة الصغرى، فيدل عليها كل أخبار السفراء الأربعة والوكلاء والمعارضين المنحرفين والتوقيعات الصادرة عن المهدي (عليه السلام) وكل من رآه منذ ولادته إلى نهاية ذلك العصر... إلى غير ذلك من الأخبار التي سمعناها تفصيلاً في التاريخ السابق.
وأما الغيبة الكبرى، فيدل عليها ما سنذكره من أخبار المشاهدة وأخبار التمحيص وأخبار الانتظار وفضل المنتظرين. وأخبار علامات الظهور، وما دل على فساد الزمان وانحراف أهله، وغير ذلك، فأنها جميعاً مرتبطة ارتباطاً عضوياً بعصر الغيبة الكبرى على ما سنعرف.
- ٥ -
وبمجموع هذه الأدلة، نستطيع أن ننفي الأطروحة الأولى التي ذكرناها في الفقرة الثانية من هذا البحث.
وذلك لوضوح أنها لا تنسجم مع شيء من هذه الأدلة:
أما أخبار الغيبة الصغرى، فواضح، باعتبار أن الأطروحة الأولى لا تدعي وجود السفراء والوكلاء والمعارضين والتوقيعات خلال الغيبة الأولى. بل لم يثبت عن هذه الأطورحة أنها تدعي أن الغيبة الأولى أصغر من الثانية، في المدة أو في درجة الاختفاء.
وأما أخبار الغيبة الكبرى، فلما سنعرفه من أن أي شيء من التمحيص والانتظار وعلامات الظهور، لا يمكن أن يحدث إلا في دهر طويل. وكذلك لا معنى لاخبار المشاهدة وهي متواترة مضموناً، مع الاختفاء القليل الذي يمتد مثلاً لخمس سنوات أو عشر.
مضافاً إلى أن ما تقول به الأطروحة الأولى من ظهور المهدي بين الغيبتين... مما لا يفهم وجهه. إذ يبقى التساؤل عن أنه لماذا يظهر إذا لم يكن عازماً على أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
فإن قال قائل: أنه يظهر بعد الغيبة الأولى ليقوم بمهمته الكبرى، لأنه يتخيل وجود فرص النجاح، وحيث انها غير موجودة في الواقع، فإنه يفشل في مهمته، فيختفي مرة ثانية ليظهر بعد ذلك فيقوم بمهمته خير قيام.
نقول: إن عهدة هذا القول على مدعيه، إذ يتصور المهدي (عليه السلام) قاصر التدبير والتفكير من النواحي الاجتماعية والسياسية والعسكرية، بحيث يمكن أن يسيطر عليه خيال كاذب. أما المهدي الذي ذخره الله تعالى ليومه الموعود، وخطط لنجاح مهمته تخطيطاً مضبوطاً عميقاً، على ما سنسمع، فهو قائد عالمي، من المستحيل أن يقع في مثل هذه الأوهام.
- ٦ -
هذا، وقد نرى أئمة الهدى عليهم السلام، يخاطبون الناس على قدر عقولهم، كما هو المفروض في كل كلام بليغ. فهم يأخذون المستوى العقلي والثقافي والإيماني لمجتمعهم بنظر الاعتبار حين يتحدثون عن المهدي (عليه السلام). فإذا كان المخاطب والسامع ذا مستوى عال، كان الجواب عميقاً ومفصلاً، وإذا كان ذا مستوى واطئ، كان الجواب مختصراً وناظراً إلى زاوية معينة متجنباً الخوض الكامل في الجواب... طبقاً لهذا القانون.
أخرج النعماني(٢٢) والصدوق(٢٣) عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أنه قال – في كلام له –: يا بني عقولكم تضعف عن هذا وأحلامكم تضيق عن حمله. ولكن أن تعيشوا فسوف تدركوه.
وطبقاً لهذا الاتجاه نسمع الأخبار التالية:
أخرج النعماني(٢٤) عن أبي عبدالله (ع) أنه قال: لو قد قام القائم لأنكره الناس، لأنه يرجع إليهم شاباً موفقاً... وإن من أعظم البلية أن يخرج إليهم شاباً وهم يحسبونه شيخاً كبيراً.
وهذا الخبر صادق تماماً، لأن المهدي (عليه السلام) سوف يظهر شاباً. كما أن من البلاء العظيم والامتحان العميق أن يخرج شاباً، إذا كانوا يفكرون كونه شيخاً كبيراً. ولكنه لم يقل أنهم يفكرون فعلاً بذلك، ومن هنا يكون الاختصار في العطاء.
إن هذا الخبر يوحي بوضوح أن مدة الغيبة سوف لن تتجاوز مدة العمر الطبيعي الذي يكون به الفرد شيخاً، غير أن الله تعالى سوف يحفظ للمهدي شبابه خلال هذه المدة. وهذا العطاء منسجم مع تلك الذهنية التي لا يمكن أن تستوعب بحال، العمر الطويل الذي يمتد مئات السنين.
ومن الواضج أن الناس سوف لن يحسبوه شيخاً، إذ مع تمادي العمر مئات السنين، ينتفي من الذهن مفهوم الشيخوخة تماماً، ويبقى تطور شكل الإنسان بالقدرة الإلهية وحدها، تلك القدرة التي حفظته هذا المقدار من السنين.
ونحو ذلك الخبر السابق عن الإمام موسى بن جعفر(ع) الذي يقول فيه: ولكن أن تعيشوا فسوف تدركوه. فأنه من المؤكد أنهم لو عاشوا لأدركوه، ولو استلزم عيشهم أن يبقوا في الحياة مئات السنين. ولكنه لم يقل أنهم سوف يعيشون فعلاً إلى عصر الظهور.
غير أن الانطباع الأولي لأهل ذلك العصر، عن هذا الحديث، هو أن الظهور يمكن أن يحدث خلال عمر طبيعي للإنسان... أو أنه يحدث كذلك فعلاً. وأخرج الصدوق(٢٥) عن زرارة عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: ان للقائم غيبة قبل ظهوره. قلت: ولم. قال: يخاف. وأومأ إلى بطنه. قال زرارة: يعني القبل.
وعن أبي عبدالله الصادق (ع) قال: للقائم غيبة قبل قيامه، قلت: ولم. قال: يخاف على نفسه الذبح.
وهذا صحيح. إلا أنه لم يحدد مقدار الغيبة ولا انقسامها، تبعاً لمستوى السامعين. وأخرج النعماني(٢٦) عن أبي جعفر بن محمد بن علي عليهما السلام أنه قال: يكون لصاحب هذا الأمر غيبة في بعض هذه الشاعب. وأومأ بيده إلى ذي طوى... الحديث. وقد احتج البرزنجي(٢٧) بهذا الحديث لأجل استبعاد الفهم الأمامي للمهدي. ولا بد أن يكون مراده أن الغيبة بين الشعاب لا تكون إلا خلال العمر الطبيعي للإنسان.
وهذا المضمون وإن ناقشناه في التاريخ السابق(٢٨)... إلا أنه يمكن القول بصحته، بعد التنزل – جدلاً – عن تلك المناقشة. ولا يكون الخبر منافياً مع الفهم الإمامي بحال. لوضوح أنه يمكن أن نتصور المهدي (عليه السلام) ساكناً في الشعاب والبراري والقفار طيلة غيبته مهما طالت. ولا يتعين كونها غيبة ذات مدة قليلة، كما هو معلوم.
قد سمعنا في التاريخ السابق(٢٩) ما روي عن الإمام المهدي (عليه السلام) نفسه، فيما قاله لعلي بن المازيار: يا ابن المازيار، أبي أو محمد عهد إليّ أن لا أجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم ولهم الخزي في الدنيا والآخرة ولهم عذاب أليم. وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلا أوعرها، ومن البلاد إلا عفرها. إذن فمن الممكن أن يكون المراد من كلا الخبرين، مضمون واحد. غير أن هذا المضمون لم يثبت تاريخياً، كما سمعنا في التاريخ السابق، وسيتضح بجلاء في القسم الأول من هذا التاريخ.
- ٧ -
بقيت علينا بعض الاستفهامات التي قد تثار حول بعض ما سبق.
الاستفهام الأول:
إن بعض الأخبار، التي رويناها في الفقرة الأولى من هذا البحث، دلت على أن الغيبة الطويلة، تحدث قبل القصيرة. كقوله في بعضها: للقائم غيبتان إحداهما طويلة والأخرى قصيرة. وقوله في الخبر الآخر: إحداهما أطول من الأخرى. وهذا ما دل على ما ذكرناه.
وجوابه: إن المراد من ذلك، الإخبار عن وجود الغيبتين. وأما تقديم الغيبة الطويلة بالذكر، فباعتبار أهميتها لا باعتبار سبقها الزماني على الغيبة الأخرى. وقد قال في نفس الخبر: فالأولى يعلم بمكانه الخاصة من شيعته، والأخرى لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة مواليه في دينه. وهو نص بتقدم الغيبة الصغرى التي تتصف بقلة الاحتجاب على صاحبتها.
الاستفهام الثاني:
قوله في بعض تلك الأخبار: يظهر في الثانية. فأنه دال على أنه (ع) يظهر خلال الغيبة الثانية. فكيف يصح ذلك؟
وجوابه: أن هذه الفكرة التي فهمها السائل تتضمن تهافتاً في التصور، لتنافي الغيبة مع الظهور، فلا معنى لأن يظهر وهو غائب. وإنما المراد أنه يظهر بعد انتهاء الغيبة الثانية. كما هو معلوم.
الاستفهام الثالث:
قوله في بعض تلك الأخبار: إن لصاحب هذا الأمر غيبتين في إحداهما يرجع إلى أهله. وهو دال على أن المهدي (عليه السلام) خلال الغيبة الصغرى يرجع إلى أهله. فما معنى ذلك؟
وجوابه: أننا سمعنا في التاريخ السابق(٣٠) أن الإمام المهدي (عليه السلام) كان ساكناً في دار أبيه في سامراء ردحاً من عصر غيبته الصغرى. وهو دار أهله بطبيعة الحال، كما نطق هذا الخبر. ويحتمل أن يكون المراد إعطاء فكرة قلة الاختفاء خلال الغيبة الصغرى، مشبهاً بمن يخرج من أهله ويعود. ومن هنا يقول في الخبر – بالنسبة إلى الغيبة الكبرى –: والأخرى يقال: هلك في أي واد سلك.
الاستفهام الرابع:
سمعنا المفيد فيما سبق يقول: فأما القصرى منهما، منذ وقت مولده إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته. وكذلك قال ابن الصباغ.
على حين سمعنا من التاريخ السابق(٣١) أن أول الغيبة الصغرى هو يوم وفاة الإمام العسكري (ع) والد المهدي (عليه السلام). وليس أولها ولادة المهدي نفسه... وإن كان مختفياً فعلاً خلال حياة أبيه. فأي الوجهين هو الصحيح؟
وجوابه: إن الوجه الذي اخترناه في التاريخ السابق هو الصحيح، وهو بدء الغيبة الصغرى، بوفاة الإمام العسكري (ع)، وقد سبق أن برهنا عليه هناك.
- ٨ -
وبكل ذلك، يتبرهن انقسام الغيبة إلى صغرى وكبرى، بالمفهوم الإمامي.
وإذا كان هذا من صفات المهدي (عليه السلام) ولم ينسجم إلا مع المفهوم الإمامي، يتعين الأخذ بهاذا المفهوم بالخصوص.
وطبقاً لذلك، كتبنا فيما سبق تاريخ الغيبة الصغرى أولاً، ونكتب الآن تاريخ الغيبة الكبرى، وهو هذا الكتاب الذي بين يديك.

مقدمة

الغيبة الكبرى هي الزمان الذي يبدأ بانتهاء الغيبة الصغرى، بالإعلان الذي أعلنه الإمام المهدي عليه السلام، عام ٣٢٩ للهجرة، بانتهاء السفارة وبدء الغيبة التامة وأنه لا ظهور إلا بإذن الله عز وجل.(٣٢)
وهو الذي ينتهي بيوم الظهور الموعود الذي يبزغ فيه نور الإمام المهدي عليه السلام، وتسعد البشرية بلقائه ليخرجها من الظلمات إلى النور، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
ومعه نكون الآن معاصرين لهذه الفترة التي نؤرخها، وسبقى الناس معاصرين، لها، حتى يأذن الله تعالى بالفرج.
والإسلام والمسلمين يمرون في هذه الفترة بأصعب الظروف التي عاشوها، بل التي عاشها أهل سائر الأديان السماوية، بشكل عام. باعتبار ما تتصف به من خصائص ومميزات يجعلها من أحرج الأحوال في منطق الإسلام بالنسبة إلى ما سبقها وما يلحقها من الدهور.
الخصيصة الأولى:
وهي الرئيسية التي تعطي هذه الفترة شكلها المعتاد. وهي: أن المسلمين منقطعون بالكلية عن قائدهم وموجههم وإمامهم، لا يجدون إلى رؤيته والتعرف عليه سبيلاً، ولا إلى الاستفادة من أعماله وأقواله طريقاً. ولا يجدون له وكيلاً أو سفيراً خاصاً، ولا يسمعون عنه بياناً ولا يرون له توقيعاً، كما كان عليه الحال خلال الغيبة الصغرى. إذ في هذه الفترة التي نؤرخها يكون كل ذلك قد انقطع بشكل عام.
وبذلك تتميز هذه الفترة عن سائر الفترات في عمر الإسلام والمسلمين. فهي تختلف عن زمان وجود النبي (ص) وزمان الأئمة الاثني عشر عليهم السلام زمان ظهور المهدي عليه السلام، بوجود القائد والموجِّه خلال تلك الفترة دون هذه الفترة. وتختلف عن زمان الغيبة الصغرى بوجود السفراء للمهدي (عليه السلام) وصدور البيانات والتوقيعات عنه، خلال تلك الفترة، دون هذه الفترة التي نؤرخها.
الخصيصة الثانية:
سيادة الظلم والجور في الأرض، بمعنى انحسار الإسلام بنظامه العادل عن المجتمعات البشرية، وما تعانيه البشرية – نتيجة لذلك – من أنحاء التعسف والانحراف والظلم والحروب.
وبذلك تتميز هذه الفترة عن زمان سيادة النظام الإسلامي الكامل، وهو ما كان في زمان وجود النبي (ص) وإقامته لدولة الحق، وما سيكون عند ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) وإقامته لدولة الحق أيضاً.
وتشترك فترة الغيبة الكبرى، بهذه الخصيصة، مع كل أزمنة انحسار الإسلام – ولو انحساراً جزئياً – عن واقع الحياة. كأزمنة الخلفاء الأمويين والعباسيين. وإن كانت ظروفنا المتأخرة أشد وأقسى مما قبلها من حيث سيادة المبادئ المادية وقسوة الظلم والتعسف، وتهديد البشرية بالفناء بالحرب العالمية الثالثة.
الخصيصة الثالثة تأكد الامتحان الإلهي ووضوحه:
فإن كل فرد – على الإطلاق – يواجه في هذه الفترة مزالق ثلاثة، تشكل خطراً على دينه وعلى دنياه، وبمقدار ما يبذله من تضحية وما يملكه من قوة في الإرادة، فأنه يستطيع أن يضمن سعادته وحسن مستقبله ونجاحه في الامتحان الإلهي.
المزلق الأول:
ما يواجهه الإنسان من شهوات ونوازع ذاتية طبيعية، تتطلب منه الإشباع بإلحاح، ولا يسكن صوتها إلا بالإشباع التام، وهي تتطلبه من أي طريق كان، لا تعين لصاحبها الطريق المشروع خاصة. بل يمكن أن تطلق لصاحبها العنان فلا يبصر ما بين يديه من قوانين وتقاليد وأديان وحدود.
وهذا المزلق غير خاص بعصر الغيبة الكبرى، ولكنه فيها أكد وأشد تأثيراً باعتبار زيادة الإغراء وتلبيس الانحراف باللبوس المنطقي الزائف.
المزلق الثاني:
مواجهة الإنسان لضروب الاضطهاد والضغط والصعوبات التي يواجهها في طريق الحق والإيمان. مما يحتاج في مكافحته إلى قوة في الإرادة والعزم على التضحية.
وهذا المزلق يواجهه الفرد في زمن انحسار الإسلام عن واقع الحياة. بما في ذلك زمان الغبية الكبرى.
المزلق الثالث:
مواجهة الإنسان لضروب التشكيك في وجود الإمام القائد المهدي عليه السلام، كلما طال الزمان وابتعد شخص الإمام عن واقع الحياة، وطغت على الفكر الإنساني التيارات المادية التي تستبعد عن حسابها عالم الروح، وكل ما هو غير محسوس ولا منظور.
وهذا المزلق، يواجهه الفرد في زمان غيبة الإمام عليه السلام. وخاصة في غيبته الكبرى التي ينعدم فيها السفراء. وبالأخص بعد النهضة الأوروبية المادية وبدء عصر الاستعمار وطغيان التيار المادي العالمي الجارف.
وبمقدار ما يستطيع الفرد من تحصيل المناعة ضد هذه التيارات، والصمود الفكري أمامها، والتركيز على مفاهيم الإسلام وبراهينه، فأنه يستطيع أن يضمن سعادته عند الله عز وجل في الدنيا والآخرة.
وكل هذه المزالق الثلاثة، تجتمع بإلحاح وتأكيد، في عصر الغيبة الكبرى بشكل واضح وصريح. ومن هنا كان الامتحان الإلهي لصلاحية الفرد إسلامياً وقوة إرادته إيمانياً، كان شديد الوقع كبير التأثير صعب الاجتياز. ومن هنا ورد في بعض النصوص عن أئمة الهدى عليهم السلام حين سئلوا عن موعد ظهور المهدي (عليه السلام): لا والله حتى تمحصوا، ولا والله حتى تغربلوا، ولا والله حتى يشقى من يشقى ويسعد من يسعد.(٣٣)
وهذا الامتحان الإلهي إنما شرع وأنجز "ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينة".(٣٤) فإن من يشقى وينحرف، يكون مقتنعاً بصواب رأيه وعمله، فيهلك شقياً منحرفاً، فيستحق اللعنة الإلهية والخسران الأبدي. وأما من سعد بإيمانه نتيجة للامتحان، فإن إيمانه يكون صلباً قوياً ممحصاً، بمعنى كونه ثابتاً رغم الظلم والطغيان، ونتيجة للصمود والانتصار. وهو من أعظم وأوعى الإيمان. فيحي كل منهما ببينة، ويهلكان عن بينة.
صيغة البحث ومصاعبه:
إن تاريخ الغيبة الكبرى، من حيث حوادثه العامة لعله من أوضح التواريخ وأسهلها تسجيلاً، لأنه من التواريخ القريبة أو المعاصرة التي لا زلنا نعيشها ونمارس حوادثها.
إلا أن تاريخ هذه الفترة، فيما يخص المهدي عليه السلام، من أشد الغموض والتعقيد، وصعوبة الاستنتاج، لما سنشير إليه من العوامل. فإن الباحث الذي يطرق هذا الباب سوق يواجه عدداً ضخماً من الأسئلة لا بد من الجواب عليها، ليكون البحث بحثاً تاريخياً منظماً واعياً إسلامياً. وأما مع إهما بعضها أو قسم منها، فأننا سنواجه فراغات أو فجوات تاريخية مؤسفة.ومن هنا تكون وظيفة الباحث تحصيل الجواب على أكثر الأسئلة – على الأقل – ليتم لنا التاريخ المنظم الكامل الواعي.
فمن الأسئلة التي نواجهها: التساؤل عن مكان الإمام المهدي (عليه السلام) في غيبته الكبرى، وطريقة حياته، وأسباب عيشه الاعتيادية، وهل يواجه الناس، ومتى يواجههم، وماذا يقول لهم، وما هي سياسته العامة أمام المجتمع بشكل عام، وتجاه قواعده الشعبية المؤمنة به، بشكل عام، وتجاه الذين يقابلونه بشكل خاص.
وكيف يقضي وقته الطويل في خلال هذه السنين المترامية والقرون المتطاولة.
وهل هو متزوج وله ذرية أم لا؟ وإذا كان متزوجاً فمن هي زوجته، وأين هم أولاده؟ وإذا لم يكن متزوجاً، فهل يمكنه الزواج، ومتى يتزوج؟
ثم أنه هل من المستطاع تخمين وقت ظهوره إجمالاً؟ وما هي العلامات التي نعرف بها قرب وقت الظهور. وهذه العلامات الواردة في الأخبار، ما الذي يصح منها وما الذي لا يصح. وما هو الأسلوب الواعي الذي يمكننا أن نفهم به من هذه العلامات... إلى غير ذلك من الأسئلة الكثيرة المتنوعة.
والجواب على عدد من هذه الأسئلة، وإن كان ممكناً على ضوء ما وردنا من الأخبار عن المعصومين عليهم السلام ومن الأخبار التي تضمنت مشاهدة الإمام عليه السلام. إلا أن عدداً آخر من الأسئلة لم يرد جوابه في رواية على الإطلاق، أو ورد جوابه غامضاً مجملاً، أو بشكل قام الدليل العقلي أو الشرعي على فساده وبطلانه.
ومن هنا نستطيع أن نلخص عوامل التعقيد والغموض في هذا البحث في العوامل التالية:
العامل الأول:
ضآلة أو انعدام الدليل الصالح للجواب على بعض الأسئلة، كما أشرنا، كالإشارة إلى مكانه أو طريقة حياته أو تحديد سياسيته العامة تجاه الآخرين... كما سنسمع.
العامل الثاني:
إن بعض ما وردنا من الأخبار، قام الدليل على بطلانها، واقتضت القواعد العقلية أو الشرعية بطلانها. وذلك نتيجة لعد العوعي، والانحراف الذي عاشه بعض الرواة نتيجة تأثرهم بعوامل الشر السائدة في عصور الغيبة الكبرى. ومن هنا كان لا بد من أخذ الأخبار بحذر، والنظر إليها بمنظار النقد.
العامل الثالث:
إن أغلب بل جميع ما وردنا من الأخبار مما يصلح تاريخياً لهذه الفترة، لا نجدها تواجه المشكلة المطروحة بصراحة أو تعطينا الجواب بوضوح.
بل نراها بجميع أساليبها وحقولها تحيط المهدي (عليه السلام) بهالة من القدس والغموض، بحيث لا يمكن الكلام المباشر عنه، أو الخوض في حاله. وكأنه لا بد من إعطاء صورة واحدة من حياة وقسم صغيرة من واقع، لا يكاد يسمن من جوع أو يغني عن سؤال.
ومن هنا يضطر الباحث إلى استشمام ما وراء الحوادث والنظر إلى الدلالات البعيدة، ومحاولة إيجاد النظر الجموعي إلى الأخبار وتكوين نظرة عامة موحدة عن الجميع، قائمة على أساس صحيح من حيث قواعد الإسلام.
العامل الرابع:
عدم مشاركة المسلمين من إخواننا العامة في هذا الحقل. فإنهم رووا في ميلاده ورووا في ظهوره، إلا أنهم لم ينبسوا ببنت شفة تجاه أخبار الغيبة الكبرى، ما عدا بعض النوادر من أخبار مشاهدتهم للمهدي خلال هذه الفترة.
والعذر لهم في ذلك واضح عقائدياً، وذلك لأنهم لا يرون وجود المهدي خلال هذه الفترة، بل يذهب أكثرهم إلى أن المهدي شخص يولد في وقته المعين عند الله تعالى ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً.
وأما نحن، فحين نقيم الدليل على حياته من حيث إمكانها وتحققها، فينفتح الكلام عن الغيبة الكبرى سخياً موفراً بما فيها من حقائق وتاريخ. أما هذه الدليل المشار إليه فهو موكول إلى أجزاء آتية من هذه الموسوعة. وأما التاريخ فهو مما يتكلفه هذا الكتاب.
ويكاد الكلام أن ينحصر فيما ورد من طرق الإمامية من الأخبار، فيكون عددها – ولا شك – أقل بكثير مما لو شاركت أخبار العامة بإمدادها نصاً أو معنى.
إلا أن ذلك مما لا يكاد يخل بغرضنا من هذا البحث، فإن الغرض الأساسي منه هو إثبات الفكرة الكاملة عن الإمام المهدي (عليه السلام) كما تعتقدها قواعده الشعبية، وكما تقتضيها قواعد العقل والإسلام، خالية من الزوائد والخرافات والانحرافات. ليرى منكروها – من أي صنف كانوا من البشر – مقدار ما في الفكرة الإمامية عن المهدي من عدالة ووعي إسلاميين.
ومعه، فينبغي الاقتصار على ما ورد في طرقنا من أخبار وعلى ألسنة مؤرخينا من كلام، حتى تبرز الصورة المطلوبة من خلال ذلك، دون زيادة أو تحريف.مع ضم القليل مما ورد من أخبار العامة صالحاً لتاريخ هذه الفترة، فأنه يكون أيضاً محطاً للاستدلال والاعتماد، عندما نخرج بصحته بعد التمحيص.
تذليل هذه المصاعب:
يكون تذليل الصعوبات المنهجية الناتجة عن هذه العوامل، باتخاذ منهج معين وقاعدة عامة يمكن تطبيقها والاستفادة منها في جميع الموارد، وتحصيل الجواب الشافي عن كل سؤال على أساسها.
وملخص المنهج الذي سنسير عليه، هو: إن السؤال المُثار تاريخياً، له صورتان. إحداهما: أن يوجد في الأخبار ما يصلح أن يكون جواباً عنه. وثانيتهما: أن لا يوجد في الأخبار شيء من ذلك. ويقع الحديث عن كل من الصورتين مستقلاً:
الصورة الأولى:
ما إذا كان الجواب على السؤال التاريخي، موجوداً في الأخبار. ففي مثل ذلك لا بد من النظر الفاحص الناقد الممحص، وعرضه على القواعد العامة العقلية والشرعية. وحينئذ، فلا يخلو أمره: أما أن ينسجم معها أو لا ينسجم. وعلى كلا التقديرين فأما أن يوجد له معارض من الأخبار أو لا يوجد. إذن يكون للجواب عدة حالات.
الحالة الأولى:
أن يكون مضمون الخبر أو العدد من الأخبار، الصالح لتذليل المشكلة التاريخية، منسجماً مع القواعد العامة العقلية والشرعية ولا يكون له معارض. فنأخذ به ونسير عليه. ولا إشكال في ذلك.
ونقصد بالانسجام مع القواعد، مجرد عدم التنافي بين مضمون الخبر وبينها. بمعنى أنه لا توجد قاعدة عامة نافية له أو دالة على بطلانه. وأما الانسجام بمعنى الاتفاق معها في المضمون، فهو غير محتمل، لأن شأن القواعد العامة عدم التعرض إلى الموارد الخاصة والخصائص التفصيلية. فتبقى درجة إثبات الخبر لمضمونه بمقدار ما له من قوة إثبات واعتبار ووثاقة في الراوي وترابط في المدلول، وعدد في النقول التاريخية ووجود الشواهد والقرائن على صحتها. ونحو ذلك. ولا بد – على هذا المستوى – من جمع الأخبار، والنظر إلى موارد اتفاقها واختلافها، وما تستقل ببيانه بعض الأخبار دون بعض، لكي يستنتج من ذلك نظرية متكاملة تدل عليها سائر الأخبار ولا ينافيها شيء منها. لكي تصلح أن تكون هذه الأطروحة أو النظرية جواباً شافياً عن السؤال التاريخي أوالمشكلة المطروحة.
الحالة الثانية:
أن يكون مضمون الخبر، خالياً عن المعارض، إلا أنه معارض مع القواعد العامة العقلية أو الشرعية. ومن المعلوم – في مثل ذلك – لزوم طرحه وعدم الأخذ به.
إلا أننا نود أن نشير إلى أن الساقط من الخبر يكون محدداً بحدود المدلول الباطل، دون غيره. فلو احتوت رواية واحدة على مضمون باطل ومضمون صحيح، أخذنا بالصحيح ورفضنا الباطل، ولا يستدعي رفض بعضها رفض الجميع. وعلى أي حال، فلو سقط مضمون الخبر، ولم يصلح لحل المشكلة، ولم يكن غيره موجوداً، كان المورد – في الحقيقة – خالياً عن الإثبات التاريخي، فيندرج في الصورة الثانية الآتية:
الحالة الثالثة:
أن يكون مضمون الخبر معارضاً بمثله، فكان لدينا على السؤال التاريخي جوابان متعارضان في الأخبار. فأي من الجوابين أو الخبرين نقدم؟ هذا له عدة أشكال:
الشكل الأول:
أن يكون أحد الخبرين منسجماً مع القواعد العامة دون الآخر. فنأخذ بالمنسجم بطبيعة الحال، وندع الآخر، لأن انسجام الخبر مع القواعد يكون مرجحاً له في مورد التعارض.
الشكل الثاني:
أن يكون كلا الخبرين المتعارضين غير منسجمين مع القواعد العامة، فيتعين طرحهما معاً، ويبقى السؤال خالياً عن الجواب، فيندرج في الصورة الثانية الآتية.
الشكل الثالث:
أن يكون كلاهما منسجمين مع القواعد العامة، أي أنها لا تنافي أياً منهما. ففي مثل ذلك لا بد من الرجوع إلى القرائن الخاصة للترجيح، ككثرة الأخبار في أحد الجانبين أو اعتضاده بنقول أخرى، ونحو ذلك، وإن لم توجد مثل هذه القرائن فلا بد من الالتزام بتساقط المضمونين. فيكون المورد كأنه خال عن الخبر يعجز كل منهما عن الإثبات التاريخي. فيندرج السؤال في الصورة الثانية الآتية. ونكرر هنا أيضاً، أن سقوط بعض مداليل الخبر نتيجة للتعارض، غير موجب لسقوط جميع ما دلت عليه من مضامين.
الصورة الثانية:
ما إذا كان المورد خالياً عن الجواب في الأخبار بالمرة، أو كان الخبر الدال على وجوبه ساقطاً عاجزاً عن الإثبات، لفساده بحسب القواعد العامة أو نتيجة للتعارض، بالنحو الذي أوضحناه في الصورة الأولى.
وفي مثل ذلك يبقى المورد خالياً عن الجواب، ويمكن اعتباره فجوة تاريخية مؤسفة بالنسبة إلى الأخبار. وينحصر تحصيل الجواب عليه من القواعد العامة والقرائن المربوطة بالمورد. ثم نصوغ للجواب (أطروحة) معينة محتملة الصدق، ونقيم من هذه القواعد والقرائن مؤيدات لها. فيتعين الأخذ بهذه الأطروحة بصفتها الحل الوحيد للمشكلة.
فكرة عن مباحث الكتاب:
إذا اتضح هذا المنهج وصح، يكون في الإمكان أن ندخل في تفاصيل تاريخ الغيبة الكبرى، مقسمين البحث إلى أقسام ثلاثة:
القسم الأول: في تاريخ شخص الإمام المهدي (عليه السلام) خلال هذه الفترة، وما يتصف به من خصائص وصفات.
القسم الثاني: في سرد الحوادث والصفات التي تكون للإنسانية عامة وللمجتمع المسلم خاصة، بحسب ما ورد في الأخبار، وما تقتضيه القواعد العامة.
القسم الثالث: في علائم الظهور الواردة في الأخبار ومحاولة فهمها فهماً واعياً منظماً، على ضوء المنهج السابق.
وهنا لا بد أن نشير إلى تعذر ما كنا عملناه في تاريخ الغيبة الصغرى من إعطاء فكرة عن التاريخ العام للفترة التي نعرض لها قبل التكلم من تاريخها الخاص المقصود. فإن فترة الغيبة الصغرى حيث كانت محدودة أمكن ضبط تاريخها العام، في فصل معين. وأما تفرة الغيبة الكبرى، فتنقسم إلى مستقبل وإلى ماضٍ، بالنسبة إلى عصرنا الحاضر. أما المستقبل فلا يعلمه إلا الله عز وجل. وأما الماضي فلو استع المجال لضبط تاريخ طوله حوالي ألف ومئة سنة، لأمكن أن نتصدى لذلك إلا أن ذلك خارج عن طوق البحث الفردي، مهما زاد واتسع. فضلاً عن المبني على اختصار. على أن للفرد المثقف الاعتيادي فكرة كافية عن التاريخ الحديث في الألف سنة المعاصرة. وهي وإن كانت فكرة مختصرة إلا أنها كافية في التقديم لهذا البحث، ولا تحتاج إلى أكثر من ذلك لندرة ارتباط التاريخ الخاص بالمهدي (عليه السلام) خلال هذه الفترة بالحوادث العامة. بخلاف ما كان عليه الحال في زمن الأئمة المعصومين (ع) والغيبة الصغرى من زيادة الارتباط.

القسم الاول: تاريخ شخص الإمام المهدي
من حيث مكانه ومعيشته وتكليفه الشرعي بحفظ الشريعة الإسلامية، ولقائه مع الناس وقضائه لحوائجهم، والكلام عن ذريتهم، وغير ذلك.

والكلام حول ذلك يقع ضمن فصول متعددة.
الفصل الأول: في السر الأساسي لغيبة المهدي (عليه السلام)
ونريد به الأسلوب الأساسي الذي يتبعه عليه السلام في احتجابه عن الناس ونجاته من براثن الظلم. وبمعرفتنا لهذا الأسلوب، سيسهل علينا الجواب على عدد كثير من الأسئلة التي تثار في الفصول الآتية ن إن شاء الله تعالى.
نواجه في باديء الأمر، في أسلوب احتجابه أطروحتين أساسيتين:
الأطروحة الأولى: أطروحة خفاء الشخص:
وهي الأطروحة التقليدية المتعارفة المركوزة في ذهن عدد من الناس، وتدل عليه ظواهر بعض الأدلة على ما سنسمع. وهي أن المهدي (عليه السلام) يختلفي جسمه عن الأنظار، فهو يرى الناس ولا يرونه، وبالرغم من أنه قد يكون موجوداً في مكان إلا أنه يُرى المكان خالياً منه.
أخرج الصدوق في إكمال الدين(٣٥) بإسناده عن الريان بن الصلت، قال: سمعته يقول: سئل أبو الحسن الرضا (ع) عن القائم (ع)، فقال: لا يرى جسمه ولا يسمى باسمه.
وأخرج بإسناده عن الصادق جعفر بن محمد (ع) في حديث: قال: الخامس من ولد السابع يغيب عنكم شخصه ولا يحل لكم تسميته. وأخرج أيضاً بإسناده عن عبيد بن زرارة قال سمعت أبا عبدالله (ع) يقول:
يفقد الناس أمامهم فيشهد الموسم فيراهم ولا يرونه.
وهذه الأطروحة هي أسهل افتراض عملي لاحتجاب الإمام المهدي (عليه السلام) عن الناس ونجاته من ظلم الظالمين. فإنه في اختفائه هذا يكون في مأمن قطعي حقيقي من أي مطاردة أو تنكيل، حيثما كان على وجه البسيطة.
وهذا الاختفاء يتم عن طريق الإعجاز الإلهي، كما تم طول عمره لمدى السنين المتطاولة بالإعجاز أيضاً. وكان كلا الأمرين لأجل حفظ الإمام المهدي (عليه السلام) عن الموت والأخطار، لكي يقوم بالمسؤولية الإسلامية الكبرى في اليوم الموعود.
ونحن نعلم بالدليل القطعي في الإسلام أهمية هذا اليوم الموعود عند الله عز وجل وعند رسوله، فإنه اليوم الذي يتحقق به الغرض الأساسي من خلق البشرية، على ما سنعرف، وتتنفذ به آمال الأنبياء والمرسلين، وتتكلل جهودهم بالنجاح، بوجود المجتمع العادل وإنجاز دولة الحق. كما أننا نبرهن(٣٦) على أن الأهداف الإلهية المهمة، إذا توقف وجودها على المعجزة، فإن الله تعالى يوجدها لا محالة لا محالة، من أجل تحقيق ذلك الهدف المهم.
وإذا نعتقد – كما هو المفروض في هذا التاريخ – بولادة الإمام المهدي (عليه السلام) المذخور لليوم الموعود، يتبرهن لدينا بوضوح كيف ولماذا تعلق الغرض الإلهي بحفظه وصيانته، كما تعلق بطول عمره. فإذا كانت صيانته منحصرة باختفاء شخصه، لزم على الله عز وجل تنفيذ هذه المعجزة وفاء بغرضه الكبير.
وتضيف هذه الأطروحة الأولى، قائلة: بأن هذا الاحتجاب قد يزول أحياناً، عندما توجد مصلحة في زواله: كما لو أراد المهدي (عليه السلام) أن يقابل شخصاً من البشر لأجل أن يقضي له حاجة أو يوجه له توجيهاً أو ينذره إنذاراً. فإن المقابلة تتوقف على رؤيته، ولا تتم مع الاختفاء.
ويكون مقدار ظهوره للناس محدوداً بحدود المصلحة، فإن اقتضت أن يظهر للناس ظهوراً تاماً لكل رائي تحقق ذلك، واستمرت الرؤية بمقدار أداء غرضه من المقابلة. ثم يحتجب فجأة فلا يراه أحد، بالرغم من أنه لم يغادر المكان الذي كان فيه. وإذا اقتضت ظهوره لشخص دون شخص تعين ذلك أيضاً، إذ قد يكون انكشافه للآخرين خطراً عليه.
وعلى ذلك تحمل كل أخبار مشاهدة المهدي (عليه السلام) خلال غيبته، حتى ما كان خلال الغيبة الصغرى، وخاصة فيما سمعناه في تاريخ الغيبة الصغرى(٣٧) بأن المهدي (عليه السلام) ظهر لعمه جعفر الكذاب مرتين، ثم اختفى من دون أن يعلم أين ذهب. فأنه يعطي أن الاختفاء كان على شكل هذه الأطروحة.
وأما أخبار المشاهدة خلال الغيبة الكبرى، فبعضها ظاهر في الدلالة على ذلك، بل منها ما هو صريح به. بل أن بعض هذه الأخبار تتوسع، فتنسب الاختفاء إلى فرسه الذي يركبه وخادمه الذي يخدمه، بل حتى الصراف الذي يحوّل عليه شخصاً لأخد المال.(٣٨)
وأود أن أشير في هذا الصدد إلى أن هذه الأطروحة في غنى عما نبزه بعض مؤرخي العامة على المعتقدين بغيبة المهدي (عليه السلام). من أنه نزل إلى السرداب واختفى فيه ولم يظهر.كما سبق أن ناقشنا ذلك في تاريخ الغيبة الصغرى.(٣٩) وأن أخبار مشاهدة المهدي (عليه السلام) في كل من غيبته الصغرى والكبرى مجمعة على مشاهدته في أماكن أخرى. وعلى أي حال، فهذه الأطروحة في غنى عن ذلك، لوضوح إمكان اختفاء المهدي (عليه السلام) بشخصه في أي مكان، ولا ينحصر ذلك في السردات بطبيعة الحال.
وسيأتي في الفصول الآتية، ما يصلح أن يكون تكملة للتصور المترابط للمهدي (عليه السلام) بحسب هذه الأطروحة.
الأطروحة الثانية: أطروحة خفاء العنوان:
ونريد به أن الناس يرون الإمام المهدي (عليه السلام) بشخصه بدون أن يكونوا عارفين أو ملتفتين إلى حقيقته.
فإننا سبق أن عرفنا من تاريخ الغيبة الصغرى، أن المهدي (عليه السلام) رباه أبوه محتجباً عن الناس، إلا القليل من الخاصة الذين أراد أن يطلعهم على وجوده ويثبت لهم إمامته بعده. ثم ازداد المهدي (عليه السلام) احتجاباً بعد وفاة أبيه وأصبح لا يكاد يتصل بالناس إلا عن طريق سفرائه الأربعة. غير عدد من الخاصة المأمونين الذين كانوا باحثين عن الخلف بعد الإمام العسكري عليه السلام، كعلي بن مهزيار الأهوازي وغيره. وكان المهدي (عليه السلام) يؤكد عليهم في كل مرة الأمر بالكتمان والحذر.
وكلما تقدمت السنين في الغيبة الصغرى، وتقدمت الأجيال، قلّ الذين عاصروا الإمام العسكري عليه السلام وشاهدوا ابنه المهدي (عليه السلام)، حتى انقرضوا. ووجدت أجيال جديدة لا تعلم من أسلوب اتصالها بالإمام (ع) إلا الاتصال بسفيره، على أفضل التقادير. وكان هذا الجيل – بشكل عام – جاهلاً بالكلية بسحنة وشكل إمامه المهدي (عليه السلام)، بحيث لو واجهوا لما عرفوه البتة إلا بإقامته دلالة قطعية على شخصيته.
ومن هنا تيسر له – كما علمنا في ذلك التاريخ – فرصة السفر إلى مختلف أنحاء البلاد كمكة ومصر، من دون أن يكون ملفتاً لنظر أحد.
وهذا ما نعنيه من خفاء العنوان. فإن أي شخص يراه يكون غافلاً بالمرة عن كونه هو الإمام المهدي (عليه السلام). وإنما يرى فيه شخصاً عادياً كسائر الناس لا يلفت النظر على الإطلاق.
ويمكن للمهدي (عليه السلام) أن يعيش في أي مكان يختاره وفي أي بلد يفضله سنين متطاولة، من دون أن يلفت إلى حقيقته نظر أحد. وتكون حياته في تلك الفترة كحياة أي شخص آخر يكتسب عيشه من بعض الأعمال الحرة كالتجارة أو الزراعة أو غيرها. ويبقى على حاله هذه في مدينة واحدة أو عدة مدن، حتى يأذن الله تعالى له بالفرج. ويمكن الاستدلال على هذه الأطروحة، انطلاقاً من زاويتين:
الزاوية الأولى:
الأخبار الواردة بهذا الصدد منها: ما أخرجه الشيخ الطوسي في الغيبة(٤٠) عن السفير الثاني الشيخ محمد عن عثمان العمري أنه قال: والله إن صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كل سنة يرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه.
والمقصود بصاحب هذا الأمر: الإمام المهدي (عليه السلام)، والمراد بالموسم موسم الحج. والرواية واضحة الدلالة على عدم اختفاء الشخص ومقترنة بالقسم بالله تعالى تأكيداً. وصادرة من سفير المهدي (عليه السلام) وهو أكثر الناس اطلاعاً على حاله.
ومنها: ما ورد عن السفير من قوله حول السؤال عن اسم الإمام المهدي (عليه السلام): وإذا وقع الاسم وقع الطلب.(٤١)
فإنه ليس في طلب الحكام للمهدي (عليه السلام) ومطاردتهم له، أي خطر ولا أي تأثير، لو كانت الأطروحة الأولى صادقة وكان جسم المهدي (عليه السلام) مختفياً، إذ يستحيل عليهم الوصول إليه. وإنما يبدأ الخطر والنهي عن الاسم تجنباً للمطاردة طبقاً للأطروحة الثانية. فأنه ما دام عنوان المهدي (عليه السلام) واسمه مجهولين، يكون في مأمن عن المطاردة، وأما إذا "وقع الاسم" وعرف العنوان، لا يكون هذا الأمن متحققاً ويكون احتمال المطاردة قوياً.
ومنها: ما ورد من التوقيع الذي خرج من المهدي (عليه السلام) إلى سفيره محمد بن عثمان رضي الله عنه يقول فيه: فإنهم إن وقفوا على الاسم أذاعوه، وإن وقفوا على المكان دلّوا عليه.(٤٢)
فإنه لو صدقت الأطروحة الأولى لم يكن رؤية المهدي (عليه السلام) في أي مكان على الإطلاق، ولم يكن في الدلالة على أي مكان خطر أصلاً. وإنما يكون الخطر موجوداً طبقاً للأطروحة الثانية.
ومنها: ما قاله أبو سهل النوبختي حين سئل فقيل له: كيف صار هذا الأمر إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح دونك، فقال: هم أعلم وما اختاروه. ولكن أنا رجل ألقى الخصوم وأناظرهم. ولو علمت بمكانه كما علم أبو القاسم وضغطتني الحجة على مكانه لعلّي كنت أدل على مكانه. وأبو القاسم فلو كانت الحجة تحت ذيله وقرض بالمقاريض ما كشف الذيل عنه.(٤٣)
ومن الواضح أنه لا معنى لكل هذه الاحتياطات والتحفظات مع صحة الأطروحة الأولى أي اختفاء شخص المهدي عليه السلام. وإنما لا بد من ذلك مع صحة الأطروحة الثانية، فإن الدلالة على المكان مستلزم لانكشاف العنوان. والقائل لهذا الكلام هو أبو سهل النوبختي الذي كان من جلالة القدر والوثاقة بحيث كان من المحتمل أن يكون هو السفير عن الإمام (ع)... ومن هنا سئل في هذه الرواية عن غض النظر عنه وإبداله بالشيخ ابن روح.
فهذه جملة من الأخبار الدالة على صحة الأطروحة الثانية، وبطلان الأولى. إلى أخبار غيرها لا نطيل الحديث بسردها.
الزاوية الثانية:
قانون المعجزات الذي يقول: إن المعجزة إنما تحدث عند توقف إقامة الحق عليها، واما مع عدم هذا التوقف، وإمكان إنجاز الأمر بدون المعجزة فإنه لا تحدث بحال. كما برهنا عليه في محله.(٤٤)
ولا شك أن حفظ الإمام المهدي (عليه السلام) وبقاءه مما يتوقف عليه إقامة الحق بعد ظهوره. فلو توقف حفظه على إقامة المعجزة بإخفائه شخصياً لزم ذلك. إلا أن هذا غير لازم لما عرفناه من كفاية خفاء العنوان في إنجاز الغرض المطلوب وهو حفظه من كيد الأعداء. وسنذكر فيما يلي بعض الإيضاحات لذلك. ومن هنا تكون معجزة اختفائه بلا موضوع، ويتعين الأخذ بالأطروحة الثانية.
ومن أجل تنظيم هذه الأطروحة فكرياً وبرهانياً، لا بد من الجواب عليها.
السؤال الأول:
إذا كان المهدي (عليه السلام) ظاهراً بشخصه للناس، وهم لا يعرفونه، فكيف لا يلتفتون إليه طوال السنين، وهم يرونه باقياً لا يموت، على حيث يموت غيره من الناس.
وفي هذا السؤال غفلة عن الأسلوب الذي يمكن للمهدي (عليه السلام) أن يتخذه تلافياً لهذا المحذور. فإنه لو عاش في مدينة واحدة حقبة طويلة من الزمن لانكشف أمره لا محالة. ولكنه – بطبيعة الحال – لا يعمل ذلك، بل يقضي في كل مدينة أو منطقة، عدداً من السنين تكون كافية لبقاء غفلة الناس عن حقيقته.
فلو كان يقضي في كل مدينة من العالم الإسلامي خمسين عاماً، لكان الآن قد أكمل سكنى اثنتين وعشرين مدينة. وتوجد في العالم الإسلامي أضعاف ذلك من المدن التي يمكن للمهدي (عليه السلام) أن يسكنها تباعاً. كما يمكن أن يعود إلى نفس المدينة التي سكن بها، بعد مضي جيلين أو أكثر وانقراض من كان يعرف شخصه من الناس.
ومن البسيط جداً ألا ينتبه الناس إلى عمره خلال السنوات التي يقضيها في بلدتهم. فإن هناك نوعاً من الناس، نصادف منهم العدد غير القليل، تكون سحنتهم ثابتة التقاطيع على مر السنين. فلو فرضنا – في الأطروحة – كون المهدي (عليه السلام) على هذا الغرار، لم يكن ليثير العجب بين الناس، بعد أن يكونوا قد شاهدوا عدداً غير قليل من هذا القبيل.
ثم حين يمر الزمان الطويل، الذي يكون وجود المهدي (عليه السلام) فيه ملفتاً للنظر ومثيراً للانتباه، يكون المهدي (عليه السلام) قد غادر هذه المدينة بطريق اعتيادي جداً إلى مدينة أخرى ليسكن فيها حقبة من السنين. وهكذا.
السؤال الثاني:
أنه كيف تتم المقابلة مع الإمام (ع)، على الشكل الوارد في أخبار المقابلة؟ وكيف يختفي الإمام بعدها؟
أما حدوث المقابلة، ففي غاية البساطة، فإنه عليه السلام إذ يى المصلحة في مقابلة شخص، فإنه يكشف له عن حقيقته إما بالصراحة، أو بالدلائل التي تدل عليه في النتيجة، لكي يعرف الفرد أن الذي رآه هو المهدي (عليه السلام) ولو بعد حين.
والمهدي (عليه السلام) يحتاج في إثبات حقيقته لأي فرد إلى دليل، لجهل الناس جهلاً مطلقاً بذلك. وهو يعبّر عن معجزة يقيمها الإمام (ع) في سبيل ذلك، وهذه المعجزه تقوم في طريق إثبات الحجة على المكلفين، فتكون ممكنة وصحيحة، وهي طريق منحصر لإثبات ذلك، كما هو واضح، إذ بدونها يحتمل أن لا يكون هو المهدي (عليه السلام) على أي حال.
والغالب في أخبار المشاهدة أن الفرد لا ينتبه إلى حقيقة المهدي (عليه السلام) إلا بعد فراقه، ومضي شيء من الزمان. لأن الفرد لا يستطيع أن يشخّص أن ما قام به المهدي (عليه السلام) أو ما قاله هو من المعجزات الخاصة به، إلا بعد مفارقته بمدة. وبذلك يضمن المهدي (عليه السلام) خلاصه من الاطلاع الصريح المباشر على حقيقته في أثناء المقابلة، فتندفع عنه عدة مضاعفات محتملة.
وأما أن كيف يختفي المهدي (عليه السلام) بعد انتهاء المقابلة، فذلك أطروحتان، من الممكن له تطبيق أي منهما.
الأولى: الاختفاء الشخصي الإعجازي. فيما إذا انحصر طريق التخلص به، فيكون مطابقاً مع قانون المعجزات.
الثانية: وهي المتحققة على الأغلب في ظروف اللقاء المنقولة لنا في أخبار المشاهدة، سواء ما وقع منها في عصر الغيبة الصغرى أو ما يقع في الغيبة الكبرى. وهو الاختفاء بطريق طبيعي، لعدم انحصار التخلص بالمعجزة. بل كان المهدي (عليه السلام) يزجي هذا الأمر بنحو عادي جداً غير ملفت للنظر. كما لو أصبح رفيقاً في السفر مع بعض الأشخاص ثم يفارقه(٤٥) أو يبقى المهدي (عليه السلام) في مكانه ويسافر عنه الشخص الآخر.(٤٦) أو أن المهدي يوصل شخصاً إلى مأمنه من متاهة وقع فيها ثم يرجع. ولايلتفت ذلك الشخص إلى حقيقة منقذه إلا بعد ذهابه.(٤٧) ويكون لغفلته هذه الأثر الكبير في سهولة وسرعة اختفاء المهدي عنه. ومع إمكان الاختفاء الطبيعي، يكون الاختفاء الإعجازي بلا موضوع.
ويستطيع المهدي (عليه السلام) أن يخطط بمقابلته نحواً من الأسلوب، ينتج غفلة الرائي عن كونه هو المهدي (عليه السلام) في أثناء المقابلة. وإنما يتوصل إلى الالتفات إلى ذلك بعدها. ويقيم دلائله بحيث لا تكون ملفته للنظر أثناء وقوعها، وإنما يحتاج الالتفاف إليها إلى شيء من الحساب والتفكير، لا يتوفر – عادة – إلى بعد اختفاء المهدي. وهذا هو الديدن الذي يطبقه الإمام (ع) في أغلب المقابلات.
وهذا التخطيط المسبق الذي يقوم به المهدي (عليه السلام) يغنيه عن التفكير في طريقة الاختفاء عند المقابلة. وإن كان لا يعدم – بغض النظر عن الاختفاء الإعجازي – مثل هذه الطريقة. ولئن كنا نرى في كل زمانأشخاصاً عارفين بطرق الاختفاء السريع، لمختلف الأغراض، كالبحث عن المجرمين أو الهرب من العقاب. أو عن مقابلة الدائن، أو غير ذلك... فكيف بالإمام المهدي (عليه السلام) صاحب القابليات غير المحدودة الذي يستطيع بها أن يحكم العالم كله، والعد لذلك من الله تعالى إعداداً خاصاً.
السؤال الثالث:
إن من يرى المهدي (عليه السلام)، فسوف يعرفه بشخصه، وسيعرفه كلما رآه. وهو ما يؤدي بالمهدي (عليه السلام) تدريجاً إلى انكشاف أمره وانتقاء غيبته المتمثلة بخفاء عنوانه والجهل بحقيقته. إذ من المحتمل للرائي أن يخبر الآخرين بذلك، فيعرفون حقيقته وينكشف أمره.
ويمكن الانطلاق إلى الجواب على مستويات ثلاثة:
المستوى الأول:
إن الفرد الذي يحظى بمقابلة المهدي (عليه السلام) لن يكون إلا من خاصة المؤمنين المتكاملين في الإخلاص – على الأغلب – ومثل هذا الفرد يكون مأموناً على إمامه (ع) من النقل إلى الآخرين. فإن الناس لا يعلمون من هذا الشخص أنه رأى المهدي وعرفه، وله الحرية في أن يقول ذلك أو أن يستره، أو أن يبدي بعض الحادث ويخفي البعض الآخر، بالمقدار الذي يحقق به مصلحة الغيبة والستر على الإمام الغائب عليه السلام.
المستوى الثاني:
إذا لم يكن الرائي مأموناً، فيما إذا اقتضت المصلحة مقابلته، فقد يكون بعيد المزار جداً، ويكون المهدي (عليه السلام) عالماً سلفاً بأنه لن يصادفه في مدينته أو في الأماكن التي يطرقها طيلة حياته. ومعه فيكون الخطر المشار إليه في السؤال غير ذي موضوع.
المستوى الثالث:
إذا كان الرائي قريباً في مكانه من المنطق التي يسكنها المهدي (عليه السلام) ولم يكن مأموناً، فإنه يحتاج المهدي إلى تخطيط معين لتفادي الخطر المذكور.
ولعل أوضح تخطيط وأقربه إلى الأذهانهو أن يغير زيه الذي يعيش به عادة بين الناس ليقابل الفرد المطلوب بزي جديد. ومن هنا نرى الإمام المهدي (عليه السلام) – على ما دلت عليه الروايات – يقابل الناس بأزياء مختلفة. ففي عدد من المرات يكون مرتدياً عقالاً وراكباً جملاً أو فرساً. وفي مرة على شكل فلاح يحمل المنجل، وأخرى على شكل رجل من رجال الدين العلويين.(٤٨) وهذا أحسن ضمان لعدم التفات الناس إلى شخصيته المتمثلة بزيه العادي.
على أن المقابلات تقترن في جملة من الأحيان، بأشكال من الضرورة والحرج عند الفرد، وهي الضرورة التي يريد المهدي (عليه السلام) إزالتها، على ما سنسمع، ومثل هذا الفرد يصعب عليه، وهو في حالته تلك تمييز سحنة الإمام (ع) بشكل يستطيع أن يشخصه بعد ذلك، خاصة وهو في زيه التنكري.
وهناك أساليب أخرى، يمكن اتخاذها في هذا الصدد، لا ينبغي أن نطيل بها الحديث.
ولو فرض أنه احتاج الأمر وانحصر حفظ الإمام عليه السلام بالإعجاز بطريق الاختفاء الشخصي، لو قابله الفرد الرائي مرة ثانية، لكان ذلك ضرورياً ومتعيناً. أو تكون المعجزة على شكل نسيان الرائي لسحنة الإمام (ع) بعد المقابلة.
فهذه ثلاثة أسئلة مع أجوبتها تضع الملامح الرئيسية على أطروحة خفاء العنوان. وسيأتي لها العديد من الإيضاحات والتطبيقات في الفصول الآتية.
وعرفنا أيضاً كيف تتبرهن هذه الأطروحة في مقابل الأطورحة الأولى، من حيث أن باستطاعة الإمام المهدي (عليه السلام) أن يحتجب عن الناس بكشل طبيعي لا إعجاز فيه، ما لم يتوقف احتجابه على الإعجاز، طبقاً لقانون المعجزات. وإذا تمّ ذلك يكون الالتزام باختفائه الشخصي الدائم، بالمعجزة، منفياً بهذا القانون، وينبغي تأويل أو نفي كل خبر دال عليه.
كما أن هذه الأطروحة الثانية، هي التي تنسجم مع التصورات العامة التي اتخذناها في فهم الأسلوب العام لحياة الإمام المهدي (عليه السلام) في غيبته الصغرى.
ونود أن نشير في خاتمة هذه الأطروحة إلى نقاط ثلاث:
النقطة الأولى:
أننا إذ نعرف أن المهدي (عليه السلام) متى استطاع الاحتجاب بشكل طبيعي، فإن المعجزة لا تساهم في احتجابه... لا نستطيع – على البعد – مقتضيات الظروف والأحوال التي يمر بها المهدي (عليه السلام) في كل مقابلة. وهل كان بإمكانه أن يختفي بشكل طبيعي، أو يتعين عليه الاختفاء الإعجازي.
فمثلاً: إن لاختفائه بعد مقابلته لجعفر الكذاب مرتين، احتمالين، هما اختفاؤه الشخصي أو اختفاؤه الطبيعي، بحسب الظروف التي كان يعيشها المهدي (عليه السلام) يومئذ. وأما بدء هذه المقابلة فلا حاجة إلى افتراض كونه إعجازياً، بأي حال، كما ذهب إليه رونلدسن،(٤٩) بل يمكن أن يكون طبيعياً اعتيادياً.
وعلى أي حال، فبعض الروايات، يمكنها أن تعطينا الظرف الذي تنتهي به المقابلة. حيث يتضح من بعضها إمكان الاحتجاب الطبيعي، كما سبق أن مثلنا. بينما يتضح من بعضها تعيّن الاحتجاب الإعجازي أحياناً، كما ستسمع في مستقبل هذا التاريخ.
النقطة الثانية:
في الإلماع إلى الأنحاء المتصور لما يحصل بالمعجزة من أثر يوجب اختفاء الجسم على الناظر، بالرغم من اقتضاء القوانين الكونية لحصول الرؤية.
فنقول: إن المعجزة أما أن تتصرف في الرائي أو في المرئي. فتصرفها في الرائي هو جعله بنحو يعجز عن إدراك الواقع الذي أمامه. فيرى المكان خالياً عن الإمام المهدي (عليه السلام) مع أنه موجود فيه بالفعل. فلو تعين بحسب المصلحة الملزمة والغرض الإلهي، أن يراه شخص دون شخص، كان نظر من يراه اعتيادياً، ونظر من لا يراه محجوباً بالمعجزة. وكذلك أيضاً التصرف في الحواس الأخرى كالسمع واللمس وغيرها، وقد تحتجب بعض حواس الفرد دون بعض، فيسمع صوت المهدي (عليه السلام) من دون أن يراه.(٥٠)
وفرق الأطروحتين الرئيسيتين بالنسبة إلى الإعجاز الإلهي هو: أن الأطروحة الأولى ترى أن هذا الإعجاز هو الأمر الاعتيادي الدائم والثابت لكل الناس، بالنسبة إلى حياة المهدي (عليه السلام) حال غيبته الكبرى. وإنما تحتاج مقابلته إلى استثناء عن هذا الدوام. على حين ترى الأطروحة الثانية أن الأمر الاعتيادي الدائم هو انكشاف جسم المهدي (عليه السلام) للناس وإمكان معاشرته معهم. ويحتاج اختفاء شخصه إلى استثناء لا يحدث إلا عند توقف حفظ الإمام المهدي (عليه السلام) عليه. وأما تصرف المعجزة في المرئي أي الواقع الموضوعي القابل للرؤية. فأوضح طريق لذلك هو أن تحول المعجزة دون وصول الصورة النورية الصادرة عن جسم المهدي (عليه السلام) أو ذبذباته الصوتية، وغير ذلك مما تتقبله الحواس الخمس... تحول دون وصولها إلى الرائي أو السامع. ومعه يكون الفرد عاجزاً أيضاً عن الإحساس بالواقع الموضوعي الذي أمامه. وهناك أكثر من نحو واحد، متصور للمعجزة في محل الكلام، وهي تحتاج إلى بحث فلسفي وفيزياوي مطول، فيكون الأحجى أن تضرب عنه صفحاً تحاشياً للتطويل.
النقطة الثالثة:
أنه ساعد الإمام المهدي (عليه السلام) في غيبته عوامل نفسية أربعة متحققة لدى الناس على اختلاف نحلهم واتجاهاتهم، مما جعل عليهم من الممتنع التصدي للبحث عنه لأجل الاستفادة منه أو التنكيل به.
العامل الأول:
الجهل بشكله وهيئة جسمه جهلاً تاماً. وهو عامل مشترك بين أعدائه ومحبيه.
العامل الثاني:
إنكاره من قبل غير قواعده الشعبية بما فيهم سائل الحكام الظالمين الذي يمثل المهدي رمز الثورة عليهم وإزالة نظمهم من الوجود. فهم في إنكارهم له مرتاحين عن مطاردته، وهو مرتاح من مطاردتهم.
العامل الثالث:
ارتكاز صحة الأطروحة الأولى عند عدد من قواعده الشعبية، أخذاً بظواهر الأخبار التي سمعناها. إذ مع صحتها لا يكون هناك سبيل إلى معرفته بل يستحيل الإحساس بوجوده، إلا عن طريق المعجزه، وهي لا تتحقق إلا للأوحدي من الناس.
العامل الرابع:
الإيمان بعناية الله تعالى له وحفظه ليومه الموعود. فمتى تعلَّقت المصلحة بالمقابلة مع المهدي (عليه السلام) كان هو الذي يريدها. ومتى لم تتعلق بها المصلحة، فالأصلح للإسلام والمسلمين ألا تتم المقابلة وإن تحرَّق الفرد المؤمن إليها شوقاً. ومن هنا يكون الفرد الاعتيادي في حالة يأس من مقابلته والتعرف إليه.
الفصل الثاني: التكليف الإسلامي للإمام المهدي (عليه السلام) في غيبته الكبرى
وما يقوم بتنفيذه تجاه الإسلام والمسلمين من أعمال نافعة ومصالح كبرى
ينقسم تكليف الإمام عموماً في الإسلام عند ظهوره وعد وجود المانع عن عمله، إلى عدة أقسام:
القسم الأول:
وجوب توليه رئاسة الدولة وقيادة الأمة، بمعنى تطبيق الأطروحة الكاملة للعدل الإسلامي على وجه الأرض. والأخذ بالأزمة العليا للمجتمع لأجل ضمان هذا التطبيق.
القسم الثاني:
وجوب الدعوة الإسلامية، بمعنى إدخال المجتمع الكافر في بلاد الإسلام، إما الحرب أو بالصلح أو بغيرهما.
القسم الثالث:
وجوب الحفاظ على المجتمع المسلم ضد الغزو الخارجي، والدفاع عن بيضة الإسلام بالنفس والنفيس.
القسم الرابع:
وجوب الحفاظ على المجتمع المسلم ضد الانحراف وشيوع الفساد في العقيدة أو السلوك بالتوجيه الصالح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ تعاليم الإسلام.
وهذه الأقسام الأربعة، تجب وجوباً مطلقاً في أي مكان وزمان، يجب أن يبذل الإمام والأمة في سبيلها أقصى ما يستطيع وتستطيع.
القسم الخامس:
وهو خاص بصورة عجز الإمام عن جملة من الأعمال السابقة، لكونه يعيش في مجتمع منحرف يطارده ويراقبه ويعزله عن الأعمال الاجتماعية والسياسية، كما كان عليه حال أئمتنا عليهم السلام – بشكل عام – وقد حملنا عن بعض جوانب ذلك صورة واضحة في تاريخ الغيبة الصغرى.
ففي مثل ذلك يكون عمل الإمام – كما رأينا في ذلك التاريخ – مكرساً – في الإغلب – على الحفاظ على قواعده الشعبية ومواليه، وعلى حسن علاقتهم بالآخرين وحسن تلقيهم تعاليم الدين وتطبيقهم أحكام الإسلام.
نعم، إن وجد الإمام طريقاً أحياناً إلى القيام ببعض الأعمال الإسلامية على نطاق واسع. وكان المانع مرتفعاً عنه في ذلك العمل، وجب عليه إنجازه، وكان ذلك العمل أوسع من قواعده الشعبية وشاملاً خيره لكل بلاد الإسلام.
القسم السادس:
وجوب إغاثة الملهوف وإعانة المضطر. وهو تكليف عام لا يختص بالإمام عليه السلام، بل يعم كل مسلم. نعم، قد يحول العجز عن الإغاثة أو وجود عمل أو هدف إسلامي أهم، فيسقط وجوبها، كما قرر في محله بحسب القواعد الإسلامية.
إذا علمنا هذه الأقسام، وعلمنا أن الإمام المهدي (عليه السلام)، يجب عليه بالنظر الأولي كل هذه الأمور جملة وتفصيلاً، يجب أن يؤدي منها ما يستطيع إليه سبيلاً. شأنه في ذلك شأن أي إمام آخر. وقد أدى الأئمة من آبائه عليهم السلام، ما استطاعوا من هذه التكاليف، وتركوا ما عجزوا عنه، أو اقتضت المصالح الإسلامية العليا تركه.
أما الإمام المهدي (عليه السلام) نفسه، فهو مذخور للقيام بدولة الحق في اليوم الموعود، وهو من أعظم الأهداف الإلهية، يرتبط بأصل خلقه البشرية ووجودها على ما سنبرهن عليه في مستقبل هذا التاريخ. وقد علمنا من القواعد العامة بما فيها قانون المعجزات بأن الأهداف الإلهية العليا تتقدم على أي شيء آخر، فكل ما تتوقف على حدوثه فإنه يحدث لا محالة وكل ما تتوقف على انتقائه وانعدامه فإنه ينتفي لا محالة، سواء كان ذلك من أمور الكون أو من أحكام الشريعة.
فإذا نظرنا إلى هذا الهدف المهم، الذي ذخر المهدي (عليه السلام) له، وجدنا أن أموراً عديدة يتوقف على حدوثها كوجود المهدي (عليه السلام) وغيبته، والمعجزة التي تتكفل طول بقائه، والمعجزة التي تتكفل اختفاءه الشخصي أحياناً لصيانته من الأخطار. كما نجد أن أموراً يتوقف اليوم الموعود على انتفائها. فمن ذلك في جانب الأحكام: إن كل حكم شرعي يكون تطبيقه منافياً مع حفظ الإمام المهدي أو غيبته وبالتالي يكون منافياً مع وجود اليوم الموعود نفسه، فإن هذا التطبيق يكون ساقطاً شرعاً عن الإمام، ولا يجب عليه امتثال الحكم وتنفيذه. وأما الأحكام الشرعية الإسلامية غير المنافية مع هذه الأمور، سواء الأحكام الشخصية كوجوب الصلاة والصوم، أو العامة كوجوب الأمر بالمعروف – مثلاً – على ما سنسمع، فلا موجب للالتزام بسقوطها، بل تكون شاملة له ويجب عليه تنفيذها لفرض استطاعته ذلك، باعتبار عدم منافاتها مع غيبته وهدفه.
إذا علمنا ذلك، استطعنا أن نحكم بوضوح بسقوط التكليف بأي واحد من الأقسام السابقة، إذا كان مستلزماً لانكشاف أمره وزوال غيبته. وهذا واضح إلى حد كبير في الأقسام الثلاثة الأولى، فإنه مستلزم لذلك عادة، إلا أن يفترض كونه قائداً أو موجهاً بشخصية ثانوية يعرف بها غير صفة الحقيقة على ما سيأتي.
وبغض النظر عن ذلك، تكون الأطروحتان الرئيسيتان للغيبة، مختلفتين في المدلول:
أما بناء على صحة أطروحة خفاء الشخص، فكل الأقسام يمتنع عليه القيام بها، إلا ما كان خلال الأحوال الاستثنائية التي تتم فيها المقابلة مع الآخرين. لوضوح أنه حال اختفائه لا يمكنه القيام بأي عمل.
وقد يخطر في الذهن، أنه يمكن للمهدي (عليه السلام) الظهور التام، والقيام بسائر الأعمال وتطبيق كل الأحكام.
والجواب: إن هذا قبل أوانه لا يكون ممكناً. أولاً: لأنه منوط بإذن الله تعالى لا بإذن المهدي عليه السلام. وثانياً: لأن لانتصاره في يوم ظهوره شرائط معينة على ما سنعرف وبدون تحقق هذه الشرائط لا يمكن الانتصار وبالتالي لا يتحقق الهدف الأسمى المطلوب. إذن فلا بد من تأجيل الظهورالكامل إلى حين تحقق تلك الشروط، ولا تجوز المبادرة إليه في الظروف غير المدروسة وتحت المناسبات الطارئة.
نعم، يبقى احتمال واحد، على تقدير صحة الأطروحة الأولى، وهو إمكان الإكثار من المقابلات والظهورات المتقطعة. وهي وإن كانت استثنائية من الحال الاعتيادي للمهدي (عليه السلام) إلا أنها تتضمن – على أي حال – تطبيقاً للحكم الإسلامي وإنقاذاً لبلاد الإسلام من عدد من المظالم التي تقع فيها. فلماذا لم يحدث ذلك واقتصرت المقابلات على قليل من الموارد نسبياً.
وهذا السؤال لا نجد له جواباً بناء على صحة الأطروحة الأولى، لعدم تعرض الإمام المهدي (عليه السلام) لأي خطر، باعتبار إمكان اختفائه في اللحظة التي يشاء. ومعه يكون تطبيق الحكم الشرعي ممكناً بالنسبة إليه، فيكون واجباً عليه. على حين لم يحدث ذلك بالكثرة المطلوبة جزماً، وإلا لاشتهر أمره وشاع. وهذا بنفسه يدل على بطلان هذه الأطروحة، إذ عدم قيام الإمام المهدي (عليه السلام) بذلك يدل على عدم إذن فالقول بصحتها مستلزم للقول بتقصير الإمام المهدي (عليه السلام) في تطبيق أحكامه. وهو واضح البطلان، إذن فهذه الأطروحة باطلة.
وهناك مناقشات وجدل، يعود إلى هذا الأمر يحسن عدم الإطالة في ذكره.
وأما بناء على صحة الأطروحة الثانية، كما هو الصحيح... فهذا الاحتمال الذي كنا نناقشه، وهو إمكان الإكثار من الظهورات والمقابلات يكون واضح الفساد، بل هو منتف موضوعاً. لأن تعدد الظهور بكثرة يؤدي إلى تعرف الكثيرين على حقيقته وانكشاف أمره، ومن ثم يكون منافياً مغ غيبته وقد عرفنا أن كل أمر مناف للغيبة لا يمكن حدوثه، قبل تحقق شرائط اليوم الموعود.
وقد يخطر في الذهن: بأن تخطيطاً دقيقاً يمكن أن يقوم به المهدي (عليه السلام) في كل مقابلة، كفيل بعدم انكشاف أمره، وجوابه: بأن كثرة الظلم وتعدد حاجات الناس وضورواتهم، يوجب كثرة الظهور وكثرته تكون موجبة لإلفات النظر إليه بنحو لا يفيد معه تخطيط دقيق.
كما قد يخطر في الذهن: بأن المهدي يمكنه إخفاء شخصه بالمعجزة في أوقات الخطر. إذن فليظهر للعمل موقتاً، ثم فليختف متى استلزمت المصلحة ضرورة الاختفاء.
وهذه الفكرة لها عدة أجوبة أهمها أمران:
الأمر الأول:
إن معنى ذلك توقف تنفيذ الأحكام الشرعية على المعجزة. لأن تنفيذه من قبل المهدي (عليه السلام) مسلتزم عادة لوقوعه في الخطر، نتيجة لانحراف المجتمع، فيكون مستلزماً لاختفائه الإعجازي. ونحن نعلم، بحسب القواعد الإسلامية، إن كل حكم شرعي إذا توقف على المعجزة لم يكن تنفيذه واجباً، إلا ما يمت إلى أصل الإسلام بصلة، كإثبات النبوة أو الإمامة أو إقامة دولة الحق. ومن الواضح أن الحكم الشرعي بوجوب إغاثة المضطر – مثلاً – لا يمت إلى أهل الإسلام بصلة، فلا يكون واجباً.
الأمر الثاني:
أنه لو تعددت ظهورات المهدي (عليه السلام) فسوف يعرفه الكثيرون بمجرد رؤيته، فيلزمه الاختفاء قبل أن تسنح له فرصة العمل. وهذا معناه أن كثرة الظهور في أي زمان تمنع عن مواصلة أي شكل من أشكال العمل.
وعلى أي حال، فالعمل المتصور للإمام المهدي (عليه السلام) بناء على ما هو الصحيح من صحة الأطروحة الثانية، على قسمين: عمل يقوم به بصفته الحقيقية، بحيث يمكن للفرد نسبته إليه ولو بعد انتهاء العمل. وعمل يقوم به حال كونه مجهول الحقيقة، يعيش في المجتمع كفرد عادي، بشخصية ثانوية، في اسم آخر وحرفة ومكان غير ملفت لأي نظر.
أما العمل بصفته الحقيقية، في تنفيذ ما يمكنه تنفيذ من الأقسام السابقة للتكاليف الإسلامية، فحاله هو ما سبق أن قلناه قبل أسطر. وقد رأينا أنه من غير المحتمل أن يكون المهدي (عليه السلام) شرعاً مكلفاً بذلك، لتعذر العمل عليه بهذه الصفة، طبقاً لكلتا الأطروحتين.
لا يبقى – بعدها – إلا الأعمال التي أعربت عنها أخبار المشاهدة في الغيبة الكبرى، مما يمت إلى القسمين الأخيرين من التكاليف بصلة، على ما سنوضح عند دراسة المقابلات في مستقبل هذا التاريخ. فإن هذا العدد من المقابلات لا ينافي غرضه ولا يخل بغيبته.
وأما عمله بصفته فرداً اعتيادياً في المجتمع، فهذا ما لا دليل على نفيه بحال، بل استطعنا الاستدلال عليه، كما سبق، حسبنا من ذلك إمكان العمل بالنسبة إليه، وعدم منافاته مع غيبته وخفاء عنوانه بحال، فيكون واجباً عليه، كأي فرد آخر من المسلمين يجب عليه أن يؤدي أي عمل ممكن في مصلحة الإسلام. وهو أعلى وأولى من يلتزم بإطاعة أحكام الإسلام.
ومن هنا لا يمكننا أن نتصوره عليه السلام إلا قائماً بواجبه في أي قسم من الأقسام السابقة اقتضت المصلحة في تنفيذه. كهداية شخص أو جماعة من الكفر إلى الإسلام أو من الانحراف إلى الوعي أو من الظلم إلى الاعتدال، أو جعل الموانع ضد الظلم القائم في المجتمع، في تأثيره على الإسلام والمسلمين عامة وضد قواعده العبية خاصة. إلى غير ذلك، وما أدرانا كيف سيصبح حال المجتمع المسلم لو سحب الإمام (ع) لطفه وكف أعماله. وإلى أي درجة من الضلال والظلم يمكن أن يبلغ.
على أننا نحتمل في كل عمل خيري عام أو سنة اجتماعية حسنة أو فكرة إسلامية جديدة، أو نحو ذلك من الأمور... نحتمل أن يكون وراءها أصبع مخلص متحرك من قبل الإمام المهدي (عليه السلام). وأنه هو الذي زرع بذرته الأولى في صدر أو عمل أحد الأشخاص أو الجماعات... بحيث أنتجت أكلها في كل حين بإذن ربها. وهذا الاحتمال لا نافي له، بتقدير صدق أطروحة خفاء العنوان. ومجرد الاحتمال يكفينا بهذا الصدد، بصفته أطروحة محتملة تنسجم مع الأدلة العامة والخاصة، كما ذكرنا في المقدمة.
وهذا هو المراد الحقيقي الواعي من النصوص الواردة عن المهدي (عليه السلام) نفسه، والتي تثبت قيامه بالعمل النافع بوضوح.
فمن ذلك قوله المشهور: وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي، فكالانتفاع بالشمس إذا غيبها عن الأبصار السحاب.(٥١) وأضاف عليه السلام: وأني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء.
فالسحاب كناية عن خفاء العنوان. والشمس كناية عن التأثير النافع المنتج في المجتمع. بعد وضوح أن العمل الذي يمكن للمهدي (عليه السلام) تنفيذه مع جهل الناس بحقيقته وعنوانه – أي في غيبته –، أقل بكثير مما يستطيع القيام به حال ظهوره وإعلان أمره.
وهذا الفهم هو المعين لهذا الحديث الشريف، بناء على أطروحة خفاء العنوان. لا ما ذكروه(٥٢) من التفسيرات التي يرجع بعضها إلى وجود تشريفي فلسفي للإمام (ع)، وبعضها إلى أنحاء تقديريه من النفس. وإنما ذكر علماؤنا الأسبقون إنما من باب "ضيق الخناق" وعدم الالتفات إلى هذا الفهم الواعي.
نعم، يتعين المصير إلى تلك التفسيرات بناء على أطروحة خفاء الشخص. حيث يتعذر العمل على المهدي (عليه السلام) إلا بالمقدار القليل الذي تدل عليه أخبار المشاهدة – كما عرفنا –، مما لا يكاد يكفي أن يكون نفعاً عاماً مشابهاً لنفع الشمس وإن غيبها السحاب. فلا بد – والحال هذه – من الأخذ في فهم النص بتلك التفسيرات. ولكننا حيث قلنا ببطلان هذه الأطروحة، يتعين أن نأخذ بفهمنا الواعي لهذا الحديث.
ومن ذلك: ما روي عن المهدي (عليه السلام) مخاطباً لقواعدة الشعبية: أنّا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم. ولولا ذلك لنزل بكم الأواء واصطلمكم الأعداء. فاتقوا الله جل جلاله. وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم، يهلك فيها من هم أجله، ويحمى عنها من أدرك أمله.(٥٣)
ونحن نعلم أن وقوفه (ع) ضد الأعداء ونزول الأواء – وهي الشدائد –، لا يكون إلا بالعمل المثمر والجهاد الحقيقي على الصعيدين العام والخاص. وخاصة، وهو يأمرنا بمظاهرته أي معاونته وموافقته على إخراجنا من الفتنة والنجاة من الهلكة. فإن على كل فرد مسؤولية تامة في ذلك، ولا تنحصر المسؤولية بالقائد، كما هو واضح، بل أن شعوره بالمسؤولية لا يكاد يكون مثمراً من دون شعور شعبه ورعيته بمسؤوليتهم تجاه قائدهم ومبدئهم أيضاً.
إذن، فهو عليه السلام يحمل هم شعبه ومواليه، يتذكرهم دائماً ويعمل على حفظهم ودرء المخاطر عنهم باستمرار، بمقدار ما يمكنه أن يؤديه من عمل، تماماً كما عرفنا عن آبائه عليهم السلام، وكما عرفناه في خلال غيبته الصغرى. غاية الفرق أن تلك الأعمال كانت منه ومن آبائه (ع) بالصفة الحقيقية لهم. وأما عمله خلال هذه الفترة، فليست بهذه الصفة، وإنما بصفته فرداً اعتيادياً في المجتمع.
ولكن الإمام المهدي (عليه السلام) يتوخى في موارد عمله وجود شرطين أساسيين، إن اجتمعا كان في إمكانه أن يتصدى للعمل، وإن تخلف أحدهما ترك العمل لا محالة وأبقى الواقع على واقعه.
الشرط الأول:
أن لا يؤدي به عمله إلى الكشاف أمره وانتفاء غيبته. إذ من الواضح أن المهدي (عليه السلام) حين يقوم بالأعمال العامة الإسلامية، بصفته فرداً عادياً في المجتمع، يمكنه أن يستمر بها إلى حد معين ليس بالقليل. ولكنه لو لمع اسمه واشتهر صيته، بـِ "شخصيته الثانوية" لكان هناك احتمال كبير في انكشاف حقيقته وافتضاح سره. لا أقل من أن ينتبه الناس إلى غموض نسبه وجهالة أصله، فيوصلوا بالفحص والسؤال إلى حقيقته، أو يحتملوا ذلك على الأقل، وهو ما لا يريده الله تعالى أن يكون.
إذن فعمل المهدي (عليه السلام) لا بد أن يقتصر على الحدود التي لا تؤدي إلى انكشاف أمره، فيدقق في ذلك ويخطط له، وهو الخبير الألمعي ويحسب لكل عمل حسابه. وأي عمل علم أن التدخل فيه يوجب الانكشاف انسحب عنه، مهما ترتبت عليه من نتائج، لأن انحفاظ سره وذخره لليوم الموعود، أهم من جميع ما يتركه من أعمال.
ولكن هذا لا ينافي تأثيره في الأعمال الإسلامية الخيرة التي نراها سائدة في المجتمع. وذلك لإمكان أن يكون هو المؤثر في تأسيسها حال صغرها وضآلة شأنها، وقد أودعها إلى المخلصين الذين يأخذون بها ويذكون أوراها، بدون أن يلتفتوا أو يلتفت إلى حقيقة عمله، بقليل ولا بكثير.
الشرط الثاني:
أن لا يؤدي عمله إلى التخلف والقصور في تربية الأمة، أو اختلال شرائط يوم الظهور الموعود.
بيان ذلك: أننا أشرنا أن ليوم الظهور الموعود شرائط سوف نتعرض لها تفصيلاً في مستقبل هذا التاريخ. ولكل شرط من تلك الشروط أسبابه وعلله. تلك الأسباب التي تتولد وتنشأ في عصر ما قبل الظهور. حتى ما إذا آتت أكلها وأثرت تأثيرها بتحقيق تلك الشروط وإنجازها، كان يوم الظهور قد آن أوانه وتحققت أركانه.
والمهدي عليه السلام، حيث يعلم الشرائط والأسباب، مكلف – على الأقل – بحماية تلك الأسباب عن التخلف أو الانحراف، لئلا يتأخر تأثيرها أو ينخفض عما هو المطلوب إنتاجها. إن لم يكن مكلفاً بإذكاء أوراها والسير الحثيث في تقدم تأثيرها.
ومن أهم شرائط اليوم الموعود: أن تكون الأمة ساعة الظهور على مستوى عال من الشعور بالمسؤولية الإسلامية، والاستعداد للتضحية في سبيل الله عز وجل. أو على الأقل، أن يكون فيها العدد الكافي ممن يحمل هذا الشعور ليكون هو الجندي الصالح الذي يضرب بين يدي المهدي (عليه السلام) ضد الكفر والانحراف، ويبني بساعده المفتول الغد الإسلامي المشرق. ويكون الجيش المكون من مثل هذا الشخص هو الجيش الرائد الواعي الذي يملأ الأرض بقيادة المهدي (عليه السلام) قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
وإذا كان ذلك من الشرائط، فلا بد من توفر أسبابه في زمن ما قبل الظهور، في عصر الغيبة الكبرى، والمحافظة على هذه الأسباب.
وإن السبب الرئيسي الكبير لتولد الوعي والشعور بالمسؤولية الإسلامية والإقدام على التصحية لدى الأمة، هو مرورها بعدد مهم من التجارب القاسية والظروف الصعبة وإحساسها بالظلم والتعسف ردحاً كبيراً من الزمن... حتى تستطيع أن تفهم نفسها وأن تشخص واقعها وتشعر بمسؤوليتها. فإن هذه الصعوبات كالمبرد الذي يجلو الذهب ويجعل السكين نافذاً. فإن الأمة – في مثل ذلك – لا تخلد إلى الهدوء والسكون، بل تضطر إلى التفكير بأمرها وبلورة فكرتها وتشخيص آلامها وآمالها وتشعر بنحو وجداني عميق بسهولة التضحية في سبيل الأهداف الكبيرة ووجوبها إذا لزم الأمر ونادى منادي الجهاد.
وتلك الأمة الواعية هي التي تستطيع أن تضرب قدماً بين يدي الإمام المهدي (عليه السلام) وأن تؤسس العدل المنتظر في اليوم الموعود. دون الأمة المنحرفة المتداعية، أو الأمة المنعزلة المتحنثة. وسيأتي لذلك إيضاحات عديدة وسنسمع له شواهد كثيرة من الكتاب والسنة.
فإذا كان مرور الأمة بظروف الظلم والتعسف ضرورياً لتحقيق شرط اليوم الموعود، ومثل هذا الشرط يجب رعايته والمحافظة عليه...إذن فالمهدي (عليه السلام) بالرغم من أنه يحس بالأسى لمرور شعبه وقواعده بمثل هذه الظروف القاسية، إلا أنه لا يتصدى لإزالتها ولا يعمل على تغييرها، تقديماً لمصلحة اليوم الموعود على أهل العزم هذا اليوم الموجود.
وأما ما لا يكون من الظلم دخيلاً في تحقيق ذلك الشرط، وكان الشرط الأول لعمل المهدي (عليه السلام) متوفراً فيه أيضاً، فإن الإمام المهدي (عليه السلام) يتدخل لإزالته ويعمل على رفعه، بموجب التكليف الشرعي الإسلامي المتوجه إليه.
ونحن – الذين لا نعيش نظر المهدي (عليه السلام) وأهدافه – نكاد نكون في جهل مطبق، من حيث تشخيص أن هذا الظلم هل له دخل في تحقيق شرط الظهور أو لا. ما عدا بعض موارد التخمين. فإنه يحتاج إلى نظر بعيد يمتد خلال السنين إلى يوم الظهور. وهذا النظر منعدم لدى أي فرد في العالم ما عدا المهدي (عليه السلام) نفسه. فيعود تشخيص ذلك إليه، بما وهبه الله تعالى من ملكات وقابليات على تشخيص الداء والقيادة نحو الدواء.
عدة نقاط:
أود الإشارة في نهاية هذا الفصل إلى عدة نقاط:
النقطة الأولى:
إن ما ذكرناه قبل لحظة، من وجود بعض أشكال الظلم منتج لشرط يوم الظهور، وهو وعي الأمة وشعورها بالمسؤولية... وأن المهدي (عليه السلام) لا يقف حائلاً ضد هذا الظلم ولا يعمل على رفعه... لا يمكن أن ندعي وجوب الاقتداء بالمهدي (عليه السلام) في ذلك أو أن لنا به أسوة حسنة في ذلك، فيجب إهما الظلم يفتك بالأمة بدون أن نحاول إصلاحه أو نحول دون تأثيره. لا يمكن أن يكون هذا صحيحاً، للفرق بين تكليفنا الشرعي وتكليفه وبين مسؤوليتنا ومسؤوليته.
بيان ذلك: أن كلا الشرطين اللذين عرفناهما لعمل المهدي (عليه السلام) غير موجودين فينا، فيكون تكليفنا الإسلامي أوسع بكثير من هذه الجهة من تكليف الإمام المهدي (عليه السلام) خلال غيبته.
أما الشرط الأول: وهو عدم انتفاء الغيبة والمحافظة على ستر العنوان... فمن الواضح عدم توفره فينا. بل هو من مختصاته عليه السلام.
وأما الشرط الثاني: وهو ألا يحول العمل ضد الظلم المؤثر في إيجاد شرط الظهور... فمن الواضح أن المهدي (عليه السلام) إذا حال دون تحقق هذا الظلم، فسوف يحول دون حدوث الوعي عند الأمة، فيبقى شعورها متبلداً وتربيتها قاصرة، وبالتالي يكون الشرط المطلوب متعذر الوجود.
وأما نحن إذ نشعر بالظلم فنكافح ضده أو نخطط لأجل دحره ودفعه، لا نكون قد حلنا دون وعي الأمة، بل أن كفاح الأمة نفسه وجهادها ضد مشاكلها وآلامها من أهم العناصر التي تنظم إلى الشعور بالظلم فتحدث الوعي لدى الأمة يكمل عندها الشعور بالمسؤولية. ذلك العمل الذي يعطي دروساً في التضحية وحنكة في التدبير الاجتماعي، يؤهل الأمة شيئاً فشيئاً إلى تحقيق الشرط المأمول.
ومعه يكون الكفاح ضد الظلم، بهذا الاعتبار، فضلاً عن الاعتبارات الأخرى، لازماً ومطلوباً في الإسلام من كل المسلمين ما عدا المهدي (عليه السلام). نعم، ستكون الأمة وقائدها متضامنة ضد كل أنواع الظلم بعد أن يحصل الشرط المطلوب، ويبقى الظلم المتأخر مستأنفاً لا حاجة إليه. فيقوم عليه الإمام المهدي (عليه السلام) بالسلاح لإزالته من الوجود. وذلك هو يوم الظهور.
النقطة الثانية:
إن عمل المهدي (عليه السلام) في المجتمع، في حدود ما تقتضيه أطروحة خفاء العنوان، يمكن أن يتصف بعدة صفات:
فعمله نافذ وناجح ومؤثر دائماً، وإنما الإخفاق إذا حصل فإنما يحصل نتيجة لقصور أو تقصير غيره في العمل. فأننا لم نفهم أهمية عمله من كونه عضواً في جمعية خيرية مثلاً أو متولياً لوقف عام مثلاً، وإن كان ذلك ممكناً ومهماً... إلا أن الأهم من ذلك هو كونه الرائد المؤسس لأعمال الخير العامة، ودفع الشر والظلم – مما لا يكون مؤثراً في شرط اليوم الموعود –. بمعنى أنه عليه السلام، بعد أن يعرف أهمية العمل الخير أو أخطار العمل الظالم بالنسبة للمجتمع المسلم، فأنه يتسبب إلى إيجاد ما هو خير ورفع ما هو ظلم.
وهو بذلك يستعمل حنكته وفراسته لتوخي أقرب الطرق وأصلحها وأكبرها تأثيراً. وقد يسبق عمله وجود العمل الظالم نفسه. كالذي رأيناه من المهدي (عليه السلام) نفسه في غيبته الصغرى أكثر من مرة، حيث سمعناه ينهي وكلاءه عن قبض أي شيء من الأموال، فامتثلوا أمره من دون أن يعلموا السبب. ثم اتضح أن السلطات قد أمرت بدس الأموال إلى الوكلاء، فمن قبض منهم مالاً قبضوا عليه.(٥٤) وبذلك فشل هذا المخطط الظالم. ومن يعمل مثل ذلك مرة أو مرات، يمكنه أن يعمله متى يشاء.
أما لو استلزمت إزالته للظلم ظهوره لبعض الأفراد، على حقيقته، فهو مما قد يحصل تبعاً لظروف خاصة وتخطيط خاص، سوف ندرسه في بعض الفصول المقبلة. وأما إذا لم تتوفر تلك الظروف ترك المهدي (عليه السلام) الظلم على حاله، لعدم توفر الشرط الأول من الشرطين السابقين.
وعلى أي حال، فبالنسبة إلى العمل الخيِّر الصالح، يستطيع المهدي أن يقنع فرداً أو جماعة للقيام به، أو يشجع أناساً مندفعين تلقائياً للقيام بمثله، ويؤيدهم التأييد الكافي، ويحاول أن يرفع الموانع عن تقدم عملهم وازدهاره. كل ذلك من دون أن يفترض عضواً فعلياً مشاركاً في شيء من الأعمال. ومعه تكون الأعمال بطبيعتها، بالرغم مما أوجد لها المهدي (عليه السلام) من فرص النجاح، قابلة للإخفاق أو الضيق تبعاً لقصور أصحابها القائمين بها أو تقصيرهم نفسياً أو عملياً.
وأما بالنسبة إلى العمل الظالم، فهو يتسبب إلى رفعه أو التقليل من تأثيره، إما بمحاولة إقناع الفاعل على الارتداع عنه أو الضغط عليه أو إحراج مصالحه بنحو يصغر معه عمله ويضيق أو بنحو ينعدم تأثيره أساساً. أو بإذكاء أوار الثورة أو الاحتجاج من قبل الآخرين.
النقطة الثالثة:
هناك كلام لرونلدسن حول الإمام المهدي (عليه السلام)، فيما يخص ما نحن فيه من الموضوع. يتبنى المهدي فيه بعدم الالتفات إلى أصحابه وقواعده الشعبية، وعدم رفع الظلم عنهم. وهو بذلك يريد أن يستنتج عدم وجوده، إذ لو كان موجوداً فهو شخص يشعر بالمسؤولية والعطف تجاه أصحابه، فهو لا محالة رافع للظلم عنهم أو مشاركهم في العمل ضده. مع أنه لم يعمل ذلك، بالرغم من أن المظالم في التاريخ كثيرة وشديدة، إذن فهو غير موجود.
وهو إن لم يصرح بهذه النتيجة، ولكنه يوحي بها إيحاء واضحاً، حين يقول: "وفي القرن التالي لغيبة الإمام استلم البويهيون زمام السلطة الزمنية فبذلوا جهوداً كبيرة لتوحيد الطائفة الشيعية وتقويتها، كبناء مشاهدها وجمع أحاديثها وتشجيع علمائها ومجتهديها. ومع ذلك فلم يظهر الإمام المنتظر في هذا القرن الذي كانت الطائفة الشيعية تتمتع فيه بحسن الحال". ومرّ قرن آخر دالت فيه دولة حماة الشيعة من البويهيين ولكن الإمام بقي في (غيبته الكبرى).
ومرّ قرن ثالث يمتاز بالظلم والثورات وتحكم المماليك. ولكن الإمام الذي كانوا يرتجون ظهوره لم يظهر.
وجاء دور الحروب الصليبية التي اشترك (آل البيت) فيها دون أن يكون لهم إمام. فمن الجانب الإسلامي، كانت السلطة لإعلان الجهاد تنحصر بيد بني العباس والفاطميين المارقين في مقاومة الجيوش الغازية للشعوب المسيحية بالاسم في أوروبا، ولكن الإمام أخرّ ظهوره.
وبعد مرور أربعة قرون على وفاة آخر الوكلاء في القرن الثالث عشر – يعني الميلادي – ادتاح الغزاة المغول بلاد إيران يقتلون ويهدمون بقساوة لا مثيل لها. وبالرغم من التخريب والآلام فإن (صاحب الزمان) المنتظر بفارغ الصبر لم يظهر.
وحتى في ابتداء القرن السادس على زمن شيوع أذربيجان والدولة الصفوية الجديدة، لم يتصل الإمام الغائب بشيعته إلا بالطيف! فكان يظهر لهؤلاء الملوك، كما يدعون!!
وبالرغم من أن في هذا الكلام عدة نقاط محتاجة لإعادة النظر، إلا أن المهم الآن مناقشة الإشكال الرئيسي الذي يثيره، وهو استبعاد وجود الإمام من عدم ظهوره عند الحاجة لأجل رفع الظلم عن قواعده الشعبية خاصة، والمسلمين عامة.
وقد اتضح الجواب على ذلك مما سبق أن قلناه متمثلاً في عدة وجوه:
أولاً: أننا يجب أن لانتوقع من الإمام المهدي (عليه السلام) الظهور الكامل، تحت أي ظرف من الظروف، باعتباره مذخوراً لنشر العدل الكامل في العالم كله، لا لرفع المظالم الوقتية أو الاتصال بأشخاص معينين. وقد عرفنا أن الإسراع بالظهور قبل أوانه يوجب جزماً فشل التخطيط الإلهي لليوم الموعود. لأن نجاحه منوط بشروط معينة وظروف خاصة لا تتوفر قبل اليوم الموعود جزماً. وقد عرفنا أن كل ما أعاق عن نجاحه لا يمكن وجوده بحسب إرادة الله تعالى وإرادة المهدي (عليه السلام) نفسه، مهما كان الظرف مهماً وصعباً.
ثانياً: أننا نحتمل – على الأقل – أن المهدي (عليه السلام) يرى أن بعض الظلم الذي كان ساري المفعول خلال التاريخ، كالحروب الصليبية مثلاً، غير قابلة للإزالة من قبله حال الغيبة بحال. ولا ينفع التخطيط السري أو العمل الاعتيادي، بصفته فرداً عادياً، في إزالتها... لقوة تأثيرها وضرواة اندفاعها. ومعه يصبح الإمام المهدي (عليه السلام) حال غيبته عاجزاً عن رفع هذا الظلم، فيكون معذوراً عن عدم التصدي لرفعه طبقاً للقواعد الإسلامية ولوظيفته الواعية الصحيحة.
ثالثاً: إن جملة من موارد الظلم الساري في المجتمع، لا يتوفر فيه الشرط الأول من الشرطين السابقين اللذين ذكرناهما لعمل المهدي (عليه السلام)، فلا يعمل المهدي لإزالته بطبيعة الحال. وهو ما إذا كان العمل ملازماً لانكشاف أمره وانتفاء غيبته.
رابعاً: إن جملة من موارد الظلم، لا يتوفر فيه الشرط الثاني من الرطين السابقين اللذين ذكرناهما لعمل المهدي (عليه السلام)، فلا يعمل المهدي لإزالته بطبيعة الحال. وهو ما إذا كان العمل ملازماً لانكشاف أمره وانتفاء غيبته.
رابعاً: إن جملة من موارد الظلم، لا يتوفر فيه الشرط الثاني من الرطين السابقين، باعتبار أو وجوده سبب لانتشار الوعي في الأمة وشعورها بالمسؤولية الذي هو أحد الشروط الكبرى ليوم الظهور. وقد قلنا بأن مثل هذا الظلم وإن وجب على الأمة الكفاح لإزالته، إلا أن الإمام المهدي (عليه السلام) لا يتسبب لرفعه، لأن في رفعه إزالة للشرط الأساسي لليوم الموعود، وهو ما لا يمكن تحققه في نظر الإسلام.
إذن فسائر أنحاء الظلم الساري المفعول في التاريخ لا محالة مندرج تحت أحد هذه الأقسام، فإذا كان المهدي (عليه السلام) قد عمل لإزالتها فقد خالف وظيفته الإسلامية ومسؤوليته الحقيقية، ولا أقل من احتمال ذلك، لأجل المهدي (عليه السلام) على الصحة.
إذن فليس هناك أي تلازم بين وجود المهدي وبين وقوفه ضد هذه الأنحاء من الظلم والشرور، حتى يمكن لرونلدسن أن يستنتج من عدم وقوفه ضد الظلم، عدم وجوده.
وأما الأنحاء الأخرى من الظلم، فقد قلنا بأن تكليفه الشرعي ووظيفته الإسلامية، تقتضي وقوفه ضده وحيلولته دونه بصفته فرداً عادياً في المجتمع، كما أوضحناه. إذن فهو يقف ضد الظلم في حدود الشروط الخاصة الإسلامية، كيف وهو على طول الخط يمثل المعارضة الصامدة ضد الظلم والطغيان.
الفصل الثالث: في الحياة الخاصة للمهدي (عليه السلام)
وكل ما يعود إلى شخصه عليه السلام من الأمور حال غيبته الكبرى
ويمكن الكلام عن ذلك في ضمن عدة أمور:
الأمر الأول:
هل الإمام المهدي (عليه السلام) متزوج وله ذرية أم لا.
ويمكن بيان ذلك على مستويين، باعتبار ما تقتضيه القواعد العامة، أولاً، وما تقتضيه الأخبار الخاصة ثانياً.
المستوى الأول: فيما تقتضيه القواعد العامة المتوفرة لدينا.
وهذا مما يختلف حاله على اختلاف الأطروحتين الرئيسيتين اللتين عرضناهما فيما سبق.
أما الأطروحة الأولى: أطروحة خفاء الشخص، فهي – بغض النظر عن الأخبار الخاصة الآتية – تقتضي أن لا يكون المهدي متزوجاً، وأن يبقى غير متزوج طيلة غيبته. ولا غرابة في ذلك، فإن كل ما ينافي غيبته ويعرضه للخطر يكون وجوده غير جائز، فيكون زواجه غير جائز، لوضوح منافاته مع غيبته ولزومه لانكشاف أمره. إذ مع خفاء شخصه لا يمكنه الزواج بطبيعة الحال عادة. أما مع ظهوره وانكشاف أمره، فهو المحذور الذي يجب تجنبه ويخل بالغرض الأسمى من وجوده.
وأما افتراض أنه ينكشف لزوجته فقط، بحيث تراه وتخالطة من دون كل الناس، فهو وإن كان ممكناً عقلاً، إلا إنه بعيداً كل البعد عن التطبيق العملي بحيث نقطع بعدم إمكانه. فإن هذه الزوجة يجب أن تكون قبل زاوجها من خاصة الخاصة المأمونين الموثوقين إلى أعلى الدرجات، بحيث لا يكون في مقابلتها إياه واطلاعها على حقيقته أي خطر. ومثل هذه المرأة تكاد تكون منعدمة بين النساء، إن لم تكون معدومة فعلاً... فضلاً عن أن يجد في كل جيل امرأة من هذا القبيل.
إذن فبقاؤه طيلة غيبته أو في الأعم الأغلب منها بدون زواج، ضروري لحفظه وسلامته إلى يوم ظهوره الموعود، فيكون ذلك متعيناً عليه.. لو أخذنا بالأطروحة الأولى.
وأما على الأطروحة الثانية: أطروحة خفاء العنوان، فكل هذا الكلام الذي رأيناه يكون بدون موضوع. فإن المهدي (عليه السلام) وإن كان من المتعذر عليه إيجاد الزواج بصفته الحقيقية، لما قلناه من عدم وجود المرأة الخاصة المأمونة بالنحو المطلوب. ولكن زواجه بصفته فردا ًعادياً في المجتمع، أو بشخصيته الثانية، ممكن ومن أيسر الأمور، بحيث لا تطلع الزوجة على حقيقته طول عمرها. فإن بدا التشكيك يغزو ذهن المرأة في بعض تصرفاته أو عدم ظهور الكبر عليه بمرور الزمان... أمكن للمهدي (عليه السلام) أن يخطط تخطيطاً بسيطاً لطلاقها وإبعاجها عن نفسه، أو مغادرة المدينة التي كان فيها إلى مكانٍ آخر، حيث يعيش ردحاً آخر من الزمن، وقد يتزوج مرة أخرى.. وهكذا.
وإذا أمكن زواجه، أمكن القول بتحققه، وإن الإمام المهدي عليه السلام متزوج في غيبته الكبرى بالفعل. وذلك لأن فيه تطبيقاً للسنة المؤكدة في الإسلام والأوامر الكثيرة بالزواج والحث العظيم عليه والنهي عن تركه، والمهدي أولى من يتبع السنة الإسلامية. وبخاصة إذا قلنا بأن المعصوم لا يترك المستحب ولا يفعل المكروه مهما أمكن، والتزمنا بعصمة المهدي (عليه السلام) كما هو الصحيح. فيتعين أن يكون متزوجاً، بعد أن توصلنا إلى إمكان زواجه وعدم منافاته مع احتجابه.
وإذا سرنا مع هذا التصور، أمكن أن نتصور له في كل جيل، أو في أكثر الأجيال ذرية متجددة تتكاثر بمرور الزمن، ولكنها تجهل بالمرة بأنها من نسل الإمام المهدي (عليه السلام)، لأن لا يكشف حقيقته أمام زوجته وأولاده الصلبيين، فكيف بالأجيال المتأخرة من ذريته.
إلا أن أمامنا شيئاً واحداً يحول بيننا وين التوسع في هذا الافتراض، إن لم يكن برهاناً على انتفاء الذرية أصلاً. وهو: إن وجود الذرية ملازم عادة لإنكشاف أمره والاطلاع على حقيقته. فإن السنين القليلة بل العشرين والثلاثين منها قد تمضي مع جهل زوجته وأولاده بحقيقته، كما أنه يمكن التخلص من الزوجة حين يبدو عليها بوادر الالتفات. ولكن كيف يمكن التخلص من الذرية؟! فإنهم أو بعضهم – على أقل تقدير – يكونون أحرص الناس على مشاهدة أبيهم وملاحقته أينما ذهب. ومعه يكون دائماً تحت رقابتهم ومشاهدتهم. ومن ثم لا يمكنه الحفاظ على سره العميق زماناً مترامياً طويلاً. فإنهم بعد مضي الخمسين أو السبعين عاماً، سوف يلاحظون بكل وضوع عدم ظهور امارات المشيب والشيخوخة على والدهم، وأنه بقي شاباً على شكله الأول. ومن ثم يحتملون على الأقل كونه هو المهدي (عليه السلام)، أو أنه فرد شاذ لا بد من الفحص عنه والتأكذ من حقيقته.. وبالفحص ومداومة السؤال، لا بد أن يتوصلوا إلى الاحتمال على أقل تقدير. وهذا مناف مع غيبته وكتمان أمره. وأما لو بقيت ذريته تراقبه، ولو بشخصيته الثانية، عدة أجيال، فيكون انكشاف أمره بمقدار من الوضوح.
وأما افتراض أنه يعيش مع زوجته وأولاده، ويظهر عليه المشيب فعلاً، ثم أنه يختفي ويتحول شكله إلى الشباب تارة أخرى عن طريق المعجزة، لكي يستأنف حياة زوجية جديدة.. وهكذا.. فهو افتراض عاطل ترد عليه عدة اعتراضات أهمها منافاته مع قانون المعجزات، فإن زواج المهدي ووجود الذرية لديه لا يمت إلى الهداية الإلهية بصلة، لكي يمكن أن تقوم المعجزة من أجله.
إذن فلا بد من الالتزام بعدم وجود الذرية للمهدي (عليه السلام) بالنحو المنافي لغيبته. أما بانعدام الذرية على الإطلاق، أو بوجود القليل من الذرية التي تجهل حال نسبها على الإطلاق، كما يجهله الآخرون، ولعلنا نصادف بعضاً منهم، ولكن إثبات نسبه في عداد المستحيل.
فالمتحصل من القواعد العامة، هو أن المظنون أن يكون الإمام المهدي (عليه السلام) متزوجاً بدون ذرية. لا لنقص فيه بل ولا في زوجته، بل لإشاءة الله تعالى ذلك، أو تعمد المهدي (عليه السلام) له، احتفاظاً بسره ومحافظة على أمره.
المستوى الثاني: فيما تدل عليه الأخبار من وجود الزوجة والأولاد للمهدي (عليه السلام). ونحن نواجه بهذا الصدد شكلين أو طائفتين من الأخبار:
الشكل الأول:
الأخبار الدالة على زواجه ووجود الذرية له، بنحو مجمل من حيث كون ذلك حاصلاً في زمان الغيبة أو بعد الظهور، ومن حيث كونه بعنوانه الواقعي أو بشخصيته الثانية. وسنعرف فيما يأتي أنه لا بد من تخصيص هذه الأخبار، فيما بعد الظهور، أو في حال الغيبة بشكل لا يكون سبباً لانكشاف أمره وانتفاء غيبته.
الشكل الثاني:
الأخبار الدالة على زواجه ووجود الذرية له فيغيبته الكبرى. وهي ثلاث روايات:
الأولى: ما رواه الحاج النوري قدس سره في النجم الثاقب عن كتاب الغيبة للشيخ الطوس وكتاب الغيبة للنعماني. قال: رويا بطريق معتبر عن المفضل بن عمر، قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: إن لصاحب هذا الأمر غيبتين، إحداهما تطول حتى يقول بعضهم: مات. وبعضهم يقول: قتل. وبعضهم يقول: ذهب. فلا يبقى على أمره من أصحابه إلا نفر يسير لا يطلع على موضعه أحد من ولده ولا غيره، إلا المولى الذي يلي أمره.(٥٥)
الثانية: رواية كمال الدين الإنباري، التي ينذكر مضمونها في الأمر الرابع الآتي.(٥٦)
الثالثة: رواية زين الدين المازندراني، وهي مشابهة للرواية الثانية، من عدة نواحٍ، على ما سنرى في الفصل الآتي.(٥٧)
إلا أن شيئاً من هذه الروايات، لا يصح الاستدلال به، بمعنى أنه، لو تمت من ناحية السند، لا تكاد تثبت أكثر وأوسع مما اقتضته القواعد العامة التي عرفناها على المستوى الأولي.
أما الرواية الأولى، فلا تصح لعدة وجوه:
الوجه الأول:
أنه لا دليل على وجود ذكر الولد في هذه الرواية. فإن كلا من الشيخ الطوسي والشيخ النعماني يرويانها بنص واحد، إلا أن الشيخ الطوسي قال: لا يطلع على موضعه أحد من ولده ولا غيره.(٥٨) والشيخ النعماني روى: من ولي ولا غيره.(٥٩) ومع تهافت نسخ الرواية فيما هو محل الشاهد، لا يمكن المصير إلى الاستدلال بها.
الوجه الثاني:
أنه على تقدير الاعتراف بوجود كلمة الولد في الرواية، فإنها لا تكاد تدل على أمر زائد على ما اقتضته القواعد بناء على الأطروحة الثانية، فإنه يمكن أن يكون للإمام المهدي (عليه السلام) ذرية لا تعرف حقيقة أبيها، بمقدار لا يصل الأمر إلى انكشاف أمره وذيوع سره، كما سبق أن عرفنا. أو يكون المهدي (عليه السلام) قد حصل في بعض الأجيال، على زوجة موثوقة عرفت حقيقته وصانت سره وسترته عن ذريته.
أما وجود ولد أو ذرية يعاشرونه ويعرفونه، فهو منفي بنص الرواية، كما هو منفي بمقتضى القواعد.
ثالثا: أننا نتحمل على الأقل، أن المراد بقوله: لا يطلع على موضوعه أحد من ولده ولا غيره.. المبالغة في بيان زيادة الخفاء. بمعنى أنه حتى لو كان له ولد أطلع على حقيقته فضلاً عن غير الولد. وهذا بمجرده لا يكون دليلاً على وجود الولد فعلاً، كما هو واضح. واحتمال هذا المعنى يكفي لإسقاط الاستدلال بالرواية، فإنه إذا دخل الاحتمال بطل الاستدلال.
وأما الروايتان الأخيرتان، التي سنسمعهما، فالمقدار المشترك من مدلوليهما، هو أن المهدي (عليه السلام) ساكن خلال غيبته الكبرى في بعض الجزر المجهولة من البحر الأبيض المتوسط.. متزوج وله ذرية. وقد أسس هناك مجتمعاً إسلامياً نموذجياً مكوناً من أولاده والأخيار من أتباعهم وأصحابهم. وهو يعيش في ذلك المجتمع محتجباً، في الوقت الذي يتولى الرئاسة العامة أولاده وذريته.
وسيأتي التعرض إلى تفاصيل المضمون بمقدار الحاجة، مع إيضاح نقاط الضعف فيه. ويكفينا في حدود محل الاستدلال المناقشة من ناحيتين:
أولاً: إن كلا الروايتين لا تكادان تصحان أساساً، لابتنائهما على الأساس الذي تقوم عليه الأطروحة الأولى، كما سنوضحه عند التعرض إلى تفاصيلها. وهو أساس سبق أن أقمنا البرهان على بطلانه.
ثانياً: أنه على تقدير صحتهما، فهما لا يدلان على شيء زائد مما اقتضته القواعد العامة. فإن غاية ما تدلان عليه هو افتراض أن الإمام المهدي (عليه السلام) قد وجد في بعض الأجيال إمرأة صالحة موثوقة عرفته وسترت أمره وحجبته عن ذريته. وقد علم ذريته بانتسابهم إليه من دون أن يروه أو يعرفوا مكانه. وبالجملة يكفي في صدق هاتين الروايتين وقوع الزواج للمهدي (عليه السلام) مرة واحدة خلال الأجيال، وهو مما لم تنفه القواعد العامة، كما هو معلوم.
إذن فلم نجد من الروايات، ما يصلح للاستدلال به على مضمون زائد على ما عرفناه في القواعد العامة.
الأمر الثاني:
في مكان المهدي (عليه السلام) في غيبته الكبرى.
سبق أن سمعنا في تاريخ الغيبة الصغرى،(٦٠) أن المهدي (عليه السلام) قال لمحمد بن إبراهيم بن مهزيار حين قابله: يا ابن المازيار! أبي أبو محمد عهد إلي أن لا أجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم ولهم الخزي في الدنيا والآخرة ولهم عذاب أليم. وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلا وعرها، ومن البلاد إلا عفرها... الخ كلامه.
وهو دال على تعيين مكان المهدي (عليه السلام) في البراري والقفار النائية.. سواء في ذلك عصر غيبته الصغرى، وعصر غيبته الكبرى. وسواء أخذنا بأطروحة خفاء الشخص أو أطروحة خفاء العنوان. فإنه منسجم مع كلتا الأطروحتين.
إلا أننا ذكرنا أن هذا وإن كان محتملاً في نفسه، إلا أنه مناف مع أعداد من الروايات الدالة على وجوده بكثرة في أماكن أخرى. أهمها روايات المشاهدة في الغيبة الصغرى وأخبار المشاهدة الكبرى.. إلا على بعض الفروض النادرة أو الإعجازية التي نحن في غنى عن افتراضها، والمهدي (عليه السلام) في غنى عن اتخاذها، فإن المعجزة لا تقع إلا عند توقف إقامة الحجة عليها، كما سبق.
فإذا تجاوزنا هذه الرواية يبقى الكلام في تشخيص مكان المهدي (عليه السلام) تارة بحسب القواعد العامة التي تقتضيها الأطروحتان الرئيسيتان، وأخرى بحسب الأخبار الخاصة التي يمكن الاستدلال بها في هذا الصدد.
أما الأطروحة الأولى: أطروحة خفاء الشخص.. فهي تقتضي الجهل المطبق بمكانه عليه السلام، إلا ما يكون عند مشاهدته حين تقتضي المصلحة لذلك.
وأما الأطروحة الثانية: أطروحة خفاء العنوان، فقد سبق أن أوضحنا إمكان أن يعيش الإمام المهدي (عليه السلام) في أي مكان شاء ويذهب إلى أي مكان يريد، من الحواضر أو البوادي من البر أو البحر أو الجو، من دون أن يلفت إلى نفسه نظراً أو يكشف سراً. كما اوضحنا أنه لا ينبغي أن نتصور له مكاناً واحداً مستمراً أو غالباً طيلة غيبته، لأن ذلك ملازم عادة لالتفات الناس إلى حقيقته وانتقاء غيبته.. بل هو – لا محالة – يوزع سكناه بين البلدان، لكي يبعد عن نفسه الشكوك.
وأما بحسب الروايات الخاصة، فنواجه منها عدة أخبار:
الأول: خبر المفضل بن عمر، السابق الذي يقول فيه: لا يطلع على موضعه أحد من ولده ولا غيره إلا المولى الذي يلي أمره.
الثاني: رواية كمال الدين الإنباري، التي أشرنا إليها.
الثالث: رواية زين الدين المازندراني، السابقة.
وتشترك هاتان الروايتان في بيان أن المهدي (عليه السلام) يسكن في بعض الجزر المجهولة في البحر الأبيض المتوسط. وكأن في هذا تطبيقاً لما ورد في رواية ابن مهزيار من أنه لا يسكن في الجبال إلا وعرها ومن البلاد إلا عفرها، وأن لا يجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم!
وقد سبق أن ذكرنا، وسيأتي أيضاً، بأن هاتين الروايتين مبتنيتان على الأساس الذي تبتني عليه الأطروحة الأولى، ومعه تكون باطلة وغير معتبرة جملة وتفصيلاً.
الرابع: ما ورد عن أبي بصير عن الإمام الباقر (ع) إنه قال: لا بد لصاحب هذا الأمر من عزلة، ولا بد في عزلته من قوة. وما بثلاثين من وحشة. ونعم المنزل طيبة.(٦١)
ويشترك هذا الخبر مع الخبر الأول في الدلالة على انعزال الإمام المهدي (عليه السلام) وبعده عن الناس، ويتعارضان من حيث أن الأخير يثبت أن جماعة من الناس في كل جيل يعرفون المهدي ويتصلون به ويرفعون عنه الوحشة، وهذا ما ينفيه الخبر الأول بوضوح حيث يقرر عدم إطلاع أحد على موضعه حتى ولده، إلا المولى الذي يلي أمره. ويستقل الخبر الأخير على تعيين مكان المهدي (عليه السلام) في طيبة، وهي مدينة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله.
فهذه نقاط ثلاث، ينبغي أن يقع الكلام عنها، ويحسن من أجل ضبط السياق، أن نبدأ بالأخيرة.
النقطة الأولى:
حول ما دل عليه خبر أبي بصير من سكنى المهدي في مدينة الرسول (ص).
وهذا أمر ينافيه ما ورد في خبر إبن مهزيار من اختصاص مكان المهدي (عليه السلام) في البراري والقفار. كما ينافي ما ورد في أخبار المقابلات في الغيبتين الصغرى والكبرى، كما ذكرنا، من وجود المهدي (عليه السلام) في أماكن أخرى من العالم. ومع هذه المنافاة لا تكاد تكون رواية أبي بصير قابلة للإثبات أو الاستدلال.
ولو غضضنا النظر عن ذلك، لم نجد أن سكناه المدينة مناف للقواعد العامة التي عرفناها.. سواء أخذنا بأطروحة خفاء الشخص أو بأطروحة خفاء العنوان. أما على أطروحة خفاء الشخص، فمن الممكن أن نفترض سكناه حال خفائه في المدينة نفسها، بدون لزوم أي إشكال أو صعوبة.
وأما على أطروحة خفاء العنوان، فينبغي أن نخص هذه السكنى بما إذا لم تستلزم إنكشاف أمره أو إلتفات الناس إلى سره. لما سبق أن عرفناه من أن يعود إلى سكناها بين جيل وجيل أو نحو ذلك، بحيث لو راجعنا المعدل العام لزمان الغيبة الكبرى، رأينا مكانه الأغلب هو المدينة المنورة. وقد سبق أن عرفنا أن مثل هذا الأسلوب في سكنى المدن لا يكون مظنة للإنكشاف.
ولعل هذا الأنسب بحال المهدي (عليه السلام) واتجاهه، من حيث أنه يود مجاورة قبر جده الأعظم رسول الإنسانية (ص)، والقرب إلى مكان الج ليستنى له القيام به كل عام. وبخاصة وإن أغلب سكان المدينة المنورة في أغلب أجيال التاريخ الإسلامي، إن لم يكن كلها، من المنكرين لوجوده أصلاً.. وهو مما يسهل له الحفاظ على خفاء عنوانه ودوام غيبته.
النقطة الثانية:
فيما تختلف فيه الروايتان من المضمون، حول أن المهدي (عليه السلام) هل يعاشر بعض الناس أولاً.
وعند الموازنة بين الأمرين، لا بد من عرضهما على القواعد العامة اليت عرفناها. وسوف تختلف نتيجة الموازنة طبقاً للأطروحتين الرئيسيتين السابقتين: أما لو أخذنا بأطروحة خفاء الشخص، فسوف يرجح الأخذ برواية المفضل بن عمر. وإن لم تكن مطابقة لها تماماً لدلالة الرواية على انكشاف المهدي (عليه السلام) للمولى الذي يلي أمره، وهو يُنافي الالتزام الكامل بهذه الأطروحة. وأما لو أخذنا بأطروحة خفاء العنوان، فسوف يرجح الأخذ برواية أبي بصير، وإن لم تكن مطابقة لها تماماً لدلالة الرواية على انحصار العارفين بالمهدي (عليه السلام) والمعاشرين له بثلاثين، في كل جيل، بحيث لولاهم لكان في وحدة موحشة.
وهذا ما يستغنى عن إفتراضه بناء على هذه الأطروحة. إذ يمكن للمهدي (عليه السلام) أن يعاشر أي شخص كما عرفنا. نعم، يمكن أن يكون للثلاثين خصيصة الاطلاع على حقيقته، وهو أمر لطيف، إلا أنه لا يستلزم عدمهم وجود الوحدة الموحشة على أي حال.
النقطة الثالثة:
فيما تشترك فيه الروايتان من النص على اعتزال المهدي (عليه السلام) عن الناس.
وهذا يمكن حمله على أحد وجهين:
الوجه الأول: أن يفسر بالاعتزال النسبي، يعني إعتزاله بصفته الحقيقية، وإن كان مرتبطاً بالناس بصفته فرداً عادياً في المجتمع. وهذا الوجه قريب من أطروحة خفاء العنوان. إلا أنه مخالف لكلتا الروايتين في ظاهرهما، كما يتضح لمن قرأهما.
الوجه الثاني: أن يعترف بعزلته عليه السلام، بشكل مطلق. وهذا أقرب إلى أطروحة خفاء الشخص، فإنها تستلزم العزلة المطلقة. ولكنه لا ينافي الأطروحة الأخرى لإمكان أن يرى المهدي (عليه السلام) حال انعزاله من دون أن تعرف حقيقته.
إلا إننا عرفنا أنه لا حاجة إلى افتراض مثل هذه العزلة مع خفاء العنوان. إن لم تكن بنفسها ملفته للنظر والتساؤل عن حقيقة هذا الفرد المنعزل وعن سبب انعزاله، مما يثير حوله الانتباه.
فإذا لم يصح الوجه الأول، كما لم يصح الوجه الثاني انطلاقاً من أطروحة خفاء العنوان، الصحيحة، لم يمكن القول بصحة المضمون المشترك بين الروايتين، وإن كان مدعماً برواية ابن مهزيار أيضاً.
الأمر الثالث:
ما ورد من تسمية أولاده وسكنهم وأعمالهم.
تنص رواية الإنباري المشار إليها، إن للحجة المهدي (عليه السلام) عدة أولاد في
الجزر المجهولة في البحر الأبيض المتوسط.
أحدهم: طاهر بن محمد بن الحسن. وهو يحكم إحدى تلك الجزر المسماة بالزاهرة.(٦٢)
ثانيهم: قاسم بن محمد بن الحسن. هو يحكم الجزيرة المسماة بالرائقة.(٦٣)
ثالثهم: إبراهيم بن صاحب الأمر. وهو يحكم بلدة هناك تسمى بالصافية.(٦٤)
رابعهم: عبد الرحمن بن صاحب الأمر. وهو يحكم بلدة باسم طلوم.(٦٥)
خامسهم: هاشم بن صاحب الأمر. وهو يحكم بلدة باسم عناطيس.(٦٦)
وكلهم يحكمون تحت الإشراف العام لأبيهم صاحب الأمر المهدي (عليه السلام).
وإن لم تدل الرواية على أنهم يرونه ويجتمعون به أولاً.
وحيث أن الحادثة المروية بهذه الرواية مؤرخة بتاريخ القرن السادس الهجري،(٦٧) فيكون قد مضى على ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) حوالي الأربعمائة سنة. ولا نحتمل طول عمر أولاده ولا زوجته بالشكل الخارج عن الطبيعي من أعمار الآخرين من الناس. إذن، فلو صحت الرواية، يتعين أن يكون قد تم زواجه ووجود أولاده في مثل ذلك العصر. وقد سبق أن ذكرنا أن ذلك إنما يتم فيما لو كان المهدي (عليه السلام) قد وجد امرأة موثوقة في أعلى درجات الإخلاص، بحيث تعرفه وتساعده على إخفاء نفسه حتى على أولاده، وإن كانت قد لا تخفي عنهم انتسابهم إليه.
أما زواجه في العصور المتقدمة على ذلك، أو العصور المتأخرة عنه، أو وجود ذرية له فيها، فلا تتعرض له الرواية. فيبقى محولاً على متقضى القواعد السابقة.
وأما صحة هذه الرواية، فقد سبقت الإشارة إلى عدم صحتها، وسيأتي تفصيل ذلك الأمر الآتي:
وأما رواية المازندراني المشابهة لها في المضمون، فهي مؤرخة في القرن السابع الهجري.. تدل على وجود عدة جزائر في البحر الأبيض أيضاً أكبرها المسماة بـِ (الخضراء) يحكمها نائب خاص عن الإمام المهدي (عليه السلام)، يسمى بمحمد ويلقب بشمس الدين، وهو من ذرية المهدي، وبينهما خمسة آباء.(٦٨) لكن لا يتضح انتسابه إلى أي من الأولاد السابقين.
ولعل هناك شي من البعد في تسلسل خمسة أجيال خلال قرن من الزمن، إلا بتقدير تعدد زواجه أو سرعة تناسل أولاده.
والظاهر من هذه الرواية عدم وجود أولاد المهدي (عليه السلام) المباشرين بل من بعدهم أيضاً، وإلا لما أصبح حفيده الخامس حاكماً هناك، دونهم. وخاصة وإن الرواية تنص على أن آباءه أفضل منه، بقرينة عدم مشاهدته للإمام (ع)، وأما أبوه فقد سمع صوته ولم ير شخصه، وأما جده فقد رأى شخصه وسمع صوته.(٦٩) وكلما كان الفرد أقرب ارتباطاً بالمهدي (عليه السلام) دل ذلك على زيادة في فضله وإخلاصه.
وحساب هذه الرواية، من حيث أصل صحتها واعتبارها، موكول إلى الأمر الرابع الآتي.
الأمر الرابع:
تأسيس المهدي (عليه السلام) في غيبته الكبرى مجتمعاً إسلامياً نموذجياً.. أو عدم صحة ذلك.
يدل على تأسيسه لمثل هذا المجتمع، الروايتان المشار إليهما فيما سبق للإنبار والمازندراني.. وتنفيه سائر القرائن الأخرى من عقلية ونقلية على ما يأتي.
ونود أن ندرس فيما يلي الخصائص العامة الفكرية والاجتماعية والعلمية والسياسية لهذا المجتمع النموذجي، وما أنتجته هذه الخصائص فيه من مستوى من الرفاه والازدهار في الزراعة والتجارة.
ولا يخفى أننا بعد أن نناقش في أصل هاتين الروايتين وصحتهما، فسوف لن تبقى لهذه الخصائص قيمة من وجهة نظر إسلامية موضوعية، إلا باعتبارها صحيحة في نظر الراوي وبحسب فهمه الخاص. وإنما ندرسها الآن بصفتها ممثلة لوجهة نظر بعض المسلمين تجاه شكل المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية عامة والنظام المهدوي خاصة. وسننطلق بعد ذلك إلى تطبيقه على القواعد والأدلة الإسلامية الحقة.
تتفق الروايتان: على أن هناك مدن كبيرة وكثيرة على ساحل البحر، ربما كانت في بر إحدى القارات، وربما كانت في جزائر ضخمة في أحد البحار. وتنص رواية المازندراني على أنه هو البحر الأبيض المتوسط. وإن هذه الجزائر هي السبب في تسميته البحر الأبيض لأنها محاطة ماء أبيض صاف كماء الفرات يختلف لونه عن لون سائر ماء البحر، إذا وردت فيه سفن الكفار والمحاربين غرقت بقدرة الله تعالى وبركة الإمام المهدي عليه السلام.
وتشكل هذه المجموعة رقعة مهمة من الأرض، لأن إحدى المدن تبعد عن الأخرى بمقدار مسير إثني عشر يوماً أو خمسة عشر يوماً، بحراً أو براً، بوسائط النقل التي كانت سائدة يومئذ في القرنين السادس والسابع الهجريين.
وهي مسافة تكون بالتقريب مثل ما بين مكة المكرمة والمدينة المنورة في الحجاز أو بين البصرة وبغداد في العراق. وبالرغم من سعة هذه المساحة، فإنه مليئة بالبساتين والقرى، التي قد تصل إلى ألف ومائتي قرية لكل مدينة. ومعه يمكن تقدير سكانها بما لا يقل عن عشرة ملايين من البشر. فتكون بذلك دولة متوسطة الحجم، يمكن أن تشكل المجتمع النموذجي الإسلامي على أحسن طراز.
وتتصف هذه المجموعة بالجمال الطبيعي والرفاه الاقتصادي إلى حد بعيد، بحيث تخون اللغة لسان الراوي في وصفه. ويكفينا من ذلك أن أكثر دورها مبنية بالرخام الشفاف، ويحيط كل مدينة مئات المزارع والبساتين ذات الهواء الطلق والفواكه العديدة.
وتنص رواية الإنباري بأن الذئاب والغنم يعيشون في هذه المزارع بصداقة وألفة. وأن السباع والهوام مطلقو السراح ما بين الناس، من دون أن يضروا أحداً أو يوجبوا حادثاً أو مرضاً.
وتشتمل المدن على أسواق كثيرة فيها من الأمتعة المعروضة ما لا يوصف ولا يتناهى. وفيها حمامات كثيرة. وفيها مسجد أعظم يجتمع الناس لإقامة الصلاة. وتوجد حول المدينة أسوار وقلاع وأبراج عالية من جهة البحر، لأجل أن تزداد منعة وقوة.
وأما دين الشعب الساكن في هذه البلاد، فهو الإسلام على المذهب الإمامي الإثنا عشري.
وأما أخلاقهم الكريمة، فحدث عنها ولا حرج، يصفها الإنباري بأنها أحسن أخلاق على وجه الأرض. فهم في الأمانة والتدين والصدق بلا مثيل، وكلامهم خال من اللغو والغيبة والسفاهة والكذب والنميمة. ويؤدون الحقوق المالية الشرعية. وتسود معاملاتهم روح الثقة وحسن الظن إلى حد يقول البائع للمشتري: زن لنفسك وخذ، فإن أخذك لحقك غير متوقف على وجودي. وبمجرد أن يعلن المؤذن دخول وقت الصلاة، يترك الناس أعمالهم ويتوجهون رجالاً ونساءً إلى أدائها.
وتتصف مجتمعات هذه المدن بالتضامن والألفة، فإذا احتاجت بعض الجزر أو المدن إلى مساعدة، أو كانت خالية من الزراعة، أرسلت إليها الميرة والبضائع الكثيرة، من المدن الأخرى الحافلة بالخير والبركات، تبرعاً دون مقابل.
ويحكم هذه المجتمعات حاكم واحد، كما في رواية المازندراني، أو عدة حكام، كما في رواية الإنباري... منصوبين من قبل الإمام المهدي عليه السلام، بحيث يعتبر أهم حاكم نائباً خاصاً له عليه السلام. ومن ثم فهو يقيم صلاة الجمعة، لتحقق شرط وجوبها، وهو وجوبها، وهو وجود الإمام المعصوم أو نائبه الخاص.
وهو الذي يقيم صلاة الجماعة في كل وقت، وهو الذي يفتي الناس بالمسائل الشرعية، ويقضي بينهم. بل تنص رواية المازندراني أنه يدرس العلوم العربية وأصول الدين والفقه الذي تلقاه عن صاحب الأمر المهدي عليه السلام. وهو الذي يجادل عن المذهب إن لزم الأمر، ويكون جداله حاداً وصريحاً، ويكون هو الظاهر في الجدال على خصمه على طول الخط. وله من الكرم وحسن الضيافة الشيء الكثير.
وقد سبق أن عرفنا أسماء عدد من حكام تلك البلاد. وقد كان منهم خمسة من أولاد المهدي (عليه السلام) نفسه، في رواية الإنباري، وواحد من أحفاده في رواية الشيء المازندراني.
يطاع الحاكم هناك من قبل شعبه إطاعة تامة، وله فيهم الكلمة النهائية، وله في قلوبهم المهابة والوقار. وقد يخبر بما ينبغي أن يكون جاهلاً به عادة، كاسم الشخص المسافر الطارئ على البلاد، فيكون هذا آية صدقه وأساس حكمه. وليس هو اخباراً بالغيب وإنما يرويه عن الإمام المهدي (عليه السلام) ولو بالواسطة، والإمام المهدي (عليه السلام) عالم بتعاليم الله عز وجل إياه، بالإلهام أو نحوه. ومن هنا يقول الرواي: فقلت: ومن أين تعرفني باسمي واسم أبي؟ قال: أعلم أنه قد تقدم إليّ وصفك وأصلك ومعرفة اسمك وشخصك وهيئتك واسم أبيك رحمه الله.(٧٠) وإنما تقدم ذلك إليه من المهدي عليه السلام.
والمهدي (عليه السلام) يسكن في تلك المجتمعات نفسها بنحو منعزل لا يراه حتى الحكام أنفسهم بالرغم مما يتصفون به من إخلاص ووثاقة. وإذا خرج إلى الحج أو إلى أي مكان آخر، فإن يعود إليها تارةً أخرى.
وهو يعطي تعليماته للحاكم عن طريق المراسلة، فيما يحتاجه من البت في أمور الناس من المحاكمات وغيرها، كما تنص على ذلك رواية المازندراني. وبذلك يكون له الإشراف المباشر على سائر هذه الدولة النموذجية، ويبقى ذكره فيها حياً وقانونه نافذاً. وتتربى الأجيال على الإخلاص له وانتظار فرجه، وهو أمر عام بين سائر أفراد الشعب هناك إلى حد لا يكادون يقسمون إلا به في كلامهم الاعتيادي.
فهذا هو الوصف العام لهذا المجتمع النموذجي الذي دلت عليه هاتان الروايتان. إلا أنهما لا يمكن أن يكون لهما جانب من الصحة على الإطلاق. وذلك لوجود عدة اعتراضات نذكر منها ثلاثة رئيسية:
الاعتراض الأول:
إن الكرة الأرضية الآن، بل فيما قبل الآن مرت بعدة قرون، قد عرفت شبراً شبراً ومسحت متراً متراً، واطلع الناس على خفاياها وزواياها. وبالرغم من ذلك لم يجد أحد تلك المناطق ولا اطلع على وجود تلك الجزائر والمدن. ولو كانت موجودة لعرفت يقيناً، ولكانت من أهم العالم الإسلامي. إذن فهي غير موجود قطعاص.
وأما الزعم بأنها برمتها مختفية عن الأنظار، كما هو حال المهدي نفسه، لو صحت أطروحة خفاء الشخص... فهو ما حاول بعض الباحثين أن يقوله(٧١) مستشهداً بسعة قدرة الله تعالى، وبما روي من أن رسول الله (ص) كان أحياناً يختفي عن كفار قريش في أثناء صلاته.
إلا أن هذا الاستدلال يثبت الإمكان العقلي لاختفاء هذه المدن، ولكنه لا يثبت وقوعه فعلاً. ونحن نعترف بسعة قدرة الله تعالى على ذلك وما هو أهم منه وأوسع. إلا أننا ننفي وقوع ذلك خارجاً، ونثبت الفرق بين اختفاء المهدي (عليه السلام) والنبي (ص) من ناحية، واختفاء هذه البلدان من ناحية أخرى.
فإن اختفاء المهدي (عليه السلام) والنبي (ص) إنما يتحقق لتوقف حياتهما عليه تلك الحياة المذخورة لهداية الناس وإكمال الحجة عليهم، فيتكون الاختفاء مطابقاً مع قانون المعجزات، وهو أنه مهما توقف إكمال الحجة على المعجزة أوجدها الله جزماً، وخرق بها النواميس الطبيعية، ولا توجد المعجزة في خارج هذا الحد. وبذلك سبق أن نفينا الأطروحة الأولى، لعدم احتياج المهدي (عليه السلام) في سلامته إلى الاختفاء الدائم.
وأما بالنسبة إلى بلد أو مجتمع مسلم، يختفي اختفاء شخصياً برمته، كما يدعي هذا الباحث... فليس الأمر فيه أن إقامة الحجة أو إكمالها متوقف على وجود المعجزة. فإن المفروض أن أفراد المجتمع قد اعتنقوا الإسلام وأخلصوا له وتمت حجته عليهم. فأي حجة تبقى بعد ذلك لنحتاج إلى المعجزة. وإنما المفروض أن سلامته من الأعداء متوقف على اختفائه... إلا أن ذلك مما لا يعرف في الإسلام، وهو خارج عن القانون العام لإقامة المعجزات. إذن فالمعجزة غير متحققة، فلو كان موجوداً لكان ظاهراً لا محالة. ولو كان ظاهراً لكان معروفاً. وحيث أنه غير معروف ولا ظاهر، إذن فهو غير موجود.
ولو صح اختفاء مجتمع ملسم لسلامته من الاعتداء، لصح اختفاء مجتمعات مسلمة كثيرة تعرضت للغارات العديدة على مر التاريخ. على أن ذلك لم يحدث. ولو كان قانون المعجزات يوجب حدوث ذلك، لحدث على أي حال.
وقد يقال: بأن لهذا المجتمع المفترض خصوصية كبرى تميزه عن سائر المجتمعات، وهو وجود الإمام المهدي فيه، فمن الجائز أن يخصه الله تعالى بالاختفاء.
إلا أن هذه الفكرة غير صحيحة بالمرة. إذ لو توقفت سلامة الإمام عليه السلام وبقائه وغيبته، على غياب هذه المدن، لكان أمراً صحيحاً. إلا أن هذا التوقف غير موجود بالمرة، إذ قد عرفنا بأن الإمام المهدي (عليه السلام) يمكنه أن يحرز سلامته وغيبته في أي مكان من العالم على كلا الأطروحتين الرئيسيتين. ومعه لا تبقى لذلك المجتمع أي خصوصية من هذه الناحية.
بل من المستطاع القول، بالنسبة إلى ما ذكرناه من إتمام الحجة: أنه ليس فقط أن إقامة الحجة على هذا المجتمع لا يتوقف على اختفائه كما قلنا، بل أن إكمال الحجة عليه يتوقف على ظهوره وكونه جزءاً من العالم البشري المنظور. وذلك انطلاقاً من قانون التمحيص الإلهي الثابت عقلاً ونقلاً، على ما سنفصله في باب قادم من هذا التاريخ.
فإن الفرد المسلم والمجتمع المسلم، كلما واجه التيارات الكافرة على مختلف مستوياتها، وصمد تجاه الانحرافات الجائرة، وضحى في سبيل دينه، كلما يكون إيمانه أقوى وأرسخ، وإرادته أمضى وأعظم. فاصطدامه مع الكفر والانحراف في حرب جسدية أو عقائدية، جزء من المخطط الإلهي للتمحيص والامتحان... وليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيى عن بينة. وبذلك يكون إكمال الحجة متوقفاً على هذا الاصطدام، وسنى في مستقبل هذا التاريخ أن يوم الظهور الموعود للمهدي (عليه السلام) مما يتوقف على هذا التمحيص. وهذا الاصطدام إنما يحدث والتمحيص إنما يتحقق، فيما إذا كان المجتمع ظاهراً للعيان متفاعلاً مع العالم الخارجي، دون ما إذا كان مرتاحاً في اختفائه منساقاً مع أحلامه.
إذن فالقانون العام للتمحيص وقانون المعجزات منافيان لاختفاء أي مجتمع مسلم وانعزاله عن العالم، ومعه فلو كان هذا المجتمع موجوداً لكان ظاهراً. وحيث أنه غير ظاهر إذن فهو غير موجود.
وهذا هو مرادنا مما قلناه فيما سبق، من أن هاتين الروايتين مبتنيتان على الأساس الذي تبتني عليه الأطروحة الأولى، وقد عرفنا الآن أنه أسوأ حالاً وأشد بعداً من الأطروحة الأولى بكثير حيث برهنا على بطلان تلك الأطروحة بالاستغناء عنها بالأطروحة الثانية. وأما هذه المدن، كفلا من قانوني المعجزات والتمحيص، ينفيان اختفاءهما بالضرورة.
وليت شعري، لم يلتفت هذا الباحث الذي يدعي اختفاء هذه المدن الكثيرة، إلى أن سياق الروايتين الدالتين على وجودهما منافٍ مع هذه الفكرة: وذلك انطلاقاً من نقطتين أساسيتين:
النقطة الأولى:
ما نصت عليه رواية المازندراني، من أن البحر الأبيض إنما سمي بذلك لوجود ماء صاف كماء الفرات حول الجزر، إذا دخلته سفن الأعداء غرقت بقدرة الله تعالى وبركة المهدي عليه السلام.
فإن هذه الجزر إذا كانت مختفية عن الأنظار. كيف يهتدي إليها الأعداء. بل يكفي اختفاؤها حماية لها كما هو واضح. فوجود مثل هذا الماء الصافي – لو صح – أدل دليل على عدم الاختفاء.
النقطة الثانية:
إن الاختفاء لو كان صحيحاً، لكان اللازم أن لا تنكشف هذه الجزر لأحد من الخارج إلا لمن لديه القسم العالي من الإخلاص والوثاقة من المسلمين، حيث يكون انكشافها لغير هؤلاء الأفراد مظنة للخطر، وطريقاً محتملاً لهجوم الأعداء، بشكل أو آخر.
في حين أن قافلة هذا الراوي في البحر، وصلت إلى هذه الجزر، بما فيها من مسلمين على اختلاف مستوياتهم ومذاهبهم، وبما فيها من مسيحيين! إذن فوجود هؤلاء يؤكد عدم الاختفاء.
الاعتراض الثاني:
إن هاتين الروايتين للانباري والمازندراني، منافيتان ومعارضتان، مع عدد من الأخبار الواردة بمضامين مختلفة... تتفق كلها على نفي مضمون هاتين الروايتين، كل من ناحيته الخاصة. ومن الثابت أنه كلما تعارض الخبر والخبران مع مجموعة ضخمة من الأخبار، توجب القطع بمضمونها المشترك، قدمت المجموعة الضخمة لا محالة، ولم يبق للخبر والخبرين أي اعتبار.
وتتمثل هذه المجموعة المعارضة في هذا الصدد، في عدة أشكال من الأخبار:
الشكل الأول:
أخبار التمحيص والامتحان الإلهي، كقول الإمام الباقر عليه السلام:
هيهات هيهات لا يكون فرجنا حتى تغربلوا ثم تغربلوا – يقول ثلاثاً – حتى يذهب الله تعالى الكدر ويبقى الصفو. وقول الإمام الصادق عليه السلام: والله لتميزن. والله لتمحصن. والله لتغربلن، كما تعربل الزوان من القمح.
وهي أخبار كثيرة تدل على قانون الهي وقعت من أجله الغيبة الكبرى، على ما سنوضح في مستقبل هذا التاريخ. وهو قانون عام على كل البشر، وغير قابل للتخصيص باستثناء مجتمع أو عدة مجتمعات منه. وقد عرفنا أن الاختفاء عن الأنظار ينافي معنى الاختبار والتمحيص، ويستلزم عدم شمول هذا القانون للمجتمع المختفي. ومعه تكون الأخبار الدالة على التمحيص دالة على نفي وجود مجتمع غير مشمول لهذا القانون.
الشكل الثاني:
ما دل على سكنى المهدي (عليه السلام) في أماكن أخرى غير ما دلت عليه هاتان الروايتان، كالمدينة المنورة، في أحد الأخبار التي سمعناها، وكالبراري والقفار في خبر آخر سمعناه.
ونحن وإن كنا قد ناقشنا في هذين الخبرين، إلا أن ذلك لا ينافي وقوعها طرفاً للمعارضة مع الروايتين، ليشاركا مع المجموعة في إسقاطهما عن الاعتبار. على أن هناك أخبار أخرى تدل على سكنى المهدي (عليه السلام) في أماكن أخرى، غير ما سبق، لا حاجة إلى الإفاضة فيها فعلاً.
الشكل الثالث:
الأخبار الكثيرة الدالة على مشاهدة المهدي (عليه السلام) في غير هذه المدن المفروضة... بكثرة لا يستهان بها، على ما سيأتي في الفصل الآتي.
فتدل هذه الأخبار، على وجود المهدي (عليه السلام) ردحاً من الزمن، خارج تلك المناطق المفروضة، بل أن سكناه الغالبة ليست هناك. وهو معنى على خلاف ما ادعته هاتان الروايتان من سكناه ووجوده الغالب في تلك المناطق.
إذ لو كانت سكناه هناك حقاً، لم يكن مقابلته في خارج تلك المناطق، إلا على سبيل الصدفة أو نتيجة للمعجزة. وكلاهما لا يمكن افتراض وقوعه في المقام: أما الصدفة، فلكثرة المشاهدات إلى حد يقطع بتعمد الإمام المهدي (عليه السلام) لها وليست على سبيل الصدفة. وأما المعجزة فلعدم انطباق المورد على قانون المعجزات، لعدم انحصار سبب إقامة الحجة على هذه المعجزة التي تقوم من أجل المقابلة.
بل يمكن القول: بأن الانطباع العام الذي تعطيه أخبار المقابلات مع المهدي (عليه السلام) في غيبته الكبرى، هو كونه ساكناً في العراق، وإذا حصلت المقابلة في غير هذه البلاد، فإنما هي لمصلحة مهمة اقتضتها. وهذا ما سيأتي التعرض له في الفصل الآتي مقروناً بالتبرير النظري الذي يبني عليه. ومن الواضح أن سكناه في العراق ينافي سكناه في تلك المدن المفروضة.
الشكل الرابع:
الخبر المتواتر عن النبي (ص) بألفاظ متقاربة، من أن المهدي (عليه السلام) بعد ظهوره (يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً).
وامتلاء الأرض جوراً وظلماً يستلزم أن أكر أهل الأرض بما فيهم أكثر أفراد المجتمع المسلم أيضاً، أصبحوا ظالمين منحرفين... بحيث لا يمكن افتراض وجود مجتمع كامل باق على إخلاصه الكامل للإسلام. ومثل هذا العموم المعطى في هذا الحديث غير قابل للتخصيص والاستثناء. ومعه فوجود مجتمع أو عدة مجتمعات برمتها باقية على إخلاصها للإسلام، يكون معارضاً لذلك الخبر المتواتر لا محالة. ومهما تعارض الخبر الواحد مع المتواتر، أخذنا بالمتواتر وطرحنا الخبر الواحد.
وقد يخطر في الذهن: أن المراد من الأرض التي تمتلئ ظلماً وجوراً، في الحديث النبوي، هو الأرض المنظورة، كما هو الظاهر من لفظ الأرض، دون الأرض المختفية، كما دلت عليه هاتان الروايتان. ومعه فلا منافاة بين الحديث النبوي المتواتر وبينها.
وجواب ذلك: أننا عرفنا في الاعتراض الأول أن هاتين الروايتين دالتان على عدم اختفاء المدن التي تخبر عن وجودها. وإنما كان اختفاؤها رأياً لبعض الباحثين وقد ناقشناه. ومعه تكون هذه المدن – على تقدير وجودها – من الأرض المنظورة، فيشملها الحديث النبوي، فيدل على عدم وجودها.
وقد يخطر في الذهن أيضاً: أن هذه المجتمعات وجدت مخلصة للإسلام خلال الغيبة الكبرى، وهذا لا ينافي كونها تصبح منحرفة بعد ذلك قبل ظهور المهدي (عليه السلام) ليصدق الحديث النبوي الشريف.
وجواب ذلك: إن هذه المجتمعات المفروضة، قائمة على أساس الدوام والاستمرار في نظامها الإسلامي، وغير قابلة للانحراف، بعد الالتفاف إلى كونها تحت الإشراف الدائم للإمام المهدي (عليه السلام) نفسه، كما نطقت به تانك الروايتان.
هذا... وهناك غير هذه الأشكال من الروايات الصالحة لمعارضة الروايتين، مما لا نريد الإطالة بذكره، وهو لا يخفى على المتتبع المتأمل.
الاعتراض الثالث:
إن المجتمع المزعوم غير منسجم مع عدد من تعاليم الإسلام المهمة، في تكوينه الفكري ونظامه الاجتماعي. فهو مجتمع إسلامي ناقص من حيث التطبيق. إذن فالمهدي (عليه السلام) لم يؤسسه إذ أن المجتمع الذي يكون المهدي (عليه السلام) مؤسساً له ومشرفاً عليه، لا يكون إلا مجتمعاً كاملاً عادلاً من جميع الجهات. وخاصة بعد أن تتربى عدة أجيال تحت هذا الإشراف، في جو من الصيانة والحفظ عن الأعداء، كما هو المفروض في هذه المجتمعات.
ويمكن أن ننطلق إلى بيان هذا النقص عن طريق العوامل التي تدخلت في ذهن الراوي، خلال روايته، وقد مزج بينها مزجاً عجيباً ليعرف عن فكرته في تكوين المجتمع العادل و"المدينة الفاضلة". ونقصد بالراوي كلاً من النباري والمازندراني اللذان رويا تينك الروايتين.
العامل الأول:
العامل الحضاري أو المدني – بالأصح –، ذلك الذي كان يعيشه الراوي في القرنين السادس والسابع الهجريين. وقد اتضح تأثره بهذا العامل من عدة أمور ذكرها خلال الرواية:
الأمر الأول:
وجود أسوار وأبراج وقلاع للمدينة تجاه البحر، فإن هذه هي وسيلة الدفاع الأساسية في تلك القرون.
الأمر الثاني:
وجود ماء صاف يوجب غرق السفن المعتدية. وقد كانت السفن البحرية أهم أساليب الهجوم في ذلك العصر.
الأمر الثالث:
إن الراوي أكد على وجود مساجد وحمامات وأسواق كثيرة، وهي المؤسسات الأساسية المشار إليها في كل مدينة في ذلك الزمان. ولو كان الراوي يعرف المدارس والمستشفيات والجمعيات ونحو ذلك، لقال أنها موجودة هناك أيضاً.
الأمر الرابع:
انعدام الإشارة إلى التجارة في كلتا الروايتين، وظهورهما بانحصار سبل العيش بالزراعة تقريباً، إلا ما كان من قبيل التجارات السوقية الصغيرة والحرف اليدوية.
الأمر الخامس:
التأكيد على وجود ريف واسع يحيط بكل مدينة، يتكون من قرى كثيرة. وهذا هو الشكل الذي كانت عيه المدن بشكل أو آخر، في عصر الراوي، وكان الريف ناشئاً من الشكل الإقطاعي والطبقي للمجتمع، ومن هنا حصل التمييز بين القرية والمدينة. وهو مما لا يعترف به نظام الإسلام.
وهناك أمور أخرى غير هذه، لا حاجة إلى سردها.ونستطيع أن نؤكد أن المجتمع الذي يكون بإشراف المهدي(ع)، حيث تتربى الأجيال برأيه وقانونه، لا يمكن أن يبقى ذو صبغة مدنية واطئة، كما وصفة الراوي... لا أقل من وجود فكرة مبسطة عن المدارس والمستشفيات والتجارة، ومحاولة لتطوير وسائل الدفاع، وتطوير القرى وتثقيف أهلها لكي يصل المجتمع إلى العدل الكامل.
العامل الثاني:
العامل الفكري أو الاتجاه السياسي المركوز في ذهن الرواي نتيجة لشكل الحكم السائد في الدول في تلك العصور.
فكما أن الدول كان في الأعم الأغلب محكومة لملوك مستبدين، يكون الملك فيها هو الحاكم بأمره، المطلق العنان في التصرف، وليس له مجلس وزراء ولا برلمان ولا لجنة استشارية ولا هيئة قضائية، ولا أي شيء من هذا القبيل. بل هو أما أن يمارس ذلك بنفسه إن استطاع، وأما أن يهمل ذلك إهمالاً... فكذلك ينبغي أن يكون المجتمع العادل، في رأي الراوي.
مع أن هذا بعيد عن روح الإسلام كل البعد، فإن الإسلام وإن كان يرى للرئيس صلاحية مطلقة في التصرف، إلا أنه لا توقع منه القيام فعلاً بكل شيء. بل أنه يزع صلاحياته على المؤمنين الموثوقين من شعبه، كل حسب قابليته وموهبته. فهناك قضاة وهناك مستشارين وهناك سلطة تنفيذية كاملة، بحسب ما يحتاجه كل ظرف من سلطات.
وهذا ما أسقطه الرواي بالمرة من مدينته الفاضلة. فيكون هذا المجتمع ناقصاً من حيث التطبيق الإسلامي نقصاناً كبيراً.
وقد يخطر في الذهن: بأن التدبير المباشر حيث كان موكولاً إلى المهدي (عليه السلام) عن طريق المراسلة، فلا حاجة إلى كل هذه التشكيلات.
وجواب ذلك:
إن هذا الإشراف يقتضي الإمساك بالزمام الأعلى للدولة وتحديد سياستها العامة وقواعدها الكلية من الناحية القانونية والاجتماعية والعقائدية. وأما البت في جزيئات الأمور لملايين الناس، فهو مما يتعذر إيجاده بالمراسلة كما هو معلوم، إلا عن طريق المعجزة. المعجزة لا تكون هي الأساس أصلاً في العمل الإسلامي وقيادة الدول، بعد تمامية الحجة على الناس.
وقد يخطر في الذهن، أن النبي (ص) كان يقود الأمة الإسلامية بمفرده، فكذلك ينبغي أن يكون عليه الرئيس الإسلامي في كل عصر.
وجوابه:
إن هناك فروقاً بين النبي (ص) وبين غيره عامة وهؤلاء الذين يحكمون هذا المدن المزعومة خاصة، نذكر منها فرقين:
الفرق الأول:
إن المسلمين كانوا قلة نسبياً وكانت حاجاتهم بسيطة ودخلهم الاقتصادي واطئ، فكانت القيادة الاجتماعية لشخص واحد عبقري كالنبي (ص) بمكان من الإمكان. وأما عند تكثر الناس وتعقد الحاجات وسعة الدولة، فلا يكون ذلك ممكناً بأي حال، مهما كان القائد عبقرياً، لوضوح، استحالة النظر في مئات القضايا في وقت قصير.
الفرق الثاني:
إن النبي (ص) كان يقود مجتمعه بالصراحة والمواجهة، على حين تقول الرواية أن المهدي (عليه السلام) يقود ذلك المجتمع بالمراسلة. ومن الواضح أن ما تنتجه المراسلة لا يمكن أن يصل إلى نتائج المواجهة بأي حال.
العامل الثالث:
العامل الفكري والاتجاه الاجتماعي للقواعد الشعبية المتدينة وعلمائها، بشكل عام، في حقبة من الغيبة الكبرى. ولا زال هذا الاتجاه موجوداً عن التقليديين من الناس.
ويتجلى تأثر الرواي بهذا العامل، في عدة أمور:
الأمر الأول:
التركيز في العمل الإسلامي على جانب العبادات، والإهمال الكامل أو الغالب للعلاقات الاجتماعية العامة، ولوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحوها من المسؤوليات العامة في الإسلام، مما هو قليل في مجتمعاتنا المسلمة منذ عهد غير قريب. ومن هذه الزاوية انطلق الراوي، إلى مدينته الفاضلة، فكانت لهذه المسؤوليات، زاوية مهملة فيها.
الأمر الثاني:
الاقتصار في العمل الإسلامي عند العلماء التقليديين على التدريس وإقامة الجماعة والإفتاء إذا سألهم أحد، ولا شيء غير ذلك، ما عدا مصالح شخصية لا تمت إلى المجتمع بصلة.
إذن فينبغي أن يكون الرئيس الأعلى للمدينة الفاضلة، مقتصراً في عمله على أمثال هذه الأمور... باعتقاد هذا الرواي.
مع أن علماءنا، وإن كان – في الأغلب – كذلك، باعتبار ضعفهم وقصورهم عن تولي الحكم في المجتمع. وأما الرئيس الأعلى للدولة الإسلامية، ففتواه هي القانون العام، وتدريبه هو التوجيه السياسي العام لاطلاع الشعب على آلامهم وآمالهم وحلول مشاكلهم. ويقوم بنفسه أو نائبه الخاص بإقامة صلاة الجمعة وخطبتها. وأما تدريس العلوم العربية، بل والفقة أيضاً... وأما إقامة صلاة الجماعة في سائر الأيام، فقد تكون مسؤوليات الرئيس وتعقد أعماله مانعاً عن الالتزام بها والاستمرار عليها. وإنما يوكل ذلك إلى غيره من ذوي الكفاءة الاسلامية، كما يوكل القضاء أيضاً وجانب كبير من السلطة التنفيذية إليهم أيضاً. وكل ذلك مما لم يعرب عنه الراوي في مدينته، فتكون مدينة ناقصة إسلامياً غير فاضلة.
الأمر الثالث:
ما هو موجود بين أغلب أهل المذاهب الإسلامية، على اختلافها، من التأكيد على الاتجاه المذهبي، وغض النظر عن المفهوم الإسلامي العام. وهذا بعيد عن تعاليم الإسلام كل البعد. مع أن هذا موجود بوضوح في المجتمع المزعوم على مستويين:
المستوى الأول: الجدل المطول العميق الذي اهتم به الحاكم في المجتمع المفروض... ذلك الجدل القائم على أساس مذهبي خالص. فقد كان مهتماً بإثبات صدق أحد المذاهب الإسلامية ضد المذاهب الأخرى ولم يكن مهتماً بإثبات صدق الإسلام ضد الأديان والمبادئ الأخرى، في حين كان بين الحاضرين مسيحي أو عدة مسيحيين، لم يفكر هذا الحاكم أن يناقشهم لإدخالهم في الإسلام. وهو من الأمور المؤسفة الشديدة الغرابة.
المستوى الثاني:
عدم تصدي المجتمع المفروض، مع أنه يتخذ شكل الدولة الإسلامية، إلى هداية العالم الخارجي، لا بدعاية عامة ولا بحرب جهادية. مع أن من أوضح تعاليم الإسلام وواجباته هو ولاية الدولة الإسلامية على العالم ووجوب هدايته إلى الحق. ولم تكد تتخلى أي دولة إسلامية في التاريخ عن هذا الواجب، بل طبقته بحسب الإمكان تطبيقاً واقعياً أو شكلياً. فما بال هذه الدولة المزعومة قد تخلت عن هذا الواجب المقدس.
العامل الرابع:
تأثر الراوي بما سمعه عن اتجاهات الأئمة المعصومين عليهم السلام وأعمالهم، حال وجودهم قبل الغيبة.
ويظهر ذلك واضحاً في روايته في جهتين:
الناحية الأولى:
 

ما سمعه الرواي من إقامة الأئمة (ع) للمعجزات ونطقهم بالأخبار بالغيب. إذن فينبغي – في رأيه – أن يكون حاكم تلك البلاد المزعومة، مظهراً للمعجزات وناطقاً بالمغيبات.
إلا أن ذلك لا يجب أن يكون موجوداً في الدولة الإسلامية، فإن قيادتها وتدبير الأمور فيها لا يعود إلى المعجزة بحال، بعد تمامية الحجة على شعبها في أول دخول الإسلام إليهم أو دخولهم في الإسلام. وعلى ذلك قامت دولة النبي (ص)، وحسبنا من ذلك قوله (ص): إنما اقتضى بينكم بالبينات والإيمان. وهو حديث صحيح مستفيض، يراد بالحصر فيه أنه (ص) لا يستعمل المعجزة وعلم الغيب المسبق في القضاء. وكذلك الحال في سائر تدابير الدولة، فيما لا يعود إلى إقامة الحجة بصلة.
وقد يخطر في الذهن: أن الأخبار بالغيب الذي صدر من حاكم تلك البلاد، حين نادات باسمه واسم أبيه، كان من أجل إقامة الحجة عليه، فيكون مطابقاً لقانون المعجزات.
وجواب ذلك: إن هذا أمر محتمل، ولكن ينافيه وجود مناسبات أخرى لإقامة الحجة في ذلك المجتمع، لم تقم فيها المعجزة. حيث كان هناك مسيحيون تجب هدايتهم إلى الإسلام، وكان هناك مسلمون من مذاهب أخرى، اضطر الحاكم إلى الدخول معهم في جدل طويل، مع أنه كان يمكن أن يستغني بالمعجزة. ومن المعلوم أن هذه المناسبات أولى من مجرد أخبار المسافر باسمه مع كونه متديناً على نفس المذهب والدين.
الناحية الثانية:
ما سمعناه في تاريخ الغيبة الصغرى من تكريس الأئمة عليهم السلام، الأعم الأغلب من جهودهم في قيادة قواعدهم ومواليهم، وتدبير شؤونهم ومحاولة دفع الأخطار عنهم. إذن فينبغي أن تكون الدولة في عصر الغيبة على ذلك، في رأي الراوي.
مع أن هذا الرأي مخدوش من جبهتين:
الأولى: أن الأئمة (ع) وإن كرسوا غالب جهودهم في سبيل ذلك الهدف، إلا أن لهم أعمالاً كثيرة على المستوى الإسلامي العام في الارتباط بعملاء المذاهب الأخرى والتقرب إلى قواعدهم الشعبية، كما سمعنا طرفاً منه في تاريخ الغيبة الصغرى، وهذا مما لم يلتفت إليه الراوي ليطبق مجتمعه عليه.
الثانية: إن الأئمة عليهم السلام إنما كرسوا جهودهم في قواعدهم الشعبية، باعتبار انعزالهم عن الحكم وبعدهم عن المستوى السياسي العالي، بسبب ما كانوا يواجهونه من الضغط والمطاردة من الجهاز الحاكم يومئذ.
وأما "المدينة الفاضلة" التي تكلم عنها الراوي، فهي – لو صحت – تمثل دولة إسلامية. والدولة الإسلامية يجب عليها أن تفرض سلطتها على كل المجتمع المسلم بما فيه من مذاهب واتجاهات بل وبما فيه من أديان... بشكل متساو، وتستهدف المصلحة الإسلامية العليا بالنسبة إلى الجميع. وهذا حكم اتفقت عليه سائر المذاهب الإسلامية، وطبقته كل الدول المسلمة على مر التاريخ.
ولا يجوز للدولة الإسلامية أن تقصر سلطانها على الشعب الموافق لها في المذهب بأي حال من الأحوال. كما أراد هذا الراوي أن يقول.
ومعه فقد تحصل من هذا الاعتراض الثالث أن هناك ما لا يقل عن اثنتي عشرة جهة من جهات النقص المهمة في التطبيقات الإسلامية، في هذه المدينة الفاضلة. وبعضها تكاد تكون من ضروريات الدين على مستوى الحكم الإسلامي العام.
إذن فهذا المجتمع المزعوم غير موجود، إذ لو كان موجوداً وكان تحت الحكم المباشر للمهدي (عليه السلام) وقيادته، لما أمكن أن يكون ناقصاً بأي حال.
إذن، فانطلاقاً من هذه الاعتراضات الثلاثة، واعتراضات أخرى لا مجال لتفصيلها، تسقط الروايتان للانباري والمازندراني عن الاعتبار، ومعه فلا يبقى دليل تأسيس المهدي (عليه السلام) في غيبته الكبرى مجتمعاً نموذجياً. وإنما هو مذخور للقيام بدولة الحق والعدل في العالم كله في اليوم الموعود. عجل الله فرجه.
الفصل الرابع: في مقابلاته عليه السلام خلال غيبته الكبرى والمصالح والأهداف التي يتوخاها من ورائها
وينبغي أن ننطلق إلى الحديث عن ذلك في ضمن جهتين رئيسيتين، باعتبار انقسام الحديث، تارة إلى ما تقتضيه القواعد العامة من ذلك، وأخرى إلى ما تدل عليه الروايات الناقلة لتفاصيل المقابلات.
الجهة الأولى:
فيما تقتضيه القواعد العامة من خصائص المقابلات:
ويقع الكلام في ذلك، ضمن أمور:
الأمر الأول:
في أنه هل يرى المهدي (عليه السلام) على الدوام، بحيث تستطيع أن تقابله وتحادثه متى سنح لك ذلك، أو لا.
يختلف الجواب على مثل هذا السؤال، نتيجة للأخذ بإحدى لأطروحتين الرئيسيتين السابقتين. فإن رأينا صحة أطروحة خفاء الشخص، كان الجواب بالنفي لا محالة، ما لم تتعلق مصلحة خاصة وإرادة من قبل المهدي (عليه السلام) في الظهور والمقابلة.
وقد سبق أن أشرنا أنه باء على الأخذ بهذه الأطروحة يكون الشيء الدائم هو الاختفاء الإعجازي، وما هو الاستثناء هو الظهور الطبيعي المتقطع القليل وأما لو أخذنا بأطروحة خفاء العنوان، وهي التي اخترناها واستدللنا على صحتها، فهنا مستويات ثلاثة للمقابلة:
المستوى الأول:
مقابلة المهدي (عليه السلام) بشخصيته الثانية، حال كونه مجهول الحقيقة مغفولاً عنه بالمرة.
وهذا المستوى متوفر دائماً للناس الذي يعايشونه في مجتمع أو الذين يصادفونه في أي مكان كان. طبقاً لمفهوم هذه الأطروحة.
المستوى الثاني:
مقابلة المهدي (عليه السلام) بصفته الحقيقية، مع عدم الالتفات إلى ذلك إلا بعد انتهاء المقابلة.
وهذا المستوى هو الذي سارت عليه المقابلات الاعتيادية المروية، على ما سنسمع في الجهة الثانية من هذا الفصل مشفوعاً بالتبرير النظري له.
المستوى الثالث:
مقابلة المهدي (عليه السلام) بصفته الحقيقية، مع الالتفات إلى ذلك في أثناء المقابلة. وهذا المستوى قليل في روايات المشاهدة جداً، باعتبار كونه مخالفاً في الأغلب للمصلحة، ومنافياً للغيبة التامة، على ما سنسمع.
الأمر الثاني:
في كيفية المقابلة معه عليه السلام.
ويختلف ذلك أيضاً باختلاف الأطروحتين الرئيسيتين:
أما بناء على الأخذ بالأطروحة الأولى، فتحتاج المقابلة إلى عدة معجزات، بعد أن عرفنا أن مفهوم هذه الأطروحة يتضمن الاختفاء الإعجازي الدائم. ولا يمكن أن تحدث المقابلة مع استمرار الاختفاء بطبيعة الحال، إذن فلا بد من حدوث عدة معجزات لإتمام الغرض من المقابلة.
المعجزة الأولى:
ظهوره بعد استمرار الاختفاء بكل استثنائي، اقتضته مصلحة خاصة. وهذا الظهور يقطع الحالة الإعجازية الدائمة للاختفاء، فيكون هو معجزة أيضاً.
المعجزة الثانية:
إقامة الحجة القاطعة على إثبات حقيقته وأنه هو المهدي (عليه السلام). بحيث يثبت ذلك ولو بعد انتهاء المقابلة.
وهذه المعجزة ضرورية لإثبات حقيقته، بعد العلم أن الرائي جاهل بالمرة بشكل الإمام المهدي (عليه السلام) وسحنته. ومن الواضح أنه لا يكفي للرائي مجرد إدعاء كونه هو المهدي المقصود، بل يحتاج لا محالة إلى إقامة الحجة بالمعجزة لإثباته.
المعجزة الثالثة:
اختفاؤه بعد الظهور، وعوده إلى حالة الاختفاء الأولى بعد أن يكون قد أنجز المطلوب من المقابلة.
فهذا ما تحتاجه المقابلة لو صحت الأطروحة الأولى.
وأما لو أخذنا بالأطروحة الثانية: أطروحة خفاء العنوان، التي تقول: بأن الشيء الدام بالنسبة إلى المهدي (عليه السلام) هو الظهور الشخصي مع خفاء العنوان، كما سبق أن أوضحناه... فالمعجزة الأولى لا حاجة لها على الإطلاق. بل حسب المهدي (عليه السلام) أن يقابل الفرد كأي إنسان آخر، وينجز ما هو المطلوب من مقابلته، ويعرفه بحقيقته، ولو بحسب النتيجة، أي ولو بعد المقابلة.
كما لا حاجة، في الأعم الأغلب إلى المعجزة الثالثة، أعني الاختفاء بعد المقابلة. بل يكون ذهاب المهدي (عليه السلام) بعد انتهائها طبيعياً، ولو بتخطيط مسبق يقوم به المهدي (عليه السلام) لأجل تنفيذ الذهاب بشكل لا يكون ملفتاً للنظر.
نعم، لو وقع الإمام في ضيق وحرج عند مقابلته، بحيث تعرضت غيبته العامة إلى الخطر، كان لا بد له من الإخفاء الإعجازي، وهو مطابق – في مثل ذلك – لقانون المعجزات، لأن في حفظ غيبته تنفيذاً لليوم الموعود.
وأما المعجزة الثانية، وهي التي تثبت بها حقيقته... فهي مما لا بد منه في الأعم الأغلب جداً من المقابلات. لما أشرنا إليه من أن الفرد حيث لا يعرف المهدي بشخصه ولا يكفيه مجرد دعوى كونه هو المهدي (عليه السلام)، كان لا بد من إقامة الحجة لإثبات صدقه، والحجة لا تكون إلا بالمعجزة، ومن هنا كانت هذه المعجزة مطابقة لقانون المعجزات.
نعم، قد يستغنى أحياناً عن هذه المعجزة، فيما إذا كان الشخص الرائي ممن يعرف المهدي (عليه السلام) بشخصه وعنوانه. كما لو كان رآه في مرة سابقة وقامت الحجة لديه على حقيقته، ثم رآه ثانياً وعرفه، فلا حاجة به إلى إقامة الحجة تارة أخرى. ومعه يكون لقاؤه مع المهدي عليه السلام طبيعياً جداً، من دون أن تقع أي معجزة.
والمثال الواضح لذلك هو السفراء الأربعة في الغيبة الصغرى. فإنهم يعرفون المهدي (عليه السلام) بشخصه وعنوانه، ويأخذون منه التوقيعات. ومثاله في الغيبة الكبرى ما يظهر من بعض الروايات أن الخاصة من المخلصين يجتمعون بالمهدي (عليه السلام) ويعرفونه، على ما سيأتي. كما يظهر من بعض الروايات أن السيد مهدي بحر العلوم كان كذلك أيضاً، على ما سنسمع في أخبار المقابلات.
الأمر الثالث:
ماهي المصالح المتوخاة والأهداف المطلوبة للمهدي عليه السلام من مقابلته للآخرين، بمقدار ما تهدينا إليه القواعد العامة. وسنسمع في الجهة الثانية من هذا الفصل تفاصيل ذلك وتطبيقاته.
وما ينبغي أن يكون هدفاً له عليه السلام من المقابلات، هو قيامه بالمسؤولية الإسلامية، بأحد الأنحاء التي سبق أن ذكرناها في الفصل الثاني من هذا القسم من التاريخ... فيما إذا انحصر تنفيذها على المقابلة مع الآخرين بالشخصية الحقيقية، ولم يمكن القيام بها حال الاستتار والجهل بالعنوان. وكانت الواقعة مشمولة للشروط التي ذكرناها في ذلك الفصل لعمله الإسلامي المثمر في المجتمع، سواء على الصعيد الخاص أو الصعيد العام.
فقد يكون هدفه إنقاذ شخص من ضرر وقع عليه أو إنقاذ مجتمع من تعسف ظالم عليه. أو هداية شخص وتقويمه من الانحراف العقائدي أو الكفر أو الانحراف السلوكي، أو الدفاع عن شخص أو مجتمع ضد الانحراف، أو نحو ذلك من الأهداف التي كنا قد حملنا عنها فكرة فيما سبق... مع توفر شروط العمل فيها لا محالة.
الأمر الرابع:
في كيفية حضور الإمام المهدي (عليه السلام) للمقابلة الصريحة، مع الآخرين.
وإنما يثار التساؤل عن ذلك، باعتبار ما قد يخطر في الذهن من أنه إذا كان الشخص الذي يريد المهدي (عليه السلام) مقابلته بعيداً عنه، بحيث يحتاج إلى سفر طويل. فما الذي يمكن له أن يفعله. وذلك بعد الالتفات إلى نقطتين:
النقطة الأولى:
إن بعد المسافة هو الغالب في موارد عمل الإمام عليه السلام، لأنها متفرقة على وجه البسيطة. ومن هنا يضطر الإمام إلى السفر المتطاول دائماً لقضاء حوائج الناس وحل مشاكلهم.
النقطة الثانية:
أنه قد يكون في كثرة الأسفار خطر على غيبته ومظنة لانكشاف أمره، وخاصة بعد أن فرض العمل عن طريق المقابلة بالشخصية الحقيقية.
والجواب على ذلك يكون بإعطاء عدة أساليب ممكنة للمقابلة، وتذليل الصعوبة المشار إليها في السؤال. مع الاعتراف أنه إذا لم يكن شيء منها ممكناً، وكان فيها خطر على غيبته، فإن عليه السلام لا يمارس العمل، لأن العمل نفسه وإن فرض جامعاً للشرائط، إلا أن الطريق إليه متعذراً ومقدماته خطرة، وإيجاد العمل بدون مقدماته ممتنع. إذن فينسد باب العمل جزماً.
وتتلخص الأساليب المحتملة في عدة وجوه تختلف باختلاف الموارد:
الوجه الأول:
أننا لا حاجة لأن نفترض كون الشخص الذي يريد المهدي مقابلته بعيداً. بل يمكن أن يكون قريباً، يعيش في نفس المجتمع الذي يعيش المهدي (عليه السلام) فيه... فلا يحتاج إلى سفر أو مضي مدة. سواء كان المهدي (عليه السلام) يعيش في ذلك المجتمع مختفياً، طبقاً للأطروحة الأولى، أو ظاهراً مجهول العنوان، طبقاً للأطروحة الثانية.
ومعه لا مجال للسؤال عن صعوبة المقابلة بأي حال.
الوجه الثاني:
مجرد الصدفة... وهو أمر محتمل في بعض المقابلات، فيما إذا صادف المهدي (عليه السلام) في بعض أسفاره شخصاً أو أناساً محتاجين إلى العمل في سبيل إنقاذهم أو هدايتهم... بشكل تتوفر فيه الشرائط.
وحمل جميع المقابلات على مجرد الصدفة، غير ممكن لكثرة المقابلات على مر التاريخ، بحيث نعلم أن عدداً مهماً منها كان نتيجة لتخطيط وتعمد من قبل المهدي (عليه السلام)... إلا أن بعضها يمكن أن يكون قد حدث صدفة.
ومعه، ففي مورد الصدفة لا حاجة إلى السؤال عن كيفية تجشم السفر أو استلزامه لانكشاف الغيبة. فإن المفروض إن السفر لم يكن لأجل المقابلة، وإنما كان لأهداف أخرى خطط فيها بقاء الاختفاء واستمرار الغيبة.
الوجه الثالث:
إن المهدي (عليه السلام) إذ يعلم وجود مورد للعمل المثمر الحاصل على الشرائط في مكان بعيد عنه من العالم، ويكون الطريق إليه مأموناً بالنسبة إليه، فإنه يقصده قصداً ويسافر إليه عمداً بطريق طبيعي جداً، ليقوم بالوظيفة الإسلامية المقدسة في أنحاء المعمورة.
وهذا ممكن للغاية، مع التخطيط لدفع الأخطار المحتملة. حيث يكون للمهدي (عليه السلام) أن يسافر وأن يرجع بشخصيته الثانية، ولا يكشف حقيقته إلا للفرد المنوي مقابلته.
ونحن بعد أن نلتفت إلى الوجوه الأخرى، لا نجد هذا الوجه هو الغالب في المقبلات، لكي يستلزم أن يكون المهدي(ع) مضطراً إلى السفر المتطاول المستمر في سبيل قضاء حوائج الناس، كما فهمنا من السؤال.
وعلى أي حال، فهذين الوجهين الثاني والثالث، منسجمين أيضاً مع الأطروحتين الرئيسيتين، فإن مصادفة مورد العمل أو قصده سفراً يمكن أن يكون مع اختفاء الشخص كما يمكن أن يكون مع خفاء العنوان.
الوجه الرابع:
اتخاذ المعجزة في قضاء الحاجة أو العمل في سبيل هداية أو دفع ظلامة. سواء من ناحية سرعة الوصول بشكل إعجازي إلى المناطق البعيدة من الأرض أو من أي ناحية أخرى تحتاج إلى الإعجاز.
وهذا الوجه منسجم مع كلتا الأطروحتين الرئيسيتين. ولكنه، طبقاً لقانون المعجزات، منحصر بما إذا تضمن العمل في بعض الموارد إقامة الحجة على الآخرين، بإيجاد الهداية أو برفع بعض أشكال الظلم. ومن البعيد أن نتصوره متحققاً في قضاء حاجة شخصية مهما كانت الضرورة فيها قصوى، ما لم يكن راجعاً إلى إقامة الحجة، بنحو من الأنحاء.
وهذه المعجزة التي نتحدث عنها الآن، هي غير تلك المعجزة التي يستعملها المهدي (عليه السلام) لإثبات حقيقته للآخرين. ومن هنا قد يحتاج إلى كلتا المعجزتين، وقد يحتاج إلى إحداهما، وقد يتكفل إنجاز كلا الغرضين: سرعة الوصول والكشف عن حقيقته، بمعجزة واحدة. كما قد لا يحتاج إلى شيء منها أحياناً... ذلك باختلاف خصائص كل واقعة وكل شخص تطلب مقابلته.
وبهذا ينتهي المقصود من بيان ما تقتضيه القواعد في مقابلات المهدي (عليه السلام)، فلا بد أن ننظر إلى الأخبار الخاصة لنرى مقدار ما تثبته من المشاهدة، وهل أنه منسجم مع ما تمّ طبقاً للقواعد العامة أو لا.
الجهة الثانية:
في الأخبار الخاصة الدالة على مشاهدة الإمام المهدي (عليه السلام) في غيبته الكبرى. وهي عدد ضخم يفوق حد التواتر بكثير، بحيث نعلم، لدى مراجعتها واستقرائها، بعدم الكذب والوهم والخطأ فيها في الجملة. وإن كانت كل رواية لو روعيت وحدها لكانت قابلة لبعض المناقشات على ما سوف يأتي.
والحاصل منها في اليد، ما يفوق المئة، يذكر منها الشيخ المجلس في البحار(٧٢) عدداً منها، ويذكر منها الحدث النوري في النجم الثاقب مئة كاملة.
وقد كتب أيضاً رسالة خاصة في ذلك سماها "جنة المأوى" ألحقت بالجزء الثالث عشر من البحار، يذكر فيها تسعاً وخمسين حادثة وهناك على الألسن والمصادر ال أخرى ما يزيد على ذلك بكثير.
على أننا سبق أن ذكرنا في تاريخ الغيبة الصغرى(٧٣) أنه يحتمل – إن لم يكن يطمئن أو يجزم – بأن هناك مقابلات غير مروية أساساً، وأن المهدي عليه السلام يتصل بعدد من المؤمنين في العالم في كل جيل، مع حرصهم على عدم التفوه بذلك وكتمه إلا الأبد، تحت عوامل نفسيه مختلفة شرحناها هناك. بل من الممكن القول بأن المقابلات غير المروية أكثر بكثير من المقابلات المروية.
وعلى أي حال، فينبغي أن نتكلم في ما وردنا من الأخبار، من حيث تحميص أقسامها، ومن حيث معطيات مدلولها، في ضمن عدة أمور:
الأمر الأول:
في تمحيص هذه الروايات، ومعرفة أقسامها، فأنها ليست على نسق واحد وأسلوب مطرد في مقابلة المهدي عليه السلام، بل يختلف الحال فيها اختلافاً كبيراً. ومرد هذا الاختلاف إلى الاختلاف في ظروف الشخص الرائي ومقدار وثاقته وضعفه وسنح الهدف الذي يستهدفه الإمام من وراء المقابلة، وطريقة التخطيط الذي يضمن به سلامته وإخفاء نفسه. وبذلك تكاد تختلف كل رواية عن الأخرى... وما يمكن أن يعنون من الاختلافات هو ما نذكره في الأقسام التالية، نذكره بنحو قابل للتداخل وإمكان اندراج رواية واحدة في أكثر من قسم واحد:
القسم الأول:
ما كان منها متضمناً لإسناد أكثر من معجزة واحدة للإمام المهدي عليه السلام: اثنتين أو ثلاث... وقد تصل إلى أربع.
وقد سبق أن ذكرنا أنه لا حاجة إلى المعجزة إلا بمقدار إقامة الحجة، ويكون الزائد أمراً مستأنفاً لا يصدر عن الخالق الحكيم. ومعه لا بد من إسقاط المعجزات الزائدة عن ذلك عن نظر الاعتبار، ما لم نجد لها وجوهاً للتصحيح... وإن كان ذلك لا يسقط مجموع الرواية ولا الدلالة على مقابلة الإمام المهدي، لما ذكرناه من أن سقوط بعض مدلول الرواية لا يقتضي سقوط الجميع.
إلا أننا لا نعدم وجوهاً للتصحيح:
الوجه الأول:
أننا وإن قلنا أن المعجزة منحصرة بمورد إقامة الحجة، إلا أن ذلك كما يقتضي عدم زيادتها على ذلك يقتضي عدم نقصها عن هذا الحد أيضاً. فلا بد من إقامة المعجزة بنحو يقنع الفرد العادي، وينتفي بها احتمال الصدفة والتزوير، ولا تكون قاصرة عن ذلك. وأما لو كانت المعجزة مختصرة وغير ملفتة للنظر، فقد لا تحمل الفرد الاعتيادي على الاقتناع.
ومعه فقد تمس الحاجة – أحياناً – إلى ضم أكثر من معجزة واحدة إلى بعضها البعض، لكي تحصل القناعة. وهذا هو الذي وقع في عدد من أخبار المشاهدة التي نحن بصدد الحديث عنها. وقد سبق أن سمعنا في تاريخ الغيبة الصغرى كيف كان يقيم المهدي (عليه السلام) دلالتين منضمتين، حيث يقول بعض المؤمنين لأخيه المؤمن: لا تغتم فإن لك في التوقيع إليك دلالتين: إحداهما: إعلانه إياك أن المال ألف دينار. والثانية: أمره إياك بمعاملة أبي الحسين الأسدي لعلمه بموت حاجز.
الوجه الثاني:
أن نفهم – ولو احتمالاً -: أن الإمام المهدي (عليه السلام) له اهتمام خاص بالشخص الذي يقابله، بحيث يريد أن يقيم له حجة واضحة جداً. فيضم معجزة إلى معجزة، حتى يتحقق ذلك. ويكون ذلك واقعاً في طريق إقامة الحجة عليه، فينسجم مع قانون المعجزات.
الوجه الثالث:
أننا ذكرنا أنه قد يحتاج المهدي (عليه السلام) أحياناً إلى أكثر من معجزة واحدة، لكي تكون إحداها للدلالة على حقيقته وتكون الأخرى للاختفاء الإعجازي لدى الحاجة.
وهذا صحيح، لولا ما قلناه من أن الاختفاء يكون طبيعياً وغير ملفت للنظر على الأغلب، وما سوف نقوله من أن معجزة واحدة كافية لإيجاد كلا الأثرين:
أعني الدلالة على حقيقته والاختفاء.
وعلى أي حال، فلا بأس من تعدد المعجزة في الحادثة الواحدة، ولكن إن ثبت أنها مما لا مبرر لها بحسب القواعد العامة... فلا بد من طرحها عن مدلول الرواية، وإن لم يكن طرحها ملازماً لطرح كل المدلول.
القسم الثاني:
ما كان منها مكرساً على قضاء الحاجات الشخصية، وهو الأعم الأغلب من أخبار المشاهدة. وأما ما كان منها لقضاء حاجة عامة أو هداية مجتمع كامل أو إنقاذه من الظلم ونحو ذلك... فهو قليل الوجود في هذه الروايات، على ما سوف نشير إليه.
ونحن في فسحة واسعة – بعد كل الذي عرفناه – من حيث إمكان ذلك، وتعقل صحته ومطابقته مع القواعد العامة. وذلك من أجل عدة وجوه:
الوجه الأول:
إن المهدي (عليه السلام) يكرس عمله الاجتماعي المثمر العام، بصفته مختفياً، او بشخصيته الثانية. وقد سبق أن حملنا فكرة كافية عن أسلوبه في ذلك. لأنه عليه السلام يرى أن ذلك أضمن لسلامته، ومن ثم يكون أفسح فرصة لتعدده وكثرته وعمق تأثيره، بدون أن يعرف أحد أن التأثير وارد من قبل المهدي (عليه السلام) ليكون منقولاً عنه في أي رواية من الروايات.
الوجه الثاني:
أن نحتمل – والاحتمال كاف في أمثال هذه الموارد، كما برهنا عليه في المقدمة –: إن الإمام المهدي (عليه السلام) عمل أعمالاً عامة عديدة في خلال العصور بصفته الحقيقية. ولكنه لم ينقل خبره إلينا إلا بهذا المقدار القليل. وذلك: لأحد مانعين:
الأول: إن الإمام بنفسه يأمر الآخرين بالكتمان، أما لتوقف غيبته على ذلك، إن لتوقف نفس المخطط الإصلاحي عليه أحياناً. كما لو كان يتوقف على إقناع أشخاص من غير قواعده الشعبية.
الثاني: إن العمل الشخصي بطبيعته أكثر إلفاتاً للنظر وأجدر بالنقل والرواية من العمل الاجتماعي العام، في نظر أولئك الرواة غير الواعين الذي ينظرون إلى الكون والحياة من زواياهم الخاصة ومصالحهم الضيقة. وقد كان البشر ولا يزالون محافظين على هذا المستوى الواطئ، وسبقون كذلك إلى يوم ظهور المهدي (عليه السلام) وقيامه بالعدل التام.
ومن ثم كان العمل الاجتماعي مهملاص في نظر الرواة، وكان العمل الشخصي مؤكداً عليه عندهم ومنقولاً بإسهاب في رواياتهم. ومن هنا لا نجد من الروايات الدالة على عمل المهدي (عليه السلام) في الحقل العام إلا القليل.
الوجه الثالث:
أن نفهم – كما فهمنا فيما سبق – إن عدداً من المظالم العامة والخاصة الموجودة في العالم على مر العصور، لا يتوفر فيها الشرط الأول من الشرطين اللذين ذكرناهما وقلنا أن كل شيء يكون على هذا المستوى يجب إهماله تنفيذاً للمخطط الإلهي في حفظ المهدي (عليه السلام) ليوم الظهور الموعود.
الوجه الرابع:
أن نفهم – كما فهمنا فيما سبق أيضاً –: إن عدداً من أنحاء الظلم العام الساري في المجتمع على مر التاريخ، لا يتوفر فيه الشرط الثاني من الشرطين السالفين... بمعنى كونه دخيلاً في تحقيق وعي الأمة وإدراكها لمسؤولياتها الإسلامية تجاهواقعها وتجاه نفسها وربها ومستقبلها. وهذا هو أحد الشروط الأساسية في تحقق ظهور المهدي عليه السلام على ما سنعرف. إذن فالمهدي، حرصاً على تحقق شرط الظهور، لا يعمل على إزالة هذا الظلم العام.
وهذا بخلاف الحال في المظالم الخاصة، فأنها لو لوحظت منفردة لا تكاد تؤثر في وعي الأمة.
وعلى أي حال، فما لا يكون دخيلاً في وعي الأمة أو الفرد، يمكن أن يسعى المهدي (عليه السلام) إلى إزالته مع توفر سائر الشرائط فيه. وحيث كان عدم التأثير متوفراً في الظلم الشخصي، وغير متوفر في الظلم العام، كان عمل المهدي (عليه السلام) في إزالة الظلم الشخصي أكثر منه في إزالة الظلم العام.
إذن، فمن المنطقي جداص، على أساس هذه الوجوه الأربعة، المتوفر واحداً منها أو أكثر في كل مقابلة، أن يصبح العمل العام للإمام المهدي (عليه السلام) أقل من العمل الخاص، أو أن تكون روايته أقل على أقل تقدير.
القسم الثالث:
من روايات المشاهدة، ما لا يظهر فيه الإمام المهدي (عليه السلام) على مسرح الحوادث بوضوح، وذلك بالنسبة إلى الراوي – على أقل تقدير –. بل يقوم الدليل القطعي عند الراوي المتحدث أن شخصاً آخر رآه وعره أو رآه ولم يعرفه إلا بعد ذهابه.
وهذا القسم يمثل بعض ما ذكره الحاج النوري من الأخبار المئة في "النجم الثاقب". وهو غير مضر بكونه من أخبار المشاهدة. فإننا لا نعني من المشاهدة: مشاهدة المتحدث عن نفسه والراوي عن رؤيته فقط... بل مشاهدة أي إنسان للمهدي (عليه السلام). وهذا ما تضمن هذه الروايات الأعراب عنه.
القسم الرابع:
الروايات التي تدل على وجود المهدي (عليه السلام) من دون أن يراه أحد، لا بمعنى اختفائه اختفاء شخصياً، بل بمعنى أن الناس قد يتوسلون إلى المهدي (عليه السلام) بالنداء والدعاء بأن يقضي حاجتهم ويتوسط إلى الله عز وجل في تذليل مشكلاتهم، فتقضى حاجتهم وتحل مشاكلهم، أما بشكل طبيعي اعتيادي، وأما بشكل لم يكن متوقعاً لصاحب المشكلة أساساً، بحيث يضطر إلى الإذعان والجزم بكونه حاصلاً نتيجة لدعاء المهدي (عليه السلام). وبذلك يثبت وجوده عليه السلام، وعنايته بمن يتوسل إلى الله عز وجل في حل مشكلاته.
وهذا القسم يمثل بعض أخبار المشاهدة، وهو موجود على مر التاريخ بالنسبة إلى الكثير من المضطرين والمحتاجين. فإن الإمام بقربه إلى الله تعالى وكماله لديه يكون مستجاب الدعوة، فيمكنه أن يستعمل دعاءه في قضاء حوائج الآخرين، حين يرى المصلحة في ذلك.
وهذا هو أبعد طريق عن الشبهة والخطر بالنسبة إليه، كما هو واضح. كما أنه يكون عملاً من الأعمال المنتجة بصفته ذو تأثير حقيقي في الخارج. وإنما يسقط الدعاء من كونه عملاً منتجاً فيما إذا كان بعيداً عن الإخلاص وعن إدراك حقيقة المسؤولية، ومن ثم يكون بعيداً عن الإجابة فلا يكون منتجاً.
القسم الخامس:
الأخبار التي تدل على أنه شارك في إقامة الحجة على افرد، بعض ما رآه في المنام أيضاً، مضافاً إلى الحوادث التي عاشها في اليقظة.
وهذا الأمر ليس بالبعيد مع اقتران خصيصتين:
الأولى: إذا كانت إقامة الحجة على مستوى المعجزة.
الثانية: أن يكون لبعض ما رآه أثر في عالم اليقظة، ولم تكن الحادثة مقتصرة على المنام وحده.
وكلا الخصيصتين مجتمعتان في الأخبار المندرجة في هذا القسم مما سطر في المصادر أو شوهد بالوجدان أو سمع بالنقل. ومعه تندرج هذه الأخبار فيما يدل بالدلالة القطعية على وجود المهدي (عليه السلام)، وإن لم تندرج في أخبار المشاهدة.
وأود أن أشير في المقام إلى أنه ليس هناك أي دليل عقلاً ولا شرعاً على بطلان كل الأحلام جملة وتفصيلا. نعم، لا شك في أكثرها زائل ولا حقيقة له، وإنما هو ناشئ عن نوازع نفسية لا شعورية لدى الفرد. ولكن مما لا شك فيه وجود الأحلام المطابقة للواقع، والتي يجد الفرد تطبيقها في عالم اليقظة بنحو أو بآخر، وإنكار ذلك مكابرة واضحة على الوجدان، وأنت حر بإعطاء أي تفسير لذلك عدا الصدفة المحضة التي يقطع بعدمها نتيجة للكثرة الكاثرة من الأحلام الصادقة على مر التاريخ.
فإذا اقترن الحلم بأمر زائد على مجرد المطابقة للواقع، كان – ولا شك- من قبيل المجزات، كما لو دعا لك شخص في المنام فشفيت في اليقظة أو وعدك بتحقق أمر فتحقق، أو أخبرك بشيء لم تكن تعلمه، وكان حاصلاً حقيقة.
ومع ذلك لا نريد أن نثمن تلك الروايات التي تقتصر على مجرد المنام، فان مثل ذلك غير موجود في أخبار المشاهدة على الاطلاق. وإنما يوجد قسم منها تشارك اليقظة والنوم في إيجاد المعجزة للدلالة على حقيقة المهدي. وهو من أوضح الدلائل على صقد المنام.
وعلى أي حال، فهذا القسم قليل العدد في روايات المشاهدة. ولو قدر لنا إسقاط المنام عن نظر الاعتبار، لكان لنا في ما حدث في اليقظة حجة وكفاية.
القسم السادس:
الأخبار الدالة على الحاج النوري في ذلك روايتين، كان المهدي (عليه السلام) في احداهما بصورة "سيد" يعرفه الراوي ويعرف كونه جاهلاً واطئ الفهم والثقافة. وقد فهم كونه هو المهدي (عليه السلام) لما ذلكر من أمور علمية مع إنكار ذلك الشخص أنه كان هو القائل لذلك.(٧٤) وكان المهدي (عليه السلام) في الثانية في صورة "شيخ" يعرفه الراوي.(٧٥)
وهاتان الروايتان، ونحوهما ما يثبت تشكل الامام المهدي (عليه السلام) في سحنته وجسمه أشكالاً مختلفة، بحيث من الممكن انطباقها على أشخاص بعينهم... يختلف حسابهما بالنسبة إلى الأطروحتين الرئيسيتين السابقتين:
أما أطروحة خفاء الشخص، فهي وإن لم تقتض ذلك علىوجه التعيين، لامكان أن يراه الرائي عند ارتفاع خفائه بشكل موحد في كل المرات. ولكن قد يتخيل من يقول بهذه الأطروحة: بأن حال المهدي (عليه السلام) وغيبته، لما كانت مبتنية على المعجزات، كما هو مفروض هذه الأطروحة، فمن الممكن أن تتوسع في المعجزات إلى كثير من خصوصيات الامام (ع) وأموره، حتى فيما يرتبط بشكله وسحنته... ما دام الله تعالى قادراً على كل شيء.
ولكن الواقع، أننا إذا سرنا في هذا التصور عدة خطوات، لواجهنا انحرافاً خطيراً وفهماً خاصاً باطلاً للتصورات والقواعد الاسلامية، لسنا بصدد تفصيله.
هذا ويراد بالسيد والشيخ من كان بزي رجال العلم الديني الاسلامي. غير أن السيد من كان من العلويين منهم والشيخ منهم من لم يكن كذلك.
والصحيح هو ما قلناه في تأسيس الأطروحة الثانية، من قانون المعجزات، وإن كون الله تعالى قادراً على كل شيء، لا يقتضي إيقاعه للمعجزات بعدد كبير وبدون مبرر واضح. بل لابد من اقتصاره على مورد إقامة الحجة، وتربية البشر.
فإذا تمّ ذلك، عرفنا أننا نعترف بإمكان ما قيل من تغير شكل الإمام - موقتاً – عند انحصار إقامة الحجة على ذلك أو توقف مستقبله الموعود عليه.غلا أن ذل كمما لا يكاد يوجد له مصداق أو تطبيق في أي مورد ن لما سبق أن عرفناه من إمكان إيجاد المقابلة وإنهائها بشكل طبيعي، أو بإيجاد معجزة واحدة هي الاختفاء عند الضرورة، مع الحفاظ على شكله الذي هو قوام شخصيته بين الناس. وإذا أمكن ذلك، انتفت الحاجة إلى تغير الشكل بالمعجزة، وإذا انتفت إليها الحاجة لم يكن لوجودها سبيل، بحسب قانون المعجزات.
وينفي هذا المضمون أيضاً، ما سبق أن سمعناه من أن عدداً من الأفراد يعرفون الإمام المهدي (عليه السلام) في غيبته الصغرى وفي غيبته الكبرى، بشكل وسحنة موحدة بالرغم مما قد يتغير من زيه وملبوسه.
القسم السابع:
من أخبار المشاهدة ما دل على مشاهدة المهدي (عليه السلام) في العراق أو وسطه وجنوبه على وجه خاص. وهذا يشمل الأعم الأغلب من أخبار المشاهدة.
ومع، فقد يخطر في الذهن: أن هذا الاختصاص بمنطقة معينة من العالم مما لا يناسب الوظيفة الإسلامية التي عرفناها للمهدي طبقاً للأطروحة الرئيسية الثانية... من تنفيذ عدد من مصالح المسلمين وحل مشاكلهم، مما هو مستجمع للشرائط السابقة، وخاصة مما يمت إلى قواعده الشعبية ومواليه بصلة. ومن المعلوم أن عمله في خصوص العراق، يجعل هناك ضيقاً في نشاطه لا عن المسلمين فقط، بل عن قواعده الشعبية في غير العراق أيضاً، فكيف نستطيع أن نفسر هذه الأخبار.
والجواب عن ذلك يكو من عدة وجوه:
الوجه الأول:
إن الأخبار المثبتة لمشاهدته عليه السلام في غير العراق، لا قصور فيها من حيث الدلالة على قيام المهدي بوظيفته الاسلامية في تلك البلاد. على ما سنسمع فيما يلي من البحث مفصلاً.
الوجه الثاني:
أننا ينبغي أن نلتفت إلى ما قلناه من أن هناك عدداً ضخماً من المشاهدات غير المروية، قد يفوق العدد المروي منها.
إذن، فمن المحتمل أن يكون عدد مهم من المشاهدات واقع خارج العراق، ولم تسنح الظروف – التي أشرنا إلى بعضها – بنقل أخبارها إلينا.
كما ينبغي أن لا ننسى ما قلناه من أن المهدي عليه السلام يعمل الأغلب من أعماله بشخصيته الثانية وبصفته فرداً عادياً في المجتمع، ومثل هذه الأعمال تحصل ولا يردنا خبرها بطبيعة الحال. أو قد يصلنا الخبر ولا نعرف انتسابها إلى المهدي (عليه السلام) بحقيقته.
ومعه فالمهدي يمكنه أن يعمل في سائر البلاد التي يصل اليها، سكناً أو سفراص، من دون أن يثير حوله أي استفهام أو أن يصل إلى الآخرين عنه أي خبر.
الوجه الثالث:
إن غاية ما تدل عليه هذه الأخبار، هو أن غالب سكنى المهدي (عليه السلام) هو في العراق. ومن المعلوم أن عمل الفرد يكثر في محل سكناه عنه في المناطق الأخرى.وخاصة فيما إذا كان يجد من بعض الأسفار صعوبة وخطراً علىنفسه أو إثارة للاستفهام عن حقيقته.
واختياره عليه السلام العراق للسكنى، ممكن وقريب، ولا ينافي أياً من الأطروحتين الرئيسيتين. وخاصة بعد أن كان هو بلد سكناه غالباً في غيبته الصغرى – كما عرفنا-. وفيه مساكن ومدافن جملة من آبائه الطاهرين عليهم السلام. وكان مركزاً لعدد مهم من الأعمال الاسلامية الكبرى في صدر الإسلام كواقعة كربلاء وغيرها. وسنعرف أيضاً في الكتاب الثالث من هذه الموسوعة أن العراق والكوفة على الخصوص، ستكون هي المنطلق الأساسي، بعد ظهور المهدي (عليه السلام) لفتح العالم كله والعاصمة الرئيسية للدولة الإسلامية العالمية المهدوية.
وهنا يمكن أن يخطر في الذهن سؤالاتن، لا بد من عرضهما مع محاولة الجواب عليهما:
السؤال الأول:
أنه لماذا كان العراق هو مركز الثقل في كل هذه الأعمال الكبرى، ولم يكن غيره بهذه الصفة. مع العلم أننا نؤمن بتساوي البشر عامة والمسلمين خاصة وبتساوي المناطق واللغات تجاه التشريع الإسلامي والعدالة الإلهية. فما هو الوجه في ذلك؟
والجواب عن ذلك: أن العراق لم يحتل هذا المركز المهم، من أجل عنصرية معينة، وإنما له من الصفات الواقعية التي تجعله المنطلق الوحدي في العالم لكل تلك الأعمال الكبرى.
ويمكن تلخيص خصائصه الرئيسية بما يلي:
الخصيصة الأولى:
إن العراق من الناحية الجغرافية، يعتبر في وسط البلاد الإسلامية في عصر الغيبة، ابتداءً بالهند وأندونيسيا وانتهاءً بمراكش وغرب أفريقيا عموماً.
الخصيصة الثاية:
إن العراق مسكن للقواعد الشعبية التي تؤمن بوجود المهدي (عليه السلام) وغيبته.
الخصيصة الثالثة:
إن العراق سيصبح الأرض التي تتمخض عن عدد غير قليل من القواد الرئيسيين للمهدي (عليه السلام) بعد ظهوره، كما سيتضح من الكتاب الثالث من هذه الموسوعة، بخلاف البلاد الإسلامية الأخرى، فأنها تتمخض عن عدد قليل.
والسر في ذلك: ليس هو أفضلية العراق ككل على غيره، وإنما ذلك باعتبار ما يمر به الشعب هناك من مآسٍ ومظالم أكثر من غيره من الشعوب المسلمة، وسنعرف في ما يلي من هذا التاريخ أن زيادة الظلم يتمخض عن كثرة الإخلاص والمخلصين.
وبهذه الخصائص الثلاث، يكون العراق ذا موقع أهم من الناحية الإسلامية من كثير من البلاد الإسلامية الأخرى: نعم، ينبغي أن لا ننسى الجزء الأكبر من بلاد فارس فإنها أيضاً تتصف بنفس الخصائص. وحيث كانت مجاورة للعراق أمكن تعميم المنطقة بخصائصها إليها.
السؤال الثاني:
إن روايات المشاهدة وإن دلت على سكنى المهدي (عليه السلام) في العراق، إلا أن هناك أموراً أخرى تدل على خلاف ذلك، تكون معارضة مع هذه الروايات. فكيف نجمع بينهما.
الأمر الأول:
ما سبق أن ذكرناه طبقاً للأطروحة الرئيسية الثانية، من أن خير وجه متصور يخطط المهدي (عليه السلام) لكي يبعد الأنظار عن نفسه والالتفاف إلى حقيقته، هو أن يسكن في كل جيل مدينة إسلامية غير التي كان يسكنها وقلنا أنه لعله يسكن في كل خمسين سنة في مدينة من العالم الإسلامي.
ولكن الواقع أن هذا لا يعارض سكناه الغالبة في العراق خلال التاريخ، وسكناه في عدد من مدن العراق أيضاً. فلا يكون معارضاً مع ما دلت عليه روايات المشاهدة.
الأمر الثاني:
الرواية السابقة التي دلت على اختياره المدينة المنورة للسكنى.
الأمر الثالث:
ما سمعناه من اختياره البراري والقفار وشعاب الجبال محلاً للسكن، كما دلت عليه رواية علي بن مهزيار.
والجواب على كلا هذين الأمرين، من وجهين:
الوجه الأول:
أننا سبق أن وجدنا المبررات الكافية لرفض الأخذ بكلا هاتين الروايتين، ومعه، فلا تكون معارضة ما دلت عليه روايات المشاهدة.
الوجه الثاني:
إن ما يدل عليه غالب روايات المشاهدة هو سكنى المهدي في غالب العصور المتأخرة في العراق، ومعه ففي الإمكان افتراض سكناه في البراري والقفار. وخاصة بعد أن علمنا أن الحاجة إلى الانعزال والحماية قد ارتفعت بالمرة عن شخص المهدي عليه السلام، في العصور المتأخرة.
فهذه هي جملة الأقسام في أخبار المشاهدة، مع تمحيصها. ونكرر تارة أخرى أن كل رواية بمفردها، قد تكون قابلة للمناقشة إلا أن العلم الحاصل من المجموع غير قابل للمناقشة، ويكون نافياً للكذب والخطأ والوهم … ولو في بعضها على أقل تقدير.
الأمر الثاني: من الكلام عن أخبار المشاهدة.
إن هناك إيراداً عاماً يمكن أن يرد على هذه الأخبار لو لوحظت النظرة الإسلامية العامة إلى المجتمع.
وحاصل هذا الإيراد: أننا لا نكاد نجد في أخبار المشاهدة، في الغيبة الكبرى، توجيهاً عاماً واعياً يقوله الإمام عليه السلام لأحد ممن يقابله، سواء كان الغرض قضاء حاجة عامة أو قضاء حاجة خاصة.
مع أن يتبادر إلى التصور أن ما يفعله الإمام (ع) في أثناء المقابلة، هو أن يربي من يقابله ويثقفه بالثقافة العامة الإسلامية الصحيحة، ويلخص له في عدة كلمات القضايا الإسلامية المهمة التي تنير له الطريق وتحثه على السير القويم. والمشاركة في بناء المجتمع المسلم بناء صالحاً واسع الأثر بعيد النتيجة.
مع ان هذا لم يحدث، إذ لو كان قد حدث لنقل في الأخبار، مع أنه تكاد أن تكون خالية عنه، ولو كان قد حدث لأصبح الفرد من أفضل الصالحين، وأوسع العاملين، ولرأينا آثاراً اجتماعية مهمة مترتبة على أعمال الذين شاهدوا المهدي (عليه السلام)، وتابعيهم بإحسان، مع أن ذلك لم يحدث!
فلماذا لم يقل المهدي (عليه السلام) مثل هذه التوجيهات، وإذا كان قاله، فلماذا لم ينقل إلينا، أو لم يظهر أثره في المجتمع المسلم.
ونحن إذا استطعنا الجواب على ذلك، فقد سرنا قدماً جديدة في تحديد سياسة الإمام المهدي (عليه السلام) تجاه الآخرين ممن قابلوه، وممن لم يقابلوه أيضاً.
ويتم الجواب على ذلك ضمن عدة نقاط:
النقطة الأولى:
أننا عرفنا أن المهدي (عليه السلام) يعمل – مع اجتماع الشرائط – العمل النافع بصفته فرداً اعتيادياً في المجتمع. وفي مثل ذلك يكون له أن يقول ما يشاء ويفعل ما يريد ويمهد لتكميل الأفراد والمجتمعات، من دون أن تعرف هويته الحقيقية. وربما كان الكثير ممن برزوا في العالم الإسلامي علماً وعملاً، كانوا قد سمعوا التوجيه من المهدي (عليه السلام) بدون أن يعرفوه على الإطلاق.
النقطة الثانية:
إن المهدي (عليه السلام) قد يجتمع بالخاصة من المؤمنين به، وهو ما سبق أن تصورناه بصفته أطروحة محتملة، وتدل عليه بعض الأخبار أيضاً، على ما سنسمع، وباجتماعه معهم، بالشكل الذي يعرفوه بحقيقته، ينفتح لهم المجال الواسع لتلقي التعليمات منه عليه السلام، والخوض في مناقشة المسائل الاجتماعية والاسلامية على صعيد واسع وواعٍ. ثم هم يطبقونه في حياتهم العملية، من دون أن ينقلوا من هذا القبيل.
فإن كفى ذلك في قناعتنا في كفاية هذه التوجيهات، عما نتوقعه من أخبار المشاهدة، فهو المطلوب. وإن تنزّلنا عن هذه النقطة، أمكننا الانتقال إلى ما يلي:
النقطة الثالثة:
إن المعهود من ديدن النبي (ص)، والأئمة عليهم السلام، هو إعطاء كل مقام مقاله، وعدم المبادرة إلى البيان من دون سؤال. وإذا سألهم سائل عن بعض الحقائق العبادية أو الاجتماعية أو الكونية، نظروا إلى مقدار مستوى السائل من حيث الثقافة، وأعطوه من الجواب بمقدار ما يفهمه ويستطيع هضمه وتمثيله نفسياص وعقلياً. ولم يكونوا يحملونه جواباً يحوي من الحقائق ما لا يطيقه كاهله أو لا يسيغه عقله.
بل أن هذا الدين غير خاص بقادة الإسلام، بل عام لكل عالم عندما يسأله جاهل، وكل اختصاصي عندما يسأله عامي. فليس من المحتمل أن يجيب انشتاين بكل تفاصيل نظريته النسبية، أو ببعض دقائقها، لو سأله عنها شخص، وإنما يكتفي في الإعراب عنها، بإعطاء بعض العموميات.
وهذا هو المراد الجوهري، مما ورد شرعاً وعرفاً، من قولهم: خاطب الناس على قدر عقولهم. وهو أمر واضح في الأذهان في غاية الوضوح.
ومعه، فلا ينبغي أن نتوقع من المهدي (عليه السلام) أن يسير بغير هذا الديدن الذي سار عليه آبؤه عليهم السلام. فهو لا محالة يقدر المستوى العقلي والثقافي للفرد قبل أن يوجه توجيهه أو يذكر كلامه.
فإذا علمنا أنه عليه السلام كان يواجه الناس لأغراض حل مشاكلهم العامة والخاصة، بغض عن مستوياتهم الثقافية، وعلمنا أن كثيراً من كان يواجههم ذو مستوى في الوعي والثقافة الإسلامية العامة واطئ إلى حد كبير... لم نكن نتوقع – مع هذا – أن يذكر المهدي توجيهاً أو إرشاداً خارجاً عن حدود قضاء الحاجة وتذليل المشكلة، مما يكون له آثار أخرى في المجتمع والحياة.
وهذه هي القاعدة الأساسية التي تفسر هذا الجانب من سياسة الإمام عليه السلام، تجاه الآخرين.
النقطة الرابعة:
أننا لو غضضنا النظر عما قلناه في النقطة الثالثة، وفرضنا أن المهدي (عليه السلام) يوجه البيانات إلى من يراه بشكل واسع، بقطع النظر عن مستواه الثقافي والفكري... فنحن – مع ذلك – لا ينبغي أن نتوقع من هذه التوجيهات أن تصنع لنا الأبطال والمشاهير في العلم والعمل... كما تخيل السائل الذي نناقشه الآن.
فإننا نعرف سلفاً أن المقابلة تكون قصيرة دائماً، وغير مكرر على الأغلب، ومكرسة – بطبيعة الحال – لأجل حل مشكلة معينة. إذن، فماذا يبقى للتوجيهات العامة المتصوورة للإمام المهدي (عليه السلام) من الزمان، إلا أقل القليل. فلو فرض أن الإمام عليه السلام اغتنم هذه الفرصة، وتكلم مع الفرد مقدار ربع ساعة أو نصف ساعة على أكبر التقادير، فإن هذا الكلام مهما كان مركزاً وكاملاً وعميقاً، لا يمكن أن يصنع من الفرد العادي بطلاً من الأبطال، أو شهيراً من المشاهير، من الزاوية الإسلامية الحقة. فإن الأمر لا يخلو من أحد فرضين لا ثالث لهما. وهما: أن المهدي (عليه السلام) إما أن يريد تربية من يقابله وتثقيفه بشكل المعجزة، وإما أن يريد ذلك بنحو طبيعي.
أما طريق المعجزة فهو منسد أساساً، لعدم كون هذه المعجزة واقعة في طريق إقامة الحجة، بعد فرض إيمان الفرد بالإسلام، فلا يقتضي قانون المعجزات وجودها. على أنها لو وجدت للزم منها الجبر الباطل على ما هو يبرهن عليه في محله من بحوث العقائد في الإسلام.
وأما تربيته وتثقيفه بالطريق الطبيعي، فمثل هذه التربية مما لا يمكن وجوده في زمان يسير، وإنما يحتاج الإنسان في تكامله إلى زمان طويل وتجربة واسعة وتربية بطيئة حتى يتكامل وينضج نضجاً واقعياً. ولا يمكن أن يكون كلام الإمام (ع) – حتى لو فهمه واستوعب حقائقه – إلا خطوة واحدة في طريق تكامل الإنسان. ويبقى بينه وبين رفعته الحقيقية خطوات وخطوات.
على أن الكلام المركز القصير الذي فرضناه في السؤال، مما يتعذر على الفرد العادي فهمه ويحول تركيزه وعمقه دون استيعابه. وأما إذا لم يكن مركزاً وعميقاً لم يكن منتجاً للنتائج المتوقعة في السؤال.
إذن، فيتعين على المهدي (عليه السلام) – في حدود هذه النقطة الرابعة – أن يعرض عن التوجيهات صفحاً، لعدم جدواها إلا بطريق إعجازي، لا يمكن تحققه طبقاً لقانون المعجزات.
النقطة الخامسة:
أننا نحتمل – على الأقل – أن هذه التوجيهات العامة لو تكررت وأثرت لكان لها أبلغ الأثر في تغيير التاريخ الإسلامي بل التاريخ البشري، وفاقاً لما قاله السائل، بعد التنزل عن النقاط السابقة.
وهذا التغيير المتوقع، مما لا يحتوي على مصلحة، لأنه يؤخر يوم الظهور ويفوت شرطه الأساسي، وهو مرور الأمة بأزمنة الظلم والجور، حتى تتكامل عن تجربة وحنكة وقوة إرادة، لا عن استخذال وتكاسل. ومعه فلا يمكن أن يقوم المهدي (عليه السلام) بذلك، وإنما يقتصر على التوجيهات الصغيرة التي لا تبلغ هذا المستوى.
إذن، فبلحاظ أي واحدة من هذه النقاط، فضلاً عن مجموعها، يكون من المنطقي أن نتصور خلو أخبار المشاهدة من التوجيهات العامة الواعية، واقتصارها على ما هو المقصود من المقابلة، ليس إلا.
مضافاً إلى أننا نعرف أن الرواة إذا كانوا من الخاصة المخلصين المتقبلين لتوجيهات المهدي (عليه السلام)، فإنهم يحذفونها عند نقل الواقعة احتراماً لها وصوناً لمدلولها عن الانتشار... كما يظهر من بعض روايات المشاهدة. واذا لم يكونوا من أولئك الخاصة، فإنهم إما أن يحذفوا التوجيهات لعدم الاهتمام بها، وإما أنهم ينقلونها بالمعنى الذي فهموه، فتبدو لنا بشكل ممسوخ ذو طابع شخصي ضيق، ولا تكاد تكون من التوجيهات العامة، إذا عرضت بهذا الشكل.
هذا، فيما إذا سلمنا، ما افترضناه في السؤال من أن التوجيهات العامة لم ترد في روايات المشاهدة... هذا وإن كان صحيحاً بشكل عام. ولكننا لا نعدم سماع ذلك أحياناً، حين يجد المهدي (عليه السلام) مصلحة في التوجيه، في الحدود الممكنة. وقد نستطيع أن نحمل فكرة عن ذلك فيما يلي من هذا الفصل.
الأمر الثالث:
هل أن مشاهدات المهدي عليه السلام على حقيقته، في غيبته الكبرى، يحتاج إلى درجة عالية من الإيمان والوثاقة، كما يميل إليه بعض الباحثين، أو لا يحتاج.
لاشك أن تلك الدرجة العليا، كانت شرطاً في مشاهدة صاحب الأمر المهدي (عليه السلام) في غيبته الصغرى... كما عرفنا في تاريخها، حيث لم يكن أبوه الإمام العسكري (ع) يطلع أحداً عليه إلا من الموثوقين الخاصين، وكذلك كان ديدن المهدي (عليه السلام) بعد وفاة أبيه. ما عدا حوادث قليلة جداً ظهر عليه السلام للمنحرفين من أصحابه لمصالح معينة، وبشكل مأمون النتيجة.(٧٦)
وأما في عصر الغيبة الكبرى... فلا شك أن الأغلب هو اختصاص المقابلة بالخاصة الموثوقين. كما لا شك في أن الإمام المهدي (عليه السلام) قد يخص بعض الموثوقين، بأكثر من مقابلة واحدة، ولعلها تصل إلى عدد مهم من المقابلات لدى عدد منهم.
كما لا شك في أن المصالح الإسلامية، قد تقتضي ظهوراً للمنحرفين، إذا كان بنحو مأمون النتيجة.
ومعه، فينبغي أن يقال: أن نفس النسبة التي رأيناها في الغيبة الصغرى، تتكرر بشكل أو آخر، في الغبية الكبرى أيضاً، بين الموثوقين والمنحرفين. وهذا كله واضح لا غبار عليه... لا بحسب القواعد العامة، ولا بحسب أخبار المشاهدة، إذ أن المنقول من المقابلات مع غير الموثوقين، مشابه لهذه النسبة تقريباً.
ولكن الذي ينبغي أن نلتفت إليه، هو وجود فرق أساسي ما بين حال المهدي (عليه السلام) في غبيته الصغرى وحاله في غيبته الكبرى، فهو في الكبرى أكثر أمناً وأبعد عن التفات الأذهان إليه فتفتح له فرصة أكبر في مقابلات الناس، بما فيهم غير الموثوقين والمنحرفون أيضاً. مع الالتزام بتخطيط معين يضمن عدم الاطلاع على حقيقته إلا بعد الفراق.
وهذا واضح، بعد أن عرفنا من مضادرة السلطات له في الغيبة الصغرى، وهناك قسم من الناس يعرفونه ويعرفون والده، وخاصة في القسم الأول من تلك الفترة. وأما في الغيبة الكبرى، فقد ابتعدت الأنظار عنه، وخفي شكله بالمرة عن سائر البشر، وأيست السلطات عن مطاردته، بل أنكرت وجوده تماماً. وكل ذلك يكون في مصلحة حرية تنقلاته ومقابلاته، كما هو واضح.
ومن هنا نكاد نشخص بوضوح، أن نسبة مقابلاته مع غير الموثوقين، أكثر إلى حد واضح من نسبتها في الغيبة الصغرى. وأما المنحرفون، فالمقابلة معهم أقل من ذلك العدد بكثير، ولا تكون إلا فيما إذا توقف عليه غرض كبير، ولم يمكن تنفيذه عن طريق المقابلة مع أحد الموثوقين أو غير المنحرفين.
الأمر الرابع:
في التخطيطات التي يضعها المهدي (عليه السلام) لأجل ضمان عدم التفات الرائي إلى حقيقته في أثناء المقابلة.
فإن المقابلة، قد تقتضي، بحسب المصلحة، أن يكشف المهدي عن حقيقته في أثنائها. وقد يكون الرائي عارفاً له من مقابلة سابقة، كما قد يحصل للموثوقين الخاصين. وقد تقتضي المقابلة أن لا يعرفه الرائي إلا بعد المفارقة، فيما إذا لم يكن بتلك الدرجة العليا من الوثاقة، فضلاً عما إذا لم يكن موثوقاً أو كان منحرفاً.
ففي مثل ذلك يحتاج المهدي (عليه السلام) إلى التخطيط بنحو يدع الرائي غافلاً عن حقيقته إلى حين الفراق، على أن يفهم بعد ذلك أن الذي كان قد رآه... هو المهدي (عليه السلام).
وأساليب التخطيط الذي كان يضعها المهدي (عليه السلام) في سبيل ذلك، بحسب ما ورد في أخبار المشاهدة، عديدة، يمكن تلخيصها فيما يلي:
الأسلوب الأول: إبداله لزيه وواسطة نقله:
فنراه كثيراً ما يكون مرتدياً العقال العربي، على اختلاف الأشكال، فتارة نراه بزي البدو(٧٧) وثانية بزي مهيب لطيف(٧٨) وثالثة بزي فلاح يحمل مسحاته(٧٩) ورابعة بزي سيد جليل من رجال الدين.(٨٠)
كما أن واسطة نقله قد تكون هي الجمل في عدد من المرات(٨١) كما قد تكون هي الفرس(٨٢) وقد يكون هو الحمار،(٨٣) كما قد يواكب الرائي ماشياً(٨٤) وقد لا تحتاج المقابلة إلى سير وانتقال.(٨٥)
كما قد يأتي إلى المقابلة، فارساً حاملاً رمحاً عند الحاجة،(٨٦) كما قد يبدو متكلماً بلهجة البدو مستعملاً نفس كلماتهم.(٨٧) وثالثة يبدو متكلماً بلهجة اللبنانيين(٨٨) ورابعة باللغة الفارسية.(٨٩)
وقد نعرف، سيراً مع الأطروحة الثانية: أطروحة خفاء العنوان: أن الأزياء والهيئات التي يقابل بها المهدي (عليه السلام) من يريد إخفاء حقيقته عليه أثناء المقابلة... ليس شيء منها هو الذي يكون عليه في حياته الاعتيادية بشخصيته الثانية، لوضوح وجود احتمال كبير في انكشاف حقيقته، لو ظهر لأحدهم في نفس المجتمع الذي يعيش فيه. إذن فلا بد للمهدي (عليه السلام) أن يخطط للمقابلة بابدال زيه لا محالة، قبلها، ضماناً على الحفاظ على سره وخفاء عنوانه.
الأسلوب الثاني:
إقامته للمعجزة التي تكون دالة على حقيقته، بنحو لا تكاد تكون ملفتة للنظر في أثناء المقابلة، بل لا يكاد يعرف الرائي أنها معجزة أصلاً إلا بعد الفراق... حين يستذكرها ويحسب حسابها فيعرف أن ذلك العمل لا يمكن أن يقام به إلا بنحو إعجازي.
ويتجلى ذلك بوضوح في عدد من الروايات، بقطع المسافة الطويلة بزمان قصير، المسمى بطيّ الأرض براً أحياناً وبحراً أخرى. ومن المعلوم أن حساب طول المسافة إنما يكون بعد قطعها. ولعل أوضح الروايات في ذلك، ما فهمه الرواي بعد فراق المهدي (عليه السلام) من أن الطريق الذي مشى فيه في زمان قصير نسبياً، لا يمكن لأحد أن يسير فيه إلا بأضعاف تلك المدة، ومن المتعذر أن ينجو أحد من السباع والوحوش في ذلك الطريق، ولكنه نجا منها ووصل في زمان قليل.(٩٠)
الأسلوب الثالث:
ابتعاده عن الرائي في أثناء الحادثة، وقبل انتهاء حاجته، وإيكال إنهائها إلى غيره... هو أما نفس صاحب الحاجة كما في بعض المقابلات(٩١) وقد يكون هو خادم الإمام عليه السلام،(٩٢) وقد يكون هو شخص آخر عابر للطريق.(٩٣)
الأسلوب الرابع:
تجنب كل ما من شأنه إلفات النظر إلى حقيقته، كالإشارة إلى عنوانه صراحة أو كناية، أو إقامته لمعجزة كبيرة واضحة ملفتة للنظر، كما هو واضح من عدد من روايات المقابلات. بل قد يتجنب الجواب لو سئل عن اسمه ومكانه، ولا يجيب بما يدل على حقيقته.
الأسلوب الخامس:
وقوع الرائي والرائين أو إيقاعهم، في ظروف وقتية خاصة، بحيث يرتج عليه باب السؤال عن حقيقة المهدي واسمه وبلدته. وهذا واضح من عدد من الروايات، فإن الرائي قد يكون مهتماً بحاجته جداً(٩٤) أو مذهولاً نتيجة لالتفاته إلى معجزة واضحة أوجدها المهدي (عليه السلام)،(٩٥) أو مشغولاً بنفسه كالصلاة أو المرض أو ضيق البال ونحو ذلك. ولا يخفي أن نفس تلك الغفلة التامة التي يكون بها الناس تجاه رؤية المهدي (عليه السلام)، تلك الغفلة التي لا يمكن ارتفاعها إلا تحت تأثير قوي... هي من أكبر الظروف، بل أكبرها على الاطلاق، مما يقتضي عدم معرفة الرائي بالمهدي (عليه السلام) في أثناء المقابلة... إلا بعد أن يحسب حسابه بعد الفراق.
فهذه هي الأساليب العامة للتخطيط الذي يتخذ المهدي (عليه السلام) بعضها. حينما لا يجد من المصلحة معرفته في أثناء مقابلته. وهناك بعض الأساليب الخاصة المبعثرة في الروايات، مما لا يمكن أدراجه تحت ضابط عام، ويطول بنا المقام في تعدادها.
الأمر الخامس:
في الأغراض والمقاصد العامة التي يقصدها المهدي (عليه السلام) من عمله خلال المقابلة. وتؤجل التعرض للمقاصد الخاصة إلى الأمر السادس الآتي.
والمقصود من الأغراض العامة، ما يكون مستهدفاً لأثر إسلامي اجتماعي أكبر من الأفراد وأوسع. وهو الذي قلنا أنه قليل التحقق بالنسبة إلى العمل الفردي الخاص، وذكرنا السبب في ذلك.
وستكون الفرصة خلال هذ الأمر الخامس وما بعده مفتوحة للاطلاع المختصر على تفاصيل بعض المقابلات، بالشكل الذي يناسب المقام. ولا نكون مسؤولين عن سرد القصص بتفاصيلها فليرجع فيها القارئ إلى مصادرها.
وتنقسم الأغراض والأهداف العامة في أعمال الإمام المهدي (عليه السلام) في غيبته الكبرى، إلى عدة أقسام:
الهدف الأول:
إنقاذ الشعب المسلم من براثن تعسف وظلم بعض حكامه المنحرفين، وخاصة فيما يعود إلى قواعده الشعبية من الخير والسلامة.
فمن ذلك ما قام به الإمام المهدي من إنقاذ شعبه في البحرين، من تعسف حاكميه الذين تنص الرواية على كونهم من عملاء الاستعمار ومن المنصوبين من قبل المستعمرين.(٩٦)
وفي منتهي الأمال، جـ ٢، ص ٣١٦ وما بعدها.
حيث كان للوزير في تلك البلاد، وهو بمنزلة رئيس الوزراء في عالم اليوم... مكيدة كبيرة كادت أن تؤدي إلى إرهاب القواعد الشعبية للإمام المهدي (عليه السلام) إرهاباً غريباً بمعاملتهم معاملة الكفار الحربيين من أهل الكتاب... أما بأن يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، أو أن تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وأطفالهم. وقد كان للإمام المهدي (عليه السلام) اليد الطولى في كشف هذه المكيدة ودفع هذا الشر المستطير.
الهدف الثاني:
إنقاذ الشعب المسلم من براثن الأشقياء والمعتدين، وعصابات اللصوص المانعين عن الأعمال الإسلامية الخيِّرة.
فمن ذلك(٩٧): عمل الكبير الذي قام به المهدي عليه السلام من فتح الطريق إلى كربلاء المقدسة، أمام زوار جده الإمام الحسين عليه السلام، في النصف من شعبان.
وكانت عشيرة "عنيزة" تترصد لكل داخل إلى كربلاء وخارج منها، وتتعهده بالسلب والنهب، فكان الطريق إليها موصداً يخافه الناس. فلولا قيادة المهدي (عليه السلام) للزائرين في الطريق إلى كربلاء وتهديده لعشيرة عنيزة بالموت والدمار إذا حاولت الاعتداء، لامتنع الناس عن الذهاب إلى زيارة الإمام سيد شباب أهل الجنة عليه السلام، ولتعطل هذا الشعار الإسلامي الكبيرة. فمرحى للألطاف الكبرى التي يسبغها المهدي (عليه السلام) على أمته.
وكان ذلك خلال حكم الدولة العثمانية للعراق. وكان من قوادهم يومئذ: كنج محمد آغا وصفر آغا... كما تنص الرواية على ذلك، ولكنها – مع الأسف – تهمل التعرض إلى التاريخ المحدد للحوادث.
إلفات نظر الآخرين إلى عدم تحقق شروط الظهور الموعود. والتأكيد على أن الأمة لم تبلغ إلى المستوى المطلوب من الوعي والشعور بالمسؤولية الذي تستطيع معه أن تحمل عاتقها الآثار الكبرى في اليوم الموعود. ومعه فلا بد من أن يتأجل الظهور حيث الدلالة على قيام المهدي بوظيفته الاسلامية في تلك البلاد. على ما سنسمع فيما يلي من البحث مفصلاً.
إلى اليوم الذي يتحقق فيه هذا الشرط مهما تمادى الزمن وطالت المدة. وليس لأحد أن يقترح تقديمه أو يعين تاريخه، سوى الله عز وجل.
وقد حصل التأكيد على هذا المفهوم الصحيح الواعي من قبل المهدي (عليه السلام)، على ملأ من الناس في رواية أرويها عن ابي دام ظله، لم أجدها في المصادر المتوفرة. ومن هنا أجد من الضروري أن أروي تفاصيلها باختصار، لكي يتضح تماماً المعنى المقصود من هذه الرواية.
وذلك: إن الناس في البحرين، في بعض الأزمنة، لمقدار إحساسهم بالظلم وتعسف الظالمين... تمنوا ظهور إمامهم المهدي (عليه السلام) بالسيف ظهوراً عالمياً عاماً، لكي يجتث أساس الظلم لا من بلادهم فحسب بل من العالم كله.
فاتفقوا على اختيار جماعة من أعاظمهم زهداً وورعاً وعلماً ووثاقة، فاجتمع هؤلاء واختاروا ثلاثة منهم، واجتمع هؤلاء واختاروا واحداً هو أفضلهم على الإطلاق، ليكون هو واسطتهم في الطلب إلى المهدي بالظهور.
فخرج هذا الشخص المختار، إلى الضواحي والصحراء، وأخذ بالتعبد والتوسل إلى الله تعالى وإلى المهدي (عليه السلام) بأن يقوم بالسيف ويظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً. وقضى في ذلك ثلاثة أيام بلياليها.
فلما كانت الليلة الأخيرة، أقبل شخص وعرفه بنفسه أنه هو المهدي المنتظر، وقد جاء إجابة لطلبه. وسأله عن حاجته، فأخبره الرجل بأن قواعده العبية ومواليه في أشد التلهف والانتظار إلى ظهوره وقيام نوره. فأوعز إليه المهدي (عليه السلام) أن يبكر في غد إلى مكان عام عينه له، ويأخذ معه عدداً من الغنم في الطابق الثاني على السطح، ويعلن في الناس أن المهدي (عليه السلام) سيأتي في ساعة معينة، عليهم أن يجتمعوا في أرض ذلك المكان. وقال له المهدي (عليه السلام) أيضاً: أنني سأكون على السطح في ذلك الحين.
وامتثل الرجل هذا الأمر، وحلت الساعة الموعودة، وكان الناس متجمهرين في المكان المعين على الأرض، وكان المهدي (عليه السلام) مع هذا الرجل وغنمه على السطح.
وهنا ذكر المهدي (عليه السلام) اسم شخص وطلب من الرجل أن يطل على الجماهير ويأمره بالحضور. فامتثل الأمل وأطل على الجمع ونادى باسم ذلك الرجل... فسمع الناس وصعد الرجل على السطح. وبمجرد وصوله أمر المهدي (عليه السلام) صاحبنا أن يذبح واحداً من غنمه قرب الميزاب، فما رأى الناس إلا الدم ينزل من الميزاب بغزارة. فاعتقدوا جازمين بأن المهدي (عليه السلام) أمر بذبح هذا الرجل الذي ناداه.
ثم نادى المهدي (عليه السلام) بنفس الطريقة رجلاً آخر، وكان أيضاً من الأخيار الورعين. فصعد مضحياً بنفسه واضعاً في ذهنه الذبح أمام الميزاب، وبعد أن وصل إلى السطح نزل الدم من الميزاب. ثم نادى شخصاً ثالثاً ورابعاً. وهنا أصبح الناس يرفضون الصعود، بعد أن تأكدوا أن كل من يصعد سيراق دمه من الميزاب. وأصبحوا يفضلون حياتهم على أمر إمامهم.
وهنا التفت المهدي (عليه السلام) إلى صاحبنا وأفهمه بأنه معذور في عدم الظهور ما دام الناس على هذا الحال.
فمن هنا نفهم بوضوح، كيف أن المهدي (عليه السلام) استهدف إفهام الأمة بشكل عملي غير قابل للشلك، بأنها ليست على المستوى المطلوب من التضحية والشعور بالمسؤولية الإسلامية. وكشف أمامها واقعها بنحو أحسه كل فرد في نفسه وأنه على غير استعداد لإطاعة أمر إمامه (ع) إذا كان مستلزماً لإراقة دمه. وإذا كانت الأمة على هذا المستوى الوضيع لم يمكنها بحال أن تتكفل القيام بمهمام اليوم الموعود بقيادة المهدي (عليه السلام).
وستأتي البرهنة التامة على صحة هذا الشرط، من شرائط الظهور، في القسم الثالث من هذا الكتاب.
الهدف الرابع:
إرجاعه عليه السلام للحجر الأسود إلى مكانه من الكعبة.
فأن القرامطة بعد أن قلعوه أثناء هجومهم على مكة المكرمة عام ٣١٧ للهجرة،(٩٨) ونقلوه إلى هجر، وكان ذلك إبان الغيبة الصغرى.
كما عرفنا من تاريخها(٩٩) بقي الحجر لديهم ثلاثين عاماً(١٠٠) أو يزيد. وأرجعوه إلى مكة عام ٣٣٩(١٠١) أو عام ٣٣٧(١٠٢) كان المهدي (عليه السلام) هو الذي وضعه في مكانه وأقره على وضعه السابق، كما ورد في أخبارنا.(١٠٣)
قال الراوي: لما وصلت إلى بغداد في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة عزمت على الحج وهي السنة التي رد القرامطة فيها الحجز في مكانه إلى البيت. كان أكثر همي الظفر بمن ينصب الحجز، لأنه يمضي في أنباء الكتب قصة أخذه، فأنه لا يضعه في مكانه إلا الحجة في الزمان.كما في زمان الحجاج وضعه زين العابين عليه السلام في مكانه.(١٠٤)
وأوضح الرواي بأن الناس فشلوا في وضعه في محله، زكلما وضعه انسان اضطرب الحجز ولم يستقم. فأقبل غلام أسمر اللون حسن الوجه فتناوله فوضعه في مكانه، قاستقام كأنه لم يزل عنه. وعلت لذلك الأصوات.
ثم أن المهدي عليه السلام، خرج من المسجد ولاحقه الرواي طالباً منه حاجة, فقضاها له، وأقام الدلالة ساعتئذ على حقيقته.
وهذه خقيقة تمثل فجوة تاريخية، سكت عنها التاريخ العام، وقد ملأتها أخبارنا الخاصة بكل وضوح. وهو أمر لا يمكن نفيه إلا بنفي فكرة غيبة المهدي عليه السلام من أصلها. وهو خلاف ما هو المفروض في هذا التاريخ.
نعم، يبقى في الذهن سؤالان حول ذلك لا بد من عرضهما ومحاولة الجواب عليهما:
السؤال الأول:
أنه من أين ثبت أن الحجر لأسود لا يضعه في محله إلا الحجة في الزمان، كما ادعاه الراوي؟
والواقع أننا لم نجد رواية تتكفل هذا المدلول الواسع. ولكننا إذا استعرضنا التاريخ المعروف، لم نجد واضعاً للحجر إلا من الأنبياء والأولياء. فإبراهيم عليه السلام هو الذي وضع الحجر حين بنىالكعبة ووضع أسس البيت العتيق.ورسول الله صلى اله عليه وآله هو الذي وضع الحجر قبل نبوته حين بنيت الكعبة في الجاهلية واختلفت القبائل فيمن يضع الحجر والحادثة معروفة، ومروية في التاريخ.(١٠٥) وحين أخرب الحجاج بن يوسف الكعبة المقدسة في صرغه مع عبد الله بن الزبير... أعادوا بناءها من جديد، وكان واضع الحجر هو الإمام زين العابدين.(١٠٦)
وهذا الراوي في الرواية التي نناقشها، ينسب وجو مثل هذه القاعدة العامة، أعني أن الحجر الأسود لا يضعه إلا الحجة في الزمان... ينسبها إلى الكتب، وظاهره كونها مسلمة الصحة، فلعله كانت هناك ادلة أكثر واوثق قد بادت خلال التاريخ والله العالم بحقائق الأمور.
السؤال الثاني:
لو ثبتت هذه الفكرة كقاعدة عامة، وصادق أن زال الحجز الأسود من مكانه في بعض عصور الغيبة الكبرى، فكيف يتسنى للمهدي (عليه السلام) إرجاعه، وهو حجة الزمان، إلا بانكشاف أمره وارتفاع غيبته واطلاع الناس على شخصه.
والجواب على ذلك: أن أهم ما يمكن أن يكون ساتراً لشأنه وصائناً لسره حين وضعه الحجز، هو عدم معروفية هذه الفكرة لدى الناس وعدم اشتهارها بينهم، بل وعدم قيام دليل واضح عليها، كما سمعنا. ولغله من أجل ذلك لم يصدر في الشريعة الإسلامية مثل هذا الدليل الواضح على ذلك. ولعلك لاحظت من خلال هذه الرواية التي نناقشها أن الذي عرف هذه الفكرة هو واحد من الآلاف المحتشدة بما فيهم العلماء والكبراء. ومن هنا استطاع أن يشخص في واضع الحجر كونه هو المهدي (عليه السلام).
ومعه، فانطلاقاً مع خط الأطروحة الثانية: أطروحة خفاء العنوان، يمكن أن نفترض أن الإمام عليه السلام في عصر غيبته، يضع الحجر الأسود مع عمال البناء، ويكون آخر من يثبته، ويبقى مجهول الحقيقة على طول الخط، بل قد يكون معروفاً بشخصيته الثانية باسم آخر كفرد عادي في المجتمع. فيرى الرائي أن هذه الفكرة العامة قد انخرمت، في حين أنه ليس واضع الحجر إلا (المهدي) لو انكشف الستر وظهرت الحقيقة.
الأمر السادس:
في الأهداف والمقاصد الخاصة، التي يقصدها الإمام (ع) خلال مقابلاته. مما يمت بالنفع – بشكل رئيسي ومباشر- إلى شخص معين أو أشخاص قلائل. سواء كان له – بشكل غير مباشر-نفع اجتماعي ملحوظ أو لم يكن.
والأهداف المندرجة تحت هذا العنوان متعددة وأمثلتها كثيرة، نكتفي لكل منها بمثال واحد.
الهدف الأول:
هداية الشخص وتقويمه، وضمه في النتيجة إلى الشعب المسلم الذي يؤمن بالمهدي(ع)... بعد إجراز نيته والعزم على إتباع الهدى إن ظهر لديه.
مثاله: ذلك الشخص الذي ذهب لشراء السمن من الاعراب في أطراف الخلة، فتخلف عن القافله وتاه في الصحراء. فكان مما قال في نفسه: أنني كنت أسمع من أمي أنها تقول: إن لنا إماماً حياً يكنى بأبي صالح يرشد التائهين ويغيث الملهوفين ويعين الضعفاء.
ثم أنه عاهد الله تعالى أنه إن استغاث به وأنجاه، أن يتبع دين أمه. قال الراوي: ثم أنني ناديته واستغثت به. وفجأة رأيت شخصاَ يسير معي وعلى رأسه عمامة خضراء لونها كلون هذا - وأشار إلى الحشيش المزروع على النهر... وأشار لي إلى الطريق. وقال لي: أنك ستصل بسرعة إلى قرية كل أهلها من الشيعة. فقلت له: يا سيدي ألا تأتي معي إلى هذه القرية.
فقال: لا، لأن ألف شخص في أطراف البلاد يستغيثون بي، ولا بد أن أنجيهم.(١٠٧)
الهدف الثاني:
انتصاره لأحد طرفي الجدل عند وقوع الجدل بين اثنين، واقتضاء المصحلة الانتصار لأحد الطرفين.
مثاله: أن صديقين مسلمين مختلفين في المذهب، وقع بينهما جدل مذهبي طويل، في أحد المساجد بهمدان. ولم يستطع أحدهما أن يقنع الآخر مدعاه. فاقترح أحدهما أن يجعلا بينهما أول رجل يدخل المسجد حكماً. وخاف الآخر من هذا الاقتراح، لأن أهل همدان كانوا على مذهب صاحبه، لكنه قبل بالشرط تحت ضغط المجادلة والمباحثة.
وبمجرد أن قررا هذا الشرط، دخل المسجد شاب تظهر على سيماه آثار الدلالة والنجابة، وتظهر عليه معالم السفر. فتقدم إليه صاحب الاقتراح وأظهر له مذهبه، واستدل عيه بعدة أدلة. وأقسم عليه بقسم مؤكد أن يظهر عقيدته بالنحو الذي عليه الواقع. فقرأ هذا الشاب بيتين من الشعر أظهر فيهما عقيدته بنحو لا يقبل الشك، ثم غاب عن الأنظار. وكانت هذه هي المعجزة التي تثبت حقيقته وصحة مذهبه أيضاً. فاندهش الآخر من فصاحته وبلاغته، واعتنق المذهب الذي انتصر له المهدي (عليه السلام).(١٠٨)
الهدف الثالث:
حله لبعض المسائل المعضلة التي قد يشكل حلها على فطاحل العلماء.
مثاله: أن المحقق الأردبيلي، وهو من أعظم العلماء تحقيقاً وورعاً حتى لقب بالمقدس الأردبيلي أيضاً.. أشكلت عليه مسائل، فخرج في جوف الليل سائراً من النجف إلى مسجد الكوفة حيث لاقى المهدي (عليه السلام) في محراب أمير المؤمنين عليه السلام هناك، وسأله عن مسائلة وعرف جوابها، وعاد.(١٠٩)
الهدف الرابع:
أخباره ببعض الأخبار السياسية المهمة في زمانها، قبل أن يعرفها الناس، نتيجة لضعف وسائل الإعلام في ذلك العصر.
مثاله: أن المهدي (عليه السلام) دخل في مجلس درس السيد مهي القزويني في الحلة، فلم يعرفوه، بالطبع، واستمع إلى درسه. وحين انتهى الدرس، سأله السيد المشار إليه: من أين جئت إلى الحلة. فقال: من بلد السليمانية. فقال السيد: منذ كم خرجت منها. فقال: في اليوم السابق. ولم أخرج منها حتى دخل فيها نجيب باشا فاتحاً، وقد أخذها بقوة السيف. وأزال عنها أحمد باشا الباباني الذي كان متمرداً. وأجلس محله أخاه عبدالله باشا. وكان أحمد باشا المذكور قد خرج على طاعة الدولة العثمانية، وادعى السلطنة لنفسه.
قال السيد: وكان والدي في السليمانية، فبقيت متفكراً. ولم يكن قد وصل خبر هذا الفتح إلى حكام الحلة. ولم يحل في خاطري أن أسأله أنك كيف قلت: أني وصلت إلى الحلة وخرجت بالأمس من السليمانية. على حين أن بين السليمانية والحلة، أكثر من عشرة أيام للراكب المجد.
قال: ثم ضبطنا تاريخ ذلك اليوم الذي أخبر فيه بفتح السليمانية، ثم وصلت أنباء هذه البشارة إلى الحلة بعد عشرة أيام من ذلك اليوم وأعلنها حكام الحلة، وحيوا الخبر بضربات المدفع، كما كانوا يعملون عادة في أخبار الفتوحات.(١١٠)
أقول: من هنا نفهم أهمية هذا الخبر لدى سلطات العثمانيين في الحلة. ونعرف المصلحة المهمة التي تترتب على إيصال المهدي (عليه السلام) لهذا الخبر خلال مدة كانت في ذلك العصر إعجازية.
الهدف الخامس:
نصحه للآخرين ورفعه لمعنوياتهم، وتوجيههم التوجيه الصالح، بعد أن كانوا قد مروا في بعض الحالات الصعبة والمشكلات المحزنة بالنسبة إليهم.
مثاله: ما قاله بعض الرواة من مقابلته للمهدي (عليه السلام) في بعض طرقات الحلة – وقد عرف حقيقته بعد ذلك –، فسلم عليه فرد عليه السلام، وقال له فيما قال: لا تغتم بما ورد عليك من الخسران وذهاب المال في هذا العام. لأنك شخص يريد أن يمتحنك الله تعالى بالمال، فرآك تؤدي الحق، وما هو الواجب عليك من الحج. وأما المال هو عرض زائل يأتي ويذهب.
قال الراوي: وكنت قد خسرت في هذا العام خسراناً لم يطلع عليه أحد، وسترته خوفاً من شهرة الانكسار الموجبة لتلف التجارة. فاغتممت في نفسي، وقلت: سبحان الله، شاع خبر انكساري بين الناس حتى وصل إلى الغرباء. ولكنني قلت في جوابه: الحمد لله على كل حال.
فقال: إن ما فاتك من المال سوف يعود عليك بسرعة بعد مدة، وتعود إلى حالك الأول، وستؤدي ديونك. قال الراوي: فسكت مفكراً في كلامه(١١١).. إلى آخر الحديث.
الهدف السادس:
مساعدته المالية للآخرين:
مثاله: أن جماعة من أهل البحرين عزموا على ضيافة جماعة من المؤمنين، بشكل متسلسل في كل مرة عند واحد منهم. وساروا في الضيافة، حتى وصلت النوبة على أحدهم، ولم يكن لديه شيء. فركبه من ذلك حزن وغم شديد، فخرج من أحزانه إلى الصحراء في بعض الليالي، فرأى شخصاً... حتى ما إذا وصل إليه قال له: اذهب إلى التاجر الفلاني – وسماه -، وقل له: يقول لك محمد بن الحسن: ادفع لي الاثنا عشر اشرفياً التي كنت نذرتها لنا. ثم اقبض المال منه واصرفه في ضيافتك.
فذهب ذلك الرجل إلى ذلك التاجر، وبلغ الرسالة عن ذلك الشخص. فقال له التاجر: أقال لك محمد بن الحسن، بنفسه. فقال البحراني: نعم. فقال التاجر: وهل عرفته؟ قال: لا. فقال: ذاك صاحب الزمان عليه السلام، وكنت نذرت هذا المال له. ثم أنه أكرم هذا البحراني وأعطاه المبلغ وطلب منه الدعاء(١١٢) الخ الحديث.
الهدف السابع:
شفاؤه لأمراض مزمنة بعد أعجز عنها الأطباء، وأخذت من صاحبها مأخذها العظيم.
مثاله: ما روي(١١٣) عن السيد باقي عطوة العلوي الحسني: أن أباه عطوة كان لا يعترف بوجود الإمام المهدي (عليه السلام)، ويقول: إذا جاء الإمام وأبرأني من هذا المرض أصدق قولكم. ويكرر هذا القول. فبينما نحن مجمتعون في وقت العشاء الأخيرة صاح أبونا فأتيناه سراعاً. فقال: الحقوا الإمام، في هذه الساعة خرج من عندي. فخرجنا فلم نر أحداً.
فجئنا إليه، وقال: أنه دخل إليّ شخص، وقال: يا عطوة! فقلت: لبيك، من أنت؟ قال: أنا المهدي قد جئت إليك أن أشفي مرضك. ثم مد يده المباركة وعصر وركي وراح. فصار مثل الغزال. قال علي بن عيسى: سألت عن هذه القصة غير ابنه فأقر بها.
فانظر إلى المهدي (عليه السلام) كيف يقرن شفاءه للمرضى بإقامة الحجة على وجوده وإمامته، بحيث لم يبقى لمنكرها أي شكل أو جدال.
الهدف الثامن:
هدايته للتائهين في الصحراء والمتخلفين عن الركب إلى مكان استقرارهم وأمنهم. وقد يقرن ذلك بإقامة الحجة على الرائي للتوصل إلى هدايته، كما سمعنا في الهدف الأول. وأمثلته كثيرة، نذكر الآن واحداً منها:
هو أن شخصاً ذهب إلى الحج مع جماعة قليلة عن طريق الإحساء. وعند الرجوع كان يقضي بعض الطريق راكباً وبعضه ماشياً. فاتفق في بعض المنازل أن طال سيره ولم يجد مركوباً. فلما نزلوا للراحة والنوم، نام ذلك الرجل وطال به المنام من شدة التعب، حى ارتحلت القافلة بدون أن تفحص عنه.
فلما لذعته حرارة الشمس استيقظ، فلم ير أحداً، فسار راجلاً، وكان على يقين من الهلاك، فاستغاث بالإمام المهدي عليه لاسلام، فرأى في ذلك الحال رجلاً على هيئة أهل البادية راكباً جملاً.وقال له: يا فلان، افترقت عن القافلة؟ فقال: نعم. فقال: هل تحب أو أوصلك برفاقك؟ قال فقلت: نعم، والله. هذا مطلوبي وليس هناك شيء سواه. فاقترب مني وأناخ راحلته، وجعلني رديفاً له، وسار. فلم نسر إلا قليلاً حتى وصلنا إلى القافلة.
فما اقتربنا منها، قال: هؤلاء رفقاؤك. ووضعني، وذهب.(١١٤)
الهدف التاسع:
تعليمه الأدعية والأذكار ذات المضامين العالية الصحيحة، لعدد من الناس.
وأمثلة ذلك كثيرة، مما يفهم منه اهتمام الإمام عليه السلام بالأدعية، لا بصفتها تمتمات لا تسمن ولا تغني من جوع، بل بصفتها نصوصاً ذات معان توجيهية تربوية، ومسائل صالحة واعية، سائرة في طريق الله تعالى.
ومن المعلوم أن أسلوب الدعاء أقرب إلى جوالتكتم والحذر، من أي شيء آخر، باعتبارها الوسيلة المعترف بمشروعيتها عموماً، في الاتصال بالله عز وجل، ولا يمكن لأي سلطة من السلطات المحاسبة على ذلك. ومن هنا رأينا الإمام زين العابدين عليه السلام قد اتخذ في تربية الأمة أسلوب الدعاء، وضمن أدعيته أعلى المفاهيم وأجل الأساليب.
وكذلك سار الإمام المهدي (عليه السلام) في هذا الطريق، وانتهج نفس المنهج فيما انتهجه من أعمال. فكان أن علم عدداً من الأفراد عدداً من الأدعية. من أهمها "دعاء الفرج" الذي يطلع الفرد على واقعه السيىء في عصور الفتن والانحراف، ويفهمه أمله المنشود ويربطه بالله تعالى ارتباطاً عاطفياً إيمانياً وثيقاً، إذ يقول: اللهم عظم البلاء وبرح الخفاء وانقطع الرجاء وانكشف الغطاء وضاقت الأرض ومنعت السماء. وإليك يا رب المشتكى وعليك المعول في الشدة والرخاء. اللهم فصل على محمد وآل محمد، وأولى الأمر الذين فرضت علينا طاعتهم فعرفتنا بذلك منزلتهم. ففرج عنا بحقهم فرجاً عاجلاً قريباً كلمح البصر، أو هو أقرب... الخ الدعاء.(١١٥)
الهدف العاشر:
حثه على تلاوة الأدعية الواردة عن آبائه المعصومين عليهم السلام، بما فيها من مضامين عالية وحقائق واعية تربوية وفكرية.
وأوضح أمثلته: ذلك الرجل الذي انقطع عن ركبه في ليل عاصف وماطر بالثلج، إذ رأى أمامه بستاناً وفيه فلاح بيده "مسحاة" يضرب بها الاشجار ليسقط عنها الثلج.
قال الراوي: فجاء نحوي ووقف قريباً مني، وقال: من أنت؟ فقلت: ذهب رفاقي وبقيت لا أعلم الطريق، وقد تهت فيه. فقال لي بالفارسية: صل النافلة حتى تجد الطريق. قال: فاشتغلت بالنافلة. وبعد أن فرغب من التهجد، جاء وقال: ألم تذهب؟ فقلت: والله لا أعرف الطريق. فقال: اقرأ الجامعة.(١١٦) وأنا لم أكن حافظاً للجامعة، وإلى الآن لست حافظاً لها بالرغم من زياراتي المكررة للعتبات المشرفة. ولكنني قمت من مكاني وقرات الجامعة بتمامها عن ظهر قلب.
ثم ظهر تارة أخرى، وقال: ألم تذهب، ألا زلت موجوداً. فلم أتمالك عن البكاء، وقلت: نعم.. لا أعرف الطريق. فقال: اقرأ عاشوراً.(١١٧) قال الراوي: وأنا غير حافظ لعاشورا، وإلى الآن لست حافظاً لها. ولكنني وقفت واشتغلت بالزيارة، فقرأتها بتمامها عن حفظ.
قال: فجاء مرة أخرى، وقال: ألم تذهب؟ فقلت: كلا... لا زلت موجوداً هنا إلى الصباح. فقال: أنا الآن أوصلك بالقافلة. ثم ذهب وركب حماراً وحمل مسحاته على كتفه وجاء فأردفني به. قال الراوي: فوضع يده على ركبتي وقال: أنتم لماذا لا تقرأون عاشورا؟... عاشورا، عاشورا، عاشورا... كررها ثلاث مرات. ثم قال: أنتم لماذا لا تقرأون الجامعة؟ الجامعة، الجامعة، الجامعة ثلاث مرات. وكان يدون في مسلكه.. وإذا به يلتفت إلى الوراء ويقول: أولئك أصحابك. إلى آخر الخبر.(١١٨)
أقول: المراد من النافلة، صلاة الليل، كما فهم الحاج النوري(١١٩) فإن الراوي أتى بها في الليل. وهذه الصلاة من أفضل المستحبات في الشريعة. وكل ما أمر به في هذه الرواية فهو من أفضل المستحبات... على أن يفهم فهماً حقيقياً واعياً، بصفته كجزء من كل، مرتبط بالكيان العام للعمل الإسلامي في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته. ولهذا أمر المهدي (عليه السلام) بالالتزام بها أمراً مؤكداً، بعد أن رأى الناس قد تسامحوا بها وتهاونوا في امتثالها.
وقوله له بعد كل عمل يقوم به الراوي: ألم تذهب؟ إنما هو لاحتمال أن يكون الراوي التائه في خلال العمل يكون قد خطرت له فكرة للخلاص، وخاصة بعد أن يكون قد توجه إلى الله تعالى وتوسل إليه. ولما رأى المهدي (عليه السلام) أن طرق النجاة مسدودة أمام هذا الرجل، وأنه لا يفكر في إصابة الطريق... أوصله بنفسه إلى قافلته. واستطاع المهدي (عليه السلام) أن يثبت حقيقته بعدة معجزات "مخففة" غير ملفته للنظر، ذكرنا بعضها وأحلنا الباقي على المصدر الذي اعتمدناه.
فهذه عشرة أهداف، مما يتوخاه الإمام المهدي (عليه السلام) في عمله من مقابلة الأفراد... مما قد يكون له – في المدى البعيد – أعمق الأثر على صعيد اجتماعي عام وعدد من الأفراد كبير. وللمهدي (عليه السلام) أهداف أخرى، تظهر لمن يراجع أخبار المشاهدة، نعرض عنها آسفين، توخياً للاختصار.
وباستعراض هذه الأهداف، نفهم بوضوح، مطابقتها لما ينبغي أن يكون هدفه طبقاً للقواعد المامة. حيث ذكرنا أن مقتضاها هو عمله في تطبيق جملة من التعاليم الإسلامية مما يمكنه تطبيقه في أثناء الغيبة، وكل هذه الأهداف التي استعرضناها لا شك كونها تطبيقات أمينة للتكاليف التي يمكنه تطبيقها في هذه الفترة... وقد عرفنا أقسامها في بحث سابق.
الأمر السابع:
في أنه هل هناك أشخاص يرون الإمام المهدي (عليه السلام) ويعرفونه على حقيقته، على مر الزمان، أو ما داموا الحياة، أو ليس هناك أحد من هذا القبيل.
ويمكن أن نتحدث عن ذلك على ثلاثة مستويات:
المستوى الأول:
فيما هو مقتضى القواعد العامة من ذلك.
وفي هذا الصدد، يكون بالإمكان أن يقال: أنه بعد أن علمنا أن أحد الأسباب الرئيسية لاحتجاب المهدي (عليه السلام) هو الخوف على نفسه من القتل، بمعنى ضوررة بقائه إلى اليوم الموعود، فلو كان مكشوفاً معروفاً، لقتله الأعداء، كما قتلوا آباءه عليه السلام، ولتعذر تنفيذ اليوم الموعود بنص القرآن الكريم، وقد دلت على ذلك بعض الروايات.
فمن ذلك ما رواه الصدوق في إكمال الدين(١٢٠) بسنده إلى زرارة بن أيعن قال سمعت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام يقول: إن للقائم غيبة قبل أن يقوم. قلت: ولم ذلك جعلت فداك؟ قال: يخاف... وأشار بيده إلى بطنه وعنقه.
وما رواه أيضاً بسنده إلى محمد بن مسلم الثقفي "الطحان" قال دخلت على أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام وأنا أريد أن أسأله عن القائم من آل محمد صلوات الله عليه وآله. فقال لي مبتدئاً: يا محمد بن مسلم أن في القائم من آل محمد شبهاً من خمسة من الرسل... إلى أن قال: وأما شبهه من موسى فدوام خوفه وطول غيبته الخ الحديث.(١٢١)
وقال الشيخ الطوسي قدس سره: مما يقطع على أنه سبب لغيبة الإمام هو خوفه على نفسه من القتل بإخافة الظالمين إياه، ومنعهم إياه من التصرف فيما جعل إليه التدبير والتصرف فيه.(١٢٢)
إذا عرفنا ذلك، أمكن القول أن الغيبة والاحتجاب تدور مدار الخوف، على الدوام. فمتى كان الخوف موجوداً كانت الغيبة سارية المفعول، ومتى ارتفع الخوف، لم يكن ثمة موجب للغيبة.
وارتفاع الخوف أما أن يكون ارتفاعاً كاملاً مطلقاً، عند توفر العدة والعدد للمهدي عليه السلام، فيوجب ارتفاع الغيبة والظهور الكامل حيث يملأ الأرض قسطاً وعدلاً. وأما أن يكون ارتفاعه بالنسبة إلى شخص أو إلى جماعة فيوجب ارتفاع الغيبة عنهم خاصة، ومن هنا يمكن للواحد منهم أن يرى المهدي (عليه السلام) ويعرفه بحقيقته على طول الخط.
وهذا ما يحدث للخاصة من الموثوقين الكاملين الناجحين في التمحيص الإلهي بالمعنى الذي سنسمعه في مستقبل هذا التاريخ. حيث لا يكون هناك احتمال القتل أو الوشاية أو التصريح أو التلميح على كل حال.
وقد يكون ارتفاع الخوف، منحصراً في ساعة من الزمن، فترتفع الغيبة خلال هذه الساعة، وهذا ما يحدث في المقابلات التي سمعناها. ولكن قد يكون ارتفاع الغيبة مشروطاً بعدم اطلاع الرائي على الحقيقة إلا بعد الفراق، كما رأينا في أغلب المقابلات.
ومعه فمن الممكن القول أن أي فرد يبلغ مرتبة الكمال المطلوب في التمحيص الإلهي، فإنه يرى المهدي (عليه السلام) ويعرفه بحقيقته، كما يرى أي شخص آخر. وإن كان هذا مما لا يمكن الاطلاع عليه من قبل الآخرين، لمدى التزام هؤلاء الناس بالكتم المطلق والسرية التامة.
ويمكن الاستدلال في هذا الصدد، بما دل من الروايات بأن المهدي (عليه السلام) في تقية حتى يأذن الله تعالى له بالظهور التام. كالذي أخرجه الشيخ(١٢٣) بسنده عن علي بن إبراهيم بن مهزيار في مقابلته للمهدي (عليه السلام) أنه قال له فيما قال: والله مولاكم أظهر التقية فوكلها بي، فأنا في التقية إلى يوم يؤذن لي، فأخرج، الخبر.
فإن التقية معناها اتقاء الضرر، وهذا إنما يكون فيما إذا كان هناك خوف الضرر أو احتاله، وأما في الأشخاص الموثوقين الكاملين، فلا يوجد هذا الاحتمال، فيرتفع سبب التقية ويكون الاحتجاب بلا موجب.
كما يمكن الاستدلال في هذا الصدد بما دل على أن المهدي (عليه السلام) بعيد خلال غيبته عن دار الظالمين ومجاورة المنحرفين، كالذي ورد في نفس خبر علي بن إبراهيم ابن مهزيار السابق من قول الإمام المهدي (عليه السلام): يا ابن المازيار، أبي أبو محمد عهد إليّ أن لا أجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم ولهم الخزي في الدنيا والآخرة، ولهم عذاب أليم. الخبر.
حيث عرفنا فيما سبق أن مجاورة المنحرفين بالشخصية الثانية لا محذور فيها ولا خطر منها، وإنما تكون المجاورة معهم خطراً، فيما إذا كانوا عارفين بحقيقة المهدي (عليه السلام) مطلعين على صفته الواقعية، لأنهم حينئذ لا محالة يقتلونه على أي حال. إذن، فمن لا يوجد في حقه هذا الاحتمال، لا موجب للبعد عنه وترك مجاورته مع المعرفة بالحقيقة، فإنه إذا ارتفع السبب ارتفع موجبه لا محالة. وذلك لا يكون إلا في الاصة الكاملين في الوثاقة والإيمان.
وهناك أشكال أخرى من الروايات، يمكن الاستدلال بها في هذا الصدد، نعرض عنها توخياً للاختصار.
وإذا تمّ لدينا أن مقتضى القاعدة هو عدم احتجاب المهدي (عليه السلام) عن خاصته، أمكن لنا أن نفهم المستويين الآتيين على هذا الضوء.
المستوى الثاني:
ما دل من أخبار المشاهدة خلال الغيبة الكبرى، على وجود مرافق أو عدد من المرافقين مع المهدي عليه السلام، كالقصة الثامنة والثلاثين(١٢٤) والقصة الثالثة والثمانين،(١٢٥) مما ذكره الحاج النوري في نجمه الثاقب، ورواية اسماعيل بن الحسن الهرقلي(١٢٦) التي دلت على أنه رأى ثلاثة فرسان كان أحدهم المهدي عليه السلام بدلالة أقامها له، وفيها دلالة على أن الفارسين الآخرين كانا يعرفان حقيقته بكل وضوح.
ومن ذلك ما دل على أن بعض الخاصة الموثوقين، كانوا يرون المهدي (عليه السلام) ويعرفونه أينما صادفوه، كالسيد مهدي بحر العلوم، كما يظهر من الحكاية الثالثة والسبعين(١٢٧) من النجم الثاقب، والقصتين اللتين يليانها.
ومن ذلك ما دل على أن المهدي (عليه السلام) يستصحب معه خاصته في أسفاره ويشركهم في أعماله. كالخبر الذي أرويه عن سيدنا الأستاذ آية الله السيد محمد باقر الصدر عن أستاذه وأستاذنا آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي، وهما من أعاظم علماء العصر ومحققيهم أدام الله ظلهما عن أحد المؤمنين يسميه السيد الخوئي ويوثقه ويصفه بأنه من الإيمان والورع على حد عظيم وهو صاحب القصة، وحيث أنها غير موجودة في المصادر فيحسن في هذا الصدد إعطاء نبذة كافية عنها.
كان هذا الرجل في أحد ال أيام عصراً في مسجد الكوفة، وبينما هو يمشي محاذياً لغرفه المنتشرة في حائط سوره، رأى في إيوان كائن إمام أحد الغرف فراشاً مفروشاً وقد استلقى عليه شخص مهيب جليل، وجلس بإزائه رجل آخر. قال: فتعجبت من وجودهما وسألت الرجل الجالس عن هذا المستلقي فأجاب: سيد العالم. قال: فاستهونت بجوابه وحسب أنه يريد كونه سيداً عالماً، لأن العامة هناك ينطقون العالم بفتح الالم.
ثم أن هذا الرجل مضى للوضوء والاشتغال بصلاة المغرب والعشاء والتهجد في محراب أمير المؤمنين عليه السلام، حتى اجهده التعب والنعس، فاستلقى ونام. وحينما استيقظ وجد المسجد مضيئاً يقول: حتى أني أستطيع أن أقرأ الكتابة القرآنية المنقوشة في الطرف الآخر من المسجد. فظننت أن الفجر قد بزغ، بل مضى بعد الفجر زمان غير قليل، وأني تأخرت في النوم زائداً عن المعتاد.
فخرجت إلى الوضوء فوجدت في الدكة التي في وسط المسجد جماعة مقامة للصلاة، يؤمها "سيد العالم" ويأتم به أناس كثيرون بأزياء مختلفة وجنسيات فعجبت من وجود هؤلاء في المسجد على خلاف العادة.
ثم أني أسبغت الوضوء والتحقت بالجماعة، وصليت الصبح معهم ركعتين، وحين انتهت الصلاة، قام ذلك الرجل المشار إليه وتقدم إلى أمام الجماعة: سيد العالم، وسأله عني قائلاً: هل نأخذ هذا الرجل معنا؟ فأجاب سيد العالم: كلا، فإن عليه تمحيصين لا بد أن يمر بهما.
وفجأة، اختفى هذا الجمع، وساد المسجد ظلام الليل، وإذا بالفجر لم يبزغ بعد، بل بقي إليه زمان ليس بالقليل.
وهذه القصة تدلنا على أمور عديدة، يهمنا فعلاً منها أن هؤلاء الخاصة الذين جمعهم المهدي (عليه السلام) من محتلف أنحاء المعمورة، استطاع أن يشركهم في أعماله وأسفاره، بعد أن نجح كل فرد منهم في التمحيص الإلهي نجاحاً كاملاً. وأما صاحبنا راوي القصة، فهو بالرغم من سمو كعبه في التقوى، فإنه لم يبلغ تلك المنزلة الرفيعة، التي بلغها هؤلاء، ومن ثم رفض المهدي (عليه السلام) اشراكه في أعماله، بل لعل الرجل لم يعرف حقيقة الأمر إلا بعد انتهائه.
وهذا مطابق لما قلناه على المستوى الاول، من أن الموثوق الكامل، لا يكون المهدي (عليه السلام) محتجباً عنه، ولا غائباً بالنسبة إليه، وإن كان لا يمكن أن نلم بذلك إلماماً.
المستوى الثالث:
ما دل من الروايات على أن مع المهدي (ص) حال غيبته فرداً أو أكثر، ممن يقوم بخدمته ويؤدي بعض مهماته، ويندرج في ذلك عدة روايات سبق أن سمعنا بعضها: منها: رواية المفضل بن عمر السابقة عن أبي عبدالله (ع) حيث يقول عن المهدي (عليه السلام) فيما يقول: لا يطلع على موضعه أحد من ولد ولا غيره إلا المولى الذي يلي أمره.(١٢٨)
وهذا واضح جداً في وجود خادم له يرعى شؤونه الخاصة، ويعرفه على حقيقته. ويمكننا أن نفهم، انطلاقاً من طروحة خفاء العنوان، أن المهدي (عليه السلام) يعيش بشخصيته الثانية في المجتمع، وبشخصيته الحقيقية مع خادمه. فقوله: لا يطلع على موضعه يراد به موضعه بصفته الحقيقية. ولا بد أن نفترض حتماً إن هذا الخادم من الموثوقين الكاملين، الذين لا يمكن أن يصرحوا بذات نفوسهم مهما كلفهم الأمر.
ومنها: رواية أبي بصير السابقة عن أبي جعفر (ع) قال: لا بد لصاحب هذا الأمر من عزلة ولا بد من عزلته في قوة، وما بثلاثين من وحشة، ونعم المنزل طيبة.(١٢٩)
فإن ظاهرها كون هؤلاء الثلاثين من الخاصة المطلعين على حقيقته. وإن كانت مخالفة لأطروحة خفاء العنوان، من حيث دلالتها على عزلة المهدي (عليه السلام) عن المجتمع، بحيث لولا هؤلاء الثلاثين نفراً لكان ينبغي أن يستوحش من الانفراد. على حين تقول هذه الأطروحة أن المهدي (عليه السلام) يعيش في المجتمع كفرد عادي غير منعزل، ولا موجب للوحشة سواء عرفه البعض أو جهلوه. وليس هذا مهماً، بعد أن استدللنا على هذه الأطروحة بما فيه الكفاية بحيث لا يقوم ضدها مثل هذا الخبر.
هذا هو الكلام في الجهة الثانية من الفصل الرابع. وهي في الحديث عن الأخبار الخاصة الدالة على مشاهدة المهدي (عليه السلام) في غيبته الكبرى.
وبهذا ينتهي هذا الفصل الرابع، من هذا القسم من التاريخ.
الفصل الخامس: في مراسلة المهدي (عليه السلام) للشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد البغدادي قدس سره
فقد تفرد الطبرسي في الاحتجاج بذكر كتابين أرسلهما الإمام المهدي (عليه السلام) إلى الشيخ المفيد، يتضمنان بعض المطالب الصحيحة الواعية، وبعض التنبؤات الرمزية على ما سنذكر.
وينبغي أن نتحدث عن هاتين الرسالتين ضمن عدة نواحٍ:
الناحية الأولى:
فيما ينبغي أن نعامل به هاتين الرسالتين، بحسب القواعد العامة، من حيث سندهما تارة ومن حيث مداليلهما أخرى. ومن هنا يقع الكلام في أمرين:
الأمر الأول:
في سند هاتين الرسالتين.
والملاحظ في هذا الصدد أن الطبرسي ذكرهما بدون سند، ولم نجدهما في المصادر المتأخرة عنه فضلاً عن المتقدمة عليه. فهما روايتان مرسلتان وغير قابلتين للإثبات التاريخي من هذه الناحية.
إلا أن الذي يرجح الأخذ بهما عدة أسباب:
السبب الأول:
إرسال الطبرسي لهما إرسال المسلمات، مما يدل أنه كان معتقداً بصحة سندهما، وربما يكون قد حذفه لمدى شهرته ووضوحه، كما فعل في كثير من روايات كتابه، وإن كانت مصادر هذه الإسناد قد تلفت في العصور المتأخرة عنه. وهذا السبب يعطي ظناً كافياً بصحة السنة، وإن كان لا يبلغ حد الإثبات التاريخي.
السبب الثاني:
تضمن الروايتين، على ما سنسمع لتوجيهات عالية وتنبؤات صادقة. بحيث لو كنا علمنا بها قبل وقوع الحوادث المذكورة فيها، لجزمنا بعدم إمكان صدورها إلا عن المهدي (عليه السلام).
السبب الثالث:
إن المصلحة العامة تقتضي صدور هذه الرسائل، في أول زمان الغيبة الكبرى، وذلك لإحراز مصلحتين:
المصلحة الأولى:
إعطاء المهدي (عليه السلام) لقواعده الشعبية القواعد العامة والمفاهيم الأساسية التي ينبغي أن يعرفها الناس وتكون سارية المفعول خلال عصر الغيبة الكبرى. بحيث لولاها لكان من المحتمل أن يُساء التصرف في الدين، وينغلق باب الوصول إلى الأهداف المطلوبة في الإسلام.
ومن الطبيعي أن يكون إبلاغ هذه القواعد والمفاهيم، موقوتاً في أول الغيبة الكبرى، لئلا يمر زمان كبير والناس غافلون عن مثل هذه التوجيهات.
المصلحة الثانية:
إعطاء المهدي (عليه السلام) القيادة الرئيسية من الناحية الإسلامية بيد العلماء الصالحين، بعد أن انسحب هو منها من الناحية العملية، وانتهى السفراء الخاصون أيضاً. فكان أهم العلماء الصالحين في ذلك العصر، هو الشيخ المفيد، ومن هنا وجّه الرسالة إليه، ليكون هو – بصفته عالماً صالحاً – المنطلق الأول لانتشار التعاليم العليا والتوجيهات الرئيسية.
وهذا خط كان قد بدأه الإمام العسكري (ع) حين أرسل لابن بابويه رسالة يعبر عنه بقوله: يا شيخي يا أبا الحسن. كما سبق أن سمعنا في تاريخ الغيبة الصغرى.(١٣٠)
وحيث نعلم أن الأسلوب الطبيعي لإيجاد هاتين المصلحتين، منحصر بطريق المراسلة، كما كان عليه الحال خلال الغيبة الصغرى، يكون الظن عندئذ بصدور الظن أن هاتين الروايتين يصلحان للإثبات التاريخي، بالرغم من الإرسال الذي يتصفان به.
الأمر الثاني: في مداليل هاتين الرسالتين:
ينقسم مدلولهما – بشكل رئيسي – إلى قسمين:
القسم الأول:
التوجيهات العامة التي يذكرها الإمام لقواعده الشعبية، وكلها صحيحة ومتينة، ما عدا أمور قليلة لا تخلو من المناقشة، على ما سوف نشير. ولا يضرنا ذلك حتى لو أنكرنا صحة هذه الأمور، فإن إنكار البعض لا يقتضي إنكار الكل، كما سبق أن أكدنا عليه.
القسم الثاني:
التنبؤات بوقوع حوادث قريبة أو بعيدة بالنسبة إلى زمن صدور الرسالة. ويغلب على عبارات هذه التنبؤات، شكل الرمزية والغموض والكلية في المدلول، بحيث يصعب تشخيصها علينا، ونحن بهذا البعد الكبير، وما لم نجده فالواقع الذي نحسه هو أن من قرأه في ذلك الزمن فهمه حق فهمه، وخاصة وهو يعيش الحوادث، التي أشار إليها المهدي في كتابه.
والرسالتان، كما عرفنا، غير خاصة بالشيخ المفيد، وإن كان هو المرسل إليه، وإنما هي عامة لكل الخواص من المؤمنين بالمهدي (عليه السلام). ومعه لا تكون الحوادث المذكورة في الخطاب خاصة بالسنين التي عاشها الشيخ المفيد، بل لعل عدداً من الحوادث كانت سوف تحصل بعد وفاته، وبذلك ينفتح لنا مجال واسع للتعيين التاريخي للحوادث.
الناحية الثانية:
في بيان تاريخ صدور هذين الخطابين من حيث الزمان والمكان، ونحو ذلك.
أما الرسالة الأولى فقد وصلت في أخواخر شهر صفر عام ٤١٠، أي قبل ثلاثة أعوام تقريباً من وفاة المرسل إليه الشيخ المفيد الذي توفي عام ٤١٣.(١٣١)
والرسالة الأخرى مؤرخة في عام ٤١٢ أي قبل وفاته بعام واحد. ويكون قد مر ما يزيد على الثمانين عاماً بقليل على وفاة الشيخ علي بن محمد السمري، السفير الرابع.. أي على انتهاء الغيبة الصغرى وبدء الغيبة الكبرى عام ٣٢٦.(١٣٢)
وذكر موصل الكتاب الأول: أنه يحمله من ناحية متصلة بالحجاز.(١٣٣) فنعرف من ذلك أن المهدي (عليه السلام) كان في ذلك الحين في نواحي الحجاز، وقد أرسل هذه الرسالة من هناك بيد بعض خاصته.
والرسالة الثانية مؤرخة في غرة شوال(١٣٤) من العام المشار إليه. وقد وصلت يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجة في نفس العام(٥) أي أنها بقيت في الطريق، إلى المرسل إليه ثلاثة أشهر إلا سبعة أيام.
وكلا الخطابين مكتوبان بإملاء المهدي (عليه السلام) وخط غيره من بعض ثقاته، كما يظهر من الرسالة الأولى، وتنص عليه الرسالة الثانية. ولكنهما معاً مذيلان بأسطر قليلة بخط الإمام نفسه، يشهد فيها بصحة هذا الكتاب، ويأمر الشيخ المفيد بإخفاء الرسالة تاماً عن كل أحد. ولكن عليه أن يكتب عنها نسخة ليطلع عليها الموثوقين من أصحابه أو يبلغه لهم شفاها ليعملوا بما فيه.
الناحية الثانية:
في بيان نبذة عن الظروف التاريخية التي صدر في غضونها هذان الخطابان. بحسب ما دلنا عليه التاريخ الإسلامي العام. فإن ذلك مما سنحتاجه لدى الخوض في تفسير ما ذكره الخطاب من التنبؤات.
ويمكن تلخيص الكلام في هذه الظروف التاريخية في عدة نقاط:
النقطة الأولى:
كانت البلاد الإسلامية في ذلك الحين تعاني التفكك والتفسخ المؤسف، في أواخر عهد البويهيين في بلاد فارس، ورجوع أمرهم إلى القتال بين أمرائهم وقوادهم، وبينهم وبين الأتراك الحاكمين لخراسان وما وراء النهر، بعد الدولة السامانية.
وكان أمر الأندلس قد آل إلى التفرق والانحلال عام ٤٠٧.(١٣٥) وأما مصر فقد استقل بها العلويون "الفاطميون" أولاد المهدوي الإفريقي. وكان أن توفي الحاكم بأمر الله عام ٤١١ وولي بعده ابنه الظاهر.(١٣٦) وتكاد مصر أن تكون أكثر البلاد استقراراً بأيديهم.
وأما الشمال الإفريقي، فقد آل إلى التفرق وتنابذ الأمراء بعد أن غادره المعز لدين الله إلى مصر عام ٣٤١(١٣٧) حيث أسس الدولة الفاطمية فيها. وكان في الشمال الإفريقي حرب عام ٤٠٦، تكشفت عن فوز أميرها باديس، وخلفه بعده موته في نفس العام ابنه المعز(١٣٨) حتى مات عام ٤١٣.(١٣٩)
وأما بغداد، فلا زالت منذ عام ٣٨١ بيد القادر بالله العباسي. وكان قد رأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في المنام قبل خلافته، وهو يقول له: هذا الأمر صائر إليك، ويطول عمرك فيه، فأحسن إلى ولدي وشيعتي.(١٤٠)
وكانت نقابة العلويين هناك قد صارت إلى الشريف المرتضى علم الهدى، بعد وفاة نقيبها محمد بن الحسين الشري الرضي عام ٤٠٦.(١٤١)
حتى مكة لم تنج من الاغتشاش، ففي عام ٤١٤ في النفر الأول يوم الجمعة، قام رجل من مصر بإحدى يديه سيف مسلول وفي الأخرى دبوس وضرب الحجر الأسود ثلاث ضربات بالدبوس. وقال: إلى متى يعبد الحجر الأسود ومحمد وعلي، فليمنعني مانع من هذا، فإني أريد أن أهدم البيت. فخاف أكثر الحاضرين وتراجعوا عنه، وكاد يفلت.فثار به رجل فضربه بخنجر فقتله وقطعه الناس واحرقوه. وقتل ممـن اتهم بمصاحبته جماعة واحـرقوا.(١٤٢)
ولم تنج بغداد من اختلاط الأمور، عام ٤١٦ بيد السراق والعيارين(١٤٣) وعام ٤١٧ بيد الأتراك حتى أحرقوا المنازل والدروب.(١٤٤)
النقطة الثانية:
كان أثر هذه الفتن سارياً إلى الحج نفسه، فقد كان يعاني الحجاج صعوبات جمة، إلى حد قد ينقطع الحج بالكلية، كما حدث عام ٤٠١(١٤٥) وعامي ٤١٠ و٤١١(١٤٦) وعام ٤١٦(١٤٧) وعام ٤١٧(١٤٨) وعام ٤١٨(١٤٩) على التوالي.
وكانت هناك سعايات حسنة عام ٤١٢ لأجل سلامة الحجاج(١٥٠) من قبل صاحب خراسان محمد بن سبستكين الملقب بيمين الدولة.
النقطة الثالثة:
أنه كانت تقع حوادث مؤسفة بين أهل الإسلام من المذاهب المختلفة.
والسبب الرئيسي في ذلك: هو أن الحكم كان محسوباً على الشيعة منذ تأسيس الدولة البويهية في فارس والعراق والدولة الحمدانية في حلب. وكان البويهيون هم المسيطرون على استخلاف الخليفة واستيزار الوزير. وكانوا يعطون لأهل مذهبهم الحرية الكاملة في إقامة شعائرهم والقيام بأعيادهم ومآتمهم. وكان هذا يحدث أثراً سيئاً لدى ذوي المذاهب الإسلامية الأخرى، ولم يكن لديهم حكم مباشر ليتوقعوا من الحاكمين أن يحولوا دون هذه المظاهر.
فكان الشعب نفسه هو الذي يحاول أن يحول دون ذلك، وخاصة حين يجد من الشيعة اندفاعاً طائفياً مؤسفاً، اغتناماً لفرصة الحرية المعطاة لهم. فكانت أيام المناسبات العامة تشهد حرباً عامة بين أهل الإسلام. ولعمري لو كان كال فريق منهم يشعر بمسؤوليته الإسلامية وإخوته الدينية، لما عمل ما عمل، ولما صدر منه ما صدر، ولله في خلقه شؤون.
ولم يكن أهل المذاهب الأخرى، ليجدوا الفرصة المواتية، حال قوة الدولة البويهية وجبروتها. وإنما انفسح لهم المجال بشكل واضح في الفترة التي نؤرخ لها، باعتبار ما آل إليه أمر البويهيين من التفرق والانحلال.
ولسنا نريد أن نطيل في وصف الحوادث. وحسبنا أن نعرف، أنه قد حدث في بغداد في يوم عاشوراء عام ٤٠٦ حوادث مؤسفة،(١٥١) وفي العام الذي يليه في واسط(١٥٢) وفي شمال إفريقيا حيث قتلت جميع الشيعة، كما ذكر التاريخ.(١٥٣)
وكذلك في بغداد في عام ٤٠٨ أيضاً(١٥٤) واشتد عام ٤٠٩ وحتى أدى إلى نفي أبي عبدالله النعمان الشيخ المفيد من بغداد.(١٥٥) وتكرر مثل ذلك في الكوفة عام ٤١٥(١٥٦) وفي بغداد أيضاً عام ٤٢٢.(١٥٧)
النقطة الرابعة:
كانت الطبيعة أيضاً تشارك في الحوادث، وكأنها تظهر الأسف على الظلم الساري على الأرض.
ففي عام ٤٠١ انقض كوكب كبير لم ير أكبر منه. وفيها زادت دجلة إحدى وعشرين ذراعاً، وغرق كثير من بغداد والعراق.(١٥٨)
وفي عام ٤٠٦ وقع بالبصرة وما جاورها وباء شديد، حتى عجز الحفارون عن حفر القبور(١٥٩) وفيها نزل في حزيران مطر شديد في بلاد العراق وكثير من البلاد.(١٦٠)
وفي رمضان من عام ٤١٧ انقض كوكب عظيم استنارت له الأرض، فسمع له دوي عظيم.(١٦١)
وفي العام الذي يليه سقط في العراق جميعه بَرَد يكون في الواحدة رطل أو رطلان، وأصغره كالبيضة، فأهلك الغلات، ولم يسلم منها إلا القليل.(١٦٢)
وفي نفس العام في آخر تشرين الثاني، هبت ريخ باردة في العراق جمد منها الماء والخل وبطل دوران الدواليب في جدة.(١٦٣)
وفي عام ٤٢١ سقط في البلاد بَرَد عظيم، وكان أكثر في العراق فقلعت شجراً كباراً من الزيتون من شرقي النهروان وألقته على بعد من غربيها. وقلعت نخلة من أصلها وحملتها إلى دار بينها وبين موضع هذه الشجرة ثلاث دور، وقلعت سقف المسجد الجامع ببعض القرى.(١٦٤)
الناحية الرابعة:
في استعراض نص الرسالة الأولى:
"للأخ السديد والولي الرشيد الشيخ المفيد أبي عبدالله محمد بن محمد بن النعمان، أدام الله أعزازه، من مستودع العهد المأخوذ على العباد.
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد، سلام عليك أيها الولي المخلص في الدين، المخصوص فينا باليقين.فأنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ونسأل الصلاة على سيدنا ومولانا ونبينا محمد وآله الطاهرين.
ونُعلمك – أدام الله توفيقك لنصرة الحق، وأجزل مثوبتك على نطقك عنا بالصدق -: أنه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة وتكليفك ما تؤديه عنا إلى موالينا قِبَلَك، أعزهم الله بطاعته، وكفاهم المهم برعايته لهم وحراسته. فقف – أيدك الله بعونه على أعدائه المارقين من دينه – على ما أذكره وأعمل على تأديته إلى من تسكن إليه بما نرسمه إن شاء الله.
نحن وإن كنا ناوين(١٦٥) بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين، حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك، ما دامت دولة الدنيا للفاسقين. فأنا نحيط علماً بأنبائكم ولا يعزب عنا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون.
أنا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم الأواء، وأصطلمكم الأعداء. فاتقوا الله جل جلاله، وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم، يهلك فيها من حم أجله ويحمى عنها من أدرك أمله. وهي إمارة لأزوف حركتنا ومبّاثتكم بأمرنا ونهينا. والله متم نوره ولو كره المشكرون.
اعتصموا بالتقية، من شب نار الجاهلية، يحششها عصب أموية، يهول بها فرقة مهدية. أنا زعيم بنجاة من لم يرم فيها المواطن وسلك في الطعن منها السبل المرضية.
إذا حل جمادي الأولى من سنتكم هذه، فاعتبروا بما يحدث فيه، واستيقظوا من رقدتكم لما يكون في الذي يليه.
ستظهر لكم في السماء آية جلية، ومن الأرض مثلها بالسوية. ويحدث في أرض المشرق ما يحزن ويقلق. ويغلب من بعد على العراق طوائف عن الإسلام مرّاق، تضيق بسوء فعالهم على أهله الأرزاق. ثم تنفرج الغمة من بعد ببوار طاغوت من الأشرار، ثم يستر بهلاكه المتقون الأخيار.
ويتفق لمريدي الحج من الآفاق ما يأملونه منه على توفير عليه منهم واتفاق. ولنا في تيسير حجهم على الاختيار منهم والوفاق، شأن يظهر على نظام واتساق.
فليعمل كل أمرءٍ منكم بما يقربه من محبتنا، ويتجنب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا، فإن أمرنا بغتة فجأة، حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابه ندم على حوبة.
والله يلهمكم الرشد، وبلطف لكم في التوفيق برحمته.
وبعده يلي توقيع الإمام المهدي (عليه السلام) في ذيل الكتاب، كما أشرنا إليه في الجهة الثانية من هذا الفصل.(١٦٦)
الناحية الخامسة:
في شرح المفاهيم والتنبؤات الرئيسية التي وردت في هذا الخطاب. ويمكن إعطاء تفاصيل ذلك، ضمن عدة نقاط:
النقطة الأولى:
قوله (ع): قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة.
فإن المهدي (عليه السلام) لا يقوم بالعمل إلا بإدن الله تعالى، وحيث صدر الإذن بإرسال هذا الكتاب، فقد تصدى المهدي لإرساله.
ولفهم هذا الإذن أطروحتان:
الأولى: صدور الإذن المباشر من قبل الله عز وجل في كل واقعة واقعة. ذلك الإذن المستفاد بالإلهام ونحوه من مراتب العلوم التي يختص بها الإمام المعصوم (ع) كما دلت عليه بعض الأخبار.
الثانية: الإذن الإلهي المستفاد من بعض القواعد العامة التي يعرفها المهدي عليه السلام، ويستطيع تطبيقها في كل مورد. تلك القواعد التي نعبر عنها باقتضاء المصلحة الإسلامية لشيء من الأشياء. فإذا أحرز المهدي (عليه السلام)، وجود المصلحة في المراسلة مثلاً، فقد أحرز وجود الإذن الإلهي بالعمل على طبق تلك المصلحة. ومعه يكون سبب الإذن، هو وجود المصلحة ليس إلا، من دون إذن مباشر، كما قالت الأطروحة الأولى.
وترجيح إحدى الأطروحتين على الأخرى موكول إلى القارئ.
النقطة الثانية:
قوله عليه السلام: أعزهم الله بطاعته.
وهو تنبيه إلى استلزام الخروج عن طاعة الله تعالى للذل والصغار، واستلزام الالتزام بها للعز والشرف. فيجب الخروج من ذل معصية الله والدخول في عز طاعة الله تعالى.
وذلك واضح جداً بحسب مفاهيم الإسلام، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. والخضوع لله تعالى هو الخضوع للحق من ناحية، وخضوع مجانس لما خضع له الكون كله وهو القدرة الأزلية والحكمة اللانهائية، وكلا الأمرين عدل وحق ن بمنطق العقل الصحيح.
على أن الخضوع لله عز وجل، بمعنى الالتزام بأوامره ونواهيه وقصر السلوك عليها، يغني الفرد عن اتباع سائر مصادر التشريع البشرية المنحرفة التي على الانزلاق إلى مهاوي الباطل، وعلى رأسها المصالح الشخصية والقوانين الوضعية... فيكون الفرد متعالياً عنها عزيزاً منيعاً من جهتها.
على حين أن البعد عن الالتزام بتعاليم الله العادلة، يستلزم – لا محالة – وجود فراغ في السلوك، يملؤه الفرد بأساليب الانحراف، فيكون خاضعاً لمقتضياته، وذليلاً أمامها. وهو معنى ذلة معصية الله عز وجل.
وهناك أكثر من معنى آخر، لمعنى العزة في طاعة الله عز وجل، لا حاجة إلى الإطالة، بسبب بيانه.
وعلى أي حال، فهذا هو المراد بقوله: أعزهم الله بطاعته. وبقوله: ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم منذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون.
فإن السلف الصالح كان عزيزاً بطاعة الله تعالى والالتزام بتعاليمه، وكان شاسعاً – أي بعيداً – عن معصية الله عز وجل. وكان ملتزماً بالعهد الذي قطعوة أمام ربهم بالطاعة، بصفتهم مسلمين إليه عارفين بأهمية تعاليمه.
فلما اتجه الخلف إلى ما كان السلف مبتعداً عنه، وهو المعصية ومخالفة التعاليم الإسلامية، أصبحوا أذلاء أمام مقتضيات الانحراف والمصالح الخاصة، وبالتالي أمام أعداء الحق والإسلام. فأصبحوا مقصرين تجاه دينهم وعهد ربهم وأمتهم وأنفسهم.
ومن هنا نشعر – من وراء التعبير – بالمرارة والأسف الذي يعتلج في نفس الإمام المهدي (عليه السلام) من هذا الانحراف.
النقطة الثالثة:
قوله: نحن وإن كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين، حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك، ما دامت دولة الدنيا للفاسقين.
وهذا البعد عن مساكن الظالمين، لا ينافي أياً من الأطروحتين الرئيسيتين، وكأن في هذا امتثالاً للأمر الذي ذكره المهدي لعلي بن مهزيار عن والده عليه السلام في أنه يسكن أقاصي الأرض وقفارها. وهو في ذلك المكان النائي يمكن أن يكون مختفي الشخص طبقاً لأطروحة خفاء الشخص، أو ظاهر الشخص، طبقاً لأطروحة خفاء العنوان.
وإذا كان مناسباً مع كلا الأطروحتين لم يكن نافياً لأي منهما، ولا معيناً لإحداهما. وإن كان لا يخلو – على كلا الأطروحتين – من بعض المناقشات، التي لا مجال للدخول في تفاصيلها.
وهذا الصلاح الذي يشير إليه في هذه العبارة، يمت في الحقيقة إلى أصل الغيبة بصلة، لا إلى مجرد النأي في المكان، وإنما أخذ ذلك في السياق استطراقاً إلى الإشارة إلى مفهوم الغيبة نفسه. ومعه فالصلاح الذي رآه الله تعالى للمهدي وللمؤمنين به، إنما هو في الغيبة نفسها. وهذا ما سيأتي تفصيله في القسم الثاني من هذا التاريخ.
النقطة الرابعة:
بيانه عليه السلام أنه يعيش على مستوى الأحداث، يحيط علماً بكل الأنباء وتصله جميع الأخبار. حين قال: فأنا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم.
وهناك لإمكان اطلاعه على الأخبار، عدة أطروحات:
الأطروحة الأولى:
أنه عليه السلام يعلم بالأخبار ويطلع على أفعال الناس، عن طريق الإلهام الإلهي، أو الطريق الإعجازي الميتافيزيقي. ويؤيد ذلك ما دل على أن أعمال البشر أجمعين برها وفاجرها تعرض على الإمام في كل يوم وليلة، ليرى فيها رأيه. وهو قوله تعالى: (فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)، وهم الأئمة عليهم السلام، على ما نطقت به هذه الروايات.(١٦٧)
ويمكن أن يؤيد ذلك بمفهوم اجتماعي إسلامي، وحاصله: ضرورة كون الإمام مؤيداً بالإلهام، وذلك انطلاقاً من ثلاث مقدمات:
المقدمة الأولى:
إن الله تعالى حين ينيط مهمة معينة بشخص، لا بد أن يجعل فيه القابلية الشخصية لتنفيذها والقيام بمتطلباتها. ومن الواضح عدم إمكان إيكال المهمة إلى شخص قاصر عنها أو عاجز عن تنفيذها.
المقدمة الثانية:
إن الله تعالى أوكل إلى النبي (ص) أولاً وإلى خلفائه المعصومين ثانياً، قيادة العالم، بحيث لو سمنحت الظروف لأي واحد منهم أن يقوم بالفتح العالمي الكامل لوجب عليه ذلك، ولباشر القيادة العالمية بنفسه.
إذن، فكل واحد من المعصومين قائد عالمي معد – من الناحية النظرية على الأقل – للقيام بمهمته الكبرى. ومعه لا بد – طبقاً للمقدمة الأولى – أن يكون لكل واحد منهم القابليات الكافية للقيادة العالمية، والقيام بمثل هذه المهمة العظيمة.
المقدمة الثالثة:
إن القيادة العالمية تتوقف عن الإلهام، لا محالة. فإن قيادة العالم شيء في غاية الدقة والعمق والتعقيد. ونحن نرى أن الدول لا زالت تحكم جزءاً من العالم بهيئات كبيرة وأفراد كثيرة، وتنظيمات دقيقة وقوانين صارمة، ومع ذلك فهي كثيرة الفشل في أعمالها وأقوالها. فكيف من يحاول قيادة العالم بمجموعه، بحيث ترجع المقاليد العامة للحكم إلى شخصه فقط، من الناحية الفكرية والعملية معاً.
ومعه، فهذه المهمة لا يمكن تنفيذها، إلا بوجود الإلهام للقائد العالمي. وحيث أن المهدي (عليه السلام) هو أحد الأئمة المعصومين، طبقاً للمذهب الإمامي، وقد ثبت بالضرورة كونه هو القائد العالمي في يوم العدل الموعود طبقاً لضرورة الدين الإسلامي، بل كل الأديان السماوية... إذن فيتعين كونه مؤيداً بالإلهام من قبل الله عز وجل. وإذا كان مؤيداً بالإلهام من قبل الله عز وجل. وإذا كان مؤيداً بالإلهام، فلا غرابة من اطلاعه على أعمال العباد وكونه على مستوى الأحداث.
وهذه الأطروحة، منسجمة مع كلتا الأطروحتين الرئيسيتين السابقتين.
الأطروحة الثانية:
أننا إذا غضضنا النظر عن الأطروحة الأولى، وقلنا أن الإمام مؤهل طبيعياً لقيادة العالم من دون أي عنصر ميتافيزيقي. وكنا ملتزمين – كما هو الحق – بالأطروحة الرئيسية الثانية: أطروحة خفاء العنوان...
إذن يثبت أن المهدي (عليه السلام) يعيش في المجتمع بشخصيته الثانية، يتصل بالناس ويتكلم معهم ويفحص عن أخبارهم. من دون أن يخطر في بال أحد أنه هو المهدي المنتظر (ع). بل قد يستطيع أن يخطط لاستقصاء تفاصيل الأخبار من سائر بلدان العالم وزواياه!
الأطروحة الثالثة:
إذا غضضنا النظر عما في الأطروحة الأولى من ثبوت الإلهام للإمام، وعما في الأطروحة الثانية من معيشته وسكناه في صميم المجتمع. وأخذنا بما دل عليه هذا الخطاب،ودلت عليه رواية ابن مهزيار، من بُعد المهدي (عليه السلام)، عن المجتمعات، وانفراده في السكنى بعيداً عن الناس.
إذن، فمن الممكن للمهدي (عليه السلام) أن يعرف أخبار الناس عن طريق خاصته الذين يرونه ويعرفونه، وهم في كل جيل، ثلاثون أو أكثر، فيخطط عن طريقهم للاطلاع على أخبار أي مجتمع في العالم شاء.
وهذه الأطروحة تناسب مع كلا الأطروحتين الرئيسيتين. أما مناسبتها مع أطروحة خفاء العنوان فواضحة، إذ يفترض – بعد كل ما سلف – أن المهدي (عليه السلام) ظاهر بالشخص ولكنه غير معروف الحقيقة، وهو منعزل عن المجتمعات والجماعات، لا يعرفه ولا يتصل به إلا خاصته. ومعه فيمكن للمهدي (عليه السلام) الحصول على الأخبار عن طريق هؤلاء الخاصة، أو عن طريق وروده المجتمعات.
أحياناً بدون أن يكون ملفتاً للنظر أو مثيراً للانتباه، ليستطلع من الأخبار ما يشاء أو يحادث من يريد كما يريد، ثم يرجع إلى مسكنه متى أراد.
وأما مناسبة هذه الأطروحة، مع أطروحة خفاء الشخص، فلعدم اختفائه الشخصي عن خاصته، وإن كان مختفياً عن سائر الناس. ومن الواضح أن خاصته غير مختفين عن الناس، فيكونون هم همزة الوصل بين الناس وبينه، في نقل أخبارهم إليه، ونقل أخباره إليهم إذا لزم الأمر.
وعلى أي حال، فكل واحدة من هذه الأطروحات الثلاث، تبرهن إمكان أن يكون المهدي (عليه السلام) حال غيبته على مستوى الأحداث الاجتماعية ومواكبتها خبراً خبراً. وللقارئ أن يختار أياً من هذه الأطروحات شاء، وإن كنت أعتقد بصعوبة التصديق بالأطروحة الثالثة باستقلالها، لابتنائها على تنازلات غير صحيحة، وغض النظر عن أمور واقعية.
النقطة الخامسة:
إن المهدي عليه السلام، لمدى لطفه بنا، وشعوره بالمسؤولية تجاهنا، هو غير مهمل لمراعاتنا ولا ناس لذكرنا، ولولا ذلك لنزل بناء الأواء – وهو الشر – واطلمنا الأعداء، أي استأصلونا وأبادونا. فجزاه الله عنا خير جزاء المحسنين.
فمن هنا يظهر بوضوح، ما للمهدي عليه السلام من تأثير كبير في صلاح حال قواعده الشعبية وراحتهم وأمانهم، بالمقدار الممكن له في غيبته. بل أنهم لمدينون له بالحياة، إذ لولا أياديه الفاضلة ومساعيه الكاملة، لما بقي لقواعده الشعبية وجود، ولأبيدوا عن آخرهم تحت ضربات الأعداء المهاجمين، وما أكثرهم في كل جيل.
وهذا التأثير من قبل المهدي (عليه السلام) يعتبر من أهم مسؤولياته الإسلامية حال غيبته، كما عرفنا.
وهذا التأثير يكون واضحاً جداً بناء على الأخذ بأطروحة خفاء العنوان، سواء قلنا بأن المهدي (عليه السلام) يعيش في المجتمعات أو قلنا أنه يعيش خارجاً عنها... إذ على أي حال يستطيع القيام بالعمل المناسب عند الحاجة، أما بنفسه أو بواسطة خاصته، بالشكل الذي يستطيع به أن يحول بين الشر وبين وقوعه.
أحياناً بدون أن يكون ملفتاً للنظر أو مثيراً للانتباه، ليستطلع من الأخبار ما يشاء أو يحادث من يريد كما يريد، ثم يرجع إلى مسكنه متى أراد.
وأما مناسبة هذه الأطروحة، مع أطروحة خفاء الشخص، فلعدم اختفائه الشخصي عن خاصته، وإن كان مختفياً عن سائر الناس. ومن الواضح أن خاصته غير مختفين عن الناس، فيكونون هم همزة الوصل بين الناس وبينه، في نقل أخبارهم إليه، ونقل أخباره إليهم إذا لزم الأمر.
وعلى أي حال، فكل واحدة من هذه الأطروحات الثلاث، تبرهن إمكان أن يكون المهدي (عليه السلام) حال غيبته على مستوى الأحداث الاجتماعية ومواكبتها خبراً خبراً. وللقارئ أن يختار أياً من هذه الأطروحات شاء، وإن كنت أعتقد بصعوبة التصديق بالأطروحة الثالثة باستقلالها، لابتنائها على تنازلات غير صحيحة، وغض النظر عن أمور واقعية.
النقطة الخامسة:
إن المهدي عليه السلام، لمدى لطفه بنا، وشعوره بالمسؤولية تجاهنا، هو غير مهمل لمراعاتنا ولا ناس لذكرنا، ولولا ذلك لنزل بناء الأواء – وهو الشر – واطلمنا الأعداء، أي استأصلونا وأبادونا. فجزاه الله عنا خير جزاء المحسنين.
فمن هنا يظهر بوضوح، ما للمهدي عليه السلام من تأثير كبير في صلاح حال قواعده الشعبية وراحتهم وأمانهم، بالمقدار الممكن له في غيبته. بل أنهم لمدينون له بالحياة، إذ لولا أياديه الفاضلة ومساعيه الكاملة، لما بقي لقواعده الشعبية وجود، ولأبيدوا عن آخرهم تحت ضربات الأعداء المهاجمين، وما أكثرهم في كل جيل.
وهذا التأثير من قبل المهدي (عليه السلام) يعتبر من أهم مسؤولياته الإسلامية حال غيبته، كما عرفنا.
وهذا التأثير يكون واضحاً جداً بناء على الأخذ بأطروحة خفاء العنوان، سواء قلنا بأن المهدي (عليه السلام) يعيش في المجتمعات أو قلنا أنه يعيش خارجاً عنها... إذ على أي حال يستطيع القيام بالعمل المناسب عند الحاجة، أما بنفسه أو بواسطة خاصته، بالشكل الذي يستطيع به أن يحول بين الشر وبين وقوعه.
وأما لو أخذنا بأطروحة خفاء الشخص، فيكون تأثيره في خير المجتمع المسلم – مع غض النظر عن الافتراضات الفلسفية أو العرفانية – محتاجاً إلى تفسير لمنافاة خفاء الشخص مع الاختلاط بين الناس، كما هو واضح. ويمكن الانطلاق إلى ذلك من أحد طرق:
الطريق الأول:
الدعاء. فإن الدعاء المستجاب عمل اجتماعي صحيح، كما سبق أن عرفنا.
الطريق الثاني:
العمل بواسطة خاصته الذين يرونه ويعرفونه، ويراهم الناس ويعرفونهم، وإن جهلوا حقيقة وساطتهم للمهدي (عليه السلام).
الطريق الثالث:
عمله شخصياً بين الناس، مع افتراض ارتفاع خفاء الشخص عند الحاجة إلى العمل. فيعود خفي العنوان، إلى حين انتفاء العمل.
النقطة السادسة:
قوله: فاتقوا الله جل جلاله، وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم، يهلك فيها من حم أجله ويحمى عنها من أدرك أمله أمرهم بتقوى الله سبحانه، ومظاهرته – أي المهدي نفسه – بمعنى معاونته على انتياشهم أي إخراجهم وإنقاذهم من فتنة قد أنافت أي أشرفت عليهم. يهلك فيها من حم أجله، يعني حل قوت موته، ويحمي فيها من أدرك أمله، وهو البقاء في الحياة.
وليست هذه الفتنة التي توجب الهلاك، إلا ما كان يقع من حوادث دامية مؤسفة بين أهل المذاهب الإسلامية.
وإن من أهم المهام التي يستهدفها المهدي (عليه السلام) الحيلولة دون وقوع هذا الشر ودفع هذا العداء، ولذا نسمعه يأمر قواعده الشعبية بأن يعينوه في إنجاز عمله وإيصاله إلى نتيجته وأخذهم بزمام المبادرة إلى القيام بما توجبه عليهم مسؤوليتهم من سلوك وما تقتضيه التعاليم من أعمال، حتى ينجوا من الهلكة ومن الدخول في هذه الفتنة.
النقطة السابعة:
قوله: اعتصموا بالتقية. من شب نار الجاهلية، يحششها عصب أموية، يهول بها فرقة مهدية.(١٦٨)
وهذا هو المنهج الذي يخطط المهدي (عليه السلام) للتخلص من هذه الفتنة، وهو مكون من فقرتين:
الفقرة الأولى:
الالتزام بالتقية، بمعنى الاحتياط للأمر واتقاء وقوع الفتن والشر. ومن أهم أساليبه عدم مجابهة أهل المذاهب الإسلامية الأخرى بما يغيضهم ويثير حفيظتهم، حرصاً على جمع كلمة المسلمين، وسيادة الأمن في ربوع مجتمعهم.
وليس الأمر بالتقية جديداً أو مستحدثاً منه عليه السلام، بعد أن كان قد ورد عن آبائه المعصومين عليهم السلام التأكيد عليه. كقولهم (ع): التقية ديني ودين آبائي... ومن لا تقية له لا دين له... وغير ذلك.(١٦٩) فمخالفة هذا الأمر بشكل يوجب الضرر، مع عدم وجود مصلحة إسلامية مهمة في إحداثه، يعتبر من أشد المحرمات في الإسلام.
ومن ثم نرى المهدي (عليه السلام) يعبر عن هذه الفتن بنار الجاهلية، بمعنى أنها تمثل انحرافاً أساسياً عن الإسلام. ويكون من يثيرها من قواعده الشعبية، مساعداً على هلاك إخوانه المؤمنين.
الفقرة الثانية:
الالتزام بالهدوء، والخلود إلى السكينة وضبط الأعصاب، وعدم التعرض المباشر إلى القلاقل الحادثة. طبقاً لقوله تعال
ى: (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً).(١٧٠)
ولذا نراه يقول: أنا زعيم – أي كفيل وضامن – بنجاة من لم يرم فيها المواطن، يعنى مواطن الهلاك، وتجنب الاشتراك الفعلي في القلاقل. وسلك في الطعن منها، يعنى الفتن، والاحتجاج على وقوعها، السبل المرضية في الإسلام بالاعتراض الهادئ وإبداء الرأي الموضوعي الصحيح.
ومن هاتين الفقرتين، نفهم رأي الإمام عليه السلام، في هذه الفتن، ومرارته وأسفه منها، واعتراضه على مسببيها من أهل الإسلام، بما فيهم بعض قواعده الشعبية.
النقطة الثامنة:
قوله عن هذه الفتن: وهي إمارة لأزوف حركتنا، ومبائتكم بأمرنا ونهينا. والله متم نوره ولو كره المشركون.
ولا نستطيع أن نفهم من ذلك، بطبيعة الحال، أنه عليه السلام سوف يظهر بعد هذه الفتن فيملاً الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً. لأن ذلك لم يحدث، فلا يمكن أن يكون الإعراب عن حدوثه مقصوداً للمهدي (عليه السلام). على أن مقتضى القواعد العامة التي عرفناها، عدم إمكان الظهور في ذلك العصر لعدم توفر شرائطه ومن أهمها كون الأمة على مستوى التضحية الحقيقية في سبيل الإسلام وقيادة العالم كله بالعدل الكامل... وهو ما لم يكن متوفراً يومئذ بكل وضوح. وسيأتي في القسم الثاني من هذا التاريخ مزيد توضيح لذلك.
ومن هنا احتاجت هذه العبارة من الرسالة إلى تفسير.
وما يمكن أن يكون فهماً كافياً لها، طبقاً لأطروحة خفاء العنوان، أحد تفسيرين:
التفسير الأول:
أن يكون المراد من الحركة، انتقاله من العزلة إلى المجتمعات، ومن البراري والجبال إلى المدن. باعتبار ما دلت عليه الرسالة نفسها من الاعتزال، وما قلناه من أن ذلك – لو صح – فهو خاص ببعض الفترات الأولى من الغيبة دون الفترات المتأخرة. ومعه يكون من المحتمل أن يكون المهدي (عليه السلام) عازماً على رفع اليد عن الاعتزال في ذلك العصر.
وإذا ورد المجتمعات، عاش فيها بشخصيته الثانية لا محالة. وعلى أي حال، تكون فرص العمل بالنسبة إليه أوسع وأثر أعماله أعمق. ولعل هذا هو المراد من قوله: ومباثتكم بأمرنا ونهينا... يعني أعطاؤه التوجيهات، لكن لا بصفته الحقيقية، بل بشخصيته الثانية.
وهذا التفسير محتمل على أي حال، لولا ما قد يوجد في التفسير الآتي من مرجحات.
التفسير الثاني:
أن يكون المراد من الحركة ظهوره وقيامه في اليوم الموعود. لكن بشكل لا يراد ظهوره في عصر إرسال هذا الكتاب، ليكون أخباراً غير مطابق للواقع.
بل يكون المراد ظهوره عليه السلام بعد تلك الفتن ولو بزمان طويل. وهو معنى جعل تلك الفتن من علامات الظهور، وسنعرف في القسم الثالث من هذا التاريخ، أنه لا ضرورة لافتراض أن تكون العلامة قبل الظهور مباشرة، بل من العلامات ما يكون سابقاً على الظهور بكثير. ويكون هذا من ذاك.
وقد يرد إلى الذهن في مناقشة ذلك: أن هذا مخالف لظاهر عبارة الرسالة، فأنه يقول:وهي إمارة لأزوف حركتنا، ولا يقال: أزف الشيء إلا قرب زمان حدوثه. فكيف يمكن افتراض زمان طويل.
والجواب على ذلك: أننا يمكن أن نفهم من التن المشار إليها كإمارة على أزوف الحركة، مفهوماً عاماً تشمل كل الانحرافات والمظالم في عصر الغيبة الكبرى، ومن المعلوم أن هذه المظالم لا تنتهي إلا عند الظهور، إذن فيكون انتهاؤها إمارة مباشرة للظهور. والله العالم بحقائق الأمور.
النقطة التاسعة:
قوله: إذا حل جمادي الأولى من سنتكم هذه، فاعتبروا بما يحدث فيه، واستيقظوا من رقدتكم لما يكون في الذي يليه. وهو شيء لم نستطع أن نتبينه من التاريخ، وهو لم يحص من الحوادث إلا القليل. نعم: سوى بعض الحوادث "الطبيعية" التي سنشير إليها في النقطة القادمة.
النقطة العاشرة:
قوله: ستظهر لكم في السماء آية جلية، ومن الأرض مثلها بالسوية.
وظاهر سياق التعبير، كون هذه الآيات تظهر في جمادي الأولى أيضاً من نفس العام، وهو سنة ٤٠١ للهجرة.
أما ما حدث في الأرض، فقد حدثنا التاريخ أنه في النصف من جمادي الأولى من هذا العام فاض البحر المالح وتدانى إلى الأيلة ودخل البصرة بعد يومين.(١٧١)
وأما ما حدث في السماء، فهو ما سمعناه من تتابع سقوط النيازك الضخمة، المعبر عنها في لغة المؤرخين بالكواكب... ويحدث عند سقوطها صوت شديد وضوء كثير، كالذي حدث عام ٤١٧، كما سمعنا فيما سبق.
وهو وإن لم يكن في نفس عام إرسال الخطاب، إلا أننا قلنا بأن هذا الخطاب، حيث أنه موجه لمجموع القواعد الشعبية المهدوية، إذن فمن الممكن أن يتأخر الحادث الموعود عدة سنوات لكونها قليلة بالنسبة إلى عمر الأمة الطويل.
فإن قال قائل: أن هذا مخالف لظهور العبارة الذي فهمناه من السياق وهو حدوث الآيات السماوية والأرضية في جمادي الأولى من نفس العام، وهو عام ٤١٠.
يكون الجواب عليه: أننا بين أحد أمرين: الأول: رفع اليد عن هذا الظهور، في حدود الآية السماوية، فأنه يكفي في صدق السياق كون الآية الأرضية واقعة في نفس الموعد. والثاني: أن نفترض أن جمادي الأول في نفس العام وقعت فيه آية سماوية غير منقولة في التاريخ.
النقطة الحادية عشر:
قوله: ويحدث في أرض المشرق ما يحزن ويقلق.
ولسنا نعاني كثيراً في فهم ذلك، إذا عرفنا أن هذا الكتاب ورد العراق، إلى الشيخ المفيد قدس الله روحه، فالمراد بالمشرق – إذن – ما كان في شرق العراق، وهو إيران نفسها... دولة البويهيين ومركز ثقلهم يومئذ. وكانت تعاني منذ زمن الحروب والحوادث الكثيرة المتكررة التي أوجبت شيئاً فشيئاً تفكك الدولة البويهية، وضعفها وسيطرة السلاجقة عليها في نهاية المطاف.
على أننا لو راقبنا التاريخ القريب من صدور هذا الكتاب، لرأينا أن همدان تعاني من الحروب عام ٤١١(١٧٢) وعام ٤١٤.(١٧٣) ومن المعلوم أن الحروب على الدوام مصدر للقلق والحزن، لأنها تكون على طول الخط على حساب الشعب البائس. فإذا لم تكن الحرب عادلة ولم يكن للشعب فيها نصيب حقيقي، كان ذلك ظلماً كبيراً وجوراً عظيماً.
النقطة الثانية عشرة:
قوله: ويغلب من بعد على العراق طوائف عن الإسلام مراق، تضيق بسوء فعالهم على أهله الأرزاق. ثم تنفرج الغمة بدار طاغوت من الأشرار، ثم يستر بهلاكه المتقون الأخيار.
يعني يسيطر بعد الحوادث السابقة من قلاقل طائفية وآيات سماوية وأرضية، يسيطر على العراق أقوام خارجين عن تعاليم الإسلام. وفي ذلك تعريض واضح بالسلطان طغرل بك أو ملوك السلاجقة، وتابعيه، فإن بعد أن انتهى من تقويض دولة البويهيين في إيران بعد حروب مدمرة، قصد العراق فدخل بغداد عام ٤٤٧.(١٧٤)
وترتب على دخوله فيها قلاقل وحروب مؤسفة وعم الخلق ضرر عسكره وضاقت عليهم مساكنهم، فإن العساكر نزلوا فيها، وغلبوهم على أقواتهم وارتكبوا فيها كل محذور.(١٧٥)
وأما قلة الأرزاق وغلاء الأسعار، فحدث عنها ولا حرج... إذ نسمع التاريخ يخبرنا أنه قد كثر الغلاء وتعذرت الأقوات وغيرها من كل شيء، وأكل الناس الميتة، ولحقهم وباء عظيم، فكثر الموتى بغير غسل ولا تكفين، فبيع رطل اللحم بقيراط وأربع دجاجات بدينار. وسفرجلة بدينار ورمانة بدينار، وكل شيء كذلك.(١٧٦)
وبقي هذا الغلاء عدة سنوات، بل استمر في التصاعد... ففي عام ٤٤٩ زاد الغلاء ببغداد والعراق... وأكل الناس الميتة والكلاب وغيرها، وكثر الوباء حتى عجز الناس عن دفن الموتى، فكانوا يجعلون الجماعة في الحفيرة.(١٧٧)
أما الخليفة في بغداد، فكان يعيش جواً آخر بعيداً عن الغلاء والوباء. فقد أكرم طغرل بك إكراماً عظيماً ومكنه من بلاده تمكيناً أسبع عليه صفة الشرعية، حين قال له: إن أمير المؤمنين شاكر لسعيك حامد لفعلك مستأنس بقربك. وقد ولاك جميع ما ولاه الله من بلاده ورد عليك مراعاة عباده، فاتق الله فيما ولاك واعرف نعمته عليك في ذلك واجتهد في نشر العدل وكف الظلم وإصلاح الرعية.
فقبل الأرض، بين يدي الخليفة. وأمر الخليفة بإفاضة الخلع عليه. فقام إلى موضع لبسها فيه وعاد وقبل يد الخليفة ووضعها على عينيه وخاطبه الخليفة بملك المشرق والمغرب، وأعطي العهد وخرج.
وأرسل إلى الخليفة خدمة كثيرة منها خمسين ألف دينار وخمسين مملوكاً أتراك من أجود ما يكون ومعهم خيولهم وسلاحهم إلى غير ذلك من الثياب وغيرها(١٧٨) فانظر إلى ترف الحكام وبؤس المحكومين، وتسامح الخليفة بدماء المسلمين وأموالهم حين ولى عليهم هذا الظالم العنيد.
فقد كان طغرل بك – بحسب ما وصفه التاريخ -: ظلوماً غشوماً قاسياً، وكان عسكره يغصبون الناس أموالهم وأيديهم مطلقة في ذلك نهاراً وليلاً(١٧٩) حتى توفي عام ٥٤٤.(١٨٠)
فمن هنا نرى بوضوح، انطباق الأوصاف على طغرل بك وعسكره وذويه. فإنهم "طوائف عن الإسلام مراق" باعتبار ما ارتكبوه من المحرمات الصريحة الموجبة للخزي والفضيحة. وقد ضاقت "بسوء فعالهم على أهله الأرزاق" كما سمعنا. إذ من المعلوم كيف تنحدر البلاد إلى وضع اقتصادي رديء، تحت ظل الحروب والقلاقل.
وقد انكشفت الغمة من بعد، ببوار – يعنى بموت – "طاغوت من الأشرار" وهو طغرل بك نفسه. وقد أدخل هلاكه السرور على قلوب المتقين الأخيار.
ونفهم معنى انكشاف الغمة بموته، إذا التفتنا إلى التاريخ وعلمنا أنه لم يحدث مثل هذا الغلاء والوباء بغد طغرل بك طيلة حكم الدولة السلجوقية.
النقطة الثالثة عشرة:
قوله: يتفق لمريدي الحج من الآفاق ما يأملونه منه على توفير عليه منهم واتفاق. ولنا في تيسير حجهم على الاختيار منهم والوفاق، شأن يظهر على نظام واتساق.
وهذه نبوءة صادقة بتسهيل الحج بعد صعوباته التي سمعناها، وانحلال مشاكله. فيتحقق للحجاج من كل البلاد ما يأملونه من الأمن والسهولة.
وتصديق هذه النبوءة واضح جداً في التاريخ. فإنه بالرغم من أنه استمر منع الحج حقبة من السنين، إلا أنه لم ينقل بعد عام ٤١٩ أي منع للحج، مما يدل على أن الطرق قد توفرت للحجاج. فقد تحققت النبوءة بعد عشرة أعوام من صدورها.
وأما حدوث ذلك بمساعي المهدي (عليه السلام) وجهوده، فهو بمكان من الإمكان، طبقاً لما عرفناه من مسؤولية العمل الإسلامي للإمام المهدي خلال غيبته، بناء على أطروحة خفاء العنوان. فإذا دل الكتاب على تأثر عمل الإمام في سهولة الحج، فلا بد من تسجيل ذلك تاريخياً، لو صلح هذا الكتاب للإثبات التاريخي. ودلالة الكتاب على هذا واضحة حين يقول: ولنا في تيسير حجهم... شأن يظهر على نظام واتساق.
النقطة الرابعة عشرة:
قوله: فليعمل كل امرئ منكم بما يقرب به من محبتنا، ويتجنب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا، فإن أمرنا بغتة فجأة، حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابه ندم على حوبة.
أمر عليه السلام كل فرد من قواعده الشعبية، بأن يفعل ما يقربه من محبة إمامه ورضاه، ويترك ما يقربه من كراهته وسخطه. وهذا معنى واضح ولطيف، فإن رضى المهدي (عليه السلام) رضا الله تعالى، وكلما يقرب للمهدي (عليه السلام) فهو يقرب إلى الله... وذلك بالشعور بالمسؤولية تجاه أحكام الإسلام، والاستجابات الصالحة تجاه الأحداث... كما أن سخط المهدي سخط الله تعالى، وكلما يبعد عنه يبعد عن الله تعالى.
ويعطي المهدي (عليه السلام) لذلك تعليلاً مهماً حين يقول: فإن أمرنا بغتة فجأة، حين لا تنفعه توبة الخ.
والمضمون العام لذلك، هو: أن الفرد المؤمن بظهور المهدي (عليه السلام) المتوقع له في كل حين، بغتة وفجأة، يجب أن ينزه نفسه عن المعاصي ويقصر سلوكه على طاعة الله عز وجل، ليكون على المستوى المطلوب عند الظهور. وحيث كان الظهور محتملاً دائماً، فيجب أن يكون الفرد على هذه الصفة دائماً.
وأما إذا بقي الفرد عاصياً منحرفاً سلوكياً أو عقائدياً، ولم ينزه نفسه في أثناء الغيبة، ولم يتب إلى الله تعالى... فسوف لن تنفعه توبته أو ندمه بعد ذلك. وسيعاقبه الإمام المهدي (عليه السلام) بعد ظهوره على ما اقترفه من ذنوب، على كل حال، وسكيون عقابه في ذلك المجتمع الإسلامي العظيم خزياً أبدياً له. وبما أن الظهور محتمل على الدوام، إذن فالبدء بعقاب المذنبين محتمل على الدوام، فإذا أراد الفرد أن يحول دون هذا الاحتمال، فما عليه إلا أن يرتدع عن الذنوب، ويكمل نفسه من العيوب.
الناحية السادسة:
في استعراض نص الرسالة الثانية التي رواها الطبرسي(١٨١) مرسلاً عن الإمام المهدي (عليه السلام). ولها من قيمة الإثبات التاريخي ما ذكرناه للرسالة الأولى.
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام الله عليك أيها الناصر للحق الداعي إليه بكلمة الصدق. فأنا نحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، آلهنا وآله آبائنا الأولين. ونسأله الصلاة على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى أهل بيته الطاهرين.
وبعد: فقد كنا نظرنا مناجاتك، عصمك الله بالسبب الذي وهبه الله لك من أوليائه وحرسك به من كيد أعدائه. وشفعنا ذلك الآن من مستقر لنا بنصب في شمراخ من بهماء صرنا إليه آنفاً من غماليل ألجأنا إليه السباريت من الإيمان. ويوشك أن يكون هبوطنا إلى صحصح من غير بعد من الدهر ولا تطاول من الزمان. ويأتيك نبوءنا بما يتجدد لنا من حال، فتعرف بذلك ما نعتمده من الزلفة إلينا بالأعمال. والله موفقك لذلك برحمته.
فلتكن حرسك الله بعينه التي لا تنام أن تقابل لذلك فتنة تسبل النفوس قوم حرثت باطلاً لاسترهاب المبطلين، يبتهج لذمارها المؤمنون، ويحزن لذلك المجرمون.
وآية حركتنا من هذه اللوثة، حادثة بالحرم المعظم من رجس منافق مذمم، مستحل للدم المحرم، يعمد بكيده أهل الإيمان، ولا يبلغ بذلك غرضه من الظلم والعدوان. لأننا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب عن ملك الأرض والسماء. فليطمئن بذلك من أوليائنا القلوب وليثقوا بالكفاية منه، وإن راعتهم بهم الخطوب، والعاقبة بجميل صنع الله سبحانه تكون حميدة لهم ما اجتنبوا المنهى عنه من الذنوب.
ونحن نعهد إليك أيها الولي المخلص المجاهد فينا الظالمين، أيدك الله بنصره الذي أيد به السلف من أوليائنا الصالحين. أنه من اتقى ربه من أخوانك في الدين وأخرج مما عليه إلى مستحقه كان آمناً من الفتنة المبطلة ومحنها المظلمة المضلة. ومن بخل منهم بما أعاده الله من نعمته على من أمره بصلته، فأنه يكون خاسراً بذلك لأولاه وآخرته.
ولو أن أشياعنا – وفقهم الله لطاعته – على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا. فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا تؤثره منهم. والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلاته على سيدنا البشير النذير محمد وآله الطاهرين وسلم.
وكتب في غرة شوال من سنة اثنتي عشرة وأربعمائة.
نسخة التوقيع باليد العليا صلوات الله على صاحبها: هذا كتابنا إليك أيها الولي الملهم للحق العلي، بإملائنا وخط ثقتنا. فاخفه عن كل أحد، واطوه، واجعل له نسخة يطلع عليها من تسكن إلى أمانته من أوليائنا شملهم الله ببركتنا إن شاء الله. الحمد لله والصلاة على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين.
الناحية السابعة:
في استعراض المهم مما تتكفل هذه الرسالة بيانه. ويمكن أن يتم ذلك في ضمن عدة نقاط.
النقطة الأولى:
إن الرسالة ذات سياق عام واضح متعمد، في الصدور من جهة عليا إلى جهة أدنى منها. وهي في ذلك أوضح من الرسالة الأولى إلى حد كبير.
وهي بهذا تنحو منحى القرآن الكريم الذي أكد على هذه الجهة بوضوح، في عدد من آياته كقوله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين).(١٨٢) وقوله: (إذن لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات).(١٨٣) وقوله: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل).(١٨٤) إلى غير ذلك.
فالاثنينية بين المتكلم والسامع محفوظة بكل وضوح، وارتفاع المتكلم على السامع ملحوظ بكل جلاء. وهذا ثابت في هذه الرسالة أيضاً، مع بعض الفروق بين سياقها والسياق القرآني، لا تخفى على الأديب.
وهذا الإيحاء يعطي زخماً نفسياً معيناً، لا مناص منه حين يراد السيطرة على السامع من الناحية العاطفية والفكرية. كيف وإن السامع في كلا هذين الحالين، يعترف بارتفاع المتكلم عليه بكل خشوع.
النقطة الثانية:
في تعيين محل سكنه عليه السلام، عند إرسال هذه الرسالة.
حيث نرى المهدي (عليه السلام) – لو صحت الرواية – يعين مستقره أي مسكنه بنصب في شمراخ من بهماء. والنصب هو الشيء المنصوب. والشمراخ رأس مستدير طويل دقيق في أعلى الجبل. والبهماء مأخوذ من المبهم وهو المكان الغامض الذي لا يعرف الطريق إليه. ومعه يكون المراد – والله العالم – أنه عليه السلام يسكن في بيت منصوب على قمة جبل مجهولة الطريق.
ثم يقول: صرنا إليه آنفاً من غماليل، يغتي أنه انتقل إلى هذا المسكن الجديد، منذ مدة، من غماليل يعني من منطقة كان يسكنها قبل ذلك، توصف بهذا الوصف. فإن الغماليل جمع غملول وهو بالضم الوادي ذو الشجر أو غمام أو ظلمة أو زاوية.(١٨٥) وقد تلاحظ معي أن كلا الدارين ذات خفاء وغموض، وقابلة لاختفاء الفرد في أنحائها بشكل وآخر.
ثم يذكر سبب انتقاله إلى المسكن الجديد، بأنه "ألجأنا إليه" إلى المسكن الجديد "السباريت من الإيمان". والسباريت جمع سبرات وسبروت وسبريت: الأرض التي لا نبات فيها وقيل لا شيء فيها. ومنها سمي المعدم سبروتاً.(١٨٦) ومعه يكون لهذه العبارة تفسيران محتملان.
التفسير الأول:
أن نقرأ "الإيمان" بكسر الهمزة، فيكون المراد أن الفقراء أو الفارغين من الإيمان هم الذين ألجاوه إلى اختيار مسكنه الجديد. حيث اقتضت المصلحة نتيجة لتصرفاتهم المنحرفة، أن يزداد المهدي (عليه السلام) بعداً عن الناس وخفاء في المسكن، فاختار جبلاً ذو قمة خفية ليجعله مسكناً.
التفسير الثاني:
أن نقرأ همزة "الإيمان" بالفتحة، فيكون جمع يمين – ضد اليسار – ويكون المراد بالسباريت: الأرض الخالية من الزرع الموجودة في يمين الطريق. ولعله طريق الحج أو طريق إحدى المدن. وقد ألجأه إلى تركها إلى المسكن الجديد قلة الزرع فيها وصعوبة العيش عليها.
ثم يخبر المهدي (عليه السلام) بأنه على وشك الانتقال إلى مسكن آخر ثالث. فأنه سيهبط من قمة الجبل إلى صحصح، وهي الأرض المستوية "من غير بعد من الدهر ولا تطاول من الزمان" بل في فترة قريبة وأمد قصير. وهنا لا يجب أن نفترض أن هذه الأرض خالية من النبات والزرع، كتلك الأرض.
ومن هذا السياق نعرف أن المهدي (عليه السلام) يختار مكانه بعيداً عن المجتمعات، على الدوام. ولعل في هذا امتثالاً للأمر الذي نقله المهدي (عليه السلام) عن أبيه (ع) في رواية ابن مهزيار، وقد سبقت الإشارة إليها أكثر من مرة. وهذا لا ينافي أطروحة خفاء العنوان إذ قد يكون المهدي (عليه السلام) ظاهراً بالشخص مختفياً بالعنوان ساكناً الأماكن المنعزلة في العالم. وقد سبق أن عرفنا أن هذا أكثر وضوحاً وإمكاناً في أول الغيبة، وأما ما بعد ذلك فالحاجة إليه منتفية، بل قد يكون مخالفاً لبعض تطبيقات تكاليفه عليه السلام.
وبالرغم من تصريحاته عن مكانه، إلا أننا لا نجد أنه قد ذكره على وجه التعيين، وإنما ذكر – في الحقيقة – عنواناً كلياً يمكن انطباقه على كل قمة وكل واد. ولم يصل في الوضوح إلى حد لو بحث الإنسان عن مكانه لوجده.
ونلاحظ بوضوح أن المهدي (عليه السلام) يعين مكانه بعبارات لغوية قديمة تكاد تكون مندرسة الاستعمال... لا يريد أن يسوقها مساقاً واضحاً، حتى لا يفهمها من يطلع عليها، إلا إذا كان من خاصة الناس في العلم والاطلاع. وهذه خطوة إلى تلافي بعض احتمالات الخطر المحتملة الوقوع على تقدير الاطلاع على هذا الخطاب.
وعلى أي حال نرى المهدي (عليه السلام) يعد الشيخ المرسل إليه، بأن يوصل إليه أنباءه فيما يتجدد له من حال. ولعل المراد المباشر لذلك، هو إخباره بانتقاله إلى المكان الجديد في الصحصح، ولكن العبارة أعم من ذلك، تشمل كل ما يريد الإمام المهدي (عليه السلام) تبلغيه إلى الشيخ المفيد، مما يتخذه من رأي أو يذهب إلأيه من مكان، بمقدار المصلحة والإمكان.
ومن هنا قال له: فتعرف بذلك ما نعتمده من الزلفة إلينا بالأعمال. يعنى أن مواصلتك بالمراسلة ستطلعك على الأعمال نحمدها ونعتبرها صالحة ومقربة إلينا. فهذه العبارة واضحة الدلالة على عزم الإمام المهدي (عليه السلام) على تكرار المراسلة مع الشيخ المفيد، ولعل ذلك قد حدث ولم يصلنا خبره، ولعله لم يحدث لأن الشيخ توفى بعد هذه الرسالة بعام واحد.
النقطة الثالثة:
فلتكن حرسك الله بعينه التي لا تنام أن تقابل لذلك فتنة، تسبل نفوس قوم حرثت باطلاً لاسترهاب المبطلين، يبتهج لذمارها المؤمنون، ويحزن لذلك المجرمون.
وهو توجيه عام من المهدي (عليه السلام) إلى الشيخ المفيد وغيره من إخوانه في كل جيلٍ... بأن يقابل أي يقف ضد الفتنة التي تسبل أي تستبيح نفوس قوم حرثت باطلاً، أي خاضت غمار الباطل في أرض صالحة لذلك. وهي إنما تستبيح نفوسهم في انصهارهم فيها، وسيرهم مع تيارها.
وإنما يكون على المفيد أن يقف ضد الفتنة، من أجل استرهاب المبطلين وتخويفهم لأجل ردعهم عن الباطل وصرفهم إلى طريق الحق. وقوله: لذلك. أي باعتبار ما نعتمده من الزلفة إلينا من الأعمال.
فيكون المراد لزوم العمل لكفكفة الظلم وردع الفتن التي تؤسس الأراضي الصالحة لنمو المفسدين والمجتمعات المنحرفة التي تربي المنحرفين. ليكون ذلك من الأعمال الصالحة التي يعتبرها ويحمدها بصفتها من أعظم المقربات إلى الله، وأحسن التطبيقات للعدل الإسلامي.
وإنما سمي الظلم فتنة، باعتبار أنه محك الامتحان الإلهي لنفوس البشر وإيمانهم، لكي يمحصوا به ويميزوا، فيحيى من حيى عن بينة ويهلك من هلك عن بينة. وقد ذكرنا أن هذه الفتن والظلم، كما توجب قوة انحراف المنحرفين توجب الظلم مما يوجب تزايد قوة الإرادة والوعي لدى المؤمنين المخلصين ويصعد معنوياتهم، مما يعجل بتحقيق شرط الظهور. ومن هنا نرى المهدي (عليه السلام) يأمر الشيخ المفيد وسائر إخوانه من الأجيال، بهذا الجهاد الإيماني الكبير.
ومن هنا نفهم ان الفتنة المذكورة في هذا التعبير، ليست إشارة إلى حادثة تاريخية معينة حتى نبحث عنها في التاريخ العام... كما عملنا في الرسالة السابقة. وإنما هي عبارة عن الانحراف العام الذي يصيب المجتمع على مر الأجيال خلال عصر الغيبة الكبرى، ذلك الانحراف الذي يزيله المهدي (عليه السلام) بعد ظهوره.
ثم أن المهدي (عليه السلام) في رسالته يذكر: أن الجهاد ما يؤثره من استرهاب المبطلين وردعهم عن باطلهم... يبتهج لذمارها – أي لدفعها ومحاربتها –(١٨٧) المؤمنون ويحزن لذلك المجرمون.
النقطة الرابعة:
إعطاء المهدي (عليه السلام) علامة من علامات ظهوره وإمارة من إمارات حركته.
وهي: أنه ينتج من هذه اللوثة – وهو تعبير عن الفتنة – حادثة عظيمة مؤسفة وجرم كبير، من رجس منافق مذمم، مستحل للدم المحرم. يعمد – أي يتعمد – بكيد أهل الإيمان، ولا يبلغ بذلك غرضه من الظلم والعدوان.
والمراد: أنه ينتج من هذه الفتنة التي يعيشها المجتمع، أن أحد المنحرفين المنافقين، يريد أن يتعمد إلى أهل الإيمان بالكيد والضرر، فيغتال أحد المؤمنين، بهذا القصد. وبالرغم من أن هذا المؤمن سوف يذهب إلى ربه، إلا أن القصد الأساسي لذلك المجرم سوف لن يتحقق، وسيبقى المؤمنون على أمنهم واستقرارهم نتيجة للطف المهدي (عليه السلام) ودعائه لهم بدفع الشر، ذلك الدعاء الذي لا يحجب عن ملك الأرض والسماء.
ونتيجة لذلك يقول المهدي (عليه السلام) في رسالته: فلتطمئن بذلك من أوليائنا القلوب، وليثقوا بالكفاية منه، وان راعتهم بهم الخطوب...
ولهذه الفقرة، معنى آخر محتمل، يختلف قليلاً عما ذكرناه، وهو أن لا تكون الحادثة الموعودة من قبل الظالمين، هي حادثة قتل، وإنما هو تخطيط اجتماعي، لا يقاع المؤمنين في الضرر الضيق، يقوم به شخص منافق مذمم، مستحل للدم المحرم. ولا يكون استحلاله للدم في هذه الحادثة بالتعيين، بل المراد أن من شأنه ذلك أو له فيه سوابق. إلا أن هذا التخطيط، سوف لن يصل إلى هدفه، نتيجة لدعاء المهدي (عليه السلام).
وعلى أية من المعنيين، لم نستطع أن نتبين الحادثة المشار إليها في هذه الفقرة... من التاريخ العام أو الخاص. فإن ما أكثر الشهداء المغتالين في سبيل الله تعالى كالشهيد محمد بن مكي الملقّب بالشهيد الأول والشهيد زين الدين العاملي الملقب بالشهيد الثاني والقاضي نور الله التستري الملقب بالشهيد الثالث في ألسنة البعض... وغيرهم... وما أكثر المؤامرات الفاجرة التي تحاك ضد المجتمع المؤمن، ولا يكون فشلها إلا بدعاء الإمام عليه السلام وعمله.
وقد سبق أن قلنا أن الدعاء النافذ المستجاب، يعتبر من أحسن الأعمال النافعة الخيرة على الصعيدين الفردي والاجتماعي، ومن أبعدها أثراً وأفضلها نتيجة.
وبذلك ينجو المؤمنون من المكائد، فليطمئنوا وليثقوا بدعاء إمامهم – كما أمر إمامهم –، فإن عاقبتهم ستكون إلى خير... إذا التزموا بالسلوك الصالح والعمل الصحيح.
النقطة الخامسة:
إيصاؤه عليه السلام بالإصلاح الشخصي للنفس، الذي هو الحجر الأساس لإصلاح المجتمع، ولنجاة الفرد والمجتمع من الفتن المظلمة المضلة، ونجاحه المؤزر في الامتحان الإلهي الكبير. وبدون ذلك يكون الفرد قد خسر أساسه الإيماني الصحيح، وانحرف انحرافاً حاداً يخسر به دنياه وآخرته.
ومن هنا نرى المهدي (عليه السلام) يؤكد على وجوب دفع الحقوق المالية الإسلامية إلى مستحقيها، ومن أمر الله تعالى بصلته وهم الفقراء والمحتاجون. وإنما خصها بالذكر لعلمه عليه السلام بأن قواعده الشعبية تؤدي – عادة – الفرائض الإسلامية العملية كالصلاة والصوم والحج... فلم يبق لهم من الفرائض، إلا الحقوق المالية التي قد تشح بها بعض النفوس، وتحتاج في أدائها إلى تضحية أكبر.
قال عليه السلام: أنه من اتقى ربه من إخوانك في الدين وأخرج مما عيه إلى مستحقيه، كان آمناً من الفتنة المبطلة ومحنها المظلمة المضلة. ومن بخل منهم بما أعاده الله من نعمته على من أمره بصلته، فأنه يكون خاسراً بذلك أولاه وآخرته.
ومن هنا نفهم أن الأداء الكامل للفرائص الإسلامية، هو المحك في النجاة عن الانحراف الجارف الذي يودي بالكثيرين خلال عصر الغيبة الكبرى. والسر الأساسي في ذلك: هو أن أداء الفرائص كاملة، مع الارتداع عن جميع المحرمات، مضافاً إلى أنه يمثل السلوك الشخصي الصالح، فإنه – بما يوجبه للفرد من صبر وتضحية على مستوى معين من المصاعب في سبيل الله عز وعلا – يحدث في الفرد قوة في الإرادة والتحمل في مجابهة التيار الظالم وما يستلزمه من إغراء ومخاوف. مما يوجب نجاته منها وبعده عنها، ومن ثم نجاحه في الامتحان الإلهي الكبير، وبذلك يحرز سعادته في الدنيا والآخرة. وبخلاف ذلك، سوف يكون فاشلاً في الامتحان الإلهي "خاسراً بذلك أولاه وآخرته".
مضافاً إلى نقطة أخرى في دفع الحقوق المالية، هي: أن خير ما ينقذ القواعد الشعبية المهدوية في المجتمع المنحرف، وأحسن تخطيط يمكن به كفكفة جماح ما يفرض عليهم من قبل الظالمين من حصار اقتصادي واجتماعي... هو أن يكفل بعضهم بعضاً ويحمل بعضهم همّ بعض، وذلك بالالتزام بدفع الحقوق الإسلامية المالية التي فرضها الله تعالى، فأنها كافية لتنفيذ هذه الكفالة ووافية بهذا الضمان. وبهذه الحقوق – أيضاً – يمكن وضع البرامج الاجتماعية الوقتية لدفع ظلم أو لتربية جيل أو لقضاء بعض الحاجات.
النقطة السادسة:
إيصاؤه بالإصلاح العام الذي هو أكبر وأهم من الإصلاح الشخصي، والذي به يتحقق شرط الظهور، ويجعل الأمة على مستوى المسؤولية التي يؤهلها للتيمن بلقاء الإمام المهدي عليه السلام، وتحمل مسؤوليات ظهوره.
وهذا الإصلاح العام، يعبر في حقيقته عن ضرورة اجتماع أشياعه – وهم أتباعه –... عقلاً وقلباً... عقيدة وعاطفة وسلوكاً، في الوفاء بالعهد المأخوذ عليهم، في إطاعة أوامر الإسلام ونواهيه، وامتثال قادة الإسلام ومتابعتهم. ومن الواضح أن هذا الاجتماع على الطاعة هو أوسع وأهم من الطاعة الفردية، وأكثر انتاجاً بشكل غير قابل للمقايسة. وهو الذي يمثل العمل المشترك لتبليغ الإسلام وتطبيقه، والجهاد المشترك ضد أنحاء الظلم والطغيان والعدوان.
وهذا الاشتراك والتضامن، لهو أقوى الأسباب لتحقق الإرادة لدى الأفراد، ولتربية الوعي والشعور بالمسؤولية فيهم... وهو الشرط الأساسي للظهور...
ومن ثم نرى المهدي (عليه السلام) يرتب على هذا الاجتماع أثره الحقيقي، ويستنتج منه نتيجته الطبيعية... فإنه لو كان متحققاً: "لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا". تلك السعادة الناتجة من العدل الكامل الذي يتكفل المهدي (عليه السلام) تطبيقه على العالم كله.
"على حق المعرفة وصدقها منهم بنا". وهذه العبارة تدل على أطروحة خفاء العنوان، التي اخترناها، باعتبار أن المهدي (عليه السلام) خلال غيبته معروف بالشخص مجهول الهوية والحقيقة، وإنما هو معروف بشخصيته الثانية. وأما بعد الظهور فتصبح المعرفة حقاً وصدقاً، يعني سوف يعرف الناس شخصه وحقيقته وانطباع العنوان على الشخص بوضوح.
ولو كانت أطروحة خفاء الشخص صادقة، لكانت هذه العبارة في غير محلها، ولكفت البشارة بحدوث المشاهدة بعد انعدامها عند الظهور.
"فما يحبسنا عنهم" أي يؤخر الظهور "إلا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره عنهم" من المعاصي والتقصيرات وعدم الشعور بالمسؤولية الإسلامية.
وهذا يدل على أمرين مهمين، سبقت الإشارة إليهما، ولكن يكون في هذا الكلام من المهدي (عليه السلام) زيادة في الاستدلال عليهما:
الأمر الأول: كون المهدي (عليه السلام) مطلعاً على الأخبار مواكباً للأحداث يشعر بآلام وآمال أمته وقواعده الشعبية.
الأمر الثاني: إناطة الغيبة بذنوب الناس وعصيانهم. فمتى لم يكن هناك ذنب، لم يكن للغيبة سبب، فتتحول إلى الظهور. وهو معنى ما قلناه من أن الفرد إذا كان عالياً في الوثاقة كاملاً في تطبيق الإسلام، فإن المهدي (عليه السلام) لا يحتجب عنه مرة أو مراراً، بل قد يكون ذلك على الدوام، كما سبق أن فصلناه.

 

القسم الثاني: في تاريخ الإنسانية في عصر الغيبة الكبرى

 

فيما يرجع إلى الحوادث والصفات التي تكون للإنسانية عامة أو للمجتمع المسلم أو للقواعد الشعبية الإمامية خاصة. من حيث مقدار تمسكهم بالدين وما يترتب على ذلك من نتائج... وما هو تكليفهم الواعي الصحيح أثناء الغيبة الكبرى.
وينقسم الكلام في هذا القسم إلى ثلاثة فصول رئيسية:
أولها: في تمحيص الأخبار الواردة في هذا الصدد، وفرزها عما سواها من حيث المورد والمفهوم... وإعطاء القواعد العامة في فهمها.
وثانيها: فيما دلت عليه الأخبار من حوادث وصفات للناس، تخص مقدار تمسكهم بالدين وبتعاليم الإسلام.
وثالثهما: فيما هو التكليف الواعي للناس خلال عصر الغيبة الكبرى.
الفصل الأول: في تمحيص اخبار التنبؤ بالمستقبل

 

في تمحيص الأخبار التي نريد الاستشهاد بها في هذا القسم، وتمييزها عما سواها من حيث المورد والمفهوم، وإعطاء القواعد العامة في فهمها. وذلك قبل الدخول في سر تفاصيلها في الفصل الآتي إن شاء الله تعالى
وينبغي أن يقع الكلام حول ذلك في عدة جهات:
الجهة الأولى:
في تمحيص هذه الأخبار، وتشخيص حاجتنا في الاستدلال بها.
فإننا إذ نريد أن نعرف المستوى الديني، لأي مجتمع، في أي عصر، نرجع – عادة – إلى تاريخ ذلك العصر لاستعراض ما فيه من حوادث وآثار تدل على ما كان عليه المجتمع من مستوى ديني وشعور بالمسؤولية الدينية. وهذا طريق صحيح، لو استطاع التاريخ أن يسعفنا بما نحتاجه من حقائق ومستمسكات.
ولكن ما نعرفه – عادة – من تأريخ، يتصف بالنقص – حتماً – بما لا يقل عن ثلاث جهات:
الجهة الأولى:
إسقاطه لبعض الحوادث التاريخية، وعدم التعرض لها، بأي دافع من الدوافع... وتاريخنا الإسلامي مليء بمثل هذه الفجوات.
الجهة الثانية:
عدم الموضوعية في شرح الحادثة. ووجود الاحتمال على أقل تقدير – في أن يكون المؤرخ قد غير منها شيئاً لكونه يميل عقائدياً أو عاطفياً مع أحد الأشخاص التاريخيين دون الآخر.
الجهة الثالثة:
عدم التعرض لحوادث المستقبل. وهذا ضروري الوقوع في كل تاريخ، لأن المستقبل مجهول، إلا بنحو الحدس أو علم الغيب.
أما الجهتين الأولى والثانية، فيمكن دفع تأثيرهما والحد من ضررهما، إلى حد كبير، لدى المقارنة بين مصادر التواريخ وأقوال المؤرخين، حتى يحصل للفرد البحث وثوق وقناعة بحصول الحادثة أو عدم حصولها. وخاصة بعد استيعاب سائر وجهات نظر المؤرخين ومذاهبهم.
وأما الجهة الثالثة: فيستحيل – عادة – مَلْؤُهَا في التاريخ الاعتيادي للبشر أياً كانوا... فيبقى المستقبل المجهول، فجوة تاريخية شاغرة أمام الناظر يحار في تشخيصها وترتيبها.
وهنا ينفتح وجه الحاجة إلى الروايات التي نحن بصددها، فإنها تتنبأ عن حوادث المستقبل مروية عمن لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وعن خلفائه المعصومين عليهم السلام... بطرق متواترة لا يقبل مجموعها التشكيك... وإن كانت كل رواية منها ظنية على أي حال، وقابلة للمناقشة أحياناً. كما سمعنا مثل ذلك في أخبار المشاهدة، مع فرق مهم هو أن الروايات الواردة في المقام أضعاف روايات المشاهدة، على ما سنعرف صورة منه في الفصل الآتي.
على أن جملة منها يحتوي على التنبؤ بحوادث قد حدثت فعلاً خلال الزمان، على ما سنعرف، وقد صدر التنبؤ بها قبل حدوثها بزمن طويل... وهو شاهد على صدقها وصدق قائلها وعلى ارتباط القائل بالله عز وجل بشكل وآخر، فإن كل علم غيب لا بد أن يكون مستقى من علام الغيوب.
ومعه فتكون هذه الروايات، صالحة لملء الفجوات التاريخية التي أهملها التاريخ، أو لم يكون موضوعياً تجاهها. ولكنها – على أي حال – تحتوي على بعض المصاعب، لا بد من استعراضها، واستعراض ما يمكن أن يكون منهجاً لتذليل تلكم المصاعب.
مصاعبها:
تتلخص المصاعب في نقطتين رئيسيتين، من حيث أن الطعن تارة يتوجه إلى السند أي إلى وثاقة الرواة وصدقهم. ويتوجه إلى الدلالة، أي إلى ما نفهمه من النص المروي تارة أخرى.
النقطة الأولى:
فميا يرجع إلى السند. ولئن كانت القاعدة العامة في الروايات هي التأكد من وثاقة الراوي والتزامه الصدق في المقال قبل قبول روايته... فإن الروايات التي نحن بصددها أشد خطراً في هذا المجال، من أشكال الروايات الأخرى. من حيث أن احتمال الوضع والتحريف أكثر بكثير مما هو في سائر الروايات. وذلك باعتبار عدة أمور:
الأمر الأول:
احتمال الوضع. فإن الكاذب قد يخشى الوضع عندما يخاف الافتضاح، عند وضوح عدم مطابقة روايته للواقع. وخشية الافتضاح متوفرة – عادة – في سائر موارد الروايات، إلا أنها في روايات التنبؤ أقل منها في غيرها من عدة نواحٍ:
الناحية الأولى:
إن هذه الروايات تتنبأ عن حوادث مغرقة في المستقبل السحيق الذي لا يمكن أن تتأكد من صدقه الأجيال. ومعه تبقى الرواية محتملة الصدق دهراً طويلاً جداً، أكثر مما يطمع به الكاذب. وفي كل جيل إن لم تحدث الحادثة الموعودة يقال: لعلها في الأجيال القادمة، ومعه يبقى كذب الرواي سراً غير قابل للكشف.
الناحية الثانية:
إن جملة من هذه الروايات – على ما سنسمع – ذو بيان رمزي وعبارات ذات درجة كبيرة من السعة والإبهام، بحيث يمكن أن تنطبق العبارة على عدة حوادث محتملة. ومعه فيقول كل جيل: لعل المقصود هذه الحادثة ولعل المقصود حادثة أخرى آتية... ويبقى الكذب سراً غير قابل للكشف.
الناحية الثالثة:
إن جملة من هذه الروايات، يحتمل – على أقل تقدير – أن تكون قد وضعت بعد حدوث الحوادث، ونسبت إلى قائل سابق على الحدوث. ومعه قد يجدها الفرد الباحث مطابقة للواقع، مع أنها مكذوبة. ومن الطبيعي أن يكون شعور الكاذب بمطابقة روايته للواقع ما يهوّن لديه خوف الافتضاح إلى حد كبير.
الأمر الثاني:
النقل بالمعنى. وهذا ليس محتملاً فحسب، بل هو معلوم التحقق في كثير من الأخبار.
والنقل بالمعنى، لا يكاد يكون مضراً في الروايات الاعتيادية، كالروايات المتعرضة إلى الفقة والفلسفة... فإن اللفظ أو مرادفه، والجملة ومثيلتها، يعطيان معنى متشابهاً إلى حد كبير... واحتمال اختلاف المعنى يكون ملغى ومدفوعاً إذا كان الراوي معلوم الضبط والوثاقة.
وأما في روايات التنبؤ بالمستقبل، فليس الأمر فيها على هذا الغرار. فأنها تصدر في الأعم الأغلب عن قائلها: النبي (ص) أو غيره رمزية غير واضحة المعنى، بحيث يحتاج فهمها إلى تدقيق. ومن المعلوم أن التعبير عن اللفظ الرامز بلفظ آخر يمسخه مسخاً ويغير معناه تغييراً كلياً أو يكاد.
وهذا الاحتمال لا يدفعه العلم بالوثاقة والضبط في الراوي، بعد جواز النقل بالمعنى شرعاً، واحتمال عدم فهم الراوي للمعنى المرموز إليه، كي يختار المرادف الصحيح لألفاظ الراوية.
الأمر الثالث:
احتمال الإسقاط من ألفاظ الرواية في أثناء تناقلها من قبل الرواة.
فإن القواعد العامة في سائر الروايات، تقتضي إلغاء هذا الاحتمال، باستظهار كون الراوي ناقلاً لجميع الألفاظ، أو لجميع ما يتعلق بالمضمون الواحد من قرائن وخصوصيات. إذا كان الراوي ثقة، إذ لو كان قد أسقط بعض ذلك لكان قد أخل بنقله وبوثاقته في نهاية المطاف. ومعه تكون وثاقته دليلاً على أنه نقل إلينا كل ما يتعلق بالمضمون المعطى في الرواية.
إلا أن ذلك ليس بذي فائدة في روايات التنبؤ بالمستقبل، وذلك من ناحيتين:
الناحية الأولى:
إذا احتملنا وجود قرينة لفظية أو غيرها، لم يفهم الراوي كونها قرينة مغيرة للمعنى أو مؤثرة فيه، فحذفها. والراوي الثقة إنما يتعهد نقل ما يفهم تأثيره من القرائن بطبيعة الحال، دون غيرها. ومعه لا تكون وثاقة الراوي نافية لهذا الاحتمال.
ومثل هذا الاحتمال، لا يكاد يكون موجوداً في الروايات الاعتيادية ولكنه موجود بكل وضوح في الروايات الرمزية، التي قد تخفى معاني ألفاظها، فضلاً عن قرائنها الدقيقة.
الناحية الثانية:
إذا احتملنا أن الرواية كانت متضمنة لنقل أكثر نم حادثة واحدة، واحتملنا أن نقل الحادثتين معاً، له تأثير في الفهم الدقيق والصحيح لإحداهما أو لكليهما. في حين لم تكن الرواية التي وصلتنا حاوية إلا لحادثة واحدة.
وهذا الاحتمال لا يمكن إلغاؤه بالعلم بوثاقة الراوي، فإن غاية ما يتعهد به الراوي الثقة هو أن ينقل كل ما له ارتباط بالمضمون الواحد، وأما إذا كان الإمام (ع) أو النبي (ص) قد أعرب عن مضمونين، فقد يختار الراوي نقل أحدهما دون الآخر، ولا يكون في ذلك اختلال في وثاقته.
واحتمال أن يكون لنقل المضمونين أو الحادثتين معاً دخلاً في المعنى... غير موجود عادة في سائر الرويات. ولكنه موجود في الروايات التي نحن بصددها... بل هو ليس احتمالاً فقط، وغنما نحن نعلم بذلك لعدة أسباب، أهمها: أننا نحتاج في بحثنا إلى الربط بين الحوادث وتشخيص تسلسلها الزمني، ومعرفة اتجاهات أصحابها، ومعرفة التخطيط الإلهي الذي يقتضي كلا منها. فإذا اطلعنا على الحادثة وحدها لم يكن إلى فهم شيء من ذلك سبيل. وأما إذا اطلعنا عليها منضمة إلى غيرها، أمكننا أن نتوصل إلى ذلك.
إذن فلا بد لنا أن نضع منهجاً لتمحيص هذه الجهات السندية وتذليل مصاعبها، وذلك ما سنعرضه فيما يلي:
منهج التمحيص السندي:
وهو يتضمن جانبين: جانب إيجابي وجانب سلبي، فالجانب الإيجابي يقتضي بالأخذ ببعض الروايات والجانب السلبي يقتضي رفض الأخذ بالبعض الآخر منها.
أما الجانب الإيجابي، فهو الأخذ من الروايات بوقوع الحادثة وصحة النقل. وبكل مضمون مستفيض لفظاً أو معناً، بحيث يوجب الاطمئنان من تجمع الروايات بصحة النقل ووقوع الحادثة. وبكل مضمون اقترنت به القرائن العامة أو الخاصة، التي توجب العلم أو الاطمئنان بالصدق. وهذا يستدعي – في كثير من الأحيان – تجميع العديد من الروايات والقرائن على صحة مطلب أو وقوع واقعة.
وهذا ما سنعمله في ما يلي من هذا التاريخ.
وأما الجانب السلبي: فيتلخص بضرورة رفض كل رواية لم تكن من ذاك القبيل، وإن كانت مما يؤخذ بها عادة بحسب الموازين العامة في سائر الروايات، كما لو كانت الرواية ذات سند موثوق... فإننا لا نقبلها ما لم تقم القرائن على صحتها أو تؤيدها غيرها من الروايات.
وبهذا التشدد السندي نستطيع أن نتلافى كل الصعوبات السابقة. إذ مع العلم أو الاطمئنان بصدق المضمون، لا يبقى لاحتمال الوضع أثر، كما لا يبقى لاحتمال النقيصة في المعنى أو اللفظ أو لاحتمال تغير المعنى عند تغير اللفظ، أي أثر. فإن كل ذلك إنما هو حديث عن رواية واحدة لو لوحظت باستقلالها، وأما لو انضمت إلى غيرها فلا معنى لهذا الاحتمال.
كما أن هذا الانضمام يرفع الناحية الأخيرة التي أشرنا إليها، وهو الجهل بترابط الحوادث. فإن الانضمام يجعلنا عالمين بهذا الترابط كما هو واضح.
النقطة الثانية:
من مصاعب هذه الروايات: مصاعب الدلالة.
تتصف روايات التنبؤ بحوادث المستقبل، بشكل عام، بصعوبات في الدلالة والمضمون، بعد الغض عن السند... تلك الصعوبات الناشئة من عدة مناشئ رئيسية، يحتمل وجود واحد منها أو أكثر في كل رواية مروية في هذا الصدد، على ما سنرى.
وينبغي أن نتحدث أولاً، عن السبب الذي أوجب صدور هذه الروايات عن قائليها بشكل رمزي صعب الفهم إلى حد كبير. ثم نتحدث ثانياً عن أسباب الصعوبة بالنسبة إلى فهمنا الخاص بعد أن تكون الروايات قد وصلت إلينا. ومن هنا يقع الحديث في ناحيتين:
الناحية الأولى:
في التحدث عن الأسباب التي دعت النبي (ص) والأئمة (ع) للتكلم عن حوادث المستقبل بشكل أقرب إلى الغموض والإبهام. وترك السير – بتعمد واضح – في طريق التوضيح والتفصيل.
وما يمكن أن نتصوره من أسباب ذلك، بحسب ما نستطيع تشخيصه الآن، يمكن إيراده ضمن عدة أمور:
الأمر الأول:
قانون: خاطب الناس على قدر عقولهم.. هذا القانون الذي سبق أن ذكرنا إنه عرفي وصحيح، وقد مشى عليه النبي (ص) والأئمة (ع) في سائر كلماتهم.
فلئن كان النبي (ص) أو الإمام (ع) على مستوى إدراك الواقع التاريخي المتحقق بعد ألف عام أو عدة آلاف من السنين، بحيث يرى المستقبل ببعد نظره وتوفيق ربه، كما يرى الحاضر.. فإن البشر لم يكونوا في أي عصر من العصور على هذا المستوى من الفهم على الإطلاق. وغاية ما نرى الحكومات الحاضرة على كثرة مفكريها ودقة سياساتها، إنها تستطيع أن تخطط لخمس سنوات أو عشر سنوات، على نحو محتمل غير مضمون التطبيق الكامل، في الأغلب.
وأما التخطيط وبعد النظر إلى مئات وآلاف السنين، فهو خاص بالله عز وجل ومن ارتضى من رسول ومن علمه الرسول (ص) من هذا العلم. وهو علم ضروري للأئمة المعصومين (ع)، كي يستطيعوا أن يأخذوا بالتخطيط الإلهي إلى حيز التنفيذ، كما سمعنا طرفاً منه، وسنسمع طرفه الآخر فيما يأتي وعلى أي حال، فالناس قاصرون دائماً عن إدراك مثل هذا العلم وتقبل مثل هذه الأخبار، إذن فلا بد للإمام أخذاً بقانون التفاهم العرفي أن يببرز للناس من الحقيقة ما لا ينافر أفهامهم وما يتناسب مع واقع حياتهم. وحيث أن الواقع المعبر عنه، أوسع وأعمق مما يستطيعون فهمه، إذن فلا بد من اللجوء إلى الرمز والغموض في التعبير، حفظاً لمستوى التفاهم العام.
الأمر الثاني:
إن هناك مصلحة مهمة في جعل الفرد المسلم منتظراً لظهور المهدي (عليه السلام) في كل حين، ومستعداً نفسياً لتلقي هذا النبأ الكبير... ومن المعلوم أن النبي (ص) أو الإمام (ع)، لو أخبر عن الحوادث بشكل واضح ومفصل، فإن هذا الجو النفسي يتغير إلى حد كبير. فإن الناس سوف يصبحون عالمين بعدم قيام المهدي (عليه السلام) وظهوره ما دامت تلك الحوادث لم تحدث.
وينحصر المحافظة على مستوى الانتظار المطلوب، إذا كان الأخبار بالحوادث مشوباً بالغموض والتعميم وإهمال تحديد التاريخ. بحيث يحتمل حدوث الحادثة الموعودة في أي عصر، فيحتمل حينئذٍ ظهور المهدي (عليه السلام) بعدها في ذلك العصر.
الأمر الثالث:
إننا نحتمل – على الاقل – أن الحوادث لو كانت قد عرضت مفصلة، لأوجبت فشل التخطيط الإلهي للإعداد لظهور المهدي (عليه السلام)، لإمكان استغلال المستغلين لها قبل حدوثها، وإمكان تلافي ما يتوقع أن تنتجه من الظلم، واستدرار ما يمكن أن تدره من ربح. وهذا ليس فيه مصلحة. بل إنما يكون التخطيط ناجحاً إذا جاءت الحادثة عفوية وعلى طبق التطور الطبيعي للتاريخ.
إذن فالإغماض عند عرض الحوادث، يعتبر مشاركة فعلية من قبل النبي (ص) والإمام (ع) في إنجاح المخطط الإلهي، لإيجاد شرائط الظهور.
الأمر الرابع:
إن النبي (ص) أو الإمام (ع) إنما يذكر بعض حوادث المستقبل لمحل الاستشهاد أوعبرة أو موعظة أو نحو ذلك. إذن فلا بد له أن يقتصر على المقدار الذي يوفي المطلوب، ويكون من المستهجن – عادة – الاستمرار في سرد تفاصيل الحوادث أكثر من ذلك. شأنه شأن القرآن الكريم نفسه، الذي اقتصر من تفاصيل القصص على موضع العبرة ومورد التربية للسامعين، وترك سائر التفاصيل. فكذلك الحال بالنسبة إلى النبي (ص) أو الإمام (ع) حين يعرب عن حادثة من حوادث المستقبل.
يستثنى من هذا الوجه، الروايات التي تكون بصدد بيان حوادث المستقبل مباشرة كذكر أشراط الساعة أو علامات الظهور. فإن لا يكون من المستهجن في مثلها الاستمرار في بيان الحوادث. ومعه يكون الغموض مستنداً إلى الوجوه الأخرى.
الأمر الخامس:
أمر فلسفي عقائدي، يعود إلى النبي (ص) أو الإمام (ع) بأن يخبر بما لا يدخله المحو والإثبات، ويهمل ما يحتمل أن يدخله ذلك، لاحتمال ظهور عدم مطابقته للواقع.. على تفصيل وتحقيق ليس له مجال في المقام.
فإذا عرفنا هذه الأسباب الرئيسية للغموض والإجمال في مداليل الروايات التي نتكلم عنها.. نستطيع أن ندخل، ونحن على بينة من أمرنا، في البحث عن تشخيص المناشئ الرئيسية اللفظية او المعنوية للغموض، لكي نعود بعدها إلى تشخيص ما يمكن أن يكون ميزاناً لتلافي هذه المناشئ، والخروج عن مصاعبها، وفهم الروايات فهماً مستقيماً صحيحاً.
مناشئ الغموض:
ويمكن عرض أهم هذه المناشئ، فيما يلي:
المنشأ الأول:
الرمزية. والمراد بها استعمال المعنى التركيبي أو الجملي، وإرادة معنى آخر، غير ما يفصح عنه اللفظ بوضوح.
وهذا هو الذي يميز الرمز عن الكناية والمجاز، فإنها لا تكون إلا في مفردات الألفاظ أو النسب الكلامية، بخلاف الرمز فإنه يكون – عادة – في الجمل التركيبية.
ومن هنا يمكن أن يكتب الفرد صفحة أو عدة صفحات من الكلام ذات معان معينة، ولكن لا يريد الكاتب أي واحد من المعاني على التحديد، وإنما يرمز بها إلى معان أخرى، لا يمكن التوصل إليها إلا عن طريق قرائن خاصة أو قرائن عامة متفق عليها.
وهذا النحو من الرمز وجد في الكلام العربي القديم. وهو شائع في هذه العصر في الأدب، وخاصة في مدرسة (الشعر الحر). وهو الذي يفسر لنا عدداً من موارد الغموض في تلك الروايات.
مثاله: التعبير في الروايات بمثل قوله: تفقأ عين الدنيا أو قوله: تخرج من اليمن نار تضيء لها أعناق الأبل في بصري. فإن كل ذلك ليس على وجه الحقيقة، وإنما هو رمز عن حوادث أو حركات تاريخية معينة لإيراد التصريح بها أو عرضها بشكل تفصيلي.
ومن المؤسف أن الناس حين غفلوا عن هذا المنشأ، حملوا مثل هذه التعبيرات على معانيها المباشرة الحقيقية. وبعدها انقسموا إلى قسمين: فهناك من الناس من يصدق بما يسمعه ويفهمه من هذه الروايات، ويحملها على المعجزات وخوارق العادات وإن كان يجهل مناشئها ومصالحها. وهناك من الناس من هو مكذب لهذه المعاني ساخط عليها، بل على كل روايات التنبؤ بالمستقبل.
مع إن كلا المسلكين، مما لا حاجة إلى الالتزام به. إما المسلك الأول: فلأن المعجزات لا تكون إلا بقانون – كما سبق أن عرفنا – فلا بد من تطبيق الروايات عليه، قبل الالتزام بمضمونها جملة وتفصيلاً. على إننا لا يمكن أن نحمل مضمون الرواية على المعجزة ما لم نتأكد من فهمها أولاً. وقد عرفنا إنه من المحتمل – على أقل تقدير – أن يراد بها معان أخرى غير ما هو ظاهرها، وقد يكون ذلك معنى لا يمت إلى المعجزة بصلة. ولعل استبعاد الفهم الإعجازي في عدد من الحالات، يكون قرينة على الرمزية، وإمكان حملها على ذلك.
وأما المسلك الثاني: فهو باطل أيضاً، باعتباره منطلقاً من الاعتقاد بتشويش هذه الروايات وغرابة مضامينها، ونحن بعد أن نثبت تنظيمها وصحة مداليلها، لا يكون لها المسلك أي موجب. مضافاً إلى أن كثرة هذه الروايات إلى حد تفوق حد التواتر، يمنع من إنكارها جملة وتفصيلاً كما هو واضح.
نعم، يبقى البحث عن الأمر المرموز إليه بهذا الرمز أو ذاك. ما هو؟ ويكف نعرفه؟ فهذا ما سنبحثه بعد قليل.
المنشأ الثاني:
استعمال مفاهيم معينة ذات مداليل ومصاديق خاصة، بحسب ما يعيشه الناس في عصر صدور الرواية. ومن المؤكد أنهم لم يفهموا منه إلا ذلك. إلا أن النبي (ص) أو الإمام (ع) أراد منها مصاديق أخرى، هي المصاديق والتطبيقات التي تكون لهذا المفهوم في عصر حدوث الحادثة التي يخبر عنها.
مثال ذلك: قولهم عليهم السلام: إن المهدي (عليه السلام) يقوم بالسيف. والمراد به قوة السلاح المناسب لعصر الظهور. على حين لم يفهم المعاصرون للنبي أو الإمام إلا السيف نفسه.. ولعلهم أضافوا إليه في مخيلتهم الدرع والرمح أيضاً..!
ومثاله الآخر: إخبارهم عن جيش يخسف به في البيداء، فإنه من المؤكد أنه لم يفهم الناس، حين سماعهم هذا الخبر لأول وهلة، إلا كونه جيشاً محارباً بالسيف على الغرار القديم. مع أن مثل هذا التخيل مما لا موجب له، بل إن الجيش محارب بسلاح عصره لا محالة.
المنشأ الثالث:
الحذف وعدم التعرض إلى التاريخ المحدد تارة وإلى المكان أخرى وإلى أسماء الأشخاص ثالثة.. وإلى أهداف ومناهج وإيديولوجيات الحركات الموعودة في التاريخ، رابعة.. وغير ذلك من الأمور. مما يجعل العلم المفصل بالحوادث متعذراً إلى حد كبير.
مثاله: التعبير بالنفس الزكية وبالسفياني، وعدم التعرض إلى أسمائهم صراحة. والأخبار بخروج رايات سود من خراسان، أو بوجود طائفتين متحاربتين ودعوتهما واحدة.. مع عدم التصريح بأن دعوة هؤلاء الناس قائمة على حق أو على باطل.. إلى غير ذلك من الأمثلة.
المنشأ الرابع:
سبب نفسي من المطلعين على هذه الروايات من الباحثين، يحمل الفرد على عدم الإذعان والتصديق أو صعوبته بتحقق الحادثة أو صدق الرواية، وإن توفرت فيها شرائط السند، وزالت المناشئ الثلاثة الأولى لغموض الدلالة.
وهذا الاتجاه النفسي له عدة مناشئ.. أهمها ما يلي:
أولاً: احتمال الحذف أو التغيير خلال النقل. فإن اختلال الحرف الواحد بل النقطة الواحدة، فضلاً عن الكلمة والأكثر، مما يخل بالمقصود ويغير المعنى.. وبخاصة في مثل هذا الحقل من المعرفة الإنسانية.
ثانياً: استبعاد وقوع كل الحوادث المخبر بها في مجموع الروايات. فإن كثرة هذه الروايات، كما تجعلها متواترة نعلم بصدق عدد مهم منها.. كذلك تجعلنا نعلم أو نظن – على الأقل – بكذب عدد آخر منها. ومن المعلوم أننا لا نستطيع أن نشخص المعلوم الصدق من معلوم الكذب. فإن كل رواية لو أخذناها لرأيناها محتملة الصدق والكذب.
ثالثاً: عدم التأكد من مطابقة عدد من المعجزات المروية في هذه الروايات، مع قانون المعجزات الذي ذكرناه.. أي عدم التأكد من أن هذه المعجزات واقعة في طريق إقامة الحجة. ومن المعلوم أنها لو لم تكن واقعة في هذا الطريق، فمقتضى القاعدة نفيها وتكذيب راويها.
وعلى أي حال فهذه هي المناشئ المهمة للغموض والتشكيك في دلالة هذه الروايات. وهناك مناشئ أخرى تكون في مورد دون مورد... لا حاجة إلى التعرض لها.
منهج التمحيص الدلالي:
بعد أن عرنا هذه المناشئ الرئيسية للغموض والإبهام في روايات التنبؤ عن المستقبل، لا بد لنا أن نعرض منهجاً يذللها وإسلوباً من الفهم يبسط محتواها ويربط بين أجزائها، لكي نتلافى تلك الصعوبات إلى أكبر حد ممكن.
ونبدأ أولاً بمناقشة المنشأ الرابع، لكونه خاصاً بالسامع، أي بأسلوب وصول
الفصل الثاني: فيما دلت عليه الأخبار من التنبؤات
فيما دلت عليه أخبار التنبؤ من حوادث وصفات للأفراد والمجتمع، فيما يخص مقدار تمسكهم بالدين وشعورهم بالمسؤولية الإسلامية عقائدياً وسلوكياً
ونتكلم في هذا الفصل عن ناحيتين رئيسيتين، من حيث استفادة التفاصيل المطلوبة من القواعد العامة تارة ومن الأخبار الخاصة تارة أخرى.
الناحية الأولى
فيما تقتضيه القواعد العامة من شكل أوضاع المجتمع ومصيره إلى الإنحراف، ومقدار حاجته إلى ظهور المهدي(ع) لنشر الحق والعدل فيه.
ويتم بيان ذلك بكشف القناع عن التخطيط الالهي لليوم الموعود، مدعماً بفلسفة ذلك ومناشئه وآثاره. ويتوقف بيان ذلك على عدة جهات:
الجهة الأولى:في مناشيء التخطيط الالهي:
ويمكننا أن نعرض ذلك ضمن عدة نقاط:
النقطة الأولى:
إن الله تبارك وتعالى خلق الخلق متفضلاً، ولم يخلقهم عبثاً ولم يتركهم هملاً. بل خلقهم وهو غني عنهم، لأجل حصولهم على مصالحهم الكبرى ووصولهم إلى كمالهم المنشود، المتمثل بإخلاص العبادة لله تعالى. قال عز من قائل: (وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون).(١٨٨)
إذن فالغرض من الخليقة هو الحصول على هذا الكمال العظيم المتمثل بتوجيه العقيدة والمفهوم إلى الله عز وجل، وقصر السلوك على طاعته وعدله في كل حركة وسكون. وإذا نظرنا إلى حقيقة هذا الكمال من جوانبه المتعددة، واستطعنا تحصيل الفكرة المتكاملة عنه، عرفنا الهدف الالهي المقصود الذي أصبح هدفاً لإيجاد الخليقة.
الجانب الأول:
إيجاد الفرد الكامل. من حيث أن قصر الإنسان نفسه على التربية بيد الحكمة الالهية الكبرى وتحت إشرافها وتدبيرها، يوجد فيه الإنسان العادل الكامل، الذي يعيش محض الحرية عن إنحرافات العاطفة والمصالح الضيقة، والمساوق في إنطلاقه مع إنطلاقة الكون الكبرى إلى الله عز وجل.
الجانب الثاني:
إيجاد المجتمع الكامل، والبشرية الكاملة المتمثلة من مجموعة الأفراد الذين يعيشون على مستوى العدل والإخلاص، والتجرد من كل شيء سوى عبادة اله تعالى، تلك العبادة التي تتضمن تربية الفرد والمجتمع، والارتباط بكل شيء على مستوى العدل الالهي.
الجانب الثالث:
إيجاد الدولة العادلة التي تحكم المجتمع بالحق والعدل، بشريعة الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. وتكون هي المسؤولة الأساسية عن السير قدماً بالمجتمع والبشرية نحو زيادة في التكامل في الطريق الطويل غير المتناهي الخطوات.
فهذا هو معنى العبادة المقصود في الآية، وكل ما كان على خلاق ذلك فهو تقصير في العبادة الحقيقية تجاه الله عز وجل، ولا يمكن أن نفهم من الآية هذا المعنى القاصر بطبيعة الحال.
النقطة الثانية:
إن الآية واضحة الظهور في أن الغاية الأساسية والغرض الأصلي من إيجاد البشرية هو إيجاد هذه العبادة الكاملة في ربوع البشرية، أو إيصالها إلى هذا المستوى الرفيع. وذلك بقرينة وجود التعليل في قوله تعالى: ليعبدون، مع الحصر المستفاد من الآية من وقوع أداة الاستثناء (إلا) بعد النفي حين قال عز من قائل: (وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون).
إذن فهذا هو الهدف الوحيد المنحصر الذي لا شيء وراءه من خلقة البشرية، المعبر عنهم بالإنس. وهذا الهدف ملحوظ ومخطط بشكل خاص منذ بدء الخليقة، ويبقى ـ بطبيعة الحال ـ مواكباً لها ما دامت البشرية في الوجود.
وهذا بالضبط هو ما نعنيه حين نقول: أن الله تعالى لم يخلق البشرية لأجل مصلحته، فأنه غني عن العالمين، وإنما خلقهم لأجل مصلحتهم. وأي مصلحة يريدها الله لعباده غير كمالهم ورشدهم وصلاحهم المتمثل بالعبادة المخصلة والتوجه إليه بالخيرات نحوه عز وعلا.
النقطة الثالثة:
إن الغرض الالهي من خلق البشرية، ما دام هو ذلك، إذن فلا بد أن يشاء الله تعالى إيجاد كل ما يحققه والحيلولة دون كل ما يحول عنه... شأن كل غرض إلهي مهم.... فإن الحكمة الأزلية حيت تتعلق بوجود أي شيء، فإن تخلفه يكون مستحيلاً، وتكون إرادة الله تعالى متعلقة بإيجاده لو كان شيئاً آنياً فورياً، أو التخطيط لوجوده لو كان شيئاً مؤجلاً ومحتاجاً إلى مقدمات من الضروري أن توجد قبله.
وقد برهنا في رسالتنا الخاصة بالمفهوم الإسلامي للمعجزة أن الغرض الالهي المهم إذا تعلق بهدف من الأهداف، فإنه لا بد من وجود ذلك الهدف، ولو استلزم بوجوده أو ببعض مقدماته خرق قوانين الطبيعة، وإيجاد المعجزات. فإن القوانين الطبيعية إنما أوجدها الله تعالى في كونه لأجل تنفيذ أغراضه من إيجاد الخلق. فإذا توقفت تلك الأغراض على انخرام تلك القوانين وحدوث المعجزات أحياناً أو في كثير من الأحيان.... كانت تلك القوانين الطبيعية قاصرة عن الممانعة والتأثير.
وهذا هو الذي يلقي الضوء على الفكرة الأساسية التي يقوم عليها (قانون المعجزات) الذي أشرنا إليه.... ونؤجل الغوص في تفاصيل ذلك إلى رسالتنا الخاصة بها.
النقطة الرابعة:
أننا نجد بالوجدان القطعي أن هذا الغرض الالهي المهم الذي نطقت به الآية بالمعنى الذي فهمناه، لم يحدث في تاريخ البشرية على الإطلاق منذ وجودها إلى العصر الحاضر. إذن فهو باليقين سوف يحدث في مستقبل عمر البشرية بمشيئة خالقها العظيم. وهذه هي الفكرة الأساسية التي ننطلق فيها إلى التسليم بالتخطيط الالهي لليوم الموعود.
ولئن كان المنطق الأساسي في هذا البرهان هوقوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون)... فإنه يمكن الإنطلاق إلى نفس النتيجة من آيات قرآنية أخرى نذكر منها آيتين، مع بيان الوجه في الاستدلال مختصراً، ونحيل التفصيل إلى الكتاب الخامس من هذه الموسوعة الخاص بإثبات وجود المهدي (عليه السلام) عن طريق القرآن الكريم.
الآية الأولى:
(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً. ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون).(١٨٩)
فهذا وعد صريح من الله عز وجل، و(إن الله لا يخلف الميعاد)(١٩٠) للبشرية المؤمنة الصالحة التي قاست الظلم والعذاب في عصور الإنحراف وبذلت من التضحيات الشيء الكثير... بأن يستخلفهم في الأرض، بمعنى أنه يوفقهم إلى السلطة الفعلية على البشرية وممارسة الولاية الحقيقية فيهم.
فإذا استطعنا أن نفهم من (الأرض) كل القسم المسكون من البسيطة، كما هو الظاهر من الكلمة والمعنى الواضح منها حملاً للأم على الجنس بعد عدم وجود أي قرينة على انصرافها إلى أرض معينة. ومعنى حملها على الجنس: إن كل أرض على الإطلاق سوف تكون مشمولة لسلطة المؤمنين واستخلافهم وسيحكمون وجه البسيطة.
وهذا هو المناسب مع الجمل المتأخرة في الآية الكريمة، كقوله تعالى: (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم). فإن التمكين التام والاستقرار الحقيقي للدين، لا يكون إلا عند سيادته في العالم أجمع. وكقوله تعالى: (وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً).... بعد أن نعرف أن المؤمنين كانوا قبل الاستخلاف يعانون الخوف في كل مناطق العالم لسيادة الظلم والجور في العالم كله. فلا يكون الخوف قد تبدل إلى الأمن حقيقة إلا بعد أن تتم لهم السلطة على وجه البسيطة كلها.
فإذا تم لنا من الآية ذلك، ولاحظنا وجداننا الذي ذكرناه وهو أن هذا الوضع الإجتماعي العالمي الموعد، لم يتحقق على مدى التاريخ منذ فجر البشرية إلى عصرنا الحاضر. إذن فهو مما سيتحقق في مستقبل الدهر يقيناً طبقاً للوعد الالهي القطعي غير القابل للتخلف أو التمييع.
الآية الثانية:
قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون).(١٩١)
وهي تعطينا بوضوح، الغاية والغرض الرئيسي من إرسال رسول الإلسام صلى الله عليه وآله بالهدى ودين الحق. يدلنا على ذلك قوله تعالى ليظهره، حيث دلت لام التعليل على الغاية، والسبب في إنزال شريعة الإسلام وهو أن يظهره أي يجعله منتصراً ومسيطراً على غيره من الأديان والقائد كلها. وذلك لا يكون إلا بسيطرة دين الحق على العالم كله.
وإذا كان هذا غاية من إرسال الإٍسلام، إذن فهو يقيني الحدوث في مستقبل الدهر. لأن الغايات الالهية غير قابلة للتخلف.
ولئن دلت هاتان الآيتان على نفس المطلوب... إلا أن قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، أهم في مقام الاستدلال على ذلك، لأنها تدلنا على الغرض الأسمى لخلق البشرية أساساً ذلك الغرض الذي كان موجوداً منذ بدء الخلق. بخلاف الآيتين الأخيرتين، فإنهما مختصتان بمضامين محدودة نسبياً، كما يتضح لمن فكر في مدلوليهما.
وإن هاتين الآيتين في الواقع، من تطبيقات ذلك الغرض الأسمى الذي نطقت به، الآية الكريمة الأولى، كما سيتضح بعد قليل عند معرفتنا بتفاصيل التخطيط الالهي لليوم الموعود.
النقطة الخامسة:
إن تكامل الفرد، وبالتالي تكامل المجتمع البشري، يتوقف ـ بعد أن وهبه الله عز وعلا العقل والاختيار ـ على عاملين: عامل خارجي وعامل داخلي أو قل: عامل موضوعي وعامل ذاتي.
أما العامل الخارجي الموضوعي، فهو إفهام الفرد ـ وبالتالي المجتمع ـ معنى العدل والكمال الذي ينبغي أن يستهدفه والمنهج الذي يجب عليه أن يتبعه في حياته ويقصر عليه سلوكه.
وهذا الإفهام لا يمكن صدوره إلا عن الله عز وجل، بعد البرهنة على عدم إمكان توصل البشرية إلى كمالها ومعرفتها بالعدل الحقيقي إذا عزلت فكرياً عن الحكمة الأزلية الالهية، كما صح البرهان عليه في بحوث العقائد الإسلامية. ومن ثم لا يمكن أن يتحقق الغرض الالهي المهم في هداية البشرية وإيجاد العبادة الكاملة في ربوعها، إذا أوكلت البشرية إلى نفسها وفكرها القاصر، وألقي حبلها على غاربها. إذن، فلا بد من أجل التوصل إلى ذلك الغرض الكبير من أن يفهمها الله تعالى معنى العدل والكمال وتفاصيل السلوك الصالح الذي يجب اتخاذه.
وحيث أن إفهام البشرية من قبل الله تعالى بالمباشرة والمواجهة مستحيل، كما صح البرهان عليه في بحوث العقائد الإسلامية، احتاجت البشرية إلى أن يرسل الله تعالى إليها أنبياء مبشرين ومنذرين. وأن يكون إرسالهم وإثبات صدقهم طبقاً لقانون المعجزات. لأن هذه المعجزات تقع في طريق هداية البشر والوصول إلى إيجاد الغرض المهم من إيجادهم.
ومنه نستطيع أن نلاحظ، كيف أن خط الأنبياء الطويل، والأعداد الكبيرة منهم، إنما كان باعتبار التقديم والتمهيد للغرض الكبير. باعتبار أن البشرية حين أول وجودها كانت قاصرة عن فهم تفاصيل العدل الكامل، فلم يكن في الإمكان إيجاد المجتمع العادل الكامل الموعود في ربوعها لأول وهلة. بل كان لا بد أن تتربى البشرية تدريجياً إلى أن تصل إلى المستوى اللائق الذي يؤهلها لمجرد فهم العدل الكامل الذي يريد الله تعالى تطبيقه في اليوم الموعود.
ومن هنا نعرف أن الأنبياء إنما تعددوا وتكثروا من أجل إعداد البشرية وتربيتها للوصول إلى هذا المستوى اللائق... لكي يتم لها هذا العامل الخارجي الأساسي وهو إفهامها العدل الكامل والأطروحة النظرية التامة للعدل التشريعي الذي يريد الله تعالى تطبيقها على وجه الأرض، والتي بها تتحقق العبادة الكاملة التي يرضاها الله تعالى لخلقه، وبها يتحقق الهدف الأساسي لإيجاد الخليقة.
وأما العامل الداخلي الذاتي، فهو الشعور بالمسؤولية تجاه الأطروحة العادلة الكاملة، باعتبار أنها إنما تضمن العدل فيما إذا أطاعها الأفراد وطبقت في حياتهم، وهي إنما تضمن الطاعة التامة، مع وجود الشعور بالمسؤولية، إذن فلا بد من أجل وجود العدل أن يوجد هذا العامل الداخلي الذاتي في الإنسان.
وإنما يوجد الشعور بالمسؤولية وينمو، نتيجة لأسباب ثلاثة، مقترنة:
السبب الأول:
إدراك العقل لأهمية طاعة الله والخضوع له والإنصياع إلى أوامره ونواهيه، باعتباره مستحقاً للعبادة مع غض النظر عن أي اعتبار آخر.
السبب الثاني:
الشعور بأهمية طاعة الله تعالى، باعتبارها الضامن الحقيقي للعدل المطلق، على المستويين الفردي والإجتماعي، أو بتعبير آخر: تربية الإخلاص الذاتي لطاعة الله باعتبار المعرفة الواضحة بضمانها للعدل المطلق.
السبب الثالث:
العامل الأخروي المتمثل بالطمع بالثواب الذي رصده الله تبارك وتعالى للمطيعين، والخوف من العقاب الذي توعد به العاصين والمذنبين.
وهناك فرق أساسي في طرق إيجاد هذه الأسباب. فالسببان الأول والأخير يوجدان بالتربية النظرية فقط، ويتحققان بمجرد الفات الفرد إليهما وتصديقه بصحتهما. وأما السبب الثاني، فالبرهنة النظرية عليه غير كافية بطبيعة الحال، بشكل ينتج الإخلاص والوعي الحقيقيين والاستعداد للتفاني في سبيل العدل المطلق.... في سبيل الله تعالى. بل يحتاج ذلك إلى تمرين طويل الأمد وتجربة وممارسة.
ومن هنا تنبثق أهمية هذه التجربة والممارسة في تربية الإخلاص بشكل خاص، والتكامل بشكل عام... بصفة إحدى المقدمات الأساسية والأسباب الرئيسية لإيجاد المجتمع العادل، الذي يتحقق فيه الغرض الأساسي لإيجاد البشرية.
النقطة السادسة:
إن التجربة والممارسة التي عرفنا أهميتها في تربية الإخلاص والإندفاع إلى الطاعة، إذا لاحظناها على أساس فردي لم تكتسب أهمية أكثر من انتاج الإخلاص والتكامل للفرد الواحد. وأما إذا لاحظناها على أساس عام، وقلنا أن المجتمع بصفته مكوناً من أفراد، والأمة بصفتها مكونة من مجتمعات، يجب أن تمر بدور التربية والتجربة التي تنمي فيها روح الإخلاص والطاعة تجاه تعاليم الله عز وجل.
إذن تكتسب تربية الأمة والتجربة التي يجب أن يمر بها الأمة نفس الأهمية الكبرى، باعتبارها مقدمة حقيقية للغرض الالهي الكبير من إيجاد الخليقة. فإذا علمنا ـ كما سبق ـ أن الله تعالى يفعل أي شيء يكون مقدمة لوجود غرضه الأساسي.... إذن فهو ـ بكل تأكيد ـ سوف يخطط لتربية الأمة على هذا الطريق.
وقد يخطر في الذه هذا السؤال: إن هذه التربية حين تكون مقدمة للغرض الالهي، ويكون الغرض مهماً بحيث عرفنا أنه يمكن إقامة المعجزات في سبيل التمهيد إليه. فلماذا لا توجد هذه التربية في ربوع الأمة دفعة واحدة عن طريق المعجزة؟
والجواب على هذا السؤال يكون من وجوه ثلاثة:
الوجه الأول:
إن إيجاد الإيمان والإخلاص في أنفس الأفراد بطريق المعجزة، يؤدي بنا إلى القول بأن الله تعالى يجبر الأفراد على الطاعات وترك المعاصي وهذا مبرهن على بطلانه وفساده في بحوث العقائد الإسلامية.
الوجه الثاني:
إن هذا الأسلوب المقترح من المعجزة ينافي قانون المعجزات، إذن فلا يمكن وجود مثل هذه المعجزة.
والسبب في ذلك هو أن قانون المعجزات، كما عرفناه، يقضي بعدم قيام المعجزة ما لم يكن قيامها طريقاً منحصراً لإقامة الحجة وهداية البشرية. وأما إذا كانت للنتيجة المطلوبة أساليب طبيعية غير إعجازية، كان عدم قيام المعجزة حتمياً، وأوكل الله تعالى إيجاد النتيجة إلى أسبابها الطبيعية نفسها، مهما طال الزمن بهذه الأسباب والنتائج. فإن الله تعالى طويل الانات ولا يفرق في ذاته مرور الزمان.
فإذا طبقنا ذلك على مورد حديثنا، وجدنا أن لتربية الأمة أسباب طبيعية سوف نعرض لها في النقطة الآتية، يمكن أن تنتج نتائجها خلال زمان طويل. ومعه يكون عدم قيام المعجزة لإيجاد تلكم النتائج الحتمية.
الوجه الثالث:
أننا لو تنزلنا ـ جدلاً ـ عن الوجهين السابقين. وقلنا بإمكان تربية الأمة عن طريق المعجزات. فيكون الأمر دائراً ومردداً بين تربية الامة عن هذا الطريق أو تربيتها عن الطريق الطبيعي. عندئذ يمكن القول: أن الأهداف التربوية التي يمكن إيجادها بالطرق الطبيعية أفضل بكثير من الأهداف التربوية التي يمكن إيجادها بالمعجزات. ولا تتحقق العبادة الكاملة المطلوبة لله عز وجل إلا باختيار أفضل الفردين. ومن هنا لا بد من الالتزام بعدم قيام المعجزات لأنها الطريق الأردأ في تربية الأمة.
والسبب في ذلك: هي أن التربية إن وجدت بطرقها الطبيعية، كانت متضمنة لمرتبة عالية من الرشد والنضج من الناحية السلوكية والعقائدية، لأن من الطرق الطبيعية للتربية ـ على ما سنعرف ـ التمحيص والاختبار، والمرور بالتجارب القاسية. فإذا خرج الفرد من التمحيص والتجربة ناجحاً منتصراً، كان إخلاصه قد اكتسب نضجاً ورشداً لم يكن في السابق، باعتبارأن الفرد أصبح يعرف ما هي ردود الفعل المطلوبة تجاه المصاعب، وما هي قيمة العدل في حل مشاكل البشرية بإزاء الحلول الأخرى الفاشلة التي عرضها الآخرون. وكل ذلك لا يكون إلا خلال ردح طويل من الزمن.
بخلاف المعجزة، فإنها إن أحدثت المجتمع الصالح، فإنها لا يمكن أن توجد نضجه ورشده بأي حال، بل سوف يكون مجتمعاً فجاً وعدلاً صورياً بطبيعة الحال. ما لم تفترض أمور أخرى إضافية كنزول الوحي على كل أفراد الأمة... أو نحو ذلك مم الم تقم عليه الدعوة الالهية على طول خط التاريخ الطويل.
النقطة السابعة:
في محاولة التعرف على الأسباب الطبيعية للتربية وإيجاد الإخلاص.
تتوقف التجربة والممارسة التي يجب أن تمر بها الأمة في تربيتها الطويلة... على أحد عاملين:
العامل الاول:
التطبيق الفعلي الحي للمجتمع العادل المطلق، حتى يراه الناس ويحبوه ويقدموا مصالحه العامة على مصالحهم الخاصة. فإن شعور الناس بوجود العدل المطلق مبطقاً على وجه الأرض، يكفي بمجرده في توجيه عواطف الناس وصهر إخلاصهم إلى حد بعيد.
العامل الثاني:
مرور الأمة خلال تربيتها بعوامل صعبة وظروف ظالمة عسرة، تجعلها تتوفر شيئاً فشيئاً على التعمق الفكري والعاطفي، وتصوغ منها في نهاية المطاف أمة شاعرة بالمسؤولية قوية الإرادة والعزم على تطبيق الأطروحة العادلة الكاملة.
وذلك بعد أن تعيش الأمة الشعور بأمرين مقترنين:
أحدهما: الشعور بأفضلية الأطروحة العادلة، لا بشكل نظري فحسب، بل بشكل حسي معاش. بعد أن تمت المقارنة لدى الأمة بكل وضوح بين هذه الأطروحة وبين سائر النظم والقوانين والنظريات المخالفة لها. وثبت بالتجربة فشل سائر النظم والنظريات، وأدائها إلى أنواع مختلفة من الظلم والتعسف. باعتبار النقص الذاتي الموجود في سائر النظم، ذلك النقص الذي تبرأ منه وتعلو عليه الأطروحة الكاملة.
ثانيهما: الشعور بأهمية التضحية الحقيقية على مختلف المستويات في سبيل الأطروحة الكاملة التي يؤمنون بها. والإحساس المباشر بلزوم الصبر والمثابرة والصمود أمام القوى الظالمة تمسكاً بالحق.
وبالرغم من صحة العاملين كليهما وأثرهما الأكيد في تربية الأمة. إلاّ أننا إذا فرضنا كلاً منهما معزولاً عن الآخر، نجد أن العامل الثاني أهم من الأول من جهتين أساسيتين:
أولاً: إن محبة الأطروحة العادلة والإخلاص لها عند تطبيقها، أمر موافق للهوى والمصالح الشخصية، لأنها تضمن للإنسان سعادته ورفاهه الفردي والإجتماعي.
وأما محبة الأطروحة العادلة في ظروف الظلم والتضحية، فهي محبة واعية عميقة تدفع الإنسان إلى المكافحة والجهاد في سبيل إيجاد الواقع الإجتماعي العادل.
ومن المعلوم أن المحب المخلص على الشكل الأول، إذا لم يمر بتجارب التضحية، يكون مهدداً بالإنحراف والإرتداد عند مواجهة أول صعوبة يجابهها، يشعر خلالها بالتنافي بين مصالحه الخاصة والمصالح العامة. فإذا كانت هذه الظاهرة عامة بين الأفراد... لم يكن ذلك التطبيق قابلاً للاستمرار والبقاء. ولا يمكن أن تكون هذه الظاهرة عامة بأي حال لو كان الإخلاص ناتجاً عن تضحية وصمود.
ثانياً: نعرف مما تقدم أن العامل الثاني يجب أن يكون متقدماً زماناً على العامل الأول، باعتبار توقف التطبيق الحقيقي عليه. فإن العدل لا يكون عميقاً وأساسياً في المجتمع، ما لم يكن كل الأفراد أو جلهم ـ على أقل تقدير ـ ممن شحذت اخلاصه التجارب ورفعت إيمانه وإرادته التضحيات، فإنهم يكونون أقدر على العمل وأسرع انتاجاً وأكثر تحملاً للصعوبات، مما يجعل العدل أعمق أثراً وأضمن للبقاء والاستمرار.
إذن فالغرض الالهي في إيجاد البشرية، يتوقف وجوده على الإخلاص المنصقل بالتجارب والتضحيات. ومن المعلوم أن هذا الصقل لا يمكن حصوله إلا بالمرور في تيار التجارب والتضحيات نفسه. وهذا التيار ليس إلا الظروف الصعبة والأزمنة المظلمة الظالمة التي تمر بها البشرية خلال الأجيال.
إذن يتبرهن بكل وضوح توقف الغرض الالهي في هداية البشر وإيجاد مجتمع العبادة الكاملة... على مرور البشرية في ظروف صعبة ظالمة، ليكونوا عند ابتداء التطبيق على مستوى المسؤولية المطلوبة للعدل، ويستطيعون بجدارة القيام به وبسهولة الانسجام معه.
النقطة الثامنة:
أنه من هذا المنطلق بالذات نعرف أهمية التمحيص والاختبار الذي دلت عليه الأخبار، كما سوف نسمع، وارتباطه الأساسي بالتقديم للهدف الالهي الكبير:
باعتبار أن ما تعيشه البشرية من ظروف ظالمة من ناحية وأمور مغرية من ناحية أخرى.... وكم للخوف والإغراء من قوة في الإندفاع ومن تأثير على النفس... فيكون ذلك حاملاً للفرد على الإنحراف عن الله تعالى والخروج على تعاليمه العادلة. ويصبح تطبيق هذه التعاليم على نفسه وغيره من أصعب الامور، كما قد وصف في بعض الأخبار، بأنه كالقبص على الجمر.
ومن هنا تكون هذه الظروف ومحاولة هذا التطبيق محكاً أساسياً لمدى الإخلاص وقوة الإرادة لدى الأفراد. فينهار العدد الإغلب من البشر في أحضان الظلم والإغرا، تبعاً لضعف إرادتهم، وتقديم مصالحهم الشخصية وراحتهم القريبة على الأهداف الكبرى والغايات القصوى.
ويبقى العدد الأقل صادمين مكافحين، تشتد إرادتهم وتقوي عزيمتهم، ويشعرون باللذة والفخر في مكافحة تيارات الإنحراف والفساد. ولا يزالون في تكامل وصمود حتى يبلغوا مستوى المسؤولية الكبرى في مواجهة العالم بالعدل المطلق في اليوم الموعود.
ويكون العالم عند تمخض قانون التمحيص هذا عن نتائجه كما نطقت به الأخبار... متكوناً من فسطاطين أو معسكرين: فسطاط كفر لا إيمان فيه وفسطاط إيمان لا كفر فيه. على ما سنسمع في الناحية الثانية من هذا الفصل.
فإن قال قائل: كيف يمكن التوفيق بين ما قلناه قبل قليل من لزوم كون الأمة بشكل عام، المتمثلة في أكثر أفراده، مخلصة إخلاصاً حقيقياً نتيجة للتجربة والتمحيص. وبين ما قلناه الآن من أن أغلب الناس سوف ينهارون تجاه الظلم والإغراء ولا يبقى من ذوي الإخلاص الحقيقي إلا القليل.
نقول في جواب ذلك: أنه يمكن القول أن النتائج الصالحة للتمحيص لا تختص بالقليل من البشر، وإن اختص هؤلاء بدرجات رفعية من الإخلاص لا يضارعهم بها غيرهم من الناس.
فإننا يمكن أن نرتفع بنتائج التمحيص، من الزاوية التي نتوخاها الآن، إلى أربع درجات:
الدرجة الأولى:
الإخلاص التام والوعي الكامل. الذي يتمثل باستعداد الفرد بالتضحية بكل عال ورخيص على الإطلاق في سبيل العدل الالهي وتطبيق تعاليم الرب العظيم وأهدافه الكبرى.
ويكون مثل هذا الفرد مؤهلاً لنيل بعض درجات القيادة والسلطة العسكرية أو المدنية في اليوم الموعود.
الدرجة الثانية:
الإخلاص الثابت المهم الذي يتمثل في قدرة الفرد على السيطرة بإرادته على كل صعوبة وإغراء مر به في حياته، من درجات الخوف والطمع المعروفة. بغض النظر عن أنه لو مر في حياته بدرجة أعلى من التمحيص والمصاعب فهل يستطيع النجاح أيضاً أو لا. وهذا هو الذي يفرق هذه الدرجة عن سابقتها.
وهذه الدرجة هي التي تؤهل الفرد لأن يكون واحداً من القواعد الشعبية الصالحة لدولة الحق في اليوم الموعود. أو أن يكون جندياً خلال الفتح العالمي في ذلك اليوم.
الدرجة الثالثة:
الإخلاص الإقتضائي: وهو أن يكون الفرد محباً للحق والعدل الالهي في دخيلة نفسه ومسايراً لظروف الظلم أو الإغراء إلى حد ما أيضاً.
فإننا نجد في كثير من الأفراد انفكاكاً بين العقيدة والسلوك. فبينما نجد عقيدته صالحة نجد سلوكه منحرفاً نتيجة لاضطراره وظروفه الشاذة واحتياجه إلى لقمة العيش. وهو في ذات الوقت من الممكن أن يكون مدركاً لمعنى الظلم وفظاعته، وللمسؤولية تجاه تعاليم الله العادلة. ولكنه يشعر بالقصور عن تطبيقها نتيجة لظروف الضغط والظلم التي يعيشها. ومن ثم فهو يدفن عقيدته ووعيه في قلبه ويساير الظلم والإغراء إلى بعض الخطوات.
ويمن في حق مثل هذا الفرد، أنه بمجرد أن ترتفع ظروف الظلم ويبدأ التطبيق العادل... فإنه سوف ينطلق إخلاصه الاقتضائي الكامن، بعد أن ارتفع عنه المانع، ويكون له حركة فعالة في المشاركة والتعاون في ظروف التطبيق الجديد.
الدرجة الرابعة:
أن لا يوجد الإخلاص بأي درجة من درجاته السابقة. ولكن يكون الفرد قد شعر بوضوح نتيجة لظروف التمحيص العالمي، بفشل التجارب التي عشاتها المبادئ والفلسفات التي ادعت حل مشاكل العالم وتذليل مصاعبه ونشر العدالة والرفاه في ربوعه. فإن هذه المبادئ بعد أن تعيش التجربة والتطبيق، وتتمخض عن نتائجها الرئيسية، سوف يبدو بوضوح للأعم الأغلب من البشر أنها لم تتمخض إلا عن الفساد والضياع نتيجة لقصورها الذاتي، كما سبق أن أشرنا، وقد أضافت إلى مشكلات العالم لا أنها قد ذللت منها شيئاً.
عندئذ ينبثق شعور خفي، في اللاشعور، بالحاجة العالمية الماسة إلى الحل الناجز الذي ينقذ العالم من ورطته ويخرجه من وهدته ويوقظه من رقدته.
وهذا الحل، وإن لم يكن ملتفتاً إليه بوضوح أو معروف بتفاصيله. ولكنه على أي حال، توقع نفسي غامض يمكن انطباقه على أول دعوة رئيسية جديدة تدعي حل مشاكل العالم وتذليل مصاعبه. ومن هنا تفوز مثل هذه الدعوة بتأييد كل من يمثل هذه الدرجة من نتائج ريثما كانت هذه الدعوة محتملة الصدق على أي حال.
فإذا كانت هذه الدعوة هي دعوة الحق، في يومها الموعود، فسيكون لهذا الجو النفسي العالمي أثره الكبير في دعم التطبيق العادل، في ذلك اليوم.
فهذه هي الدرجات الأربع التي يتمخض عنها التمحيص الالهي الكبير في عصر ما قبل الظهور. والتي تشارك، بشكل وآخر في بناء العدل في اليوم الموعود.
ونحن نستطيع أن نلاحظ بوضوح أن هذه الدرجات كلما ارتفعت قلَّ الأفراد المتصفون بها من البشر، وكلما نزلت كثر الأفراد المتصفون بها بطبيعة الحال. ومن هنا كان المتصفون بالدرجة الأولى من الإخلاص قليلين في البشر. وهم الذي سبق أن برهنا على أن الإمام المهدي (عليه السلام) يمكن أن لا يحتجب عنهم خلال غيبته الكبرى. كما كان المتصفون بالدرجة الرابعة، هم أكثر البشرية في العصر المباشر لما قبل الظهور. وتختلف الدرجتان الثانية والثالثة فيما بين هذين الحدين من العدد.
ومن هنا نستطيع أن نقول لمن يوجه السؤال السابق: أن الدرجات الصالحة الناتجة عن التمحيص الالهي تمثل بمجموعها عدداً كبيراً من البشر، بل الأعم الإغلب منهم. وليس العدد قليلاً كما تخيله السائل. وإنما العدد القليل منحصر بالدرجة العليا من الإخلاص، وهو مما لا يؤثر على التطبيق العادل الموعود شيئاً، باعتبار أن الأفراد الذي يمثلون هذه الدرجة، سيكونون بالمقدار الكافي الذي يقومون خلاله بمسؤولية القيادة الناجحة في اليوم الموعود. وليس من المتوقع من كل البشر أن يكونوا قواداً، بطبيعة الحال!....وعلى أي حال، فقد اتضحت من هذه النقاط الثمان، المناشئ الحقيقية للتخطيط الالهي لهداية البشر وتحقيق العبادة التامة في ربوعهم. كما اتضح البرهان على وجود هذا التخطيط، حيث يحتاج الأمر إلى مقدمات طويلة وطبيعية غير اعجازية. كما اتضحت جملة من ملامح هذا التخطيط، وما يلعبه الظلم والإنحراف الذي تعانيه البشرية على مدى التاريخ، من دور في هذا التخطيط الالهي الكبير.
وبقي علينا أن نعرف تفاصيل أعمق وأكثر عن هذا التخطيط، خلال الجهات الآتية، شروعاً بما قبل الإسلام وانتهاء بالعصر الحاضر.
الجهة الثانية:
التخطيط الالهي قبل الإسلام.
والمراد به الجزء الذي يعود إلى الفترة السابقة على الإسلام من عمر الخليقة، منذ دخلت عهد الفهم والإدراك إلى حين بعثة نبي الإسلام صلى الله عليه وآله.
وذلك: إن التخطيط الالهي الشامل لليوم الموعود، بدأ بوجود الخليقة نفسها، لأنه يعبر عن أسلوب تحقيق الغرض الأساسي من إيجادها. إذن فقد كان هذا التخطيط مستمراً قبل الإٍسلام وبقي مستمراً بعد الإسلام، وسيبقى نافذاً إلى يوم يتحقق به اليوم الموعود بتطبيق الأطروحة العادلة الكاملة.
وينبغي أن ننطلق في الحديث عن ذلك ضمن عدة نقاط:
النقطة الأولى:
في مشاركة الأنبياء إجمالاً في هذا التخطيط.
وهو ما سبق أن حملنا عن ذلك فكرة مختصرة، وينبغي لنا أن نحمل الآن فكرة تفصيلية عن السر الأساسي لذلك:
إن البشرية في مبدأ أمرها لم يكن يتوفر لديها، بطبيعة الحال، الشرط الأول والثاني، السابقين، من شرائط تطبيق العدل الكامل.(١٩٢) فهي لا تعرف ما هو ما هو العدل الكامل، ولا هي مخلصة له أو مستعدة للتضحية في سبيل تطبيقه لو عرفته.
فكان لا بد لها ـ كجزء من التخطيط ـ أن تمر بتربية طويلة الأمد من كلتا هاتين الناحيتين. فكان أن تكفل الأنبياء هذه المهمة، وهي تربية البشرية لتكون صالحة لفهم العدل الكامل. فكان كل نبي يشارك مشاركة جزئية قليلة أو كثيرة في ذلك، سواء علم الناس، بذلك في عصره أو جهلوه. لأن المهم هو تربيتهم الفكرية، وليس المهم الفاتهم بوضوح إلى هذا التخطيط.
وهذه التربية قد انتهت، واستطاعت البشرية ـ في نهاية المطاف ـ أن توفر الشرط الأول، فأصبحت قابلة لفهم الأطروحة العادلة الكاملة، فأرسل الله تعالى إليها تلك الأطروحة متمثلة بالإسلام. وبذلك تحقق الشرط الأول.
ولم تستطع البشرية إلى حد الآن أن توفر الشرط الثاني وهو استعدادها للتضحية في سبيل تطبيق العدل، وهي على أي حال في طريق التربية على ذلك.
وكان كل نبي بطبيعة الحال، بما فيهم نبي الإسلام (ص) يقرن تربيته الفكرية للناس بالتربية على الشرط الثاني أيضاً بمعنى إيجاد الإخلاص والاستعداد للتضحية في نفوس البشر. فكانت مشاركة الأنبياء في التربية الأولى متمثلة بما بلغوا من أحكام، وكانت مشاركتهم في التربية الثانية متمثلة بما قدموا من تضحيات ودماء.
إلا أن التربية الأولى أنتجت نتيجتها الكاملة، على حين لم تنتج التربية الثانية نتيجتها إلا في القليل من الناس. وذلك لمدى الضغط والإغراء الذي يوجهه الناس نحو الإنحراف من داخل نفوسهم وخارجها، على طول خط التاريخ، مما يجعل الحق في أفواههم مراً وتحمل العدل عليهم صعباً.. وينتج في نهاية المطاف بطء التربية على الإخلاص وصعوبتها.
النقطة الثانية:
لم يكن الأنبياء ليسكتوا عن تبليغ الناس، بشكل وآخر، بالغرض الأساسي من إيجاد البشرية. متمثلاً بإعلامهم أن هناك يوماً يأتي في مستقبل الزمان يسود فيه العدل الالهي المطلق ويرتفع فيه كل ظلم وجور. ولا زلنا نسمع صدى هذا التبليغ متمثلاً باعتقاد عدد من الديانات السماوية بذلك وإيمانها به، وإن اختلفت في تسمية القائد الذي يتولى ذلك التطبيق الكبير.
ولكن حيث لم يكن هذا اليوم الموعود بقريب، ولم يكن قد تحقق الشيء المهم من شروطه.. لم يكن من اللازم إعطاء التفاصيل أكثر من هذا المقدار المجمل القليل. ومن هنا نرى أن التبليغات السابقة على الإسلام لم تكن واضحة وكافية لاجتثاث جذر الخلاف في ما تعتقده الديانات من تفاصيل اليوم الموعود.
ومعه فمن الممكن القول أن المقدار المشترك بين هذه الأديان من الاعتراف باليوم الموعود، أمر حق ناتج عن تبليغات الأنبياء عليهم السلام. وأما التفاصيل المختلف بشأنها على مستوى هذه الديانات كتسمية القائد وغير ذلك، فهي أمور مضافة غلى تلك التعاليم من قبل الفكر البشري المنفصل عن إلهام السماء.
ومن هنا نستطيع أن نفسر اتفاق الأديان على ذلك، منسجماً مع الغرض الأصلي لإيجاد الخليقة. ونجيب بذلك على ما يذكره بعض المستشرقين المغرضين، من أن بعض هذه الاديان عيال على البعض الآخر في ذلك ووأن الاعتقاد باليوم الموعود راجع إلى بعض الأديان القديمة الموروثة... وهو اعتقاد كاذب في رأي هؤلاء المغرضين.
بل هو اعتقاد صادق، اتفقت عليه الأديان باعتبار سبب واحد هو الوحي الالهي. وكلها تشير إلى أمر واحد هو الغرض الأساسي من إيجاد الخليقة، الذي عرفنا أن يكون من الطبيعي وجوده منذ ولادة البشرية، وتبليغه إلى الناس من أول عهود النبوات.
كما نستطيع بذلك أن نجيب على كلام آخر يقوله بعض المرجفين، من أن الاعتقاد باليوم الموعود، ناشئ من شعور البشرية بالظلم وتوقانها إلى ارتفاعه وسيادة العدل على الارض.
فإننا عرفنا السبب الحقيقي لوجود هذا الاعتقاد. ومن الواضح أن مجرد التوقان إلى العدل لا يصلح سبباً له، لأن الفرد أو المجتمع إذا أمل ارتفاع الظلم عنه، فإنما يود أن يحدث ذلك في الزمن المعاصر القريب، لكي يستفيد منه بشكل وآخر. وأما الاعتقاد بوجود اليوم الموعود في أجيال غير معاصرة فهذا مما لا يعود بالمصلحة إلى أي فرد معين، لكي نحتمل أنه ناشئ من ظروف الظلم والمصاعب. فضلاً عما إذا اقترن بهذا الاعتقاد كون التقديم إليه لا يكون إلا بمرور البشرية بالمشاكل والمظالم. كما نريد البرهنة عليه. فأنه في واقعه اعتقاد بزيادة الظلم والمشاكل على البشرية في أي جيل معاصر، وليس توقاناً إلى العدل العاجل بأي شكل من الأشكال.
ومن هنا انحصر السبب في وجود الاعتقاد القديم باليوم الموعود، بتبليغ الأنبياء الناشئ من إلهام السماء.
وإذا طبقنا ذلك على عقيدتنا في المهدي، كما تم عليها البرهان الصحيح، استطعنا أن ندرك بسهولة ووضوح، كيف أن المهدي (عليه السلام) هو القائد المذخور من قبل الله عز وجل لتحقيق الغرض الأساسي من الخليقة... وإن عدداً من الأنبياء السابقين قد أخبروا عن ظهوره، فضلاً عن نبي الإسلام (ص) الذي تواتر عنه النقل في ذلك. وإنما كان الاختلاف في تسميته نتيجة لاختلاف اللغات، أو للانحراف الناشئ عند أهل الأديان بعد ذهاب أنبيائهم.
النقطة الثالثة:
لم يكن بالإمكان أن يتخذ أي نبي من الأنبياء موقف القائد للتطبيق الأساسي العام لهداية البشر، أويتكفل إيجاد اليوم الموعود. ولم يكن ذلك داخلاً في التخطيط الالهي أصلاً. لعدم توفر أي من الشرطين الأساسيين السابقين:
أما بالنسبة إلى اشتراط أن تكون الأمة على مستوى الإخلاص والاستعداد للتضحية في سبيل التطبيق العادل... فعدم توفره في الأمم السابقة على الإسلام واضح جداً. وحسبنا أن نستعرض النصوص الواردة في الأنبياء المشهورين، لنعرف حال البشرية في عصورهم وفي ما بين ذلك من الدهر. فإنه إذا لم يستطع النبي منهم أن يرفع مستوى الإخلاص إلى الدرجة العليا في زمانه، فكيف سوف يحدث بعد وفاته؟
(أما آدم عليه السلام فقد عصى ربه فغوى)، كما نص على ذلك التنزيل(١٩٣) وقال عنه: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً).(١٩٤) وبدون هذا العزم المطلوب لا يمكن وجود اليوم الموعود.
وأما نوح عليه السلام، فقد قضى المئات من السنين مرشداً واعظاً، فلم يؤثر في الناس أثراً محسوساً حتى شكا إلى الله تعالى قائلاً: (ربِّ إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً، فلم يزدهم دعائي إلى فراراً. وإني كلما دعوتهم لتغقر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم واصروا واستكبروا استكباراً).(١٩٥) حتى اضطر إلى أن يدعو عليهم بالهلاك، فاستجاب الله تعالى دعاءه وأغرقهم بالطوفان. وليس هناك وضوح في النصوص التاريخية في تحديد مقدار ما استطاع نوح عليه السلام اكتسابه من المؤمنين بعد الطوفان.
وأما إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، فقد كان أكثر من سابقيه تأثيراً في توجيه الناس واكتساب إيمانهم وثقتهم به. ولكنه مع ذلك لم يستطع الوصول بالأمة إلى المستوى المطلوب في العدل المطلق. حبسنا من ذلك أنه في أول عهده ألقي في النار ولم يوجد في المجتمع شخص معترض أو مستنكر ولو من الناحية الإنسانية المحضة!... ثم أنه بعد فترة غير قليلة من نبوته، وضع زوجته وولده في واد غير ذي زرع، ولمن يكن لديه شخص مخلص يضمه إليهما يدفع عنهما ألم الجوع والعطش وخوف السباع والهوام. فاكتفى إبراهيم (ع) بالدعاء لهما وتركهما وذهب.
فكان الله تعالى حافظاً لهذه الأمانة التي أودعت عنده، فجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم. ولولا ذلك لكانا من الهالكين.
وأما الامة التي بعث فيها موسى بن عمران عليه السلام، فحدث عنها ولا حرج، من حيث التمرد على نبيها وعدم الشعور بالمسؤولية تجاه دينها. وكان المنطق القائل: (إذهب أنت وربك فقاتلا أنّا ههنا قاعدون).(١٩٦) هو المسيطر على أذهانهم ومعنوياتهم.. فهم على غير استعداد أن يبذلوا أن شيء في سبيل نبيهم وعقيدتهم.
وأما عبادتهم للعجل ردحاً من الزمن، ومطالبتهم برؤية الله تعالى جهرة، ومراجعتهم في شأن البقرة التي أمروا بذبحها، وغير ذلك من الحوادث... فهي أوضح من أن تذكر.
وأما المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، فحسبنا شاهداً على حال أمته، أن الحواريين، وهم طلابه وخاصته واجهوه بهذا الكلام: " يا عيسى بن مريم، هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء " تشكيك صريح في قدرة الله تعالى.
ومن ثم أجابهم: (قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين. قالوا: نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم إن قد صدقتنا ونكون علينا من الشاهدين).(١٩٧) إذن فهم لم يطمئنوا به بعد، ولم يعلموا بصدقه. فإذا كان هذا هو مستوى خاصته وطلابه، فكيف حال سائر أفراد الأمة والمجتمع.
إذن، فلم يكن يوجد في الناس على طول التاريخ، ذلك المستوى العظيم من الإخلاص الذي يمكن به بناء العدل المطلق في اليوم الموعود، وإذا كان هذا الشرط غير متوفر، فماذا ترى الأنبياء صانعين، حين يجدون أممهم على هذا المستوى المنخفض من الإخلاص؟
كيف وقد عرفنا فيما سبق، أن هذا الشرط غير متوفر إلى حد الآن، وأن البشرية لا زالت في طريق التربية، لكي يتوفر في ربوعها في يوم من الأيام.
وأما بالنسبة إلى الشرط الآخر وهو علم الأمة أو البشرية بالأطروحة العادلة الكاملة المأمول تطبيقها في اليوم الموعود... فمن الواضح أن تلك الأطروحة لم تكن ناجزة، ولمن يكن البشر على مستوى فهمها على الإطلاق. ويمكن أن يتم بيان ذلك، باستعراض فترات التاريخ إجمالاً أيضاً.
أما الأنبياء السابقين على موسى بن عمران عليه السلام، فلم يكن هدفهم إلا ترسيخ العقيدة الالهية، وتوضيحها بالتدريج، من دون أن يكون لهم تعاليم تشريعية كثيرة. حتى تكللت تلك الجهود بجهود إبراهيم الخليل عليه السلام الذي أوضح عقيدة التوحيد بشكل مبرهن وصحيح. إذن فلم يكن هناك تشريع مهم فضلاً عن افتراض وجود الأطروحة العادلة الكاملة التي تتكفل التشريع لكل جوانب المجتمع.
وأما الفترة التي تبدأ بموسى بن عمران عليه السلام وتنتهي ببعثة الرسول الأعظم (ص)... فلا شك أنها كانت فترة شرائع تفصيلية، نزلت بها التوارة والإنجيل عن الله عز وجل. ولكنها كانت شرائع تربوية لأجل الوصول والإعداد إلى فهم البشرية للأطروحة الكاملة، ولم تكن ممثلة لتلك الأطروحة نفسها.
ويمكن الاستدلال على ذلك بثلاثة أدلة:
الدليل الأول:
أننا كمسلمين، نعلم بأن التشريعات السابقة على الإسلام ليست هي الاطروحة الكاملة، جزماً. لأن معنى الإيمان بالإسلام، هو كونه ناسخاً للشرائع السابقة عليه وملغياً لأحكامها عن مسؤولية البشر. فلو كانت إحدى تلك الشرائع هي الأطروحة الكاملة المأمولة، لوجب إبقاءها سارية المفعول إلى حين اليوم الموعود، لكي يتربى الناس على تقبلها والتضحية في سبيلها، على ما سوف نعرف بالنسبة إلى الأطروحة الكاملة. فلو نسخت تلك الشريعة المفروضة لكان ذلك مخالفاً للغرض الالهي المطلوب، فيكون مستحيلاً. ولكنها نسخت فعلاً، كما نعتقد نحن المسلمين بالبرهان، إذن فتلك الشرائع المنسوخة ليست هي تلك الأطروحة العادلة الكاملة المأمولة.
الدليل الثاني:

أنه لا دليل على أن تلك الشرائع كاملة شاملة لكل جوانب المجتمع، بحيث تصلح لاستيعاب البشرية بالعدل الكامل. ولعل أوضح دليل على ذلك القول المشهور عن المسيح عليه السلام: دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر. فإن إيكال ما لقيصر وهو الحاكم الدنيوي لكي يمارس فيه سلطته وحكمه، يعني أن الشريعة المسيحية لم تكن لتستوعب الجانب القضائي والجنائي والاقتصادي للحياة ونحو ذلك. مما يضظر الميسح إلى التصريح بلزوم إيكال ذلك إلى القانون الدنيوي الوضعي السائد، لئلا تتشتت أمور الناس وتتميع مصالحهم.
وهذا الدليل خاص بالمسيحيين وملزم لهم باعتبار اعتقادهم صحة نقل هذه العبارة عن المسيح، بعد أو وردت في الإنجيل الموجود في اليد(١٩٨) الذي هو الصحيح عندهم.
وأما نحن كمسلمين، فلا نؤمن بكل ما ورد في الإنجيل السائد، كما يبرهن عليه في بحوث العقائد عادة. كما أننا لا نستطيع أن نؤكد نقص الشريعة الواقعية النازلة على المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وإن كان ذلك محتملاً على أي حال، بحسب المصالح الزمنية التي توخاها الله تعالى لخلقه في تلك الفترة من الزمن.
الدليل الثالث:
أنه لا دليل على أن تلك الشرائع عالمية وعامة لكل البشر، إذ من الممكن القول، من وجهة نظر أصحاب هذه الديانات: أنها شرائع اقليمية خاصة ببني إسرائيل. ومن هنا نرى كتب العهدين تؤكد على أهمية هذا العشب بالخصوص، وأنه شعب الله المختار. ومن هنا نرى اليهود إلى الآن لا يقبلون يهودية شخص لا يكون من بني إسرائيل، لاعتقادهم الراسخ أن اليهودية دين إسرائيلي على التعيين.
فإذا كانت تلك الشرائع على هذا الغرار... فهي إذن ليست تلك الأطروحة الكاملة الشاملة للبشرية جمعاء. بل تكون قاصرة بطبيعتها عن أن تحقق الغرض الالهي الكبير.
وهذا الدليل باطل عندنا، كمسلمين، باعتبار الاحتمال ـ على أقل تقدير ـ بتجدد الإقليمية في عصر منحرف متأخر عن عصور دعوتهم الأولى، حتى أصبحت بعد ذلك من العقائد الأساسية في دينهم. إلا أن هذا الدليل على أي حال، ملزم لمن يعتقد بالديانتين: اليهودية والنصرانية، وبخاصة اليهود، باعتبارهم أشد تطرفاً في الإقليمية من المسيحيين.
وعلى أي حال، فقد تبرهن عدم وجود الأطروحة الكاملة العادلة قبل الإسلام، وستأتي بعد قليل بعض الإيضاحات لذلك. إذن فلم يكن كلا الشرطين الاساسيين لتحقق اليوم الموعود والعدل العالمي المطلق، موجوداً. فكان من المتعذر أن يتصدى أي واحد من الأنبياء لتولي القيادة الرائدة لتحقيق ذلك الغرض الكبير.
الجهة الثالثة:
التخطيط الالهي بعد الإسلام.
ونعني به ذلك الجزء من التخطيط الالهي الذي يبدأ بظهور الإسلام، وينتهي باليوم الموعود. وينبغي أن نرى موقف الإسلام من هذا التخطيط، وموقف قادته منه، وأثرهم فيه.
النقطة الأولى:
الإسلام هو الأطروحة العادلة الكاملة، المذخورة للتطبيق في اليوم الموعود.
يدلنا على ذلك: الادلة القطعية الدالة على أن الإسلام آخر الشرائع السماوية، وأنه لا نبي بعد نبي الإسلام وإن " حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة ". فلو كان ناقصاً لما حقق الغرض الالهي الكبير، ولوجب على الله تعالى تحقيق غرضه المهم بإيجاد أطروحة أخرى كاملة ينزل بها نبي آخر. وهو خلاف الدليل القطعي بأنه لا نبي بعد نبي الإسلام.
مضافاً إلى الأدلة القطعية الدالة على عالمية الدعوة الإسلامية واستيعابها لكل المشاكل والأحكام، وأنه "ما من واقعة إلا ولها حكم"، مما يجعل لها الصلاحية الكاملة، لتكون هي الأطروحة العادلة في اليوم الموعود.
ومن الملحوظ بوضوح أن هذه الأدلة القطعية، منطلقة من زاوية إسلامية، وأما إذا أردنا الإنطلاق من زوايا أخرى، فيجب البدء بإثبات صحة الإسلام وصدقه أساساً، وهذا موكل إلى محله من بحوث العقائد.
وقد يقول قائل: فلماذا لم تنزل تعاليم الإسلام قبل عصر نزولها، لتكون هي الأطروحة المتوفرة منذ العصر الأول.
وجواب ذلك متوفر فيما قلناه من قصور البشرية في الأزمنة السابقة على الإسلام عن فهم الأطروحة الكاملة. وأن الأنبياء السابقين جاهدوا في تربية البشرية لجعلها قابلة لهذا الفهم. ولا يمكن أن يرسل الله تعالى تلك الأطروحة لمن لا يفهمها ولا يستطيع استيعابها، لانها لا تنتج حينئذ أي أثر.
إذن فلا بد لنا الآن من إيضاح معنى قصور البشرية عن تلقي تعاليم الإسلام في العصور السابقة عليه.
وفي الحق أن عدداً مما جاء به الإسلام من تعاليم، كان متعذراً جداً أن يستوعب البشر معناها يومئذ استيعاباً كافياً... إلى حد ستكون الدعوة إلى تلك الأحكام منشأ للغرابة في ذلك العصر، مما يجعل مجرد الإيمان بها صعباً فضلاً عن استيعابها الدقيق، فضلاً عن تطبيقها الشامل. وحسبنا في هذا الصدد استعراض جوانب أربعة:
الجانب الأول:
إن مستوى العقيدة الالهية التي جاء بها الإسلام من التجريد والتوحيد الخالصين، لم يكن موجوداً بوضوح في الشرائع السابقة. وإنما كانت هذه العقيدة في تطور مستمر، في ألسنة الأنبياء على مرور الزمن، إذ يعطي كل نبي من تلك العقيدة ما يناسب المستوى الثقافي والفكري الذي وصلت إليه البشرية في خطها التربوي الطويل.
وهذا واضح جداً لمن استعرض دعوات الأنبياء المتسلسلين. فنرى الأنبياء السابقين على موسى بن عمران لا يكادون يذكرون من صفات الله تعالى إلا ما كان ظاهراً من آثاره وأفعاله عز وجل. من أنه (يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكن جنات ويجعل لكن أنهاراً. ما لكن لا ترجون الله وقاراً، وقد خلقكم أطواراً. ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً).(١٩٩)
إلا ما كان من محاولة إبراهيم الخليل عليه السلام من محاولة البرهنة على التوحيد، على شكل بسيط النتائج بالنسبة إلى ما جاء به الإسلام من صفات.
ثم أننا نجد اليهود الآن يؤمنون ببعض أشكال التجسيم، ونجد المسيحيين يؤمنون ببعض أنحاء التعدد. وهذه بالرغم من أنها عقائد باطلة نعلم باليقين أنها لم ترد في شرائعهم وتعاليم أنبيائهم. إلا أنهم، على أي حال، لم يجدوا في ما بلغهم عن أنبيائهم ما ينافي ذلك، أو يكون دليلاً صريحاص على بطلانه. وإلا لم يكونوا ليلتزموا بهذه العقائد بطبيعة الحال. ومعنى ذلك أن موسى وعيسى عليهما السلام لم يوضحا بصراحة التجرد الكامل والتوحيد المحض لله عز وجل، مواكبة مع المستوى العقلي والثقافي للبشرية في تلك العصور.
الجانب الثاني:
إن فكرة الدعوة العالمية التي قام عليها الإسلام، لم يكن ليسيغها المجتمع الذي كان يرزخ في عواطف قبلية وعنصرية وقومية، لمدة عدة مئات من السنين.
ومن هنا جاءت فكرة " شعب الله المختار " واختصاص الدعوتين اليهودية والمسيحية في أنظار المؤمنين بها ببني إسرائيل دون سائل الناس.
الجانب الثالث:
إن فكرة الدولة النظامية التي جاء بها الإسلام ومارسها الرسول الأعظم (ص)، وحاول تطبيقها من جاء بعده إلى الحكم من الخلفاء. أن هذه الفكرة لم يكن ليفهمها الناس قبل الإسلام، بأي حال، كيف وهم يعيشون الجو القبلي والعنصري، حتى أن الملوكية في تلك العصور كالسلطة الفرعونية أو القيصرية، لم تكن إلا توسيعاً لفكرة السلطة القبلية والإقطاع الذي يدعي لنفسه ملكية الأراضي والفلاحين جميعاً، وهم يمثلون الأعم الأغلب من الشعب يومئذ.
ومن هنا لم يكن في الإمكان أن تتكفل الديانات السابقة بإيجاد النظام الإداري أو الحكومي، بأي حال. وإنما كان الأنبياء وأوصياؤهم يضطلعون بقيادة شعوبهم بشكل فردي مع الحفاظ على السلطة الدنيوية في عصورهم.
الجانب الرابع:
أننا نجد في الإسلام دقة في فهم الأحكام وفي تنظيمها، في العبادات والمعاملات والعقوبات والأخلاق، ما لا يكاد يفقهها الناس السابقون... كما يتجلى ذلك بوضوح لمن راجع الأحكام الإسلامية المعروضة في الكتاب الكريم والسنة الشريفة، واطلع أيضاً على تفاصيل الأحكام المعروضة في التوراة والإنجيل، وتوفر للمقارنة بينهما.
إذن، فكيف تصلح الشرائع السابقة، لأن تكون هي الأطروحة العادلة الكاملة... وكيف يصلح أهل العصور الأولى لتعقل هذه الأطروحة المتمثلة بأحكام الإسلام. ومعه يتضح بجلاء أنه لم يكن في الإمكان نزول أحكام الإسلام قبل العصر الذي نزل فيه.
النقطة الثانية:
بُعث نبي الإسلام (ص) بالأطروحة التشريعية العادلة الكاملة، بعد أن أصبحت البشرية في مستواها العقلي والثقافي العام قابلة لفهمها واستيعاب أحكامها، لتكون هي الأطروحة المأمولة في اليوم الموعود.
ولكنه ـ مع شديد الأسف ـ لم يكن في الإمكان أن يتكفل التطبيق العالمي الموعود، لعدم توفر الشرط الثاني من الشرطين الأساسين لوجود هذا التطبيق.... ولا زال هذا الشرط غير متوفر إلى حد الآن.
فبينما كان المانع بالنسبة إلى الأنبياء السابقين عن هذا التطبيق، هو عدم توفر كلا الشرطين... نجد أن المانع بالنسبة إلى نبي الإسلام هو عدم توفر شرط واحد منهما، بعد أن تمت تربية البشرية على الشرط الآخر على أيدي الأنبياء السابقين.
ولسائل أن يقول: فلماذا تمت تربية البشرية على أحد الشرطين ولم تتم تربيتها على الشرط الآخر؟ بالرغم من جهود الأنبياء في الخط التاريخي الطويل.
ويمكن الإنطلاق إلى الجواب من زاويتين:
الزاوية الأولى:
أن توفير الشرط الأول، وهو إيجاد المستوى اللائق في البشرية من الناحية العقلية والثقافية لفهم العدل الكامل... أسهل بكثير من توفير الشرط الثاني وهو الوصول بالبشرية إلى المستوى العالي من الإخلاص والتضحية.
فإن تربية الفكر والثقافة لا تواجه عادة من الموانع والعقبات ما تواجهه التربية الوجدانية من ذلك، متمثلة في الشهوات والمصالح الخاصة، وظروف الظلم والإغراء، فمن الطبيعي أن تحتاج التربية الأولى إلى زمن أقصر بكثير من الزمن الذي تحتاجه التربية الثانية. ومن الطبيعي أن يكون البشر لدى أول نضجهم الفكري في التربية الأولى غير ناضجين وجدانياً في التربية الثانية، لأن هذه التربية لم تكن قد آتت أكلها بعد، وإنما تحتاج إلى توفير زمان آخر طويل حتى تتوفر نتائجها بوضوح.
ومن هنا أمكن وصول البشر إلى الحد الثقافي المطلوب، فاستحقت عرض الأطروحة الكاملة عليها وإفهامها إياها... على حين لم تكن قد وصلت إلى الحد المطلوب من الناحية الوجدانية، لتستطيع تحمل القيادة العالمية بين يدي النبي (ص).
الزاوية الثانية:
إن البشرية مهما كانت قد تطورت من الناحية الوجدانية، على أيدي الأنبياء السابقين... فإنه على أي حال غير كاف لإيجاد الأخلاص المطلوب الذي به يكون تحمل مسؤولية العدل العالمي الكامل في اليوم الموعود. باعتبار ضرورة أن تتربى البشرية على الأطروحة بعد نزولها ومعرفتها، بما فيها من دقة وعمق. فأنه إذ يكون المطلوب هو تطبيق هذه الأطروحة، يكون الشعور بالإخلاص نحو الهدف ككل، ذلك الإخلاص الناتج من جهود الأنبياء السابقين.
فكان لا بد لأجل ضمان نجاح التطبيق في اليوم الموعود، أن تمر البشرية بظروف معينة، تكفل لها التربية على الإخلاص على الشكل الدقيق للأطروحة الكاملة المتمثلة بالإسلام. وقد قلنا أن الهدف الالهي الأسمى، هو فوق كل الاعتبارات، فيتعين على الأمة الإسلامية أن تعيش الظروف التي تربيها وتمحصها من جديد.
وبدأت الظروف الطارئة بالحدوث والتواتر ومتمثلة في عدة أمور:
الأمر الأول:
انقطاع الوحي بموت رسول الإسلام (ص).
الأمر الثاني:
انقطاع التطبيق الناجح للشريعة الكاملة، بموت النبي (ص) أو بانتهاء الخلافة الأولى.
الأمر الثالث:
ابتناء الحكم في البلاد الإسلامية على أساس من المصالح السياسية الظالمة المنحرفة.
الأمر الرابع:
ضعف المستوى الأخلاقي لدى الناس بشكل عام، وتقديمهم مصالحهم الشخصية على اتباع تعاليم دينهم سواء على الصعيد الفردي أو الإجتماعي.
ويكاد كل واحد من هذه الأمور، فضلاً عن مجموعها، أن يكون موجباً لياس الفرد العادي والشعور بالتحلل والابتعاد عن الإسلام.
ومن هنا كان الشخص محتاجاً في استمراره على إخلاصه وإيمانه، إلى قوة الإرادة وشعور بالمسؤولية الإسلامية، أعلى من المستوى المطلوب. وكان الأشخاص الممثلين لهذا الاخلاص، قد نجحوا في عملية التمحيص والاختبار الالهية، بهذا المقدار.
إلا أن هذا المقدار غير كاف في إبجاد الإخلاص الذي يتطلبه القيام بمسؤولية اليوم الموعود، فكان لا بد أن تمر الأمة بتمحيص ضخم وعملية غربلة حقيقية، حتى ينكشف كل فرد على حقيقته، فيفشل في هذا التمحيص كل شخص قابل للانحراف، لأجل أي نقص في إيمانه أو عقيدته أو إخلاصه.
وكان هذا التمحيص الضخم متمثلاً بطرفين مهمين تمر بهما الأمة الإسلامية بل البشرية كلها إلى العصر الحاضر.
الظرف الأول:
غيبة الإمام المهدي عليه السلام، تلك الغيبة التي توجب للغافل عن البرهان الصحيح، الشك بل الإنكار.
الظرف الثاني:
تيار الردة عن الإسلام، وأقصد به التيارات المعادية للإسلام، والتي تحمل بين طياتها معاني الخروج عنه والتبري من عقيدته. بما فيها تيار التبشير المسيحي الاستعماري، وتيار الحضارة الغربية المبني على التحلل الخلقي وانكار المثل العليا.
والتيارات المادية الصريحة كالشيوعية والوجودية وغيرها.... تلك التيارات التي استطاعت أن تصطاد من أمتنا الإسلامية ومن العالم كله، ملايين الأفراد.
وتحت هذين الظرفين، كان التمسك بالإخلاص العالي، عمل جهادي في غاية الصعوبة والتعقيد، ويحتاج إلى مضاعفة الجهود في سبيل المحافظة على مستواه فضلاً عن الصعوبة وتكميله فكان " القابض على دينه كالقابض على جمرة من النار " وكان المخلصون على المستوى العالمي، في غاية القلة والندرة بالنسبة إلى مجموع سكان العالم.... وإن كنا لو لاحظنا مراتب الإخلاص الثلاثة أو الأربعة السابقة، فإن النسبة تتسع عن هذا المقدار الضيق بكثير.
ولا زالت البلايا والمحن تتضاعف، وظروف التمحيص والاختبار الالهي تتعقد وتزداد... حتى أصبح الفرد يقهر على ترك دينه والتمرد على تعاليم ربه، بمختلف أساليب الخوف والترغيب. ولعل المستقبل ـ إن لم يأذن الله تعالى بالفرج والظهور ـ كفيل بأن نواجه أشكالاً من الخطر والبلاء على ديننا ودنيانا هي أهم وأصعب مما حصل إلى حد الآن. فليفهم كل مسلم موقفه، وليلتمس درجة إيمانه ويشخص مقدار قابليته على الصمود، قبل أن يسقط في هاوية الإنحراف. لكي يوطن نفسه على الصبر والجهاد على كل حال ليكون له فخر المشاركة في بناء العدل العالمي في اليوم الموعود.
وقد يخطر في الذهن: إن ما قلناه من أن ظروف الظلم دخيلة في التمحيص والاختبار الالهي، يلزم منه أن يكون الله تعالى راضياً بوجود الظلم والانحراف، وهذا خلاف الأدلة القطعية في الإسلام.
ويمكن الجواب على ذلك من زاويتين نذكر احداهما ونؤجل الأخرى إلى حين اتضاح مقدماتها في مستقبل البحث.
والزاوية التي نود الإنطلاق إليها الآن هي أن الأدلة القطعية في الإسلام قامت على أن الله تعالى لا يريد الظلم، بمعنى أنه لا يجيزه تشريعاً، فليس في شريعة الإسلام حكم ظالم، وليس أي ظلم مما يقع يكون مجازاً من قبل الشريعة، بل يتصف بالحرمة والشجب حتماً. إذ من الواضح أن الإسلام إنما شرع ليخرج للبشرية من ظلمات الظلم إلى نور العدل، بل هو ـ كما عرفنا ـ يمثل العدل الكامل من جميع الجهاد، بشكل لم يتحقق في أي تشريع آخر على مدى التاريخ.
وأما بحسب التدبير التكويني لله تعالى في مخلوقاته، فمن الواضح الضروري أن الله تعالى سمح بوجود الظلم، ولم يسبب الأسباب إلى قمعه قهراً وعلى كل حال، إذ لو كان الله تعالى لا يريد الظلم ـ بهذا المعنى ـ لما وجد الظلم على سطح الأرض.
إلا أن سماحته بوجود الظلم، لا يعني قهر الظالمين على إيجاد الظلم، بل الظلم يوجد باختيار الظالمين وبمحض إرادتهم، بعد أن وفر الله تعالى لهم فرص الطاعة وهداهم النجدين وعرفهم حرمة الظلم من الناحية التشريعية. فانحرفوا باختيارهم وأوجدوا الظلم باختيارهم، من دون أن يكون لله عز وجل أي تسبيب إلى إيجاده.
إذن فالظلم غير مراد لله تعالى، لا تشريعاً لأنه حرّمه في شريعته ونهى الناس عنه، ولا تكويناً، لأنه عز وجل لم يقهر الناس عليه. وإنما غاية ما هناك أنه سمح من الناحية التكوينية بوجود الظلم في خليقته ناشئاً من اختيار الظالمين، وذلك للتوصل إلى هدفين مهمين.
الهدف الأول:
المحافظة على الاختيار ونفي الجبر الذي قام البرهان على استحالته على الله عز وجل. فإنه لو قهر عباده على ترك الظلم لم يكن الاختيار متوفراً كما هو واضح.
الهدف الثاني:
إجراء قانون التمحيص والاختبار. الذي يفيد من الناحية الفردية، بالنسبة إلى كل فرد من البشرية على الإطلاق (ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حيّ عن بينة).(٢٠٠) ويفيد من الناحية العامة باعتبار أن له أكبر الأثر في تحقق الهدف الأساسي من إيجاد الخليقة نفسها. فإن المجتمع الموعود، لا يمكن أن يحدف ما لم تسبقه فترة من التمحيص لتوفير شرطه الثاني الذي عرفناه.
وفي ما يلي من البحوث ما يزيد ذلك جلاء ووضوحاً.
النقطة الثالثة:
كما شارك الأنبياء السابقون عليهم السلام في التبشير باليوم الموعود، استمر نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وخلفاؤه المعصومون عليهم السلام وكثير من صحابته في هذا التبشير. وكان تبشيرهم أهم وأوسع. باعتبار أنهم يحملون إلى العالم نفس الأطروحة العادلة التي سوف تأخذ طريقها إلى التطبيق في اليوم الموعود. فهم أقرب إلى ذلك اليوم وألصق به من الأنبياء السابقين... وأشد مسؤولية بالتمهيد له وإيجاد المقدمات المؤدية إليه.
فكان أن اضطلع النبي (ص) ومن بعده بتهيئة الذهنية العامة للأجيال، عن ذلك بالتركيز على ثلاث قضايا مهمة:
القضية الأولى:
الأخبار بوجود الغرض الالهي الكبير، والتبشير بتحقق اليوم الموعود الذي يأخذ فيه العدل الكامل طريقه فيه إلى التطبيق. ويكفينا من ذلك أن القرآن الكريم نفسه شارك في هذا التبشير حين قال: (وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون)(٢٠١) أو حين قال: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض).... الخ الآية.(٢٠٢) أو حين قال: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله)(٢٠٣) إلى غير ذلك من الآيات.
القضية الثانية:
التأكيد على أن القائد الرائد لانجاز ذلك الغرض الكبير، هو الإمام المهدي (عليه السلام) كما ورد في النصوص المتواترة عن النبي (ص) وهي أيضاً متواترة عمن بعده. ولإثبات هذا التواتر مجال آخر. وحسبنا أنها أخبار مروية ومعترف بصدقها وتواترها من قبل الفريقين.
وإنما كان هذا التأكيد لكي تكون الأمة على علم بمستقبل أمرها من ناحية، ومطلعة على اسم قائدها العظيم من ناحية أخرى. فإنه لا ينبغي أن تفاجأ الأمة بالظهور من دون إخبار سابق. ولكي لا تكون هذه القيادة ممكنة الانتحال والتزوير، ولو في حدود ضيقة، من قبل أشخاص آخرين. على ما سنوضحه في الجهة الآتية إن شاء الله تعالى.
القضية الثالثة:
الإخبار بما سيقع في هذا العالم من ظلم وفساد، كما وردت بذلك الأعداد الضخمة من الأخبار، على ما سنسمع في الفصل الآتي. وكان هذا الإخبار مشفوعاً بذكر التكليف الإسلامي وأسلوب العمل الواعي في هذه الظروف... حتى يكون الفرد على بصيرة من أمره عارفاً بضرورة الصمود تجاه تيار الانحراف والفساد، لكي يكتب له النجاح في التمحيص الإلهي، فيكون من المخلصين الممحصين الذين يكون لهم شرف المشاركة في ترسيخ قواعد العدل العالمي في اليوم الموعود.
وأما الذي يسير مع تيار الإنحراف، فلا يهمه ـ بطبيعة الحال ـ أن يفهم التكليف الإسلامي الواعي وومعه يكون من الفاشلين في التمحيص والاختبار.
ومن هنا نستطيع أن نفهم بوضوح، ارتباط كل هذه القضايا التي بُلغت إلى الأمة، بالتخطيط الإلهي لليوم الموعود.... لتشارك في إعداد أكبر عدد ممكن من المخلصين الممحصين على طول الخط، بتهيئة الذهنية العامة لهذه الحقائق وإقامة الحجة عليها، حتى يكون الفرد المسلم على بينة من أمره وبصيرة من دينه، فيختار سبيل الرشاد بين تيارات الإنحراف، كما هو مطلوب.
النقطة الرابعة:
وقد رأينا المهدي (عليه السلام) نفسه في البحوث السابقة يشارك بتهيئة الذهنية العامة للأمة لليوم الموعود، تلك التهيئة التي توفر له شروطه الأساسية. وذلك باتخاذ خطوات ثلاث:
الخطوة الأولى:
إقامة الحجة على وجوده بتكرار المقابلات مع عدد من الناس كبير نسبياً، خلال الغيبة الصغرى والغيبة الكبرى معاً. وبذلك يؤسس للمسلمين أساس الصمود ضد واجهة كبرى للشك في وجوده.
الخطوة الثانية:
إعطاء الأطروحة التامة لفكرة غيبته وظهوره. كما سمعنا ذلك في عدد من مقابلاته وتوقيعاته، في غيبته الصغرى، كمقابلته مع علي بن مهزيار وتوقيعه للأسدي.(٢٠٤)
وبذلك يعطي الثقافة الكافية التي تعطي الدفع الأساسي للفرد المسلم للصمود والثبات عن بصيرة وتفهم حقيقي للهدف المنشود.
الخطوة الثالثة:
العمل على إزالة الظلم والطغيان، في الحدود التي سبق أن ذكرناها في القسم الأول من هذا التاريخ.
وبذلك يعطي الفرد المسلم فرصة أكبر للنجاح في التخطيط والتمحيص الالهيين، باعتبار قلة الموانع والتعسفات نسبياً، ضد الإيمان والإخلاص، حينئذ.
مما يفسح مجالاً أوسع للعمل على طبق الإخلاص وتبليغ مؤداه إلى الآخرين. فالمهدي (عليه السلام) في كل هذه الخطوات، يسير في خط التخطيط الالهي العام لليوم الموعود، كما سبق أن سار سلفه الصالح المتمثل بالأنبياء والأئمة عليهم السلام. وكيف لا يكون كذلك، وهو القائد العظيم المذخور لذلك اليوم العظيم.
الجهة الرابعة:
أهمية القيادة في التخطيط الالهي.
ويمكن أن ننطلق إلى الحديث في هذه الجهة من عدة نقاط:
النقطة الأولى:
لا بد لكل حركة من قيادة ولكل دولة من رئيس. ولا شك أنه كان على رأس كل حركة ناجحة في التاريخ قائد محنك مقدام استطاع أن يسير بها قدماً إلى الأمام:
وهذا أساساً، مما لا بد منه، بحيث يستحيل عادة وجود حركة ما من دون قيادة وتوجيه مهما كانت الحركة ضئيلة والقيادة مبسطة. فإن الجماعة ـ أياً كانت ـ بصفتها مكونة من عدد من الأفراد مختلفين في التدبير ووجهات النظر، لا تكاد تستطيع أن تحفظ مصالحها في حاضرها ومستقبلها، إلا بشخص أو عدة أشخاص يأخذون فيها مركز القيادة والتوجيه. فكيف إذا تضمنت الحركة إصلاح العالم برمته وضمان تطبيق العدل الكامل على البشرية جمعاء. ومباشرة التطبيق من حكم مركزي واحد ودولة عالمية واحدة.
ونحن نرى أن الدول كبيرها وصغيرها، بالرغم من تضامن أفرادها وتدقيقهم في الأمور السياسية والإجتماعية والإقتصادية، لاجل قيادة جزء من العالم... فإنه يظهر على مر الزمن فشلها وسوء تصرفها، وأخذها بالمصالح الخاصة للقادة لا بالمصالح العامة للناس. فكيف بقيادة العالم كله.
إذن، فلا بد، من أجل ضمان تحقق الغرض الالهي الكبير، من إيجاد شخص مؤهل من جميع الوجوه، لأجل الأخذ بزمام القيادة العالمية في اليوم الموعود. ولأجل هذا وجد المهدي عليه السلام.
النقطة الثانية:
لا شك أن النبي (ص) والأئمة المعصومين (ع) بعده كان لهم القابلية الكاملة للقيادة العالمية. لضم مقدمتين نذكرهما هنا مختصراً ونحيل تفاصيلهما إلى موطنه من أبحاث العقائد الإسلامية.
المقدمة الأولى:
إن كل شخص يعينه الله تعالى للقيادة، لا بد أن تكون له القدرة على تلك القيادة. إذ يقبح على الله تعالى أن يعين شخصاً لمهمة وهو قاصر عن آدائها. فمثلاً إذا كان نبي مرسل إلى هداية مدينة واحدة كان لا بد أن يبه القدرة على أداء مسؤوليته، وإذا كان مرسلاً إلى هداية منطقة كبيرة من العالم فلا بد من أن يكون له القدرة على ذلك وهكذا. ولا يمكن أن يوكل الله تعالى شيئاً من المهام إلى شخص غير قابل لأدائها. بل أما أن يكون الشخص قابلاً لذلك قبل إيكال المهمة إليه، أو أن يهبه الله تعال تلك القابلية بعد إيكال المهمة إليه. وعلى أي حال يكون حال تصدية لأداء مهمته على أتم القابلية والاستعداد.
المقدمة الثانية:
إن دعوة النبي (ص) عالمية، كما أن المسؤوليات التشريعية المنوطة بقيادته معقدة وكبيرة.
إذن يتعين القول بأن الله تعالى أعطى النبي (ص) القابلية الكاملة للدعوة والدولة العالميتين. وحيث أن الأئمة (ع) منصوبون بتعيين من الله تعالى، ليقوموا مقام النبي (ص) في الأخذ بزمام مسؤولياته بعد وفاته، من وجهة النظر الأمامية، إذن فلا بد أن يكون الله تعالى قد أعطاهم القابلية الكاملة للقيادة العالمية.
وبهذا الدليل يتعين أن يكون للمهدي (عليه السلام) مثل هذه القابلية، والأهلية بصفته أحد الأئمة المعصومين الاثني عشر عليهم السلام من زاوية النظر الأمامية، أو بصفته خليفة النبي (ص) في آخر الزمان المنصوص عليه من قبل النبي (ص).
كما يعترف به كل المسلمين. وعلى أي حال، فالمهدي (عليه السلام) يوجد قابلاً للقيادة العالمية، قابلية متناسبة مع سعة دعوته ومسؤولياته في إنجاز العدل الكامل وتنفيذ الغرض الالهي الكبير.
النقط الثالثة:
وكان لا بد للغيبة أن تشارك في التخطيط الالهي. لان الإرادة الالهية بعد أن تعلقت بأن يكون الإمام محمد بن الحسن العسكري عليهما السلام مهدياً للأمة، كما يذهب إليه الإمامية وعدد من العامة... كان لا بد من الحفاظ عليه إلى أن يتحقق الشرط الأساسي لتنفيذ ذلك الغرض الكبير.
فإننا إن قلنا بأن المهدي يولد في زمانه، كان هذا خلاف هذا الاعتقاد.وإن قلنا بوجوده متقدماً كان لا بد من اختفائه حفاظاً على حياته، حتى يظهر الله أمره وينفذ وعده، وهو معنى الغيبة.
فإن قال قائل: يمكن أن نلتزم أن المهدي (عليه السلام) ولد في الزمان المتقدم، ثم يموت، ثم يحييه الله تعالى للقيام باليوم الموعود.
نقول في جوابه: إن هذا غير صحيح لعدة وجوه.
أولاً: أنه افتراض لم يقل به أحد. فهوعلى خلاف اعتقاد كل المسلمين. إذن فهو باطل جزماً.
ثانياً: أننا إن فهمنا الغيبة طبقاً لأطروحة خفاء الشخص، فليس الحياة بعد الموت أولى منها، من الناحية الإعجازية. وإن قلنا بالغيبة طبقاً لأطروحة خفاء العنوان، كانت هذه الأطروحة أولى بالأخذ من ذلك الافتراض، لأنها أقرب إلى الأسلوب الطبيعي، كم عرفنا فيما سبق. وقد عرفنا أيضاً أن قانون المعجزات ينفي كل معجزة يمكن أن يوجد الغرض منها بشكل طبيعي.
ثالثاً: أننا مع هذا الافتراض سوف نخسر شيئاً أساسياً سوف نشير إليه، وهو تكامل القائد خلال عصر الغيبة من تكامل ما بعد العصمة. إذ مع ذاك الافتراض لا يكون هذا التكامل موجوداً، فإنه لا محالة يحيى على نفس المرتبة التي مات عليها من الكمال.
إذن فالحفاظ على القائد العظيم، هو المطلوب الأساسي من الغيبة، الذي تشارك فيه الغيبة في التخطيط الالهي.
ويمكن أن نضيف عدة أمور أخرى يشارك فيها عصر الغيبة في هذا التخطيط:
الأمر الأول:
تكامل القائد، من تكامل ما بعد العصمة، ذلك الكمال الذي يؤهله إلى مرتبة أعلى وأعمق وأسهل في نفس الوقت من أساليب القيادة العالمية العادلة. وسنبحث ذلك مفصلاً في القسم الثاث من هذا التاريخ.
الأمر الثاني:
ما سمعناه في القسم الأول من قيام المهدي(ع) بالعمل الإسلامي المنقذ للأمة من الهلكات، والفاتح أمامه سبل الخير، والموفر ـ في نتيجته ـ أكبر مقدار من المخلصين الممحصين، المشاركين في بناء الغد الموعود.
الأمر الثاني:
مساهمة الحوادث التي تمر خلال عصر الغيبة الطويل، بإيجاد شرط الظهور، وهو كون الامة على مستوى المسؤولية. كما سبق أن أوضحنا.
الأمر الرابع:
شعور الأمة، على طول الخط، بوجود القائد الفعلي لها الماسك بزمام أمرها والمطلع على خصائص أعمالها. ذلك الشعور الذي يرفع من معنويات الأفراد ويقوي فيهم روح العزيمة والإخلاص، مما يساعد على زيادة أعداد المخصلين الممحصين.
الأمر الخامس:
تعمق الفكر الإسلامي من حيث الفهم من الكتاب والسنة، سواء في العقائد أو الأحكام، مما يجعل الأذهان مستعدة أكثر فأكثر لتقبل وفهم الأحكام التفصيلية التي يعلنها المهدي (عليه السلام) في دولته العالمية الموعودة.
ونحن لا زلنا نرى المفكرين الإسلاميين، يتحفون مجتمعهم ببحوث وتدقيقات جديدة قائمة على التعمق والسعة في فهم الكتاب والسنة، من جوانبها المتعددة، فهذه البحوث كلها واقعة ضمن التخطيط الالهي الكبير.
ونحن نشعر بما لتعقد الحياة وتضاعف الظلم البشري ووجود التيارات المعادية للإسلام... من إيجاد الدافع القوي للمفكرين الإسلاميين، في السير قدماً نحو التعمق والتدقيق. فيكون ذلك من هذه الجهة أيضاً، مندرجاً في التخطيط الالهي.
وقد يخطر في الذهن: أننا سبق أن قلنا أن الأمة عند نزول الإسلام كانت على مستوى فهمه وقابلة لاستيعابه، بصفته الأطروحة العادلة الكامة، إذن فهم قد فهموه. فما هو الحاجة إلى هذه الزيادة في التدقيقات.
وجواب ذلك: أننا نحتمل ـ على أقل تقدير ـ أن الأطروحة العادلة المعلنة بين البشر ذات مستويين من الناحية الفكرية. فالمستوى الأدنى منها، كان البشر على مستوى فهمه واستيعابه عند بدء الإسلام. وهو الذي أصبح معلناً منذ ذلك الحين إلى عصر الظهور. وهو الذي يعيش التدقيقات والتعميق على طول الزمن.
والمستوى الأعلى منها سوف يعلن بعد الظهور عند الإبتداء بالتطبيق العادل. وهو يحتاج في فهمه إلى مستوى فكري وثقافي في البشرية لا يحصل إلا بتلك التدقيقات. ولو كان قد أعلن في بدء الإسلام لما كان مفهوماً على الإطلاق.
وهذا الامر وإن كنا نعرضه الآن معرض الإحتمال، إلا أننا سنسمع في الكتاب الآتي من هذه الموسوعة مثبتات ذلك.
إذن فهذه الدقة المكتسبة في الفكر الإسلامي فقط هي التي تشارك في تعميق المستوى الثقافي اللازم تحققه في اليوم الموعود.... بل تشارك في ذلك سائر القطاعات والشعوب في العالم، بما تبذل من دقة وعمق في سائر العلوم.
لوضوح أن البشرية على العموم، وليس المجتمع المسلم وحده، هو الذي يجب أن يتقبل الأحكام المهدوية... فإن حكم المهدي (عليه السلام) يعم العالم كله، ولا يختص بالمجتمع الإسلامي.
مضافاً إلى أن التقدم العلمي في سائر حقول المعرفة البشرية، سوف تشارك مشاركة فعالة في بناء الغد المنشود، ذلك الغد الذي يصعب تقدم البشرة بالسرعة المطلوبة بعد تحققه، لولا أنها كانت قد تقدمت وتكاملت قبل ذلك.
إذن فعصر الغيبة يشارك في التخطيط الالهي من هذه الناحية أيضاً.
وبهذا نكون قد حملنا فكرة كافية عن التخطيط الالهي والتمحيص الذي ينال البشر خلال عصر الغيبة الكبرى. وهو ما عنيناه في هذه الناحية الأولى من هذا الفصل من اقتضاء القواعد العامة في الإسلام لوجود الظلم والإنحراف في المجتمع. وسيكون ما نسرده من النصوص في الناحية الآتية مؤديات لفحوى القواعد العامة التي عرفناها.
الناحية الثانية
في ذكر النصوص والأخبار الخاصة الدالة على التنبؤ بالمستقبل، من وصف الزمان وأهله، من حيث مقدار تمسكهم بالدين وشعورهم بالمسؤولية الإسلامية، وما يصير إليه الأمر من فسادهم وانحرافهم. وما يستلزم ذلك من قبل الله تعالى ومن قبل الناس.
ونحن في هذا التاريخ، وإن كنا قصرنا همنا في التعريض إلى الأخبار المروية من قبل المعتقدين بغيبة الإمام المهدي عليه السلام، لنرى مقدار صدقها واتجاه تفكيرها. إلا أن وصف حوادث الزمان، حيث نجده منقولاً من قبل الرواة من سائر مذاهب المسلمين، فمن هنا كان الأفضل الإحاطة بهذه الروايات أيضاً.
ونحن توخياً للاختصار والضبط في نفس الوقت، سوف نقتصر على ما أخرجه الصحيحان البخاري ومسلم من هذه الأخبار، فيما إذا كان لهما في الحادثة المعينة رواية، وإلا نقلنا عن الحفاظ الآخرين أيضاً. ونضم ذلك إلى الأخبار الأمامية المستقاة من المصادر القديمة.
ولولا هذا الاختصار لكان اللازم التعرض إلى عشرات الروايات في المعنى الواحد أو الحادثة الواحدة، لتكثر مثل هذه الأخبار، في المصادر بشكل واسع جداً. إلا أن الالتزام بذلك مما لا يلزم، كما هو واضح، بعد أن كان الصحيحان من ناحية والكتب الأمامية القديمة هي أوثق مصادر المسلمين المعروفة في العصر الحاضر.
ومن هذا المنطلق، يمكن أن نتحدث في عدة جهات:
الجهة الأولى:
في الأخبار الدالة على صعوبة الزمان وفساده، على شكل مطلق، ليس فيه إشارة إلى حوادث معينة. وهي على عدة أقسام:
القسم الأول:
ما دل من الأخبار على امتلاء الأرض ظلماً وجوراً. وهو مضمون مستفيض بل متواتر بين الفريقين، وإن امتنع الشيخان عن إخراجه.
أخرجه أبو داود مكرراً، مرة بلفظ: يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. وأخرى بلفظ: لو لم يبق من الدهر إلا يوم، لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يلمؤها عدلاً كما ملئت جوراً. ومرة ثالثة بلفظ: المهدي مني... يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.(٢٠٥)
وأخرج في الصواعق المحرقة(٢٠٦) عن أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجه ما ذكرناه في اللفظ الثاني للحديث. وعن أبي داود والترمذي: لو لم يبق من الدينا إلا يوم واحد.. إلى أن قال: يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً. وعن الطبراني: فيبعث الله رجلاً من عترتي أهل بيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً... الحديث. وعن الروياني والطبراني(٢٠٧): المهدي من ولدي... إلى أن يقول: يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً.
وغير ذلك كثير، موزع في المصادر، كالذي ذكره الشبلنجي في نور الإبصار والصبان في إسعاف الراعبين والشبراوي في الإتحاف وأبو نعيم الأصفهاني في أربعينه وسبط ابن الجوزي في تذكرته. وكما الدين بن طلحة في مطالب السؤول. مضافاً إلى ما أخرجه أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه والسيوطي في العرف الوردي... إلى غير ذلك من المصادر.
وأما من روى هذا المضمون من علماء الإمامية ومصنفيهم، فأكثر من أن يحصر. تعرض له كل من روى في العقائد أو التاريخ، وتكلم عن الإمام المهدي (عليه السلام).
والمراد بالظلم، الإنحراف عن جادة العدل الإسلامي، ونحوه الجور وهو الميل، يقال: جار عن الطريق أي مال. وهذا الميل، من وجهة نظر نبي الإسلام (ص) الذي روى عنه هذا الحديث الشريف، هو الميل عن تعاليم الإسلام والعدل الصحيح، على الصعيدين الفردي والإجتماعي.
والحديث نص واضح بامتلاء الأرض جوراً وظلماً قبل ظهرو المهدي (عليه السلام) في اليوم الموعود. وهو معنى ما قلناه طبقاً للقواعد العامة، من أن إغلب الناس نتيجة للتمحيص الالهي، سوف يسودهم الانحراف عقيدة أو سلوكاً، بحيث يكون الاتجاه الظاهر للبشرية هو قيام النظام الفردي والإجتماعي على أساس مناقض مع تعاليم الإسلام، من دون أن يكون للصالحين المخلصين ـ وإن كثروا ـ أثر مهم ونتائج ظاهرة.
وهذا لعمري ما كنا ولا زلنا نشاهده في عصور الفسق والضلالة التي نعيشها ونطلع عليها بالحس والعيان. فصلى الله تعالى عليك يا نبي الإسلام إذ تنبأت بذلك... وسلام الله تعالى عليك يا مهدي الإسلام إذ تزيل كل ذلك وتبدله إلى القسط والعدل الكاملين الشاملين، طبقاً لإرادة الله وتخطيطه.
القسم الثاني:
ما دل من الأخبار على وجود الفتن وازدياد تيارها وتكاثرها إلى حد مروع. أخرج ذلك العديد من رواة الفريقين. منها: ما رواه البخاري(٢٠٨) من قوله صلى الله عليه وآله: يتقارب الزمان وينقص العمل ويلقى الشح وتظهر الفتن.... الخ الحديث. وما رواه أيضاً(٢٠٩) من قوله (ص): ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم... الخ الحديث. وأخرجه مسلم بألفاظ وأسانيد مختلفة.(٢١٠) وأخرج عنه (ص) أيضاً:(٢١١) أني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع المطر. وذكر له أكثر من إسناد واحد.
ومنها: ما رواه النعماني(٢١٢) عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، في حديث طويل يتحدث فيه عن (الفتن المضلة المهولة). وما رواه أيضاً(٢١٣) عن الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام أنه قال: لا يقوم القائم عليه السلام إلا على خوف شديد من الناس وزلازل وفتنة وبلاء يصيب الناس... الخ الحديث.
وللفتنة عدة معانٍ في اللغة، يختلف معنى هذه الأحاديث الشريفة باختلافها، وإن كان بالإمكان إرجاعها إلى معنى واحد شامل على ما سنذكر.
المعنى الأول:
الامتحان والإبتلاء والاختبار. وأصلها مأخوذ من قولك فتنت الفضة والذهب إذ أذبتهما بالنار لتميز الرديء من الجيد... والفَتْن الإحراق. ومنه قوله تعالى: (يوم هم على النار يفتنون).(٢١٤)
ويؤيد كون المراد من الفتنة هو ذلك، ما رواه النعماني في الغيبة(٢١٥) عن أبي الحسن عليه السلام في قوله تعالى: (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا أمنا وهم لا يفتنون)... قال: يفتنون كما يفتن الذهب: ثم قال يخلصون كما يخلص الذهب.
فإذا تمّ هذا المعنى، تلتحق هذه الأخبار بأخبار التمحيص والامتحان، التي سوف نذكرها، فإنها تتحد معها في المدلول، باعتبار أن الفتنة بمعنى التمحيص والخلاص هو المشار في الحديث هو النجاح في التمحيص.
المعنى الثاني:
الكفر والضلال والإثم. والفاتن المضل عن الحق. والفاتن الشيطان.. وفتن الرجل أي أزله عما كان عليه. ومنه قوله عز وجل: (وإن كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا إليك). أي يميلوك ويزيلوك.(٢١٦)
وإذا تم هذا المعنى، التقت هذه الأخبار مع الأخبار الناقلة لحدوث الظلم والجور، في المضمون... ونحوها مما نص على حدوث الكفر والضلال.
المعنى الثالث:
اختلاف الناس بالآراء.(٢١٧) ويؤيد كون المراد هذا المعنى ما رواه النعماني(٢١٨) في الحديث السابق عن محمد بن علي الجواد عليه السلام الذي قال فيه: وفتنة وبلاء يصيب الناس وطاعون وسيف قاطع بين العرب واختلاف شديد في الناس وتشتت في دينهم وتغير في حالهم.
وإذا كان هذا هو المعنى المراد، فسيلتقي مضمونه بالأخبار الدال على حدوث التشتت والاختلاف، التي سوف نذكرها.
المعنى الرابع:
القتل، وما يقع بين الناس من القتال. ومنه قوله تعالى: (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا)(٢١٩). ومعه تندرج في أخبار حدوث الهرج والمرج والقتل الآتية.
والصحيح أنه بالإمكان إرجاع هذه المعاني إلى معنى واحد، أو فهم الفتنة الواردة في الأخبار على أساس مجموع هذه المعاني. فإن التمحيص الالهي، وهو المعنى الأول، ينتج عند الفاشلين فيه الكفر والضلال، وهو المعنى الثاني. وليس الكفر والضلال متمثلاً في مذهب معين، بل في كثير من الآراء والمذاهب المتباينة في مدلوها المتناحرة في سلوكها. ومن هنا ينتج المعنى الرابع وهو القتل، نتيجة لهذه الفوضى المذهبية أو الفكرية. ومن هنا وردت كل هذه الحوادث في الاخبار كما اشرنا وستطلع عليها تدريجياً.
القسم الثالث:
ما دل على الجزع من صعوبة الزمن وضيق النفس الشديد منه.
فمن ذلك ما أخرجه البخاري(٢٢٠) بإسناده عن النبي (ص) قال: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه. وأخرجه مسلم بنصه.(٢٢١)
وأخرج مسلم(٢٢٢) أيضاً عنه (ص) أنه قال: والذي نفسي بيده، لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول: يا ليتني كنت مكان صاحب القبر، وليس به الدين إلا البلاء.
وروى الصدوق في الإكمال(٢٢٣) عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنه يعاني المؤمنون في زمان الغيبة من " ضنك شديد وبلاء طويل وجزع وخوف ".
ومن الواضح أن الجزع وتمني الموت، يكون نتيجة للشعور بالمشاكل والمصاعب التي يمر بها الفرد في المجتمع المنحرف. ذلك الإنحراف الناتج ـ في واقعه ـ من التخطيط الالهي كما عرفنا. إذن فهذه الحالة من نتائج هذا التخطيط، وهي المنتجة في نهاية المطاف لنتيجتين مهمتين:
إحداهما: اليأس من القوانين والنظريات السائدة في العالم، بعد أن أثبتت التجربة أنها لا تؤدي إلا إلى هذه المشاكل والمصاعب
ثانيتهما: تمني المستقبل العادل الذي يحل هذه المشاكل ويرفع هذه المصاعب، كما سبق أن ذكر في المرتبة الرابعة من مراتب الإخلاص فيما سبق. وسيكون هذا الشعور من أفضل الضمانات، للتأييد العام لليوم الموعود ونحن إذا نظرنا إلى الواقع، نجد أن الأمة الإسلامية عامة والقواعد الشعبية المهدوية خاصة، قد مرت في كثير من عصور تاريخها الضنك والبلاء. حتى قيل في وصف عصور الحكم العباسي:

 

نحن والله في زمان بئيس * * * لو رأيناه في المقام فزعنا
أصبح الناس فيه من سوء حال * * * حق من مات منهم أن يُهَنَّا

 

وإن أعظم ضنك وبلاء يقع في البشر، هو ما يكون من بعضهم تجاه البعض، من الظلم والطغيان، وخوف الأكثرية الكاثرة من القوى الجبارة الظالمة الحاكمة في العالم. وإن أعظم البلية بالنسبة إلى البشرية جمعاء في العصر الحاضر هو الخوف من اصطدام الأسلحة الفتاكة في العالم في حرب عالمية ثالثة لا تبقي ولا تذر. يكون الكل فيها هالكين مندحرين ليس فيها غالب أو منتصر. ولله في خلقه شؤون.
وعلى أي حال، فمن المحتمل أن يتزايد الضيق والفتك بأضعاف ما هو عليه الآن، خاصة بالنسبة إلى المؤمنين المخلصين في المجتمع الإسلامي... بما يقابلون من تيارات التعسف والإنحراف الظالمة المعادية للإسلام. ولهم في المهدي وبركاته العامة ومستقبله العظيم، أعظم السلوان والعزاء.
القسم الرابع:
ما دل على وجود الحيرة والبلبلة في الأفكار والاعتقاد.
كالخبر الذي روي عن الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال عن المهدي (عليه السلام) فيما قال: يكون له حيرة وغيبة تضل فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون.(٢٢٤)
وإنما نسبت الحيرة إلى المهدي (عليه السلام) باعتبار كونها ناتجة من غيبته المستندة إليه.
إذ لو كان ظاهراً بين الناس لما وقعت هذه الحيرة، كما هو معلوم.
ويمكن أن يراد بالحيرة عدة وجوه أو كل هذه الوجوه:
الوجه الأول:
الحيرة في العقائد الدينية، نتيجة للتيارات الباطلة التي تواجه جهلاً وفراغاً فكرياً في الأمة، مما يحمل الفرد الإعتيادي على الإنحراف.
الوجه الثاني:
الحيرة بالعقائد الدينية، بمعنى أن المؤمنين حين يحسون بالمطاردة والتعسف ضدهم وضد عقائدهم، يحيرون أين يذهبون لكي ينجوا بالحق الذي يعتقدونه وبالاتجاه الإسلامي الذي يتخذونه.
الوجه الثالث:
الحيرة في الإمام المهدي (عليه السلام) بمعنى أن طول غيبته توجب وقوع الناس في الشك والإختلاف في شأنه. كما حدث في صفوف المسلمين فعلاً، وقد أشارت إليه الأخبار التي سنسمعها فيما بعد.
الوجه الحيرة:
الحيرة بالجهاد الواجب في زمن الغيبة من دون قائد وموجه ورائد. فإن المؤمنين بتكليفهم الإسلامي من ذلك، يشعرون في نفس الوقت بالأسف لعدم اتصالهم بالقائد العظيم الذي يوجههم إلى النصر.
وعلى أي حالة، فكل ذلك مندرج في التخطيط الالهي، مما لا بد أن يحدث في الناس نتيجة للغيبة ليشارك في التمحيص والاختبار، فيرفع من إخلاص المخلصين ويعمق في كفر المنحرفين. وهو المراد بقوله: تضل فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون.
القسم الخامس:
ما دل على وقوع الهرج والمرج.
وهي أخبار كثيرة استقل بإخراجها الرواة العامة فيما أعلم. روى البخاري(٢٢٥) عدداً منها ومرة بلفظ: أن بين يدي الساعة لأياماً ينزل فيها الجهل... إلى أن قال: ويكثر فيها الهرج. ذكر له أكثر من طريق. ومرة أخرى بلفظ: بين يدي الساعة أيام الهرج.
وأخرج مسلم(٢٢٦): فضل العبادة في الهرج كهجرة إليَ. يعني إلى النبي (ص). وروى الآخرون، كالترمذي وابن ماجه وأحمد والحاكم، ما يدل على ذلك، ونحن نقتصر على ما في الصحيحين.
والمراد بالهرج بفتح الهاء وسكون الراء، أحد أمرين:
الأول: الاختلاط والاضطراب المؤدي إلى القتل أو كثرته بين الناس. وتطبيقه في العالم في عصرنا الحاضر ما يسمى بحرب العصابات أو حرب الشوارع، مع ما تصاحبه من الاضطرابات والبلبلة. وهذا المعنى هو الذي تؤيده المصادر اللغوية.
الثاني: القتل نفسه، وإن لم يصاحبه الاضطراب. كما هو ظاهر بعض الأخبار، فيما أخرجه البخاري(٢٢٧) حيث فسر الهرج بالقتل في عدة أحاديث، مع احتمال أن يكون التفسير من الراوي.
إلا أن الصحيح رجوع الأخبار إلى المعنى الأول، وإن اندرج المعنى الثاني فيها بطبيعة الحال. فإنه قال: ويكثر فيها الهرج والهرج القتل ز إذن فالقتل فيها كثير، وكثر القتل لا تكون إلا مع البلبلة والاضطراب. وأما انطباقه على القتل الفردي فلا دليل عليه.
وأما إناطتها بالساعة وجعلها من علاماتها، فهو مما لا يخل بالمقصود لأن المراد وقوع ذلك قبل قيام الساعة، ولو بزمان طويل. ومن المعلوم أن كل مايقع في الغيبة الكبرى فهو واقع قبل قيام الساعة، فيكون من علاماتها وأشراطها بطبيعة الحال. وقد سبق أن ذكر أن كل فساد وانحراف يذكر في الأخبار ـ عموماً ـ فهو من أوصاف فترة الغيبة الكبرى، المربوطة بالمهدي عليه السلام. وقد مررنا على ذلك إجمالاً، وحولنا برهانه على ما سيأتي: وفي خبر مسلم قوله (ص): العبادة في الهرج كهجرة إليّ.... زيادة على المعنى العام الذي كنا نتوخاه، زيادة زيادة واعية إسلامياً ومطابقة للقواعد العامة، يأتي التعرض لها في الناحية الثالثة من هذا الفصل.
فهذا هو المهم من الأخبار الدالة على فساد الزمان بنحو مطلق، من دون الإشارة إلى حوادث بعينها. وقد ثبت من ذلك في حدود التشدد السندي الذي ذكرناه... المعنى العام الذي يدل عليه المجموع وهو شيوع الفساد والإنحراف وعصيان الأوامر الإسلامية. بل وتثبت التفاصيل أيضاً باعتبار كثرة الأخبار فيها وجعل بعضها قرينة على بعض وجعل القواعد العامة قرينة أيضاً لما عرفناه من أن كل هذه التفاصيل مما يترتب على التخطيط الالهي.
الجهة الثانية:
في الأخبار الدالة على حدوث وقائع أو ظواهر معينة، ناتجة عن الضلال والإنحراف.
القسم الأول:
في الأخبار الدالة على تحقيق الجهل وتفشيه في المجتمع الإسلامي.
فمن ذلك ما أخرجه البخاري(٢٢٨) من الحديث النبوي القائل: أن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل.... الحديث. وأخرج في حديث آخر(٢٢٩): أن يقل العلم ويظهر الجهل. وأخرج في موضع آخر(٢٣٠): إن بين يدي الساعة أياماً يرفع فيها العلم وينزل فيها الجهل.
وفي موضع رابع أخرج البخاري(٢٣١) من قوله (ص): يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن ويكثر الهرج... الحديث.
وأخرج مسلم عدة متون بهذا المضمون، في باب خاص بذلك(٢٣٢) لا حاجة إلى الإطالة بذكرها. وأخرجها غيرهما، كابن ماجه والترمذي وأحمد.
والمراد برفع العلم ارتفاعه من المجتمع وقلة العلماء والمتعلمين. والمراد به العلم بالأحكام الشرعية والعلوم الإسلامية. كما أن المراد بنزول الجهل وظهوره تفشيه في المجتمع المسلم من الناحية الفكرية الإسلامية، أيضاً بطبيعة الحال. وفي التعبير برفع العلم وقبضه، إيضاح أنه مستند إلى الله تبارك وتعالى، مع تنزيه الله تعالى عن إسناده وتحقيق الجهل إليه عز وعلا. تماماً كما قال إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام: (وإذا مرضت فهو يشفيني)(٢٣٣) ولم يقل: وهو الذي يمرضني ويشفيني، كما قال: (وهو الذي يطعمنى ويسقيني).(٢٣٤)
وعلى أي حال، فاستناده إلى الله تعالى، يكون ـ مرة ـ بتوسيط عباده، في ضغط المنحرفين على المؤمنين بالسكوت وعدم تبليغ الأحكام والمفاهيم الإسلامية إلى الأمة. ويكون ـ تارة أخرى ـ بفعل الله تعالى مباشرة بأن يموت العلماء تدريجياً ويقل المتعلمون، فتصبح الأجيال القادمة خالية من العلماء فارغة فكرياً من الثقافة الإسلامية. ومن هنا أخرج البخاري(٢٣٥) عن النبي (ص) أنه قال: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء. حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤؤساً جهالاً، فسئلوا فافتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا.
ومن هنا يكون هذا الأمر مما يحكم الوجدان بحدوثه، وموافقاً للقاعدة ومندرجاً في التخطيط الالهي، وموحداً في المضمون مع ما سنذكره من بيان وجود علماء السوء في الأخبار. ويكون ترك تعلم المتعلمين ناتجاً عن التيار العام للفساد والبعد عن التعاليم الإسلامية. وهو بدوره يسبب بعداً أكثر... وهكذا.
القسم الثاني:
ما دل من الأخبار على تشتت الأراء واختلاف النوازع والأهواء، وكثرة الدعوات المبطلة.
أخرج ابن ماجه في سننه: أنها ستكون فتنة وفرقة واختلاف.(٢٣٦)
وأخرج أيضاً: يكون دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها(٢٣٧) ونحوه أخرجه مسلم في صحيحه.(٢٣٨)
وأخرج ابن ماجة أيضاً، قوله (ص): ومما اتخوف على أمتي أئمة مضلين(٢٣٩) وقوله (ص): تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون أو نحو ذلك. الحديث.(٢٤٠)
وروى النعماني(٢٤١) عن أبي عبد الله الصادق (ع) في حديث: وليرفعن إثنتا عشرة راية مشتبهة لا يدري أي من أي. وروى نحوه الصدوق في إكمال الدين.(٢٤٢)
وروى النعماني(٢٤٣) أيضاً عن الإمام الباقر عليه السلام في حديث يصف به فساد المجتمع ويقول: واختلاف شديد بين الناس وتشتت في دينهم وتغير من حالهم.
وروى الشيخ الطوسي في الغيبة(٢٤٤) عن أبي سيعد الخدري قال: قال رسول الله (ص): أبشركم بالمهدي يبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلازل، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً.... الحديث. ونقله ابن حجر في الصواعق(٢٤٥) بلفظ مقارب عن أحمد والماوردي.
وهذا المضمون، مطابق للقاعدة العامة، كالقسم السابق، فإنه يعطي صورة أخرى للظلم والفساد. فإن اختلاف الأراء وتشتتها من أوضح صور الظلم ومستلزماته. وقد كان هذا وما زال موجوداً بين الناس سواء على المستوى المذهبي الإسلامي أو على المستوى السياسي أو الإقتصادي أو غيره من حقول الحياة. فإن المجتمع المنحرف منقسم على نفسه دائماً ومتناحراً في داخله على طول خط انحرافه.
وأما دعاة السوء والأئمة المضلين، فما أكثرهم في التاريخ! فقد كانوا يتمثلون في عصر الخلافة بالعلماء المدعين للإسلام الضالعين مع الجهاز الحاكم، ولا زال أمثالهم موجودين إلى العصر الحاضر. كما كانوا يتمثلون بالقرامطة ونحوهم ممن يدعو إلى الإسلام وهم منه براء. ويتمثلون في عصرنا الحاضر، بعدد غير قليل من الأفكار والعقائد المنحرفة في العلنة في المجتمع المسلم، كالبهائية والقاديانية وأكثر مسالك التصوف... وغيرها.
ومن هنا يكون ما قيل في الرواية صحيحاً جداً، من أن كل من تابعهم وأجاب دعواتهم، قذفوه في جهنم، بمعنى أنهم سببوا الخروج عن الإسلام الحق، بحيث يستحق العقاب الالهي.
القسم الثالث:
الأخبار التي دلت على اختلاف الناس بشأن المهدي عليه السلام، خلال غيبته الكبرى. نتيجة لطول الغيبة واستبعاد الناس وجوده خلال الزمان الطويل، وما يقترن بذلك من الدعاوى والتزويرات.
والروايات في ذلك عن أئمة الهدى عليهم السلام كثيرة. وأما العامة فلم يرووا فيه شيئاً، لأنه مخالف لرأيهم القائل بإنكار وجود الغيبة الكبرى للمهدي (عليه السلام).
من ذلك ما أخرجه الصدوق في الاكمال(٢٤٦) عن الإمام الباقر (ع) في حديث يشبه به المهدي (عليه السلام) بعدد من الأنبياء... إلى أن قال: وأما شبهه من عيسى عليه السلام فاختلاف من اختلف فيه. حتى قالت طائفة منهم: ما ولد. وقالت طائفة: مات. وقالت طائفة: قتل وصلب.... الحديث.
وروي ايضاً(٢٤٧) عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) في حديث قالفيه: وأما من عيسى فاختلاف الناس فيه.
وروى النعماني(٢٤٨) عن أبي جعفر الباقر (ع) إن للقائم غيبتين يقال له في إحداهما: هلك، ولا يدري في أي واد سلك وروي عن الإمام الصادق (ع) بلفظ: مات أو هلك في أي واد سلك.(٢٤٩)
وفي الإكمال أيضاً(٢٥٠) عن الإمام الصادق(ع): أما والله ليغيبن إمامكم شيئاً من دهركم، ولتمحصن(٢٥١) حتى يقال: مات أو هلك أو بأي واد سلك. ولقد معن عليه عيون المؤمنين.
وأخرج ثقة الإسلام الكليني في الكافي عدداً من الأخبار الدالة على نفس هذا المضمون في باب عقدة لذلك بعنوان: باب في الغيبة.(٢٥٢)
وهذا كله واضح الإندراج في التخطيط الالهي المقتضي للتمحيص والامتحان. فإن طول الزمن وزيادته على عمر الإنسان الطبيعي، قد يورث الشك في بقاء الفرد واستمراره على أقل تقدير... لولا الدليل القطعي على بقاء المهدي(ع) وعلى التخطيط الالهي لحفظه لليوم الموعود. ومن هنا كان المشكك في ثبوت ذلك أو المنساق وراء حسه المادي، مفكراً لبقاء المهدي (عليه السلام) وغيبته.
نستطيع أن نعثر على القائلين بجميع ما ذكرت الروايات من الآراء ووجهات النظر. فإنها تعرضت إلى أربعة أقوال
القول الأول:
أنه لم يولد، والمراد أن الإمام الحسن العسكري (ع) مات ولم يعقب ولداً.
وقد عرفنا في تاريخ الغيبة الصغرى مناشئ هذا القول، وكيف كان هو الاعتقاد الرسمي للدولة بعد وفاة الإمام العسكري (ع) مما سبب استيلاء جعفر الكذاب على التركة.
وأما القول بأن المهدي (عليه السلام) لم يولد، وإنما يولد في مستقبل الدهر ليملا الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً... فهو القول الذي يذهب إليه إخواننا أهل السنة والجماعة عموماً، بعد أن تسالموا مع الإمامية على ظهور المهدي (عليه السلام) وقيامه بدولة الحق.
القول الثاني:
أنه ولد ولكنه مات. والقائل بذلك على قسمين:
القسم الأول:
من يزعم أن محمد بن الحسن العسكري عليهما السلام، مات.
وقد ذهب إلى ذلك بعض المتأخرين كالشيخ محمد بن أحم السفاريني الأثري الحنبلي في كتابه لوائح الأنوار البهية، حيث قال: وأما زعم الشيعة أن اسمه " يعني المهدي " محمد بن الحسن وأنه محمد بن الحسن العسكري، فهذيان. فإن محمد بن الحسن هذا قد مات، وأخذ عمه جعفر ميراث ابيه الحسن.(٢٥٣)
وهذا زعم تتسالم كل المصادر التأريخية الأولى على نفيه، من سائر مذاهب المسلمين.
أما مؤرخو الإمامية كالشيخ النعماني والشيخ الصدوق والشيخ الطوسي والشيخ المفيد، وكذلك من يدور في فلكهم، كالمسعودي واليعقوبي، فأمرهم واضح، فإنهم يثبتون ولادته وغيبته بالصراحة، شأنهم في ذلك شان كل العلماء الإماميين... كيف لا وهو من ضروريات المذهب.
وأما مؤرخو العامة المتقدمون كالطبري وابن الأثير وابن خلكان وابن الوردى وأبي الفداء، والمتأخرون كابن العماد والزركلي... وغيرهم. فإنهم ينصون على ولادته ويذكرون اختفاءه وأنه المهدي المنتظر صاحب السرداب بزعم الشيعة.
وليس فيهم أي شخص يشير إلى موته. وكيف يستطيعون الأخذ بهذا الرأي، بعد الذي عرفناه مفصلاً في تاريخ الغيبة الصغرى، من اختفاء المهدي (عليه السلام) عن أكثر قواعده الشعبية فضلاً عن غيرها. ومن هنا تكون الأخبار عنه في مثل هذه التواريخ أخباراً منقطعة، بل مع اليأس من حصول أي اطلاع على شيء....
فكيف يستطيعون أن يدعوا موته تاريخياً، إلا بنحو التزوير. ومن هنا كفوا عن التصريح بذلك، كما هو واضح لمن يراجع تلك المصادر.
وأما المتأخرون، كالسفاريني المولود عام ١١١٤ هـ،(٢٥٤) فهم عيال على المتقدمين، وليس لهم أن يأتوا بخبر جديد. ولا يؤخذ من قولهم ما عارض أقوال المتقدمين، كما هو واضح، بل تكون أقوال المتقدمين أولى بالترجيح. إذن فالسفاريني أوأي شخص آخر مثله، يتحمل مسؤولية كلامه وحده.
وأما استيلاء جعفر الكذاب على ارث الإمام العسكري (ع) فلم يكن عن استحقاق، بعد وجود الوارث الشرعي. وقد عرفنا تفاصيل ذلك في تاريخ الغيبة الصغرى أيضاً، فراجع.
القسم الثاني:
من القائلين بموت المهدي: من يدعي ظهور المهدي وانتهاء حركته. وهم أتباع مدعي المهدوية في التاريخ، الذين قاموا بالسيف وماتوا أو قتلوا، ولم يبق لأصحابهم مهدي منتظر، بعد ذلك.
إلا أن مثل هؤلاء الناس ينقرضون بعد موت صاحبهم بمدة غيرة طويلة، إذ يعجزون عن تزريق إعتقادهم إلى الأجيال، اللاحقة لهم، بعد إتضاح أكذوبة ادعاء المهدوية بدليل وجداني صريح، وهو أن هذا المدعي مات ولم يستطع أن يفتح العالم ولا يقيم حكم الله العادل على البشر أجمعين. ونحن ـ وكل مسلم ـ لا نعنى من المهدي إلا الشخص الذي يفعل ذلك. وحيث أن هذا المدعي لم يصل إلى هذه النتيجة طيلة حياته، إذن فهو ليس مهدياً بالقطع واليقين.
القول الثالث:
مما دلت عليه الروايات: هو القول بأنه قتل أو صلب. ولم نجد من يقول بذلك، غير ما يمكن أن يدعيه أصحاب مدعي المهدوية، فيما إذا قتل صاحبهم أو صلب، فيقولون: صلب المهدي أو أنه قتل. يعنون بذلك صاحبهم.
القول الرابع:
التشكيك أنه بأي واد سلك.
فإن كان المراد به الاختفاء وجهالة مكان المهدي (عليه السلام) حال غيبته، فهو أمر واضح في ذهن كل قائل بالغيبة. إلا أن هذا المعنى خلاف ظاهر الروايات السابقة التي تقول: مات أ هلك وبأي واد سلك. بحيث يكون المراد موته في بعض الوديان والبراري.
ولم نطلع على من يقول بهذا القول أو يحتمله. على أنه قول في غاية الغرابة، فإن من يعتقد بغيبة المهدي (عليه السلام) إنما يعتقد بها ناشئة بإرادة الله تعالى وحاصلة بقدرته وتخطيطه. فكما أن الله حفظه خلال المدة السابقة، أياً كان مقدارها، فهو كفيل بأن يحفظه خلال المدة الآتية، أياً كان مقدارها. وبصونه من كل العاهات والآفات والبليات، تمهيداً لقيامه في اليوم الموعود لتنفيذ، الغرض الالهي الكبير.
ولعلي هذين القولين الأخيرين، مما سوف يظهر في مسقتبل السنوات، وخاصة لو تطاولت الغيبة مئات أخرى أو آلاف أخرى من السنين.
القسم الرابع:
ما دل على انحراف الحكام وفسقهم وخروج تصرفاتهم وحكمهم عن تعاليم الإسلام، في البلاد الإسلامية.
وأوضح ما ورد في ذلك وأكثرها صراحة، ما أخرجه مسلم في صحيحه(٢٥٥) بإسناده إلى النبي (ص) أنه قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيها رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان أنس.
وأخرج أيضاً(٢٥٦) أنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها... الحديث.
وروى الصدوق في الاكمال(٢٥٧) حديثاً عن رسول الله (ص) عن الله عز وجل في جواب عن السؤال وقت ظهور المهدي (عليه السلام) قال: فأوحى الله عز وجل إلى يكون ذلك إذا رفع العلم وظهر الجهل... إلى أن قال: وصار الأمراء كفرة وأولياؤهم فجرة وأعوانهم ظلمة وذوي الرأي منهم فسقة.
وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين (ع)(٢٥٨) في حديث كالذي سبقه يقول فيه:
وابتعوا الأهواء واستخفوا الدماء وكان الحلم ضعفاً والظلم فخراً، وكان الأمراء فجرة والوزراء ظلمة.... الحديث.
وفي حديث آخر(٢٥٩) عن أبي عبد الله (ع): ورأيت الولاة يقربون أهل الكفر ويباعدون أهل الخير، ورأيت الولاة يرتشون في الحكم، ورأيت الولاية قيالة لما زاد.
وهذا هو الموافق للوجدان، وللقواعد العامة، ولمقتضى التمحيص الإلهي. أما موافقته للقواعد العامة والتمحيص الالهي، فباعتبار أمرين مقترنين:
الأمر الأول:
أن الحكام يكونون ـ في العادة ـ من أبناء المجتمع المنحرف، ومن نتائج تربيته. إذ يكونون منذ نعومة أظفارهم معتادين على الإبتعاد عن الدين وعصيان أحكامه، كأي فرد ناشئ على هذه التربية. ومن ثم نجدهم يصدرون تلقائياً وبإقتناع عما اعتادوا وألفوه، وإن غيروا في أسلوب الإنحراف وطوروه.
ومن ثم يكون من الصعب أن نتصور الفرد المنحرف ابن المجتمع المنحرف، حاكماً بالحق والعدل، ومطبقاً لأحكام الإسلام. بل يكون فسق الحكام والوزراء نتيجة طبيعية لإنحراف المجتمع وفساده.
الأمر الثاني:
إن انحراف الحكام، يشارك ـ لا محالة ـ في زيادة الظلم والتعسف في الناس ومطاردة الحق وأهله، فيكون ذلك محكاً آخر لتمحيص أشد وامتحان أصعب.... كما هو مقتضى التخطيط الالهي.
وأما موافقته للوجدان، فللوضوح التاريخي القطعي، بأن الحكم في البلاد الإسلامية، ساد بعد الخلافة الأولى ضمن مراحل ثلاث:
المرحلة الأولى:
الحكم الإسلامي المنحرف، المتمثل بـ (الملك العضوض) الذي أخبر به الرسول (ص) وسار عليه الخلفاء الأمويون والعباسيون والعثمانيون.(٢٦٠)
فإنهم بالرغم من توليهم زمام الحكم بسبب ديني، ويكون المفروض فيهم تطبيق حكم الإسلام، إلا أن ما مارسوه من الحكم كان مبنياً على المصلحة الذاتية والطمع بكراسي الحكم وتناسي المبدأ الإسلامي المقدس، وقد استعرضنا صورة من ذلك، في تاريخ الغيبة الصغرى. ورأينا أنه لم يختلف في ذلك شخص الخليفة والوزاء والقضاة والقواد، وسائر الضالعين بركابهم.
المرحلة الثانية:
الحكم الكافر مبدئياً، وإن كان الحاكم مسلماً بحسب الظاهر.(٢٦١) وهو الحكم الذي تعقب فترة الخلافة، ولا زلنا نعيشه إلى حد الآن في أكثر بلاد الشام. وقد أسس على الأسس المجلوبة من مبادئ الحضارة الأوروبية المادية، سواء منها الجانب الرأسمالي أو الجانب الإشتراكي، أو غيرهما. وبذلك نبذت أحكام الإسلام تماماً، وقام الحكم على أسس القوانين الوضعية البشرية.
المرحلة الثالثة:
أن يكون الحكم كافراً في المبدأ والقانون والحاكم.(٢٦٢)
وهو ما تحقق في فترات متقطعة في تاريخ المجتمع الإسلامي، نتيجة لحملات الكفر عليه من التتار والمغول والصليبيين والإستعمار الأوروبي المباشر الحديث.
وقد تحققت في المرحلة الأولى فضلاً عن المراحل المتأخرة، جميع تلك التنبؤات التي يجمعها ويمثلها الإنحراف عن الإسلام بقليل أو كثير. فكانت قلوبهم قلوب الشياطين تميل عواطفهم نحو الشر، قد اتبعوا الأهواء أي المصالح الضيقة واستخفوا بالدماء اي استهانوا بالقتل، فكان قتل الفرد بل المئات شيئاً هيناً بل مفخرة كبرى لفاعله. واصبح الحلم و(الفعو عند المقدرة) ضعفاً، والظلم والتنكيل فخراً... وأصبح الأمراء وهم الحكام خلفاء كانوا أو ملوكاً أو رؤساء أم سلاطين... أصبحوا فجرة ووزراؤهم ظلمة وذوي الرأي منهم فسقة.
وقد كان الحكام في كل هذه المراحل الثلاث، وخاصة الأخيرين منها، يقربون أهل الكفر، وهم المنحرفون المتزلفون للحكام، ويباعدون أهل الخير والصلاح، ممن يأنف عن أن يعطى الدنية من نفسه. وأما الرشوة فحدث عنها ولا حرج كما هو واضح للعيان. ولله في خلقه شؤون.
هذا كله في المجتمع الإسلامي الذي أسسه الرسول (ص) وتعاهده بالرعاية، فأصبح ـ بعد ذلك ـ مبنياً على الخروج على كتابه وسنته وهداه. وهو المجتمع الذي تتحدث عنه هذه الروايات عادة. وأما الحكم في غير المجتمع الإسلامي، فهو قائم على طول الخط على الكفر المحض وإن كان ولا زال يتسافل تدريجياً إلى المادية عقائدياً والتسيب أخلاقياً، والضعف إقتصادياً، في كبار الدول فضلاً عن صغارها. كما تشهد بذلك الأثار وتدل عليه الأخبار.
القسم الخامس: أخبار التمحيص والإمتحان.
فإننا بعد أن عرفنا فلسفته وإندراجه كعنصر أساسي في التخطيط الالهي.. نريد أن يكون منا إطلاعة على عدد من الأخبار الدالة عليه.
أخرج ابو داود(٢٦٣) وابن ماجه(٢٦٤) بلفظ مقارب جداً، عن رسول الله (ص): كيف بكم وبزمان يوشك أن يأتي، يغربل الناس فيه غربلة، وتبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم، فاختلفوا، وكانوا هكذا (وشبك بين أصابعه)... الحديث.
وروى الصدوق في إكمال الدين(٢٦٥) والكليني في الكافي(٢٦٦) عن أبي عبد الله الصادق (ع): إن هذا الأمر لا يأتيكم إلا بعد يأس. ولا والله حتى تميزوا، ولا والله لا يأتيكم حتى تمحصوا. لا والله لا يأتيكم حتى يشقى من يشقى ويسعد من يسعد.
وروى الصدوق أيضاً(٢٦٧) عنه عليه السلام: كيف أنتم إذا بقيتم بلا إمام هدى ولا علم. يبرأ بعضكم من بعض. فعند ذلك تمحصون وتميزون وتغربلون... الحديث.
وروى النعماني في الغيبة(٢٦٨) والكليني في الكافي(٢٦٩) عنه عليه السلام أيضاً أنه قال ك لا بد للناس من أن يمحصوا ويميزوا ويغربلوا. وسيخرج من الغربال خلق كثير.
وروى النعماني(٢٧٠) أيضاً عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: والله لتميزن والله لتمحصن، والله لتغربلن كما يغربل الزوان من القمح.
وفي الكافي،(٢٧١) عن أبي عبد الله عليه السلام: إن أمير المؤمنين عليه السلام لما بويع بعد مقتل عثمان صعد المنبر وخطب بخطبة ذكرها، يقول فيها: إلا إن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه (ص). والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة، حتى يصير أسفلكم، وليسبقن سابقون كانوا قد قصروا، وليقصرن سباقون كانوا قد سبقوا وروى النعماني أيضاً(٢٧٢) بسنده عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث قال فيه: فوالذي نفسي بيده ما ترون ما تحبون حتى يتفل بعضكم في وجوه بعض، وحتى يسمي بعضكم بعضاً كذابين، وحتى لا يبقى منكم " أو قال: من شيعتي " كالكحل في العين أو كالملح في الطعام. وسأضرب لكم مثلاً، هو مثل رجل كان له طعام فنقّاه وطيّبه ثم أدخله بيتاً وتركه فيه ما شاء الله. ثم عاد إليه فإذا هو قد أصابه السوس، فأخرجه ونقاه وطيبه، ثم أعاده إلى البيت فتركه ما شاء الله. ثم عاد إليه، فإذا هو قد أصابته طائفة من السوس فأخرجه ونقّاه وطيّبه وأعاده. ولم يزل كذلك حتى بقيت منه رزمة كرزمة الأندر لا يضره السوس شيئاً.
وكذلك أنتم تميزون حتى لا يبقى منك إلا عصابة لا يضرها الفتنة شيئاً.
والتمحيص هو التنقية وإبعاد الردئ، والغربلة هي النخل بالغربال حتى تخرج الزوان، وهو الحب الغريب عن الحنطة يكون على شكلها وليس منها.
وغربلة البشر تكون بقانون التمحيص الذي عرفناه. وغربالهم فيها هي الظروف الصعبة والظلم الذي يعيشه الفرد والمجتمع من ناحية والشهوات والمغريات والمصالح الضيقة، من ناحية أخرى."وسيخرج من الغربال خلق كثير" بمعنى أن أكثر البشر يتبعون الباطل وينحرفون مع الشهوات والمصالح أو مع الظالمين المنحرفين. فيصبحون" حثالة قد مرجت(٢٧٣) عهودهم وأماناتهم " والمراد بها الدين والالتزام بالإسلام وما تستتبعه من خلق كريم وسلوك مستقيم.
وتبقى في نتيجة التمحيص الطويل " عصابة لا تضرها الفتنة شيئاً " لأنهم يمثلون الحق صرفاً، وينتمون إلى قسطاط الحق الذي لا كفر فيه، كما سبق أن سمعنا من الأخبار.
وقد عرفنا أن قانون التمحيص عام للبشرية مرافق لها في عمرها الطويل. وقد نطق به التنزيل. قال الله تعالى: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب)(٢٧٤) وقال عز وجل: (ليميز الله الخبيث من الطيب، ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه فيجعله في نار جهنم وأولئك هم الخاسرون).(٢٧٥)
وقال: (وليمحصن الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين. أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين).(٢٧٦)
ولكن هذا القانون يكون أشد وآكد إذا اقترن بالإعداد لليوم الموعود، إعداداً يمكن به حمل التبعة والشعور بالمسؤولية تجاه العالم كله.
ولعلنا نستطيع أن نفهم من قوله تعالى: ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين... كيفية التمحيص وأسلوبه، وذلك: إن التمحيص ليس للكشف والإظهار فقط أمام الآخرين أو أمام التاريخ، وأن كان هذا هو جانبه الظاهر المنظور. وإنما يتضمن ـ في الحقيقة ـ تغييراً حقيقياً وتأثيراً جوهرياً في ذات الفرد يعلمه الله تعالى منه بعد وجوده وتحققه.
ويتضح ذلك من بيان مقدمتين:
المقدمة الأولى:
أن للفرد العاقل المختار اتجاهات ووجهات نظر، وله مواقف وآراء تجاه كل حادثة مما يمر به في حياته. وهوعلى الدوام يحدد مواقفه فعلاً وتركا وآراءه إيجاباً وسلباً، صادراً صدرواً تلقائياً عن اتجاهاته ووجهات نظره العقائدية والعقلية والثقافية.فتتحدد مواقفه بتحديد إتجاهاته، وتتغير بتغييره، لا محالة، تجاه كل حادث من حوادث الحياة.
ويكون للحوادث المتغيرة المتطورة الأثر الكبير في تغيير وتطوير اتجاهات الفرد فضلاً عن مواقفه... وبذلك يكسب الصغير خبرة والكبير حنكة والجاهل علماً، كما هو واضح جداً لكل فرد عاقل يعيش في هذه الحياة.
وقد يزداد الأثر في هذا المقدار الاعتيادي، فيما إذا كان الحادث أو مجموعة الحوادث، ذات صيغة أساسية في حياة الفرد. ولكل فرد من الحوادث ما تكون أساسية في حياته. فقد تعمق الحوادث اتجاهه وترسخه وقد تضعفه وتضعضعه، وقد تغير شكله وطريقه. وبتغير الاتجاه تتغير المواقف بالطبع. فيكاد يصبح الفرد فرداً آخر، أو تسبغ على سلوكه تغيرات كبرى أو صغرى تختلف بإختلاف أهمية الحوادث. فقد يصبح الفرد المنحرف معتدلاً والمعتدل واعياً، بل قد يصبح الواعي منحرفاً والمنحرف واعياً. وقد يصبح الجبان شجاعاً والشجاع جباناً والبخيل كريماً والكريم بخيلاً والكذاب صادقاً والصادق كذاباً... وهكذا وهكذا.
هذا كله في الحوادث الفردية التي يصادفها الناس في الحياة. ومتى كانت الحوادث أوسع من الوجود الفردي وأكبر، كان أثرها أعمق وأشمل على المجتمع كله، فضلاً عن الفرد، كالاتجاه العام للحاكمين سياسياً أو المتنفذين اقتصادياً أو إجتماعياً أو غير ذلك. وكالغزو أو الاستعمار الذي تتعرض له البلاد، أو التدهور الإقتصادي التي يمر بها أو تمر به. فإن كل ذلك يؤثر في الأفراد بل في الشعب كله أثاراً بليغة، قد يبلغ مدى تأثيره عمقاً واسعاً في الزمان والمكان.
ومن هنا بالذات وتنبثق فكرة التمحيص والإمتحان، فإننا بعد أن نعرف: إن لكل واقعة في الإسلام حكماً معيناً، ونعرف: إن لكل فر موقفاً معيناً تجاه كل حادثة.إذن فلا بد أن ينظر إلى مدى تطابق موقف الفرد مع حكم الإسلام. فإن كان منسجماً معه، فهو ناجح في التمحيص، وإن كان مختلفاً معه، فهو فاشل وراسب لا محالة.
والحوادث المتعاقبة، قد تصقل من عقيدة الفرد الدينية، وقد تضعضعها، بشكل متوقع أو غير متوقع، فإن لكل فرد إعتيادي نوازعه الخيرة ونوازعه الشريرة، واتجاهاته الخاصة. وقد تكون هذه الإتجاهات متميزة بسلوك إعتيادي معين، فإذا طرأت حادثة معينة اضطر إلى الإستجابة لها بإتخاذ موقف من المواقف لا محالة.
واضطر إلى التفكير في حال نفسه وفيما هو مقتنع به، ومن هنا قد يصل الفرد إلى لزوم اتخاذ موقف جديد، وإعادة النظر فيما كان مقتنعاً به من التفكير، وما كان يتخذه من مواقف.
وليس لاستجابات الأفراد وقراراتهم تجاه الحوادث، ضابط معروف او قاعدة عامة معينة... لكثرة العناصر والأسباب الداخلية والإجتماعية التي تؤثر فيه، والتي تختلف بين فرد وآخر في هذا العالم الواسع.
ومن هنا يكتسب التمحيص أهميته، فإنه قبل حدوث الحادثة ـ أية حادثة ـ تكون حالة الفرد من حيث اتجاهه ورد فعله وما سيتخذه من سلوك، مجملة ذاتاً وليس لها أي تعين واقعي. والحوادث وحدها هي التي تعين واقع اتجاهه الجديد، ودرجة عقيدته وإيمانه، كما تكشف لنا ولنفسه ايضاً، هذا الاتجاه الجديد ومقتضياته المتمثلة في سلوكه الجديد الذي يتخذه.
فإذا كان للأفراد اتجاهات على الدوام وكانت الحوادث تحدث باستمرار، وكان لهم تجاهها ردود فعل وآراء ومواقف، إذن يكون التمحيص والامتحان مستمراً باستمرار الحياة البشرية.
ومن هنا نرى أن التمحيص كلما اكتسب أهمية أكبر في التخطيط الالهي، كما هو كذلك خلال عصر الغيبة الكبرى.. شاء الله تعالى أن يعرض الأفراد لحوادث أعقد وأصعب، حتى يكون اتخاذهم للمواقف الجديدة حاسماً وأكيداً، ليتضح ما إذا كانت مواقفهم منسجمة مع تعاليم الإسلام أو لا.
المقدمة الثانية:
وهي تتعلق بفهم الآية الكريمة.. وذلك أن هناك فرقاً في علم الله تعالى منم حيث متعلقه لا من حيث ذاته بين حال ما قبل وجود الشيء في الخارج وبين ما بعد وجوده. فعلمه عز وجل بالشيء قبل وجوده: أنه سيوجد وعلمه به بعده: أنه قد وجد. وتحقيق ذلك والبرهنة عليه مفصلاً موكول إلى مباحث الفلسفة الإسلامية.
إذا تمت هاتان المقدمتان استطعنا أن نعلم المراد من الآية الكريمة: (ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين).
فإن الفرد ـ أي فرد ـ قبل حصول ظروف الجهاد، وقبل تشريعه، يكون ناقص التكوين حقيقة، لا مجاهداً ولا صابراً، وتكون حالته النفسية واتجاهاته مجملة من حيث كونه سيتخذ موقف الجهاد عند طرد ظروفه وسيصبر على مسؤولياته أولاً. بمعنى أن له درجة ما قبل الجهاد، ولا لعقاب الخارجين على مسؤولياته. ومن ثم قال الله تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، ولما يعلم الله المجاهدين منكم ويعلم الصابرين.
وبعد طرد ظروف الجهاد، يتحدد الموقف الواقعي للفرد، بأنه مجاهد أو غير مجاهد، ذلك الموقف الذي يكسب به درجته الجديدة من الكمال أو التسافل.
فإنه قد يكون رد فعله تجاه هذه الظروف منافياً مع تعاليم الإسلام العادلة فيكون فاشلاً في التمحيص الالهي متسافلاً عن درجته الإيمانية التي كان عليها. وقد يكون رد فعله تجاه هذه الظروف منسجماً مع تلك التعاليم، فيكون ناجحاً في هذا التمحيص، صاعداً فوق ما كان عليه من درجة الإيمان، في سلم الكمال.
فإذا تحدد اتجاهه الجديد، بالجهاد والصبر، علم الله تعالى ذلك منه، كعلمه بالأشياء بعد وجودها، ويكون الفرد ساعتئذ مستحقاً لثواب المجاهدين.
إذن فليس المراد من نسبة العلم إلى الله في الآية مجرد الانكشاف لاستلزامه نسبة الجهل إليه قبل ذلك، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وإنما المراد تغير الواقع المتمثل في تغير اتجاهات المكلفين ومواقفهم، فيعلم الله تعالى بتجدد الوجود عليها وحصول مرتبة الكمال أو التسافل للفرد. وهذا العلم هو المتحقق بالنسبة إلى الله بأنه سيوجد، وبعده عالم بأنه وجد، كما سبق أن عرفنا.
فإذا عرفنا هذه القاعدة العامة في كيفية التمحيص، وأثره الواقعي.. فهمنا ما ذكر في الروايات السالفة.. كيف يوجب التمحيص أن يسبق سابقون كانوا قد قصروا ويقصر سباقون كانوا قد سبقوا، وعرفنا لماذا يبقى بعد التمحيص حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وآماناتهم، بعد أن تسالفوا في مواقفهم وردود فعلهم. ويبقى من جهة أخرى عاصبة لا تضرهم الفتنة شيئاً، لأنهم نجحوا في التمحيص وسيطروا على كل المصاعب، فلا يستطيع الظلم بكل كبريائه ولا الدنيا بكل مغرياتها حملهم على الإنحراف. ورزمة كرزمة الأندر أو كالكحل في العين أو الملح في الطعام من القلة، بالنسبة إلى مجموع البشرية بل المسلمين. وهذا معنى أنه: يشقى من يشقى ويسعد من يسعد.
وعرفنا أن سبب التمحيص والغربلة بالغربال الذي يغربل به الأفراد (كما يغربل الزوان من القمح).. هي الحوادث المستجدة على الدوام في ظروف الظلم والإغراء.
القسم السادس:
الأخبار الدالة على حدوث وقائع وظواهر معينة محددة من أشكال العصيان والإنحراف في المجتمع المسلم.
أخرج البخاري(٢٧٧) عن أنس قال قال رسول الله (ص): إن من اشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنا. واخرج في حديث آخر(٢٧٨) بلفظ: ويظهر الجهل ويظهر الزنا.
وأخرج ابن ماجه(٢٧٩): ليشربن ناس من أمتي الخمر ويسمونها بغير اسمها، يعزف عن رؤوسهم بالمعازف والمغنيات.
وفي نور الإبصار(٢٨٠): وهذه علامات قيام القائم مروية عن أبي جعفر رضي الله عنه: قال: إذا تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، وركبت ذات الفروج السروج. وأمات الناس الصلوات واتبعوا الشهوات، واستخفوا بالدماء وتعاملوا بالربا وتظاهروا بالزنا، وشيدوا البناء واستحلوا الكذب، وأخذوا الرشا وواتبعوا الهوى، وباعوا الدين بالدنيا، وقطعوا الأرحام وضنوا بالطعام فكان الحلم ضعفاً، والظلم فخراً، والأمراء فجرة والوزراء كذبة والأمناء خونة والأعوان ظلمة والقراء فسقة. وظهر الجور وكثر الطلاق وبدا الفجور ووقبلت شهادة الزور، وشربت الخمور، وركبت الذكور، واستغنت النساء بالنساء. واتخذ الفيء مغنماً والصدقة مغرماً، واتقي الأشرار مخافة السنتهم... الحديث.
وفي إكمال الدين(٢٨١) عن رسول الله (ص) في مخاطبته لله عز وجل ليلة المعراج، وفيه يقول: فقلت: الهي وسيدي متى يكون ذلك ـ يعني ظهور المهدي (عليه السلام) ـ؟ فأوحى الله عز وجل إلى: يكون ذلك ـ إذا رفع العلم وظهر الجهل، وكثر القراء وقل العمل، وكثر القتل، وقل الفقهاء الهادون، وكثر فقهاء المصاحف وزخرفت المساجد، وكثر الجور والفساد، وظهر المنكر وأمر امتك به ونهي عن المعروف. واكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، صار الأمراء كفرة وأولياءهم فجرة وأعوانهم ظلمة، وذوي الرأي منهم فسقة... الحديث.
وروي في الخرايج والجرايح(٢٨٢) بسنده عن البرك بن سبرة قال: خطبنا علي بن أبي طالب، فقال: سلوني قبل أن تفقدوني. فقام صعصعة بن صوحان فقال: يا أمير المؤمنين: متى يخرج الدجال؟ فقال: ما المسؤول عنه بأعلم من السائل.
ولكن لذلك علامات وهيئات يتبع بعضهم بعضا. إن علامة ذلك ك إذا فات الناس الصلوات وأضاعوا الأمانة واستحلوا الكذب وأكلوا الربا، وشيدوا البنيان، وباعوا الدين بالدنيا واستعملوا السفهاء وشاوروا النساء وقطعوا الأرحام، وأتبعوا الأهواء، واستخفوا الدماء. وكان الحلم ضعفاً والظلم فخراً، وكانت الأمراء فجرة والوزراء ظلمة والعلماء خونة والفقراء فسقة.
وظهرت شهادة الزور واستعلن الفجور، وقيل البهتان والإثم والطغيان، وحليت المصاحف وزخرفت المساجد وطولت المنارة واكرم الأشرار، وازدحمت الصفوف، واختلفت القلوب، ونقضت العهود، واقترب الموعود.
وشاركت النساء ازواجهن في التجارة حرصاً على الدنيا، وعلت أصوات الفساق واستمع منهم، وكان زعيم القوم ارذلهم. واتقى الفاجر مخافة شره، وصدق الكاذب وأئتمن الخائن، واتخذت المغنيات، ونسبت(٢٨٣) الرجال بالنساء والنساء بالرجال، ويشهد الشاهد من غير أن يستشهد. وشهد الآخر(٢٨٤) قضاء لذمام لغير حق تعرفه. وتفقه لغير الدين، وآثروا عمل الدنيا على عمل الآخرة. لبسوا جلود الضأن على قلوب الذباب،(٢٨٥) وقلوبهم أنتن من الجيف وأمر الصبر... الحديث.
والأخبار في ذلك مطولة وكثيرة. وأود أن أسرد الحديث الآتي على طوله، باعتباره وثيقة مهمة في التاريخ الذين نحن بصدده.
روي في منتخب الأثر(٢٨٦) عن تفسير الصافي عن تفسير القمي عن ابن عباس. قال: حججنا مع رسول الله (ص) حجة الوداع، فأخذ بحلقة باب الكعبة، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: ألا أخبركم بأشراط الساعة!.
فكان أدنى الناس منه يؤمئذ سلمان رحمه الله فقال: بلى يا رسول الله.
فقال: إن من أشراط القيامة، إضاعة الصلوات واتباع الشهوات، والميل مع الأهواء، وتعظيم أصحاب المال وبيع الدين بالدنيا. فعندما يذاب قلب المؤمن في جوفه، كما يذاب الملح في الماء، مما يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيره.
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: اي والذي نفسي بيده يا سلمان، إن عندهم يليهم أمراء جورة، ووزراء فسقة وعرفاء ظلمة وأمناء خونة.
فقال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: اي والذي نفسي بيده، يا سلمان، إن عندها يكون المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، ويؤتمن الخائن ويخون الأمين، ويصدق الكاذب ويكذب الصادق.
قال سلمان إن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: أي والذي نفسي بيده وفعندها إمارة النساء، ومشاورة الأماء، وقعود الصبيان على المنابر. ويكون الكذب طرفاً والزكاة مغرماً والفيء مغنماً، ويجفو الرجل والديه ويبر صديقه. ويطلع الكوكب المذنب.
قال سلمان: أن هذا لكائين يا رسول الله؟
قال: أي والذي نفسي بيده. وعندها تشارك المرأة زوجها في التجارة، ويكون المطر فيضاً(٢٨٧) ويغيض الكرام غيضاً. ويحتقر الرجل المعسر. فعندها تقارب الاسواق، إذا قال هذا: لم أبع شيئاً، وقال هذا: لم أربح شيئاً. فلا ترى إلا ذاماً لله.
قال سلمان: إن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: أي والذي نفسي بيده، يا سلمان، فعندها تليهم أقوام أن تكملوا قتلوهم وإن سكتوا استباحوهم. ليستأثرون بفيئهم، وليطأون حريتهم وليسفكن دماءهم، وليلمؤن قلوبهم دغلاً ورعباً، فلا تراهم إلا وجلين خائفين مرعوبين مرهوبين.
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: أي والذي نفسي بيده، يا سلمان. إن عندها يؤتى بشيء من المشرق وبشيء من المغرب يلون أمتي، فالويل لضعفاء أمتي منهم. والويل لهم من الله، لا يرحمون صغيراً ولا يوقرون كبيراً ولا يتجافون عن مسيء.
جثتهم جثث الآدميين وقلوبهم قلوب الشياطين.
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال (ص): أي والذي نفسي بيده، يا سلمان، وعندها يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء، ويغار على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها.
وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، وتركبن ذوات الفروج السروج، فعليهن من أمتي لعنة الله.
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: أي والذي نفسي بيده، يا سلمان. وعندها تحلى ذكور أمتي بالذهب ويلبسون الحرير والديباج ويتخذون جلود النمور صفافاً.(٢٨٨)
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: اي والذي نفسي بيده يا سلمان، وعندها يظر الرب، ويتعاملون بالعينة(٢٨٩) والرشا، ويوضع الدين وترفع الدنيا.
قال سلمان: وإن ذلك لكائن يا رسول الله؟
قال: أي والذي نفسي بيده يا سلمان، وعندها يكثر الطلاق، فلا يقام لله حد. ولن يضروا الله شيئاً.
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: اي والذي نفسي بيده يا سلمان، وعندها تظهر القينات والمعازف، وتليهم شرار أمتي.
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال(ص): أي والذي نفسي بيده ويا سلمان. وعندها يحج أغنياء أمتي للنزهة ويحج أوساطها للتجارة، ويحج فقراؤهم للرياء والسمعة. فعندها يكون أقوام يتفقهون لغير الله ويكثر أولاد الزنا، ويتغنون بالقرآن، ويتهافتون بالدنيا.
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال(ص): أي والذي نفسي بيده، يا سلمان. ذلك إذا انتهكت المحارم، واكتسبت المآثم وسلط الأشرار على الأخيار ويفشو الكذب ووتظهر اللجاجة، وتفشو الفاقة، ويتباهون في اللباس، ويمطرون في غير أوان المطر، ويستحسنون الكوبة والمعازف، وينكرون الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى يكون المؤمن في ذلك الزمان أذل من الأمة. ويظهر قراؤهم وعبادهم فيما بينهم التلاوم، فأولئك يدعون في ملكون السماوات: الأرجاس الأنجاس.
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
قال: أي والذي نفسي بيده، يا سلمان. فعندها لا يخشى الغني على الفقير، حتى أن السائل يسأل في الناس فيما بين الجمعتين لا يصيب أحداً يضع في كفه شيئاً.
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟
فقال: أي والذي نفسي بيده، يا سلمان. فعندها يتكلم الروبيضة.
فقال سلمان: ما الروبيضة؟ يا رسول الله، فداك أبي وأمي.
قال (ص): يتكلم في أمر العامة من لم يكت يتكلم(٢٩٠).. الحديث.
وروى الشيخ الصدوق فيمن لا يحضره الفقيه(٢٩١) عن الإصبغ بن نباته عن أمير المؤمنين (ع) قال: سمعته يقول: يظهر في آخر الزمان واقتراب الساعة، وهو شر الأزمنة، نسوة كاشفات عاريات، متبرجات من الدين، داخلات في الفتن، مائلات إلى الشهوات، مسرعات إلى اللذات، مستحلات للمحرمات، في جهنم داخلات.
إلى غير ذلك من الاخبار الكثيرة، وفيها المطول والمختصر. ويكفينا منها ما ذكرناه... وهي لعمري بمجموعها الوثيقة التاريخية المهمة، والوجه الصادق المخلص، المطابق للقواعد والوجدان، في الكشف عن تاريخ البشر خلال عصر الغيبة الكبرى.
ويتم الكلام في فهم هذه الأخبار وتحديد مداليلها في ضمن أمور:
الأمر الأول:
أننا لنشعر من سلمان الفارسي رضي الله عنه ـ في خبر ابن عباس ـ وهو يعيش المجتمع الفاضل العادل الذي يقوده النبي (ص) ويرعاه... أننا لنشعر منه استغرابه وشدة عجبه من صفات الفسق والإنحراف التي يعلن النبي (ص) عن تحققها في آخر الزمان. ومن هنا نراه يكرر على النبي (ص) القول: وإن ذلك لكائن يا رسول الله. فيجيبه النبي (ص) مؤكداً أي والذي نفسي بيده.
كما أننا لنحس بكل وضوح الأسى الشديد الذي يتضمنه كلام النبي (ص) وهو يصف خروج الناس عن شريعته وعصيانهم لتعاليمه، وتركهم للعدل الصحيح، مما يسبب لديهم أسوأ الآثار. كيف لا، والله تعالى يقول: (يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون).(٢٩٢)
والنبي (ص) إذ يخطاب الناس بذلك، ويطلعهم عليه، لا يخص به صحابته وأهل عصره ـ باجتنابهم الخصال السيئة والإنحرافات المقيتة التي ذكرها رسول الله (ص) في بيانه.
إلا أن غرضه الأساسي والأهم هو مخاطبته الأجيال القادمة، وعلى الأخص تلك الأجيال التي تتصف بهذه الصفات، وتنحرف مثل هذه الإنحرافات، حتى ينبهها عن غلفتها ويشعرها بواقعها، ويتم الحجة عليها. ذلك التنبيه الذي يؤثر في وجدان عدد من الناس المخلصين، التأثير الصالح المطلوب، فيتأكد إخلاصهم وتقوى إرادتهم ويزداد شعورهم بالمسؤولية للتمهيد لليوم الموعود، طبقاً للتخطيط الالهي الكبير.
الأمر الثاني:
أننا نفهم مما قلناه الآن: إن رواية ابن عباس بل جميع هذه الروايات تشارك في التخطيط الالهي من ناحية أسبابها ومن ناحية نتائجها.
أما من ناحية أسباب صدور هذه الرويات، فباعتبار علم النبي (ص) والأئمة (ع) بالتخطيط الالهي، وما سوف يقتضيه على طول الخط التاريخي الطويل. ومن ثم نراهم يخبرون بهذا الجانب من التخطيط، كما أخبروا بجوانب أخرى، في الأخبار السابقة كروايات التمحيص... وغيرها.
وأما من ناحية نتائجها، فلما تتوخاه هذه الأخبار من إتمام الحجة، والتنبيه من الغفلة، وإيجاد شرط الظهور بإعلاء درجة الإخلاص في الأجيال المعاصرة للانحراف.
الأمر الثالث:
إن بعض هذه الأخبار، تكون قرينة مبينة بالنسبة إلى البعض الآخر. إذ بالرغم من أن جملة منها لا يتضح منها كون الانحراف المخبر به حاصلاً في عصر الغيبة الكبرى على التعيين. إلا أن خبر نور الإبصار وخبر إكمال الدين، قرن تلك الحوادث بما قبل ظهور المهدي (عليه السلام) ومع اتحاد الحوادث نعرف أن المراد من جميع الأخبار هو ذلك.
كما أنه قرنت هذه الحوادث في خبر " الخرايج والجرايح " بما قبل ظهور الدجال، فإذا علمنا بالقطع واليقين بأن ظهوره سابق على ظهور المهدي (عليه السلام)، كما تدل عليه الروايات الآتية المروية من قبل الفريقين. إذن نفهم بوضوح أن هذه الحوادث سابقة أساساً على ظهور المهدي (عليه السلام). وهو معنى حصولها في فترة الغيبة الكبرى، كما هو واضح.
واقترانها بما قبل قيام الساعة، في بعض هذه الأخبار، لا يكون مضراً بما فهمناه، باعتبار ما قلناه فيما سبق، من أن السابق على الظهور سابق على قيام الساعة. وليس من الضروري أن تكون أشراط الساعة واقعة قبلها مباشرة.
وسيأتي التعرض إلى تفصيل ذلك في القسم الثالث من هذا التاريخ.
الأمر الرابع:
مقصود النبي (ص) والأئمة (ع) هو اطلاع الأمة على الانحراف الأساسي الذي يستفحل في المجتمع، فيبتعد به عن العدل الإسلامي، بكل تفاصيله، بما فيه التعاليم الإلزامية والتوجيهات الإستحبابية والأخلاقية. فإن العدل الكامل لا يتحقق إلا باتباع كل التعاليم واجبها ومستحبها وعباديها وأخلاقيها. ويتحقق الانحراف بالخروج على أي منها.
ومن ثم نسمع من هذه الأخبار ووقوع الإنحراف عن المستحبات، كترك الصدفة المستحبة وتحلية المصاحف وزخرفة المساجد، وإطالة المنارة فيها، ونحو ذلك.
الأمر الخامس:
إن عدداً من الحوادث الواردة في هذه الروايات، تتضمن أموراً يمكن أن تقع على وجه إسلامي صحيح، كما يمكن أن تقع على وجه باطل منحرف. ونعرف بالطبع ـ من وقوعها في كلام النبي (ص) أو الإمام (ع) وهو بصدد تعداد الحوادث المنحرفة، أنها منحرفة، وواقعة على شكلها الباطل.
مثال ذلك: تشييد البناء، فإنه إن وقع من الفرد بعد تطبيق كل الأنظمة المالية في الإسلام، وعلى الوجه الشرعي الصحيح، لم يكن فيه حزازة. بل قد يتضمن مصلحة عامة في كثير من الأحيان. ولكنه إن وقع على خلاف ذلك كان عصياناً وانحرافاً في نظر الإسلام.
الأمر السادس:
إن ما تتضمنه هذه الأخبار، أمور راجحة وصحيحة شرعاً، إلا أنها إذا اقترنت بسلوك منحرف أو اتجاه فاسد، اكتسبت معنى منحرفاً سيئاً، بمعنى أن مجموع فعل الفرد لا يكون محموداً، بل يكون ممثلاً لحظ الانحراف لا محالة.
مثال ذلك: قوله: إذا ازدحمت الصفوف واختلفت القلوب. فإن ازدحام الصفوف للصلاة الجامعة أو لغرض آخر كالوعظ أو تشييع جنازة أو نحو ذلك، أمر مطلوب وراجح في الإسلام..ولكنه إذا افترن بتفرق القلوب وتشتت الأهواء والنوازع، لم يكن دالاً على قوة ولا على وعي وإرادة، ومن ثم يكون مذموماً مقيتاً.
ومثاله الآخر: إن الرجل يجفو والديه ويبر صديقه. فإن بر الصديق وإن كان أمراً عادلاً راجحاً على الأغلب، إلا أنه إذا اقترن بجفاء الوالدين دل على خبث النية وانحراف والاتجاه. ويدل على أن الصداقة لم تنعقد على أساس الإسلام بل على أساس المصالح الضيقة والأعمال المنحرفة، إذ لو لم يكن كذلك، لما جفا الفرد والديه.
وهكذا... قس على هذه الأمثلة ما سواها.
الأمر السابع:
يراد ببعض التعابير في هذه الأخبار معناها الكنائي أو الرمزي، لا المعنى الحقيقي المفهوم من اللفظ لأول وهلة. ومعه لا حاجة إلى تخيل حدوث هذه الأمور بطريق إعجازي، بل يمكن أن يكون حدوثها طبيعياً اعتيادياً.
فمن ذلك قوله: لبسوا جلود الضأن على قلوب الذئاب. فإن المراد هو التعبير عن دماثة الظاهر وخبث الباطن وشراسة الطبع. وهذا واضح.
ومن ذلك: قوله: يذاب قلب الؤمن في جوفه، كما يذاب الملح في الماء، لما يرى من المنكر، فلا يستطيع أن يغيره.
فإن المراد التعبير من شدة أسفه ووجده لما يرى من العصيان ومخالفة العدل الإلهيي، وهو غير قادر على رفعه أو تغييره، بسبب عمق ظروف الإنحراف.
ومن ذلك قوله: إن عندها يؤتى بشيء من المشرق وبشيء من المغرب يلون (أي يحكمون) أمتي.
فإن أفضل تفسير لذلك: هو المبادئ المادية التي جلبت إلى بلاد الإسلام من الغرب تارة ومن الشرق أخرى. ويمارس الحكام المنحرفون الحكم طبقاً لأحدهما أو لكليهما في بعض الأحيان.
والظاهر من التعبير الوارد في الرواية: اشتراك كلا الشيئين في ولاية الأمة. ولم يحدث ذلك في التاريخ إلا في السنوات المتأخرة التي عشناها ونعيشها، حين أصبح الحكام في شرقنا الإسلامي يمثلون الشرق الملحد والغرب المشرك معاص، ويعبرونهما معاً مثلاً أعلى قدوة تحتذي، لو قيست بمبادئ الإسلام وتعاليمه، في رأيهم الخاطئ.
ومن ذلك: قوله: يتكلم الرويبضة. فإن المراد به – كما فسره صلى الله عليه وآله في نفس الحديث –: كل رجل يتكلم في أمر العامة، لم يكن يتكلم قبل ذلك.
وإن أفضل فهم لهذه العبارة، هو هو أن يقال: أنه عاش المجتمع المسلم عدة قرون، لا يتكلم باسم العامة ولا يدير شؤونهم إلا أشخاص صادرون عن الدين بشكل وآخر، كالخلفاء والقضاة والفقهاء. حتى ما إذا ورد تيار الحضارة الحديثة إلى العالم الإسلامي، أباح جماعة من المنحرفين لأنفسهم أن ينطقوا باسم العامة أو باسم الشعب وينظروا في أمره ويديروا شؤونه، من دون أن يكون لهم أي حق حقيقي سوى السيطرة التي اكتسبوها بالقوة والحديد والنار على الناس. وأصبحالتكلم باسم الشعب شعاراً راسخاً يقتنع به الكثيرون، بالرغم من أنه يمثل انحرافاً حقيقياً عن الإسلام الذي يوجب تكلم الحاكم باسم الله لا باسم الشعب.
ولعل التعبير بالروبيضة يشعرنا بوجود تيار رابض أو كامن بين أبناء الإسلام دهراص من الزمن، أنتج في نهايته هذه النتيجة.
وهذه أمر صحيح، بعد الذي نعرفه من التاريخ الحديث، من أن الاستعمار استطاع أولاً السيطرة الثقافية والعقائدية على عقول عدد كبير من أبناء هذه البلاد، مما أنتج في نهاية الخط، سطرتهم على الحكم وممارستهم الأساليب لكافرة في إدارة بلاد الإسلام. فكانت تلك السيطرة اعداداً كامناً لإيجاد هذا الحكم في نهاية المطاف.
وهذا يبرهن أيضاً على صحة ما في هذه الأخبار، مما قد تكلمنا عنه فيما سبق، من أن الأمراء يصبحون كفرة والوزراء فجرة وذوي الرأي فيهم فسقة.
الأمر الثامن:
أشرنا في منهج الفهم الدلالي للروايات، إلى أنه قد يرد فيها تعابير يختلف مصداقها ويتطور على مر العصور، وإن فهم الناس المعاصرون لصدور النص، مصدقاً معيناً، بل وإن صرح لهم بمصداق معين جرياً على قانون مخاطبتهم على قدر عقولهم، كما سبق. وقلنا أنه لا بد من التوسع في الفهم، وتطبيق التعبير على كل مصداق متطور، خاصة بعد اليقين بأن النبي (ص) أو الإمام (ع) يقصد المصداق الذي يحدث في الزمان الذي يتكلم عنه، لا الذي يحدث في الزمان الذي يتكلم فيه. ومن المعلوم اختلاف المصداقين إلى حد بعيد، طبقاً لتطور الزمان وتغير الأحوال.
فإذا استوعبنا ذلك استطعنا أن نطبقه في كثير من تعابير هذه الأخبار.
فمن ذلك: قوله: وتركب ذات الفروج السروج. فإن السرج وإن كان هو ما يوضع على الفرس، وقد ركبته النساء في التاريخ أحياناً، وتحققت النبوءة. وهو ما فيه الكفاية للمكتفي.
إلا أننا يمكن أن نجد مصاديق أخرى لذلك على مر العصور... فيما إذا فهمنا من السروج كل مركوب يختص بالرجل في نظر الإسلام. بمعنى أن ستعماله بالنسبة إلى المرأة ملازم عادة مع التبرج والخروج على الآداب الإسلامية، تماماص كما هو الحال في ركوب الفرس...فكذلك ركوب الدراجة الهوائية أو البخارية أو سياقة السيارة أو الطائرة أو الباخرة... ونحو ذلك.
ومن ذلك: قوله: وتظهر القينات والمعازف. وقوله: واتخذت المغنيات. فإنه بالرغم من أن ذلك قد حدث فعلاً منذ عصر الأمويين إلى ما بعده بعدة قرون. إلا أننا يمكن أن نفهم منه ما هو الأعم والأشمل لينطبق على ما تذيعه وسائل الإغلام الحديثة من حفلات غنائية وما تبثه من أساليب خلاعية لا أخلاقية على شاشة السينما والتلفزيون وعلى أمواج الراديو، فإنها لا تختلف في مضمونها وحقيقتها عن تلك الحفلات القديمة إلا في اجتماع السامعين والمشاهدين مع المغنين في مجلس واحد. كما لا تختلف في مقدار انحرافها عن الإسلام وعصيانها لتعاليمه.
الأمر التاسع:
إن هناك أموراً وردت في كلام النبي (ص) – في الخبر الطويل لابن عباس – لم يكن يقهم منها معاصروه إلا معنى غامضاً غائماَ، بمقدار ما ترشد إليه قواميس اللغة. ولكن قد أثبتت العصور الأخيرة، بما عاشت من تجارب، مدى أهميتها الكبرى وأثرها البالغ في المجتمع.
فمن ذلك: ما يصفه (ص) من موقف الحكام المنحرفين تجاه الشعب المسلم بقوله: إن تكلموا قتلوهم وإن سكتوا استباحوهم. فإن مثل هؤلاء الحكام يستغلون نقاط الضعف في الأمة على طول الخط، ويختطون معهم خطة العسف والقهر، لايختلف في ذلك الحكم الفردي الدكتاروي عن الحكم المبدئ المنحرف القائم على غير الإسلام.
فأول ما يواجهون به الأمة: منعها عن الحرية الفكرية والسياسية وصراحة الرأي، فإن (تكلموا قتلوهم) أو هددودهم بالعقاب الأليم. فإن استسلم الناس وسكتوا (استباحوهم) واستغلوا واستحلوا خيراتهم وسيطروا على مواردهم ومصادرهم.
ومن ذلك: ما ذكره (ص) من حصول كثرة الطلاق. على حين لم يكن يحدث في دولته من الطلاق إلا النذر القليل بنسبة ضئيلة جداً. لما كان الزوجان يلتزمانه فيما بينهما من تطبيق العدل الإسلامي، ونبذ الأنانية.
وأما حين يبتعد المجتمع عن أحكام الله عز وجل، وتتعقد حياته تعقيداً منحرفاً، تبدأ الأسر بالتفسخ والبيوت بالانفصام، وتكثر حوادث الطلاق حتى بعد وجود الذرية.
وقد أثبت العلم الإجتماعي الحديث، أن كثرة الطلاق تدل على حدوث عنصر أو عناصر، غير مرغوبة في الحياة الإجتماعية، وأنه يؤدي بدوره إلى عدة آثار سيئة مما يضطر الحكومات على طول الخط إلى رصد المبالغ الضخمة للملاجئ ونحوها لكي تحوي الأطفال المتسيبين الفاقدين للمربى والكفيل.
ومن ذلك قوله: وتفشو الفاقة. فإن انتشار الفقر يكون بأحد سببين، كلاهما ناتج عن سوء التنظيم الاقتصادي.
السبب الأول:
الرأسمالية أو الاستقطاب المالي عند عدد قليل من الناس، وبقاء الآخرين على حالة الضعف والفاقة، محكومين من قبل أرباب المال من حيث أوضاعهم
السياسية والاقتصادية والإجتماعية... بل حتى من حيث النواحي الإخلاقية والعقائدية في كثير من الأحيان. فإن المتمولين هم المسيطرون على تربية الناشئة وتثقيف الشعب، مضافاً إلى نفوذهم في البلاد.
السبب الثاني:
انخفاض المستوى الاقتصادي لدى جميع أفراد المجتمع، بقلة الدخل العام والواردات الشخصية. وقد تواجه مثل هذا الضعف الاقتصادي نتيجة لبعض الأزمات، أو سوء التصرف من قبل الحاكمين.
والسبب الأول هو الأغلب في المجتمعات، والأشد ضراراً عليها في المدى البعيد. وخاصة إذا عممنا مفهوم الطبقية المالية إلى المجتمع الزراعي والصناعي معاً. وقد نشأ هذا الوضع في المجتمعات الإسلامية، نتيجة لتناسي العدل الإسلامي وانحساره عن عالم التطبيق الإجتماعي. وكان من أوضح نتائجه أن تفشو الفاقة وينتشر الفقر.
الأمر العاشر:
ليس شيء مما ذكر في هذه الروايات، لم يتحقق في خلال التاريخ الإسلامي. ومن المستطاع القول بأن كل الصفات المعطاة فيها، موجودة بشكل وآخر، على طول تاريخ الإنحراف إلى العصر الحاضر، وستبقى نافذة المفعولن ما دام مجتمع الظلم والفتن موجوداً، إلى حين قيام الإمام المهدي (عليه السلام) بدولة الحق.
ولا نستطيع الدخول في تفاصيلهت وتكرار مداليلها بأكثر مما قلناه وإنما ذلك موكول إلى القارئ، إن شاء أن يراجع النصوص فاهماً لها انطلاقاً من الأساس الإسلامي الصحيح.
وبهذا ينتهي الكلام في الجهة الثانية من الناحية الثانية من هذا الفصل.

 

* * *

 

عرض على المنهج السندي:
وإذا عرضنا هذه الأخبار على المنهج السندي الذي التزمناه، من رفض الأخذ بخبر الواحد في هذا المجال، ما لم تقم على صحته قرائن خاصة أو تحصل فيه استفاضة أو تواتر... فإنه ينتج صحة الأعم الأغلب من هذه الأخبار. وإن كان كل واحد منها بمفرده خبر واحد، قد يوسم بالضعف.
فإن عدداً من هذه الأخبار قامت القرائن القطعية على صحته... يمكن أن نحمل فكرة عنها فيما يلي:
القرينة الأولى:
تحقق الحوادث التي أعربت عنها في التاريخ كما سمعنا، فإننا ذكرنا أن ذلك من القؤائن على صدق الخبر.
القرينة الثانية:
إن بعضها وارد في مورد معارضة الجهاز الحاكم، الذي كان مسيطراً في عصر صدور هذه الأخبار أو عصر تسجيلها. كقوله (ص): يكون أقوام أمتي يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها. فإنه كان على هذا ديدن عدد من الخلفاء الأمويين والعباسيين... يسمونها: الطلي أو الختج أو الفقاع... ويفتون بجواز الشرب ما لم يصل إلى حد الإسكار.
القرينة الثالثة:
إن عدداً منها مسجل في المصادر، قبل أن يشعر مؤلفوها أو رواتها بحدوث تلك الأحداث أساساً. وإنما حدثت بعد ذلك نتيجة لتزايد ابتعاد المجتمع عن الإسلام. كما هو واضح لمن استقرأ عدداً من الحوادث المنقولة، وقد استعرضنا بعضها عند محاولة فهمنا لهذه الأخبار يضاف إلى هذه القرائن: أن جملة من مضامين هذه الأخبار دل عليه عدد منها، ولم تختص بخبر واحد أو خبرين. وقد اعتبرنا في المنهج السندي ذلك من المرجحات.
ولعلك لاحظت معي تكرر الحوادث في الأخبار التي سمعناها. إن هذه الحوادث المكررة هي مقصودنا في المقام.
كما أن بعضها مستفيض أو متواتر لفظاً، وهو الخبر القائل بأن المهدي (عليه السلام) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. فإنه مروي من قبل الفريقين بأعداد كبيرة، منها ما ذكرناه ومنها ما لم نذكره. وقد ذكر الشيخ الصافي في منخب الأثر أنه مروي بما يزيد على المئة والعشرين طريقاً.
وأما ما لم يكن محتوياً على هذه القرائن والصفات من الأخبار، فمقتضى التشدد السندي الذي سرنا عليه... رفضه، وإيكال علمه إلى أهله.
كالخبر الذي رواه النعماني في الغيبة،(٢٩٣) المعرب عن حصول اثنتي عشرة رواية مشتبهة. وقد سبق. أو ما رواه ابن ماجة(٢٩٤) من (أن بين يدي الساعة دجالين كذابين قريباً من ثلاثين، كلهم يزعم أنه نبي). لو حملنا النبوة على معناها الإصطلاحي وهو الرسالة عن السماء. وفي البخاري(٢٩٥) يقول: كلهم يزعم أنه رسول الله. فإن هذه الأرقام لا تثيت. وإن وجد في التالريخ حقاً عدد ممن يدعي الإمامة أو النبوة.

 

* * *

 

الجهة الثالثة:
في الأخبار الدالة على صلاح الزمان وتحسن الوضع العام فيه... بشكل يشمل بإطلاقه تحسن المجتمع خلال عصر الغيبة الكبرى.
وقد ذكرنا بعد (منهج التمحيص الدلالي) أقسام الأخبار الدالة على صلاح الزمان وحسنه، وقلنا أنه لا بد من حمل مطلقاتها على مقيداتها، على النحو الذي سبق.
وأود في هذا الصدد، أن أورد عدة من هذه النصوص وأذكر الوجه الحق في تمحيصها.
ولم نجد من الرواة الإماميين من روى مثل ذلك، بل أن أخبارهم مطبقة على تدهور الزمان وفساده خلال عصر الغيبة الكبرى. وإنما هي أخبار قليلة وردت في مصادر العامة.
فمنها: ما أخرجه البخاري(٢٩٦) عن رسول الله (ص) أنه قال: تصدقوا! فسيأتي على الناس زمان يمشي الرجل بصدقته، فلا يجد من يقبلها.
وفي حديث آخر(٢٩٧) يعد به عدداً من أشراط الساعة، ويقول فيه:
وحتى يكثر فيكم المال، فيفيض، حتى يهم رب المال من يقبل صدقته، وحتى يعرضه فيقول الذي عرضه عليه: لا أرب لي به.
وأخرج مسلم(٢٩٨) عن رسول الله (ص): تصدقوا، فيوشك الرجل يمشي بصدقته، فيقول الذي أعطيها: لو جئتنا بالأمس قبلتها، فأما الآن فلا حاجة لي بها. من يقبلها.
وأخرج أيضاً:(٢٩٩) لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال، فيفيض، حتى يهم رب المال من يقبل صدقته. ويدعى إليه الرجل، فيقول: لا أرب لي فيه.
إلا أن مثل هذه الأخبار، لها محامل ممكنة، وعليها اعتراضات. فإن صحت المحامل فهو المطلوب، وإلا وردت عليها الاعتراضات.
أما المحامل، فهي عدة تقييدات يمكن أن نوردها عليها:
التقييد الأول:
أن نخص هذه الأخبار، بما بعد ظهور المهدي (عليه السلام)، فيكون مدلولها طبيعياً وصحيحاً، وموافقاً مع الأخبار الكثيرة المتواترة الدالة على تزايد الخير والرفاه في زمن ظهور المهدي (عليه السلام)، على ما سنسمع في التاريخ القادم.(٣٠٠)
وربما يصلح قرينه على هذا التقييد، قوله: لو جئتنا بالأمس قبلتها، يعني قبل الظهور، وأما الآن – يعني بعد الظهور – فلا حاجة لي بها.
ومعه، لابد من رفع اليد عن ظهور قوله: يوشك الرجل... في قرب حدوث ذلك، بجعل الأخبار الثلاثة الأخرى قرينة عليه.
وهذا التقييد وإن كان حملاً، يمكن أن يصح في سائر هذه الخبار، إلا أن واحداً منها يأباه – بظاهره -، وهو الحديث الثاني الذي نقلناه عن البخاري، فإنه اقترن فيه الأخبار بكثرة المال بالأخبار عن حدوث حوادث عديدة سيئة كالفتن والهرج، وغيرهما على ما سنسمع. مما عرفنا اختصاص حدوثه في عصر الغيبة الكبرى دون عصر الظهور. إلا أن هذا الإيراد، يمكن أن يتوجه كأشكال على هذا الخبر نفسه، لا على هذا التقييد الأول.
التقييد الثاني:
أن نقول: إن أقصى ما تدل عليه هذه الأخبار، هو أن الناس لا يقبلون الصدقة. وما أن منشأ ذلك هو كثرة المال فلا دليل عليه. فقد تكون له مناشئ أخرى كالتعفف أو التنفر من الصدقة الإسلامية بسبب الإنحراف، أو غير ذلك من الأسباب.
إلا أن هذا التقييد، ولإن أمكن انطباقه على الرواية الأولى، ولكن من المتعذر انظباقه على الباقي. للتصريح فيها بأنه: لا حاجة لي فيه أو لا أرب لي فيه... وهو ظاهر بوضوح بأن رفض الصدقة ناشئ من الغنى زكثرة المال. وخاصة مثل قوله: لو جئتنا بالأمس قبلتها، أما الآن فلا حاجة لي بها... باعتبار أنه كان بالأمس فقيراً وأما اليوم، فهو غني.
وحيث نفترض بطلان كل هذه المحامل، يتعين كون المراد كثرة المال عند جميع أفراد المجتمع المسلم خلال عصور الغيبة الكبرى.
ومعه ترد الاعتراضات التاليه
الاعتراض الأول:
إن هذه الأخبار معارضة بما دل على تفاقم الخطب وزيادة الشر كلما تقدم الزمان.
فمن ذلك: ما أخرجه البخاري(٣٠١) عن رسول الله (ص) أنه قال: أصبروا! فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه. حتى تلقوا ربكم. والمراد بلقاء الله تعالى موت الأفراد، لا حصول القيامة، لكي لا بشمل عصر ما بعد الظهور. ولو شمله الإطلاق، ان مقيدأً بالأدلة القطعية الدالة على حصول الرفاه الحقيقي العادل يومئذ.
وعلى أي حال، فتفاقم الخطب، المستمر خلال عصر الغيبة الكبرى، ينافي حصول الرفاه فيه.
الاعتراض الثاني:
إن هذه الأخبار – بشكل عام – منافية مع طبيعة الشياء، وفلسفة تسلسل الأمور من أسبابها.
فإنه بعد الوضوح وكثرة الأخبار الدالة على وجود الانحراف والفتن والأمراء الكفرة والوزراء الفسقة، وغير ذلك من الظواهر والحوادث التي سمعناها... كيف يمكن أن يكثر المال ويعم الرفاه ويتعدد الإغنياء، إلى حد يصبح كل أفراد المجتمع المسلم من الموسرين. فإن هذا مما لا يمكن أن يتمخض عند الإنحراف، وما لم تصل إليه أي من النظم والقوانين الوضعية، لا يمكن وصولها إليه في المستقبل... ما لم ينزل القانون الإسلامي العادل الكامل إلى حيز التنفيذ.
ومن الطريف الذي لم نفهم له وجهاً: أن رواية واحدة للبخاري تقرن بين عدد من الحوادث السيئة المنحرفة وبين كثرة المال، حيث نراه يقول فيما يقول: وحتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن، ويكثر الهرج وهو القتل. وحتى يكثر المال... إلى أن يقول: وحتى يتطاول الناس في البنيان.
وحتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه... الحديث.(٣٠٢)
واحتمال: أن ذلك باعتبار اختلاف الأزمنة، لا باعتبار زمان واحد، مناف لظاهر الخبر باقتران الحوادث، ومناف مع ظاهر الأخبار الأخرى الدالة على بقاء الانحراف طيلة زمان الغيبة الكبرى.
الاعتراض الثالث:
إن هذه الأخبار منافية ومعارضة مع ما دل على شيوع الفاقة وازدياد الفقر، كما سمعنا في حديث ابن عباس... وهو الأنسب مع طبيعة تطور الحوادث، والأوفق مع سائر الروايات.
وعلى أي حال، فمع أخذ هذه الاعتراضات بنظر الاعتبار، تسقط هذه الروايات عن إمكان الأخذ بها، وخاصة بعدما التزمناه من التشدد من التشدد السندي، حيث دلت القرائن على نفيها وعدم حدوث ما دلت عليه. ومعه لا يبقى دليل على تحسين الوضع خلال عصر الغيبة الكبرى. بل نبقى آخذين بالأقسام السابقة من الأخبار الدالة على حدوث الإنحراف وتزايده خلال هذا العصر. وهو الموافق للوجدان وطبائع الأشياء.
نعم، حمل هذا القسم من الخبار، على أنها تتحدث عن عصر ما بعد الظهور... أمر ممكن. وبه تخرج عن محل الاستدلال.
وبهذا ينتهي الكلام في الناحية الثانية من هذا القسم الثاني من هذا التاريخ. وبه ينتهي هذا الفصل كله.
الفصل الثالث: في التكليف الاسلامي خلال عصر الغيبة الكبرى
وما يقتضيه هذا التكليف من سلوك المستوى الفردي والاجتماعي، وما يقتضيه من استعداد نفسي وثقافي على كلا المستويين. وفض من يتبع هذا التكليف الاسلامي، وحال من يعصيه ويخرج عليه. وعرض ذلك انطلاقاً من القوعد العامة في الاسلام من ناحية ومن الأخبرا الخاصة الواردة في هذا الصدد من ناحية أخرى.
ويقع الكلام في هذا الفصل، ضمن عدة جهات، بمقدار ما هو المطلوب من التكاليف في الاسلام، وما قد يترتب على ذلك من نتائج.
الجهة الأولى:
من التكاليف المطلوبة إسلامياً حال الغيبة: الاعتراف بالمهدي عليه السلام كإمام مفترض الطاعة وقائد فعلي للأمة، وإن لم يكن عمله ظاهراً للعيان، ولا شخصه معروفاً.
وهذا من الضروريات الواضحات، على المستوى الامامي، للعقيدة الاسلامية، الذي أخذناه في هذا التاريخ أصلاً مسلماً وأجنا البرهان عليه إلى حلقات قادمة من هذه الموسوعة.
فانه الامام الثاني عشر لقواعده الشعبية، وهو المعصوم الطاعة الحي منذ ولادته إلى زمان ظهوره. وقد عرفنا في تاريخ الغيبتين الصغرى والكبرى، الأعداد الكبيرة من الأخبار الدالة على ذلك، وفلسفة دخله في التخطيط الالهي ومقدار تأثير الإمام عليه السلام في العمل في صالح الأمة الاسلامية عموعاً، وقواعد الشعبية خصوصاً. كما عرفنا مقدار تأثير وجوده في رفع معنويات قواعده وتمحيص إخلاصهم وتحسين أعمالهم.
وحسب الفرد المسلم أن يعلم أن إمامه وقائده مطلع على أعماله وملم بأقواله، يفرح للتصرف الصالح ويأسف للسلوك المنحرف، ويعضد الفرد عند الملمات... حسب الفرد ذلك لكي يعي موقفه ويحدد سلوكه تجاه إمامه، وهو يعلم أنه يمثل العدل المخص وإن رضاه رضاء الله ورسوله، وإن غضبه غضب الله ورسوله.
كما أن حسب الفرد أن يعرف أن عمله الصالح، وتصعيد درجة إخلاصه، وتعميق شعوره بالمسؤولية تجاه الاسلام والمسلمين، يشارك في تأسيس شرط الظهور ويقرب اليوم الموعود. إذن فـ(الجهاد الأكبر) لكل فرد تجاه تفسه يحمل المسؤولية الكبرى تجاه العالم كله، وملئه قسطاً وعدلاً كما ملئ ظلماً وجوراً. فكيف لا ينطلق الفرد مجاهداً عاملاً في سبيل إصلاح نفسه وإرضاء ربه.
ومن ثم نرى النبي (ص) يؤسس أساس هذا الشعور في الرد المسلم ويقرن طاعة المهدي (عليه السلام) بطاعته ومعرفته-على المستوى العملي التطبيقي – بمعرفته. فان معرفة النبي (ص) بصفته حامل مشعل العدل إلى العالم، لا يكون بالاعتراف التاريخي المجرد بوجوده ووجود شريعته، بل بالمواظبة التامة على الالتزام بتطبيق تعاليمه والأخذ بإرشاداته وتوجيهاته، وإلا كان الفرد منكراً للنبي (ص) على الحقيقة، وإن كان معترفاً بوجوده التاريخي.
وحيث أن أفضل السوك الاسلامي وأعدله إنما يتحقق تحت إشراف القائد الكبير المهدي (عليه السلام) إذن تكون أحسن الطاعة لنبي الاسلام وأفضل تطبيقات شريعته، هو ما كان بقيادة المهدي (عليه السلام) وما بين سمعه وبصره. إذن صح أن معرفة المهدي (عليه السلام) – على المستوى السلوكي التطبيقي – معرفة للنبي (ص). وإنكاره على نفس المتسوى انكار له.
ومن ثم نسمع النبي (ص) يقول: من أنكر القائم من ولدي فقد أنكرني.(٣٠٣)
ونراه يقول: القائم من ولدي اسمه اسمي وكنيته كنيتي، وشمائله شمائلي، وسنته سنتي. يقيم الناس على ملتي وشريعتي، ويدعوهم إلى كتاب ربي عز وجل. من أطاعه فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني، ومن أنكره في غيبته فقد أنكرني، ومن كذبه فقد كذبني، ومن صدقه فقد صدقني... الحديث.(٣٠٤) إلى غير ذلك من الأخبار الواردة بهذا المضمون عنه (ص) وعن أثمة الهدى (ع).
وهذا الكلام من النبي (ص) وإن كان منطبقاً على المعتقد الامامي في المهدي (عليه السلام)، إلا أنه بنفسه قابل للتطبيق على المعتقد العام لأهل السنة والجماعة في المهدي إذا استطعنا الفاء فكرة الغيبة عن كلامه (ص)، فانهم عندذ يتفقون مع الامامية في مضمون الحديث جملة وتفصيلا. إذ من المقطوع به والمتسالم عليه بين سائر المسلمين أن المهدي (عليه السلام) هو الرائد الأكبر في عصره لتطبيق الاسلام، فهو يقيم الناس على ملة رسول الله (ص) ويدعوهم إلى كتاب الله عز وجل. ومن الطبيعي مع اتحاد الاتجاه والأطروحة، أن تكون طاعة المهدي (عليه السلام) طاعة للنبي (ص) وعصيانه عصياناً له، وتكذيبه تكذيباً له وتصديقه تصديقاً له.
كما أنه من الحتم أن يكون انكار ظهور المهدي (عليه السلام) وقيامه بالسيف لاصلاح العالم، إنكاراً لرسالة النبي (ص) ورفضاً لجهوده الجبارة في بناء الاسلام، كيف لا... وظهور المهدي (عليه السلام) هو الأمل الكبير لرسول الله (ص) في أن تسود شريعته في العالم، وتتكلل مساعيه وتضحياته بالنصر المبين. بعد أن لم تكن الشروط وافية والظروف مواتية لحصول هذا النصر في عصره، كما أوضحناه فيما سبق.
بل يكون إنكار المهدي (عليه السلام) في الحقيقة إنكاراص للغرض الأساسي من خلق البشرية والحكمة الالهية من وراء ذلك، مما قد يؤدي إلى التعطيل الباطل في الاسلام.
فانه بعد أن برهنا أن الغرض من خلق البشرية هو إيجاد العبادة الكاملة في ربوع المجتمع البشري بقيادة الإمام المهدي (عليه السلام) في اليوم الموعود... إذن يكون إنكار المهدي مؤدياً إلى نتيجة من عدة نتائج كلها باطلة كما يلي: النتيجة الأولى:
إن خلق البشرية ليس وراءه هدف ولا غاية. وهذا منفي بنص القرآن القائل: (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون). وبالبرهان العقلي الفلسفي القائل بضرورة وجود العلة الغائية والهدف، من وراء كل فعل اختياري، وبخاصة إذا كان الفاعل حكيماً لا نهائياً... رب العالمين.
النتيجة الثانية:
إن الغرض من الخليفة وإن كان موجوداً، إلا أنه ليس هو إيجاد المجتمع الصالح العابد، بل هو أمر آخر لا نعلمه!!. وهذا مخالف لنص القرآن وصريحه في الآية السابقة. وخلاف ما تسالمت عليه الأديان السماوية من الايمان بمصير البشرية إلى الخير والعدل في نهاية المطاف.
النتيجة الثالثة:
إن هذا الغرض الالهي وإن كان ثابتاً، إلا أنه ليس من الضروري نزوله إلى حيز التطبيق، بل يمكن أن يبقى نظرياً على طول الخط.
وهذا من غرائب الكلام، فان معنى ذلك تخلف الحكيم عن مقتضى حكمته، ونقضه لغرضه، وهو مستحيل عقلاً، كما ثبت في الفلسفة. وليس معنى تنفيذ هذا الغرض إلا إيجاده في الخارج.
النتيجة الرابعة:
إن هذا الغرض، يحدث في الخارج، إلا أنه لا يحتاج إلى قائد، بل يمكن أن يتسبب الله تعالى إلى إيجاده تلقائياً، ومعه لا حاجة إلى افتراض وجود المهدي (عليه السلام).
وهذا لا معنى له، لأنه يتضمن انكاراً لما اعترفت به الأديان كلها وتسالمت عليه من وجود القائد في اليوم الموعود.مضافاً إلى أنه يتضمن أيضاً إنكاراً لطبيعة الأشياء، فان الأمة بدون القائد ليست إلا أفراداً مشتتين مبعثرين، لا يمكنهم أن يحفظوا أي مصلحة تتعلق بالمجموع، ما لم يرجع الأمر إلى الاستقطاب القيادي والتوجيه العام المركزي... وهذا واضحة في كل أمة على مدى التاريخ.
واحتمال: قيام المعجزة لايجاد هذا الغرض الأقصى، بدون قائد، فقد سبق أن عرضنا فكرته وناقشناها.
النتيجة الخامسة:
إن تنفيذ هذا الغرض يحتاج إلى قائد، ولكنه غير منحصر المهدي (عليه السلام)، بل يستطيع أن يقوم به الكثيرون.
وهذا زعم عجيب، إذ لا نقصد بالمهدي (عليه السلام) إلا القائد المطبق للغرض الإلهي. بعد أن غضضنا النظر عن الاعتقاد الإمامي بشخصه، إذن فيكون إنكاره إنكاراً لتنفيذ ذلك الغرض الأساسي كلياً. وأما من حيث قابلية القيادة، وأنها هل تختص بشخص واحد أو هي ممكنة للعديدين. فهذا ما سنعرض له في الكتاب الآتي من هذه الموسوعة.
إذن، فيتعين الاعتراف بوجود المهدي (عليه السلام) منفذاً للغرض الالهي الكبير. ولا تختص نتيجة هذا البرهان بالمسلمين، فضلاً عن الامامية منهم. وإنما هي واضحة على مستوى كل الأديان السماية.

 

* * *

 

الجهة الثانية:
إن من التكاليف المطلوبة في عصر الغيبة: الانتظار.
وننطلق إلى الحديث عن ذلك ضمن عدة نقاط:
النقطة الأولى:
في مفهوم الانتظار.
إن المفهوم الاسلامي الواعي الصحيح للانتظار، هو التوقع الدائم لتنفيذ الغرض الالهي الكبير، وحصول اليوم الموعود الذي تعيش فيه البشرية العدل الكامل بقيادة وإشراف الإمام المهدي عليه السلام.
وهذا المعنى مفهوم إسلامي عام تشترك فيه المذاهب الكبرى في الاسلام، إذ بعد إحراز هذا الغرض الكبير وتواتر أخبار المهدي عن رسول الإسلام (ص) بنحو يحصل اليقين بمدلولها وينقطع العذر عن انكاره أمام الله عز وجل. وبعد العلم باناطة تنفيذ ذلك الغرض بإرادة الله تعالى وحده، من دون أن يكون لغيره رأي في ذلك، كما سبق. إذن فمن المحتمل في كل يوم أن يقوم المهدي (عليه السلام) بحركته الكبرى لتطبيق ذلك الغرض، لوضوح احتمال تعلق إرادة الله تعالى به في أي وقت.
لا ينبغي أن تختلف في ذلك الأطروحة الامامية لفهم المهدي (عليه السلام) عن غيرها... إذ على تلك الأطروحة، يأذن الله تعالى له بالظهور بعد الاختفاء، وأما بناء على الأطروحة الأخرى القائلة، بان المهدي (عليه السلام) يولد في مستقبل الدهر ويقوم بالسيف، فلاحتمال أن يكون الآن مولوداً، ويوشك أن يأمره الله تعالى بالظهور.
وهذا الاحتمال قائم في كل وقت. بل أن لمعنى الانتظار مفهوماً أعم من الإسلام وأقدم. أما قدمه فلما ذكرناه من تبشر الأنبياء باليوم الموعود، فالبشرية كانت ولا زالت تنتظره، وإن تحرفت شخصية القائد وعنوانه على ما ذكرناه. وستبقى تنتظره ما دام في الدنيا ظلم وجور. وأما عمومه فباعتبار التزام سائر أهل الأديان السماوية به، مع غض النظر عن الاسم.
وهذا بنفسه، ما يجعل المسؤولية في عهدة كل مؤمن كل مؤمن بهذه الأديان، وخاصة المسلم منهم. في أن يهذب نفسه ويكملها ويصعد درجة اخلاصه وقوة إرادته، لكي يوفر لنفسه ولاخوانه في البشرية شرط الظهور في اليوم الموعود.
النقطة الثانية:
لا يكون الفرد على مستوى الانتظار المطلوب، إلا بتوفر عناصر ثلاثة متقرنة:
عقائدية ونفسيةوسلوكية. ولولاها لا يبقى للانتظار أي معنى إيماني صحيح، سوى التعسف النفسي المبني على المنطق القائل: إذهب أنت وربك فقاتلا، أنَّا ههنا قاعدون... المنتج لتمني الخير للبشرية من دون أي عمل إيجابي في سبيل ذلك.
العنصر الأول:
الجانب العقائدي... ويتكون برهانياً من ثلاثة أمور:
الأمر الأول:
الاعتقاد بتعلق الغرض الالهي بإصلاح البشرية جميعاً، وتنفيذ العدل المطلق فيها في مستقبل الدهر. وان ما تعلق به الغرض الالهي والوعد الرباني في القرآن لا يمكن أن يختلف. وقد سبق أن عرفنا برهانه.
الأمر الثاني:
الاعتقاد بأن القائد المظفر الرائد في ذلك اليوم الموعود، هو الإمام المهدي (عليه السلام)، كما تواترت بذلك الأخبار عند الفريقين، بل بلغت ما فوق حد التواتر. وقد علمنا أن ذلك ضروري الثبوت.
الأمر الثالث:
الاعتقاد بأن المهدي القائد هو محمد بن الحسن العسكري (ع)... الأمر الذي قامت ضرورة المذهب الامامي. وقامت عليه الأعداد الضخمة من أخبارهم... ووافقهم عليه جملة من مفكري العامة وعلمائهم كابن عربي في الفتوحات المكية. والقندوزي في ينابيع المودة والحمويني في فرائد السمطين، والكنجي في البيان...وغيرهم.
والمعتقدون بهذه الأمور، وان كانوا على بعض الاختلافات، إلا أننا ذكرنا في فصل (التخطيط الالهي) ان الأمرني الأولين يرجعان إلى الثالث في نتائجهما وتطبيقاتهما، فيمكن الاعتقاد بها جميعاً بدون أي تناف أو اختلاف.
العنصر الثاني:
الجانب النفسي للانتظار. ويتكون من أمرين رئيسيين:
الأمر الأول:
الاستعداد الكامل لتطبيق الأطروحة العادلة الكاملة عليه، كواحد من البشر، على أقل تقدير، إن لم يكن من الدعاة اليها والمضحين في سبيلها.
الأمر الثاني:
توقع البدء بتطبيق الأطروحة العادلة الكاملة أو بزوغ فجر الظهور في أي وقت... لما قلناه من أنه منوط بإرادة الله تعالى، بشكل لا يمكن لغيره التعيين أو التوقيت. ومن المحتمل أن يشاء الله تعالى ذلك في أي وقت. مضافاً إلى الأخبار الدالة على حصوله فجأة بغتة، وسنروي طرفاً منها فيما يأتي.
وهذا الشعور يمكن أن يوجد في نفس الفرد المؤمن باليوم الموعود، طبقاً لأي من الأمور الثلاثة في العنصر الأول، وطبقاً لمجموعها أيضاً. ويكون شعوراً طيباً على نفسه مرضياً لضميره، باعتبار ما يتضمنه من شعور بالاخلاص تجاه نفسه ومجتمعه وأمته... وهي الجهات التي سوف ينتشلها اليوم الموعود من المشاكل والظلم.
وإذا تم لدى الفرد الشعور بهذين الأمرين في نفسه، فقد تم لديه العنصر الثاني، واستطاع أن يتقبل بسهولة ورحابة صدر العنصر الآتي.
العنصر الثالث:
الجانب السلوكي للانتظار.
ويتمثل بالالتزام الكامل بتطبيق الأحكام الالهية السارية في كل عنصر، على سائر علاقات الفرد وأفعاله وأقواله، حتى يكون متبعاً للحق الكامل والهدى الصحيح، فيكتسب الارادة القوية والاخلاص الحقيقي الذي يؤهله للتشرف بتحمل طرف من مسؤوليات اليوم الموعود.
وهذا السلوك ضروري وملزم لكل من يؤمن باليوم الموعود، على أي من المستويات السابقة، فضلاً عن مجموعها. وبخاصة المسلمين الذين قام البرهان لديهم بأن المهدي (عليه السلام) يطبق أطروحته العادلة الكاملة متمثلة في أحكام دينهم الحنيف.
وأما المسلم الامامي الذي يعمل بأن قائده معاصر معه، يراقب أعماله ويعرف أقواله، ويأسف لسوء تصرفه... فهو مضافاً إلى وجوب اعداد نفسه لليوم الموعوم، يجب أن يكون على مستوى المسؤولية في حاضره أيضاً، وفي كل أيام حياته، لكي لا يكون عاصياً لقائده متمرداً على تعاليمه. وهذا الاحساس نفسه، يسرع بالفرد إلى النتيجة المطلوبة، وهو النجاح في التمحيص، والاعداد لليوم الموعود.
وإذا كان الفرد على هذا المستوى الرفيع، استطاع أن يحرز الخير، على مستويات أربعة.
المستوى الأول:
إحراز الخير لنفسه في دنياه وآخرته. أما في آخرته، فباعتبار رضاء الله عز وجل. وأما في دنياه، فباعتبار أمرين: أحدهما: السلوك العادل الذي يتخذه الفرد والمعاملة الصالحة والعلاقات الجيدة التي يعامل بها الآخرين. وثانيهما: أنه يصبح على مستوى المسؤولية لتحمل مواجهة القيادة في اليوم الموعود، إذا بزغ فجره.
المستوى الثاني:
إحراز الخير لأمته، باعتبار أنه إذ يعد نفسه الاعداد الصالح، فانه يشارك في تهيئة شرط اليوم الموعود، بمقدار تكليفه وقدرته، فيكون قد تسبب إلى الخير كل الخير لأمته.
المستوى الثالث:
إحراء الخير لا لأمته فحسب، بل للبشرية جمعاء. فان الخير الناتج من إيجاد شرط الظهور، عام لكل البشر، والمشاركة في إيجاده مشاركة في إيجاد العدل الكامل السائد في اليوم الموعود.
وهذه المستويات الثلاثة، مما تقتضيه العقائد الاسلامية العامة المشتركة بين سائر المذاهب... بل مما يقضيه الاعتراف باليوم الموعود، في أي دين من الأديان.
المستوى الرابع:
إن الفرد بمساهمته في إيجاد شرط الظهور، يساهم في إرضاء إمامه المهدي (عليه السلام) وجلب الراحة إليه... بالنسبة إلى الشعور بزيادة المؤمنين وقلة العاصين، والمشاركة الحقيقية في الإعداد للهدف الكبير.
وهذا المستوى خاص بالأطروحة الامامية لفهم المهدي (عليه السلام).
فهذه هي الجهات الأساسية التي يجب أن يتخذها الفرد، لكي يكون على المستوى الاسلامي المطلوب للانتظار.

 

* * *

 

النقطة الثالثة:
في حث فكرة المهدي (عليه السلام) على العمل.
اتضح مما ذكرناه في النقطتين الاسبقتين، وغيرهما، ما هو الحق في الجواب على الشبهة القائلة: بأن انتظار الإمام المهدي (عليه السلام) سبب للتكاسل عن الاصلاح وترك العمل الاجتماعي، وعدم معارضة الظلم والظالمين، اعتماداً على اليوم الموعود والاصلاح المنشود.
أو انطلاقاً من الاعتقاد بأن المهدي (عليه السلام) لا يظهر حتى تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً، إذن فيجب الظلم والجور وترك العمل استعجالاً لظهور المهدي (عليه السلام).
ويتم النظر في جواب هذه الشبهة على مستويات ثلاثة، باعتبار أن الأوساط التي تمر هذه الفكرة بين ظهرانيهم على ثلاثة أقسام رئيسية، تتخذ عند كل واحد منهم طابعاً معيناً، ونتيجة خاصة تختلف عن الآخرين.
المستوى الأول:
أوساط المنكرين للمهدي (عليه السلام) على الأساس المادي، أو ما يمت إليه بصلة.
أولئك الذي لا يجدون دليلاً على مدعاهم إلا بمجرد الاستبعاد والتشكيك، فهم يحاولون ان يقنعوا أنفسهم بما يدعون ولعلهم يستطيعون إبعاد المهدويين عن مهدويتهم وتشكيكهم في معتقدهم!!.
ليت شعري: أن المادية سبق أن قالت: بأن الدين أفيون الشعوب ومخدرها.
فكيف بالاعتقاد بالمهدي الذي هو بعض فروعه.
وقد أجاب الالهيون: - ومعهم الحق - بأن الدين كان ولا يزال أساس الثورات والمعارضات والمطالبة بإقامة الحق والعدل على مدى التاريخ، وأكبر مثير للعواطف الانسانية على طول الخط. ونظرة واحدة إلى تاريخ البشرية مع شيء من الموضوعية والتجرد تثبت ذلك. وقد قلنا وسنقول في العقيدة المهدوية مثل ذلك على سيأتي عن قريب.
المستوى الثاني:
أوساط المؤمنين بالمهدي (عليه السلام) الذين يتصفون بصفتين مهمتين:
الأولى: التقاعس عن العمل أساساً، وتقديم المصلحة الخاصة على المصالح العامة عموماً.
الثانية: إن المفاهيم الاسلامية تنطبع في أذهانهم بشكل ناقص وخاطئ، بشكل تصلح تبريراً للواقع الفاسد، أكثر من أي شيء آخر. وتنطلق الشهبة في هذه الأوساط من الاعتقاد الذي ذكرناه بأن المهدي (عليه السلام) لا يظهر حتى تمتلئ الأرض جوراً وظلماً، كما ورد في الحديث المتواتر عن النبي (ص)، إذن يفهمون من ذلك: أنه يجب توفير الظلم والجور، وترك العمل ضده، استعجالاً لظهور المهدي (عليه السلام).
المستوى الثالث:
مستوى الأوساط التي تعتقد بأن العمل الاسلامي ضد الظلم والظالمين، غير موثر بأي حال.
وهؤلاء هم اليائسون الذين سيطرت هيبة الانحراف وهيمنة الظلم السائد في البشرية على نفوسهم، فاعتقدوا بعدم جدوى أي شيء من الاصلاح أو الأمر بالمعروف في هذا المجتمع الفاسد. ومن ثم اضطروا إلى السكون وترك العمل، انتظاراً لظهور المهدي (عليه السلام) ليكون هو الرائد الأول في اصلاح العالم.
فهذه هي أهم الشبه التي تعيش في أذهان بعض المتسويات، ويمكن أن نعتمد على معارفنا السابقة في مناقشة هذه الأفكار. وذلك انطلاقاً من وجوه ثلاثة:
الوجه الأول:
إن مشاركة الفرد والمجتمع في إيجاد شرط الظهور، لا يكون إلا بالعمل الجاد المنتج لرفع درجة الاخلاص والشعور بالمسؤولية، ليكون في إمكان المخلصين المشاركة في مهام هداية العالم عند الظهور.
وقد عرفنا كيف وقع ذلك كقضية رئيسية في التخطيط الالهي لليوم الموعود، وان عنصر التمحيص والاختبار في ظروف العالم والانحراف، هو العنصر الأكبر في إيجاده.
الوجه الثاني:
ما عرفناه من أن هيجب على الفرد أن يجعل نفسه على مستوى رضاء الامام المهدي (عليه السلام) قبل ظهوره وبعده. ولن يكون كذلك إلا إذا كان متمثلاً للأحكام الاسلامية بدقة، سواء ما كان منها على المستوى الشخصي أو على المستوى الاجتماعي. ولن يحرز رضاء الامام بطبيعة الحال، بالاقتصار على الجانب الشخصي من أحكام الاسلام، لأن في ذلك عصياناً للأحكام الاجتماعية والاصلاحية. وهو ما لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله ولا المهدي.
إذن فالاعتقدا بوجود القائد الرائد، باعث أي باعث على العمل الاجتماعي والاصلاحي. ولا يكاد يوجد هذا الباعث بدون هذا الاعتقاد إلا بشكل ضئيل.
وأنما انصرف عموم الناس عن العمل نتيجة لتناسيهم قائدهم وتغافلهم عن مسؤولياتهم تجاهه.
الوجه الثالث:
أننا لو غضضنا النظر – جدلاً – عن الوجهين السابقين، وفرضنا أن الاعتقاد بوجود المهدي (عليه السلام) ليس له أي أثر في الحث على العمل الاجتماعي المثمر. فهو – على أي حال- ليس موجباً للمنع عنه والحث على تركه. فلو وجد هناك دافع آخر للعمل، أمكن أن يؤثر أثره بكل وضوح، ويعمل عمله في العقول والقلوب المخلصة.
والسر في ذلك واضح على الصعيد الاسلامي، كل الوضوع. باعتبار أن الأحكام الاسلامية الموجودة في الكتاب والسنة، كانت ولا زالت معروفة وسارية المفعول، ولا زال الناس مسؤولين عن تطبيقها وامتثالها لك تفاصيلها. ومن الواضح أن الاعتقاد بوجود المهدي (عليه السلام) لا يرفعها ولا يخصصها لضرورة الدين واجماع المسلمين. وليس على الفرد المسلم الذي يريد الاطاعة والامتثال، إلا أن يراجع الأحكام الاسلامية ليعرف ما فيها من جوانب شخصية وجوانب عامة... لكي يطبقها على حياته الخاصة والعامة، ويباشر العمل الاجتماعي العام طبقاً للتكليف الاسلامي بالجهاد أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو مكافحة الظلم. وهذا لا ينافي بحال، عمل الفرد على صعيد عام، تارة أرى فيما بعد الظهور، لو حدث اليوم الموعود خلال حياته.
وأما الفرد الذي يسير في طريق الانحراف، ويبيع دينه بدنياه، ويقدم مصلحته الخاصة وشهواته على كل اعتبار، فهو من الطبيعي أن لا يكون الاعتقاد بالمهدي (عليه السلام) دافعاً له على العمل، بعد أن لم يكن الاعتقاد بالاسلام نفسه دافعاً له. وهذا تقصير في الفرد وليس قصوراً في الفكرة كما هو واضح.

 

* * *

 

وأود أن أشير في هذا الصدد إلى ملاحظات ثلاث، لعلها تلقي بعض الضوء على أهمية العم لالاسلامي، في عصر ما قبل الظهور:
الملاحظة الأولى:
أننا برهنا خلال عرضنا للتخطيط الإلهي: أن ما يرفع درجة الاخلاص في الأمة ويوجد شرط الظهور، هو العمل ضد الظلم فعلاً. ومعه ينبغي أن يمر الفرد فعلاً في ظروف الظلم والانحراف، لكي يعمل ضده، حتى يتصاعد إخلاصه وتقوى إرادته.
ومن هنا نعرف أن الفرد الذي يهرب بنفسه من ظروف الظلم، أو أن المجتمع الذي يعيش في الرفاه النسبي بعيداً عن هذه الظروف. فانه لن يعمل ولن يستطيع الوصول إلى حد الوعي والاخلاص المطلوب. ولو وصل إلى شيء، فإنما يصل إليه ببطء شديد، ويكون ضحلاً وقليلاً.
كما أن الأمة إذا شاع بين ظهرانيها الظلم والتعسف، وكانت راضية به مستخذية تجاهه، لا يوجد العمل فيها ضده، ولا التفكير لرفعه أو التخفيف منه.
إذن فسفو تكون أمة خائنة يتسافل إخلاصها وينمحي شعورها بالمسؤولية، وتحتاج في ولادة ذلك عندها من جديد إلى زمان مضاعف ودهر طويل و(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).(٣٠٥) وليت شعري كيف يكون هؤلاء على مستوى إصلاح البشرية كلها في اليوم الموعود، وهم قاصرون عن إصلاح مجتمعهم الصغير؟!!.
إذن فالتفكير الجدي والعمل هو الأساس لتصعيد درجة الاخلاص والشعور بالمسؤولية والمران على الصمود والتضحية هو الشرط الأساسي لتكفل مهمة اليوم الموعود. فمن السخف ما قيل: بأن الاعتقاد بوجود المهدي (عليه السلام) داعف على الاستخذاء وترك العمل.
الملاحظة الثانية:
إن تصعيد درجة الاخلاص، قد يكون قائماً على أساس الاضطرار وقد يكون بالاختيار.
أما قيامه على أساس الاضطرار،(٣٠٦) فهو الأمر العام الذي يقتضيه التمحيص الالهي، بشك لرئيسي. فان الأفراد في حبهم لذاتهم وتفضيلهم للراحة، لا يميلون-عادة- إلى العمل الاجتماعي العام، لما فيه من شعور بالجهد والمسؤولية.
ومن ثم فهم لا ينطلقون نحو إلا تحت وطأة من الاضطرار والشعور بالضغط والاحراج. ومن ثم كان لابد في حملهم على العمل العام من إيكالهم إلى الظروف الصعبة الظالمة. ومن ثم انعقد التخطيط الإلهي على حمل الأمة على العمل الاضطراري بهذا المعنى، لأجل تحقيق مصالحها الكبرى في يوم الظهور.
وأما قيام الاخلاص والوعي على أسشاس الاختيار، فباندفاع المكلف إلى العمل أزيد من مقدرا الاضطرار والاحراج، بمجرد شعوره بالمطلوبية الاسلامية له، الزاماً أو استحباباً... بأن يكون على الدوام معارضاً للظلم داعياً إلى الحق، هادياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة.
صحيح، ان الاندفاع إلى ذلك، يحتاج إلى درجة كبيرة من الوعي والاخلاص وقة الارادة، لا يتوفر إلا للقليل... إلا أنه – على أي حال - ليس هو المستوى المطلوب توفره في المشاركة في قيادة العالم كله في يوم الظهور. وإنما يكون العمل الاختياري أو ما نسميه بالتمحيص الاختياري مضافاً إلى التمحيص الاضطراري، سبباً لإيجاد مثل هذا المستوى الرفيع.
ومن الواضح ما لهذا التمحيص الاختياري، من أثر بليغ في التصعيد السريع، بشكل أعظم بكثير مماينتجه التمحيص الاضطراري... وفي التعجيل بإيجاد شرط الظهور، بمقدار ما تقتضيه الظروف الثقافية والفكرية التي يعيشها الفكر الاسلامي، في أي عصر.
إذن، فما قيمة هذه الشبهة التي تقول بأن الاعتقاد بالمهدي (عليه السلام) يمنع عن العمل الاجتماعي الاصلاحي، ولله في خلقه شؤون.
الملاحظة الثالثة:
في فهم الحديث النبوي.
أننا بعد أن عرفنا التخطيط الإلهي لليوم الموعود، نستطيع أن نفهم قوله (ص): يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
فالظلم والجور، في عصر ما قبل الضهورن جزء من هذا التخطيط، لإيجاد الشرط االثاني للظهور، وهو توفير قوة الإدارة والإخلاص في الأمة بشكل عام. وقد عرفنا أن هذا يحدث في نسبة ضئيلة من اليشر، ويكون الباقي على مستوى الانحراف والفساد.
إذن، فالأرض تمتلىء ظلماً وجوراً، لكن لا بالجبر والإكراه، من قبل الله تعالى أو من غيره، وإنما باعتبار انصراف الأعم الأغلب من الناس إلى مصالحهم واندحارهم تجاه تيار الخوف والإغراء. وهو لا ينافي توفر شروط الظهور وترسخه في الناس، متمثلاً في تلك النسبة الضئيلة عدداً الضخمة أهمية وإيماناً وإرادة.
وامتلاء الأرض ظلماً، أمر خارج عن اختيار الفرد بوجوده الشخصي، وإنما هو ناتج عن الطبيعة البشرية بشكل عام، المتوفرة في المجتمع الناقص. ويكون تكليف الفرد إسلامياً منحصراً شرعاً في تصعيد درجة إخلاصه وقوة إرداته، عن طريق مكافحة الظلم والعمل على كفكفته ورفعه. ولكي يتوفر تدريجياً شرط الظهور.
وليت شعري، إن شرط الظهور، هو هذا المستوى اٌيماني، وليس هو كثرة الظلم وامتلاء الأرض جوراً، كما يريد البعض أن يفكروا. لوضوح أن الأرض لو امتلأت تماماً بالظلم وانعدم منها عنصر الإيمان، لما أمكن إصلاحها عن طريق القيادة العامة. بل يكون منحصراً بالمعحزة التي برهنا على عدم وقوعها، أو إرسال نبوة جديدة، وهو خلاف ضرورة الدين من أنه لا نبي بعد رسول الإسلام.
وإنما تتضمن فكرة اليوم الموعود، سيطرة الإيمان على الكفر، بعد سيطرة الكفر على الإيمان... مع وجود كلا الجانبين. وهو قول الله تعال بالنسبة إلى المؤنين: (ليستخلفهم في الأرض وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً) وقوله (ص): يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً.
النقطة الرابعة:
للبحث عن الانتظار-: في اختلاف مفهومه باختلاف عصور الدعوة الإلهية.
سبق أن برهنا أن إيجاد اليوم الموعود، هو الغرض الأساسي من إيجاد البشرية... وقد خطط الله تعالى لإيجاده منذ فجر الخليقة، ولازال هذا التخطيط سارياً إلى حين تحقق نتيجته النهائية وغرضه الأصيل.
وقد كان انتظار البشرية لليوم الموعود، موجوداً، منذ بلغ الأنبياء السابقون عليهم السلام البشرية عن وجوده... إلا أن الانتظار اكتسب صيغاً متعددة بتعدد أزمنة تطور البشرية نحو ذلك الغد المنشود. فإن البشرية قد مرت – بهذا الاعتبار – بأربعة أو مراحل:
المرحلة الأولى:
فترة ما قبل الإسلام. وقد كان الناس خلالهما يفهمون من كل نبي يبلغهم عن اليوم الموعود، أمرين مقترنين: أولهما: الإهمال من التاريخ وإيكاله إلى إرادة الله تعالى محضاً. وثانيهما: أن هذا النبي يبلغهم عنه، ليس هو القائد المذخور لهذه المهمة، وإنما سيوجد في المستقبل البعيد شخص آخر يكون مطلعاً بها، وقائداً للبشرية من خلالهما.
إذن، فالانتظار لم يكن حاملاً لنفس المفهوم الذي يحمله في عصر الغيبة الكبرى... فبينما نرى أن صيغته الأخيرة هي: توقع حدوث اليوم الموعود في كل حين، على ما سبق... نرى أن صيغته يومئذ كانت تتضمن العلم بعدم حدوثه السريع، والاكتفاء بالاعتقاد بأن هذا مما سيحدث جزماً في المستقبل البعيد.
والناس في تلك العهود، وإن لم يكونوا ملتفتين إلى سر ذلك، إلا أننا عرفنا باطلاعنا على تفاصيل التخطيط الإلهي. حيث عرفنا أم كلا شرطي اليوم الموعود، لم يكونا متوفرين في تلك الفترة. فلم تكن البشرية على مستوى فم الأطروحة العادلة الكاملة من ناحية، ولم تكن علة مستوى الإخلاص وقوة الإرادة المطلوب توفرها في قيادة اليوم الموعود.
المرحلة الثانية:
فترة ما بعد الإسلام إلى بدء الغيبة الصغرى... حيث كانت البشرية قد تلقت عن الله عز وجل أطروحتها العادلة الكاملة. وبذلك توفر أحد الشرطين السابقين.
إلا أن معنى الانتظار لم يكن يختلف – مع ذلك – اختلافاً جوهرياً عما سبق. بمعنى أن الأمل في ذلك الحين لم يكن منعقداً على حدوث اليوم الموعود بغتة وفي أي وقت. بل كان المفهوم هو تحققه في المستقبل البعيد أيضاً. غاية الفرق عن المرحلة السابقة، هو إحراز المسلمين: أن اليوم الموعود سوف يكون طبقاً لأطروحتهم ودينهم، دون غيره.
وهذا واضح جداً، لو لاحظنا طرق التبليغ عن ذلك اليوم من قبل النبي (ص) والأئمة المعصومين (ع) بعده. أما بالنسبة إلى النبي (ص) فيكفينا اخباراته عن المهدي (عليه السلام) وأنه من ولده وعترته وأنه من ذرية فاطمة عليه السلام، وأنه يوجد فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وأنه من ولد الحسين (ع) وإن صفته كذا وكذا... إذن فقائد اليوم الموعود ليس هو شخص النبي (ص)، ولن يقوم النبي (ص) بهذه المهمة الكبرى، خلال حياته. كما عرفنا فلسفة ذلك فيما سبق.
إذن فالانتظار في عهد النبي (ص) كان مقترناً باليقين بعدم حدوثه الفوري في ذلك الحين.
ويبقى الانتظار في عصر الأئمة عليهم السلام، حاملاً لنفس هذا المفهوم. ويمكن أن نستفيد ذلك من عدة أشكال من الأحاديث التي كانوا عليهم السلام يعلنون بها فكرة المهدي (عليه السلام) أمام الناس.
كقولهم (ع) أن المهدي هو السابع من ولد الخامس منهم(٣٠٧) أو قول الإمام الباقر عليه السلام، والله ما أنا بصاحبكم. قال الراوي: فمن صاحبنا؟ قال: انظروا من تخفي على الناس ولادته فهو صاحبكم.(٣٠٨) فهو إذ ينفي عن نفسه أنه المهدي (عليه السلام) نعرف أن اليوم الموعود لن يتحقق ما دام في الحياة على أقل تقدير.
وكقولهم: كيف أنتم إذا بقيتم بلا إمام ولا علم، يبرأ بعضكم من بعض... الحديث.(٣٠٩) إذن فما دام أئمة الهدى عليهم السلام معروفين ومتصلين بالناس، فالمهدي غير موجود، ومن ثم فهو لن يقوم بالسيف لإنجاز اليوم الموعود.
وكذلك إذا لاحظنا أخبار التمحيص، التي تنفي الظهور قبل مرور الناس بهذا القانون. كقوله (ع): إن هذا الأمر ريأتيكم إلا بعد يأس. ولا والله حتى تميزوا. ولا والله حتى تمحصوا، ولا والله لا يأتيكم حتى يشقى من يشقى ويسعد من يسعد. وقد سبق. إذن فاليوم الموعود لن يتحقق ما دام الناس غير ممحصين.
وكذلك إذا لاحظنا الأخبار الدالة على حدوث علامات الظهور، مما لم يتحقق في عصر الأئمة (ع) السابقين، كالصيحة والخسف، وغيرها مما سيأتي. فإنه ما لم توجد هذه العلامات، لايظهر المهدي (عليه السلام)، على ما سوف نوضحه في القسم الثالث من هذا التاريخ.
إذن، فالمسلمون في زمن النبي (ص) والأئمة (ع) لم يكونوا ينتظرون ظهور المهدي (عليه السلام) على الفور، وإن كانوا قد بلغوا بشكل أكيد وشديد عن ظهوره في مستقبل الزمان.
أقول: هذا من الناحية النظرية صحيح. إلا أننا نجد من الناحية العملية، أن هذه الفكرة صادقة في زمن النبي (ص). وأما في زمن الأئمة (ع)، فلا تخلو هذه الفكرة من إشكال.
فإننا نجد أن توقع ظهور المهدي (عليه السلام) في ذلك الزمن كان كبيراً. سواء في ذلك القواعد الشعبية الامامية، أو غيرهم. أم غير الامامين فواضح طبقاً لفهمهم لفكرة المهدي (عليه السلام). إذ أن ولادته وقيامه بدولة الحق، ممكن بعد النبي (ص) مباشرة فصاعداً.
وأما الاماميون، فقد دلت الأخبار على وجود هذا التوقع فيهم... بما فيها أخبار التمحيص نفسها حيث يقول الإمام (ع) فيها: إن هذا الأمر لا يأتيكم إلا بعد يأس... أو يقول: هيهات هيهات... لا يكون الذين تمدون إليه أعناقكم حتى تمحصوا.(٣١٠)
وروي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: ما تستعجلون بخروج القائم، فوالله ما لباسه إلا الغليظ ولا طعامه إلا الجشب... الحديث.(٣١١)
وروي عن إبراهيم بن هليل قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: جعلت فداك، مات أبي على هذا الأمر، وقد بلغت من السنين ما قد ترى. أموت ولا تحبرني بشيء؟! فقال: يا أبا إسحاق، أنت تعجل! فقلت: أي والله أعجل وما لي أعجل، وقد بلغت من السن ما قد ترى؟ فقال: يا أبا إسحاق ما يكون ذلك حتى تميزوا وتمحصوا وحتى لا يبقى فيكم إلا الأقل... الحديث.(٣١٢)
وهذه الأخبار واضحة جداً في اتوقع والانتظار الفوري، حتى أن أبا إسحاق لم يتصور أن يكبر سنه ولما يظهر المهدي بعد.
وكذلك إذا نظرنا إلى الأخبار الدالة على وجود توقعات من الأئة (ع) بأشخاصهم بأن يقوموا بدور المهدي (عليه السلام). كالخبر السابق عن الإمام الباقر (ع):والله ما أنا بصاحبكم... الحديث. وما روي عن حمران بن أعين قال سألت أبا جعفر (ع) فقلت له: أنت القائم؟... الحديث.(٣١٣) وفي حديث آخر عنه قال قلت لأبي جعفر الباقر عليه السلام: جعلت فداك أني قد دخلت المدينة وفي حقوقي هميان فيه ألف دينار، وقد أعطيت الله عهداً أن أنفقها ببابك ديناراً ديناراً أو تجيبني فيما أسألك عنه. فقال: يا حمران سل تجب ولاتبعض دنانيرك. فقلت: سألتك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآلة، أنت صاحب هذا الأمر والقائم به. قال: لا. قلت: فمن هو بأبي أنت وأمي. فقال: ذاك المشرب حمرة... الحديث.(٣١٤) وفي حديث آخر(٣١٥) عن الريان بن الصلت قال: قلت للرضا عليه السلام: أنت صاحب هذا الأمر؟ فقال: أنا صاحب هذا الأمر ولكني لست بالذي أملؤها عدلاً كما ملئت جوراً. وكيف أكون ذلك على ما ترى من ضعف بدني. وإن القائم هو الذي إذا خرج كان في سن الشيوخ ومنظر الشبان... الحديث.
الى أحاديث أخرى من هذا القبيل.
وكذلك إذا نظرنا إلى الخبر القائل: سئل أبو عبد الله عليه السلام: هل ولد القائم؟ فقال: لا. ولو أدركته لخدمته أيام حياتي.(٣١٦)
إذا نظرنا إلى هذه الأخبار، نجد مفهوم الانتظار، ومزيد الاهتمام بظهور المهدي(ع)... ناشئاً من سبب رئيسي واحد، هو إبهام فكرة المهدي في أذهانهم والجهل بتفاصيلها، حتى أن حمران بن أعين والريان بن صلت، وهما من أحلة أصحاب الأئمة (ع) كانا لا يزالان لا يعرفان من هو القائم على التعيين، وقد مضى من صدر الإسلام أكثر من مئة سنة.
وقد كانت لهذه الأحاديث وغيرها مما صدر من الإيضاحات والتفاصيل عن هذه الفكرة، من الأئمة المعصومين عليهم السلام، أكبر الأثر في جلاء الفكرة لدى قواعدهم الشعبية وارتفاع ابهامها تدريجاً، حتة اننا نرى الآن بوضوح طبقاً للتخطيط الإلهي أنه لم يكن بالإمكان القيام بدور المهدي (عليه السلام) في ذلك العصر، لعدم توفر أحد شرائط الظهور. ومن ثم لم يكن المهدي (عليه السلام) مولوداً، ولم يكن أحد من الأئمة السابقين هو المهدي القائم بالأمر بأي حال.
وقد كان لهذا الإبهام، في غير الأوساط الامامية، أثراً سلبياً أحياناً، إذ فسح المجال للعديدن في أن يستغلوا تبشير النبي (ص) بالمهدي (عليه السلام) فيدّعون المهدوية لأنفسهم. ولا ننسى بهذا الصدد أن الرشيد العباسي لقب ولده بالمهدي، عسى أن يتوهم الناس أنه المهدي المنتظر.
وقد سمعنا في تاريخ الغيبة الصغرى،(٣١٧) كيف أن جماعة القراطمة في الشرق الأدنى وجمعاً غفيراً في الشمال الإفريقي قد آمنوا بمهدوية محمد بن عبيد الله العلوي جد الفاطميين، الذين حكموا مصر بعد ذلك.
المرحلة الثالثة:
- لعصور الانتظار-: عصر الغيبة الصغرى، لمن يؤمن بها، وهم القواعد الشعبية الامامية.
وفيها – كما عرفنا في تاريخها – كان الإمام المهدي (عليه السلام) موجوداً يقود قواعده الشعبية في الخفاء. ولاشك أن الناس كانوا ينتظرون ظهوره في أي وقت. باعتبار ما يحسونه من ظلم ومطاردة وتعسف من قبل الحاكمين. وهم يعلمون علم اليقين بوجوده وإطلاعه على الأوضاع الشاذة التي يعيشها المجتمع، ويعلمون أنه المذخور لإزالة الظلم من العالم كله غافلين – بطبيعة الحال – عن اقتصاء التخطيط الإلهي تأجيل ذلك، لعدم توفر أحد شرائط اليوم الموعود.
ولو دققنا النظر، لم نجد في رفع هذا الجو الفكري من الناس، مصلحة. بل كانت المصلحة تقتضي إيكالهم إلى انتظارهم التلقائي الارتكازي، وعدم التعرض إلى تصحيحه أو تكذيبه. لأنه على أي حال، يزيد من الربط العاطفي للقواعد الشعبية المهدوية، بإمامها وقائدها. لوضوح أن الأمل فيه كلما كان أقوى كان هذا الارتباط أبلغ وأكبر.
بل أن هناك من الأخبار ما يدل على أن الإمام المهدي (عليه السلام) نفسه كان يذكي هذه العاطفة ويؤكد قرب الظهور. وقد ذكرناها في تاريخ الغيبة الصغرى وناقشناها.(٣١٨)
وقد يخطر في الذهن: أنه كان يمكن للناس في تلك الفترة، أن يطلعوا على الخبار الدالة على توقف ظهور المهدي (عليه السلام) على التمحيص، أو الأخبار الدالة على حدوث علامات الظهور... لكي يعرفوا أن الظهور لم يكن ليقع في تلك الفترة، بعد وضوح أن التمحيص لم يكن حاصلاً، والعلامات لم تكن حادثة.
ويمكن أن يناقش ذلك بعدة أحوبة، أوضحها: أن الفرد الاعتيادي يحتمل تحقق التمحيص المطلوب، في عصره، كما يحتمل حدوث علامات الظهور في المستقبل القريب. ومن ثم يحتمل أنه لم يبق بينه وبين الظهور إلا زمن قصير. وهذا الاحتمال كاف في إذكاء أوراء الجو النفسي والفكري للانتظار.
المرحلة الرابعة:
فترة الغيبة الكبرى، التي لا زلنا نعيشها.
وقد قلنا أن الانتظار فيها يحمل معنى توقع الظهور، وقيام اليوم الموعود في أي وقت وفي كل يوم. لكونه منوطاً بإرادة الله تعالى لاغير. كما ورد في بان المهدي (عليه السلام) الذي أعلن به انتهاء السفارة وبدء الغيبة الكبرى، حيث قال: فلا ظهور إلا بإذن الله تعالى ذكره.(٣١٩) ولما ورد أنه يوم الظهور يحدث فجأة أو بغتة، كلما سمعنا من مكاتبة المهدي (عليه السلام) للشيخ المفيد. وغيرها من الروايات التي سوف نذكرها.
نعم يمكن أن تلاحظ أنه في فترة بدء الغيبة الكبرى، كان هناك من الدلائل على عدم فورية الظهور، حيث نسمع من بيان انتهاء السفارة نفسه قوله عليه السلام: فقد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور إلا بإذن الله تعالى ذكره. وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب... الحديث.(٣٢٠) وطول الأمد يستدعي مضي عدة سنوات، بل عدة عشرات، لا بد من انتظار انتهائها، قبل توقع الظهور الفوري.
إلا أن مفهوم طول امد، يختلف باختلاف تصور الأفراد، ومقدار وعيهم العقلي والثقافي والإيماني. فقد لا يحتاج حين يسمعه الفرد العادي لأول مرة أكثر من عدة سنوات، وبخاصة من إناطة الظهرو بإذن الله تعالى مع ما يراه الفرد من قسوة القلوب فعلاً وامتلاء الأرض جوراً. فكان في الإمكان – بحسب الجو النفسي السائد يومئذ – أن يبدأ مفهوم الانتظار الفوري بعد عدة سنوات من تاريخ هذا البيان. ولم يكن أهل ذلك العصر بحاجة إلى أن يدركوا أن المراد من طول الأمد ما يزيد على الألف عام بقليل أو بكثير، كما ندركه الآن.
فإن قال قائل: إن الانتظار للظهور الفوري، ينافي ما جعل من علامات وشرائط للييوم الموعود، فإنه لا يكون إلا عند حصول تلك الأمور. فالانتظار للظهور الفوري إنما يصح بعد حصولها، وأنا قبل ذلك فينبغي أن يعود مفهوم الانتظار إلى الشكل الذي قلناه في صدر الإسلام من العلم بحصول اليوم الموعود مع اليقين بعدم الظهور الفوري.
وهذا الإشكال مشابه لما أوردناه في المرحلة الثالثة: عصر الغيبة الصغرى. وجوابه نفس الجواب، وملخصه: أن العلامات يحتمل وقوعها في أي وقت ويحتمل أن يتبعها ظهور المهدي (عليه السلام) بزمان قصير. وأما شرائط الظهور، فيحتمل اكتمالها ونجازها في أي وقت أيضاً. وقلنا بأن وجود هذا الاحتمال في نفس الفرد كاف في إيجاد الجو النفسي للانتظار الفوري.
فإن قال قائل: بأن ما عرفناه شرطاً رئيسياً للظهور، مما هو غير متحقق لحد الان، هو حصول التمحيص والامتحان للناس، ونحن نجد بالوجدان أن عدداً كبيراً من الناس إن لم يكن جميعهم أو أكثرهم، غير ممحصين، ولاتصل نتائج اختباراتهم إلى نهايتها.
قلنا: أنه يمكن الجواب على ذلك بوجهين:
الوجه الأول:
إن هذا الكلام يتضمن جهلاً بمعنى التمحيص والاختبار، فإن المراد منه ليس هو تمحيص الأفراد كأفراد خلال أعماهم القصيرة، لكي نتوقع أن يصل كل فرد خلال حياته إلى النتائج النهائية للتمحيص.
بل المراد تمحيص الأمة أو البشرية في أمد طويل، بشكل منتج لتمحيص الأفراد، في نهابة المطاف. ويتم ذلك عن طريق ما نسميه " بقانون الترابط بين الأجيال " فإن كل جيل سابق يوصل ما يحمله من مستوى فكري وثقافي إلى الجيل الذي يليه. ويكون على الجيل الآخر، أن يأخذ بهذا المستوى قدماً إلى الأمام. ثم أنه يعطي نتائجه إلى الجيل الذي بعده وهكذا...
وكذلك الحال بالنسبة إلى نتائج التمحيص، فإن كل جيل يوصل إلى الجيل الذي يليه، ما يحمله من مستوى في الإيمان والإخلاص... فيصبح الجيل الجديد، قد وصل بالتلقين إلى نفس الدرجة – تقريباً – من التمحيص التي وصلها الجيل السابق. ثم أن الجيل الآخر بدوره سيمر بتجارب وسيقوم بأعمال معينة وسيصادف ظروف الظلم والإغراء، فيتقدم في سلم التمحيص درجة أخرى، وهكذا.
وبقانون تلازم الأجيالن سيأتي على الأمة زمان، يكون الجيل الذي فيها، قد انتج التمحيص الإلهي فيه نتيجته المطلوبة. حيث ينقسم المجتمع إلى قسمين منفصلين: إلى من فشل في التمحيص فاختار طريق الضلال محظاَ. وهم الأكثرالذين يملأون الأرض جوراً وظلماً... وإلى من نجح فيه فاختار طريق الهداية والإخلاص محضاً. وبوجود هذه المجموعة يتحقق شرط الظهور.
إذن، فكيف يمكننا أن ندعي العلم بعدم تمحيص أكثر الناس، كما قلناه في السؤال. مع أن النتيجة المطلوبة حاصل في الأعم الأغلب منهم. وهذا واضح بالنسبة إلى كل البشر الكفرة والمنحرفين، فإن التمحيص قد أنتج تطرفهم إلى جهة لضلال. كما أنه واضح بالنسبة إلى عدد من المؤمنين المخلصين، حيث تطرفوا إلى جهة الهدى والإيمان. هذه هي نتيجة التمحيص.
نعم، قد تتعلق الإرداة الإلهية، بتأكيد التمحيص وتشديده أكثر مما هو عليه الآن، متوخية تعميق إخلاص المخلصين، لكي يكونوا بحق على المستوى المطلوب لقيادة العالم في اليوم الموعود.
وعلى أي حال، فيبقى شرط الظهور محتمل الإنجاز في أي وقت، فلا يكون منافياً مع مفهوم الانتظار الفوري.
الوجه الثاني: إن التمحيص الدقيق المأخوذ في التخطيط الإلهي، لايجب أن ينتج نتيجة واضحة فعلية كاملة، بالنسبة إلى كل البشر وإنما اللازم هو ان يصل إلى هدفه، وهو إيجاد شرط الظهور.
بيان ذلك: أن التمحيص يكون على مستويين:
المستوى الأول:
ما يكون من موقف كل فرد تجاه مصالحه وشهواته. وهذا التمحيص موجود بوجود البشرية ووجود مفاهيم الحق والعدل والمعلنة بين الناس. ولا ينقطع إلا بانتهاء البشرية. لايختلف في ذلك عصر الغيبة عن عصر الظهور. فإن عصر الظهور ينتج إيضاح الحق وسيطرته على العالم. ولكنه لايقوم بتبديل الغرائز والشهوات.
المستوى الثاني: ما يكن من قبل الفرد تجاه تيارات الظلم واضطهاد الظالمين. وهو تمحيص خاص بما قبل الظهور، لعدم وجود الظلم والظالمين بعده. وهذا هو العنصر المهم الذي أسسه التخطيط الإلهي لتحقيق شرط الظهور.
وشرط الظهور لو كان هو حصول النتيجة في كل البشرن لكان حصولها ضرورياً قبل الظهور، كما قال السائل... ولكن شرط الظهور ليس بهذه السعة، وإنما هو حصول عدد من ذوي الإخلاص القوي والإرادة الماضية، بمقدار كاف لزو العالم والسيطرة على البشرية بأطروحة الحق.
وحينما يحصل هذا المقدار من الناس، تكون نتيجة التمحيص الكاملة، قد تمخضت بالنسبة إليهم، بإحرازهم درجة الإخلاص العليا. كما تكون قد تمخضت بالنسبة إلى آخرين في التطرف نحو الإنحراف والفساد.
وأما البشر الآخرون، فلا مانع أن يصلوا إلى بعض درجات التمحيص ويقفوا. وتبقى الدرجات العليا من مواقفهم وردود فعلهم غامضة غبر ممحصة. وهذا كما هو ثابت بالنسبة إلى أغلب البشر قبل نهايات الغيبة، كذلك يمكن أن يكون ثابتاً بالنسبة إلى بعضهم عند أول الظهور أيضاً.
ولكننا – بهذا الصدد – يجب أن نتذكر الدرجات الثلاث، للإخلاص، التي قلناها... ولكها نتيجة للتمحيص وإن اختلفت مراتبها ومداليلها. وما قلناه قبل أسطر وإن كان صحيحاً في درجة الإخلاص العليا، فإنه لايحصل إلا في عدد معين البشر، قد تشكل أكثر البشر في الجيل المعاصر للظهور. ويكون الظهور بنفسه ظرفاً جديداً تتفتح فيه مواهب العديد من الناس على النحو الموجه المطلوب. على ما سوف نسمع في التاريخ القادم.
وعلى أي حال، فمن المحتمل على الدوام وفي أي وقت، أن يكون العدد الطافي لغزو العالم قد تحقق، وإن شرط الظهور قد توفر. فيكون الظهور عبلا هذا التقدير – فورياً أو قريباً جداً. واحتمال تحقق الشرط كاف في احتمل فورية الظهور. ومعه يكون مفهوم الانتظار الفوري، موجوداً خلال عصر الغيبة الكبرى.

 

* * *

 

الجهة الثالثة:
من التكاليف المطلوبة في عصر الغيبة الكبرى: الإلتزام بالتعاليم الإسلامية الحقة النافذة المفعول فيما قبل الظهور.
وهذا من واضحات الشريعة، فإن مقتضى شمول تعاليمها وعمومها لكل الأجيال، وجوب إطاعتها وتطبيقها على واقع الحياة في كل الأجيال. سواء ما كان على مستوى العقائد والمفاهيم، لأو ما كان على مستوى الأحكام.
ويقابل هذا الوضوح احتمالان رئيسيان:
الاحتمال الأول:
أن ينجرف الفرد مع النيارات المعادية للإسلام، ويتبع عقائدها وأحكامها، ويعبرها نافذة عليه، ويدع أوامر الإسلام ونواهيه، بل وعقائده في سبيلها.
وهذا النحو من السلوك واضح الفساد من وجهة نظر الإسلام. وحسبنا منه أنه مستلزم للعصيان الإسلامي والرسوب في التمحيص الإلهي.
ومعنى فساد هذا الوجه، هو أن العقائد الوحيدة الصحيحة والأحكام الوحيد النافذة في كل العصور، هي عقائد الإسلام وأحكامه. وأما ما يغزو المجتمع المسلم من عقائد غريبة وأحكام وضعية، فلا تعتبر حقاً ولا واجبة الامتثال.
الاحتمال الثاني:
أن المهدي بعد ظهوره – على ما سنعرف في التاريخ القادم – سوف يصدر قوانين جديدة، ويعطي للإسلام تفاصيل وتطبيقات جديدة. فقد يكون من المحتمل أن تكون تلك الأحكام والقوانين سارية المفعول خلال الغيبة الكبرى أيضاً. مما ينتج أن يكون الاقتصار على امتثال الأحكام السابقة على الظهور، غير كافية.
إلا أن هذا الاحتمال غير موجود البتة: لليقين بأمرين:
الأمر الأول:
إن أحكام ما بعد الظهور لن تكون ذات أثر (رجعي) بحيث تشمل الزمن السابق عليها.
فإن الإمام المهدي (عليه السلام) إنما يصدر قوانينه الجديدة بناء على مصالح وأسباب تتحقق بعد الظهور، وليس لها في عصر الغيبة الكبرى عين ولا أثر.
الأمر الثاني:
أننا – على أي حال – نجهل تلك الأحكام بالمرة، والجهل بالحكم بهذا الشكل، سبب طاف للمعذورية عن امتثاله أمام الله تعالى ورسوله (ص)، بحسب قواعد الإسلام.
إذن، فتكون الأحكام الإسلامية الصادرة المعلنة، منذ عصر الرسالة، نافذة المفعول، بكل تفاصيلها وخصائصها، من دون معارض ولا ناسخ، ويجب على الفرد إطاعتها وامتثالها. وهو واضح من وجهة النظر الإسلامية.
وهذا هو المراد من عدد من الأخبار على اختلاف مضانيها، تأمر المسلم بالبقاء على ما كان عليه من عقيدة وتشريع... بالرغم من تيار الفن وشبهات الانحراف.
أخرج ابن ماجة(٣٢١) عن رسول الله (ص) أنه ذكر التكليف في عصر الفتن فقال: تأخذون بما تعرفون وتعدون ما تنكرون. وتقبلون على خاصتكم وتذرون أمر عامتكم.
والمراد بهذا الحديث الشريف، بعد فهمه على أساس القواعد الإسلامية العامة... وهو وجوب الأخذ بما قامت عليه الحجة من أحكام الإسلام أو عقائده. بمعنى أنه متى دل الدليل الصحيح على كون شيء معين هو حكم إسلامي أو عقيدة إسلامية، وجب الأخذ به، بمعنى لزوم العمل عليه إن كان حكماً ووجوب الاعتقاد به إن كان عقيدة. وأما ما كان محالفاً لذل، فيجب رفضه واعتباره انحرافاً وفساداً.
وأما الذين يشخصون ذلك، ويفهمون ما هو الحكم الإسلامي من غيره، وما هو الدليل الصحيح وما هو الفاسد، فليس هم العامة أو الجمهور الذين ينعقون مع كل ناعق يميلون مع كل ريح... فإنهما – لا محالة – تؤثر فيهم موجات الانحراف وتغريهم المصالح والشهوات. فيحب الاعراض عنهم كوجهين وقادة وأصحاب رأي. وإنما توكل هذه المهمة إلى المختصين بالنظر إلى الأدلة الإسلامية واستنتاج الأحكام، والمفكرين الذين اتبعوا أنفسهم في تحقيق وتدقيق العقائد والمفاهيم والأحكام.
وبهذا بريد النبي (ص) أن يلفت نظر الفرد المسلم إلى وجوب الإلتفاف حول هؤلاء الخاصة من العلماء الذين يطلعونه على الحق ويبعدونه عن الباطل، وينقذونه من تيار الفتن، ويحرزون له النجاح في التمحيص الالهي الكبير.
ومثل هذا الحديث عدة أخبار، رواها الصدوق في إكمال الدين(٣٢٢) عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام. ففي أحد الأخبار يقول (ع): إذا أصبحت وأمسيت لاترى إماماً تأتم به (يعني عصر الغيبة الكبرى) فأحبب من كنت تحب وأبغض من كنت تبغض، حتى يظهره الله عز وجل.
وفي حديث آخر: تمسكوا بالأمر الأول حتى تستبين لكم. وفي حديث ثالث: فتمسكوا بما في أيديكم حتى يتضح لكم الأمر. وفي حديث رابع: كونوا على ما أنتم عليه حتى يطلع عليكم نجمكم (يشير إلى ظهور المهدي (عليه السلام)).
والأمر الأول الذي في اليد، هو أحكام الإسلام وعقائده الصحيحة النافذة المفعول في هذه العصور. ومعنى التمسك به تطبيقه في واقع الحياة، سلوكاً وعقيدة ونظاماً.
وكل هذه الأخبار، تعم العقيدة والأحكام... ما عدا الخبر الأول منها، فإنه خاص بالعقيدة. فإنه أمر الفرد المسلم بحب من كان يحب وبغض من كان يبغض. والحب والبغض بالمعنى الإسلامي الواعي الدقيق، يتضمنان نقطتين رئيسيتين:
النقطة الأولى:
ويعتبر الفرد من يحبه مثالاً ومقتدى، بصفته ممثلاً كاملاً للسلوك الإسلامي والكمال البشري. فيحاول الفرد جهد إمكانه أن يحذو حذوه ويقتفي خطاه. حيث لايمكن أن يصل إل الكمال بدون ذلك.
وفي مقابلة من يبغضه الفرد المسلم من المنحرفين والمنافقين. فإنهم مثال للسوء والظلم، يجب الابتعاد عنهم ومغايرة سلوكهم، لكي يمكن للفرد الحصول على الكامال والسلوك الصحيح.
النقطة الثانية:
إذ يعتبر الفرد المسلم من يحبه مطاعاً في أقواله، واجب الامتثال في أحكامه. لأن أحكامه هي أحكام الإسلام وأقواله تطبيقات لما يرضي الله عز وجل. إذن، فلا يمكن أن يتحقق السلوك الصالح بدون ذلك.
فانظر إلى الجانب العقائدي، كيف يعيش في الحياة متمثلاً في السلوك الصالح... وإنما حصل التعرض إلى الجانب العقائدي في الأخبار، لا باعتبار اختلاف العقيدة الإسلامية في زمن المهدي (عليه السلام). إذ من المعلوم أنه عليه السلام لا يغيّر العقائد والأحكام الرئيسية في الإسلام. وإنما يتصرف فيما دون ذلك.
وعلى أي حال، فنحن الآن غير مسؤولين عن أحكام الهدي (ع) بل يكفينا الاعتقاد بما عرفناه من الإسلام، وإيكال ما يحدث بعد الظهور إلى وقته.
ومن هنا نعرف نعرف أنه لماذا عبر في الخبر عن الأحكام الحالية بالأمر الأول أو ما في اليد، وذلك: بمقايستها إلى أحكام ما بعد الظهور. وكذلك التعبير: بمن كنت تحب ومن كنت تبغض. فإنه بمقايسة من يجب أأن يحبه ويطيعه من أولي الأمر الموجودين بعد الظهور.
وأخرج الكليني في الكافي(٣٢٣) والصدوق في إكمال الدين(٣٢٤) والنعماني في الغيبة. عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، حين يسأله الرواي عن تكليفه في زمان الغيبة(٣٢٥) حين تكثر الفتن ودعاوي الضلال وتنتشر الشبهات. قال الرواي: فكيف نصنع. قال: فنظر إلى شمس داخلة في الصفة. فقال: يا أبا عبد الله ترى هذه الشمس. قلت: نعم. قال: والله لأمرنا أبين من هذه الشمس.
فالمطلوب إسلامياً، هو متابعة خط الأئمة (ع) الذين هم البقاء الأمثل للنبوة والإسلام … باعتبار وضوح ما هم عليه من الحق، كوضوح الشمس المشرقة، وقيام الحجة فيه على الخلق. فلا بد من التمسك به والسير عليه خلال الغيبة الكبرى، لكي ينجو به المسلم من الفتن ويبتعد عن مزالق الانحراف.
ولئن كان هذا الحديث مما لا يومن به إلا القواعد الشعبية الامامية، فإن الأخبار المتقدمة تعمهم وغيرهم من أبناء الإسلام.

 

* * *

 

الجهة الرابعة: هل المطلوب خلال الغيبة الكبرى، إتخاذ مسلك السلبية والعزلة، أو المبادرة إلى الجهاد.
ويتم الكلام في هذه الجهة ضمن عدة نقاط:
النقطة الأولى: في محاولة فهم العنوان:
دلنا الوجدان والأخبار الخاصة والقواعد العامة، على ما سمعنا، على أن زمان الغيبة الكبرى، مستغرق بموجات الظلم والانحراف والفساد. فهل من وظيفة الفرد المسلم هو السلبية والانعزال عن الأحداث، وعدم وجوب إعلان المعارضة ومحاولة تقويم المعوج من الأفراد والأوضاع. أو أن وظيفة الفرد في نظر الإسلام هو العمل الاجتماعي الفعال، والجهاد الناجز في سبيل الله ضد الظلم والطغيان.
دلت الآيات الكريمة بعمومها على وجوب الجهاد كقوله عز من قائل: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة).(٣٢٦) وقوله: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطؤن موطئاً يغيط الكفار، ولا ينالون من عدو نيلاً، إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين).(٣٢٧)
ودلت الغالبية العظمى من أخبار التنبؤ بالمستقبل على وجوب السلبية والانعزال. بحيث استغرقت كل أخبار العامة تقريباً، وأغلب أخبار الخاصة. ولم يكد يوجد من الروايات الآمرة بالمبادرة إلى الجهاد والأخذ بزمام الإصلاح، إلا النزر القليل. وسنعرض لهذه الأخبار فيما يلي من البحث.
النقطة الثانية:
إذ يعتبر الفرد المسلم من يحبه مطاعاً في أقواله، واجب الامتثال في أحكامه. لأن أحكامه هي أحكام الإسلام وأقواله تطبيقات لما يرضي الله عز وجل. إذن، فلا يمكن أن يتحقق السلوك الصالح بدون ذلك.
فانظر إلى الجانب العقائدي، كيف يعيش في الحياة متمثلاً في السلوك الصالح... وإنما حصل التعرض إلى الجانب العقائدي في الأخبار، لا باعتبار اختلاف العقيدة الإسلامية في زمن المهدي (عليه السلام). إذ من المعلوم أنه عليه السلام لا يغيّر العقائد والأحكام الرئيسية في الإسلام. وإنما يتصرف فيما دون ذلك.
وعلى أي حال، فنحن الآن غير مسؤولين عن أحكام الهدي (ع) بل يكفينا الاعتقاد بما عرفناه من الإسلام، وإيكال ما يحدث بعد الظهور إلى وقته.
ومن هنا نعرف نعرف أنه لماذا عبر في الخبر عن الأحكام الحالية بالأمر الأول أو ما في اليد، وذلك: بمقايستها إلى أحكام ما بعد الظهور. وكذلك التعبير: بمن كنت تحب ومن كنت تبغض. فإنه بمقايسة من يجب أأن يحبه ويطيعه من أولي الأمر الموجودين بعد الظهور.
وأخرج الكليني في الكافي(٣٢٨) والصدوق في إكمال الدين(٣٢٩) والنعماني في الغيبة. عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، حين يسأله الرواي عن تكليفه في زمان الغيبة(٣٣٠) حين تكثر الفتن ودعاوي الضلال وتنتشر الشبهات. قال الرواي: فكيف نصنع. قال: فنظر إلى شمس داخلة في الصفة. فقال: يا أبا عبد الله ترى هذه الشمس. قلت: نعم. قال: والله لأمرنا أبين من هذه الشمس.
فالمطلوب إسلامياً، هو متابعة خط الأئمة (ع) الذين هم البقاء الأمثل للنبوة والإسلام … باعتبار وضوح ما هم عليه من الحق، كوضوح الشمس المشرقة، وقيام الحجة فيه على الخلق. فلا بد من التمسك به والسير عليه خلال الغيبة الكبرى، لكي ينجو به المسلم من الفتن ويبتعد عن مزالق الانحراف.
ولئن كان هذا الحديث مما لا يومن به إلا القواعد الشعبية الامامية، فإن الأخبار المتقدمة تعمهم وغيرهم من أبناء الإسلام.

 

* * *

 

الجهة الرابعة: هل المطلوب خلال الغيبة الكبرى، إتخاذ مسلك السلبية والعزلة، أو المبادرة إلى الجهاد.
ويتم الكلام في هذه الجهة ضمن عدة نقاط:
النقطة الأولى: في محاولة فهم العنوان:
دلنا الوجدان والأخبار الخاصة والقواعد العامة، على ما سمعنا، على أن زمان الغيبة الكبرى، مستغرق بموجات الظلم والانحراف والفساد. فهل من وظيفة الفرد المسلم هو السلبية والانعزال عن الأحداث، وعدم وجوب إعلان المعارضة ومحاولة تقويم المعوج من الأفراد والأوضاع. أو أن وظيفة الفرد في نظر الإسلام هو العمل الاجتماعي الفعال، والجهاد الناجز في سبيل الله ضد الظلم والطغيان.
دلت الآيات الكريمة بعمومها على وجوب الجهاد كقوله عز من قائل: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة).(٣٣١) وقوله: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطؤن موطئاً يغيط الكفار، ولا ينالون من عدو نيلاً، إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين).(٣٣٢)
ودلت الغالبية العظمى من أخبار التنبؤ بالمستقبل على وجوب السلبية والانعزال. بحيث استغرقت كل أخبار العامة تقريباً، وأغلب أخبار الخاصة. ولم يكد يوجد من الروايات الآمرة بالمبادرة إلى الجهاد والأخذ بزمام الإصلاح، إلا النزر القليل. وسنعرض لهذه الأخبار فيما يلي من البحث.
فأي الوظيفتين تقتضيها القواعد الإسلامية العامة. وهل تقتضي إحداهما على التعيين، أو تقتضي على الأمرين، باختلاف الحالات. وكيف يمكن فهم هذه الاخبار على ضوء ذلك. هذا لا بد من بحثه ابتداء بالقواعد العامة، وانتهاء بالأخبار.
النقطة الثانية: فيما تقتضيه القواعد العامة:
ويمكن أن نعرض ذلك، ضمن جانبين:
الجانب الأول:
في الأحكام الإسلامية، على المستوى الفقهي للعمل الإجتماعي أو العزلة.
ينقسم العمل الإجتماعي الإسلامي المقصود به الهداية والإصلاح إلى وجهتين رئيسيتين: أولاهما: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وثانيتهما: الجهاد أو الدعوة الإسلامية. ولكل منهما مجاله الخاص وشرائطهما المعينة.
فالجهاد يتضمن في مفهومه الواعي، العمل على ترسيخ أصل العقيدة الإسلامية، إما بنشرها ابتداءً أو الوقوف إلى جانبها دفاعاً... بأعي عمل حاول الفرد أو المجتمع الوصول إلى هذه النتائج... سواء كان عملاً سليماً أو حربياً. وإن كان أوضح أفراده وأكثرها عمقاًً، هو الصدام المسلح بين المسلمين والآخرين.
وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمجاله هو الإطار الإصلاحي للمجتمع المسلم، مع انحفاظ أصل عقيدته. ومحاولة حفظه عن الإنحراف والتفكك وشيوع الفاحشة ونحو ذلك.
شرائطهما:
وشرائط الامر المعروف والنهي عن المنكر، عديدة، فيما ذكر الفقهاء، تندرج في أمرين رئيسيين:
الأمر الأول:
العلم بالمعروف والمنكر، فلو لم يكن الفرد عالماً بالحكم الشرعي الإسلامي، أو لم يكن محرزاً بأن فعل الشخص الآخر معصية للحكم... لم تكن هذه الوظيفة الإسلامية واجبة.
الأمر الثاني:
احتمال التأثير في الفرد الآخر. فلو لم يكن يحتمل أن يكون لقوله أثر، لم يجب القيام بالأمر والنهي، فضلاً عما إذا احتمل قيام الآخر بالمعارضة والمجابهة أو إيقاع الضرر البليغ.
ولذلك ورد عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه سئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أواجب هو على الأمة جميعاً. فقال: لا. فقيل له: ولم؟ قال: إنما هو على القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر. لا على الضعيف الذي لا يهتدي إلى أي من أي. يقول من الحق إلى الباطل. والدليل على ذلك كتاب الله عز وجل. قوله: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر). فهذا خاص غير عام.(٣٣٣)
وكذلك قوله عليه السلام: إنما يؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر، مؤمن فيتعظ أو جاهل فيتعلم، فأما صاحب سوط أو سيف، فلا.(٣٣٤)
وأما الجهاد فغير مشروط بهذه الشرائط. كيف وإن المفروض فيه التضحية ببذلك النفس والنفيس في سبيل الله تعالى ومن أجل المصالح الإسلامية العليا.وقد أكد القرآن على ذلك في العديد من آياته، على ما سمعنا قبل قليل... وفي قوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن.ومن أوفى بعهده من الله. فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم. التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، والحافظون لحدود الله، وبشر المؤمنين).(٣٣٥)
إذن، فالجهاد فريضة كبرى لنشر الدعوة الالهية، داخلة في التخطيط الالهي لهداية الناس، فيما قبل الإسلام وفي الإسلام." في التوراة والانجيل والقرآن ". وإنما يقوم به على طول الخط، أولئك الصفوة ذوي الإخلاص الممحَّص والإيمان الرفيع... " التائبون العابدون الحامدون الراكعون الساجدون... ".
وقد ورد عن رسول الله (ص)(٣٣٦) أنه قال في كلام له: فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلاً وفقراً في معيشته ومحقاً في دينه. أن الله أغنى أمتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها " أي بأسلحتها ".
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، أنه قال: أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتح الله لخاصة أوليائه... إلى أن قال: هو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجُنته الوثيقة. فمن تركه ألبسه الله ثوب الذل وشمله البلاء، وديِّث بالصغار والقماءة، وضرب على قلبه بالأسداد، وأديل الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف ومنع النصف... الحديث.
وعن الصادق أبي عبد الله عليه السلام، أنه قال: إن الله عز وجل بعث رسوله بالإٍسلام إلى الناس عشر سنين، فأبوا أن يقبلوا، حتى أمره بالقتال. فالخير في السيف وتحت السيف. والأمر يعود كما بدأ " يعني عند ظهور المهدي عليه السلام ".
إلا أن الجهاد على أهميته الكبرى في الإسلام، مشروط بشرطين: الأول: خاص بجهاد الدعوة المتعلق بنشر الإسلام في غير المسلمين. وهو تعلق أمر الولي العصوم به، كالنبي (ص) أو أحد المعصومين بعده ومنهم المهدي (عليه السلام) نفسه.
بخلاف جهاد الدفاع فإنه غير مشروط بذلك. بل يجب عند الحاجة على كل حال.
ولا يفرق في هذا الحكم بين أن يكون الجهاد دموياً أو لم يكن... بل كان من قبيل الجهاد التثقيفي الإسلامي.
الشرط الثاني: احتمال التأثير، والوصول إلى النتيجة، ولو في المدى البعيد.
فلو لم يحتمل الفرد أو المجتمع المجاهد الوصول إلى أي نتيجة أصلاً... لم يجب الجهاد.
وهذا الشرط واضح في الجهاد الدموي، فإنه لا يكون واجباً مع قصور العدة والعدد. قال الله تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً. فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين، بإذن الله، والله مع الصابرين).(٣٣٧) وأما إذا كان الجيش المعادي أكثر من ضعف أفراد الجيش المسلم فلا يجب الجهاد، باعتبار أن احتمال النصر يكون ضئيلاً.
وأما الجهاد العقائدي التثقيفي، فهو وإن كان مشروطاً باحتمال التأثير أيضاً، فإنه إن لم يكن التأثير محتملاً لم يكن هذا الجهاد واجباً، إلا أن هذا إنما يتصور في الفرد الواحد، وأما في التثقيف العام للمجتمع، فهو يقيني التأثير في الجملة، على عدد من الأفراد قليل أو كثير. فيكون واجباً، مع توفر شرطه الأول.
فهذه هي وظائف العمل الإجتماعي في الإسلام من الناحية التشريعية الفقهية.
نتائجها:
نستطيع الوصول على ضوء ذلك، إلى عدة فوائد ونتائج كبيرة. متمثلة في عدة أمور:
الأمر الأول:
إن الجهاد على طول الخط، في تاريخ البشرية، مقترون في منطق الدعوة الالهية، بذوي الإخلاص العالي الممحص، فإنه (باب فتحه الله لأوليائه). لا بمعنى اختصاص وجوبه بهم، بل بمعنى أن الله تعالى لا يوجد شرائطه في العالم، إلا في ظرف وجودهم، بحسب تخطيطه الكبير. فإن مهمة غزو العالم كله، ونشر العدل المحض فيه، مهمة كبرى لا تقوم على اكتاف أحد سواهم، وإلا كان مهدداً بخطر الفشل والدمار.
ولذا حارب النبي (ص) أعداءه وانتصر، واستطاع أن يبلغ بالفتح الإسلامي مدى بعيداً في الأرض.ولهذا ـ ايضاًـ فشل الفتح الإسلامي حين فقد خصائصه الرئيسية وتجرد الشعب المسلم عما يجب أن يتحلى به من صفات. وبتلك الخصائص سوف يحارب المهدي (عليه السلام) وينتصر على كل العالم.
ولكن ينبغي أن نحتفظ بفرق بين أصحاب النبي (ص) وأصحاب المهدي (عليه السلام)، وقد أشرنا إليه فيما سبق: وهو: أن النبي (ص) بُعث في شعب خام غير ممحص الإخلاص قبل ذلك على الإطلاق ولا مر بأي تجربة لنشر العدل ولم يكن همه غير السلب والنهب من القبائل المجاورة. ومن ثم كان المندفعون إلى الجهاد بين يديه (ص) ـ فيما عدا النوادر ـ يمثلون الوهج العاطفي الإيماني وهيمنة القيادة النبوية عليهم، أكثر مما يمثلون استيعاب القضية الإسلامية من جميع أطرافها وخصائصها.
فلم يكونوا في الأعم الأغلب، ممحصين ولا واعين، بالدرجة المطلوبة لغزو العالم كله... ولو كانوا على هذا المستوى لما بقي العالم إلى الآن يرزخ تحت نير الاستعباد. ولكان النبي (ص) بنفسه هو المهدي الموعود... كما أشرنا إليه في التخطط الالهي.
ومن ثم رأينا ان هيمنة القيادة النبوية، حين انحسرت عن المجتمع، بدأ الوهج العاطفي بالخمود التدريجي. وإن كان قد بقي له من الزخم الثوري ما يبقيه مائتي عام أخرى، ينطلق من خلاله إلى منطقة ضخمة من العالم. إلا أن الفتح الإسلامي تحول تدريجياً إلى مكسب تجاري،(٣٣٨) وفشل عن التقدم في نهاية المطاف.
وهذه النتائج المؤسفة، يستحيل التوصل إليها ـ عادة ـ لو كان الجيش النبوي ممحصاً وواعياً، بحسب اتجاهات النفس البشرية وقوانين ترابط الأجيال.
والسر في ذلك ما سبق أن عرفناه، من أن البشرية عند نزول الإسلام، كانت مهيئة للشرط الأول من شروط عالمية الدعوة الالهية... دون الشرط الثاني، وهو وجود العدد الكافي من ذوي الإخلاص الممحص.
وأما المهدي (عليه السلام) فسوف يوجد الله تعالى هذا الشرط في أصحابه، بعد أن تكون البشرية قد مرت بالظروف القاسية التي تشارك في إيجاد هذا الشرط الكبير.
ومن ثم سوف يستطيع تطبيق الأطروحة العادلة الكاملة على العالم بأسره.
فإن قال قائل: يلزم من ذلك بأن أصحاب المهدي (عليه السلام) أفضل من أصحاب النبي (ص).قلنا: نعم، الأمر كذلك على الأعم الأغلب. ولا حرج في ذلك. فإن أصحاب المهدي (عليه السلام) هم أصحاب للنبي (ص) ومحاربين في سبيل دين النبي (ص) وعدله. وإنما القصور في البشرية التي لم تكن مهيئة لنشر العدل العالمي قبل أن ينتج التخطيط الالهي نتيجته المطلوبة، وهو إبجاد الشرط الأخير من شرائط الظهور.
الأمر الثاني:
إن الجهاد منوط على طول الخط... بوجود القائد الكبير الذي له قابلية غزو العالم ونشر العدل فيه. فما لم يتحقق ذلك لا يكون الجهاد واجباً. إلا فيما يكون من جهاد الدفاع الذي لا يكون واجباً على الأمة وإن لم تكون ممحصة ولم تكن لها قيادة.
إلا أن هذا من قبيل الاستثناء لأجل الحفاظ على بيضة الإسلام وأصل وجوده. وقد أثبتت غالب حوادث التاريخ فشل الأمة الإسلامية في حروف الدفاع حال فقدانها للقيادة والوعي. ومن هنا وصل الأمر بنا إلى ما وصل إليه من سيطرة الأعداء، حتى غزينا في عقر دارنا وأخذ منا طعامنا وشرابنا ووفقد منا استقرارنا وأمننا.
وعلى أي حالة، ففيما عدا ذلك، يكون مقتضى القاعدة العامة، هو إناطة وجوب الجهاد بوجود القائد الذي له أهلية غزو العالم ونشر العدل فيه. ومن هنا كان وجوب الجهاد حاصلاً في عصر النبي (ص)، وكان مهدداً بالانقطاع التام بعده، لولا أن القواد المسلمين، كانوا يحاربون بالوهج العاطفي الذي زرعه النبي (ص). ومن ثم لم يكن للفتح الإسلامي قابلية الاستمرار أكثر من زمان الوهج، مع إنعدام التمحيص والقيادة.
وهذه القيادة الكبرى، هي التي سوف تتجسد في شخص المهدي (عليه السلام)، فيبدأ نشر أطروحته في العالم عن طريق الجهاد، حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
الأمر الثالث:
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، غير منوط بوجود القيادة الكبرى ولا الإخلاص الممحَّص... بل هو مشروع بشكل يشمل الحالات الأخرى.
حيث نرى أنه لا يحتاج القيام بهذه المهمة الإسلامية إلا إلى معرفة الحكم الإسلامي مع احتمال إطاعة العاصي وتأثره بالقول. وأما حاجته إلى تضحية مضاعفة أو وعي عالٍ أو إخلاص ممحص، فغير موجودة... وهذا واضح.
بل أننا نستطيع أن نفهم من الشرط الذي أنيط به، وهو توقف وجوبه على عدم الخوف واحتمال الضرر... وقد سمعنا قول الإمام الصادق عليه السلام: وأما صحاب سوط أو سيف فلا. إن توقفه على ذلك مأخوذ خصيصاً بنظر الاعتبار لكي يواكب النفوس غير الواعية وغير الممحصة ويكون شاملاً لها، حتى إذا ما خافت الضرر ولم تستطع الصمود، كان لها في الشريعة المبرر الكافي للانسحاب.
وبهذا يحرز التشريع الإسلامي نتيجتين متساندتين:
النتيجة الأولى:
إن عدداً مهماً من أفراد الأمة، في عصر التمحيص والامتحان، يجب عليهم القيام بهذه الوظيفة الإجتماعية الكبرى: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. سواء كان التمحيص قد أنتج فيهم الإخلاص العالي أو لم يكن. وبذلك يحرز الإسلام ـ على الصعيد التشريعي على الأقل ـ حفظ المجتمع المسلم من الإنحدار إلى مهاوي الرذيلة والضلال.
النتيجة الثانية:
إن هذا العدد من أفراد الأمة يكونون ـ بمقتضى قانون التمحيص نفسه ـ واقفين على المحك الأساسي للتمحيص، من خلال قيامهم بهذه المهمة الإسلامية. فإن تركوها وأحجموا عنها، فقد فشلوا في الامتحان. وإن قاموا بها أوجب ذلك لهم تكامل الخبرة والتدريب والتربية، مما يسبب بدروه تحمل المسؤوليات الأكبر والأوسع، ويضعهم على طريق الإخلاص الممحص والوعي، في نهاية المطاف.
الأمر الرابع:
إن نتائج ترك الجهاد أهم وأوسع من نتائج ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويكفينا في هذا الصدد، أن نعرف الأمر على مستويين:
المستوى الأول:
إن الجهاد... حيث أنه الوظيفة الإسلامية المشرّغى لغزو العالم غير
الإسلامي، وإرجاع الأراضي الإسلامية السليبة، فهو أوسع تطبيقاً من الأمر بالمعروف الذي لا حدود له إلا ما كان داخل المجتمع الإسلامي من إنحراف وعصيان.
ومن هنا يكون ترك الجهاد موجباً لسلب الأمة نتائج أضخم ومكاسب أكبر من النتائج والمكاسب المترتبة على الأمر بالمعروف، كما هو واضح.
المستوى الثاني:
إن الأمر بالمعروف بمنزلة الفرع أو النتيجة أو المسبب عن الجهاد... وتركه بمنزلة السبب لوجوبه.
وذلك: أنه لا يجب الأمر بالمعروف في منطقة من العالم، إلا إذا كانت داخلة ضمن حدود البلاد الإسلامية، فلا بد أن تكون المنطقة قد دخلت في ضمن هذه الحدود أولاً، ليجب فيها القيام بتلك الوظيفة ثانياً. والغالب أن يكون دخول البلاد إلى حوزة الإسلام، بالجهاد المسلح. فيكون الجهاد مقدمة لوجوب الأمر بالمعروف ويكون الأمر بالمعروف نتيجة له. حيث تكفلت الوظيفة الإسلامية، الأولى استاع بلاد الإسلام. وتكفلت الوظيفة الثانية المحافظة على هذه السعة وضمان تطبيق العدل في البلاد المفتوحة الإسلامية.
وأما إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في البلاد الإسلامية... فستبدأ بالإنحدار من حيث الإخلاص والشعور بالمسؤولية، حتى ينتهي بها الحال أن تغزي في عقر دارها وتكون لقمة سائغة لكل طامع وغاصب. كما قال الإمام الرضا (ع) فيما روي عنه(٣٣٩): لتأمرون بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليستعملن عليهم شراركم.(٣٤٠) فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم. ويتسبب ذلك أحياناً إلى المنطقة الإسلامية بيد القوات الكافرة المستعمرة، كما حصل في الأندلس وفلسطين.... فيعود الجهاد واجباً لاسترجاعها.فقد أصبح ترك الأمر بالمعروف سبباً لوجوب الجهاد.
الأمر الخامس:
نعرف من ذلك كله، متى تكون العزلة والسلبية واجبة، ومتى تكون جائزة ومتى تكون محرمة، بحسب المستوى الفقهي الإسلامي.
فإن العزلة والسلبية، مفهوم يحمل معنى عدم القيام بالفعاليات الإجتماعية الإسلامية من الجهاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فمن هنا تكون العزلة الإسلامية من الجهاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فمن هنا تكون العزلة محرمة حين يكون ذلك واجباً، وتكون واجبة حين يكون ذلك حراماً على بعض الوجوه التي نذكرها فيما يلي. وتكون العزلة جائزة إن لم يكن في العمل الإسلامي موجب الوجوب والتحريم.
حرمة السلبية:
فحرمة السلبية، إنما تتأنى من وجوب المبادرة إلى ميادين العمل الإسلامي...
أما بالقيام بالجهاد على مستوييه: المسلح وغير المسلح، مع اجتماع شرائطه. وأما بالقيام بالأمر بالمعروف ومحاولاً الاصلاح في المجتمع الإسلامي، على مستوييه المسلح وغيره، عند اجتماع شرائطه... وخاصة غير المسلح منه، الذي هو الأعم الأغلب منه.
وعلى أي حال، فإذا وجب العمل الإسلامي حرمت العزلة، وكانت عصيانا وانحرافاً إسلامياً خطيراً. وتكتسب أهميتها المضادة للإسلام، بمقدار أهمية العمل الإسلامي المتروك.
ومن ثم كان ترك الجهاد عند وجوبه، والفرار من الزحف من أكبر المحرمات في الإسلام...طبقاً لقوله تعالى: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة، فقد باء بغضب من الله، ومأواه جهنم وبئس المصير).(٣٤١) كما أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند وجوبه حرام إسلامياً، مؤذن بالعقاب، كما ورد عن النبي (ص): إذا أمتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فليأذنوا بوقاع من الله. وعنه (ص) أنه قال: لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك، نزعت منهم البركات وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء. ومعنى أنه لا ناصر لهم في السماء: ان الله تعالى لا يرضى بفعلهم ولا يقره.
وجوب السلبية:
وتكون العزلة والسلبية واجبة، عندما يكون ترك العمل الإسلامي واجباً، والمبادرة إليه حراماً. وذلك في عدة حالات:
الحالة الأولى:
القيام بالجهاد الاسلامي بدون إذن الامام أو القائد الاسلامي أو رئيس الدولة الاسلامية... فان ذلك غير مشروع في الاسلام، كما ينص عليه الفقهاء، سواء كانالقائد غافلاً أو ملتقياً... فضلاً عما إذا كان العمل موجهاً ضد الامام أو الدولة، سواء كان عسكرياً أو غيره.
ونحن نفهم بكل وضوح، المصلحة المتعلقة بهذا الاشتراط. فان القائد الاسلامي أبصر بمواضع المصلحة وموارد الحاجة إلى الجهاد من الفرد الاعتيادي، بطبيعة الحال وبذلك يكون عمله أدخل في التخطيط الالهي العام لهداية البشر، من عمل غيره. بل قد يكون عمل غيره هداماً مخرباً، كما سيأتي في الجانب الثاني من هذه النقطة الثانية.
الحالة الثانية:
القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيما إذا لم يكن يحتمل التأثير، وكان مستلزماً مع الضرر البليغ أو إلقاء النفس في التهلكة. فان هذا الأمر والنهي يكون محرماً وحرمته مطابقة مع القواعد العامة، فان معنى الاشتراط بعدم الضرر، هو سقوط الوجوب معه، فلا تكون هذه الوظيفة الاسلامية بلازمة. فان كان الضرر بليغاً ن كان المورد مندرجاً في حرمة القاء النفس في التهلكة أو حرمة التنكيل. فيكون محرماً.وإذا حرم الأمر بالمعروف، كانت العزلة والسلبية المقابلة له واجبة.
وهذا التشريع واضح المصلحة بالنسبة إلى الممحصين وغيرهم. أما الممحصين فباعتبار أن التضحية وتحمل الضرر في مورد يعلم بعدم ترتب الأمر أو تغيير الواقع، تذهب هذه التضحية هدراً، بحيث يمكن صرفها في مورد أهم من خدمات الاسلام. وأما بالنسبة إلى غير الممحصين فلنفس الفركة، مع الأخذ بنظر الاعتبار ضحالتهم في قوة الارادة وضعفهم في درجة الايمان.
الحالة الثالثة:
فيما إذا كانت العزلة أو السلبية، تتضمن مفهوم المقاومة أو المعارضة أو الجهاد ضد وضع ظالم أو أساس منحرف... فأنها تكون واجبة بوجوب الجهاد نفسه.
وتكون في واقعها عملاً اجتماعياً متكاملاً... ولكن أن تكون مخططاً مدروساً وطويل الأمد، يختلف باختلاف الظروف والأهداف المتوخاة من وراء هذه العزلة.
وتندرج هذه السلبية، بالرغم من مفهومها السالب الخالي عن الحركة، تحت أهم أعمال الجهاد. قال تعالى: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة ف يسبيل الله، ولا يطؤن موطئاً يغيط الكفار، ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح. ان الله لا يضيع أجر المحسنين).(٣٤٢) إذن فالمراد في صدق مفهوم الجهاد والعمل الصالح، هو إغاضة الكفار والنيل من أعداء الحق، سواء كان ذلك بعمل إيجابي حركي أو بعمل سلبي ساكن.
كما قد تندرج السلبية في مفهوم الأمر بالمعروف أو النهي عن المننكر... إذا كانت مما يترتب عليها الاصلاح في داخل المجتمع الاسلامي أو تقويم المعوج من أفراده، فتكون واجبة بوجوب هذا الأمر والنهي.
ولعل من أهم أمثلة قوله تعالى: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن، واهجروهن في المضاجع).(٣٤٣) فان هذا الهجران نوع من السلبية لأجل نهي الزوجة العاصية الناشز عن ما هي عليه من العمل المنكر ضد زوجها.
وكم قد عملت السلبية في التاريخ أعمالاً كبرة وبعيدة الأثر، قد تعدل الأعمال الايجابية، بل قد تفوق بعضها بكثير.
الحالة الرابعة:
ما إذا خاف الفرد على نفسه الانحراف، واحتمل اضطراره إلى الانزلاق تحت إغراء مصلحي أو ضغط ظالم أو اتجاه عقائدي لا إسلامي.
فأنه يجب على الفرد – في مثل ذلك- أن يجتنب السبب الموجب للانحراف، يعتزل عنه، لكي يحرز حسن عقيدته وسلوكه.وتكون الحالة إلى هذه العزلة ملحة، فيما إذا لم يجد الفرد في نفسه القوة الكافية لمكافحة التيار المنحرف أو التضحية في سبيل العقيدة.
إلا أن هذه العزلة لا يجب أن تكون كلية ومطلقة، بل الواجب هو اعتزال التيار الذي يخاف المكلف من هعلى نفسه أو دينه. وأما اعتزال المجتمع بالكلية، فهذا غير لازم بل غير جائز إسلامياً، إذا كانت هناك فرص للعمل الاسلامي الواجب، من جهات أخرى.
جواز السلبية:
وأما موارد اتصاف السلبية بالجواز، فهو كل مورد كان العمل الاجتماعي الاسلامي جائزاً أو كان تركه جائزاً أيضاً. فيكون للمكلف أن يقوم به، أو أن يكون معتزلاً له وسلبياً تجاهه.
إلا أن الغالب هو عدم اتصاف العمل الاسلامي بالجواز، بل يكون-عند عدم اتصافه بالوجوب- راجحاً أو مستحباً. فتكون العزلة المقابلة له مجرومة ومخالفة للأدب الاسلامي العادل.
وعلى أي حال، فقد استطعنا أن نحمل فكرة كافية على صعيد الفقه الاجتماعي، عن العمل والعزلة في نظر الاسلام، من حيث الوجوب والحرمة والجواز. وبذلك ينتهي الكلام في الجانب الأول.

 

* * *

 

الجانب الثاني: من الحديث عن العزلة أو الجهاد، في ارتباط هذه الأحكام الاسلامية بالتخطيط الالهي العام للبشرية، وبقانون التمحيص الالهي.
عرفنا فيما سبق، ما للظلم ولظروف التعسف التي يعيشها الأفراد، من أثر كبير في تمحيصهم وبلورة عقيدتهم، ووضعها على مفترق طريق الهداية والضلال.
وينبغي أن نعرف الآن، أن الظلم لا يحدث ذلك مباشرة... كيف وان مدلوله المباشر ومقصوده الأساسي، هو سحق الحق وأهله. وإنما يوجب ذلك باعتبار الصورة التي يحملها الفرد المسلم في ذهنه عنه ورد الفعل الذي يقوم به تجاهه نفسياً أو عملياً. ويكون ذلك على عدة مستويات:
المستوى الأول:
أخذ العبرة من الظلم عقائدياً وتطبيقياً. والنظر إليه كمثال سيء يجب التجنب عنه والتحرز عن مجانسته.
فان الظلم بما فيه من فلسفات وواجهات، وبما له من أخلاقية خاصة وسلوك معين، سوف لن يخفي نفسه ولن يستطيع ستر معايبه ونقائضه. بل سوف تظهر متتالية نتيجة للتمحيص... أساليب الظلم والاعيبة وما يبتني عليه من خداع ونقاط ضعف.
وحسبنا من واقعنا المعاصر أن نرى أن صانعي هذه المبادئ، يحاولون تطويرها وتغييرها، وإدخال التحسينات والترميمات عليها من بين حين وآخر، حتى لا تنكشف نقائصها، ولا تفتضح على رؤوس الاشهاد. إذن فأي مستوى معين من الفكر المنحرف لو بقي بدون ترميم لكانت التجربة والتمحيص، أو تطور الحضارة البشرية- على حد قولهم- كفيلاً في فضح نقائضه وإثبات فشله.
المستوى الثاني:
إتضاح فساد الأطروحات المتعددة التي تدعي لنفسها قابلية قيادة العالم وإصلاحه... اتضاحاً حسياً مباشراً. ولا زالت البشرية تتربى – تحت التخطيط الالهي – وتندرج في هذا الادراك، وإن بوادره في هذا العصر لأوضح من أن تنكر... بعد أن أصبح الفرد الاعتيادي يائساً من كل هذه المبادئ من أن تعطيه الحل العادل الكامل لمشاكل البشرية.
وقد أشير إلى ذلك في الأخبار بكل وضوح. روى النعماني(٣٤٤) بسنده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: ما يكون هذا الأمر "يعني دولة المهدي (عليه السلام)" حتى لا يبقى صنف من الناس إلا وقد ولوا من الناس "يعني باشروا الحكم فيهم" حتى لا يقول قائل: إنّا لو ولينا لعدلنا. ثم يقوم القائم بالحق والعدل.
وفي رواية أخرى(٣٤٥): إن دولتنا آخر الدول. ولم يبق أهل بين لهم دولة إلا ملكوا قبلنا، لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا، لو ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء. وهو قول الله عز وجل: (والعاقبة للمتقين).
وسنشبع هذه الجهة بحثاً في الكتاب الثالث من هذه الموسوعة.
المستوى الرابع:
ما يترتب على هذا اليأس من إدارك وجداني متزايد، للحاجة الملحة العالمية الكبرى للحل الجديد والعدل الذي يكفل راحة البشرية وحل مشاكلها.
وهذا شعور موجود بالفعل، بين الغالبية الكبرى من البشر على وجه الأرض، بمختلف أديانهم ولغاتهم وتباعد أقطارهم. فانظر إلى التخطيط الالهي الرصين الذي ينتج الانتظار للحل الجديد، من حيث يعلم الأفراد أو لا يعلمون.
المستوى الخامس:
إدراك مميزات العدل الاسلامي والعمل الاسلامي والقيادة الاسلامية، عند مقارنة نقائه وخلوصه وشموله بالمبادئ المنحرفة والاتجاهات المادية. فيتعين أن يكون هو الحل العالمي المرتقب.
ويزداد هذا الادراك وضوحاً، كلما تعلق الفرد بالمقارنة والتدقيق والتقيد العلمي. فتبرهن لديه بوضوح أن الأطروحة العادلة الكاملة الضامنة لامتلاء الأرض قسطاً وعدلاً، هي الاسلام وحده. وللتوسع في هذه البرهنة مجالات أخرى غير هذا الحديث.
المستوى السادس:
الدربة والتربية على الاقدام على التضحية في سبيل الحق...ذلك الذي ينتجه العمل الاسلامي، كما سبق أن أشرنا، عن طريق التمحيص الاختياري والاضطراري للأفراد، وانتقال التمحيص عن طريق قانون تلازم الأجيال.
إذا عرفنا ذلك، فيحسن بنا أن نرى أن أحكام العزلة والجهاد والأمر بالمعروف التي عرفناهنا، ماذا تؤثر في هذا التخطيط، على تقدير إطاعتها، وعلى فرض عصيانها، وهذا ما نعرض له فيما يلي:
أما الفرد المسلم الذي له من الاخلاص والايمان ما يدفعه إلى إطاعة أحكام الاسلام وتطبيقها في واقعه العملي، فيندفع حين يريد منه الاسلام الاندفاع إلى العمل ويعتزل حين يريد منه الاسلام السلبية والاعتزال.
... فهذا هو الفرد الذي سيفوز، بالقدح الأعلى والكأس الأوفى من النجاح في التمحيص الالهي، ويشارك في إيجاد شرط الظهور في نفسه وغيره.
فإن هو اتصل بالمجتمع، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وحاول الاصلاح في أمة الاسلام... فانه سيشعر عنكثب بفداحة الظلم الذي تعيشه هذه الأمة خاصة والبشرية عامة. وسينقل هذا الشعور إلى غيره، ويطلع الآخرين بأن أفضل حل لذلك هو تطبيق الأطروحة العادلة الكاملة المتمثلة بالاسلام.
وإن هو جاهد، عند وجوب الجهاد أو مشروعيته.. فهذه الوظيفة الاسلامية الكبرى، تحتوي – كما عرفنا – على جانبين رئيسيين: جانب تثقيفي وجانب عسكري.
فإذا عرفنا أن الجانب التثقيفي، ليس هو مجرد طلب التلفظ بالشهادتين، من غير المسلمين. بل هو متضمن – على ما ينص عليه الفقهاء – عرض محاسن الاسلام، بمعنى إظهار جوانب العدل فيه واثبات أفضليته من النظم الأخرى سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وعقائدياً واجتماعياً وأخلاقياً... ونحو ذلك... إذا عرفنا ذلك، استطعنا ان نفهم كيف أن الفرد المخلص لدى الجهاد التثقيفي وإن المفكر الاسلامي لدى البحث عن بعض جوانب الاسلام... يندفع في تطبيق التخطيط الالهي من حيث يعلم أو لا يعلم.
فإن المفكرين الاسلاميين، يسيرون بأنفسهم نحو الكمال... أولاً.
ويثقفون غيرهم من أبناء أمتهم الاسلامية... ثانياً. ويطلعون غير المسلمين على الواقع العادل للاسلام...ثالثاً. وينفون الشبهات الملصقة بالاسلام...رابعاً. ولك ذلك مشاركة فعالة فعلية في التخطيط الالهي وفي إيجاد شرط الظهور. فان لهذا الجو الثقافي الاسلامي الأثر الكبير في فهم المسلمين لأطروحتهم العادلة الكاملة، واستعدادهم للدفاع عنها، ونجاحهم في الصمود تجاه التيارات المنحرفة وحصولهم على الاخلاص الممحص في نهاية المطاف.
وأما العمل العسركي، فقد ذكرنا أن ما يمت إلى جهاد الدعوة بصلة لا يشرع وجوده في أيام التمحيص وفقدان الامام. كيف وهو لا يقوم به إلا الأفراد الممحصون، كما عرفنا. إذن فهذا الجهاد لا يكون إلا نتيجة للتمحيص، فلا يمكن أن يكون مقدمة له وسبباً لوجوده.
وأما العمل العسركي الدفاعي، فهو بوجوبه على غير الممحصين الواعين، يعطيهم درساً قاسياً في تحمل الضرر من أجل الاسلام، والتضحية في سبيل الله... ويربيهم عن طريق هذه التجربة تربية صالحة. من حيث أن فكرة وجوب حفظ بيضة الاسلام وأصل كيانه، واضحة في أذهانهم.
كما أنه يكون محكاً لامتحان الآخرين الذين يتخاذلون عن الدفاع عن الاسلام ويعطون الدنية من أنفسهم للمستعمر الدخيل، أو يحاربون تحت شعارات لا إسلامية... فيفشلون في التمحيص الالهي فشلاً مؤسفاً ذريعاً.
فإن أفاد الدفاع وانحسر المد الكافر، فقد انتصرت التضحية في سبيل الله تعالى، وتكلل العمل الاسلامي الكبير بالنجاح. وإن خسرت الأمة ذلك وسقطت بين المستعمر الدخيل، بدأت سلسلة جديدة من حوادث التمحيص والاختبار الالهي، التي تتمثل بما يقوم به المتسعمر من ظلم وتعسف وما يدسه من تيار فكري ونظام اقتصادي غريب عن الاسلام. وما يكون لأفراد الأمة من ردور فعل تجاه هذا الظم الجديد. فقد ينجح في التمحيص أقوام وقد يفشل آخرون. طبقاً للقانون العام...
وعلى أي حال، فالعمل الإجتماعي الاسلامي بقسميه الرئيسيين: الجهاد والأمر بالمعروف، مشاركة فعالة في التخطيط والتمحيص الالهيين. وهما المحك فشل أعداد كثيرة من المسلمين يتخلفون عن هذا الواجب المقدس وتتقاعس عنه، فشل في الامتحان وتخرج عن غربال التمحيص... فتبوء بالذل والخسران.
وأما العزلة، فإن كانت تتضمن تركاً للعمل الاجتماعي الواجب في الاسلام، فهي العصيان والانحراف بعينه. وبها يثبت فشل الفرد في الامتحان الإلهي وأما إذا كانت العزلة، منسجمة مع التعاليم الاسلامية، واجبة أو جائزة... فتكون داخلة ضمن التخطيط الالهي لا محالة، باعتبار ان إدخالها في التشريع يراد به جعلها مشاركة في تنفيذ هذا التخطيط الكبير. وتكون مشاركة الفرد فيها منتجة لعدة نتائج مقترنة مترابطة.
النتيجة الأولى:

انسجام عمل الفرد مع متطلبات التخطيط الالهي ومصالحه.فان العزلة إنما شرعت لمصالح تعود إلى هذا التخطيط، فيكون امتثال المكلف لوجوبها مشاركة حقيقية، فيما يراد انتاجه من المصالح في إيجاد شرط الظهور.
بخلاف ما لو لم يعتزل، كما لو جاهد بغير إذن أو أمر بالمعروف مع احتمال الهلاك، فانه يكون من الفاشلين في التمحيص، فيسقط رقمه من المخلصين الممحصين... من حيث أراد العمل الاسلامي.
النتيجة الثانية:
النجاح في التمحيص، فان المعتزل للعمل حين يراد منه الاعتزال، يكون قائماً بوظيفته العادلة الكاملة، ويكون ذلك سبباً لنجاحه في التمحيص، من حيث كونه صابراً على البلاء محتسباً عظيم العناء.
لكننا يجب أن نلاحظ في هذا الصدد نقطتين مقترنتين:
الملاحظة الأولى:
إن العزلة، وإن كانت مطابقة للتعاليم والتخطيطات الالهية عند مطلوبيتها، إلا أن أثرها في إيجاد الاخلاص العالي والواعي في نفس الفرد، لا ينبغي أن يكون مبالغاً فيه. فان العزلة، على أي حال، تعني السلبية والانسحاب، والسلبية – في الأعم الأغلب – تعني الراحة والاستقرار. ومن الواضح جداً أن الفرد لا يتكامل إخلاصه ووعيه الاسلامي، إلا بالعمل والتضحية ومواجهة الصعوبات، لا بالراحة والاستقرار. أو على الأقل، سيكون تكامل الفرد في حال السلبية أبطأ منه في حال العمل... في الأعم الأغلب.
ومن هنا نرى الاسلام يمزج في تشريعه بين العزلة حيناً والعمل أحياناً. لكي تكون إطاعة المكلف على طول الخط سبباً لتمحيصه... عاملاً او معتزلاً.فان العزلة مع استشعار كونها طاعة لله ومع استعداد الفرد في أي وقت للتضحية والفداء... تشارك مشاركة فعالة في نجاح الفرد في التمحيص.
الملاحظة الثانية:
إن العزلة عند مطلوبيتها، تكون منتجة للتمحيص بالنسبة إلى الفرد المنعزل خاصة دون غيره. بخلاف العمل، حين يكون مطلوباً، فانه ينتج تمحيص الفرد القائم بالعمل وغيره.
ومن هذا الفرق إلى الفرق بين المفهومين، في أنفسهما، فان العمل حيث يعني الاتصال بالغير بنحو أو بآخر، فأنه يجعل كلا الطرفين تحت التمحيص، ليرى من يحسن السلوك فينجح ومن يسيئوه فيفشل.
وأما العزلة، فحيث أنها لا تتضمن طرفاً آخر، بل تقتضي الابتعاد عن الغير، في حدودها، فلا تكون منتجة للتمحيص إلا للفرد المعتزل نفسه.
النتيجة الثالثة:
حفظ النفس عن القتل من دون مبرر مشروع. كالذي يحدث فيما لو جاهد في مورد النهي الشرعي عن الجهاد، أو أمر بالمعروف في مورد الضرر البليغ... أو تابع المنحرفين فأدى به انحرافه إلى القتل... أو غير ذلك.
ومن المعلوم ما في حفظ النفس من الأهمية، لا باعتبار أصل تشريعه، وإن كان مهمّاً جداً، بل باعتبار دخله في التخطيط الالهي لليوم الموعود. فان قوانين التمحيص إنما تكون مطبقة في العالم عند وجود الأفراد وقيامهم بالسلوك المعين الذي يربيهم ويحملهم على التكامل. وأما إذا أهلك الفرد أو عدد من الأفراد أنفسهم في غير الطريق الصحيح، فمضافاً إلى أنهم سيبوءون بالفشل في التمحيص، فأنهم يتسببون إلى قلة الأفراد الممحصين، ومن ثم الناجحين في التمحيص منهم.
إذن فلا بد من الحفاظ على النفس، لكي تتعرض للتمحيص، فلعلها تكون من الناجحين، وتشارك في إيجاد شرط الظهور.
وهذا هو المفهوم الواعي والغرض الأعمق للتقية الواجبة، المنصوص عليها في القرآن وفي أخبار أهل البيت عليهم السلام. وسنعرف عنها بعض التفصيل في النقطة الثالثة الآتية.

 

* * *

 

وبهذا استطعنا أن نلم بمفهوم العزلة ونتائجه.وعرفنا أن المراد منها ليس هو الانصراف التام عن المجتمع والاعتكاف في الزوايا... كيف وان العمل الاجتماعي قد يكون واجباً في الاسلام، فتكون هذه العزلة من المحرمات.
بل المراد منها اعتزال العمل الاجتماعي غير الواجب او العمل المحرم. والعزلة في موارد مطلوبيتها تشارك في المنهج العام للتخطيط الالهي لايجاد شرط الظهور. كما سبق أن فصلنا.
وعلى أي حال، فالاندفاع في أي من المسلكين: العمل والعزلة، إلى نهاية الشوط غير صحيح، وإنما الصحيح هو قصر السلوك على مقتضيات العدل ومتطلبات الاسلام فان كان العمل واجباً كان على الفرد أن يعمل وإن كانت العزلة واجبة كان على الفرد أن يعتزل، ليكون بهذا السلوك ناجحاً في التمحيص محققاً في نفسه شرط الظهور.
وبهذا انتهى الكلام في النقطة الثانية، فيما تقتضيه القواعد العامة من الالتزام بالجهاد أو بالعزلة.
النقطة الثالثة:
فيما دلت عليه الأخبار الخاصة من التكليف خلال الغيبة الكبرى، تجاه ما يكون فيها من الانحرافات وأنواع الظلم والفساد.
وأكثرها – كما أشرنا فيما سبق – دال على لزوم العزلة والابتعاد عن الناس وترك الأقوال والنشاط على المستوى الاجتماعي. وسنرى فيما يلي مقدار مطابقتها للقواعد العامة التي عرفناها. فان استطعنا أن نفهم لها وجهاً صحيحاً منسجماً مع ما سبق أخذنا بها، وإلا اضطررنا إلى ترك الرواية المخالفة للقواعد، وخاصة بعد التشدد السندي الذي التزمناه.
القسم الأول:
وهذه الأخبار ذات مضامين ومداليل مختلفة، فنقسمها بهذا الاعتبار إلى أقسام
في الفتنة التي فيها القاعد خير من القائم.
أخرج الصحيحان(٣٤٦) بلفظ واحد عن رسول الله (ص) أنه قال: ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي. من تشرف لها تستشرفه. ومن وجد فيها ملجأ فليعُذ به. وذكر كل من الشيخين لها أكثر من سند واحد.
وأخرج مسلم(٣٤٧) عنه (ص): أنها ستكون فتن. الا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها والماشي فيها خير من الساعي إليها. الا فإذا نزلت أو وقعت، فمن كان له أبل فليلحق بابله، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بارضه.. الحديث. وذكر له سندين.
وقد أخرج غيرهما من أصحاب الصحاح، هذا المضمون غير أننا نقتصر عليهما فيما أخرجاه. وهو مضمون اقتصر إخراجه على مصادر إخواننا أهل السنة، ولم نجد في المصادر الإمامية له ذكراً.
ولفهم هذه الأخبار أطروحتان، بعد العلم أن الفتن قد يراد بها التمحيص والإختيار، وقد يراد بها النتيجة السيئة للتمحيص أعني الكفر والإنحراف. وكلاهما من معانيها اللغوية. وقد جاء طبقاً للمعنى الأول قوله تعالى: (وفتناك فتوناً)(٣٤٨) وقوله: (وظن داود إنما فتناه).(٣٤٩) وطبقاً للمعنى الثاني قوله تعلى: (واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك).(٣٥٠) وقوله: (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم).(٣٥١)
ولكن المعنى الأول ن غير مراد من هذه الروايات جزماً، إذ لا معنى للتخلص والإنعزال عن التمحيص، بعد كونه قانوناً منطبقاً على كل البشر، في التخطيط الإلهي. فيتعين أن يراد بالفتن المعنى الثاني، وهو الكفر والإنحراف. وطبقاً لهذا المعنى يكون في فهم هذه الروايات أطروحتان:
الأطروحة الأولى:
أن النبي (ص) يشير غلى زمان مسقبل بالنسبة إلى عصره، تحدث فيه الفتن.
وينصح المسلمين بالإنصراف عنها والإنعزال عن تيارها والقعود عن العمل معها أو ضدها.. بل اللازم هو اللجوء إلى ملجأ أو الخروج إلى البوادي والأطراف هرباً من التدخل في الفتنة.
وإذا صحت هذه الأطروحة، تكون هذه الأخبار، موافقة للقواعد العامة التي عرفناها عند وجوب العزلة، ومخالفة لها عند وجوب العمل والجهاد حيث نرى هذه الأخبار تأمر بالعزلة على كل حال.
الأطروحة الثانية:
أن النبي (ص) يشير غلى الفتن نفسها، بقوله: ستكون فتن. لا إنه يشير إلى الزمان الذي تقع فيه، كما هو الوجه في الأطروحة الأولى. فإنه لا ذكر للزمان في هذه الروايات أصلاً. فيكون المراد: أن القاعد عن تأجيج الفتن وإثارتها والمشاركة فيها خير من القائم والقائم خير من الساعي، كلما كانت أقل، كان أفضل.
ومعه يكون مضمونها صحيحاً ومطابقاً للقواعد. فان المشاركة في الفتنة مستلزم للإنحراف والفساد لا محالة، وهو مما لا يرضاه النبي (ص) لأمته، وينصح بالتجنب عنه. وهذا في غاية الوضوح. ومعه تخرج هذه الروايات عن كونها آمرة بالعزلة. وإنما هي تأمل بالإنعزال عن الفتن بل على وجوبه. فإن هذا العمل قد يكون هو الملجأ الوحيد للتخلص من الفتن. وقد أمر (ص) أن: "من وجد فيها ملجأ فليعُذ به".
وعلى هذه الأطروحة عدة قرائن مرجحة لها من عبائر هذه الأحاديث الشريفة:
القرينة الأولى:
قوله (ص): من تشرف لها تستشرفه.
فإن المراد أن من تعرض للفتن أثرت الفتن عليه وجرفته بتيارها. يقال: تشرف للشيء إذا تطلع إليه. واستشرف: إنتصب. ومن المعلوم أن الغالب من أفراد الأمة، ممن لا عمق له في التفكير، ولا دقة في النظر، بمجرد اطلاعهم على المذاهب والفلسفات اللاإسلامية، تنتصب هذه المذاهب في أذهانهم، بمعنى أنهم يرون لها هيبة وهيمنة، ويكونون في طريق الإعتراف بها والتصديق بمضمونها.. فيؤدي ذلك بهم إلى الإنحراف عن الإسلام.
وأما العمل الذي يعطي للفرد والآخرين المناعة عن الفتن الكافية للإضطهاد ومناقشتها، فهو من أعظم الأعمال الإسلامية، ومما لا تنفيه هذا الروايات، طبقاً لهذه الأطروحة.
القرينة الثانية:
قوله: الساعي إليها.
فان السعي إليها منضمن للتعرض لها والسير في ركابها. ومنه نعرف أن المراد مما سبقه من القيام في الفتنة والمشي فيها هو ذلك أيضاً. ومعه لا يكون لها أي تعرض للنهي عن العمل ضدها أصلاً.
القرينة الثالثة:
قوله: من وجد فيها ملجأ فليعُذ به، بعد أن تفهم أن (في) بمعنى (من) فكأنه قال:من وجد منها. ولا شك أ، المراد هو ذلك على أي حال.
والوجه في هذه القرينة: أن الملجأ لا ينبغي أن نفهم منه خصوص المكان المنزوي أو البعيد، بل نفهم منه كل منقذ من الفتنة وما هو مبعد عنها. ومن المعلوم أن الإرتباط بأهل الحق، واتخاذ العمل الإسلامي، خير ملجأ ضد تيارات الفتن والإنحراف.
نعم، لو انحصر حال الفرد في النجاة من الفتنة أن يفر عنها ويبتعد منها، وجب عليه ذلك، بأن يلحق بالأرياف إذا كان له فيها غنم أو إبل! بتعبير الرواية.
ولعل سبب التركيز على هذا الشكل من السلوك، في هذه الأحاديث. هو أن أغلب أفراد الأمة الإسلامية في أغلب عصور الغيبة الكبرى، جاهلون بتفاصيل الشرع الإسلامي وعدم العمق فيه عمقاً يعطي المناعة الكافية عن الإنحراف والتأثر بالمبادئ الغريبة والآراء المريبة. إذن يكون الواجب على الفرد إذ يشعر بمسؤولية صيانة نفسه من ذلك كله.. أن يعتزل المجتمع ويضحي بالغالي والنفيس في سبيل دينه.. وإن ألقى به الإعتزال في الريف. وهذا حكم صحيح على القاعدة، كما ذكرنا في الصورة الرابعة للعزلة.
وهذا لا يعني، أن الفرد المسلم الذي يجد من نفسه قوة في الصمود وقابلية على مجابهة التيار الظالم، يجب عليه أيضاً أن يعتزل. كلا. بل يجب عليه أن يعمل وأن يخطط لأجل إعلاء كلمة الله وترسيخ الفهم الإسلامي في نفوس الآخرين.
القسم الثاني:
ما دل من الأخبار على عدم المشاركة في القتل، بل تحمله من الغير، وإن كان قاتلاً ظالماً.
أخرج إبن ماجة(٣٥٢) وأبو داود(٣٥٣) عن أبي ذر، بلفظ متقارب واللفظ لإبن ماجة في حديث قال: قلت: يا رسول الله، أفلا آخذ بسيفي فأضرب به من فعل ذلك؟ قال: شاركت القوم إذن! ولكن أدخل بيتك. قلت يا رسول الله، فإن دخل بيتي؟ قال: إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق طرف ردئك على وجهك، فيبوء بإثمه وإثمك، فيكون من أصحاب النار.
وأخرجا(٣٥٤) أيضاً بلفظ متقارب واللفظ لإبن ماجة، قوله في حديث عن الفتن: فكسروا قسيكم وقطعوا أوتاركم وأضربوا بسيوفكم الحجارة. فإن دخل على أحدكم، فليكن كخير ابني آدم.
وأخرج الترمذي(٣٥٥) في حديث بنفس المضمون قال: أفرأيت إن دخل على بيتي وبسط يده ليقتلني؟ قال: كن كإبن آدم.
وفي هذه الأحاديث إشارة واضحة إلى قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ إبني آدم بالحق، إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر. قال: لأقتلنك. قال: إنما يتقبل الله من المتقين. لئن بسطت إلى يدك لتقتلني، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك، فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين).(٣٥٦)
لم نجد هذا المضمون، في الصحيحين، ولا في أخبار المصادر الإمامية.
والمدلول العام لهذه الروايات، هو وقوع القتال في داخل المجتمع المسلم بعد رسول الله (ص) نتيجة للفتن والإنجراف. فيكون من وظيفة المسلم يومئذ، عدم المشاركة في القتال إلى جنب أي من الفريقين. بل يجب عليه أن يعتزل ويدخل بيته. فإن دخل عليه المقاتلون في جوف بيته، وجب عليه أن يستسلم للقتل من دون مقاومة. ويكون حاله حال المقتل من إبني آدم الذي يبسط يده لقتل أخيه. وقد مدحه الله تعالى في محكم الكتاب.
إلا أنه لا بد لنا من رفض هذا المضمون جملة وتفصيلا، لمعارضته لضرورة الشرع والعقل.
فإن الفرد المسلم إذا رأى الحرب قائمة في المجتمع المسلم بين فئتين مسلمتين.. فإن حاله من حيث الإقتناع الوجداني النابع مما يعرفه من قواعد الأمر الأول:
أن يعمل ان أحد الفريقين إلى جانب الحق والآخر إلى جانب الباطل. كما لوكان الرئيس الشرعي للدولة الإسلامية، يحارب فئة باغية عليه منحرفة عنه.. ففي مثل ذلك يجب على المكلف الإنضمام إلى طرف الحق ضد الباطل. طبقاً لقوله عزمن قائل: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله).(٣٥٧) وإنما يتحقق البغي فيما إذا كان أحد الطرفين المتحاربين يستهدف هدفاً باطلاً. ومن ضرورة الشرع والعقل وجوب محاربة الباطل وحرمة نصرته.
الأمر الثاني:
أن يعلم الفرد أن الحق مجانب لكلا الفريقين، وأن كليهما ينصر مذهباً باطلاً ويدافع عن هدف منحرف، أو – على الأقل – يشك في ذلك ويحتمله احتمالاً. وفي مثل ذلك لا يجوز له نصرة أي من الفريقين، كما هو واضح. فان نصرة أي منهمانصرة للإنحراف والضلال، يقيناً أو احتمالا... وكلاهما محرم في الإسلام.
ومدلول هذه الروايات، من حيث وجوب الإعتزال عن كلا الفريقين، لو حمل على ذلك بالخصوص، لكان أمراً صحيحاً. ولعل هذا هو مراد النبي (ص) من قوله: شاركت القوم إذن.يعني في الباطل والإنحراف.إلا أن شمول الرواية لصورة الأمر الأول يبقى نافذ المفعول، وهو أمر غير صحيح.
كما أن الأمر بتحمل القتل لو دُخل في بيته، أمر لا يمكن قبوله، لأنه مخالف لضرورة العقل والشرع معاً في وجوب الدفاع عن النفس، وفي كون المستسلم للقتل قاتل لنفسه، في الحقيقة فيبوء بإثم نفسه، لا أن القاتل يبوء بالإثمين معاً. ويكون كلاهما مشمولاً لقوله تعالى: (ومن يقتل مؤمناً متعمدا ًفجزاؤه جهنم خالداً فيها، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيما).(٣٥٨) أما إثم القاتل لمباشرته القتل. وأما المقتول فلأنه سبب إلى قتل نفسه.
وقد يخطر في الذهن: أن الفرد إذا كان أعزل عن الأسلحة تماماً، يكون الدفاع متعذراً عليه. ومعه يكون الأمر بتحمل القتل منطقياً بالنسبة إليه.
وجوابه: أن هذا صحيح بالنسبة إلى الأعزل، لكنه غير صحيح بالنسبة إلى هذه الروايات، فإنها واردة في غير العزََّل، تأمرهم أن يكسروا قسيّهم ويقطعوا أوتارهم وأن يضربوا بسيوفهم الحجارة. فإذا تلفت أسلحتهم وجب عليهم تحمل القتل طواعية.. وهذا مضمون مستنكر في العقل والشرع.. تعلم بعدم صدوره عن النبي(ص).
وأما ما ورد في أخبار الفريقين من أنه إذا التقى المسلمين بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار، فهو خاص بغير الدفاع عن النفس جزماً. فإنه إذا كان الفرد مدافعاً عن نفسه يكون محقاً وحربه عادلاً! بضرورة العقل والشرع.
ومن هنا نعلم سلامة موقف "ابن آدم" المقتول. فإنه لادلابلة في الآية على أنه لم يدافع عن نفسه، وإن لم يكن في نيته أن يقتل أخاه. وإنما سيطر عليه أخوه بقوته فقتله. بخلاف ما تدل عليه هذه الرويات، من السلبية المطلقة حتى عن الدفاع عن النفس.
إذن، فلا سبيل إلى الأخذ بهذا القسم الثاني من الروايات. وخاصة طبقاً للتشدد السندي الذي مشينا عليه.
ويكفينا أن نعرف أن كثيراً من الأخبار وضعت ودسّت في أخبار الإسلام، نصرة للجهاز الحاكم المنحرف، الذي كان يحاول أن يسبغ صفة الشرعية على تصرفاته، فيمنع من مجابهة ظلمة ومقابلته بالسيف، لكي تستقيم له الحال، ويهدأ منه البال، منطلقاً من أمثال هذه الأخبار.
القسم الثالث: في الأمر بلزوم البيت
لم نجد هذا المضمون في الصحيحين، ولكن أخرج أبو داود(٣٥٩) - في حديث عن الفتنة - عن رسول الله (ص): قالوا: فما تأمرنا؟ قال: كونوا أحلاس بيوتكم.
وأخرج ابن ماجة(٣٦٠) عنه (ص) أنه قال: إنها ستكون فتنة وفرقة وإختلاف، فإذا كان كذلك، فأت بسيفك أحداً فاضربه حتى ينقطع. ثم إجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية. وصحح سنده.
وأخرج الصدوق في إكمال الدين(٣٦١) عن الإمام الباقر علييه السلام حتى يسأله الراوي: فما أفضل ما يستمله المؤمن في ذلك الزمان – يعني زمان الغيبة – قال: حفظ اللسان ولزوم البيت.
وأخرج النعماني(٣٦٢) في الغيبة عن الإمام الباقر عليه السلام – في حديث – قال: وإذا كان ذلك، فكونوا أحلاس بيوتكم.
وأخرج الشيخ في غيبته(٣٦٣) عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: فإذا كان ذلك فالزموا أحلاس بيوتكم، حتى يظهر الطاهر بن الطاهر ذو الغيبة.
والمراد من هذه الرواية، كسابقاتها، لزوم البيت، يقال حلس وتحلّس بالمكان لزق. ويقال: فلان حلس بيته إي ملازق لا يبرحه. وأحُد وهو الجبل المعروف قرب المدينة المنورة. والمراد يضرب السيف بعد إتلاف السلاح وكسره.
فيكون المراد الإنعزال والإبتعاد عن المجتمع الذي تسوده الفتنة، فيشمل ما إذا اتصل الفرد به لأجل إصلاحه وتقويمه. ويكون ذلك منهياً عنه في هذه الروايات، خلافاً للحكم الشرعي الإسلامي وقواعده العامة، إلا أن تحمل على خصوص بعض مبررادت العزلة التي ذكرناها، كما لو خاف على نفسه من الإنحراف أو غير ذلك.
القسم الرابع: الفرار من الفتن
أخرج البخاري في موضعبن من صحيحه(٣٦٤) عن أبي سعيد الخدري عن النبي (ص) يقول: يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغني يتبع بها شَعَفَ الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن. وأخرجه أبو داود(٣٦٥) وابن ماجه(٣٦٦) بنصه.
وأخرج ابن ماجة(٣٦٧): تكون فتن، على أبوابها دعاة إلى النار. فأن تموت وأنت عاض على جذع شجرة خير لك من أن تتبع واحداً منهم.
وشعف الجبال رؤوسها، وجذع الشجرة أصلها. والمراد من العض عليه زيادة ملازمته والإلتصاق به.. وفيه دلالة على الخروج إلى الأرياف والأطراف.. يسكن الفرد البساتين ويجاور الأشجار أو قمم الجبال، لينجو من مجاورة الفتن واتباع دعاة الباطل.
وهذه الروايات، وإن كانت بسعة مدلولها، مخالفة للقواعد العامة التي عرفناها، إلا أنه بالإمكان تقييدها كما عملنا في سابقاتها، فتبقى خاصة بصورة وجوب العزلة والسلبية شرعاً.. وأما مع حرمتها، يكون الواجب هو العمل الإسلامي الإجتماعي المنتج. وفي هذت القسم من الأخبار ما يؤيد هذا التقييد، حيث نجدها تحث على الجهاد إلى جنب النصح بالفرار من الفتن. بل تخص وجوب الفرار بالعاجز عن الجهاد، ويكون للجهاد الرتبة المقدمة على غيره، كما هو الصحيح في قواعد الإسلام العامة.
أخرج ابن ماجه(٣٦٨): أن النبي (ص) قال: خير معايش الناس لهم، رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله، ويطير على متنه، كلما سمع هيعة أو قزعة طار عليه إليها، يبتغي الموت أو القتل، مظانة. ورجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعاف، أو بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه، حتى يأتيه اليقين. ليس من الناس إلا في خير.
وأخرج أيضاً(٣٦٩) عن أبي سعيد الخدري: أن رجلاً أتي النبي (ص) فقال: أي الناس أفضل؟ قالك رجل مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله. قال: ثم من؟ قال: ثم أمرأ في شعب من يعبد الله عز وجل، ويدع الناس من شره. وللترمذي(٣٧٠) حديث آخر بهذا المضمون.
إذن فالتكليف الإسلامي في عهد الفتن وافنحراف، منقسم إلى قسمين، لا ثالث لهما. فإن المسلم الشاعر بالمسؤولية تجاه دينه.. أما أن يكون قادراً على الجهاد أو العمل المنتج لتقويم المعوج والكفكفة من التيارات الكافرة. وأما أن لا يكون قادراً على ذلك. فإن كان قادراً على العمل وجب عليه ذلك لا محالة. وأن كان عاجزاً عنه فخير له أن يعتزل الفتنة وأهلها. وأما معايشة المنحرفين مع الضعف في الإيمان والإرداة، فتؤدي إلى مالا يحمد عقباه في الدين والدنيا.. كما هو واضح ومُعاش للناس يومياً.
القسم الخامس:
الأمر بالصبر، مع بيان صعوبة تحققه للمسلم المخلص، في مجتمع الفتن والإنحراف.
أخرج الشيخان(٣٧١) عن ابن عباس عن النبي (ص) قال:
من رأي من أميره شيئاً يكرهه فليبصر عليه، فإنه من فارق الجماعة شهراً، مات إلا مات ميتة جاهلية. وفي نسخة مسلم: فميتة جاهلية.
وأخرجا(٣٧٢) عن رسول الله (ص): إنكم ستلقون من بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني – وزاد مسلم:- على الحوض.
وأخرج مسلم(٣٧٣) عن حذيفة بن اليمان في حديث له مع رسول الله (ص) قال (ص): يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يسنّون بسنتي. وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان أنس. قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك. فاسع وأطع.
وأخرجت جملة من الصحاح الأخرى مثل هذه المضمون، ولكننا نقتصر على ما أخرجه الشيخين، فيما أخرجناه
فهذه هي الأخبار التي تأمر بالصبر.
وأما الأخبار الدالة على صعوبة الصبر:
فما أخرجه أبو داود(٣٧٤) عن المقداد بن الأسود، قال: أيم الله قد سمعت رسول الله (ص) يقولك إن السعيد لمن حنّب الفتن. وإن السعيد لمن جنّب الفتنة. إن السعيد لمن حنّب الفتنة. ولمن ابتلى فصبر فواها.
وما رواه النعماني في الغيبة(٣٧٥) عن الإمام الباقر عليه السلام في حديث: ولا والله لا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم إلا بعد أياس.
وعنه عليه السلام في حديث(٣٧٦) عما يصيب الناس الشر قبل خروج المهدي (عليه السلام)، قال: فخروجه إذا خرج يكون عند اليأس والقنوط.
وروى الصدوق(٣٧٧) عن منصور قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: يا منصور إن هذا الأمر، لايأتيكم إلا بعد يأس.. الرواية.
وأخرج ابن ماجه(٣٧٨) عن النبي (ص) قوله: حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمراً لا يدان لك بهن فعليك خويصة نفسك، فإن من ورائكم أيام الصبر فيهن على مثل قبض الجمر.. الحديث.
وأخرج الترمذي(٣٧٩) عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (ص): يأتي على الناس زمان الصابر على دينه، كالقابض على الجمر.
ويقع الكلام في هذا القسم من الأخبار، ضمن أمرين:
الأمر الأول:
أن الأمر بالصبر مع الحاكم المنحرف وتحمل ظلمه وتعسفه بالسكوت، غير مطابق للقاعدة الإسلامية، والأخبار الدالة عليه لايمكن قبولها بحال. وذلك: لأنها تعانب من الطعن في صدورها عن النبي (ص) وفي دلالتها على المطلوب أيضاً.
اما الطعن في الصدور، فهو وضوح إن هذه الأحاديث تتم في مصلحةالحكام الذين تزعموا على الأمة الإسلامية باسم الإسلام واستبزوا منها دماءها وخيراتها.. فقد أرادوا بوضع هذه الأحاديث أن يأمروا المسلمين بالرضوخ لهم والصبر على جورهم، وينسوا ذلك إلى رسول الله (ص).
فإن قال قائل: كيف تكون هذه الأخبار موضوعة، مع أنها تندد بهؤلاء الحكام، وتصفهم بالفضائح.
أقول: لاتنافي بين الأمرين، إنطلاقاً من إحدى زوايا الثلاث:
الزاوية الأولى:
أن يكون وصف الحكام صحيحاً صادراً عن النبي (ص)، وهو لشهرته، لم يستطيعوا مكابرته وإنكاره، وإنما أضافوا عليه وجوب الطاعة للحاكم المنحرف. فأصبح بعض الواية صحيحاً وبعضها مدسوساً. وهذا هو المظنون بالظن الغالب.
الزاوية الثانية:
أن الحكام استطاعوا في هذه الزوايات أن يعرضوا أضخم صور للظلم (وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك) وزعموا أن الطاعة تكون واجبة بالرغم من ذلك. إذن فكيف الحال في الظلم الأخف من ذلك؟.. أن الطاعة ستكون ألزم على الفرد بطبيعة الحال. إذن فليس هناك صورة من الظلم إلا وتجب فيه الطاعة، للحاكم المنحرف.
الزاوية الثالثة:
أن الظلم في العصور المتأخرة عن صدر الإسلام كان واضحاً جداً لايمكنمكابرتهن ومن هنا لم يكن هناك أي غضاضة أو كشف لسر غامض حين صرح الحكام بذلك. وإنما صرحوا به إستطراقاً إلى غرضهم من ذبك وهو إثبات الأمر بالطاعة منسوباً إلى رسول الله (ص).
واما الطعن في دلالة هذه الأخبار، فهو معارضتها بأخبار أخرى رواها الشيخان في الصحيحين، تدل خلاف مضامينها، وتكون أقرب إلى القواعد الإسلامية العامة.
أخرج الشيخان حديثاً(٣٨٠) بلفظ متقارب واللفظ للبخاري عن عبد الله بن عمر عن النبي (ص) أنه قال: السمع والطاعة على المرء المسلم، فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة.
وأخرج مسلم(٣٨١) عنه (ص): إنما الطاعة في المعروف.
وأخرج أيضاً(٣٨٢) عن عبد الله بن عمرو بن العاص في حديث عن معاوية. قال: فسكت ساعة.. ثم قال: أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله. إلى غير ذلك من الأخبار.
إذن فتكون هذه الأخبار قرينة على تقييد تلك الأخبار بما إذا لم يأمر الحاكم بمعصية لله أو يشرع قانوناً منحرفاً، أو يؤسس عقيدة باطلة، فإن فعل شيئاً من ذلك فلا طاعة له. ومن المعلوم أن تقديم الخاص على العام من اوضح ما تقتضيه القواعد العامة.
غير أن هذا التقيدد، ينتج وجوب طاعة الحاكم المنحرف، إذا أمر بطاعة الله عز وجل. وهو حكم غير صحيح في شريعة الإسلام، فإن وجوب الطاعة خاص بالحاكم الشرعي العادل. وعلى ذلك يمكن حمل بعض هذه الأخبار السابقة.. مع طرح ما خالف القواعد العامة منها.
هذا. وأما الأخبار الدالة على صعوبة الصبر في مجتمع الفتن والإنحراف، فهو أمر صحيح واضح.. إذ ما ظنك بفرد صادق بين كاذبين وأمين بين خائنين ومسالم بين معتدين.. كذلك يكون حال المؤمنين بين المنحرفين. وهذا هو طبع التمحيص والتخطيط الإلهي على طول خط الغيبة الكبرى.
الأمر الثاني:
أن الأخبار الدالة على وجود الياس والقنوط، ذات مضمون صحيح، ومطابق للتمحيص.
فإن طول عصر الغيبة بنفسه حلقة من حلقات التمحيص الإلهي. إذ يزداد فيها الظلم، حتى يكتسب الهيبة النفسية على ضعاف النفوس والإدارة، فيظنون قدراً حتمياً ووضعاً أبدياً.. فيحصللديهم اليأس والقنوط.
كما أن امتداد غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) سوف تنكشف في الضمائر المهلهلة والعقائد المادية عن الشك أو الإنكار.
وحيث يكون وضع النفوس، هو الغالب في كل جيل إذن فسيكون الإتجاه العام للمجتمع، لدى الفاشلين في التمحيص الإلهي، وهم الأغلب من البشر، كما عرفنا، سيكون هو اليأس والقنوط، كما نطقت به هذه الروايات.
القسم السادس:
الأمر بكف اللسان في الفتنة.
سمعنا ما أخرجه الصدوق في إكمال الدين عن الإمام الباقر عليه السلام في أفضل ما يتستعمله المؤمن في ذلك الزمان – يعني زمان الغيبة – قال: حفظ اللسان ولزم البيت.
وأخرج أبو داود(٣٨٣) عن رسول الله (ص) قال: ستكون فتنة صماء بكماء عمياء(٣٨٤) من أشرف لها استشرفت له. واشراف اللسان فيها كوقوع السيف.
وأخرج الترمذي: تكون فتنة... اللسان فيها أشد من السيف(٣٨٥) وأخرجه ابن ماحه أيضاً(٣٨٦) كلاهما عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله (ص):
وأخرج ابن ماجه(٣٨٧) عنه (ص): أياكم والفتن. فإن اللسان فيها مثل وقع السبف.
ولفهم هذا القسم من الأخبار أطروحتان:
الأطروحة الأولى:
إن المراد كف الللسان والإجتناب عن الكلام، في عصر الفتنة، سواء فيما يذكي أوار الفتنة أو فيما يضادها، ويكفكف من جماحها ويخفف من ضررها.
وهذا هو المفهوم من الإطلاق وسعة المدلول في هذه الأخبار، وخاصة الخبر الأول منها.
وإذا كان هذا هو المفهوم، فلا بد من تقييده، بمقتضى القواعد العامة، التي تبرر العزلة والسكوت أحياناً وتوجب العمل الإجتماعي تارةً أخرى. فيختص وجوب السكوت، بترك الكلام الذي يكون مشاركة في الفتنة وإذكاء لأوراها. ويبقى الكلام المضاد للفتنة مسكوتاً عنه في هذه الروايات، نعرف أحكامه من الأدلة الأخرى في الإسلام.
الأطروحة الثانية:
أن يكون المراد: وجوب كف اللسان عن المشاركة في لفتنة نفسها. فإن هذه المشاركة من أشد أشكال الإنحراف، ومستلزم للفشل في التمحيص الإلهي لامحالة. ومعه تبقى المشاركة بالقول والعمل في إزالة الفتنة أو تخفف شرها، أو مناقشة اتجاهاتها، واجبة في الإسلام، طبقاً للقواعد العامة التي عرفناها. من دون أن تدل هذه الروايات على نفيه.
وتؤكد هذه الأطروحة قرينتان
القرينة الأولى:
تشبيه اللسان بالسيف، في الرويات. ومن المعلوم أن استعمال السيف بالشكل المستنكر المحرم في عصر الفتنة. إنما هو فيما يوجب تأييدها وتشديدها، لا فيما يكون ضدها، مع اجتماع الشرائط. ومعه يكون استعمال اللسان بالشكل المحرم خاصاً بذلك أيضاً.
ولعل المراد من هذا التشبيه: هو استعمال اللسان في خضم الفتنة موجب – في نهاية الشوط – لهلاك الكثيرين عقائدياً أو حياتياً، فيكون فعل اللسان كفعل السيف من هذه الجهة. ومن المعلوم إسلامياً: أن الكلام الذي يوجب الهلاك هو الكلام الذي يتضمن تأييد الفتنة والسير مع ركب الإنحراف. وأما الكلام الذي يردا به إطفاء الفتنة ومناقشة الأراء المنحرفة، ونحو ذلك، ففيه سعادة الدارين وعز النشأتين ومواكبة العدل الإسلامي الصحيح، فلا يمكن أن يقال عنه: إنه موجب للهلاك.
فنعرف من قرينة التشبيه في هذه الأخبار، أن المراج هو السكوت عن الكلام الذي يكون إلى جانب الفتنة.
القرينة الثانية:
الأخبار الأخرى الواردة في هذا الباب، الدالة على ان المراد من حفظ اللسان ترك الكلام السيء الموجب لعصيان الله تعالى وغضبه.. وهو معنى ما قلناه من أنه يوجب المشاركة في تأييد الفتنة والإنحراف. ومعه يبقى الكلام ضد الفتنة جائزاً بل واجباً في الإسلام.
أخرج ابن ماجه(٣٨٨) عن رسول الله (ص) أنه قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو يسكت. وعنه (ص) أيضاً: إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لايرى بها بأساً. فيهوى بها في نار جهنم سبعين خريفاً. وفي حديث آخر أيضاً: وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما يظن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عز وجل عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه.

 

* * *

 

القسم السابع: الأمر بالتقية في عصر الغيبة الكبرى.
وهذا المضمون مما اقتصرت عليه أخبار الإمامية، دون غيرهم. فقد أخرج الصدوق في إكمال الدين(٣٨٩) والشيخ الحر في وسائل الشيعة(٣٩٠) والطبرسي في إعلام الورى(٣٩١) عن الإمام الرضا عليه السلام، أنه قال لادين لمن لاورع له، ولا إيمان لمن لا تقية له. وإن أكرمكم عند الهه أعلمكم بالتقية قيل: يا ابن رسول الله: إلى متى؟. قال: إلى قيام القائم، فمن ترك التقية قبل خروجنا قائمنا، فليس منا.. الحديث.
وفي الوسائل(٣٩٢) عن معمر بن قلاد، قال: سألت أبا الحسن (ع) عن القيام للولاة. فقال: قال أبو جعفر (ع): التقية ديني ودين آبائي، والا إيمان لمن لا تقية له.
وعن أبي عمر الأعجمي قال: كان أبي يقول: وأي شيء أقر لعيني من التقية؟ إن التقية جُنَّةُ المؤمن!.
ومن طرائف ما ورد في التفسير(٣٩٣) ما روي عن جابر عن أبي عبد الله (ع). قال: أجعل بيننا وبينهم سداً، فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاوا له نقباً. قال: هو التقية.
وعن المفضل(٣٩٤) قال سألت الصادق (ع) عن قوله تعالى: أجعل بينكم وبينهم ردماً. قال: التقية. فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً. قال: إذاً عملت بالتقية لم يقدروا لك على حيلة، وهو الحصن الحصين. وصار بينك وبين أعداء الله سد لا يستطيعون له نقباً. قال: وسألته عن قوله: فإذا جاء وعد ربي جعله دكا. قال: رفع التقية عن الكشف، فانتقم من أعداء الله. أقول: المراد بالكشف ظهور المهدي (عليه السلام) في اليوم الموعود.
إلى غير ذلك من الأخبار، وهي من الكثرة إلى حد الإستفاضة بل التواتر.
ومدلولها الإسلامي الصحيح أمران مستشرفان:
الأمر الأول:
المحافظة على النفس من الإضرار التي لا مبرر لتحملها شرعاً.. إبتداءً بالقتل وانتهاءً بما دونه. لا حرصاً على الحياة، بل لأجل الحفاظ على المعتقدين بالحق الواقعي من المسلمين. والحد من نقصان عددهم بالقتل الذي يقع عليهم من قبل المنحرفين الظالمين.. لو واصلوا الأعمال المثيرة لهم واعلنوا الجهاد ضدهم.
الأمر الثاني:
إخفاء الأعمال الإحتماعية الصالحة، التي يكون في كشفها نقصان لنتائجها أو إجتثات لجذورها.
وعن هذا الطريق استطاع الأئمة المعصومون عليهم السلام أن يسندوا الثورات الحاصلة في عصرهم والداعية إلى الرضا من آل محمد (ص).. من دون أن يدعوا أي مجال للآخرين للإطلاع على مستندات هذا الإسناد. كما أشرنا إلى ذلك في التاريخ السابق.
وكلا هذين الأمرين منطلق من منطلق عقلاني عام. وهو واضح لدى كل من يعمل عملاً سياسياً أو عقائدياً، أو غيره. أما الأمر الأول فباعتبار وضوح أن الفرد – مهما كانت عقيدته وعمله – ليس على استعداد أن يضحي بحياته أو بأمنه بلا موجب. أو بموجب ضئيل لا يستحق التضحية. وأما المر الثاني: فباعتبار وضوح قيام العقائد في العصر الحديث على الحياة الحزبية، التي يغلب عليها طابع السرية والتكتم. طبقاً لما قلناه من أن كشف حقائقها وتفاصيلها قد يكون سبباً لنقصان نتائجها أو إجتثاث جذورها.
ومن ثم يكون عدم الأخذ بالتقية، مؤدياً – على أقل تقدير – إلى بطء وجود العدد الكافي من المخلصين الممحصين، الذين يشكلون وجودهم أحد شرائط الأساسية للظهور، ليتكفلوا مسؤولية نشر القسط والعدل في العالم تحت قيادة المهدي (عليه السلام). فإن من يقوم لالجهاد – عادة - في كل عصر، ليس إلا النخبة من المخلصين الذين يؤمل فيهم وصول التمحيص إلى نتائجه النهائية الصالحة. فإذا لم يكن الأمر بالتقية موجوداً، لوجبت المبادرة إلى الجهاد، وكان اول المطيعين لهذا الوجوب والمطبقين له، هم المخلصون في كل عصر، ومعه، يتسبب الجهاد إلى إستعصائهم أو أكثرهم، مما يؤدي إلى بطء وجود شرط الظهور أو تعذره، فيمتنع تحقق الغرض الإلهي الكبير في هداية العالم.
ولا داعي للإستعجال بالجهاد، فإنه مضافاً إلى عدم تأثيره العاجل بالنحو المطلوب، يكون معيقاً عن إصلاح العالم في اليوم الموعود. وإذا دار الأمر بين الجهاد المستعجل في جزء من العالم وبين الجهاد المؤجل في كل العالم.. يكون الثاني هو انافذ طبقاً للتخطيط الإلهي، باعتباره منسجماً مع الهدف الأسمى من خلق البشرية، الذي عرفناه.
فإن قال قائل: إذا جاهد البعض يبقى البعض الآخر من المخلصين، مذخوراً لتحقيق شروط الظهور.
قلنا له: لو لم يكن الأمر بالتقية موجوداً، وكان الأمر بالجهاد نافذاً، لوجب الجهاد على كل المسلمين.. ولكان تركه عصياناً منافياً للإخلاص، فيجب على كل المخلصين في العالم التصدي له والقيام به، فيؤدي ذلك – تدريجياً – الى استئصالهم جميعاً في كل جيل. لما عرفناه من كونه قله بازاء الكثرة الكاثرة من المنحرفين والكافرين. فينتج تعذر وجود شرط الظهور.
إذن، فالمفهوم الواعي الصحيح للتقية، وهو بعينه المفهوم الصحيح الذي استخلصناه من الأمر بالعزلة وكف اللسان الذي استفاضت به أخبار المصادر العامة. وليس أمراً زائداً ولا جديداً بالنسبة ليكون مثاراً للإستنكار والإستغراب من قبل العامة وأهل السنة. فإن الأمر بالعزلة وكف اللسان، مع جعله منسجماً مع القواعد العامة، يكون مؤدياً إلى عين النتيحة التي يؤديها الأمر بالتقية، وهو الخفاظ على المخلصين، لتحقيق شروط الظهور.. الحفاظ عليهم عقائدياً وحياتياً.
فإن قال قائل: إن أهل السنة والجماعة، لا يؤمنون بغيبة المهدي (عليه السلام). فكيف يؤمنون بشرط الظهور؟
قلنا: إن شرط الظهور إنما خطط الله تعالى لوجوده، باعتبار استهداف نشر القسط والعدل في العالم في اليوم الموهود. سواء كان القائد المهدي (عليه السلام) غائباً قبل ظهوره أو لم يكن. وتكون فكرة شرط الظهور، من الزاوية غير الإمامية لفهم المهدي، أن الله تعالى قد خطط لليوم الموعود، قبل ولادة المهدي (عليه السلام). ثم إنه عز وجل سوف يوجد المهدي (عليه السلام) عند علمه بنجاز الشرائط المطلوبة. لإذن فبقاء المخلصين ذخراً، امر صحيح من كلتا الزاويتين الإمامية وغيرها، لفهم المهدي (عليه السلام).
بل أننا لو تأملنا قليلاً، لوجدنا أن القعود والعزلة وكف اللسان، مساوق مع التقية، من الناحية العملية على طول الخط. فإنه لا يراد من التقية، إلا إتقاء شر الأشرار وتجنب إثارتهم ضد المخلصين وما قد يقومون به من أعمال. إذن فالتقية لا تتحقق إلا بالقعود عن المجابهة وكف اللسان عن المنحرفين. كما أن القعود وكف اللسان محقق للتقية... إذن فقد اتفقت أخبار العامة والخاصة على شيء واحد، أو متشابه.
ومن هذا الذي قلناه، نفهم عدة أمور:
الأمر الأول:
أن العمل الإسلامي الإجتماعي، لكي يكون مواكباً مع التخطيط الإلهي، يجب أن يتحدد بحدود التعاليم الإسلامية.. بدون أن يزيد عليها أو ينقص عناه. ويمثل كل من الزيادة أو النقصان إنحرافاً عن الشريعة الإسلامية.
أما الزيادة، بمعنى إيجاد العمل الإجتماعي في موارد عدم وجوبه أو عند النهي عنه.. فباعتبار كونه موجباً لاستئصال المخلصين، ومعيقاً عن إيجاد شروط الظهور، كما عرفنا. وأما النقصان: بمعنى ترك العمل مع الأمر به في الشريعة، فباعتبار كونه عصياناص وانحرافاً.
ومن ثم يبدو بوضوح: إن الإحتجاج بأخبار التقية وغيرها مما سبق، لإهمال العمل الإجتماعي الإسلامي، وتركه في موارد وجوبه.. حجة باطلة، ووجه غير وجيه. حيث عرفنا أن هذه الأخبارـ وإن كانت ذات مدلول واسع بطبيعته، إلا أنها مقيدة لا محالة، بقيد موارد وجوب العمل مع اجتماع شرائطه التي عرفناها. إذ مع وجوبهن تكون التقية والعزلة وكف اللسان عصياناً وإنحرافاً.
الأمر الثاني:
أن الأمر بالتقية وترك العمل الإسلامي، بالشكل الذي فهمناه.. خاص بعصر الغيبة، أو بعصر ما قبل الظهور. لما عرفناه من كونه دخيلاً في تحقيق شرط الظهور وقد حدد في الخبر السابق عن الإمام الرضا (ع) بذلك، حيث قال: إلى قيام القائم، فمن ترك التقية، قبل خروج قائمنا فليس منا.
وأما في عصر ما بعد الظهور، فمن المعلوم لدى كل من يؤمن بالمهدي وباليوم الموعود من المسلمين، بل من سائر الأديان، أن تطبيق العدل في العالم، لا يكون إلا باستعمال السلاح والجهاد وترك مجاملة الكافرين والمنحرفين. ويمون حكم التقية وكف اللسان مرتفعاً. ومن هنا سمعنا المهدي (عليه السلام)نفسه، خلال عصر غيبته الصغرى يقول - فيما روي عنه -: والله مولاكم أظهر التقية، فوكلها بي. فأنا في التقية إلى يوم يؤذن لي بالخروج.(٣٩٥)
ومن هنا أيضاً عُبِّر في بعض الأخبار عن العصر السابق على الظهور، بعصر الهدنة.. كالذي روي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قال: سمعته يقول، وسئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أواجب هو على الأمة جميعاً؟ فقال: لا. فقيل له: ولم؟ قال: إنما هو على القوى المطاع العالم بالمعروف من المنكر. إلى أن قال: وليس على من يعلم ذلك في الهدنة من حرج، إذا كان لا قوة له ولا عدد ولا طاعة.(٣٩٦)
وفي خبر آخر: عن حبيب بن بشير عنه عليه السلام، قال: سمعت أبي يقول: لا والله، ما على وجه الأرض شيء أحب إلي من التقية.. إلى أن يقول: يا حبيب، إن الناس إنما هم في هدنة... الخبر.(٣٩٧)
وسترتفع هذه الهدنة، مع الكافرين والمنحرفين، مع يزوغ فجر الظهور. ويكون بينهم وبين الإيمان بالحق، حد السيف ووقع السلاح، ومناجزة القتال. وسنسمع تفاصيل ذلك في التاريخ القام إن شاء الله تعالى.
الأمر الثالث:
إن ما يعتقده الكثيرون من الإمامية وغيرهم، من اختصاص حكم التقية، في اتقائهم أهل المذاهب الإسلامية الأخرى... باطل غاية البطلان. بل الحكم مشترك بين سائر المسلمين، في اتقاء بعضهم شر بعض، وفي اتقائهم من غير المسلمين، عند عدم وجوب العمل. فإن المحافظة على المخلصين تكون بترك التعرض للقتال، على كلا المستويين، كما هو معلوم. بل أن القتال بين المسلمين لأعظم شراً وأفدح أثراً من القتال مع غيرهم. وحسبنا منه أن نفهم أن وقوعه بين المسلمين، يصدّع جمعهم ويشتت شملهم ويطمع بهم عدوهم ويسهل دخول المستعمر إلى بلادهم، كما حدث بالفعل خلال القرون المتأخرة.
فإن قال قائل: إذن فلماذا ورد الأمر بالتقية في أخبار الإمامية دون غيرهم. قلنا: إن المضمون الواعي الصحيح متحصل من أخبار كلا الفريقين. وإنما هو اختلاف في الاصطلاح، فقد اصطلح عليه كل فريق باسم مستقل، فسمي في أخبار الإمامية بالتقية، وسمي في مصادر أهل السنة بالعزلة. إذن فلم يختص الإمامية برواية المضمون، وإن اختصوا بالاصطلاح.
فإن قال قائل: إن بعض الأخبار طبقت وجوب التقية، على اتقاء الإمامية من غيرهم من المسلمين. وهو يدل على اختصاص هذا الحكم بخصوص هذا المورد، ويكون قرينه على أن المراد من كل أخبار التقية هو ذلك؟
قلنا له: صحيح، ان هذا التطبيق موجود في أخبار الإمامية ووارد عن الئمة عليهم السلام. ولكنه من باب تطبيق الحكم العام على بغض موارده... باعتبار اقتضاء المصلحة له ف يعصر الأئمة عليهم السلام. لأجل ما كانت تعيشه قواعدهم الشعبية من اضطهاد وتعسف من قبل الحكام في ذلك الحين. فكان الأئمة (ع)، لأجل أن يضمنوا من أصحابهم عدم التسرع والتطرف في رد الفعل تجاه ذلك، مما قد يسبب الوصول إلى نتائج وخيمة هم في غنى عنها... فكان الأئمة (ع) يذكرون حكم التقية مطبقاً على هذا المورد المشار إليه. ومعه لا تكون هذه الأخبار قرينة على الاختصاص.
وإن أوضح دليل، على شمول حكم التقية لجميع المسلمين من ناحية، وان الطرف المتقي منه قد يكون من غير المسلمين أيضاً، من ناحية أخرى... قوله عز من قائل: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء، إلا أن تتقوا منهم تقاة).(٣٩٨) حيث دلت على جواز تقية المسلمين من الكافرين. وقصة عمار بن ياسر رضوان الله عليه، مع المشركين في ذلك معروفة مشهورة، وإنما كانوا يحملونه على البراءة من الاسلام، لا من مذهب معين!!. هذا، وشمول الحكم القرآني، لجميع المسلمين، يعتبر من ضروريات الدين.
الأمر الرابع:
في فهم أخبار التقية، بمفرداتها وتفاصيلها. على ضوء ما أسلفناه من الفهم العام. ويكون ذلك ضمن فقرات:
الفقرة الأولى:
"إن التقية جنَّة المؤمن" بمعنى أنها تستره وتحرسه. والمجن هو الترس الذي يجن صاحبه.
قال عز وجل: اتخذوا إيمانهم جنة. وفي الحديث: الصوم جنة.(٣٩٩) وكله من الحماية والحراسة من الشر باعتبار اللجوء والتستر تحت السبب الموجب للحماية، وهو الترس أو الإيمان أو الصوم.
ومن المعلوم ما للتقية في موارد جوازها أو وجوبها، من أثر بالغ في حماية الفرد عن كيد الأعداء، وإنحراف المنحرفين، في العقيدة والحياة والعمل. وليس على الفرد ـ في سبيل نيل ذلك ـ إلا أن يسكت عن القول والعمل الذي لا يكون مشروعاً في الإسلام. ومن هنا قال الصادق (ع)، فيما سمعناه من الرواية، في تشبيه التقية بالسد الذي بناه ذو القرنين، قال: إذا عملت بالتقية لم يقدروا لك على حيلة. وهو الحصن الحصين. وصار بينك وبين أعداء الله سد لا يستطيعون له نقباً... لأن الفرد إذا اتقاهم لم يستطيعوا أن يجدوا ضدة مستمسكاً أو ذريعة لانزال الشر عليه.
الفقرة الثانية:
"إن من لا تقية له لا دين له" أولا إيمان له. وإن "تسعة أعشار الدين في التقية".
وهذا واضح المقصود بعد الذي عرفناه، من استلزم ترك التقية استئصال المخلصين، من دون مبرر شرعي. فأي دين يمكن أن يبقى لتارك التقية بعد ذلك؟!.
وذلك: أننا لم نفهم من التقية، فيما سبق، إلا ترك المقدار غير المشروع من الجهاد والامر بالمعروف، مما يؤدي إلى إيقاع الخطر الكبير على المخلصين. وليس لأدلة التقية مؤدى أكثر من ذلك. إذن فترك التقية يعني ارتكاب العمل غير المشروع. فإذا كان هذا العمل موجباً لهلاك بعض المخلصين، كان محرماً، بل من أشد المحرمات في الشريعة، فيكون فاعله،بعيداً عن الدين والإيمان كل البعد. كما نطقت به الروايات.
وهذا واضح على مستوى سائر الأخيار، سواء منها الواردة عن طريق العامة، أو الواردة عن طريق الخاصة، بعد إعطاء الفهم الموحد السابق لها الذي سمعناه.
الفقرة الثالثة:
قول الإمام الرضا (ع) ـ في الرواية: إن أكرمكم عند الله أعملكم بالتقية.
فقد فسر عليه السلام قوله تعالى: (أتقاكم). بمعنى أعملكم بالتقية وأشدكم تمسكاً بها.
وهذا أيضاً مما لا غيار عليه،بعد الذي عرفناه، وما دلت عليه اللغة من أن اتقاه بمعنى حذره وخافه وتجنبه، أي وقى نفسه وحماها عن شره. ومن هنا كان المتجنب عن عذاب الله تعالى متقياً، والعمل المؤدي إلى النجاة منه تقوى. وكذلك المتجنب من شر الأشرار وكيد المنحرفين يكون متقياً، والفعل المؤدي إلى النجاة منه " تقية "
ومن هنا، يمكن أن نفهم من الآية، الشمول لكلا المعنيين... بعد أن وافقت اللغة على ذلك. فيكون المراد: إن أكرمكم عند الله أتقاكم من الله ون الناس. وتفسير الإمام الرضا (ع) لها بأحد القسمين، وهو اتقاء شر الناس، لا يعني اختصاصها به، ليكون أمراً مستغرباً. وإنما ذكر أحد القسمين لمصلحة اقتضت ذلك، كمصلحة التوضيح باعتباره معنى خفياً... مع إبقاء القسم الآخر على فهم السامع وحكم اللغة.... وهو تقوى الله تعالى.
لكن لا يخفى أن المتقي للناس، العامل بالتقية، إنما يكون كريماً عند الله عز وجل، فيما إذا كانت التقية واجبة أو جائزة شرعاً. إذ تكون تقية الناس من تقوى الله عز وجل، وأما في موارد حرمتها،وهي موارد وجوب العمل الإسلامي العام، فالتقية، تكون معصية مبعدة عن الله عز وجل، منافية مع التقوى، بكل تأكيد.
القسم الثامن: من الأخبار الدالة على التكليف في عصر الغيبة: مادل على وجوب الإنتظار الفوري، وتوقع الظهور في كل وقت، بالمعنى الذي سبق أن حققناه.
أخرج الطبرسي في الإعلام(٤٠٠) والكليني في الكافي والصدوق في الإكمال(٤٠١) عن الإمام الصادق عليه السلام في حديث عن الغيبة أنه قال: فعندما توقعوا الفرج صباحاً ومساء.
وقد سبق أن سمعنا ما قاله المهدي (عليه السلام) للشيخ المفيد في رسالته إليه ـ برواية الطبرسي في الاحتجاج(٤٠٢)  ـ من قوله: فليعمل كل امرء منكم بما يقرب به من محبتنا، ويتجنب ما يدنيه من كراهتنا، وسخطنا، فان أمرنا بغتة فجأة. الخ الرسالة.
وروي عن الامام الصادق (ع)(٤٠٣) أنه قال: وهو يعدد الدين الحق: الورع والعفة والصلاح... إلى قوله: وانتظار الفرج بالصبر.
وعن أمير المؤمنين(٤٠٤): انتظروا الفرج، ولا تيأسوا من روح الله، فان أحب الأعمال إلى الله عز وجل، انتظار الفرج.
وفي الاكمال(٤٠٥) عن النبي (ص)، قيل له: يا رسول الله، منتى يخرج القائم من ذريتك. فقال: مثله مثل الساعة لا يجليها لوقتها إلا الله عز وجل. لا تأتيكم إلا بغتة.
وفي منتخب الاثر(٤٠٦) عن اكمال الدين أنه أخرج عن الامام الرضا (ع) قوله: ما أحسن الصبر وانتظار الفرج. أما سمعت قول الله عز وجل: فارتقبوا اني معكم رقيب... فانتظروا اني معكم من المنتظرين... فعليكم بالصبر، فإنما يجيء الفرج على اليأس.
وأخرج الترمذي(٤٠٧) عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا الله من فضله، فان الله يحب أن يسأل. وأفضل العبادة انتظار الفرج.
وفي الكافي(٤٠٨) عن أبي الجارود قال: قلت لأبي جعفر: يا ابن رسول الله، هل تعرف مودتي لكم وانقطاعي اليكم وموالاتي إياكم. قال: فقال: نعم... إلى أن يقول: والله لأعطينك ديني ودين آبائي الذي ندين الله ندين الله عز وجل به: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله... إلى أن يقول: وانتظار قائمنا والاجتهاد والورع.
وفيه أيضاً عن الامام الباقر عليه السلام، في ذكر الدين الذي يقبل فيه العمل. قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له... إلى أن يقول: والورع والتواضع، وانتظار قائمنا. فان لنا دولة، إذا شاء الله جاء بها.
إلى غير ذلك من الأخبار، وسيأتي فيما سنسمعه من الأخبار الناطقة بفضل الانتظار والمنتظرين، خلال عصر الغيبة، ما يدل على ذلك أيضاً.
وقد سبق أن تكلمنا عن المفهوم الصحيح للانتظار، وها قد سردنا الأخبار الدالة على ذلك. وأما السؤال عن منافاة مفهوم الإنتظار مع العلامات المجعولة للظهور، أو عدم منافاتها معه، فقد سبق أن ناقشناه. وسيأتي تفصيل ذلك، في القسم الثالث من هذا التاريخ.
وقد يقول قائل: إن أغلب هذه الأخبار، لم تنص على أن المراد هو انتظار ظهور المهدي (عليه السلام) أو اليوم الموعود. فلعل المراد هو انتظار الفرج بعد أي شدة.
فنقول في جوابه: أنه يمكن الانطلاق إلى اثبات اختصاص هذه الأخبار بانتظار ظهور المهدي (عليه السلام) من زاويتين:
الزاوية الأولى:
الاستفادة من الأخبار المصرحة بذلك، مما ذكرناه...وجعلها قرينة على أن المراد من الأخبار الأخرى هو ذلك أيضاً.
وليس في ذلك ما ينافي كلا الأطروحتين: الامامية وغيرها في فهم المهدي (عليه السلام). فان انتظاره على كل حال من أفضل العبادة... سواء كان المهدي (عليه السلام) موجوداً غائباً أو لم يكن.
الزاوية الثانية:
إن انتظار الفردج الذي يكون مهماً إلى هذا الحد، ومشدداً عليه في لسان المعصومين عليهم السلام بهذا المقدار...حيث نسمع أنه أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وأنه أفضل العبادة، وأنه أساس من أسس الدين... هذا لا يمكن أن يكون انتظار الفرج من مشكلة معينة أو صعوبة فردية. فان غاية ما يطلب من الفرد إسلامياً خلال المصاعب هو الصبر، وعدم الاعتراض على الله في ذلك. وأما انتظار ارتفاع الصعوبة، فلا يعطي مزية زائدة بحسب ما هو المفهوم منالقواعد العامة في الإسلام.
وإنما هذا الانتظار الكبير ليس إلا انتظار اليوم الموعود، باعتبار ما يستتبعه من الشعور بالمسؤولية والنجاح في التمحيص الالهي، والمشاركة في إيجاد شرط الظهور، في نهاية المطاف...كل ذلك لمن يشعر بهذا الانتظار ويكون على مستوى مسؤوليته، بخلاف من لا يشعر به، بل يبقى على مستوى المصلحة والأنانية...فانه لن ينال من هذه العبادة الفضلى شيئاً.
ونستطيع بكل وضوح أن نعرف أنه لماذا أصبح هذا الانتظار أساساً من أسس الدين... لأنه مشاركة في الغرض الأساسي لايجاد البشرية، ذلك الغرض الذي شارك فيه ركب الأنبياء والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
إذن فهذه الأخبار، لا يمكن أن يكون لها معنى، إلا المشاركة في هذا الهدف الكبير.

 

* * *

 

الجهة الخامسة:
في فضل الانتظار والمنتظرين، خلال عصر الغيبة الكبرى... والصابرين على البأساء في عهد الفتن والانحراف.
وننطلق إلى الكلام في ذلك من ناحيتين:
الناحية الأولى:
فيما تقتضيه القواعد العامة الاسلاميةمن ذلك:
يقوم الفرد المسلم المخلص في عصر الغيبة الكبرى بعدة مهام إسلامية، لها أكبر الفضل وأعظم الأثر في تربية الفرد وتكامله، وقربه من تعاليم ربه ورضاه.ويفضل في ذلك – احياناً – حتى على عصر النبوة وعصر الظهور. وتتلخص تلك المهام في عدة أمور:
الأمر الأول:
الإيمان بالغيب. فان الفرد المسلم في هذا العصر، يختلف حاله عن المسلمين في عهد النبي (ص) من حيث وضحوح الاعتقاد بالعقائد الاسلامية، وقربها إلى الحس، طبقاً لما يميل إليه البشر من ميلهم إلى شهادة الحس وانشدادهم إلى الزمان والمكان.
وقد كان هذا موفراً في عهد النبي (ص)، حين كان هو (ص) الذي يمارس الدعوة الإسلامية بيده، فتتوفر على يده العديد من المزايا التي لا يمكن أن يوجد مجموعها في أي عصر آخر.
المزية الأولى:
قوة الاقناع الناتجة مما له من الثقافة الالهية العالية... وما له من الهيبة في نفوس المسلمين.
المزية الثانية:
تلقى الوحي من الله عز وجل، في القرآن وغيره.حتى لكأن الفرد الاعتيادي آنذاك، يحس بأثر تعاليم الوحي في حياته العملية، وتطبقها في مجتمعه الذي يعيشه، ويحس بما يستجد من تعاليم وتوجيهات... وبما ينزل من قرآن مبشراً ومنذراً ومعلماً ومهدداً.
المزية الثالثة:
العدل الشامل الذي ساد الدولة الاسلامية في عصره (ص)... ذلكالعدل الذي أعطى الدليل التاريخي الحاسم على مر العصور، وإلى يوم الظهور الموعود... على نجاح التجربة الاسلامية في مجال التطبيق.
المزية الرابعة:
النص المؤزر المستمر الذي كان يناله الجيش الاسلامي بقيادته (ص)، مما لا يمكن أن يخطر على بال، بحسب التخطيطات العسكرية المعروفة يؤمئذ... بل في كل عصر، مع حفظ النسبة بين الجيشين المتحاربين عدة وعدداً. وذلك نتيجة للتوفيق الالهي الذي كان يحالفه في غزواته، كما نطق به التنزيل، ودلت عليه التجربة التاريخية.
المزية الخامسة:
شخصيته (ص) من حيث كونه المثل الأعلى للخلق الاسلامي الرفيع. فقد طبق على نفسه التعاليم التي جاء به بدقة وإخلاص، فكان مثلا ًيحتذى وقدوة للورى وكمالاً إنسانياً عالياً، حتى نطق التنزيل بالاعجاب به وتأييده بقوله عز من قائل: (وأنك لعلى خلق عظيم).(٤٠٩)
إلى غير ذلك من المميزات التي لا شك أن لها الأثر البالغ العميق في تقريب الفرد من الايمان وإيضاحه له وترسيخه في نفسه... حتى أنه ليكاد يرى جميع العقائد والمفاهيم التي يبشر بها النبي (ص) حسية جلية واضحة للعيان، بالرغم من كونها أموراً فكرية أو ميتافيزيقية.
ورغم هذا الوضوح، فقد مدح الله تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب)(٤١٠) و(الذين يخشون ربهم بالغيب)(٤١١)، وأثنى عليهم في عدد من مواضيع كتابه الكبير.
وسيتوفر مثل هذا الوضوح، في تطبيق آخر لهذه المميزات العديدة، ما عدا الوحي، في القائد الاسلامي العالمي الجديد، المهدي (عليه السلام) الذي سيتكفل إيضاح الدعوة الاسلامية وتطبيقها على البشر أجمعين.
إلا أن شيئاً من هذه المميزات، لا يكاد يوجد في عصر الغيبة الكبرى، عصر الفتن والانحراف. ومن هنا، كان الإيمان بالعقائد الاسلامية بالنسبة إلى الفرد الاعتيادي، أبعد عن الحس، يحتاج إلى صدر أرحب ووجدان أخصب وتعب ف يالفحص والتفكير أكثر... خاصة بعد الحكم الاسلامي، وتأكيد القرآن على عدم جواز التقليد في العقيدة، وشجب اتباع الاباء والمربين بدون برهان، بل لا بد للفرد أن يأخذ بزمام عقيدته بنفسه ويومن بها عن الوعي واقتناع.
ومن المعلوم أنه كلما حصل العناء في سبيل العقيدة الالهية، أكثر، واستلزم الايمان تضحية أكبر... وكانت النتائج صحيحة صالحة... كان ذلك موجباً للكمال البشري والقرب الالهي بشكل أكبر وأعظم.
وهذا المعنى بالذات، من جملة حلقات التخطيط الالهي لتربية الأفراد المخلصين الممحصين في عصر الفتن والانحراف. وسنوضح ذلك بعد قليل.
الأمر الثاني:
مما يقوم به الفرد المخلص في عصر الغيبة: تحمل التضحيات والمشاق في سبيل إيمانه وتمسكه بإسلامه... تلك المشاق التي لم تكن موجودة في عصر النبوة ولن تكون موجودة في عصر الظهور.
فإن المشاق التي تبذل عادة في سبيل العقيدة على قسمين:
القسم الأول:
ما يبذله الفرد عن طواعية واختيار، من خدمات وأتعاب.وهو ما سميناه بالتمحيص الاختياري. وعرفنا أثره الكبير في تكامل الفرد طبقاً لقانون التمحيص العام.
القسم الثاني:
ما يقع على الفرد من الآخرين في المجتمع، من قهر ومطاردة وإيلام، ضد إيمانه وأعماله وعقيدته.
ويختلف هذان القسمان في ثلاثة مستويات رئيسية:
المستوى الأول:
إن القسم الأول مشترك بين عصر النبوة وعصر الغيبة وعصر الظهور. فان لكل عصر من هذه العصور مشاكله التي تحتاج من المخلصين المبادرة إلى حلها.وحسبنا من ذلك، إن الفرد في عصر النبوة كان يخرج طواعية لينال الشهادة في سبيل الحق والواجب.
ولكن القسم الثاني: غير موجود في المجتمع الذي يحكمه الاسلام، سواء في عصر النبوة او عصر الظهور... وإنما هو بعصر الفتن والانحراف... هذه العصور التي نعيشها، حيث أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وطورد المخلصون على اخلاصهم وحسن تصرفهم.
المستوى الثاني:
إن القسم الأول من التضحية منسجم مع العقيدة، لا يجد الفرد فيه أي مجابهة لها أو مناقضة لمقتضياتها. باعتبار كون القيام به مطابق مع تعاليمها وفي مصلحة الدعوة اليها والتركيز عليها.
وأما القسم الثاني، فهو يتضمن – بشكل مباشر وصريح – مجابهة للعقيدة، وأيقاعاً للظلم على الفرد باعتبار ما يحمله من إيمان وما يقوم من عمل في سبيل الحق.
المستوى الثالث:
إن القسم الثاني أكثر إيلاماً للنفس وأصعب تحملا ًللفرد من الأول.
فإن القسم الأول من التضحية، مهماجر من مصاعب وآلام، فانه أمر اختياري للفرد لا يجد فيه أسفاً. وإنما يجد فيه المخلص حلاوة الايمان ونور العمل الصالح.
وأما القسم الثاني، فيجد فيه الفرد ضغط الاضطرار وقسوة المرارة وضيق الالم... ولولا ثقة الفرد بربه وعقيدته، وقائده المهدي (عليه السلام)، لكان من الهالكين.
وعلى أي حال، فمن الجلي أن تحمل التضحية من كلا القسمين، كما عليه حال العمل العام خلال الغيبة، أصعب منه وأعقد من تحمل قسم واحد من العمل. وهذا أيضاً أحد عناصر التمحيص الالهي وأسبابه، على ما سنذكر.
الأمر الثالث:
صمود الفرد ضد الاغراء، بشكل غير موجود، لا في عصر النبوة ولا في عصر الظهور.
فإن الاغراء الذي قد يواجهه الفرد على قسمين:
القسم الأول:
الاغراء الناتج من مصالحه الشخصية وشهواته النفسية، باعتبار ما للشهوات الغريزية من اندفاع الاشباع، من دون أن تنظر إلى الطرق والوسائل. وقد قيل صدقاً: إن الغرائز لا عقل لها.
القسم الثاني:
الاعراء الناتج من قبل الآخرين، حين يرى الفرد ما لعصر الفتن والانحراف من جمال وحضارة وتنظيم... وما لاتباع تياراته وحكامه من ضمان للمال والشهوة والراحة في الحياة. فيأتي كل ذلك إلى نظر الفرد بهيجاً عظيماص يغويه بالاتجاه نحوه والحصول عليه والعمل على الوصول إليه.
والقسم الأول، مواكب للبشرية على طول وجودها الطويل، ما دام في الانسان في الانسان شهوات وما دامت له مصالح خاصة. لا يختلف فيه عصر الغيبة الكبرى عما قبله أو ما بعده. وهذا هو المحك الأساسي للتمحيص العام للبشرية أجمعين.
إلا أن القسم الثاني خاص بعصر الغيبة الكبرى، بصفتها عصر الفتن والانحراف. لوضوح أن المصالح الشخصية التي تقتضي الاغراء بالحصول على القوة والمال، كلها موجهة إلى دولة الحق، عند وجودها في عصر النبوة أو عصر الظهور... بخلافه في عصر الغيبة، فانها موجهة للحضارة المادية والحكام المنحرفين.
الأمر الرابع:
إيمان الفرد بالمهدي (عليه السلام)، ويتجلى ما يستلزمه من تضحيات ومصاعب، في مستويات ثلاثة:
المستوى الأول:
كونه إيماناً بالغيب... فيلاقي من العقبات ما قلناه في الأمر الأول، سواء كان باعتبار الايمان باليوم الموعود، الذي يطبق الله تعالى أطروحته الكاملة على البشر. أو باعتبار الإعتبار الإيمان بالمهدي (عليه السلام) على الخصوص كقائد لذلك اليوم الموعود.
أو باعتبار الايمان فعلاً بوجود المهدي (عليه السلام) وغيبته... على الاختلاف بين الناس في هذه العقائد الثلاث. فان الايمان بأي واحدة منها إيمان بالغيب، فضلاً عن الايمان بها جميعاً، طبقاً للفهم الامامي للمهدي (عليه السلام). فانها جميعاً خارجة عن الحس الاعتيادي. إلا لأولئك الخاصة الذين شاهدوا المهدي (عليه السلام) على وجه التعيين. وقليل ما هم.
المستوى الثاني:
إستلزام طول مدة الغيبة وتماديها، بحسب الذهنية الاعتيادية للبشر، فيما شاهدوا من مقادير عمر الانسان، استلزامه لاستبعاد وجود المهدي (عليه السلام) خلال هذه المدة، وترجيح موته أو عدم ولادته.
كيف وهو المذخور لنشر العدل ورفع الظلم، فلماذا لا يخرج لنشره وهو يرى الظلم المتفاقم على وجه الأرض. وقد أسلفنتا الجواب على مثل هذه الأسئلة، فلا نعيد.
المستوى الثالث:
ما يستلزمه الايمان بوجود المهدي (عليه السلام) وعلمه بأعمال الناس ومشاهدته للمجتمع عن كثب حال غيبته... من شعور الفرد بالمسؤولية المضاعفة، بالتركيز على العمل الصالح على الصعيدين الشخصي والاجتماعي، ليكون عند حسن ظن قائده به وثقة إمامه.
ومن الواضح، أن الإيمان بالغيبة وما تتضمنه من مصاعب، غير موجود، لا في عصر النبوة، ولا في عصر الظهور.
إذن... فهذه أمور أربعة، تمثل المسؤوليات المهمة والتضحيات الكبرى التي يجب على الفرد المسلم القيام بها خلال الغيبة الكبرى. وهي التي – بمجموعها – جعلت هذه الفترة من عمر البشرية الطويل، أصعب الفترات، من حيث تأكد التمحيص وعمق الامتحان. والتي جعلت الفوز فيه بالشكل الكامل الشامل، قليلاً ومحتاجاً إلى زمان طويل وتربية مستمرة، سواء على مستوى الفرد، أو على مستوى الأمة جميعاً.
كل ذلك، ليتحقق الضمان الأكيد في الحصول على جماعة من الصامدين ضد كل هذه المصاعب، الناذرين أنفسهم في سبيل ربهم وعقيدتهم على كل حال، لا تأخذهم في الله لومة لائم... ليكونوا هم أعوان المهدي (عليه السلام) في نشر القسط والعدل على وجه البسيطة في اليوم الموعود... وبغير هذا المستوى من الاخلاص، لن يمكن تحقيق الحكم العالمي العادل، بأي حال من الأحوال.
فهذا هو الكلام في الناحية الأولى، في ما تقتضيه القواعد العامة من فضل الاخلاص والمخلصين خلال عصر الفتن والانحراف، بشكل يفوق غيره من العصور.
الناحية الثانية:
فيما نطقت به الأخبار من فضل المؤمنين المخلصين المضحين في سبيل الله في عصر الفتن والانحراف... المنتظرين لليوم الموعود، فيما قبل الظهور.
أخرج مسلم(٤١٢) والترمذي(٤١٣) وابن ماجة(٤١٤) عن النبي (ص) أنه قال: العبادة في الهرج كهجرة إليَّ.
والفهم الواعي الصحيح لهذا الحديث الشريف، يتوفق على تقديم عدة مقدمات:
المقدمة الأولى:
إن المراد بالهرج، وهو الفتن والانحراف الذي يقع في عصر الغيبة الكبرى.
باعتبار ما نطقت به أخبار الفريقين ومصادر العامة على وجه الخصوص، من وقوع الهرج والقتل والفتن خلال هذا العصر. فان هذه الأخبار، تكون قرينه تدلنا على ان المراد بالهرج في هذا الحديث هو عصر الهرج والفتن، لا نفس الهرج، وهو القتل.
المقدمة الثانية:
يراد بالهجرة إلى النبي (ص): الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام. وهو في واقعه أساس الأعمال الاسلامية جميعاً ومبدؤها الذي تنطلق منه، لأنها تعبير آخر عن اعتناق الاسلام نفسه.
المقدمة الثالثة:
قد عرفنا ما تقتضيه القواعد من أن الإيمان والعمل الاسلامي، كلما واجه من العقبات أكثر واحتاج من التضحيات إلى عدد أكبر، كان مقرباً إلى الله تعالى بشكل أعمق وموجباً لتكامل الفرد بنحو أسرع.
المقدمة الرابعة:
يراد بالعبادة، معناها العام، لا خصوص الصلاة والصوم، وإن كانت هذه من أقدس أشكال العبادات. بل يراد كل عمل مطلوب في الاسلام يحققه الفرد امتثالاً للأمر الالهي، وتطبيقاً لتعاليم الإسلام. فتشمل العبادة بهذا المفهوم سائر العال الاسلامية، الفردية منها والاجتماعية، كما سبق أن حملنا عن ذلك فكرة كافية... وحققناه مفصلاً في بحث متكامل عن المفهوم الواعي للعبادة في الاسلام.
إذن ينتج من هذه المقدمات الأربع: أن مراد النبي (ص) من حديثه هذا هو: أن العمل الاسلامي في سبيل الله بمختلف مستوياته، مما يقع في عصر الهرج والفتن والانحراف له من الفضل عند الله وعند رسوله، كفضل اعتناق الاسلام نفسه.
وليس ذلك بالعجيب، بعد الذي سمعناه من الأخبار ورأيناه بالعيان، من مجابهة الفتن والانحراف، للعقيدة من مجابهة الفتن والانحراف، للعقيدة والمعتقدين، وقهرهم على ترك الإيمان والخروج عن طاعة الله عز وجل، بمختلف وسائل الظلم والاغراء... إذن فتكون المحافظة على العقيدة والبقاء على السلوك الصالح، من الأهمية كالدخول في الاسلام لأول مرة، وليت شعري، قد يكون البقاء على العمل الصالح مستلزماً للتضحية والمتاعب أكثر مما يستلزمه اعتناق الاسلام لأول مرة.
وأخرج ابن ماجة(٤١٥) والترمذي(٤١٦) في حديث رسول الله (ص) قد سبق أن سمعنا قسماً منه، أنه قال: فان من ورائكم أيامٍ الصبر. الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر. للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون بعمله.
فالعمل الواحد المتشابه، يتضاعف فضله وأجره، بتضاعف التضحية في سبيل تحقيقه. حتى إذا ما وصلت التضحية إلى أوجها، وكان التمسك بالدين كالقبض على الجمر في الشدة والبلاء، وصل الفضل والأجر إلى أوجه أيضاً... وكان العمل الواحد، من الرجل الواحد، في مثل هذا الظرف، معادلاً لعمل خمسين عامل مثله، في حال الرخاء والدعة.
ورقم الخمسين، بطبيعة الحال، لا يراد به التحديد، بل هو لمجرد المبالغة والتكثير كقوله تعالى: (ان تستغفر لهم سبعين مرة).(٤١٧) فلا ينافي القول بأن فضل الفرد الصابر المجاهد قد يفرق عمل غيره باضعاف هذا المقدار، بازدياد ما يتحمل من المحن والآلام.
وروى الكليني في الكافي(٤١٨) بسنده إلى عمار الساباطي. قال قلت لأبي عبد الله (ع): أيما أفضل العبادة في السر مع الامام المستتر في دولة الباطل، أو العبادة في ظهور الحق ودولته(٤١٩) مع الامام منكم الظاهر.
فقال: يا عمار: الصدقة في السر أفضل من الصدقة في العلانية. وكذلك – والله – عبادتكم في السر مع إمامكم المستتر في دولة الباطل وحال الهدنة، أفضل ممن يعبد الله عز ذكره، في ظهور الحق مع إمام الحق الظاهر في دولة الحق. وليست العبادة مع الخوف في دولة الباطل مثل العبادة والأمن في دولة الحق...
إلى أن يقول: قلت: قدر الله رغبتي في العمل وحثثتني عليه.
ولكن أحب أن أعلم كيف صرنا نحن اليوم أفضل أعمالاً من أصحاب الإمام الظاهر منكم في دولة الحق، ونحن على دين واحد.
فقال: أنكم سبقتموهم إلى الدخول في دين الله عز وجل، وإلى الصلاة والصوم والحج، وإلى كل خير وفقه، وإلى عبادة الله عز ذكره سراً من عدوكم مع إمامكم المستتر، مطيعين له صابرين معه منتظرين لدولة الحق، خائفين على إمامكم وأنفسكم من الملوك الظلمة... مع الصبر على دينكم وعبادتكم وطاعة إمامكم والخوف من عدوكم. فبذلك ضاعف الله عز وجل الأعمال، فهنيئاً لكم.
قلت: جعلت فداك، فما ترى إذن أن نكون من أصحاب القائم، ويظهر الحق.ونحن اليوم في إمامتك وطاعتك، أفضل أعمالاً من أصحاب دولة الحق والعدل.
فقال: سبحان الله. أما تحبون أن يظهر الله تبارك وتعالى الحق والعدل في البلاد، ويجمع الكلمة ويؤلف الله بين قلوب مختلفة، ولا يعصون الله عز وجل في أرضه وتقام حدوده في خلقه، ويرد الله الحق إلى أهله، فيظهر حتى لا يختفي شيء من الحق، مخافة أحد من الخلق.(٤٢٠) أما والله يا عمار، لا يموت منكم ميت على الحال التي أنتم عليها، إلا كان أفضل عند الله من كثير من شهداء بدر وأُحُد.
فابشروا.
ودلالة على هذه الرواية على تفضيل العبادة والعابدين والصبر والصابرين، خلال عهود الظلم والانحراف، على العبادة في عهود الراحة والرخاء، ذلك الرخاء الناتج عن حصول دولة الحق بقيادة الإمام المهدي (عليه السلام) وتطبيقه للأطروحة العادلة الكاملة على العالم. دلالة على ذلك، أوضح من أن يخفى أو أن يكون محلاً للمناقشة.
ولكننا من أجل تجلية الموقف، نود التعرض إلى نقطتين:
النقطة الأولى:
أنه قد اشترط الإمام الصادق عليه السلام، في هذه الرواية، في تحديد فضل الصابرين... بأن يكونوا مع إمامهم المستتر.يعني: المستتر بإمامته، لا يباشر الحكم.فقد يقول قائلاً: أننا الآن في عصر الغيبة الكبرى لسنا مع إمام ظاهر، ولا مع إمام مستتر – بذلك المعنى – فلا يكون لمخلصنا من الفضل ما وصف في هذه الرواية.
ويجاب عن ذلك، على مستويين:
المستوى الأول:
أننا بالفعل مع إمام مستتر، طبقاً للمفهوم الامامي، الذي انطلقت منه هذه الرواية... ولسنا محرومين من هذه المزية لكي لا يشملنا الفضل الموصوف في الرواية.فان المهم هو كون الفرد موافقاً مع الإمام إماناً وعقيدة. وتستطيع أنت أن تضيف إلى ذلك - إن رغبت -: كونه معاصراً له في الزمان. وكلا هذين الأمرين متوافران لدى من يعتقد بالغيبة.فانه يعتقد أنه على طول الخط معاصراً زماناً مع إمامه المهدي (عليه السلام)، ومتفق معه في العقيدة والإيمان. وأما كون الامام معروفاً بالشخص فهذا ليس له أي دخل في صدق كون الفرد معه، كما هو واضح.
وبتعبير أدق: إن المهم الذي أكدت عليه الرواية، هو كون الامام مستتر بإمامته خوفاً من الظالمين... كون الفرد مطيعاً له عقيدة وسلوكاً. وهذا بنفسه متوفر في عصر الغيبة، بالنسبة إلى الفرد المخلص، كما كان متوفراً في عصر الأئمة (ع). فان كلا العصرين، هما من عصور الفتن والانحراف وانحسار الحق واستتار الامام. ولا يبقى لمعروفية الامام بشخصه دخل مهم من هذه الجهة.
المستوى الثاني:
أننا نفترض – جدلاً – أن وجود الغيبة يمنع من كوننا مع الامام. أو نجر الكلام إلى من لا يقول الغيبة أصلاً. ولكن مع ذلك نقول بشمول الفضل الموصوف في الرواية للمخلصين الموجودين خلال عصر الفتن والانحراف.
فان ما هو المدار في ثبوت الفضل، وما هو الأساس في التمحيص الالهي، على ما عرفنا، إنما هو الخوف، من الظلم والصمود ضد كيد الأعداء وضد مطاردة المنحرفين... فان العمل والعبادة خلال الخوف، أفضل وأعلى في درجات الكمال، من العمل في عصور الاطمئنان والرخاء. وهذا الجو العاصف موجود في القرون المتأخرة، كما هو موجود في عصر الأئمة المعصومين عليهم السلام بدون فرق. فان كلا العصرين، من عصور الفتن والانحراف.
ويزداد الخوف وتتكاثر المصاعب ضد المخلصين، في العصور المتأخرة عن عصر الأئمة (ع) من عدة نواحٍ:
الأولى: إن الحكم في ذلك العصر، مهما كان مصلحياً ومنحرفاً، كان يقوم باسم الاسلام، وعلى أساس تطبيقه. على حين لا نجد اليوم على وجه الأرض حاكماً على الاطلاق يمثل هذا الاتجاه. بعد أن اتجهت أساليب الحكم إلى المادية والعلمانية.
الثانية: أن التنظيم العام الذي تقوم عليه الدولة في ذلك العصر، كان أبسط بكثير مما تقوم عليه الدول اتلآن. من جهات عديدة جداً. في الجهاز العسكري وجهاز الشرطة ونوع الأسلحة وشكل الحكم وأسلوب التجسس والمطاردة، وتنظيم الدولة، والأحزاب والتكتلات... إلى غير ذلك.
الثالثة: أنه في ذلك العصر، كانت تغزو المجتمع تيارات إلحادية وأساليب هدامة، إلا أنه كانت ضعيفة، مرفوضة من قبل الرأي العام المسلم ومطاردة من قبل السلطات الحاكمة. وأما التيارات الالحادية ونحوها، اليوم، فهي مدعمة بتفكير المفكرين وتأليف المؤلفين، ووسائل الاعلام العالمية، ومدعمة أيضاً بالتأييد المطلق من قبل كثير من الدول، تبذل عليها الميزانيات الطائلة والأساليب الهائلة.
وتطارد من يعارضها ويدعو الناس إلى رفضها والتوجه إلى الحق، المتمثل بالاسلام وتعاليم الله عز وجل.
ومن هنا نفهم أن الظلم فيما بعد عصر الأئمة (ع) أشد وأوكد، والتمحيص الالهي أعقد. فإذا كان لأصحاب الأئمة عليهم السلام، من الفضل ما ذكرته الرواية، فهو أوكد وأعمق في حق المخلصين المتأخرين عن ذلك العصر. وكلما تعقتد التمحيص وصعب، كان الفضل عند الله أكثر والكمال المحرز في الإيمان والاخلاص أكبر.
النقطة الثانية:
قول الامام الصادق (ع) – بحسب الرواية -: لا يموت منكم ميت على الحال الذي أنتم عليها، إلا كان أفضل عند الله من كثير من شهداء بدر وأُحُد.
فابشروا.
وهذا واضح وصحيح، بعد أن نلاحظ أمرين مما قلناه:
الأمر الأول:
ما قلناه، من أفضلية الممحصين الكاملين الصالحين لقيادة العالم بين يدي المهدي (عليه السلام).من الأعم الأغلب من أصحاب رسول الله (ص). كما سبق أن برهنا عليه.
الأمر الثاني:
ما قلناه قبل قليل، من أفضلية من يعيش في عصر الغيبة عمن يعيش في غيره من العصور، ولو أثبت الفرد الجدارة والصمود ضد الظلم والانحراف.
فإن قال قائل: انهم قد استشهدوا في سبيل الله تعالى دوننا، فيجب أن يكونوا أفضل منا.
قلنا: كلا. فان الشهادة التي نالها الأغلب في بدر وأُحُد، كانت باعتبار الاندفاع الثوري والوهج العاطفي الحراري الذي أوجده رسول الله (ص) في مجتمعه. كما سبق أن عرفنا. ومثل هذا العمل وإن كان يمثل نجاحاً كبيراً في التمحيص الاختياري، إلا أنه لا يمكن أن يكون سبباً لتربية الفرد وتكامله، ودقة تمحيصه... فان ذلك ما يحتاج إلى زمان طويل وتسلسل تدريجي بطيء، وتكامل متواصل... ولا يمكن للفرد أن يقفز دفعة واحدة إلى الكمال، مهما كانت الظروف التي عاشها صعبة ومتعبة.
ومثل هذه التربية البطيئة، يمر بها الفرد المسلم بل الأجيال المسلمة في عصر الغيبة الكبرى، بشكل أطول وآكد بكثير مما مر به أصحاب رسول الله (ص) خلال عقدين من الزمن. وستنتج نتائج أوسع وأعمق وذات مستويات أكبر مما نتج بالنسبة إلى الأغلب ممن عاصر النبي (ص). كما استطعنا أن نتبين خطوطه العريضة فيما سبق من البحوث.

 

* * *

 

وبذلك نستطيع أن نفهم سائر الروايات الواردة في فضل الصامدين على الحق المنتظرين لليوم الموعود.
منها: ما رواه الصدوق في الاكمال(٤٢١) عن الإمام الحسين بن علي عليهما السلام، أنه قال- في كلام له عن المهدي (عليه السلام) -: له غيبة يرتد فيها أقوام، ويثبت على الدين فيها آخرون. ويقال لهم: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين.أما أن الصابر في غيبته على الأذى والتكذيب بمنزلة المجاهد بالسيف بين يدي رسول الله وآله الطاهرين الأخبار.
وما أخرجه البرقي في المحاسن(٤٢٢) عن الإمام الصادق (ع)، قال: من مات منكم على أمرنا هذا فهو بمنزلة من ضرب فسطاطه إلى رواق القائم، بل بمنزلة من يضرب معه بالسيف، بل بمنزلة من استشهد معه، بل بمنزلة من استشهد مع رسول الله (ص).
وأخرج أيضاً:(٤٢٣) من مات منكم على هذا الأمر منتظراً له، كان كمن كان في فسطاط القائم (ع). وعن الإمام الباقر (ع) – في ضمن حديث أنه قال: القائل منكم: إن أدركت القائم من آل محمد نصرته، كالمقارع معه بسيفه... الحديث.
بل أن الممحصين الكاملين لأعظم حتى من هذه الدرجة كما تدل عليه روايات أخرى:
منها: ما رواه الصدوق في إكمال الدين(٤٢٤) أيضاً عن الإمام بن الحسين (ع) في حديث له عن المهدي (عليه السلام): إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره، أفضل من أهل كل زمان، لأن الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والافهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة العيان، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله بالسيف. أولئك المخلصون حقاً... والدعاة إلى دين الله سراً وجهراً.
وما رواه الشيخ في الغيبة(٤٢٥) عن النبي (ص) أنه قال: سيأتي قوم من بعدكم، الرجل الواحد منهم له اجر خمسين منكم. قالوا: يا رسول الله، نحن كنا معك ببدر وأُحُد وحنين وأُنزل فينا القرآن. فقال: لو تحملون لما حملوا لم تصبروا صبرهم.
إذن فهؤلاء الممحصون الكاملون، أفضل من عامة المعاصرين للنبي (ص).
والسر فيه ما قلناه من فجاجة أولئك من حيث التمحيص، وعمق هؤلاء. والشخص الفج لا يتحمل التمحيص العميق بطبيعته، وهو معنى قوله: انكم لو تحملون لما حملوا، لم تعبروا صبرهم.
ونود أن نعلق على هذه الأخبار الأخيرة بنقطتين:
النقطة الأولى:
إن التعبير بالفسطاط وبالسيف، إنما جاء في هذه الروايات، مماشاة مع ما يعرفه الناس في عصر صدور هذه الروايات. وقد سبق أن قلنا في أول القسم الثاني من هذا التاريخ، أننا يجب أن نبحث عن مصاديق جديدة لمثل هذه التعبيرات، مناسبة للعصر الذي تتحدث عنه. فيكون المراد بالسيف سلاح الامام المهدي (عليه السلام) وبالفسطاط مقره أو عاصمته أو نحوها.
ومن المحتمل أن يكون المراد بالبفسطاط المدرسة الفكرية، بحسب ما نصطلح عليه اليوم أوالمبدأ المستلزم لاتجاه فكري وسلوكي خاص في الحياة.
والقرينة على ذلك، ما رواه أبو داود(٤٢٦) عن رسول الله (ص) في حديث له عن الفتنة، قال: يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه.وفسطاط نفاق لا إيمان فيه... الحديث.
فان المراد منه – بكل وصوح – المدرستين الفكريتين أو المبدأين العقائديين، شبههما بفسطاطين لجيشين متحاربين كما كان عليه أهل ذلك الزمان.
النقطة الثانية:
عرفنا في الجانب الأول من الحديث عن الانتظار والمنتظرين، نفس ما أقادتنا إياه هذه الروايات من كون الفرد الممحص الكامل أفضل من كثير من المستشهدين بين يدي رسول الله. كما عرفنا أنه بمنزلة المعاصرين مع المهدي (عليه السلام) العاملين في سبيل نصرته
وذلك التجاور المكاني والزماني، ليس له حساب في العقيدة والعمل، وإنما الذي يؤخذ بنظر الاعتبار هو درجة الاخلاص، والايمان. وقد عرفنا أن أصحاب المهدي (عليه السلام) على درجة عليا من الاخلاص الممحص وقوة الايمان... فإذا كان الفرد في عصر الغيبة ممّحصاً بنفس الدرجة كان مثل أصحاب المهدي (عليه السلام) بطبيعة الحال.
إلا أن ما ورد في بعض الروايات، من أن الفرد المخلص في زمان الغيبة، كالمستشهد بين يدي المهدي (عليه السلام)، مما لا يكاد ينسجم مع القواعد إذ المفروض تماثل الفردين في الاخلاص الممحص، مع زيادة الآخر بفضل الشهادة في سبيل الله عز وجل. إلا أن ينال هذا الفرد في عصر الغيبة، الشهادة في سبيل الله أيضاً.

 

* * *

 

الجهة السادسة:
في المنزلة السئلة والقيمة المنحطّة لأعداء المهدي (عليه السلام) في عصر الهدنة، عصر الغيبة الكبرى وما قبله.
روى النعماني في الغيبة(٤٢٧) والصدوق في الاكمال(٤٢٨) والطبرسي في الاعلام(٤٢٩) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أقرب ما يكون العباد إلى الله عز وجل، وأرضى ما يكون عنهم إذا فقدوا حجة الله، فلم يظهر لهم، ولم يعلموا بمكانه. وهم في ذلك يعلمون أنه لم تبطل حجج الله عنهم ولا تبطل بيناته ز فعندها فتوقعوا الفرج صباحاً ومساءً.
وإن أشد ما يكون غضب الله على أعدائه، إذا افتقدوا حجته، فلم يظهر لهم. وقد علم أن أولياءه لا يرتابون. ولو علم أنهم يرتابون لما غيب عنهم حجته طرفة عين. ولا يكون ذلك إلا على رأس شرار الخلق.
ويقع الكلام في هذه الرواية، ضمن عدة نقاط:
النقطة الأولى:
فيما هو مقتضى القاعدة لتحديد درجة مسؤولية الفرد تجاه العصيان لأحكام الاسلام في عصر الغيبة الكبرى.
الصحيح هو تضاؤل المسؤولية إلى حد ما في العصيان أثناء عند الفتن والانحراف والاغراء، عنها في الزمن المعاصر لعصر التشريع... لكن لا بدرجة يلزم منها انعدام الاختيار وسقوط التكليف.
ويتم البرهان على ذلك بمعرفة عدة مقدمات:
المقدمة الأولى:
في إيضاح مراتب الجبر والاختيار.
فإن الفرد لا تكون إرادته في كل الأفعال على حد سواء، بل تختلف على مراتب متعددة، تضعف في بعضها حتى تنعدم وتوجد في بعضها حتى تتضح...
كما يبدو من المراتب الآتية:
المرتبة الأولى:
الجبر الفلسفي، بمعنى أن الانسان يقوم بأعماله، كما يصدر النور من الشمس والرائحة من الزهر، أو كالقلم بيد الكاتب والعصا في يد الضارب. وهو أعلى درجات الجبر وانعدام الارادة وفقدان الاختيار.
ويقوم هذا الجبر على أحد أساسين:
الأساس الأول:
الأساس المادي.. كالقول بالمادية التاريخية التاريخية، الذي يربط التطورات التاريخية، وجميع تصرفات الأفراد بتطور وسائل الانتاج. فالفاعل المؤثر – في الحقيقة – هي هذه الوسائل، وليس للانسان أي يد في تغيير ما يقوم به من أعمال.
وهذا واضح من اتجاه الماديين التاريخيين، إذ لو كان للأفراد اختيار في أفعالهم، لكانوا هم صانعي التاريخ والمشاركين في تطويره، ولم يكن تطويره مستنداً تماماً إلى وسائل الانتاج، كما قد أكدوا عليه.
والظاهر أن كل كل المذاهب المادية، تقول بالجبر الفلسفي هذا، باعتبار أن القول بالاختيار اعتراف بأمر ميتافيزيقي لا يمكنهم الايمان به.على أنه يتضمن المنافاة للعلل المادية الضرورية التأثير في الانسان... تلك العلل التي تقدمها هذه المذاهب.
الأساس الثاني:
الأساس الالهي، بمعنى أن الله تبارك وتعالى هو الفاعل المؤثر في إيجاد أفعال الانسان، إيجاداً قهرياً. وأشهر من يقول بذلك هم الأشاعرة من المسلمين واليهود من أهل الكتاب.
وكلا الأساسين باطلان في الاسلام: أما الأساس الأول، فباعتبار مناقضة المادية مع الاسلام في النظر إلى الكون والحياة أساساً كما هو المبرهن عليه في كتب العقائد. وأما الأساس الثاني، فلاستلزماته بطلان الثواب والعقاب، وسقوط الفرد عن استحقاقه. كما هو المبرهن عليه في كتب العقائد أيضاً.
المرتبة الثانية:
القسر على فعل معين، بعد الاعتراف ببطلان الجبر في المرتبة الأولى... كما لو شد وثائق شخص بحبل- مثلاً – والقي في فمه الماء أو الطعام، أو نقل من مكان إلى آخر محمولاً.
ولا يسمى ذلك بالاضطرار اصطلاحاً، وإن كان يمكن أن يسمى به.
المرتبة الثالثة:
الاكراه، مع افتراض توفر الاختيار في المرتبتين السابقتين.
وأوضح أشكاله هو التهديد أو بالشر المستطير، لشخص على أن يعمل عملاً ما، تهديداً قابلاً للتطبيق... فيضطر الفرد لايقاع الفعل قهراً عليه.
ولهذه الاكراه أشكال أخرى، كما لو كان التهديد متوجهاً إلى شخص والأمر متوجهاً إلى شخص آخر. كما لو أمرك شخص بفعل، مهدداً إياك بقتل ولدك مثلاً. وكما لو كان الأمر متعلقاً بايقاع أحد أمور متعددة، لا بإيقاع شيء واحد. مثل ما إذا قال ذلك الشخص: اعمل كذا أو كذا وإلا قتلتك.
المرتبة الرابعة: الاضطرار، وهو الالتجاء إلى فعل معين تجنباً لأمر آخر وشيك الوقوع عليه.
كما لو باع داره التي يسكنها لسداد دينه أو الصرف على صحته... وغير ذلك.
وهاتان المرتبتان غير منافيتين للاختيار بالدقة، فان الفرد يوقع الفعل بإرادته على أي حال، وإن كان فعله قد يكون مخالفاً لهوى النفس أو للعقيدة التي يحملها مخالفة شديدة. على حين كانت المرتبتان الأوليتان، منافيتين مع الاختيار مباشرة، إذ لا معنى للاختيار الفعلي مع أي منهما.
المرتبة الخامسة:
ما نستطيع أن نسميه بالاضطرار غير المباشر.وهو عبارة عن ردود فعل معينة تجاه مؤثرات عامة أو خاصة، يقوم بها الانسان بإرادته واختياره. لكن لا يكاد يوجد له منها مناص عرفاً وعادة... وإن وجد المناص منها عقلاً.
يندرج في ذلك الكثير من الأفعال، كاضطرار التاجر إلى بيع سلعته بأرخص مما اشتراها أحياناً.وكاستمرار المعتاد أو المدمن على شيء، وعدم استطاعته ترك عادته، كالادمان على الخمر أو التدخين مثلاً.وكاستمرار المختص بحقل من حقول المعرفة في التدقيق وزيادة البحوث في حقله، دون الحقول الأخرى.
فالطبيب المتمرس – مثلاً – لا يمكن له أن يكون فيزياوياً أو مهندساً معمارياً. وكالتزام الشخص الاعتيادي بتقاليد مجتمعه وعقائد آبائه. وكاضطرار الجوعان إلى الطعام في موعده، ما لم يصل إلى حد الخوف من الهلاك، فيكون مندرجاً في المرتبة السابقة.
ولهذه المرتبة مستويان يختلفان في درجة انحفاظ الاختبار.
المستوى الأول:
أن تكون ظروف الفرد وملابساته تعيّن عليه الفعل، بحيث يكون قاصراً عن تركه، ولا مناص به عرفاً عنه.
المستوى الثاني:
أن لا يبلغ التسبيب إلى درجة القصور، بل تكون له فرصة الاختيار عرفاً، وإن كان الدافع إلى الفعل والحافز عليه شديداً.
وأمثلة هذين المستويين، نسبية تختلف بين فرد وآخر وفعل آخر، بحسب اختلاف الظروف النفسية والعقلية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، مما يمر به هذا الفرد أو ذاك.فقد يكون الفرد قاصراً عن ترك شيء، ولا يكون الفرد قاصراً عن ترك شيء، ولا يكون فرد آخر قاصراً عن ترك نفس الشيء. أو يكون فرد قاصراً عن شيء دون شيء آخر.
فمثلاً قد يكون أحد الأطباء قادراً بحسب ظروفه على أن يختص بالفيزياء أيضاً. ولا يكون طبيب آخر غير قادر على ذلك، بحسب ظروفه وهكذا.
المرتبة السادسة:
الاختيار المطلق، بمعنى أن يكون للفرد حرية الفعل والترك معاً، بمقدار خمسين بالمئة على السواء.
وهذا أمر نسبي أيضاً، فقد تكون أطراف التخيير كلها ممكنة، وليس في أحدها حافز أكثر من الآخر... وقد يكون في بعضها حافز أكثر، وقد يكون في بعضها مثبط أو مبعد. وقد يكون بعضها مضطراً إلى فعله بالمرتبة الثانية أو الثالثة، ويكون الاختيار باعتبار الأطراف الأخرى، وهكذا.
المقدمة الثانية:
إذا عرفنا هذه المراتب الست، أمكننا أن نعرف بوضوح اختلافها في درجة الاختيار، وأن نلاحظ اختلافها في درجة المسؤولية القانونية المترتبة عليها.
فان كل فعل له أثر قانوني، تتناسب درجة مسؤولية طاعته وعصيانه مع درجة الاختيار تناسباً طردياً. ويدور التشريع مدار الاختيار تماماً، سواء كان التشريع عقلياً أو شرعياً دينياً أو قانوناً وضعياً. بل أن كل من يتصدى لوضع أي تشريع فانه يفترض سلفاً أن من يأمره وينهاه ويعاقبه شخص له اختيار الفعل والترك... وإلا فلا معنى للأمر والنهي ولا للنصح والتوجيه... ويكون العقاب ظلماً والثواب لغواً. فانه إذا انعدم الاختيار، انعدمت المسؤولية، إذ يكون للفرد العاصي عندئذ بأنه كان مقهوراً ومجبوراً على العصيان.. ولا معنى لعقابه حينئذ.
فإن قال قائل: فان هناك الكثيرون ممن يؤمنون بالوجود القانوني للتشريع ويعملون عليه. مع أنهم يؤمنون بالجبر وانعدام الاختيار بالمرة. كالماديين والأشاعرة.
قلنا له: العمل على التشريع من قبل هؤلاء، ناشيء من أن وجدانهم الارتكازي قائم على الاختيار، وحياتهم العملية قائمة على الايمان به، من حيث أن تحمل مسؤولية العصيان أمر عقلاني عام... فهم مؤمنون بالاختيار عملياً وإن اعتقدوا من الناحية الفلسفية بخلافه، وغفلوا عن المنافاة بين ثبوت المسؤولية وبطلان الاختيار.
وعلى أي حال، فالمسؤولية القانونية، تزداد بازدياد الاختيار وتقل بقلته، كما أنها توجد بوجوده وتنعدم بانعدامه. فهي موجودة في المرتبة الثالثة وما بعدها بوجود الاختيار في هذه المراتب جميعاً. نعم، قد يكون الفرد العادي معذوراً في بعض مراتب الاكراه أو الاضطرار الشديدة، بالرغم من أنه يعتبر عاصياً بالدقة العقلية. كما أنه مع سعة الوعي وعمق الأثر، قد لا يكون الفرد معذوراً حتى في هذه المرتبة، كما أنه يجب عليه تحمل الشدائد في سبيل أهدافه.
خذ مثلاً أن فرداً عادياً إذا اضطر إلى سرقة شيء من المتاع أو أكره عليه كان معذوراً... ولكن لو اكره الرئيس الأعلى للدولة أو أحد علماء الاسلام على مثل هذه السرقة، لا يكون معذوراً البتة، لأن في ذلك افتضاح دولته أو دينه، بل يجب عليه تحمل ما يكره والصبر عليه. حتى لو كان هو القتل – احياناً – إذا كان الهدف من العمق والشمول، بحيث تبذل في سبيله النفوس.
وتتضاءل المسؤولية، بنقصان الاختيار، ففي مورد القصور – مثلاً – تكون المسؤولية منتقيه إلى حد كبير. لكنها في مورد الاضطرار غير المباشر تكون ثابتة على شكل ناقص، لإمكان أن يتصرف الفرد بشكل يختلف عما قام به من عمل، ويكون رد فعله تجاه الحافز بشكل آخر. وتكون المسؤولية كاملة في صورة الاختيار المطلق، بطبيعة الحال.
وليس تفاوت درجات المسؤولية، بدعاً من القول. بل له أمثلة كثيرة في القوانين. فمثلاً: قسموا القتل إلى عمد وشبه العمد والخطأ. ووجدوا من الظلم إيقاع عقاب المتعمد على شبه العمد أو الخاطئ. كما أنهم قسموه إلى ما كان عن سبق إصرار وما لم يكن. ووجدوا الظلم إيقاع العقاب الذي يستحقه الأول على الثاني. ووجدوا من الظلم – أيضاً – إيقاع عقاب السارق الاعتيادي على السارق في المجاعة.
ونجد في الاسلام أن عقاب الزاني المحصن أشد من عقوبة غير المحصن. إلى غير ذلك من الأمثلة. كل ذلك لأن درجة الاختيار أخذت بالتضاؤل، فتضاءلت معها المسؤولية، ومن ثم درجة استحقاق العقاب.
ولك من المثالين الأخيرين خير إيضاح، فان درجة اختيار السارق العادي في ترك السرقة أكبر منها في السارق الجائع الذي لا يجد قوتاً... وإن كان الأخير مذنباً أيضاً. كما أن درجة اتختيار المحصن المتزوج في التعفف عن الزنا أكبر من درجة الأعزب. وإن كان هذا مذنباً أيضاً... وهكذا.
وليت شعري، لا أعلم ماذا يقول الماديون وغيرهم من القائلين بالجبر الفلسفي في مثل هذه الموارد الواضحة قانونياً.فانها مما لا يمكن تفسير الفرق بين مراتبها بناء على رأيهم، إذ يكون كل العصاة مجبورين على مستوى واحد على العصيان. بل يكون هؤلاء القائلين بالجبر، مجبورين على اتخاذ هذا الرأي أيضاً!!.
المقدمة الثالثة:
أنه كلما توفرت وازدادت أسباب الايمان بالاسلام بالنسبة إلى الفرد، ازدادت درجة إمكان اختياره له واعتناقه إياه وإطاعته لتعالميه. حتى ليصبح متساوي الأطراف، كالمرتبة السادسة، بل في طرف اعتناقه حفز قوي ودافع شديد، لا يوجد مثله في طرف تركه. كما كان عليه الحال، فيما بعد الفتح في عصر النبي (ص)، حتى أننا سبق أن قلنا لأن الإيمان بالغيب كاد أن يكون حسياً، وهو ما سوف يكون عليه الحال بعد الظهور. وفي مثل ذلك يكون العصيان ذا مسؤولية كبرى واستحقاق كبير للعقاب.
وكلما صعب طريق الايمان وازدادت عقباته ومزالقه، وتكثرت التضحيات التي يتطلبها ومقاومة أشكال الظلم والاغراء التي يواجهها... كانت درجة الاختيار والمسؤولية أقل، لا محالة، حتى تصبح من مرتبة الاضطرار غير المباشر بأحد المستويين السابقين. بل قد تنقص عن ذلك في بعض الأحيان.
ومن الممكن القول: ان اكثر حالات العصيان والانحراف في عصر الفتن والانحراف، حيث تتركز المصالح الخاصة ويقل الوازع الاخلاقي والديني، ويدرك الفرد أن كثيراً من الأعمال المنحرفة تعتبر ضرورة من ضروريات حياته، ويتوقف أمنه وراحته عليها... ان اكثر هذه الحالات هي من قبيل الاضطرار غير المباشر بالمستوى الثاني على أقل تقدير.
وأما القصور الحقيقي، فيمثل الجزء الأقل، من أسباب الانحراف في العالم... باعتبار وضوح القضايا الدينية الاولية، كالتساؤل عن مبدأ العالم والغاية من خلقه. فإذا استطاع الفرد أن يسير سيراً حسناً في اسنتتاجه، استطاع الوصول إلى الحق لا محالة.ومن هنا، شجب القرآن تقليد الآباء لمنافاته الصريحة مع تلك القضايا الأولية الواضحة.
ولئن كان القصور، وهو الجزء الأقل من أسباب الانحراف في العالم، موجب للعذر عقلاً وشرعاً، فان الاضطرار غيرالمباشر، وهو الجزء الأغلب من الأسباب، غير موجب للعذر أساساً. لوجود الاختيار والمسؤولية فيه إلى درجة كافية. وخاصة بعد اتضاح معالم الحق، وقيام الحجة والبرهان عليه وإمكان التضحية في سبيله إلى درجة معقولة، من قبل الفرد العادي.
إذن ينتج من هذه المقدمات الثلاث: إن المسؤولية القانونية، وان كانت متوفرة للمنحرفين في عصر الغيبة الكبرى، ولم يكن البشر معذورين في عقائدهم وأعمالهم الباطلة. إلا أن الظروف التي يعيشونها تكفكف من عمق المسؤولية وتقلل من درجتها، بمقدار ما تقلل من درجة الاختيار، وتجعل الحافز على الانحراف، قوياً فعالاً.
وإلى مثل ذلك، وما يشبهه تشير الرواية التي أخرجها الشيخ في الغيبة(٤٣٠) بطريق صحيح عن زرارة عن جعفر بن محمد عليه السلام أنه قال: حقيق على الله أن يدخل الضلاّل الجنة. فقال زرارة: كيف ذلك جعلت فداك؟ قال: يموت الناطق ولا ينطق الصامت، فيموت المرء بينهما، فيدخله الله الجنة.
والشرح الأولي لهذه الرواية: ان المراد من الضلاّل بالتشديد: المنحرفين من المسلمين، وإدخالهم الجنة إنما يكون بسبب قلة المسؤولية التي أشرنا اليها، حتى تكاد تنعدم فينعدم العقاب بالمرة وذلك في ظرف معقد خال من التبليغ الاسلامي، عند موت الناطق بالحق، وصمت الموجود.
وقد يراد بالناطق والصامت، الأئمة المعصومين عليهم السلام. فيراد بالصامت الامام المهدي (عليه السلام) وبالناطق من قبله منهم عليهم السلام. وتكون الفترة المشار إليها، هو عصر الغيبة الكبرى الذي نؤرخ له. كما قد يراد بالناطق والصامت أيّ مفكر ومبلغ إسلامي وداعية إلى الحق سواء كان معصوماً أو لا.
يكون المراد فترة أو عدة فترات صعبة من عصر الغيبة، مع افتراض وجود الارشاد إلى الحق في غير هذه الفترات. هذا، وأما الفهم الدقيق لهذه الرواية، فله مجال آخر، ويكفينا في هذا الصدد أن الفرق بين ما قلناه بني ما قلناه وبين مؤدّى هذه الرواية: هو أن قلة المسؤولية التي أشرنا إليها، ناتج من ظروف الظلم والاغراء. وأما قلة المسؤولية التي تشير إليها الرواية فناتجه من ضعف التبليغ الاسلامي، وما يسببه من الجهل والفراغ العقائدي بشكل عام.
وكلا الأمران صحيح، وموجب لضعف المسؤولية، فضلاً عما إذا اجتمعنا، كما هو الموجود في عدد من عصور عصر الغيبة الكبرى. ومرادنا من الاستشهاد بهذه الرواية، رفع الاستغراب من قلة المسؤولية مع الانحراف.
النقطة الثانية:
أنه بالرغم مما قلناه من قلة المسؤولية إلى حد ما في عصر الفتن والانحراف.
إلا أن ذلك لا ينافي قانون التمحيص. ولا ينافي صدق الرواية التي سبقت ودلت على اشتداد غضب الله تعالى على أعدائه إذا غيب حجته.
ويمكن أن نطلع على ذلك من خلال جانبين:
الجانب الأول:
في أن قلة المسؤولية لا تنافي التمحيص.
وذلك: لأننا لم نقل بانتقاء المسؤولية، كيف... وإن عصيان الله من أشد الأمور مسؤولية وإجراماً. ولكننا قلنا بقلتها في صورة الاضطرار غير المباشر عن صورة الاختيار المطلق. أو بتعبير آخر، قلتها في عصر الفتن والانحراف عن عصر التشريع ومجاورة قواد الاسلام، سواء السابقين منهم أو المهدي (عليه السلام) بعد ظهوره.
... فكل ما ينتج لدينا هو أن الفرد الفاشل في التمحيص في عصر الغيبة أخف جرماً من شخص فاشل في عصر الظهور.تماماً كما ينتج لدينا أن الشخص الناجح في التمحيص في عصر الغيبة أفضل وأحسن من الشخص "الناجح في عصر الظهور"(٤٣١) لأن مضاعفة التمحيص وشدته، يلازم كله هذين الأمرين.
ومعه يبقى التمحيص على حاله، من حيث أساليبه ونتائجه:
أما أساليبه، فباعتبار أن قلة المسؤولية النسبية، لا تعني تغير الواقع الذي يعيشه الفرد من الظلم والتعسف والانحراف. كما لا تعني انعدام مسؤوليته تجاهه.
وأما نتائجه: فباعتبار أن التمحيص ينتج المطلوب الذي خططه الله تعالى من أجله، وهو وجود العدد الكافي من المخلصين الممحصين لنصرة المهدي (عليه السلام) بعد ظهوره والتشرف بحمل مسؤولية الفتح العالمي. بل أن نتيجة التمحيص تكون بالنسبة إلى الناجحين أفضل كما عرفنا، وإن كانت بالنسبة إلى الفاشلين فيه قليلة.
الجانب الثاني:
في أن قلة المسؤولية لا تنافي صدق الرواية. وذلك بناء على الايمان بغيبة الامام المهدي (عليه السلام) وخط آبائه عليهم السلام، الذي صدرت هذه الرواية على أساسه.
وذلك: لأن ما قلناه من قلة المسؤولية يشارك فيها، إلى حد كبير، البعد عن عصر التشريع وصعوبة الوصول إلى تفاصيل الاسلام إلا للاختصاصيين والمدققين الاسلاميين.وأما في عصر التشريع فهذه الصعوبة غير موجودة.لا مكان الرجوع إلى النبي (ص) أو إلى الأئمة (ع) كل في عصره عند الحاجة. ووجوب ذلك في نظر الإسلام.
ونحن في تاريخ الغيبة الصغرى(٤٣٢) اقمنا القرائن الكافية التي تثبت أن عدداً من الخلفاء، كانوا يعرفون حق الأئمة عليهم السلام وصدقهم... وكانوا – مع ذلك – يناجزونهم المطاردة والتعسف والتنكيل.
ومن هذا المنطلق بالتعيين، نعرف المراد من الرواية، إذ تقول: وإن أشد ما يكون غضب الله على أعدائه إذا افتقدوا حجته، فلم يظهر لهم... الخ. وذلك بعد الالتفات إلى مقدمتين:
المقدمة الأولى:
ما عرفناه الآن، من تضاعف المسؤولية في ذلك العصر، عنه في عصر الغيبة الكبرى، وهذا في العصيان الاعتيادي، فكيف بمطاردة الأئمة (ع) وقواعدهم الشعبية، مع علم الحكام بأن الحق إلى جانبهم.
المقدمة الثانية:
إن المراد من قوله - في الرواية -: إذا افتقدوا حجته.. النظر إلى أول الغيبة، فقط. لأن الافتقاد أو الغيبة إنما حصل في ذلك الحين، وأما ما بعده من الزمان، فهو استمرار لذلك المعنى، وليس افتقاداً آخر.
فينتج عن المقدمتين: ان المراد هو اشتداد غضب الله تعالى على الحكام، في مبدأ الغيبة الصغرى، حيث كانوا يطاردون أولئك الذين يعرفون أن الحق إلى جانبهم. ويعصون ما يفهمونه من الحكم الاسلامي الصحيح.
فان ناقشنا في المقدمة الثانية، وقلنا بشمول التجيس لكل عصر الغيبة الكبرى. باعتبار المقابلة بين الفقرتين في الرواية. فانه (ع) يقول: أقرب ما يكون العباد إلى الله عز وجل... إذا فقدوا حجته... وأشد ما يكون غضب الله على أعدائه إذا افتقدوا حجته... الحديث. وحيث علمنا أن جانب الرضا شامل لكل عصر الغيبة، وغير خاص بأولها، نعلم أن جانب الغضب شامل لجميعها أيضاً.
وهذا الكلام وجيه إلى حد كبير، ومطابق مع التخطيط الالهي. لما عرفناه من أن التمحيص حين ينتج نتائجه النهائية في آخر عصر الغيبة الكبرى. يكون الناس على طرفين متناقضين: قلة شديدة الايمان قوية الارادة إلى درجة كبيرة. فهذا هو ما تشير إليه هذه الرواية. اذ يكون القرب الالهي والرضا عن أولئك القلة، ويكون الغضب الشديد على المتطرفين، من هؤلاء الكثرة.
وأما من خلال هذا العصر، فمن الواضح، أن التمحيص كلما سار قدماً وتصاعد درجة، ازداد إيمان المؤمنين وانحراف المنحرفين معاً. وتصاعد الرضا والغضب المشار إليه في الرواية، بشكل متدرج مقترن.
النقطة الثالثة:
قوله (ع) – في تلك الرواية -: وقد علم الله تعالى أن أولياءه لا يرتابون. ولو علم أنهم يرتابون لما غيب عنهم حجته طرفة عين. وهو تعبير ورد في عدة روايات.(٤٣٣)
نفهم من ذلك: أن الارتياب والشك بوجود المهدي (عليه السلام) أثناء غيبته ناشئ في واقعه من الانحراف والفساد الموجود في هذا العصر، وأما لو خلي الفكر الانساني المستقيم ونفسه لما رقى اليه الشك.
ونحن وإن كنا قلنا أن طول الغيبة سبب للشك بحسب طبيعة البشر لكونها من الأمور غير المعهودة في ربوعهم. إلا أن الشخص الذي يربط الأمور بمصدرها الحقيقي الأول، تبارك وتعالى، ويعرف قدرته الواسعة وحكمته اللانهائية، لا يستبعد عليه التصدي لحفظ شخص معين أمداً طويلاً، لأجل تنفيذ العدل في اليوم الموعود. بل يرى أن ذلك لازم ومتعين بعد قيام البرهان على وجود الغرض الأصلي من الخليفة وعلى حقيقته. وانحصار تحقق هذا الغرض بهذا الأسلوب. بحيث لو لم تكن هناك أي رواية تدلنا على وجود المهدي، لكان اللازم على الفكر الانساني أن يعترف به.
وإنما الذي يمنع من ذلك، ويزرع في طريقه المصاعب والمتاعب، هو الانحراف الفكري، وخاصة إذا وجد لدى بعض القواعد الشعبية الذين بني مذهبهم على الاعتزاز بوجوده والتسليم بإمامته.
ومن هنا نرى أن أولياء الله الممحصين الذين ليس للفتن إلى قلوبهم ولا للضغط والظلم طريق إلى قوة إرادتهم... لا يرقى إليهم الشك في المهدي (عليه السلام). لأن العوامل النفسية والموانع المنحرفة لذلك غير موجودة لديهم. فيبقون على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، من الايمان بقدرته وحكمته، فيسلمون بنتيجة الدليل القطعي الدال على وجود المهدي.
ومن هذا المنطلق نعرف، أنه لو لم يكن الفكر الانساني مدركاً لذلك، بحيث أمكن سراية الشك إلى أولياء الله تعالى... لما غيب الله عنهم حجته طرفة عين.
لاستلزامه نقصان الحجة أو بطلانها بالنسبة إلى البشر، وهو مما لا يمكن أن يصدر من قبل الله تعالى، فانه ملازم من أحد أمرين غير ممكنين: أما إلغاء إمامته أو تكليف البشر بالاعتقاد بها بدون دليل، وكلاهما مما لا يكون... فيتعين المحافظة على ظهوره بالم