شرح زيارة آل ياسين
بقلم: علي الكوراني العاملي
الطبعة الأولى ١٤٣٤هـ - ٢٠١٣م
فهرس الموضوعات
المقدمة..................٣
الفصل الأول: حول سند الزيارة ونصها..................٥
نص الزيارة برواية الطبرسي (رحمه الله) في الاحتجاج..................٥
سند الزيارة ونصها برواية ابن المشهدي (رحمه الله)..................٨
النص الكامل للرواية..................١٥
هل الزيارة من كلام الإمام (عليه السلام) أو سفيره؟..................١٥
التوجه الى الله بأهل البيت (عليهم السلام) والتوجه اليهم..................٢١
الفصل الثاني: من مقامات الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)..................٢٣
(١) سلامٌ على آل ياسين..................٢٣
التعارض بين الظهور والنص..................٢٦
هل يصح الجمع بين المعنيين؟..................٢٨
كان نبي الله إلياس بعد نبي الله سليمان (عليه السلام)..................٢٩
(٢) السلام عليك يا داعيَ الله وربانيَّ آياته..................٣١
بطلان الأساس الذي قامت عليه الحركات الإسلامية!..................٣٢
لاحق لأحد أن يدعو الى الله تعالى إلا بإذنه..................٣٤
الدعاة الأصليون الى الله تعالى..................٣٩
دعوة الإمام المهدي العالمية..................٤٢
مقام الداعي الى الله تعالى..................٤٢
السلام عليك يا داعيَ الله وربانيَّ آياته..................٤٥
الربانيون والربيون والعالم الرباني..................٤٥
معنى آيات الله تعالى..................٤٧
أنواع آيات الله وأنواع الذين يتلونها..................٤٨
(٣) السلام عليك يا باب الله وديان دينه..................٥٠
معنى أن الإمام المهدي (عليه السلام) باب الله تعالى..................٥١
التكبر على أهل البيت (عليهم السلام) تكبر على الله تعالى!..................٥٣
السلام عليك يا باب الله وديان دينه..................٥٤
(٤) السلام عليك يا خليفة الله وناصر حقه..................٥٨
(٥) السلام عليك يا حجة الله ودليل إرادته..................٦٢
لمحة عن الإرادة الإلهية..................٦٥
عظمة مقام: دليل إرادته..................٦٨
لأنه دليل إرادة الله صار القدوة والأسوة..................٧٠
(٦) السلام عليك يا تالي كتاب الله وترجمانه..................٧١
(٧) السلام عليك يا بقية الله في أرضه..................٧٧
معنى بقية الله في أرضه..................٧٨
(٨) السلام عليك يا ميثاق الله الذي أخذه ووكَّده..................٨٠
كل ما نفعله هنا اخترناه في عالم الذر والميثاق..................٨٢
كل مقادير الإنسان اختارها في عالم الميثاق..................٨٢
أول من أجاب من المخلوقات رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)..................٨٣
وأول من أجاب من الملائكة مَلك الميثاق (عليه السلام)..................٨٤
أخذ الله ميثاق النبيين على الإقرار بنبينا (صلّى الله عليه وآله وسلم)..................٨٤
وأخذ الله ميثاق النبيين على نصرة نبينا (صلّى الله عليه وآله وسلم) في الرجعة..................٨٥
وأخذ الله ميثاق المؤمنين على البلايا والتحمل والصمت..................٨٧
وميثاق المؤمنين على محبة بعضهم..................٨٧
وميثاق الخلق على الإقرار بنبينا وآله (صلّى الله عليه وآله وسلم)..................٨٨
أما ميثاق المواثيق فهو: ولاية أهل البيت (عليهم السلام)..................٨٩
المواثيق العامة والمواثيق المؤكدة..................٩١
معنى: السلام عليك يا ميثاق الله..................٩١
(٩) السلام عليك يا وعدَ الله الذي ضَمِنَه..................٩٢
الوعد الإلهي بدولة العدل..................٩٢
تأكيد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) على حتمية الوعد الإلهي..................٩٤
الوعد الإلهي فوق المحتوم..................٩٦
(١٠) السلام عليك أيُّهَا العَلَمُ المَنْصُوب..................٩٧
معنى العَلَمُ المنصوب..................٩٧
معنى: العِلْمُ المَصْبُوب..................٩٨
الإمام المهدي غوث الأمة والعالم..................٩٩
الإمام المهدي: الرحمة الواسعة..................١٠٠
معنى: وعداً غيرَ مكذوب..................١٠١
الفصل الثالث: حب المؤمن لإمامه المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)..................١٠٣
وهل الإيمان إلا الحب والبغض؟..................١٠٣
يتفاوت الناس في طاقة الحب والبغض!..................١٠٤
ويحتاج الحب والبغض الى العقل والشرع..................١٠٥
حب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) أرقى أنواع الحب..................١٠٦
الفرق بين الحب والعشق..................١٠٩
ليس كل عشق مذموماً..................١١٠
جاذبية شخصية الإمام المهدي (عليه السلام)..................١١٢
الفصل الرابع: إشهاد الإمام (عليه السلام) على عقيدتنا..................١٢٣
معنى الإشهاد على العقيدة..................١٢٣
الشهادة للأئمة (عليهم السلام) بأنهم حجج الله تعالى..................١٢٥
أنتم الأول والآخر..................١٢٧
الشهادة بالآخرة والحساب..................١٢٨
الولاية المطلقة لأهل البيت (عليهم السلام)..................١٢٩
الولاية والبراءة أصلان في كل دين..................١٣٠
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم السلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطاهرين، لاسيما إمامنا المهدي المنتظر أرواحنا فداه.
وبعد، فإن ما يقرب من ربع المسلمين في العالم يعتقدون بوجود الإمام المهدي الموعود (عليه السلام)، وأنه غائب يعمل بأمر ربه، مع الخضر (عليه السلام) وجنود الله في الغيب، حتى يظهره الله تعالى، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً.
ويزوره كثير من المؤمنين كل يوم بزيارات بليغة، تعلموها من علمائهم وأئمتهم (عليهم السلام)، وهي تتضمن السلام عليه، وذكر أوصافه ومقامه عند الله تعالى، والطلب منه أن يشمل الزائر برضاه، ودعائه وشفاعته.
ومن الزيارات المشهورة له المعروفة بزيارة آل ياسين، لأنها تبدأ بالسلام على آل ياسين، وهم آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم).
↑صفحة ٣↑
وقد طلب مني بعض المؤمنين أن أشرحها، فكتبت هذا الكتيِّب، وركزت على المعاني أكثر من الألفاظ، لأن ذلك أنفع لعامة الناس.
وينبغي الإشارة الى بلاغة أهل البيت (عليهم السلام) التي يضرب بها المثل، لأنهم مع جدهم المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم) أفصح من نطق بالضاد، ومَلَكَ ناصية اللغة العربية، وصاغت أنامله العقود من مفرداتها.
إن زيارات الأئمة (عليهم السلام) بابٌ لم يعرفه الأدباء، وهو بابٌ غنيٌّ، جديرٌ بالتأمل والبحث، وأخص منه الزيارة المعروفة بالزيارة الجامعة، التي أملاها الإمام علي الهادي (عليه السلام)، والتي تشبه نصوصها زيارة آل ياسين.
نفعنا الله بحب النبي وآله، وزيارتهم، وشفاعتهم، إنه سميع مجيب.
كتبه بقم المشرفة
علي الكَوْرَاني العاملي
في العشرين من شعبان المعظم - ١٤٣٤
↑صفحة ٤↑
الفصل الأول: حول سند الزيارة ونصها
نص الزيارة برواية الطبرسي (رحمه الله) في الإحتجاج
١. سلامٌ على آل ياسين.
٢. السلامُ عليك يا داعيَ الله وربانيَّ آياته.
٣. السلام عليك يا بابَ الله ودَيَّانَ دينه.
٤. السلام عليك يا خليفةَ الله وناصرَ حقه.
٥. السلام عليك يا حجةَ الله ودليل إرادته.
٦. السلام عليك يا تاليَ كتاب الله وترجمانه.
٧. السلام عليك يا بقيةَ الله في أرضه.
٨. السلام عليك يا ميثاقَ الله الذي أخذه ووكَّده.
٩. السلام عليك يا وعدَ الله الذي ضمنه.
١٠. السلام عليك أيها العلمُ المنصوب، والعِلْمُ المصبوب، والغوْث والرحمة الواسعة، وعداً غير مكذوب.
١١. السلام عليك حين تقعد، السلام عليك حين تقوم.
↑صفحة ٥↑
١٢. السلام عليك حين تقرأ وتُبين.
١٣. السلام عليك حين تُصلي وتقنت.
١٤. السلام عليك حين تركع وتسجد.
١٥. السلام عليك حين تُكبر وتُهلل.
١٦. السلام عليك حين تحمد وتستغفر.
١٧. السلام عليك حين تُمسي وتصبح.
١٨. السلام عليك في الليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى.
١٩. السلام عليك أيها الإمام المأمون.
٢٠. السلام عليك أيها المُقَدَّمُ المأمول.
٢١. السلام عليك بجوامع السلام.
٢٢. أشهدك يا مولاي أني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
٢٣. وأن محمداً عبده ورسوله، لا حبيب إلا هو وأهله.
٢٤. وأشهد أن أمير المؤمنين حجته، والحسن حجته، والحسين حجته، وعلي بن الحسين حجته، ومحمد بن علي حجته، وجعفر بن محمد حجته، وموسى بن جعفر حجته، وعلي بن موسى حجته،
↑صفحة ٦↑
ومحمد بن علي حجته، وعلي بن محمد حجته، والحسن بن علي حجته، وأشهد أنك حجة الله.
٢٥. أنتم الأول والآخر، وأن رجعتكم حق لا شك فيها، يوم: (لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا).
٢٦. وأن الموت حق، وأن ناكراً ونكيراً حق.
٢٧. وأشهد أن النشر والبعث حق، وأن الصراط والمرصاد حق، والميزان والحساب حق، والجنة والنار حق، والوعد والوعيد بهما حق.
٢٨. يا مولاي شقيَ من خالفكم، وسَعِدَ من أطاعكم.
٢٩. فاشهد على ما أشهدتك عليه، وأنا وليٌّ لك، بريءٌ من عدوك، فالحق ما رضيتموه، والباطل ما سخطتموه، والمعروف ما أمرتم به، والمنكر ما نهيتم عنه. فنفسي مؤمنة بالله وحده لا شريك له، وبرسوله وبأمير المؤمنين، وبأئمة المؤمنين. بكم يا مولاي، أولكم وآخركم.
ونصرتي معدة لكم، ومودتي خالصة لكم. (الاحتجاج:٢/٣١٦)
↑صفحة ٧↑
سند الزيارة ونصها برواية ابن المشهدي (رحمه الله)
في كتاب المزار لمحمد بن جعفر المشهدي/٥٦٦:
زيارة مولانا الخلف الصالح صاحب الزمان عليه وعلى آبائه السلام:
حدثنا الشيخ الأجل الفقيه العالم أبو محمد، عربي بن مسافر العبادي (رضي الله عنه)، قراءةً عليه بداره بالحلة السيفية، في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين وخمس مائة.
وحدثني الشيخ العفيف أبو البقاء، هبة الله بن نماء بن علي بن حمدون (رحمه الله)، قراءة عليه أيضاً بالحلة السيفية، قالا جميعاً:
حدثنا الشيخ الأمين أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن علي بن طحال المقدادي (رحمه الله)، بمشهد مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، في الطرز الكبير الذي عند رأس الإمام (عليه السلام)، في العشر الأواخر من ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وخمس مائة، قال:
حدثنا الشيخ الأجل السيد المفيد أبو علي الحسن بن محمد الطوسي (رضي الله عنه) بالمشهد المذكور، في العشر الأواخر من ذي العقدة سنة تسع وخمس مائة، قال:
↑صفحة ٨↑
حدثنا السيد السعيد الوالد أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (رضي الله عنه)، عن محمد بن إسماعيل، عن محمد بن أشناس البزاز، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن يحيى القمي، قال: حدثنا محمد بن علي بن زنجويه القمي، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري، قال: قال أبو علي الحسن بن أشناس، وأخبرنا أبو المفضل محمد بن عبد الله الشيباني، أن أبا جعفر محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري أخبره وأجاز له جميع ما رواه، أنه خرج إليه من الناحية، حرسها الله، بعد المسائل والصلاة والتوجه، أوله:
بسم الله الرحمن الرحيم، لا لأمر الله تعقلون ولا من أوليائه تقبلون، (حكمةٌ بالغةٌ، وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ). والسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. فإذا أردتم التوجه بنا إلى الله تعالى وإلينا، فقولوا كما قال الله تعالى: سلام على آل يس. ذلك هو الفضل المبين، والله ذو الفضل العظيم، لمن يهديه صراطه المستقيم.
التوجه: قد آتاكم الله يا آل يس خلافته، وعِلْمَ مجاري أمره، فيما قضاه ودبره وأراده في ملكوته، وكشف لكم الغطاء، وأنتم خزنته وشهداؤه
↑صفحة ٩↑
وعلماؤه وأمناؤه، وساسة العباد، وأركان البلاد، وقضاة الأحكام، وأبواب الإيمان.
ومن تقديره منائح العطاء بكم، إنفاذه محتوماً مقروناً، فما شيء منه إلا وأنتم له السبب واليه السبيل، خياره لوليكم نعمة، وانتقامه من عدوكم سخطة، فلا نجاة ولا مفزع إلا أنتم، ولا مذهب عنكم، يا أعين الله الناظرة، وحملة معرفته، ومساكن توحيده في أرضه وسمائه.
وأنت يا حجة الله وبقيته، كمال نعمته، ووارث أنبيائه وخلفائه، ما بلغناه من دهرنا، وصاحب الرجعة لوعد ربنا، التي فيها دولة الحق وفرجنا، ونصر الله لنا وعزنا.
السلام عليك أيها العلم المنصوب، والعلم المصبوب، والغوث والرحمة الواسعة، وعداً غير مكذوب.
السلام عليك يا صاحب المرأى والمسمع، الذي بعين الله مواثيقه، وبيد الله عهوده، وبقدرة الله سلطانه.
أنت الحكيم الذي لا تعجله العصبية، والكريم الذي لا تبخله الحفيظة، والعالم الذي لا تجهله الحمية، مجاهدتك في الله ذات مشية الله
↑صفحة ١٠↑
ومقارعتك في الله ذات انتقام الله، وصبرك في الله ذو أناة الله، وشكرك لله ذو مزيد الله ورحمته.
السلام عليك يا محفوظاً بالله، الله نَوَّرَ أمامه ووراءه ويمينه وشماله وفوقه وتحته. السلام عليك يا مخزوناً في قدرة الله، الله نَور سمعه وبصره. السلام عليك يا وعد الله الذي ضمنه، ويا ميثاق الله الذي أخذه ووكده.
السلام عليك يا داعي الله ورباني آياته. السلام عليك يا باب الله وديان دينه. السلام عليك يا خليفة الله وناصر حقه. السلام عليك يا حجة الله ودليل إرادته. السلام عليك يا تالي كتاب الله وترجمانه. السلام عليك في آناء ليلك ونهارك. السلام عليك يا بقية الله في أرضه.
السلام عليك حين تقوم، السلام عليك حين تقعد، السلام عليك حين تقرأ وتبين، السلام عليك حين تصلي وتقنت، السلام عليك حين تركع وتسجد، السلام عليك حين تعوذ وتسبح، السلام عليك حين تهلل وتكبر، السلام عليك حين تحمد وتستغفر، السلام عليك حين تمجد وتمدح، السلام عليك حين تمسي وتصبح، السلام عليك في الليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى، السلام عليك في الآخرة والأولى.
↑صفحة ١١↑
السلام عليكم يا حجج الله ورعاتنا، وقادتنا وأئمتنا، وسادتنا وموالينا، السلام عليكم، أنتم نورنا، وأنتم جاهنا أوقاتَ صلواتنا، وعصمتنا لدعائنا وصلاتنا، وصيامنا واستغفارنا، وسائر أعمالنا.
السلام عليك أيها الإمام المأمول، السلام عليك بجوامع السلام. أشهدك يا مولاي، إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، لا حبيب إلا هو وأهله، وأن أمير المؤمنين حجته، وأن الحسن حجته، وأن الحسين حجته، وأن علي بن الحسين حجته، وأن محمد بن علي حجته، وأن جعفر بن محمد حجته، وأن موسى بن جعفر حجته، وأن علي بن موسى حجته، وأن محمد بن علي حجته، وأن علي بن محمد حجته، وأن الحسن بن علي حجته، وأنت حجته، وان الأنبياء دعاة وهداة رشدكم.
أنتم الأول والآخر وخاتمته، وإن رجعتكم حق لا شك فيها يوم، (لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)، وأن الموت حق، وأن منكراً ونكيراً حق، وأن النشر حـق، والبعث حق، وأن الصراط حق، والمرصاد حق، وأن الميزان حق، والحساب
↑صفحة ١٢↑
حق، وأن الجنة والنار حق، والجزاء بهما للوعد والوعيد حق، وأنكم للشفاعة حق، لا تُردون ولا تُسبقون بمشية الله، وبأمره تعملون.
ولله الرحمة والكلمة العليا، وبيده الحسنى، وحجة الله النعمى، خلق الجن والإنس لعبادته، أراد من عباده عبادته، فشقيٌّ وسعيد، قد شقي من خالفكم، وسعد من أطاعكم.
وأنت يا مولاي فاشهد بما أشهدتك عليه، تخزنه وتحفظه لي عندك، أموت عليه وأنشر عليه وأقف به، ولياً لك، بريئاً من عدوك، ماقتاً لمن أبغضكم، وادّاً لمن أحبكم. فالحق ما رضيتموه، والباطل ما سخطتموه، والمعروف ما أمرتم به، والمنكر ما نهيتم عنه، والقضاء المثبت ما استأثرت به مشيتكم، والمحو ما استأثرت به سنتكم.
فلا إله إلا الله وحده لا شريك له، ومحمد عبده ورسوله، وعلي أمير المؤمنين حجته، والحسن حجته، والحسين حجته، وعلي حجته، ومحمد حجته، وجعفر حجته، وموسى حجته، وعلي حجته، ومحمد حجته، وعلي حجته، والحسن حجته، وأنت حجته وأنتم حججه وبراهينه.
↑صفحة ١٣↑
أنا يا مولاي مستبشر بالبيعة التي أخذ الله عليَّ شرطها قتالاً في سبيله، اشترى به أنفس المؤمنين، فنفسي مؤمنة بالله وبكم يا مولاي، أولكم وآخركم، ونصرتي لكم معدة، ومودتي خالصة لكم، وبراءتي من أعدائكم، أهل الحردة والجدال ثابتة لثاركم.
أنا ولي وحيد، والله إله الحق يجعلني كذلك، آمين آمين. من لي إلا أنت فيما دِنت واعتصمت بك فيه، تحرسني فيما تقربت به إليك، يا وقاية الله وستره وبركته، أغثني أدركني، صلني بك ولا تقطعني.
اللهم إليك بهم توسلي وتقربي. اللهم صل على محمد وآله وصلني بهم ولا تقطعني، اللهم بحجتك اعصمني، وسلامك على آل يس.
مولاي، أنت الجاه عند الله ربك وربي).
↑صفحة ١٤↑
ملاحظات
النص الكامل للرواية:
هذا هو النص الكامل للزيارة برواية ابن المشهدي (رحمه الله)، وقد نص على حَذْف مسائل الحميري (رحمه الله) وأجوبة الإمام (عليه السلام) عليها من النص، وليته أوردها كاملة، لأنها جزءٌ من الرسالة توضح المقصود بالتوبيخ في الفقرة الأولى وهي قوله: لا لأمر الله تعقلون ولا من أوليائه تقبلون.. الخ.
فلا بد أن تكون جواباً لأناس طرحوا بعض المقولات.
ومع ثقتنا بصحة السند وأمانة الرواة، من محمد بن المشهدي الراوي الأول الى ابن جعفر الحميري الراوي الأخير، رضوان الله عليهم، فإنا نرى وجود خلل في نسخته، من أحد النساخ أو أكثر من واحد. ونتوقف في الدعاء المروي بعدها.
هل الزيارة من كلام الإمام (عليه السلام) أو سفيره؟
يمكن افتراض أن نص الزيارة من كلام الإمام المهدي (عليه السلام)، ولايرد عليه الإشكال: كيف يُعَلِّمُ الإمام المسلمين زيارة نفسه، لأن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)
↑صفحة ١٥↑
والأئمة (عليهم السلام) علموا المسلمين كيف يخاطبونهم ويزورونهم، ولا غرابة في ذلك، لأنهم معصومون، لا ينطقون عن الهوى.
لكن المرجح عندنا أن يكون جواب المسائل فقط من الإمام (عليه السلام) والزيارة من نص السفير الحسين بن روح (رضي الله عنه)، لأن الحميري كان يكاتب الإمام عن طريقه، وكان يملي له بعض الأجوبة.
قال الحر العاملي في الوسائل (٢٠/ ٣١): (واعلم أنه قد روى الشيخ في كتاب الغيبة جميع مسائل إسحاق بن يعقوب وجواباتها من صاحب الزمان (عليه السلام) عن جماعة..وروى جميع مسائل محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري عن صاحب الزمان (عليه السلام)، عن جماعة عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن داود قال: وجدت بخط أحمد بن إبراهيم النوبختي، وإملاء أبي القاسم الحسين بن روح، وذكر المسائل كما رواها الطبرسي).
وقال الشيخ الطوسي في الغيبة/٣٧٣: (أخبرنا جماعة عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن داود القمي قال: وجدت بخط أحمد بن إبراهيم النوبختي، وإملاء أبي القاسم الحسين بن روح (رضي الله عنه)، على ظهر كتاب فيه جوابات ومسائل أنفذت من قم، يسأل عنها: هل هي جوابات الفقيه
↑صفحة ١٦↑
(عليه السلام) أو جوابات محمد بن علي الشلمغاني، لأنه حكي عنه أنه قال: هذه المسائل أنا أجبت عنها، فكتب إليهم على ظهر كتابهم:
بسم الله الرحمن الرحيم: قد وقفنا على هذه الرقعة وما تضمنته فجميعه جوابنا عن المسائل، ولا مدخل للمخذول الضال المضل المعروف بالعزاقري لعنه الله، في حرف منه).
فنلاحظ أن الحسين بن روح رضوان الله عليه قال إنها (جوابنا) وهو أعم من أن يكون بخط الإمام (عليه السلام) ونصه، أو بمضمونه عن الإمام (عليه السلام) ونص معتمده الحسين بن روح. وليس عجيباً على مثل ابن روح في جلالة قدره وعلمه ومنزلته الخصيصة، أن يأمره الإمام (عليه السلام) بالإجابة في نوع من المسائل، ويخوله بأن يُعَلِّمَ الشيعة زيارة الأئمة (عليهم السلام).
وهذا الإحتمال لا يقلل من قيمة زيارة آل ياسين، خاصة وأن بلاغتها من نوع كلام الأئمة (عليهم السلام)، فإن تكن من إملاء السفير الحسين بن روح (رضي الله عنه)، فهو أتقى من أن يقول شيئاً في الدين ومقامات الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، لم يسمعه من إمامه المهدي (عليه السلام) بلفظه أو بمعناه.
ويدل على ذلك هذه القصة البليغة عنه (رحمه الله) التي رواها الصدوق (رحمه الله) في علل الشرائع (١/٢٤١) قال: (حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني
↑صفحة ١٧↑
(رضي الله عنه) قال:كنت عند الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح قدس الله روحه، مع جماعة فيهم على بن عيسى القصري، فقام إليه رجل فقال له: أريد أسألك عن شئ، فقال له: سل عما بدا لك، فقال الرجل: أخبرني عن الحسين بن علي (عليهما السلام) أهو ولي الله؟ قال: نعم. قال: أخبرني عن قاتله لعنه الله، أهو عدو الله؟ قال: نعم.
قال الرجل: فهل يجوز أن يسلط الله عدوه على وليه؟!
فقال له أبو القاسم قدس الله روحه: إفهم عني ما أقول لك، إعلم أن الله تعالى لا يخاطب الناس بشهادة العيان، ولا يشافههم بالكلام، ولكنه (عزَّ وجلَّ) بعث إليهم رسلاً من أجناسهم وأصنافهم، بشراً مثلهم، فلو بعث إليهم رسلاً من غير صنفهم وصورهم لنفروا عنهم ولم يقبلوا منهم، فلما جاؤوهم وكانوا من جنسهم، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، قالوا لهم: أنتم مثلنا فلا نقبل منكم حتى تأتونا بشيء نعجز أن نأتي بمثله، فنعلم أنكم مخصوصون دوننا بما لا نقدر عليه. فجعل الله تعالى لهم المعجزات التي يعجز الخلق عنها، فمنهم من جاء بالطوفان بعد الإنذار والإعذار، فغرق جميع من طغى وتمرد، ومنهم من ألقيَ في النار فكانت عليه برداً وسلاماً، ومنهم من أخرج
↑صفحة ١٨↑
له من الحجر الصلد ناقة وأجرى في ضرعها لبناً، ومنهم من فلق له البحر وفجر له من الحجر العيون، وجعل له العصا اليابسة ثعباناً فتلقف ما يأفكون. ومنهم من أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى بإذن الله تعالى، وأنبأهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم. ومنهم من انشق له القمر وكلمته البهائم، مثل البعير والذئب وغير ذلك.
فلما أتوا بمثل ذلك وعجز الخلق من أممهم عن أن يأتوا بمثله، كان من تقدير الله تعالى ولطفه بعباده وحكمته، أن جعل أنبياءه (عليهم السلام) مع هذه المعجزات، في حالٍ غالبين وفي أخرى مغلوبين، وفي حالٍ قاهرين وفي حالٍ مقهورين.
ولو جعلهم (عزَّ وجلَّ) في جميع أحوالهم غالبين وقاهرين، ولم يبتلهم ولم يمتحنهم، لاتخذهم الناس آلهة من دون الله تعالى، ولما عُرِفَ فضل صبرهم على البلاء والمحن والاختبار.
ولكنه (عزَّ وجلَّ) جعل أحوالهم في ذلك كأحوال غيرهم، ليكونوا في حال المحنة والبلوى صابرين، وفي حال العافية والظهور على الأعداء شاكرين، ويكونوا في جميع أحوالهم متواضعين غير شامخين ولا متجبرين، وليعلم العباد أن لهم (عليهم السلام) إلهاً هو خالقهم ومدبرهم فيعبدوه
↑صفحة ١٩↑
ويطيعوا رسله، وتكون حجة الله تعالى ثابتة على من تجاوز الحد فيهم، وادعى لهم الربوبية، أو عاند وخالف وعصى وجحد بما أتت به الأنبياء والرسل (عليهم السلام): (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ).
قال محمد بن إبراهيم بن إسحاق (رضي الله عنه): فعدت إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح قدس الله روحه من الغد، وأنا أقول في نفسي: أتراه ذكر ما ذكر لنا يوم أمس من عند نفسه؟
فابتدأني فقال لي: يا محمد بن إبراهيم، لأن يُلْقَى بي من شاهق، أو أَخِرَّ من السماء فتخطفني الطير أو تهوي بي الريح في مكان سحيق، أحبُّ إليَّ من أن أقول في دين الله تعالى ذكره برأيي ومن عند نفسي، بل ذلك عن الأصل، ومسموع من الحجة صلوات الله وسلامه عليه).
أقول: هذا يدل على مقام عظيم للحسين بن روح (قدس سره) وأنه عرف ما في نفس الشخص، وأن ما يقوله سفراء الإمام (رضي الله عنه)م، لا يقولونه إلا بعلم ويقين، وليس باجتهاد وظن، كما يفعل كثير من المؤلفين في عصرنا!
↑صفحة ٢٠↑
التوجه الى الله بأهل البيت (عليهم السلام) والتوجه اليهم
معنى قول الإمام (عليه السلام): فإذا أردتم التوجه بنا إلى الله تعالى، والينا، فقولوا..
أنكم إذا أردتم التوسل بنا الى الله تعالى، فأثنوا عليه، ثم اذكروا مقامنا عنده، وتوسلوا بنا اليه (عزَّ وجلَّ).
قال الإمام الباقر (عليه السلام): (إذا أردت أمراً تسأله ربك، فتوضأ وأحسن الوضوء ثم صل ركعتين، وعظم الله وصل على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وقل بعد التسليم: اللهم إني أسألك بأنك مَلِكٌ وأنك على كل شيء قدير مقتدر، وبأنك ما تشاء من أمرٍ يكون.
اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة. يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى الله ربك وربي لينجح لي طلبتي. اللهم بنبيك أنجح لي طلبتي بمحمد. ثم سل حاجتك). (الكافي:٣/٤٧٨).
وفي التهذيب (٦/١٠١): (اللهم إني لو وجدت شفعاء أقرب إليك من محمد وأهل بيته الأخيار الأئمة الأبرار، لجعلتهم شفعائي، فبحقهم الذي أوجبت لهم عليك أسألك أن تدخلني في جملة العارفين بهم).
↑صفحة ٢١↑
أما التوجه الى الأئمة (عليهم السلام) في الدعاء، فهو أعلى من التوجه بهم، لأن التوجه بهم يعني أنهم وسيلة الى الله ولا يركز على شخصياتهم، بينما التوجه اليهم يعني أنهم مركز نور الله تعالى وتجلي أسمائه، كما قال (عزَّ وجلَّ): (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاة..) فيكون التوجه اليهم في طريق التوجه الى الله تعالى ومدخلاً اليه، لا أنه بدل التوجه اليه، كما يزعم النواصب!
ويؤيد ذلك الأحاديث الصحيحة في أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) هم وجه الله الذي منه يؤتى، فيكون التوجه اليهم توجهاً الى الله تعالى.
ففي الكافي (١/١٤٣) أن الإمام الصادق (عليه السلام): (سُئل عن قول الله تبارك وتعالى: كُلُّ شيء هَالِكٌ إلا وَجْهَه، فقال: ما يقولون فيه؟ قلت: يقولون: يهلك كل شيء إلا وجه الله! فقال: سبحان الله لقد قالوا قولاً عظيماً! إنما عني بذلك وجه الله الذي يؤتى منه).
وفي زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام): (أشهد لك يا ولي الله وولي رسوله بالبلاغ والأداء، وأشهد أنك جنب الله، وأنك باب الله، وأنك وجه الله الذي منه يؤتى، وأنك سبيل الله، وأنك عبد الله وأخو رسوله). (كامل الزيارات/١٠٠).
هذا، وقد اعتمدنا في الشرح نص الاحتجاج، لأنه مختصرٌ وكافٍ لغرضنا.
↑صفحة ٢٢↑
الفصل الثاني: من مقامات الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) عند الله تعالى
(١) سلامٌ على آل ياسين
قال تعالى: (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ. أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ. اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ. وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ. سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ. إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ). (الصافات١٢٣- ١٣٢).
الموجود في القرآن: سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ. بكسر الهمزة، وهو قراءة الأكثر. وقرأ أهل المدينة وأهل البيت (عليهم السلام) وغيرهم: آل ياسين. فيكون المعنى على الكسر: سلام على إلياس، وعُبِّرَ عنه بإل ياسين. وعلى الفتح: سلامٌ على آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، لأن ياسين هو محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم).
↑صفحة ٢٣↑
قال العيني في عمدة القاري (١٥/٢٢٣): (قرأ ابن عامر ونافع ويعقوب: آل ياسين، بالمد. والباقون إلياسين بالقطع والقطر. فمن قرأ آل ياسين بالمد فإنه أراد آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم). وقيل أراد إلياس، وهو أليق بسياق الآية.
ومن قرأ إلياسين فقد قيل إنها لغة في إلياس، مثل إسماعيل وإسماعين وميكائيل وميكائين. وقال الزمخشري: قرئ على إلياسين وإدريسين وإدراسين، على أنها لغات في إلياس وإدريس).
قال الطبري في تفسيره (٢٣/١١٥): (وقرأ ذلك عامة قراء المدينة: سلام على آل ياسين، بقطع آل من ياسين، فكان بعضهم يتأول ذلك بمعنى: سلام على آل محمد).
وقال ابن حجر في فتح الباري (٦/٢٦٥): (وإلياس بهمزة قطع، وهو إسم عبراني. وأما قوله تعالى سلامٌ على إلياسين، فقرأه الأكثر بصورة الاسم المذكور وزيادة ياء ونون في آخره، وقرأ أهل المدينة آل ياسين بفصل آل من ياسين، وكان بعضهم يتأول أن المراد سلامٌ على آل محمد وهو بعيد، ويؤيد الأول أن الله تعالى إنما أخبر في كل موضع ذكر فيه نبياً من الأنبياء في هذه السورة بأن السلام عليه، فكذلك السلام في
↑صفحة ٢٤↑
هذا الموضع على الياس المُبدأ بذكره، وإنما زيدت فيه الياء والنون كما قالوا في إدريس إدراسين. والله أعلم).
وقال في فتح القدير (٤/٤٠٩): (قال الكلبي:المراد بآل ياسين آل محمد.قال الواحدي: وهذا بعيد لأن ما بعده من الكلام وما قبله لا يدل عليه).
وروى الطبراني في المعجم الكبير (١١/٥٦) عن ابن عباس قال عن إل ياسين: (نحن آل محمد). وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد (٩/١٧٤) بموسى بن عمير، واتهمه بالكذب. لكن رواه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل (٢/١٦٥) بطرق أخرى صحيحة عن ابن عباس وعن الصادق (عليه السلام) ليس فيها موسى بن عمير. ورواه عن علي (عليه السلام) قال: رسول الله ياسين، ونحن آله.
وروته مصادرنا، ففي أمالي الصدوق/ ٥٥٨، عن علي (عليه السلام) وابن عباس. وفي أمالي الصدوق/٦٢٢: قال الإمام الرضا (عليه السلام) للعلماء عند المأمون: (أخبروني عن قول الله (عزَّ وجلَّ): (يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). فمن عنى بقوله: (يس)؟
قالت العلماء: يس محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) لم يشك فيه أحد.
قال أبو الحسن (عليه السلام) فإن الله أعطى محمداً وآل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) من ذلك فضلاً لايبلغ أحد كنه وصفه إلا من عقله، وذلك أن الله لم يُسلم على أحد إلا
↑صفحة ٢٥↑
على الأنبياء، فقال تبارك وتعالى: سَلامٌ على نوحٍ في العالمين، وقال: سَلامٌ على إبراهيم. وقال: سَلامٌ على موسى وهارون. ولم يقل: سلام على آل نوح، ولم يقل: سلام على آل موسى، ولا على آل إبراهيم، وقال: سلام على آل ياسين، يعني آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)).
وروى نحوه في معاني الأخبار/١٢٢، وروى عن أبي عبد الرحمن السلمي أن عمر بن الخطاب كان يقرأ: سلامٌ على آل ياسين. قال أبو عبد الرحمن السلمي: آلُ ياسين آلُ محمد).
التعارض بين الظهور والنص
ذكر الله نوحاً (عليه السلام) في سياق الآيات وختم بقوله: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ. سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ. إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ). (الصافات:٧٨-٨١).
ثم ذكر إبراهيم (عليه السلام) وختم بقوله: (سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ.كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ). (الصافات:١٠٨-١١١).
ثم ذكر موسى وهارون (عليهما السلام) وختم بقوله: (سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ. إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ). (الصافات:١١٩-١٢٢).
↑صفحة ٢٦↑
ثم ذكر إلياس (عليه السلام) بقوله: (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ. أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ. اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَلِينَ. فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. إِلا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ. وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ. سَلامٌ عَلَى إِلْيَاسِينَ. إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ). (الصافات:١٢٣-١٣٢).
ثم ذكر الله تعالى لوطاً ويونس (عليهما السلام) ولم يختم آياتهما بالسلام عليهما.
ثم تحدث عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وتكذيب المكذبين له، وختم السورة بقوله: (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ. وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). (الصافات:١٧٨-١٨٢).
فظاهر السياق أن التسليم في الآية على إلياس نفسه خاصة، بقرينة قوله بعدها: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ). بينما الرواية المستفيضة تنص على أن التسليم فيها على آل ياسين، الذين هم آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)!
وقد يقال: لو كان السلام فيها على آل ياسين، فلماذا لم يذكرها في سورة ياسين، وذكرها بعد إلياس؟
أقول: نعم، هذا ظاهر السياق، لكن إذا تعارض الظهور مع النص عن المعصوم (عليه السلام) وجب تقديم النص على الظهور، لأن المعصوم (عليه السلام)
↑صفحة ٢٧↑
هو المفسر الشرعي للقرآن، وكلامه مقدم على ما يظهر لنا منه بَدْواً، لأنه أعرف بمعانيه، ولذا رجحنا تفسيرها بآل ياسين آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم).
هل يصح الجمع بين المعنيين؟
هل يمكن أن يكون إلياسين مستعملاً بمعنيين، فيكون معناه: سلامٌ على إلياس، وعلى آل ياسين معاً. وهل لإلياس (عليه السلام) علاقة بآل محمد (عليهم السلام) لأن إسمه إيليا، وهو إسم علي (عليه السلام) في كتب الأنبياء (عليهم السلام)؟
هذا احتمال، لكن استعمال اللفظ في معنيين وأكثر ورد في القرآن كقوله تعالى: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا)، فهو بمعنى العدوان والركض معاً. وقوله تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)، فهو بثلاث معانٍ: كوثر الذرية، وحوض الكوثر في المحشر، ونهر الكوثر في الجنة.
كان نبي الله إلياس بعد نبي الله سليمان (عليهما السلام)
ذكر المسعودي في مروج الذهب (١/٧٥) أن نبي الله إلياس كان بين سليمان والمسيح (عليهما السلام). وذكر الطبري (١/٣٢٥) أنه بعث الى بني إسرائيل، وكانوا يعبدون الإله بعل. ويبدو أن صاحب معبد بعلبك المعروفة.
↑صفحة ٢٨↑
وفي قاموس الكتاب المقدس/١٤٤، أن إلياس هو إيليا: (اسم عبري ومعناه إلهي يهوه، والصيغة اليونانية لهذا الاسم هي إلياس وتستعمل أحياناً في العربية. وهو نبي عظيم عاش في المملكة الشمالية. وبما أنه يدعى التشبي فيرجح أنه ولد في تشبة ولكنه عاش في جلعاد (١ مل ١٧: ١) وكان عادة يلبس ثوباً من الشعر (مسوحاً) ومنطقة من الجد (٢ مل١: ٨) وكان يقضي الكثير من وقته في البرية (١مل١٧: ٥ وص ١٩) وبما أن إيزابل ساقت زوجهما وشعب بني إسرائيل إلى عبادة البعل، فقد تنبأ إيليا بأن الله سيمنع المطر عن بني إسرائيل. واعتزل النبي إلى نهر كريت، وكانت الغربان تعوله وتأتي إليه بالطعام، وبعد أن جف النهر ذهب إلى صرفة (الصرفند في لبنان) وبقي في بيت امرأة أرملة، ووفقاً لوعد إيليا لها لم يفرغ من بيتها الدقيق والزيت طوال مدة الجفاف).
وذكرته روايات أهل البيت (عليهم السلام)، ومنها أن الإمام الصادق كان يقرأ دعاء الياس بالسريانية. قال المفضل بن عمرو (الكافي:١/٢٧٧): (أتينا باب أبي عبد الله (عليه السلام) ونحن نريد الإذن عليه فسمعناه يتكلم بكلام ليس بالعربية فتوهمنا أنه بالسريانية ثم بكى فبكينا لبكائه، ثم خرج إلينا
↑صفحة ٢٩↑
الغلام فأذن لنا فدخلنا عليه فقلت: أصلحك الله أتيناك نريد الإذن عليك فسمعناك تتكلم بكلام ليس بالعربية، فتوهمنا أنه بالسريانية، ثم بكيت فبكينا لبكائك، فقال: نعم ذكرت إلياس النبي (عليه السلام) وكان من عُبَّاد أنبياء بني إسرائيل، فقلت كما كان يقول في سجوده، ثم اندفع فيه بالسريانية، فلا والله ما رأينا قساً ولا جاثليقاً أفصح لهجةً منه به، ثم فسره لنا بالعربية فقال: كان يقول في سجوده: أتراك معذبي وقد أظمأت لك هواجري، أتراك معذبي وقد عفرت لك في التراب وجهي أتراك معذبي وقد اجتنبت لك المعاصي، أتراك معذبي وقد أسهرت لك ليلي! قال: فأوحى الله إليه أن ارفع رأسك فإني غير معذبك.
قال فقال: إن قلتَ لا أعذبك ثم عذبتني، ماذا؟ ألست عبدك وأنت ربي؟ قال: فأوحى الله إليه أن ارفع رأسك فإني غير معذبك، إني إذا وعدت وعداً وفيت به).
↑صفحة ٣٠↑
(٢) السلام عليك يا داعيَ الله وربانيَّ آياته
معنى الدعوة الى الله تعالى: أن تطلبَ من الشخص أن يدخل في دين الله، أو تطلب منه أن يطيع أوامر الله تعالى ونواهيه.
فهي دعوة الى الدخول في الإسلام، أو الدخول في الطاعة.
وتدل على أن الداعي الى ذلك، له الحق في أن يطلب ويأمر وينهى!
والسؤال: مَن الذي يعطي حق دعوة الناس الى الله تعالى؟
يقول بعضهم: هذا حق طبيعي لكل إنسان لقوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ). (فُصِّلَتْ:٣٣).
لكن ذلك لا يصح، لأن الممدوح في الآية من له حق الدعوة، وليس فيها إعطاء هذا الحق الى أحد، بل يدل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا). على أن الدعوة الى الله من مناصب الرسالة، وأنها يجب أن تكون بإذن الله ولا تجوز بدون إذنه! فهي كالشفاعة يجب أن تكون بإذنه: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ).
↑صفحة ٣١↑
بطلان الأساس الذي قامت عليه الحركات الإسلامية!
يتصور بعضهم أن الدعوة الى الإسلام لا تحتاج إلى إذن شرعي لأنها حق لكل مسلم وواجب عليه بقوله تعالى: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ، فهو خطاب للمسلمين جميعاً كقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)، فأي مسلم تصدى لإقامة الدين كان له حق قيادة الأمة، ووجب عليها بيعته وطاعته.
وعلى هذا الأساس قامت خلافة أبي بكر وعمر ومَن بعدهما الى العثمانيين، وبعدها الحركات التي تدعو الى الخلافة الإسلامية، باستثناء خلافة علي وأهل البيت (عليهم السلام) التي قامت على النص.
ولهذا، عندما تصدى الشيخ حسن البنا للدعوة وأسس حركة، كان له حق القيادة، ووجب على الأمة بيعته وطاعته!
وكذا عندما أسس الشيخ تقي الدين النبهاني حزب التحرير في الأردن لإقامة الخلافة، كانت قيادته شرعية، ووجب على الأمة بيعته!
وكذلك قال الوهابيون وأن شيخهم ابن عبد الوهاب تصدى لإقامة الدين ومواجهة الخلافة العثمانية، فكان له حق القيادة ووجبت بيعته!
↑صفحة ٣٢↑
وكذلك عندما أسس عبد الصاحب دْخَيِّل أبو عصام (رحمه الله): الدعوة الإسلامية، متأثراً بالإخوان المسلمين، كان يرى أن تصديه لعمل الدعوة يعطيه الشرعية لقيادة الأمة، كما كان يرى حسن البنا.
وكان أبو عصام (رحمه الله) يرى أن قائد الحركة أو المرشح للخلافة، عليه أن يستعين بفقهاء، فيختار من فتاويهم ما يراه مصلحة للدعوة أو الأمة.
وقد طبق ذلك عندما كلف السيد الصدر بكتابة: الأسس الإسلامية، فكتب فيها أن الدعوة تتبنى رأياً يقبل توبة المرتد عن ملة أو فطرة.
وهكذا يرى قادة الحركات الإسلامية أنهم يستمدون شرعيتهم من نفس حركتهم وتصديهم، ويجب على الأمة بيعتهم وطاعتهم!
لكن الإشكال الذي لا جواب له عندهم: كيف تتعقلون أن يوجب الله تعالى إقامة الدين، ويترك ذلك مهملاً بدون آلية!
وهل يعقل أن ينزل الله ديناً ثم يقول لأتباعه: كل من تصدى منكم لإقامته فهو قائد شرعي، وهو خليفة لي ويمثلني!
وهل هذا إلا فتحٌ لباب الصراع على السلطة، ودعوةٌ لتعدد القيادات وصراعها، حتى في البلد الواحد، والحي الواحد، والبيت الواحد!
وهل هذا إلا هرطقة ونسبة العبث والظلم الى الله، تعالى عن ذلك!
↑صفحة ٣٣↑
لاحق لأحد أن يدعو الى الله تعالى إلا بإذنه
حصر مذهب أهل البيت (عليهم السلام) المأذون لهم بالدعوة إلى الإسلام بالمعصومين أي النبي والأئمة (عليهم السلام) فقط. (تهذيب الأحكام:٦/١٣١).
فالمعصوم وحده هو المخوَّل بدعوة الناس والشعوب إلى الإسلام، لأنه مُنزَّهٌ عن ظلمهم، وضامنٌ للعدل فيهم.
فقد سأل أبو عمرو الزبيري الإمام الصادق (عليه السلام): (أخبرني عن الدعاء إلى الله والجهاد في سبيله، أهو لقوم لا يحل إلا لهم ولا يقوم به إلا من كان منهم، أم هو مباح لكل من وحد الله (عزَّ وجلَّ) وآمن برسوله، ومن كان كذا فله أن يدعو إلى الله (عزَّ وجلَّ) وإلى طاعته، وأن يجاهد في سبيله؟ فقال (عليه السلام): ذلك لقوم لا يحل إلا لهم، ولا يقوم بذلك إلا من كان منهم. قلت: من أولئك؟ قال: من قام بشرائط الله (عزَّ وجلَّ) في القتال والجهاد على المجاهدين فهو المأذون له في الدعاء إلى الله (عزَّ وجلَّ)، ومن لم يكن قائماً بشرائط الله (عزَّ وجلَّ) في الجهاد على المجاهدين، فليس بمأذون له في الجهاد ولا الدعاء إلى الله حتى يُحَكِّم في نفسه ما أُخذ الله عليه من شرائط الجهاد.
↑صفحة ٣٤↑
قلت: فبيِّن لي يرحمك الله. قال: إن الله تبارك وتعالى أخبر في كتابه عن الدعاء إليه، ووصف الدعاة إليه فجعل ذلك لهم درجات يعرف بعضها بعضاً، ويستدل بعضها على بعض، فأخبر أنه تبارك وتعالى أول من دعا إلى نفسه، ودعا إلى طاعته واتباع أمره، فبدأ بنفسه فقال: (وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). ثم ثنى برسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقال: (أُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). يعني بالقرآن. ولم يكن داعياً إلى الله (عزَّ وجلَّ) من خالف أمر الله ويدعو إليه بغير ما أمر في كتابه والذي أمر أن لا يدعى إلا به. وقال: في نبيه (صلّى الله عليه وآله وسلم): (وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). يقول: تدعو. ثم ثَلَّثَ بالدعاء إليه بكتابه أيضاً، فقال تبارك وتعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ). أي يدعو ويبشر المؤمنين.
ثم ذكر من أذن له في الدعاء إليه بعده وبعد رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في كتابه فقال: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
ثم أخبر عن هذه الأمة وممن هي، وأنها من ذرية إبراهيم ومن ذرية إسماعيل من سكان الحرم، ممن لم يعبدوا غير الله قط، الذين وجبت
↑صفحة ٣٥↑
لهم الدعوة دعوة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) من أهل المسجد، الذين أخبر عنهم في كتابه أنه (أَذْهَبَ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وطَهَّرَهُمْ تَطْهِيرَا..).
ثم أخبر تبارك وتعالى أنه لم يأمر بالقتال إلا أصحاب هذه الشروط، فقال (عزَّ وجلَّ): (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ..).
وذلك أن جميع ما بين السماء والأرض لله (عزَّ وجلَّ) ولرسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ولأتباعهما من المؤمنين من أهل هذه الصفة.
فما كان من الدنيا في أيدي المشركين والكفار والظلمة والفجار من أهل الخلاف لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) والمولي عن طاعتهما، مما كان في أيديهم ظلموا فيه المؤمنين من أهل هذه الصفات وغلبوهم عليه، مما أفاء الله على رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فهو حقهم أفاء الله عليهم ورده إليهم، وإنما معنى الفيء كل ما صار إلى المشركين ثم رجع، مما كان قد غُلب عليه أو فيه. فما رجع إلى مكانه من قول أو فعل، فقد فاء.
وإن لم يكن مستكملاً لشرائط الإيمان فهو ظالم، ممن يبغي ويجب جهاده حتى يتوب! وليس مثله مأذوناً له في الجهاد والدعاء إلى الله (عزَّ وجلَّ)، لأنه ليس من المؤمنين المظلومين، الذين أذن لهم في القرآن في القتال.
↑صفحة ٣٦↑
فليتق الله (عزَّ وجلَّ) عبدٌ، ولا يغترَّ بالأماني التي نهى الله (عزَّ وجلَّ) عنها، من هذه الأحاديث الكاذبة على الله التي يُكذبها القرآن، ويتبرأ منها ومن حملتها ورواتها). (الكافي:٥/١٣).
أقول: هذا الحديث صريح في أن دعوة الناس إلى دين الله مَنصبُ نيابةٍ عن الله تعالى، يحتاج إلى نص، وليس تبرعاً، أو تطوعاً مفتوحاً لكل الناس.
ويدل من ناحية حقوقية، على أن الدعوة فيها تصرفٌ في حقوق العباد وأنفسهم وأموالهم، فهي تحتاج إلى مُجَوِّزِ قانوني من المالك (عزَّ وجلَّ).
بل ورد التصريح بذلك في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) الى كميل بن زياد (رحمه الله)، كما في تحف العقول لابن شعبة/٩١، وبشارة المصطفى للطبري/٥١، بسنده الى كميل من وصيته له، جاء فيها: (يا كميل أرأيت لو أن الله لم يُظهر نبياً وكان في الأرض مؤمن تقي، أكان في دعائه إلى الله مخطئاً أو مصيباً؟ بل والله مخطئاً حتى ينصبه الله (عزَّ وجلَّ)، ويؤهله)!
ونلاحظ تعبير أمير المؤمنين (عليه السلام): ينصبه ويؤهله، فالدعوة الى الله منصبٌ لا تصح الدعوة إلا به، وهو منصب لا يعطيه الله تعالى إلا لمن يؤهله تأهيلاً خاصاً، ليكون مُعَبِّراً عن الله تعالى، رحيماً بمن يدعوه، لا يريد رئاسة عليه ولا جعله عضواً مطيعاً في حزبه وحلقته، كما يفعل أعضاء الحركات!
↑صفحة ٣٧↑
ومن هنا أجمع فقهاؤنا على أن القيادة الشرعية إنما هي للإمام المعصوم (عليه السلام) وبعده للفقيه الجامع للشروط، وفي حدود ما خوله المعصوم (عليه السلام) لا أكثر.
بل روى أتباع المذاهب الأخرى أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) حصر هذا الحق في أعلم الأمة وأفقهها، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلم): (من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه، وفي المسلمين من هو أعلم منه، فهو ضال متكلف)! (الكافي:٥/٢٧).
وفي مغني ابن قدامه (٢/٢٠) عن رسالة أحمد بن حنبل: (إذا أمَّ الرجل القوم وفيهم من هو خير منه، لم يزالوا في سِفَال).
وفي طبقات الحنابلة (١/٣٥٩): (ومن الحق الواجب على المسلمين أن يقدموا خيارهم وأهل الدين والفضل منهم، وأهل العلم بالله تعالى، الذين يخافون الله (عزَّ وجلَّ) ويراقبونه. وقد جاء الحديث: إذا أمَّ بالقوم رجلٌ وخلفه من هو أفضل منه، لم يزالوا في سفال). ورواه السيوطي في الفتح الكبير(٣/١٦).
وفي مجموع النووي (١/٤١): (قال مالك: ولا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلاً لشئ، حتى يسأل من هو أعلم منه).
وفي مصنف عبد الرزاق (٥/٤٤٥) بسند صحيح: (من دعا إلى إمارة نفسه أو غيره من غير مشورة من المسلمين، فلا يحل لكم إلا أن تقتلوه)!
↑صفحة ٣٨↑
وعلى هذا، يجب على المسلمين الشيعة أخذ الشرعية في دعوتهم الى الإسلام من المرجع الجامع للشروط، وإلا فلا شرعية لعملهم!
ويجب على السنة أن يأخذوا الشرعية لدعوتهم من أعلم الفقهاء في المذاهب ثم ببيعة أهل الحل والعقد من المسلمين، وإلا فلا شرعية لعملهم!
الدعاة الأصليون الى الله تعالى
السلام عليك يا داعيَ الله: تعني أن الإمام المهدي (عليه السلام) منصوبٌ من الله لدعوة الناس اليه، وأن الذي يعطيه الله هذا المنصب ويبعثه لهذه المهمة لا بد أن يعطيه لوازم الدعوة ووسائلها من العلم والقدرات الأخرى، ولذلك سمي المهدي، لأن ربه يهديه الى كل ما يحتاجه الناس.
وكذلك الأئمة الاثنا عشر (عليهم السلام) فهم الدعاة الرسميون الى الله تعالى. كما في الزيارة الجامعة: (السلام على الأئمة الدعاة، والقادة الهداة).
ودعوتهم (عليهم السلام) الى الله تعالى امتدادٌ لدعوة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) الذي أمره ربه أن يستخلفهم، فهو داعي الله الأكبر (صلّى الله عليه وآله وسلم): (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ الله.. وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ). (الأحقاف:٣١- ٣٢).
↑صفحة ٣٩↑
فالأئمة (عليهم السلام) دعاة الى الله باستخلاف رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، والمؤمنون إنما يدعون الى الله تعالى بإذن النبي والأئمة (عليهم السلام) ومن ناب عنهم.
والنتيجة: أن داعيَ الله الأكبر هو رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وبعده الأئمة من عترته (عليهم السلام) فهم دعاة الى الله تعالى أيضاً، وكل الدعاة عبر الأجيال لا بد أن يكونوا مأذونين من الداعي المأذون من الله تعالى وداعين بدعوته.
ونقرأ في رسالة الإمام الباقر (عليه السلام) الى سعد الخير الأموي (رحمه الله) (الكافي:٨/٥٦): يصف فيها الأئمة الدعاة الى الله (عليهم السلام): (إن الله (عزَّ وجلَّ) جعل في كل من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون معهم على الأذى، يجيبون داعيَ الله، ويدعون إلى الله. فأبصرهم رحمك الله فإنهم في منزلة رفيعة، وإن أصابتهم في الدنيا وضيعة، إنهم يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله من العمى، كم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من تائه ضال قد هدوه، يبذلون دماءهم دون هلكة العباد، وما أحسن أثرهم على العباد، وأقبح آثار العباد عليهم).
وقوله (عليه السلام): يجيبون داعيَ الله: يقصد به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم).
ويدعون إلى الله: بنصب الداعي لهم.
↑صفحة ٤٠↑
فداعي الله تعالى منصبٌ ربانيٌّ، يثبت بالنص عليه، أو بإذن المنصوص عليه، ومن ادعاه غيره فهو كاذب، كمن يدعي النبوة أو الإمامة. وتعبير داعي الله يقصد به الداعي الأصلي، للتمييز بينه وبين وبين المأذون لهم منه في الدعوة. ولا بد أن يكون قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ). منسجماً مع هذه القاعدة، فيكون أمراً للمأذون لهم، أو أمراً بأخذ الإجازة منهم.
وفي مقابل الدعاة الى الله: الدعاة الى النار: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ). والدعاة لغير الله: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ)، والدعاة بدون إذن الله تعالى: (وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ). الى آخر المنظومة.
↑صفحة ٤١↑
دعوة الإمام المهدي العالمية
وقد بدأت إمامته (عليه السلام) ودعوته الى الإسلام بعد شهادة أبيه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، حيث آتاه الله الحكم صبياً، وكان متخفياً من السلطة يدير شيعته بواسطة سفرائه، وبقي على هذه الحالة ثلاثاً وسبعين سنة حتى وقعت الغيبة التامة، وتسمى الغيبة الكبرى.
فكان (عليه السلام) وما زال يعمل بأمر ربه مع الخضر (عليه السلام) وأصحابه الخاصين، حتى يأذن الله له بالظهور، فيدعو العالم الى الإسلام، ويقيم دولة العدل الإلهي على كل الأرض.
مقام الداعي الى الله تعالى
قال الله تعالى: (اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ الله الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَالله بِكُلِّ شيء عَلِيمٌ. فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ). (النور:٣٥-٣٦).
فهذا النور الإلهي موجود دائماً في بيوت الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) كما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) (الدر المنثور:٥/٥٠): (عن أنس بن مالك وبريدة قال: قرأ
↑صفحة ٤٢↑
رسول الله هذه الآية: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَنْ تُرْفَعَ)، فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: بيوت الأنبياء. فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها لبيت عليٍّ وفاطمة؟ قال: نعم من أفاضلها).
وهو تعبيرٌ آخر عن قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن الثقلين: وقد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض. وتعبيرٌ آخر عن قول الإمام الصادق (عليه السلام): (لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت). (الكافي/١/١٧٩).
وتعبيٌر آخر عن نظرية الفيض الإلهي التي تقول إن أنواعاً من عطاء الله تعالى للناس تتم عن طريق مركز نوره في الأرض، صلوات الله عليه.
فهذه المقامات والمكانة العليا كلها ثابتةٌ لداعي الله تعالى، بل الأمر أعظم من ذلك، فأنت إذا بعثت شخصاً ليدعو الناس ليكونوا من أنصارك، تختار من يتصف بأفضل الصفات، ليمثلك ويحبب الناس بك، فكيف برب العالمين (عزَّ وجلَّ)، الذي بيده الأمر والخلق؟!
↑صفحة ٤٣↑
إن داعيَ الله تعالى يجب أن يكون أحب شخصية الى الله وعباده، وأقدر شخصية على الفهم من ربه، وفهم الناس وتفهيمهم، وفهم تكوينة المجتمع البشري وقوانينه.
وإذا جعله الله خليفته في أرضه، وحاكماً بين عباده، فلا بد أن يوفر له مقومات عمله ونجاحه، وأول ذلك العلم بالله تعالى ومخلوقاته، والعلم بالطبيعة، وكل العلوم التي يحتاج اليها البشر.
بل ورد أن الله يلهم المؤمنين في عصره ما يحتاجون اليه من العلوم!
فعن علي في وصف المهدي (عليه السلام): (ويقذف في قلوب المؤمنين العلم، فلا يحتاج مؤمن إلى ما عند أخيه من العلم، فيومئذ تأويل هذه الآية: (يُغْنِ اللهُ كُلاً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعاً حَكِيماً)). (مختصر البصائر/٢١٠).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر، ويجتزئون بنور الإمام). (تفسير القمي:٢/٢٥٣).
ومن معاني هذا الكلام: أنهم يستغنون بالنور الذي يخرجه لهم الإمام (عليه السلام) بدل ضوء الشمس.
↑صفحة ٤٤↑
السلام عليك يا داعيَ الله وربانيَّ آياته
معنى رباني آياته: أن عنده آيات الله تعالى، فعندما يطلبها أو تكون لازمة يُظهرها الله تعالى، ويستجيب دعوة وليه. ومعناه: أنه خبيرٌ رباني بها يفسرها للناس، ويطلبها من ربه (عزَّ وجلَّ) عندما يلزم ذلك.
الربانيون والربيون والعالم الرباني
ورد تعبير الربانيين في القرآن وصفاً للعلماء المؤتمنين على الشريعة بعد الأنبياء (عليهم السلام)، وذكر أنهم نوعان، فمنهم من يحكم بالحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومنهم من يقصر ولا ينهى عن المعاصي، قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ). (المائدة:٤٤).
وقال تعالى: (لَوْ لا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الآثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ). (المائدة:٦٣).
↑صفحة ٤٥↑
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (إنما هلك من كان قبلكم حيثما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك، وإنهم لما تمادوا في المعاصي، ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك، نزلت بهم العقوبات). (الكافي (٥/٥٧).
ومعناه أن الربانيين ائتمنهم الرب على دينه وأمرهم بحفظه، فمنهم من وفى، ومنهم من قصر واستحق الذم والعقوبة.
ولهذا اختار الله تعالى تعبير الرِّبيين للمؤمنين المقاتلين مع الأنبياء (عليهم السلام) فهو أخص من الربانيين، لأنه للمدوحين فقط. قال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ). (آل عمران:١٤٦).
فالرِّبيون نخبة الربانيين، وهم منسوبون الى الرب تعالى، في علمهم به وإخلاصهم له، وتضحيتهم في سبيله.
وقد استعملت السنة تعبير العالم الرباني للمعصوم وهو أفضل من الرَّباني المحض والرِّبِّي المجاهد، قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
↑صفحة ٤٦↑
(الناس ثلاثة: فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق). (نهج البلاغة:٤/٣٦).
فالعالم الرباني: الذي علمه من الرب تعالى. وتفسيره بالفقهاء والرواة خطأٌ كما أعتقد، لأن الفقهاء والمؤمنين متعلمون على سبيل نجاة.
قال الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم (الكافي:١/١٧): (ولا علم إلا من عالم رباني، ومعرفة العلم بالعقل).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (فَلْيُشَرِّقِ الحَكَمُ ولْيُغرب، أما والله لا يصيب العلم إلا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل). (الكافي: ١/٤٠٠).
والإمام المهدي (عليه السلام) رباني بهذا المعنى الأخير، لأن علمه من الرب تعالى وهو علمٌ متجدد ومستمر، لأنه مهديٌّ من ربه الى كل ما يحتاج اليه.
فهو رباني، في علمه وسلوكه، وهو رباني آيات الله، بمعنى صاحبها
↑صفحة ٤٧↑
ورُبانها، الذي يأتي بها، وعالمها وخبيرها.
معنى آيات الله تعالى
قال الراغب الأصفهاني في المفردات: (الآية: هي العلامة الظاهرة، وحقيقته لكل شيء ظاهر، وهو ملازم لشيء لا يظهر ظهوره).
والصحيح أنها:العَلَامة المقنعة عادةً. وأصلها عند الخليل: أَأْية فقلبت ألفها ياء فصارت أيِيَّة، فحذفت فصارت آية كراية وغاية. (العين:٨/٤٤٠). وأصلها عند سيبويه أوِيَّة. وجمعها: آيٌ وآياتٌ وآيايٌ وآياءٌ.
وفي حديث الإسراء: (وآية ذلك أني مررت بعير لأبي سفيان على ماء لبني فلان وقد أضلوا جملاً).(الكافي:٨/٣٦٤).
وفي صفة الخوارج: (آية ذلك أن فيهم رجلاً أسود مُخَدَّج). (أحمد:١/٨٨).
واستعملت في القرآن مفردةً أربعاً وثمانين مرة. وآياتٍ: مئة وثمانية وأربعين مرة. وآياتنا: اثنين وتسعين مرة. وآياته: سبعاً وثلاثين مرة.. الخ. وهذا يدل على سعة مصاديقها في القرآن.
أنواع آيات الله وأنواع الذين يتلونها
ذكر القرآن أنواع آيات الله تعالى، وأنواع تلاوتها على الناس.
فالله تعالى يتلو آياته على الرسل: (تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ).
↑صفحة ٤٨↑
والرسل وغيرهم يتلون آيات الله تعالى: (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ.. يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا.. بَلْ هُوَآيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ..).
وآيات الله تعالى أنواع، فمنها المحكم والمتشابه: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ).
ومنها المحكم ثم المفصل: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ).
ومنها مبصرةٌ وأقل إبصاراً: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً).
ومنها بيناتٌ وأقل بياناً: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ).
وآياتٌ كبرى وصغرى: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى).
ومنها آيات لأنواع الناس: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوِاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ.. لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ.. لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.. لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ..لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.. وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ).
(وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ).
ومنها في الآفاق والأنفس وغيرهما: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ).
وأعطى الله نبيه موسى (عليه السلام) تسع آيات: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ..) وهي: (الطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، والحجر، والبحر، والعصا، ويده). (الخصال/٤٢٤).
↑صفحة ٤٩↑
فمعنى أن الإمام المهدي (عليه السلام) رباني آيات الله: أنه الذي يتلو هذه الآيات على الناس، ويعلمهم إياها، ويفسرها، وهو القَيِّم عليها.
(٣) السلام عليك يا باب الله وديان دينه
يقول لك إسلام السلطة: يمكنك أن تعرف الله تعالى من أي طريق، وأن تعبده وتتقرب اليه من أي باب.
ويقول لك مذهب أهل البيت (عليهم السلام): لا يمكنك أن تعرف الله تعالى إلا عن طريق واحد، هو الطريق الصحيح، وغيره طرقٌ خاطئة توقعك في انحرافات! فالذين طلبوا معرفة الله عن غير طريق أهل البيت (عليهم السلام) وقعوا في التشبيه والتجسيم، فجهلوا الله تعالى وعبدوا معبوداً خيالياً!
ويقول لك أتباع السلطة: يمكنك أن تعبد الله تعالى وتتقرب إليه، عن أي طريق، فالطرق الى الله بعدد أنفاس الخلائق!
ويقول لك مذهب أهل البيت (عليهم السلام): الطريق الصحيح واحدٌ لا غير! فإن أردت معرفة الله فمن بابه الذي عينه، وإن أردت عبادته فمن طريقه الذي حدده. فإن دخلت من باب آخر فأنت واهم ولن تصل، لأن المعرفة والعبادة لا تكون إلا من الطريق التي أمر بها الله تعالى.
↑صفحة ٥٠↑
قال الإمام محمد الباقر (عليه السلام) (الكافي:١/١٩٨): (فإن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) باب الله الذي لا يؤتى إلا منه، وسبيله الذي من سلكه وصل إلى الله (عزَّ وجلَّ)، وكذلك كان أمير المؤمنين (عليه السلام) من بعده، وجرى للأئمة (عليهم السلام) واحداً بعد واحد، جعلهم الله (عزَّ وجلَّ) أركان الأرض أن تميد بأهلها، وعَمَد الإسلام، ورابطةً على سبيل هداه، لا يهتدي هاد إلا بهداهم، ولا يضل خارج من الهدى إلا بتقصير عن حقهم.
أمناءُ الله على ما أهبط من علم أو عُذر أو نُذر، والحجة البالغة على من في الأرض، يجري لآخرهم من الله مثل الذي جرى لأولهم، ولا يصل أحد إلى ذلك إلا بعون الله).
معنى أن الإمام المهدي (عليه السلام) باب الله تعالى
معنى هذا الوصف للنبي والأئمة (عليهم السلام):
١. أن الواحد منهم باب معرفة الله والعلم به، لذلك يجب أن تكون معرفة الله تعالى من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعلي وأبنائه الأئمة (عليهم السلام) في تفسير التوحيد والقرآن.
↑صفحة ٥١↑
والإمام المهدي (عليه السلام) ممثل هذا الخط وامتداده وشارحه، وهو الداعي الى الله الواحد الأحد، كما وصف نفسه في القرآن.
فيكون معنى التسليم عليه بهذا اللقب: السلام عليك يا باب معرفة الله (عزَّ وجلَّ)، معرفة ذاته وصفاته، معرفةً صحيحةً، خاليةً من الباطل والخطأ، نقيةً من الجهل والتحريف والزيغ والهوى.
٢. ومعنى: السلام عليك يا بابَ الله، أنه مصدرُ تلقِّي الدين، فمن أراد بعد العقيدة علم الشريعة ومعرفة الحلال والحرام، وجب أن يتلقى من الإمام المهدي، ومن أجداده (عليهم السلام)، لا من مخالفيهم.
والتلقي من الإمام المهدي (عليه السلام) مع غيبته، يعني التلقي من أجداده الذين هو امتداد لهم، وعند ظهوره يتحقق التلقي الكامل منه مباشرة.
٣. ومعنى باب الله: أنه باب العطاء الإلهي، لأنه النور الإلهي في الأرض: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ).
٤. ومعنى باب الله: أنه الإمام الذي يجب الاعتقاد بإمامته، والانتساب إليه، لندعى به في محشر القيامة: (يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ).
↑صفحة ٥٢↑
٥. ومعنى باب الله: أن الإمام المهدي (عليه السلام) باب التوجه الى الله، فيصح التوجه به الى الله تعالى، ويصح التوجه اليه، لأنه باب الله تعالى.
وقد تقدم معنى قول (عليه السلام): إذا أردتم التوجه بنا إلى الله، وإلينا، فقولوا كما قال الله تعالى: سلام على آل ياسين، ذلك هو الفضل المبين.
وقد عَلَّمَنَا الأئمة كيف نتوجه بهم الى الله تعالى، قال الإمام الباقر (عليه السلام): (اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة. يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى الله ربك وربي لينجح لي طلبتي. اللهم بنبيك أنجح لي طلبتي، بمحمد. ثم سل حاجتك). (الكافي: ٣ /٤٧٨).
وفي التهذيب: ٦/١٠١: (اللهم إني لو وجدت شفعاء أقرب إليك من محمد وأهل بيته الأخيار الأئمة الأبرار، لجعلتهم شفعائي، فبحقهم الذي أوجبت لهم عليك أسألك أن تدخلني في جملة العارفين بهم).
التكبر على أهل البيت (عليهم السلام) تكبر على الله تعالى!
عَيَّنَ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) عترته من بعده مصدراً لتلقي الدين وقدوةً للأمة، وقرنهم بالقرآن فقال: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي وأهل بيتي.
↑صفحة ٥٣↑
وبدل أن تقول قريش: سمعنا وأطعنا، قالت: نحن نعبد الله ونؤمن بالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) ونتلقى ديننا عن صحابته، وليس عن أهل بيته!
لكن الله لا يقبل عبادته إلا من الطريق التي عينها. فقد روى عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: (الاستكبار هو أول معصية عصي الله بها. قال: فقال إبليس: يا رب، أعفني من السجود لآدم، وأنا أعبدك عبادةً لم يعبدكها ملك مقرب ولا نبي مرسل!
قال الله تبارك وتعالى: لا حاجة لي إلى عبادتك، إنما أريد أن أعبد من حيث أريد لا من حيث تريد. فأبى أن يسجد فقال الله تعالى: (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ)). (تفسير القمي:١/٤٢).
السلام عليك يا باب الله وديان دينه
قال الصدوق (قدس سره) في التوحيد/٢١٦: (الدَّيَّان: هو الذي يدين العباد ويجزيهم بأعمالهم. والدِّينُ: الجزاء، ولا يجمع لأنه مصدر، يقال: دانَ يدين دِيناً. ويقال في المثل: كما تَدين تُدان، أي كما تجزي تجزى، قال الشاعر:
كما يدينُ الفتى يوماً يدانُ به * * * من يَزرع الثومَ لا يقلعْهُ ريحانا).
↑صفحة ٥٤↑
وقال الزمخشري في أساس البلاغة/٢٩١: (داينته: حاكمته. وكان عليٌّ دَيَّانَ هذه الأمة بعد نبيها، أي قاضيها).
وقال ابن منظور (١٣/١٦٦): (الدَّيّانُ: من أَسماء الله (عزَّ وجلَّ) معناه الحكَم القاضي. وسئل بعض السلف عن علي بن أَبي طالب فقال: كان دَيّانَ هذه الأُمة بعد نبيها، أَي قاضيها وحاكمها).
وفي كتاب سُليم/٢٨٣، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (عليٌّ ديان هذه الأمة والشاهد عليها). وفي رواية: يا علي أنت ديان هذه الأمة والشاهد عليها.
وهذه الصفة لعلي (عليه السلام) ثابتة لكل الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ففي الزيارة الجامعة: (وميراث النبوة عندكم، وإياب الخلق إليكم، وحسابهم عليكم، وفصل الخطاب عندكم). (من لا يحضره الفقيه:٢/٦١٢).
أقول: إن الله تعالى هو مالك يوم الدين وديان الدين، وهو الذي يحاسب الخلق يوم القيامة، فيوكل بذلك ملائكته، فلا عجب أن يوكل به محمداً وآل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهم أفضل من الملائكة باتفاق المسلمين.
↑صفحة ٥٥↑
فعن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث الإسراء: (أذن جبرئيل وأقام الصلاة فقال:يا محمد تقدم، فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم):تقدم يا جبرئيل، فقال له: إنا لا نتقدم على الآدميين منذ أُمرنا بالسجود لآدم)!(علل الشرائع:١/٨).
قال الصدوق (قدس سره) في كتابه الاعتقادات/٧٣: (والحساب منه ما يتولاه الله تعالى، ومنه ما يتولاه حججه. فحساب الأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السلام) يتولاه الله (عزَّ وجلَّ)، ويتولى كل نبي حساب أوصيائه (عليهم السلام)، ويتولى الأوصياء حساب الأمم. والله تعالى هو الشهيد على الأنبياء والرسل، وهم الشهداء على الأوصياء، والأئمة شهداء على الناس.
وذلك قوله (عزَّ وجلَّ): (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا. وقوله (عزَّ وجلَّ): فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا). وقال (عزَّ وجلَّ): (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ). والشاهد أمير المؤمنين. وقال (عزَّ وجلَّ): (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ)).
وعندما يجعل الله تعالى حساب الخلق بيد ملائكته، أو نبيه وأهل بيته فهو لا يتخلى عنهم، بل يعلمهم قواعد المحاسبة المفصلة، أو يزودهم بخبراء محاسبة من ملائكته، وهو الرقيب عليهم.
↑صفحة ٥٦↑
ويؤيده ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (لو وليَ الحساب غير الله لمكثوا فيه خمسين ألف سنة من قبل أن يفرغوا، والله سبحانه يفرغ من ذلك في ساعة). (مجمع البيان:١٠/١٢٠).
ومعناه أنه يُعَلِّمُ قواعد الحساب وطريقته لقضاة المحشر، ولولا ذلك لما استطاعوا محاسبة الناس في خمسين ألف سنة، ولا مئة ألف سنة!
والنتيجة: أن دياني الناس بدين الله هم النبي وأهل بيته (عليهم السلام)، ولهذا وصف الإمام المهدي بأنه باب الله وديان دينه، لأنه أحد القادة الديانين يوم القيامة، وأحد الأشهاد الذين قال الله فيهم: (وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ). وفي تفسير القمي(٢/٢٥٨) أنهم الأئمة (عليهم السلام).
وفي العدد القوية/٨٩: (عن الحارث وسعيد بن قيس، عن علي بن أبي طالب، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): أنا واردكم على الحوض، وأنت يا علي الساقي، والحسن الذائد، والحسين الآمر، وعلي بن الحسين الفارط (الرائد) ومحمد بن علي الناشر، وجعفر بن محمد السايق، وموسى بن جعفر محصي المحبين والمبغضين وقامع المنافقين، وعلي بن موسى مزين المؤمنين، ومحمد بن علي منزل أهل الجنة في درجاتهم،
↑صفحة ٥٧↑
وعلي بن محمد خطيب شيعته ومزوجهم الحور العين، والحسن بن علي سراج أهل الجنة يستضيئون به، والمهدي شفيعهم يوم القيمة).
وفي المناقب (١/٢٥١): (يا علي أنا نذير أمتي وأنت هاديها، والحسن قايدها، والحسين سايقها، وعلي بن الحسين جامعها، ومحمد بن علي عارفها، وجعفر بن محمد كاتبها، وموسى بن جعفر محصيها، وعلي بن موسى معبرها ومنجيها وطارد مبغضيها ومُدْني مؤمنيها، ومحمد بن علي قايدها وسايقها، وعلي بن محمد سايرها وعالمها، والحسن بن علي ناديها ومعطيها، والقائم الخلف ساقيها وناشدها وشاهدها).
(٤) السلام عليك يا خليفة الله وناصر حقه
١. خلط بعضهم بين الاستخلاف التكويني لأجيال الإنسان، وبين نصب الله تعالى خليفةً له في الأرض، كآدم وداود ومحمد وآله (عليهم السلام).
فقوله تعالى: (إِنْ يَشَا يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ). وقوله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ). وقوله: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ..) كل ذلك في الاستخلاف التكويني ولا علاقة له بمنصب
↑صفحة ٥٨↑
الخلافة، لكن قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً). وقوله: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ).
وأمثالها من الآيات والأحاديث تتعلق بمنصب الخلافة الذي جعله الله تعالى لآدم (عليه السلام)، ولبعض رسله، وليس كلهم.
٢. فالخلافة لغةً: كل شيء يخلف شيئاً. لكنها في الاصطلاح الإسلامي الشخص الذي يختاره الله تعالى خليفةً له في الأرض.
ولذلك قال المأمون للفقهاء في مناظرته: (فخبروني عن رجل تختاره الأمة فتنصبه خليفة، هل يجوز أن يقال له خليفة رسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) ومن قِبَل الله (عزَّ وجلَّ) ولم يستخلفه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم)! فإن قلتم: نعم، فقد كابرتم. وإن قلتم: لا وجب أن أبا بكر لم يكن خليفة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ولا كان من قبل الله وأنكم تكذبون على نبي الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فإنكم متعرضون لأن تكونوا ممن وسمه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) بدخول النار!
وخبروني في أي قوليكم صدقتم؟ أفي قولكم مضى رسول الله ولم يستخلف، أو في قولكم لأبي بكر يا خليفة رسول الله؟!
↑صفحة ٥٩↑
فإن كنتم صدقتم في القولين فهذا ما لا يمكن، كونه إذ كان متناقضاً! وإن كنتم صدقتم في أحدهما بطل الآخر! فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم ودعوا التقليد، وتجنبوا الشبهات، فوالله ما يقبل الله تعالى إلا من عبد لا يأتي إلا بما يعقل ولا يدخل إلا فيما يعلم أنه حق. والريب شكٌّ وإدمان الشك كفر بالله تعالى وصاحبه في النار).(عيون أخبار الرضا:٢/١٩٩).
٣. وقد ثبت عندنا بأحاديث صحيحة متواترة أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) نص على أن الأئمة من عترته هم خلفاء الله تعالى في أرضه. ففي الكافي (١/١٩٣) عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (الأئمة خلفاء الله (عزَّ وجلَّ) في أرضه).
وفي رواية أمالي الصدوق/٧٠: (فإنهم خلفائي، وأوصيائي، وحجج الله على الخلق بعدي، وسادة أمتي).
فيكون معنى: السلام عليك يا خليفة الله، يا من جعلك الله خليفته في أرضه. وقد ورد وصف الإمام المهدي (عليه السلام) بالخليفة في مصادر السنة أيضاً، ففي كتاب الفتن لنعيم بن حماد (١/٢٢٤) عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (يكون في أمتي خليفةٌ يحثي المل حثياً، لا يَعُدُّهُ عَدّاً).
↑صفحة ٦٠↑
وفي صحيح مسلم (٦/٣): (عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فسمعته يقول: إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة). ونحوه أحمد:٥/٨٦.
٤. لا يتوقف منصب الخلافة للإمام المهدي (عليه السلام) على أن يحكم فعلاً، فهو ثابتٌ له منذ خلقه الله تعالى، وهو في مدة غيبته يقوم بمهام خليفة الله تعالى ومعه الخضر (عليه السلام) والأبدال الذين هم جنود الله في الغيب، نعم تظهر خلافته ظهوراً كاملاً عندما يظهر ويقيم دولة العدل الإلهي.
السلام عليك يا خليفة الله وناصر حقه
حق الله تعالى في الأرض: أن يُوَحِّدَهُ الناس ولا يشركوا به، وأن يطيعوه ولا يعصوه. ومعنى نصرة الإمام المهدي (عليه السلام) لهذا الحق: أنه يدافع عنه، ويعمل لتحقيقه بدعوة الناس الى الإيمان بالله وتوحيده، والإيمان بما أنزله على رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ويطبق ذلك ببرامج وقوانين.
ومعنى نصرة حق الله تعالى: أنه يوجد مَن يعتدي على هذا الحق، ويجب مجاهدته ورد ظلمه، وهم الملحدون والمجسمون لله تعالى.
↑صفحة ٦١↑
والإمام المهدي (عليه السلام) صاحب الحق في جهادهم، وهذا يعني أن سياسة جده (صلّى الله عليه وآله وسلم) كانت لمرحلة، فهو يكملها، وتتسع دائرة من يجاهدهم.
وفي بعض النسخ: وناصر خلقه بدل حقه، وتكون نصرة خلق الله تعالى بأن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما أخبر جده رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم).
(٥) السلام عليك يا حجة الله ودليل إرادته
معنى حجة الله تعالى: الدليل الواضح الذي يحتج به على عباده، كما قال تعالى: (لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ. وقال: فَللَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ). وقال: (لا يُكَلِّفُ الَّلهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا). وقال: (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا). وقال: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).
وقد عقد الكليني (قدس سره) في الكافي (١/١٦٢): (باب البيان والتعريف ولزوم الحجة) وأورد تحته عدة أبواب، وعشرات الأحاديث.
قال الإمام الصادق (عليه السلام) (١/٢٥): (حجة الله على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل).
وقال (عليه السلام) (الكافي:١/١٧٨): (ما زالت الأرض إلا ولله فيها الحجة، يُعَرِّفُ الحلال والحرام، ويدعو الناس إلى سبيل الله).
↑صفحة ٦٢↑
وقال (عليه السلام) (١/١٦٨): (للزنديق الذي سأله: من أين أثبت الأنبياء والرسل؟ قال: إنه لما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً، لم يجز أن يشاهده خلقه، ولا يلامسوه، فيباشرهم ويباشروه ويحاجهم ويحاجوه، ثبت أن له سفراء في خلقه، يعبرون عنه إلى خلقه وعباده، ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم، وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه، المعبرون عنه جل وعز، وهم الأنبياء (عليهم السلام) وصفوته من خلقه، حكماء مؤدبين بالحكمة، مبعوثين بها، غير مشاركين للناس- على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب - في شيء من أحوالهم، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة. ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان مما أتت به الرسل والأنبياء (عليهم السلام) من الدلائل والبراهين، لكيلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه عَلَمٌ يدل على صدق مقالته).
وسئل الإمام الرضا (عليه السلام): أتبقى الأرض بغير إمام؟ قال:لا، قلت: فإنا نروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنها لا تبقى بغير إمام إلا أن يسخط الله تعالى على أهل الأرض أو على العباد، فقال:لا، لا تبقى، إذاً لساخت)! (الكافي: ١/١٧٩).
↑صفحة ٦٣↑
وقال الإمام الباقر (عليه السلام) (الكافي:١/١٧٩): (والله ما ترك الله أرضاً منذ قبض آدم (عليه السلام) إلا وفيها إمام يُهتدي به إلى الله، وهو حجته على عباده، ولا تبقى الأرض بغير إمام حجة لله على عباده).
كما بين الأئمة (عليهم السلام) أن الحجة لا بد أن تكون واضحة تامة، وأن القرآن بسبب وجود المحكم والمتشابه فيه لا يكون حجة إلا بقَيِّمٍ يُفسره، ويبين المقصود اليقيني لله تعالى منه. (الكافي:١/١٦٩).
وبينوا أنهم هم ورثة الكتاب وحجج الله تعالى على عباده. قال الإمام الباقر (عليه السلام) (الكافي:١/١٤٥): (نحن حجة الله، ونحن باب الله).
وفي حديث الإمام الصادق (عليه السلام) في جواب بريهة الراهب (الكافي:١/٢٢٧): (أنَّى لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء (عليهم السلام)؟ قال: هي عندنا وراثةً من عندهم، نقرؤها كما قرؤوها، ونقولها كما قالوا، إن الله لا يجعل حجة في أرضه يُسأل عن شيء فيقول لا أدري).
وبذلك يتضح معنى: السلام عليك يا حجة الله، فالإمام المهدي (عليه السلام) خاتم حجج الله تعالى الذين هم رسول الله وعترته (عليهم السلام)، وهم معدن
↑صفحة ٦٤↑
الحجة وتجسيدها الكامل، وقد تمت على أجيال من الناس، وبقي أن يظهر المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فيتم الله به حجته على العالم كله.
السلام عليك يا حجة الله ودليل إرادته
في الإرادة بحوث أطال فيها علماء الكلام، والفلسفة، وأصول الفقه. والذي يهمنا هنا أن إرادة الله تعالى تستعمل بمعنى أمره ونهيه، وبمعنى رضاه وغضبه. والذي يدل على ذلك هو المعصوم (عليه السلام).
والإمام (عليه السلام) دليل إرادة الله، ويشمل ذلك المعنى التشريعي لأن الإمام يدل على الحلال والحرام، وبقية الأحكام ومتعلقاتها.
ويشمل المعنى التكويني بمعنى أن حالات الإمام (عليه السلام) من الرضا والغضب والحزن والسرور، تعكس إرادة الله تعالى في أمره ونهيه، ورضاه وغضبه، فهي تدل عليها.
لمحة عن الإرادة الإلهية
روى في الكافي (١/١٤٨): (عن معلى بن محمد قال: سئل العالم (الإمام (عليه السلام)) كيف عَلِمَ الله؟ قال: علم، وشاء، وأراد، وقدر، وقضى، وأمضى. فأمضى ما قضى، وقضى ما قدر، وقدر ما أراد. فبعلمه كانت المشيئة،
↑صفحة ٦٥↑
وبمشيئته كانت الإرادة، وبإرادته كان التقدير، وبتقديره كان القضاء، وبقضائه كان الإمضاء، والعلم متقدم على المشيئة، والمشيئة ثانية، والإرادة ثالثة، والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء.
فلله تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء، وفيما أراد لتقدير الأشياء، فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء، فالعلم في المعلوم قبل كونه، والمشيئة في المنشأ قبل عينه، والإرادة في المراد قبل قيامه، والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها عياناً ووقتاً.
والقضاء بالإمضاء هو المبرم من المفعولات، ذوات الأجسام، المدركات بالحواس، من ذوي لون وريح ووزن وكيل، وما دب ودرج، من إنس وجن وطير وسباع وغير ذلك، مما يدرك بالحواس.
فلله تبارك وتعالى فيه البداء مما لا عين له، فإذا وقع العين المفهوم المدرك فلا بداء، والله يفعل ما يشاء، فبالعلم علم الأشياء قبل كونها، وبالمشيئة عرف صفاتها وحدودها، وأنشأها قبل إظهارها، وبالإرادة ميز أنفسها في ألوانها وصفاتها، وبالتقدير قدر أقواتها وعرف أولها وآخرها، وبالقضاء أبان للناس أماكنها ودلهم عليها، وبالإمضاء شرح عللها، وأبان أمرها. وذلك تقدير العزيز العليم).
↑صفحة ٦٦↑
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال (الكافي:١/١٤٩): (لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بهذه الخصال السبع: بمشيئة وإرادة وقدر وقضاء وإذن وكتاب وأجل، فمن زعم أنه يقدر على نقض واحدة فقد كفر. وفي رواية: فمن زعم غير هذا فقد كذب على الله، أو رد على الله).
وروى في الكافي:١/١٥١: (عن الفتح بن يزيد الجرجاني، عن أبي الحسن الهادي (عليه السلام) قال: إن لله إرادتين ومشيئتين: إرادة حتم وإرادة عزم، ينهى وهو يشاء ويأمر وهو لا يشاء، أو ما رأيت أنه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك، ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى، وأمر إبراهيم أن يذبح إسحاق ولم يشأ أن يذبحه، ولو شاء لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى).
قال الكليني (قدس سره) في الكافي:١/١١١: (جملة القول في صفات الذات وصفات الفعل: أن كل شيئين وصفت الله بهما وكانا جميعاً في الوجود، فذلك صفة فعل. وتفسير هذه الجملة: أنك تثبت في الوجود ما يريد وما لا يريد، وما يرضاه وما يسخطه، وما يحب وما يبغض.
↑صفحة ٦٧↑
فلو كانت الإرادة من صفات الذات مثل العلم والقدرة، كان ما لا يريد ناقضاً لتلك الصفة، ولو كان ما يحب من صفات الذات كان ما يبغض ناقضاً لتلك الصفة، ألا ترى أنا لا نجد في الوجود ما لا يعلم وما لا يقدر عليه. وكذلك صفات ذاته الأزلية لسنا نصفه بقدرة وعجز وعلم وجهل وسفه وحكمة وخطأ وعز وذلة.
ويجوز أن يقال: يحب من أطاعه ويبغض من عصاه، ويوالي من أطاعه ويعادي من عصاه، وإنه يرضى ويسخط).
عظمة مقام: دليل إرادته
دلالة الإمام المهدي (عليه السلام) على إرادة الله تعالى بالمعنى التشريعي بمعنى المعلم والدليل المختار من ربه على أحكام شريعته وتطبيقاتها، وهو مقامٌ عظيم يتفرد به عن الناس، كما تفرد آباؤه وجده رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم).
أما دلالته (عليه السلام) التكوينية فمقامٌ أعظم من الأول، لأن معناه أن إرادة الله تعالى تنعكس على روح المعصوم، وملامح وجهه، وبدنه!
والسر كل السر، والعلم كل العلم في سعة إرادة الله تعالى وتنوعها، وكيفية انعكاسها على روح المعصوم وملامحه.
↑صفحة ٦٨↑
فعندما تقول الرواية مثلاً: نظر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) الى الشيء الفلاني، فأعرض عنه وعافه، فمعناه أن إرادة الله تعالى ظهرت في ذلك الشخص أو الشيء، وانعكست في ذهن المعصوم وحواسه، وظهرت لنا إعراضاً وعدم رضا! فتكون شخصية المعصوم (عليه السلام) صفحة لعلم الله تعالى وإرادته، كصفحة الحاسب، تظهر عليها خصائص برنامج معين.
ومن أمثلته ما رواه البخاري (٤ / ٧١) قال: (بينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ساجدٌ وحوله ناسٌ من قريش المشركين، إذ جاءه عقبة بن أبي معيط بسَلَى جزور (كرش ناقة) فقذفه على ظهر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فلم يرفع رأسه حتى جاءت فاطمة (عليها السلام) فأخذت من ظهره ودعت على من صنع ذلك، فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): اللهم عليك الملأ من قريش، اللهم عليك أبا جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف أو أبي بن خلف).
وإذا عرفنا أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) لم يدع على قومه قبل ذلك، بل كان يقول: اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون، فما الذي حدث حتى دعا عليهم؟
↑صفحة ٦٩↑
حدث أنه سمع دعاء ابنته فاطمة (عليها السلام)، التي تنعكس عليها إرادة الله تعالى، ففهم من ذلك الإذن الإلهي أو الأمر بالدعاء عليهم، فدعا!
وبهذا المعنى كان المهدي (عليه السلام) مظهر إرادة الله تعالى وتجسيدها ودليلها.
لأنه دليل إرادة الله صار القدوة والأسوة
إن أي إنسان ينظر الى السماء والأرض ويتأمل في الطبيعة المحيطة به، يتساءل في نفسه عن موقعه من هذا الكون، وعما يريد منه خالقه المبدع الحكيم (عزَّ وجلَّ)؟ فالحاجة الى القدوة والأسوة تنشأ من تفكير الإنسان في الكون وخالقه (عزَّ وجلَّ)، وشعوره بالحاجة الى معرفة ما يريده منه الله سبحانه، وكيف يحقق تكامل وجوده الذي خلق من أجله؟
فيجد الجواب الشافي في الإمام الرباني، الذي يعرف ما يريد الله من الإنسان، وتظهر إرادته على ملامحه، وحركاته وسكناته.
↑صفحة ٧٠↑
(٦) السلام عليك يا تالي كتاب الله وترجمانه
١. تلاوة القرآن: قراءته، وسُميت تلاوةً لأن الكلمات فيها تتلو بعضها. ولا تستعمل لقراءة النص العادي، ولذا يقال: قرأ الرسالة وتلا القرآن. قال تعالى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ. إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ. الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ).
نعم استعملت لتلاوة آيات الله غير القرآن: (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ).
وسمَّى الوحي الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) تلاوة: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ).
وقد كان مصطلح التلاوة مستعملاً لطريقة قراءة الكتاب الإلهي قبل القرآن، قال تعالى: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ. أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ).
٢. فمعنى أن الإمام المهدي (عليه السلام) تالي كتاب الله، أنه التالي الرسمي للقرآن، فهو منصوبٌ من الله تعالى لتلاوته، لأنه ممن أورثهم الله الكتاب: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا).
↑صفحة ٧١↑
ومن الذين عندهم علم الكتاب: (قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ).
وممن عندهم تفسير الكتاب وبيانه، الذين وعد بهم الله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ).
وهذه الصفات لا توجد إلا في عترة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ولهذا أوصى بهم وقرنهم بالقرآن فقال: إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي.
فالإمام المهدي (عليه السلام) يتلو القرآن على الأمة، ويفسره لها، ويظهر علومه ومعجزاته، كما أنه يتلوه على العالم ويفسره لهم بلغاتهم، ويدعوهم اليه.
السلام عليك يا تالي كتاب الله وترجمانه
١. معنى ترجمان القرآن: أن الإمام المهدي (عليه السلام) يُترجم القرآن الى لغات الناس المفهومة، أي يفسره لهم، فالذين يعرفون العربية يحتاجون الى تفسيره ويسمى ترجمة. وغيرهم يحتاجون الى ترجمته وتفسيره.
قال ابن منظور (١٢/٦٦): (التُّرجمان بالضم والفتح: هو الذي يُتَرْجِم الكلام، أَي ينقله من لغة إلى لغة أُخرى، والجمع التَّراجِم).
↑صفحة ٧٢↑
والقرآن لا تتم حجيته إلا بمفسر رسمي له قيِّمٍ عليه، لأن فيه المحكم والمتشابه، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ.. الخ.
ولذا ورد أنه إنما يفهم القرآن من خوطب به وهم أهل البيت (عليهم السلام)، فهؤلاء يفهمونه حق فهمه، ويتلونه حق تلاوته.
وفي الكافي (٨/٣١١): (دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر (عليه السلام) فقال: يا قتادة أنت فقيه أهل البصرة؟ قال: هكذا يزعمون. فقال أبو جعفر (عليه السلام): بلغني أنك تفسر القرآن؟ فقال له قتادة: نعم، فقال له أبو جعفر (عليه السلام): بعلم تفسره أم بجهل؟ قال: لا، بعلم، فقال له أبو جعفر: فإن كنت تفسره بعلم فأنت أنت، وأنا أسألك؟ قال قتادة: سل. قال: أخبرني عن قول الله (عزَّ وجلَّ) في سبأ: (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ). فقال قتادة: ذلك من خرج من بيته بزاد حلال وراحلة وكراء حلال، يريد هذا البيت كان آمناً، حتى يرجع إلى أهله. فقال أبو جعفر (عليه السلام): نشدتك الله يا قتادة هل تعلم أنه قد يخرج الرجل من بيته بزاد حلال وراحلة وكراء حلال، يريد هذا البيت فيقطع عليه الطريق فتذهب نفقته ويضرب مع ذلك ضربة فيها اجتياحه؟ قال قتادة: اللهم نعم، فقال أبو جعفر (عليه السلام): ويحك يا قتادة إن كنت إنما فسرت القرآن
↑صفحة ٧٣↑
من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد أخذته من الرجال، فقد هلكت وأهلكت.
ويحك يا قتادة، ذلك من خرج من بيته بزاد وراحلة وكراء حلال يروم هذا البيت عارفاً بحقناً يهوانا قلبه كما قال الله (عزَّ وجلَّ): (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ)، ولم يعن البيت فيقول: إليه، فنحن والله دعوة إبراهيم (عليه السلام) التي من هوانا قلبه قبلت حجته وإلا فلا.
يا قتادة فإذا كان كذلك كان آمناً من عذاب جهنم يوم القيامة، قال قتادة: لا جرم والله لا فسرتها إلا هكذا. فقال أبو جعفر (عليه السلام): ويحك يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به).
ومن خوطب به ليفسره للناس، هم رسول الله وأهل بيته (صلّى الله عليه وآله وسلم).
٢. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، كذباً وبغياً علينا، أنْ رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم. بنا يُستعطى الهدى ويُستجلى العمى. إن الأئمة من قريش، غرسوا في هذا البطن من هاشم. لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم)! (نهج البلاغة: ٢/٢٧).
↑صفحة ٧٤↑
وهم الذين عندهم علم الكتاب، والذين أورثوا الكتاب، وأهل الذكر. وقد روى السيوطي في الدر المنثور بثلاث روايات (٣/٣٢٤): (أخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم في المعرفة، عن علي بن أبي طالب قال: ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن. فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال أما تقرأ سورة هود: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ): رسول الله على بينة من ربه، وأنا شاهد منه).
وفي تفسير العياشي(٢/٢٢٠) عن عبد الله بن عطاء قال: (قلت لأبي جعفر: هذا ابن عبد الله بن سلام يزعم أن أباه الذي يقول الله: (قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ). قال: كَذِبَ. هو علي بن أبي طالب)!
وبهذا يتضح معنى أن الإمام المهدي (عليه السلام) ترجمان القرآن، لأنه مفسره الرسمي، والقيِّم عليه، ووارث علومه.
٣. وقال الإمام الكاظم (عليه السلام): (إن سليمان بن داود قال للهدهد حين فقده وشكَّ في أمره، فقال: (مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ)، حين فقده فغضب عليه وقال: (لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأتِيَنِّي
↑صفحة ٧٥↑
بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ). وإنما غضب لأنه كان يدله على الماء، فهذا وهو طائر قد أعطي ما لم يعط سليمان!
وقد كانت الريح والنمل والإنس والجن والشياطين والمردة له طائعين ولم يكن يعرف الماء تحت الهواء، وكان الطير يعرفه!
وإن الله يقول في كتابه: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى): وقد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسير به الجبال وتقطع به البلدان، وتحيى به الموتى، ونحن نعرف الماء تحت الهواء، وإن في كتاب الله لآيات ما يراد بها أمر إلا أن يأذن الله به، مع ما قد يأذن الله مما كتبه الماضون، جعله الله لنا في أم الكتاب. إن الله يقول: (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)، ثم قال: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا)، فنحن الذين اصطفانا الله (عزَّ وجلَّ) وأورثنا هذا الذي فيه تبيان كل شيء). (الكافي:١/٢٢٦).
فترجمة الإمام المهدي (عليه السلام) للقرآن تعني إظهار علومه للبشر، وكشف معجزاته وأسراره، واستثمار طاقاته التي أودعها الله فيه.
↑صفحة ٧٦↑
(٧) السلام عليك يا بقية الله في أرضه
قال الله تعالى في سورة هود: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ. وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ. قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ).(هود:٨٤-٨٧)
فقد استعمل نبي الله شعيب (عليه السلام) تعبير بقية الله للباقي من الربح الحلال قال: (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). وهي قاعدة عامة تعني: أن كل ما أبقاه الله تعالى للإنسان بعد أن ذهب بغيره، فهو خيرٌ له.
وقد عُبِّرَ بها عمن بقي من الأئمة بعد ذهاب الماضين، فقال الإمام الكاظم عندما ولد ابنه الرضا (عليهما السلام): (هنيئاً لك يا نجمةُ كرامة ربك... خذيه فإنه بقية الله تعالى في أرضه). (عيون أخبار الرضا (عليه السلام):١/٣٠).
كما سُمِّيَ الإمام المهدي (عليه السلام) بقية الله، لأنه آخر من أبقاه الله من الأئمة (عليهم السلام)، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (فإذا خرج أسند ظهره إلى الكعبة واجتمع عنده
↑صفحة ٧٧↑
ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً، وأول ما ينطق به هذه الآية: (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، ثم يقول: أنا بقية الله وحجته وخليفته عليكم. فلا يُسَلِّمُ عليه مسلمٌ إلا قال:السلام عليك يا بقية الله في أرضه).
وفي الكافي(١/٤١١) عن عمر بن زاهر، عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال سأله رجل عن القائم يسلم عليه بإمرة المؤمنين قال: لا، ذاك اسمٌ سمَّى الله به أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يُسَمَّ أحدٌ قبله ولا يتسمى به بعده إلا كافر!
قلت جعلت فداك كيف يسلم عليه؟ قال: يقولون السلام عليك يا بقية الله، ثم قرأ: (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)).
وفي الاحتجاج (١/٢٤٠) في حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) مع الزنديق: (هم بقية الله، يعني المهدي، يأتي عند انقضاء هذه النَّظْرة (المهلة) فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً).
معنى بقية الله في أرضه
عندما نقول للإمام المهدي (عليه السلام): يا بقية الله في أرضه. نستحضر الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) الذين قتلهم الناس عبر التاريخ، أو ماتوا، فلم يبق منهم إلا هذا الوحيد، فهو بقية الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)!
↑صفحة ٧٨↑
وهو بقية الله تعالى، الذي حفظه من أعدائه وأبطل خططهم لقتله، وحفظه من الموت ومدَّ عمره حتى يبلغ المجتمع البشري وقت ظهوره.
ومعناه أيضاً: السلام عليك يا بقية الماضين وذكراهم، وحامل رسالتهم ومناقبيتهم وعبيرهم الطيب، ووارث خطهم الرباني، والآخذ بثارهم، من ظالميهم الجبابرة، وجنودهم الأشرار!
ومن عجائب مقادير الله تعالى أن أكبر انتصار إلهي في الأرض سيتحقق على يد بقية الله في أرضه، فهو الذي يقيم دولة العدل الإلهي التي تدوم الى يوم القيامة، والتي قال عنها الله للملائكة: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ).
فما أعظم بركة هذه البقية، والدور الذي أوكل الى المهدي (عليه السلام)!
↑صفحة ٧٩↑
(٨) السلام عليك يا ميثاق الله الذي أخذه ووكَّده
تقول آيات القرآن إن الله تعالى أخذ مواثيق الناس والملائكة في عالمٍ قبل عالمنا هذا. وتقول أحاديث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وآله (عليهم السلام) إن الناس نسوا مواثيق الله عليهم، وسوف يُذَكَرُونَ بها فيذكرونها!
قال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ). (الأعراف:١٧٢).
وقال: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا). (الأحزاب:٧).
وقال: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمرا: ١٨٧).
وقال: (وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). (الحديد:٨).
قال الخليل في العين (٥/٢٠٢): (والوثيقة في الأمر: إحكامه والأخذ بالثقة والجميع وثائق. والميثاق: من المواثقة والمعاهدة ومنه الموثق).
↑صفحة ٨٠↑
فالميثاق هو العهد الذي يعطيه الطرف ويثق به صاحب الحق، وصاحب الحق الأكبر هو الله تعالى، وقد أخذ الميثاق على بني آدم قبل أن يخلقهم في الأرض، وجعله أمانة عند ملك من ملائكته، ثم حول هذا الملك الى جوهرة وجعلها في ركن الكعبة، فلمسها الناس فاسودَّت!
روى أحمد (١/٣٠٧): (أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال الحجر الأسود من الجنة وكان أشد بياضاً من الثلج، حتى سودته خطايا أهل الشرك).
وروينا في الكافي (٤/١٨٤): (إن الله (عزَّ وجلَّ) حيث أخذ ميثاق بني آدم دعا الحجر من الجنة، فأمره فالتقم الميثاق، فهو يشهد لمن وافاه بالموافاة.
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى وضع الحجر الأسود، وهي جوهرة أخرجت من الجنة إلى آدم (عليه السلام) فوضعت في ذلك الركن لعلة الميثاق، وذلك أنه لما أخذ من بني آدم من ظهورهم ذريتهم حين أخذ الله عليهم الميثاق في ذلك المكان، وفي ذلك المكان تراءى لهم، ومن ذلك المكان يهبط الطير على القائم (عليه السلام) فأول من يبايعه ذلك الطائر وهو والله جبرئيل (عليه السلام)، وإلى ذلك المقام يسند القائم ظهره. وهو الحجة والدليل على القائم، وهو الشاهد لمن وافاه في ذلك المكان، والشاهد على من أدى إليه الميثاق والعهد الذي أخذ الله (عزَّ وجلَّ) على
↑صفحة ٨١↑
العباد. وأما القُبلة والإستلام فلعلة العهد.. ألا ترى أنك تقول: أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته، لتشهد لي بالموافاة).
كل ما نفعله هنا اخترناه في عالم الذر والميثاق
في الكافي (١/٤٢٨) عن الإمام الصادق (عليه السلام): (في قول الله (عزَّ وجلَّ): (لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)، يعني في الميثاق. (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً)، قال: الإقرار بالأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) وأمير المؤمنين خاصة، قال: لا ينفع إيمانها لأنها سُلبته).
ومعنى ذلك: أن الأصل في الأعمال والجزاء، امتحاننا في عالم الذر والميثاق، وحتى لو آمن الإنسان في الدنيا وأقر بالأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) ولم يكن آمن بهم في عالم الذر، فلا ينفعه ذلك، لأنه يُسلب منه قبل موته!
كل مقادير الإنسان اختارها في عالم الميثاق
في الكافي (٥/٥٠٤): (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:كان علي بن الحسين (عليهما السلام) لا يرى بالعزل بأساً، فقرأ هذه الآية: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى). فكل شيء أخذ الله منه الميثاق فهو خارج، وإن كان على صخرة صماء).
↑صفحة ٨٢↑
وفي الكافي (٦/١٢): (عن سلام بن المستنير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله (عزَّ وجلَّ): (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)، فقال: المخلقة هم الذر الذين خلقهم الله في صلب آدم (عليه السلام) أخذ عليهم الميثاق ثم أجراهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وهم الذين يخرجون إلى الدنيا حتى يسألوا عن الميثاق. وأما قوله: (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)، فهم كل نسمة لم يخلقهم الله في صلب آدم (عليه السلام) حين خلق الذر وأخذ عليهم الميثاق. وهم النطف من العزل، والسقط قبل أن ينفخ فيه الروح والحياة والبقاء).
أول من أجاب من المخلوقات رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)
في الكافي (١/٤٤١) عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن بعض قريش قال لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): بأي شيء سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال: إني كنت أول من آمن بربي، وأول من أجاب حين أخذ الله ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى، فكنت أنا أول نبي قال بلى، فسبقتهم بالإقرار بالله).
↑صفحة ٨٣↑
وأول من أجاب من الملائكة مَلك الميثاق (عليه السلام)
كما ورد أن أول من أجاب من الملائكة كان الملك الذي حوله الله الى الحجر الأسود، ففي الكافي (١/١٨٥) عن الإمام الصادق (عليه السلام): (كان ملكاً من عظماء الملائكة عند الله فلما أخذ الله من الملائكة الميثاق، كان أول من آمن به وأقر ذلك الملك، فاتخذه الله أميناً على جميع خلقه، فألقمه الميثاق وأودعه عنده، واستعبد الخلق أن يجددوا عنده في كل سنة الإقرار بالميثاق والعهد الذي أخذ الله (عزَّ وجلَّ) عليهم).
أخذ الله ميثاق النبيين على الإقرار بنبينا (صلّى الله عليه وآله وسلم)
ذكر القرآن أنواعاً من المواثيق التي أخذها الله على عباده.
منها على الأنبياء بالطاعة: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ). (آل عمران:٨١).
وروت أحاديثنا كيف أخذ الله ميثاق الأنبياء (عليهم السلام) لسيد الرسل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم). ففي الكافي (٨/١٢١) أن نافعاً القسيس كان مع الخليفة هشام بن عبد الملك في مكة فسأل الإمام الباقر عن المدة بين النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وبين عيسى (عليه السلام) فقال له:
↑صفحة ٨٤↑
(بقولكم ست مئة سنة، وبقولنا خمس مئة. فقال: أخبرني عن قول الله (عزَّ وجلَّ) لنبيه: (وَاسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ). من الذي سأل محمد وكان بينه وبين عيسى خمس مائة سنة؟ قال: فتلا أبو جعفر (عليه السلام) هذه الآية: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). فكان من الآيات التي أراها الله تبارك وتعالى محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلم) حيث أسرى به إلى بيت المقدس أن حشر الله عز ذكره الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين (عليهم السلام)، ثم أمر جبرئيل (عليه السلام) فأذن شفعاً وأقام شفعاً وقال في أذانه حي على خير العمل، ثم تقدم محمد فصلى بالقوم فلما انصرف قال لهم: على مَ تشهدون وما كنتم تعبدون؟ قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك رسول الله، أخذ على ذلك عهودنا ومواثيقنا، فقال نافع: صدقت يا أبا جعفر).
وأخذ الله ميثاق النبيين على نصرة نبينا (صلّى الله عليه وآله وسلم) في الرجعة
ومن أعجب المواثيق أن الله تعالى أخذ ميثاق الأنبياء (عليهم السلام) على نصرة النبي وآله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في الرجعة، التي ستكون في المستقبل!
↑صفحة ٨٥↑
روى في مختصر بصائر الدرجات للحسن بن سليمان/١٦٨، بسنده عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ): قال: ما بعث الله نبياً من لدن آدم فهلم جراً، إلا ويرجع إلى الدنيا فيقاتل وينصر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام)).
فالله يعلم كيف ستكون تلك الرجعة وكيف يكون مجتمعها، ولكن أحاديثها العديدة تدل على أن أمرها يحتاج الى إحياء الأنبياء كلهم (عليهم السلام) ورجوعهم الى الدنيا، وجهاد أعدائهم من جديد، ويكون الرسول نبينا محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وحامل رايته علي (عليه السلام)!
وفي مختصر بصائر الدرجات/٣٢، عن أبي حمزة الثمالي عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: قال قال أمير المؤمنين (عليه السلام)، من حديث:
قد نصرت محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلم) وجاهدت بين يديه وقتلت عدوه، ووفيت لله بما أخذ عليَّ من الميثاق والعهد والنصرة لمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)..وإن لي الكرة بعد الكرة والرجعة بعد الرجعة، وأنا صاحب الرجعات والكرات، وصاحب الصولات والنقمات، والدولات العجيبات، وأنا قرن من حديد، وأنا عبد الله وأخو رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)).
↑صفحة ٨٦↑
وأخذ الله ميثاق المؤمنين على البلايا والتحمل والصمت
قال الإمام الصادق (عليه السلام): (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): إن الله أخذ ميثاق المؤمن على بلايا أربع، أيسرها عليه مؤمنٌ يقول بقوله يحسده، أو منافقٌ يقفو أثره، أو شيطانٌ يغويه أو كافرٌ يرى جهاده، فما بقاء المؤمن بعد هذا)(الكافي (٢/٢٤٩).
وفي رسائل الشهيد الثاني/٣٣١، عن علي (عليه السلام): (أخذ الله ميثاق المؤمن أن لا يصدق في مقالته ولا ينتصف له من عدوه، وعلى أن لا يَشفى غيظَه إلا بفضيحة نفسه، لأن كل مؤمن ملجم، وذلك لغاية قصيرة وراحة طويلة).
وميثاق المؤمنين على محبة بعضهم
في علل الشرائع (١/٨٤) عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن الله تبارك وتعالى أخذ ميثاق العباد وهم أظلة قبل الميلاد، فما تعارف من الأرواح ائتلف، وما تناكر منها اختلف).
وميثاق المؤمنين على محبة علي (عليه السلام)
في كتاب الغارات للثقفي (٢/٥٢٠): (عن حبة العرني عن علي (عليه السلام) قال: إن الله أخذ ميثاق كل مؤمن على حبي، وأخذ ميثاق كل منافق على بغضي، فلو ضربت وجه المؤمن بالسيف ما أبغضني، ولو صببت الدنيا على المنافق ما أحبني).
↑صفحة ٨٧↑
وميثاق الخلق على الإقرار بنبينا وآله (صلّى الله عليه وآله وسلم)
وفي الكافي (٢/٨) عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) قال: (إن الله تبارك وتعالى حيث خلق الخلق خلق ماء عذباً وماء مالحاً أجاجاً، فامتزج الماءان، فأخذ طيناً من أديم الأرض فعركه عركاً شديداً، فقال لأصحاب اليمين وهم كالذر يدبون: إلى الجنة بسلام، وقال لأصحاب الشمال: إلى النار ولا أبالي، ثم قال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ). ثم أخذ الميثاق على النبيين، فقال: ألست بربكم وأن هذا محمد رسولي، وأن هذا علي أمير المؤمنين؟ قالوا: بلى. فثبتت لهم النبوة. وأخذ الميثاق على أولي العزم أنني ربكم ومحمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) رسولي، وعلي أمير المؤمنين، وأوصياؤه من بعده ولاة أمري وخزان علمي، وأن المهدي أنتصر به لديني وأظهر به دولتي وأنتقم به من أعدائي، وأُعبد به طوعاً وكرهاً؟ قالوا: أقررنا يا رب وشهدنا). فالإيمان بالمهدي (عليه السلام) من ميثاق الله تعالى.
↑صفحة ٨٨↑
أما ميثاق المواثيق فهو: ولاية أهل البيت (عليهم السلام)
كل ميثاق أخذه الله فهو ميثاق الله وله حرمته، لكن ولاية النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) ميثاق المواثيق، لأنها مفتاح الإقرار بالتوحيد والنبوة والمعاد، ومفتاح العبادة الصحيحة التي يريدها الله تعالى، فهي الميثاق الأهم عملياً، ولذلك استحقت أن تكون ميثاق الله على الإطلاق، وصح أن نقول للإمام المهدي (عليه السلام): السلام عليك يا ميثاقَ الله.
قال الإمام الباقر (عليه السلام) كما في الكافي (٢/١٨): (بني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية، قال زرارة: فقلت وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن. قلت: ثم الذي يلي ذلك في الفضل؟
فقال: الصلاة، إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: الصلاة عمود دينكم.
قال قلت: ثم الذي يليها في الفضل؟ قال: الزكاة، لأنه قرنها بها وبدأ بالصلاة قبلها، وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): الزكاة تذهب الذنوب.
قلت: والذي يليها في الفضل؟ قال: الحج، قال الله (عزَّ وجلَّ): (وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ). وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): لحَجَةَّ ٌمقبولة خير من عشرين صلاة
↑صفحة ٨٩↑
نافلة، ومن طاف بهذا البيت طوافاً أحصى فيه أسبوعه وأحسن ركعتيه غفر الله له. وقال في يوم عرفة ويوم المزدلفة ما قال.
قلت: فماذا يتبعه؟ قال: الصوم. قلت: وما بال الصوم صار آخر ذلك أجمع؟ قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): الصوم جنة من النار.
قال ثم قال: إن أفضل الأشياء ما إذا فاتك لم تكن منه توبة دون أن ترجع إليه فتؤديه بعينه، إن الصلاة والزكاة والحج والولاية ليس يقع شيء مكانها دون أدائها، وإن الصوم إذا فاتك أو قصرت أو سافرت فيه أديت مكانه أياماً غيرها، وجزيت ذلك الذنب بصدقة ولا قضاء عليك، وليس من تلك الأربعة شيء يجزيك مكانه غيره.
قال ثم قال: ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه، وباب الأشياء ورضا الرحمن: الطاعة للإمام بعد معرفته، إن الله (عزَّ وجلَّ) يقول: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً). أما لو أن رجلاً قام ليله وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره، ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على الله (عزَّ وجلَّ) حق في ثوابه، ولا كان من أهل الإيمان. ثم قال: أولئك المحسن منهم يدخله الله الجنة بفضل رحمته).
↑صفحة ٩٠↑
المواثيق العامة والمواثيق المؤكدة
الميثاق بنفسه عهد مؤكد، والميثاق المؤكد هو المشدد، وقد ذكر القرآن نوعين منه، أحدهما في حقوق الزوجة فعقد الزواج ميثاق غليظ، قال تعالى: (وَكَيْفَ تَأخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظاً).
ووصف العهد الذي أخذه الله على الأنبياء لنصرة نبينا (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقال: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ اقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ). (آل عمران:٨١).
قال في الفروق اللغوية/٥٢٥: (قال بعضهم: العهد يكون حالاً من المتعاهدين، والميثاق يكون من أحدهما).
معنى: السلام عليك يا ميثاق الله
معناه: أنت يا سيدي الحلقة الأخيرة والحاسمة في الميثاق الذي أخذه الله لجدك محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) على الأنبياء والعباد، وأكد عليهم العمل به.
وهو ميثاق ثقيل يوجب على الجميع الإقرار والطاعة.
وهذا الميثاق يا سيدي متجسد فيك، فأنت ميثاق الله تعالى.
وأنا يا سيدي وفيٌّ لميثاقي في الإقرار بكم، ونفسي وأهلي ومالي فداءٌ لكم، ونصرتي لكم معدة، وأنا رهن أمرك.
↑صفحة ٩١↑
(٩) السلام عليك يا وعدَ الله الذي ضَمِنَه
الوعد الإلهي بدولة العدل
في القرآن الكريم بضع آيات تؤكد على الوعد بدولة العدل الإلهي في الأرض، كقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً).
وقال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ). (الأنبياء:١٠٥) وهي مطلقة، تشمل الوراثة في الدنيا والآخرة.
وقال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ). (البقرة:٣٠).
فلم ينفِ الله (عزَّ وجلَّ) إفساد بني آدم في الأرض وسفكهم الدماء، لكنه قال للملائكة إني أعلم ما لا تعلمون، أي أن ذلك سيكون الى وقت معين، ثم أنهيه وأقيم دولة العدل في الأرض!
وقال تعالى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى
↑صفحة ٩٢↑
لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ). (النور:٥٥).
وهو وعدٌ للمؤمنين من أمة نبينا (صلّى الله عليه وآله وسلم) بأن ينصرهم بعد خوفهم، ويمكِّن لهم دولة العدل، فلا يكفر بعدها إلا قلة شاذة.
وقال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا). (الفتح:٢٨-٢٩).
فالذين معه هم لا بد أن يكونوا منظومة الأئمة من عترته، وهم غير الصحابة الذين آمنوا معه، وهم شطأ شجرته أي أولادها، وهم الرحماء بينهم، والصحابة أشداء بينهم.
وقد وعد الله تعالى أن يغيظ بهم الكفار، وهو الى الآن لم يحصل.
وقال تعالى: (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ). (هود:٨).
↑صفحة ٩٣↑
والآية تدل على أن هذا العذاب حتمي على فجار هذه الأمة، وأنه لم يرفع ولكنه أُخر الى وقته، وسيكون على يد أمة معدودة من الناس.
وقد ورد تفسير الأمة المعدودة بأنهم أصحاب المهدي (عليه السلام).
وفسر بعضهم الأمة بالمدة، ولا يصح لأنها لم ترد بمعنى المدة.
الى غير ذلك من آيات الوعد الإلهي بدولة العدل، والتي لم يَدَّعِ أحد أنها تكون إلا على يد المهدي (عليه السلام)، وأيدت ذلك الأحاديث المفسرة لها.
تأكيد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) على حتمية الوعد الإلهي
عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (سيكون من بعدي خلفاء ومن بعد الخلفاء أمراء ومن بعد الأمراء ملوك ومن بعد الملوك جبابرة، ثم يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً). (الكبير للطبراني: ٢٢/٣٧٥).
وقال (صلّى الله عليه وآله وسلم): (ويحُ هذه الأمة من ملوك جبابرة، كيف يقتلون ويخيفون المطيعين إلا من أظهر طاعتهم، فالمؤمن التقي يصانعهم بلسانه ويفر منهم بقلبه. فإذا أراد الله (عزَّ وجلَّ) أن يعيد الإسلام عزيزاً، قصم كل جبار، وهو القادر على ما يشاء أن يصلح أمةً بعد فسادها.
↑صفحة ٩٤↑
فقال (عليه السلام): يا حذيفة لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوَّلَ الله ذلك اليوم حتى يملك رجل من أهل بيتي، تجري الملاحم على يديه ويظهر الإسلام، لا يخلف وعده وهو سريع الحساب). (مسند أحمد:١/٩٩).
وفي مسند البزار (٢/١٣٤): (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جوراً).
وبشر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فاطمة (عليها السلام) فقال لها: (نبينا خير الأنبياء وهو أبوك، وشهيدنا خير الشهداء وهو عم أبيك حمزة، ومنا من له جناحان يطير بهما في الجنة حيث يشاء، وهو ابن عم أبيك جعفر، ومنَّا سبطا هذه الأمة الحسن والحسين، وهما إبناك، ومنا المهدي). (الطبراني الصغير:١/٣٧).
وفي أمالي الطوسي:١/٣٦١، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى من حديث جاء فيه: (معاشر المؤمنين أبشروا بالفرج، فإن وعد الله لا يخلف، وقضاءه لا يرد، وهو الحكيم الخبير، فإن فتح الله قريب. اللهم إنهم أهلي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. اللهم أكلأهم وارعهم وكن لهم، وانصرهم وأعنهم وأعزهم ولا تذلهم، واخلفني فيهم. إنك على كل شيء قدير).
هذا، وقد عقدنا فصلاً في معجم أحاديث الإمام المهدي (عليه السلام) /١٧٥، لبشارة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل بيته (عليهم السلام)، بالمهدي (عليه السلام).
↑صفحة ٩٥↑
الوعد الإلهي فوق المحتوم
في غيبة النعماني/٣١٥، عن الإمام الجواد (عليه السلام) قال: (قلنا له: فنخاف أن يبدو لله في القائم. فقال: إن القائم من الميعاد، والله لا يخلف الميعاد).
وقد تسأل عن وصف الوعد بالمضمون مع أن كل وعد إلهي مضمون.
والجواب: أن وصفه بالمضمون ليس لوجود وعد غير مضمون، بل لبيان أن ضمان الوعد بدولة العدل أمر كبير معقد، لكنه على الله تعالى هَيِّنٌ، فهو سبحانه يملك كل الأوراق، وسيدير حياة الإنسان ومجتمعه حتى تخضع لدوله المهدي (عليه السلام) وينهي الظلم ويقيم دولة العدل.
↑صفحة ٩٦↑
(١٠) السلام عليك أيُّهَا العَلَمُ المَنْصُوب
والعِلْمُ المَصْبُوب، والغَوْثُ والرحمةُ الواسعة، وعداً غيرَ مكذوب
معنى العَلَمُ المنصوب
العَلَم المنصوب: الإمام الذي نصبه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) لأمته عَلَماً، تهتدي به في طريقها، فهو وصيه وخليفته في أمته، تتلقى منه معالم دينها وتطيعه.
قال حذيفة في حديثه: (فخرجنا إلى مكة مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع فنزل جبرئيل فقال: يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول: أنصب علياً عَلَماً للناس، فبكى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) حتى اخضلت لحيته، وقال: يا جبرئيل إن قومي حديثوا عهد بالجاهلية، ضربتهم على الدين طوعاً وكرهاً حتى انقادوا لي، فكيف إذا حملت على رقابهم غيري، قال: فصعد جبرئيل.. الى آخر الحديث). (إقبال الأعمال:٢/٢٤٠).
وفي الحديث القدسي في المعراج: (فانصب علياً علماً لعبادي، يهديهم إلى ديني). (الجواهر السنية /٥٨٧).
↑صفحة ٩٧↑
والإمام المهدي (عليه السلام) منصوب من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) إماماً نصباً مباشراً بنصه عليه، ونصباً غير مباشر لأنه منصوب من أبيه وأجداده حتى يصل الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم). فالمعنى: السلام عليك يا من نصبه رسول الله إماماً وَعَلَماً.
معنى: العِلْمُ المَصْبُوب
قال الله تعالى: (فَلْيَنظُرِ الاِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ. أنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الاَرْضَ شَقًّا. فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا. وَعِنَبًا وَقَضْبًا). (عبس:٢٤-٢٨).
وقد فسر اللغويون صب الماء بالسكب ليكون مهيأً للشرب أو الاستفادة، فيكون معنى أن الإمام (عليه السلام) هو العِلْمُ المصبوب: أنه صاحب عِلْمٍ رباني وافر متنوع، مسكوب للناس ومهيأ لاستفادتهم، في المكان المناسب، والقدر اللازم لحاجتهم.
فالتعبير بالصب يشير الى أن مصدر العلم هو الله تعالى، ويشير الى الحكمة في تيسيره. والتعبير بأن الإمام هو العلم يشير الى كثرة علمه ودوامه كما تقول: زيدٌ عدلٌ، أي شديد العدالة دائمها.
كما أن العلم المصبوب يقابل العلم المخزون أو المكتوم، ويدل على أن المهدي يتميز عن المعصومين الذين أمروا أن يكتموا بعض علمهم.
↑صفحة ٩٨↑
الإمام المهدي غوث الأمة والعالم
عرَّفوا الغوث بأنه: نصرة المضطر عند الشدة. (مقاييس اللغة:٤/٤٠٠). ومعناه أن الله تعالى يُغيث العباد بالإمام المهدي (عليه السلام)، فيخلصهم من شدائدهم التي تورطوا فيها.
وفي حديث عقد الدرر للسلمي/٩٠، عن علي (عليه السلام) قال: (فيأمر الله (عزَّ وجلَّ) جبريل (عليه السلام) فيصيح على سور مسجد دمشق: ألا قد جاءكم الغوث يا أمة محمد، قد جاءكم الغوث يا أمة محمد، قد جاءكم الفرج، وهو المهدي، خارجٌ من مكة فأجيبوه).
وقد وردت الاستغاثة به بعد زيارته (عليه السلام): (يا مولاي يا صاحب الزمان، الغوثَ الغوثَ الغوث، أدركني أدركني أدركني). (مزار المشهدي/٥٩١).
وفي نسخة: الأَمَانَ الأَمَانَ الأَمَانَ. السَّاعَةَ السَّاعَةَ السَّاعَةَ، الْعَجَلَ الْعَجَلَ الْعَجَلَ.
أما المتصوفة فقد صادروا لقب الغوث، وسموا به رئيسهم!
ففي تهذيب ابن عساكر(١/٦٢): (النقباء ثلاث مائة والنجباء سبعون، والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعمد أربعة، والغوث واحد، فمسكن النقباء المغرب، ومسكن النجباء مصر، ومسكن الأبدال الشام، والأخيار سياحون في الأرض، والعُمُد في زوايا الأرض. ومسكن الغوث
↑صفحة ٩٩↑
مكة، فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل فيها النقباء، ثم النجباء، ثم الأبدال ثم الأخيار، ثم العُمُد، فإن أجيبوا وإلا ابتهل الغوث، فلا تتم مسألته حتى تجاب دعوته).
أقول: هذه المناصب افتراضية منهم، وكذلك ما زعموه للغوث، وقد يسمونه القطب، وقولهم إنه لا ترد له دعوة تعني أنه معصوم!
الإمام المهدي: الرحمة الواسعة
قد يقال كيف يوصف الإمام المهدي (عليه السلام) بأنه الرحمة الواسعة، وهو النقمة الإلهية من الظالمين والعصاة؟
ففي الكافي (٨/٢٣٣) عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إذا تمنى أحدكم القائم فليتمنه في عافية، فإن الله بعث محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلم) ويبعث القائم نقمة).
وفي البحار (٦٠/٢١٣) عن تاريخ قم، عن الإمام الصادق (عليه السلام): (ثم يظهر القائم ويصير سبباً لنقمة الله وسخطه على العباد، لأن الله لا ينتقم من العباد إلا بعد إنكارهم حجة)
فهو الغضب الرباني والنقمة، فكيف يكون الرحمة الواسعة؟
↑صفحة ١٠٠↑
والجواب: أن هذه النقمة جزئية، لأنها على بعض الكافرين والفراعنة. والنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) بهذا المعنى كان نقمة أيضاً، ومع ذلك وصفه الله تعالى بأنه رحمة للعالمين فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).
وكذلك وصف الإمام الصادق الإمام المهدي (عليهما السلام) كما في حديث اللوح الذي جاء به جبرئيل (عليه السلام) الى الزهراء (عليها السلام) وفيه أسماء الأئمة من أولادها: (وأكمل ذلك بابنه محمد، رحمة للعالمين، عليه كمال موسى، وبهاء عيسى، وصبر أيوب). (الكافي:١/٥٢٨).
فكونه نقمة على بعض الفجار، لا يمنع كونه رحمة لعامة الناس.
قال الإمام الرضا (عليه السلام) يصف نداء البشارة بالإمام المهدي (عليه السلام): (كأني آيس ما كانوا قد نودوا نداءً يُسمع من بُعدٍ كما يُسمع من قُربٍ، يكون رحمةً للعالمين، وعذاباً على الكافرين). (كمال الدين:٢/٣٧٦).
معنى: وعداً غيرَ مكذوب
ورد هذا التعبير في القرآن في إنذار صالح لقومه، قال تعالى: (فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ). (هود:٦٥).
لكنه وعدٌ بالعذاب، وهذا وعدٌ بالرحمة والرخاء.
↑صفحة ١٠١↑
ولم أجد هذا التعبير في كل القرآن والسنة في غير هذين الموردين!
ومعناه وعداً قطعياً حتمياً لا يُخلف.
والتقابل بينهما هو التقابل بين العذاب والرحمة الإلهية، وقد قال تعالى: (عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ).
↑صفحة ١٠٢↑
الفصل الثالث: حب المؤمن لإمامه المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وهيامه به
وهل الإيمان إلا الحب والبغض؟
حب المؤمن لنبيه (صلّى الله عليه وآله وسلم) وإمامه (عليه السلام) حبٌّ خاصٌّ، قد يصل الى حد الهيام بشخصية الإمام الفريدة، التي تتجسد فيها إرادة الله تعالى، وتتجلى فيها أسماؤه وأنواره.
قال الفضيل بن يسار: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحب والبغض، أمن الإيمان هو؟ فقال: وهل الإيمان إلا الحب والبغض؟ ثم تلا هذه الآية: (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)). (الكافي:٢/١٢٤).
وفي مستدرك الحاكم (٢/٢٩١): (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء. وأدناه أن تحب على شيء من الجوْر وتبغض على شيء من العدل. وهل الدين إلا الحب والبغض. قال الله (عزَّ وجلَّ): (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ)).
↑صفحة ١٠٣↑
يتفاوت الناس في طاقة الحب والبغض!
يحتاج الإيمان الى طاقةٍ من حب الخير وبغض الشر، تجعل الإنسان يتفاعل مع الكون والطبيعة والمجتمع، ومع العقائد والمشاعر، فينبض قلبه وتجيش مشاعره، حباً للحق والخير، وبغضاً للباطل والشر.
ويتفاوت الناس في طاقة الحب التي أعطاهم الله، وفي تربية الشخص وتنميته لها. والبغض مثله دائماً أو غالباً.
فقويُّ العاطفة والحب، المملوء حيويةً، مرشحٌ لأن يكون مؤمناً متديناً. أما ضعيف العاطفة، الذي قلما تجيش مشاعره أو ينبض قلبه، فهو يشبه الميت، وليس مرشحاً للإيمان أو لدرجة عالية فيه.
وقد وصف الله تعالى هذين النوعين من الناس فقال: وقال تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِى بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا). (الأنعام:١٢٢).
وكل إنسان لا بد أن يكون محباً لنفسه ولأنواعٍ من الخير أو الشر، فإن وجدت شخصاً لا يحب الله ورسوله وأولياءه مثلاً، فابحث عمن يحب بدلهم، أو في مقابلهم!
↑صفحة ١٠٤↑
ويحتاج الحب والبغض الى العقل والشرع
ولا تكفي طاقة الحب والبغض وحدها ليكون الإنسان مقبول الإيمان بل لا بد له من عقل يوجه حبه وبغضه، ويحفظهما في نطاق الاعتدال والشرع، وهذا معنى الحب في الله والبغض في الله (عزَّ وجلَّ)، أي الخاضع لأحكام الشريعة، وأوامر الله تعالى ونواهيه.
قال الإمام الباقر (عليه السلام): (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): وُدُّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان. ألا ومن أحب في الله، وأبغض في الله، وأعطى في الله، ومنع في الله، فهو من أصفياء الله). (الكافي (٢/١٢٤).
وروى ابن عبد البر في التمهيد (١٧/٤٣٠): (عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): يا عبد الله بن مسعود. قلت: لبيك يا رسول الله، قال: تدري أي عرى الإيمان أوثق؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال: الولاية في الله، والحب والبغض فيه).
↑صفحة ١٠٥↑
حب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) أرقى أنواع الحب
روى في الكافي (٨/٧٨) عن الإمام الصادق (عليه السلام) هذه الرواية العجيبة، قال: (كان رجلٌ يبيع الزيت وكان يحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) حباً شديداً، كان إذا أراد أن يذهب في حاجته لم يمض حتى ينظر إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)!
وقد عَرف ذلك منه، فإذا جاء تطاول له حتى ينظر إليه، حتى إذا كان ذات يوم دخل عليه فتطاول له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) حتى نظر إليه، ثم مضى في حاجته فلم يكن بأسرع من أن رجع!
فلما رآه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قد فعل ذلك أشار إليه بيده إجلس فجلس بين يديه فقال: مالك فعلت اليوم شيئاً لم تكن تفعله قبل ذلك؟
فقال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق نبياً لَغَشِيَ قلبي شيء من ذكرك حتى ما استطعت أن أمضي في حاجتي، حتى رجعت إليك، فدعا له وقال له خيراً.
ثم مكث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أياماً لا يراه، فلما فقده سأل عنه فقيل: يا رسول الله ما رأيناه منذ أيام، فانتعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وانتعل معه أصحابه وانطلق حتى أتوا سوق الزيت، فإذا دكان الرجل ليس فيه أحد، فسأل عنه جيرته فقيل: يا رسول الله مات، ولقد كان عندنا أميناً
↑صفحة ١٠٦↑
صدوقاً، إلا أنه قد كان فيه خصلة! قال: وما هي؟ قالوا: كان يرهق، يعنون يتبع النساء. فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): رحمه الله، والله لقد كان يحبني حباً لو كان نَخَّاساً لغفر الله له).
أقول: النخاس بائع الجواري، وهو عادة يقع في الحرام ويرتكب الزنا معهن. ومعنى قول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم):إن حب الشاب بياع الزيت له وهيامه به، حتى لا يستطيع أن يذهب الى عمله حتى يراه كل يوم، هذا الحب، يغلب ذنوبه حتى لو كانت كذنوب نخاس زناء.
ونلاحظ في الحديث شهادة رفقاء بياع الزيت بصدقه وأمانته، فذلك من تأثير حبه للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وإن بقيت عنده معاص في سلوكه.
كما نلاحظ أن مؤشرب حبه (رضي الله عنه) دله على أن يرى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لآخر مرة، فرجع اليه ليراه رؤية مودع، ثم توفي بعد ذلك!
وقال بريد بن معاوية العجلي (رحمه الله) (تفسير العياشي:١/١٦٧):
(كنت عند أبي جعفر (الإمام الباقر (عليه السلام)) إذ دخل عليه قادمٌ من خراسان ماشياً، فأخرج رجليه وقد تغلفتا (ورمتا من المشي) وقال: أما والله ما جاء بي من حيث جئت إلا حبكم أهل البيت! فقال أبو جعفر (عليه السلام): والله لو أحبنا حجر حشره الله معنا، وهل الدين إلا الحب، إن الله يقول: (قُلْ
↑صفحة ١٠٧↑
إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ). وقال: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ). وهل الدين الا الحب.
وقال ربعي بن عبد الله: قيل لأبي عبد الله (الإمام الصادق (عليه السلام)): جعلت فداك إنا نسمى بأسمائكم وأسماء آبائكم فينفعنا ذلك؟
فقال: إي والله، وهل الدين إلا الحب؟ قال الله: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)).
أقول: يدل قول الإمام الباقر (عليه السلام): لو أحبنا حجر حشره الله معنا، على أن الجمادات لها أرواح بحسبها، كما نذهب اليه، ولذلك قال الله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ). كما يدل على أن الحشر يوم القيامة شامل لكل ذوات الأرواح والنبات والجماد.
وفسره بعضهم بوجه ضعيف: لو أحبنا شخص قلبه حجر، لصلح بحبنا وحشره الله معنا، فيكون معناه تأثير حبهم في حسن عاقبة الإنسان.
أما معنى نفع تسمية أولادنا بأسماء أهل البيت (عليهم السلام) فهو أن ذلك يقربنا من الله تعالى فينفعنا، كما ينفع أولادنا بتأثير وضعي وشرعي.
↑صفحة ١٠٨↑
الفرق بين الحب والعشق
استعمل العرب مادة عَشِقَ في الحب المفرط، واشتهر في حب الرجل للمرأة والعكس، فعندما تقول فلان عاشق فمعناه مغرم بحب امرأة، ولا يفهم منه غير ذلك إلا بقرينة. (العين:١/١٢٤).
وقال ابن فارس(٤/٣٢١): (يدل على تجاوز حد المحبة). ويحتمل أن يكون أصلها فارسياً، فـ (إيشك) الفهلوية تعني غرام الرجل والمرأة.
ولم يستعمل القرآن كلمة العشق، واستعمل بدلها مادة الحب في أكثر من سبعين مورداً، ولعل السبب أنها أوسع منها وأكثر احتراماً.
وقد فرق ابن الرومي بين العشق فجعله للغانيات، وجعل الحب لعلي وأهل البيت (عليهم السلام)، قال (مناقب آل أبي طالب:٢/٢٣٠):
يا هندُ لم أعشق ومثلي لا يَرَى * * * عِشْقَ النساءِ، ديانةً وتحَرُّجَا
لكنَّ حبي للوصي مخيمٌ * * * في الصدر يسرحُ في الفؤاد تولجا
فهو السراج المستنير ومن به * * * سببُ النجاة من العذاب لمن نجا
↑صفحة ١٠٩↑
لكن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) استعمل العشق للعبادة، فقال (الكافي:٢/٨٣): (أفضل الناس من عشق العبادة، فعانقها وأحبها بقلبه، وباشرها بجسده وتفرغ لها، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا على عسر أم على يسر).
ونلاحظ أنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) استعمل أوصاف العاشقين من المعانقة والمباشرة، لينقل معنى العشق الجنسي الى العشق المعنوي للعبادة لتكون محبوبة العابد، يهيم بتلاواتها، ويأنس بركوعها وسجودها، ويتلذذ بعطش صومه وجوعه!
كما رود عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنه جعل العشق أشد درجةً من الشوق، فقال: (إن الجنة لأشوق إلى سلمان من سلمان إلى الجنة، وإن الجنة لأعشق لسلمان من سلمان إلى الجنة). (روضة الواعظين/٢٨٢).
ليس كل عشق مذموماً
العشق المذموم: ما يصرف الإنسان عن واجب، أو يوقعه في حرام. أما ما عداه فهو عشق حلال، وقد يكون مستحباً ومندوباً اليه، كما رأيت في وصف النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) لعاشق العبادة.
وقد ذمَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) عشق الدنيا، وقصده الذي يسيطر على الإنسان فيرى الأمور بمنظار نفعي، وليس بمنظار عقلاني رباني.
↑صفحة ١١٠↑
قال (عليه السلام) (نهج البلاغة:١/٢١١): (سبحانك خالقاً ومعبوداً، بحسن بلائك عند خلقك. خلقت داراً وجعلت فيها مأدبة: مشرباً ومطعماً، وأزواجاً وخدماً، وقصوراً وأنهاراً، وزروعاً وثماراً.
ثم أرسلت داعياً يدعو إليها، فلا الداعي أجابوا، ولا فيما رغبت رغبوا، ولا إلى ما شوقت إليه اشتاقوا. أقبلوا على جيفة افتضحوا بأكلها، واصطلحوا على حبها، ومن عشق شيئاً أعشى بصره، وأمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة ويسمع بأذن غير سميعة، قد خرقت الشهوات عقله، وأماتت الدنيا قلبه، وولهت عليها نفسه، فهو عبد لها، ولمن في يده شيء منها)!
وقد ذمَّ الإمام الصادق (عليه السلام) العشاق الهائمين لأنهم ينشغلون بعشقهم عن ذكر الله تعالى، ففي علل الشرائع(١/١٤٠) قال المفضل بن عمر: (سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) عن العشق فقال: قلوب خلت من ذكر الله، فأذاقها الله حب غيره).
↑صفحة ١١١↑
وقال في عمدة القاري (١٤/١٢٧): (وروى البزار بسند صحيح عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه: من عشق وعَفَّ وكتم ومات، مات شهيداً). لكنه مدح لمن لم يرتكب حراماً، ولم يرفعه الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم).
هذا، وقد شاع عند الصوفية والعامة استعمال العشق للنبي وآله (صلّى الله عليه وآله وسلم) تعبيراً عن شدة الحب الى حد الهيام، وقد استنكره بعضهم، لكن لا أرى فيه بأساً ما دام المقصود منه مفهوماً. وتقدم أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) استعمله للعبادة.
جاذبية شخصية الإمام المهدي (عليه السلام)
تشعر وأنت تقرأ بشارة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) بولده المهدي الموعود (عليه السلام) بأنه يريد أن يحببك به! فقد وصفه وصفاً معنوياً بأنه سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً. كما وصف شكله وأنه أجلى الجبهة، أقنى الأنف، براق الجبين، أفرق الثنايا، أزجُّ، أبلج، أعين، في خده الأيمن خال أسود، حسن الوجه، وجهه كالقمر الدري، شمائله شمائلي، أشبه الناس بي خلقاً وخلقاً، يُبعث وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين. (معجم أحاديث الإمام المهدي (عليه السلام):٢/٥١٦)
↑صفحة ١١٢↑
وتقرأ في زيارة آل ياسين - وقد رجحنا أن تكون من نص الحسين بن روح (رحمه الله) - سبع تسليمات على الإمام (عليه السلام) في حالاته المختلفة:
١١. السلام عليك حين تقعد، السلام عليك حين تقوم.
١٢. السلام عليك حين تقرأ وتُبيِّن.
١٣. السلام عليك حين تُصلي وتقنت.
١٤. السلام عليك حين تركع وتسجد.
١٥. السلام عليك حين تُكبِّر وتُهلل.
١٦. السلام عليك حين تحمد وتستغفر.
١٧. السلام عليك حين تمسي وتصبح.
١٨. السلام عليك في الليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى.
١٩. السلام عليك أيها الإمام المأمون.
٢٠. السلام عليك أيها المقدم المأمول.
٢١. السلام عليك بجوامع السلام.
وهذه الفقرات ابتكار في عشق الإمام (عليه السلام) في حالاته المختلفة، كالمصور الذي يركز اللقْطة على حالة خاصة، أو لحظة خاصة.
↑صفحة ١١٣↑
أو كمن يعجب بمحبوبه في حالة معينة، فيقول له: نفسي فداك عندما تبتسم، أو ما أجملك وأنت تتكلم، أو ما أجمل قامتك، وكم أكون سعيداً بالنظر إليك وأنت واقف.
واستعمل كلمة (حين) أي الوقت الذي، وإنما قصد الفعل في ذلك الحين. والمعنى: السلام عليك وأنت تقوم بذلك في ذلك الحين.
ومعنى الفقرة الأولى:
سلام الله عليك يا مولاي حين تقعد، أي وأنت قاعد في غيبتك، تقوم بمهامك مع الخضر وأصحابك الأبدال، جنود الله في الغيب.
وسلام الله عليك عندما تقوم وتظهر، وتسند ظهرك الى ركن الكعبة، وتوجه بيانك الأول الى العالم بلغاته، وتخاطب شعوب الأرض بأن تنصرك لتنهي الظلم وتقيم دولة العدل الإلهي.
فالفقرة تشير الى أن المهدي (عليه السلام) إمام رباني سواء قام أو قعد، وسواء غاب أو ظهر، كما قال الإمام الحسن (عليه السلام) لمن اعترض على صلحه مع معاوية: (يا أبا سعيد، ألستُ الذي قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لي ولأخي:
↑صفحة ١١٤↑
الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟ قلتُ: بلى، قال: فأنا إذن إمامٌ لو قمتُ وأنا إمامٌ لو قعدتُ.
يا أبا سعيد، عِلَّةُ مصالحتي لمعاوية عِلة مصالحة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لبني ضُمرة وبني أشجع ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية، أولئك كفارٌ بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفارٌ بالتأويل). (علل الشرائع:١/٢١١).
ومعنى السلام عليك حين تقوم:
سلام الله عليك يا سيدي وأنت واقفٌ فما أجمل قوامك وأنت أشبه الناس بجدك المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم)، شمائلك شمائله، وأخلاقه، وتركيب بدنك كبدنه، تنام عيناك ولا ينام قلبك، وليس لبدنك ظل. سلامٌ عليك عندما تظهر وينظر اليك الناس، فتذكرهم بجدك محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)!
ومعنى: السلام عليك حين تقرأ وتُبيِّن:
أي حين تقرأ القرآن وتبينه للناس، وتبين لهم سنة جدك (صلّى الله عليه وآله وسلم). والمقصود عندما يظهر (عليه السلام)، لأنه في غيبته لم يبين لكل الناس.
↑صفحة ١١٥↑
أما عندما يظهر فسيخاطب الناس بلغاتهم، ويستخرج لليهود أسفاراً من التوراة من جبل بالشام وجبل بفلسطين، ويقرؤها عليهم، فيندهشون لخبرته بها ويُسلم منهم ألوف. (معجم أحاديث الإمام المهدي:٢٥٠١).
والأئمة (عليهم السلام) يعرفون كل لغات العالم، لأنهم حجة الله على العالم.
وقد ورد أن الإمام الكاظم (عليه السلام) لما كان صغير السن قرأ الإنجيل أمام بريهة الراهب فقال بريهة (الكافي:١/٢٢٧): (والمسيح لقد كان يقرأ هكذا وما قرأ هذه القراءة إلا المسيح! ثم قال بريهة: إياك كنت أطلب منذ خمسين سنة أو مثلك! قال: فآمن وحسن إيمانه، وآمنت المرأة وحسن إيمانها. قال: فدخل هشام وبريهة والمرأة على أبي عبد الله (عليه السلام) وحكى هشام الحكاية والكلام الذي جرى بين موسى (عليه السلام) وبريهة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). فقال بريهة: جعلت فداك أنى لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء؟ قال: هي عندنا وراثة من عندهم نقرؤها كما قرؤوها ونقولها كما قالوها، إن الله لا يجعل حجة في أرضه يسأل عن شيء فيقول: لا أدري.
فلزم بريهة أبا عبد الله (عليه السلام) حتى مات أبو عبد الله، ثم لزم موسى بن جعفر حتى مات في زمانه فغسله بيده وكفنه بيده ولحده بيده، وقال:
↑صفحة ١١٦↑
هذا حواري من حواريي المسيح يعرف حق الله عليه، قال: فتمنى أكثر أصحابه أن يكونوا مثله).
وفي عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (٢/١٣٩) في مناظرته مع حاخام، قال: (يا يهودي خذ عليَّ هذا السفر من التوراة، فتلى علينا من التوراة آيات، فأقبل اليهودي يترجج لقرائته، ويتعجب)!
فمعنى الفقرة: السلام عليك يا سيدي وأنت تقرأ القرآن وتفسره للمسلمين، وتقرأ التوراة والإنجيل، وتفسرهما لأهل الكتاب.
والسلام عليك وأنت تعبد ربك وتتلو كتابه، وأنت تعبد ربك وتبين دينه ووحيه، لكل الناس.
ومعنى قوله: السلام عليك حين تُصلي وتقنت: أني معجب بك يا سيدي وأنت في صلاتك وقنوتك لربك، فسلامُ الله عليك وأنت خاشع لربك، وروحي لك الفداء وأنت رافعٌ يديك تناجي ربك وتدعوه.
فالفقرة صورة من صلاة المعصوم وقنوته، وقد وردت روايات عديدة في وصفهما، منها في وصف صلاح أمير المؤمنين وزين العابدين (عليهما السلام)، كما ورد في صفة المهدي (عليه السلام) أنه خاشع لربه خشوع النسر بجناحه.
↑صفحة ١١٧↑
ومعنى قوله: السلام عليك حين تركع وتسجد:
أني أحبك يا سيدي وأنت على علو مقامك تركع بين يدي ربك، وتعظم مقامه، وتعلم الناس عبادته، والانحناء أمام عظمته.
تعلمهم أن العزة بالعبودية، وبالانحناء لعظمة الله تعالى، وأن كمال الإنسان بالاعتراف بخالقه وربه، الذي أكرمه من بين المخلوقات.
والسلام عليك وأنت تسجد لربك، فتذوب خضوعاً للخالق العظيم وتُعلم الناس أن تكاملهم إنما هو بعمق عبادتهم لربهم، وإخلاص سجودهم بين يديه، وأن الإنسان إذا صار صفراً بين يدي ربه تحول الى رقم صعب، مقدس في ملكوت الله.
ومعنى قوله: السلام عليك حين تُكبِّر وتُهلل:
السلام عليك وأنت تعبد الله تعالى، فتكبره في صلاتك، وبعد صلاتك في تسبيح جدتك الزهراء (عليهما السلام). وتهلله في شهادتك بوحدانيته، في أذانك وإقامتك، وذكرك وشكرك.
والسلام عليك عندما تظهر، وتعلن أن الله تعالى أكبر من كل شيء، ومن الطواغيت المتسلطين على الأرض، ومن قوة جيوشهم.
↑صفحة ١١٨↑
فسلام الله عليك وأنت تطبق شعار: الله أكبر، فتحطم أعداءه، وتهزم جيوشهم، وتتبر ما علوا تتبيرا.
وتعلن أن الله أكبر، فتكشف خططهم، وتخبرهم بنواياهم، وتهزم مخابراتهم، بما علمك الله من علم، وهداك اليه من أسلوب عمل.
وسلام الله عليك وأنت تهلل الله تعالى، فتوحده في ذاته وصفاته، وتكشف الذين تطاولوا عليه فصغروا عظمته، وشبهوه بخلقه، وجعلوه جسماً محدوداً، وهو خالق الأجسام ومجسمها.
وسلام الله عليك وأنت توحده في ربوبيته فتعلن انتهاء الأرباب والأنداد لله، والمطاعين دونه، في طول الأرض وعرضها. وتعلن أنه لا سلطان بعد اليوم الى يوم القيامة، ولا حكم إلا لله تعالى ومن ينصبه حاكماً على عباده في أرضه، يحكم بينهم بالعدل والهدى والرأفة.
ومعنى قوله: السلام عليك حين تحمد وتستغفر:
أني أحبك يا سيدي وأنت تحمد ربك، فتعترف له وتعلن أن جميع النعم في الكون منه لا غير. وتدعو الناس الى الاعتراف بذلك.
↑صفحة ١١٩↑
وسلام الله عليك يا سيدي وأنت تعترف بمحدودية الإنسان وقصوره عن أداء شكر ربه، وتعلن أن حق الخالق عظيم لا يمكن لأحد مهما علا مقامه أن يوفيه، فستغفره لتقصيرك في طاعته وأداء شكره، كمن أذنب ذنباً منا، وأنت بلا ذنب. أو ارتكب مخالفة، وأنت معصوم!
ومعنى قوله: السلام عليك حين تمسي وتصبح:
أني أحبك يا سيدي في هاتين الحالتين، فالسلام عليك وأنت تُسَبِّحُ ربك في هذين الوقتين: (فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ).
وأتصورك يا سيدي تمسي في مدينة جدك (صلّى الله عليه وآله وسلم)، لأنها مسكنك ومقرك، فتصلي فريضتك ونافلتك عند جدك، أو في مسكنك.
أو تكون في أي مكان من أرض الله، تنفذ فيه مهمةً، أو يكون لك غرضٌ في زيارته. فسلام عليك وأنت تعيش الزمن، تمسي وتصبح في طاعة الله وذكره، وتعرف كيف تعيش وتعمر أيامك بطاعة ربك وعبادته، تعمل لما يدوم ويبقى، وتعرض عما يزول ويفنى.
هذا، وينبغي أن نشير الى بقية عناصر الجذب في شخصيته (عليه السلام) وهي كثيرة:
منها: أنه عاش عمراً طويلاً وبقي كهلاً، وكذلك المسيح (عليه السلام).
↑صفحة ١٢٠↑
ومنها: أن والدته (عليه السلام) من بنات القياصرة، ومن ذرية هارون (عليه السلام).
ومنها: بنيته البدنية المميزة، حتى أنه لو مد يده الى شجرة لقلعها.
ومنها: عاطفته على الفقراء، ففي صفته أنه سخيٌّ بالمال شديدٌ على العمال، رحيم بالمساكين، كأنما يلعق المساكين الزُّبد والعسل.
ومعنى قوله: السلام عليك في الليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى:
السلام عليك وأنت تعيش في الزمن، في حركة الليل والنهار، فأنت عندنا في الأرض، تجري عليك حركة الزمن، ولست كنبي الله عيسى (عليه السلام) في جو خاص في السماء، حتى يعود الى الأرض ويكون بيننا ويعيش مثلك ومثلنا، في حركة ليلنا ونهارنا.
ومعنى قوله: السلام عليك أيها الإمام المأمون:
سلام الله عليك أيها الإمام الرباني، المأمون على علوم الله التي أعطاك والمأمون على عباد الله الذين استرعاك.
فأنت يا سيدي مأمونٌ من أن تضيع حقاً، أو تقصر في واجب، أو تخطئ في تصرف، لأنك مهديٌّ من الله، معتصم به، معصوم بعنايته.
وأنت مأمون من أذى أحد من الناس، ومأمول من كل الناس.
↑صفحة ١٢١↑
وتعبير الإمام المأمون، يشير الى عقيدتنا في شرط العصمة في الإمام لأن الله تعالى لا يسلم عباده لهدايتهم وإقامة العدل فيهم، لغير معصوم.
فهو وصف بليغ يشير الى عصمته.
ومعنى قوله: السلام عليك أيها المقدم المأمول:
السلام عليك يا سيدي، أنت المقدم من ربه، والرائد في أمته، ومركز أمل العالم في أن يقيم فيه العدل وينهي الظلم.
ومعنى: السلام عليك بجوامع السلام:
جوامع الأمر: عمدته وخيرته، أي: أحييك بأفضل أنواع التحايا، وأدعو الله أن يعطيك أفضل أنواع البركة والطمأنينة، وأجمعها.
واستعمل هذا التعبير في: جوامع الكلم، وجوامع الحكمة، وجوامع العلم، وجوامع الخير، وجوامع الحب.
↑صفحة ١٢٢↑
الفصل الرابع: إشهاد الإمام (عليه السلام) على عقيدتنا
معنى الإشهاد على العقيدة
(أشهدك يا مولاي أني أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. وأن محمداً عبده ورسوله، لا حبيب إلا هو وأهله).
كان بعض المؤمنين يعرض عقيدته على الإمام (عليه السلام) ليتأكد منها.
قال إسماعيل بن جابر: (قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أعرض عليك ديني الذي أدين الله (عزَّ وجلَّ) به؟ قال فقال: هات). (الكافي:١/١٨٨).
وفي أمالي الصدوق/٤١٩، قال عبد العظيم الحسني للإمام الجواد (عليه السلام): (يا ابن رسول الله، إني أريد أن أعرض عليك ديني، فإن كان مرضياً ثبتُّ عليه حتى ألقى الله (عزَّ وجلَّ). فقال: هات يا أبا القاسم).
وكان بعضهم يُشهد الإمام (عليه السلام) على عقيدته ليَشهد له يوم القيامة.
وفي هذه الفقرة يُشهد المؤمن إمامه المهدي (عليه السلام) على توحيده لله تعالى، وإيمانه بنبوة جده محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وأنه عبد الله ورسوله.
↑صفحة ١٢٣↑
ويُشهده على أنه: لا حبيب إلا النبي وآله (صلّى الله عليه وآله وسلم). ومعناه أن حبهم وولاءهم هو الحب الأول، ولا يقاس به غيره. فعندما تقول لا حبيب لي إلا فلان، تجعله أول من تحبه، وتخبر أن حبك له لا يقاس به غيره.
وقد استعمل العرب كلمة: حِبُّ فلانٍ، بمعنى محبوبه ومعشوقه. وروى مخالفونا أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال عن أسامة بن زيد، إنه حِبُّه، ولم تروِ ذلك مصادرنا، ويظهر أنهم وضعوه مقابل حب أهل البيت (عليهم السلام)!
وقوله: لا حبيب إلا النبي وآله (صلّى الله عليه وآله وسلم): امتثالٌ لأمر الله تعالى في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).
وامتثالٌ لقول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): (لا يؤمن رجلٌ حتى يحب أهل بيتي. فقال عمر بن الخطاب: ما علامة حب أهل بيتك؟ قال (صلّى الله عليه وآله وسلم): هذا وضرب بيده على علي بن أبي طالب). (بشارة المصطفى للطبري/١٥٠).
والمودة والحب فوق الطاعة، لأنها تعني الطاعة والتقديس والإقتداء.
وإشهاد المؤمن إمامه على ذلك، لأن الله سيسأله عنه يوم القيامة، فهو يطلب أن يكون له شاهد مقبول الشهادة عند الله تعالى.
↑صفحة ١٢٤↑
وقد نصت أحاديث الجميع على أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) أيضاً سيسأل أمته عن طاعتها ومودتها لأهل بيته (عليهم السلام).
ففي الكافي (١/٢٩٤): (إنكم ستردون عليَّ الحوض فأسألكم عما فعلتم في الثقلين). ونحوه مسند أحمد (٣/١٧).
فالإنسان يُسأل عن النبوة، كما يسأل عن التوحيد، ويسأل عن حب أهل البيت (عليهم السلام) كما يسأل عن النبوة، ولذلك يُشهد إمامه (عليه السلام) على ذلك ليشهد له عند ربه، فتنفعه شهادته.
الشهادة للأئمة (عليهم السلام) بأنهم حجج الله تعالى
(وأشهد أن أمير المؤمنين حجته، والحسن حجته، والحسين حجته، وعلي بن الحسين حجته، ومحمد بن علي حجته، وجعفر بن محمد حجته، وموسى بن جعفر حجته، وعلي بن موسى حجته، ومحمد بن علي حجته، وعلي بن محمد حجته، والحسن بن علي حجته، وأشهد أنك حجة الله).
ومن صفات الأئمة من عترة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): أنهم خلفاء رسول الله، وأنهم أئمة، معصومون، أولياء الأمة، حجج الله على خلقه.
↑صفحة ١٢٥↑
وقد اختار هنا وصف الحجج للشهادة لهم (عليهم السلام)، لأنه مقام حقوقي يتناسب مع الشهادة والإشهاد، والمحاكمة يوم القيامة.
ومعنى حجج الله: أن الله (عزَّ وجلَّ) نصبهم حججاً يحتج بهم على الناس. فكما يحتج عليهم بأني بعثت لكم رسولاً وبلغكم عني فتمت عليكم الحجة، يحتج عليهم بأني نصبت لكم بعد رسولي أعلاماً حججاً هم الأئمة الاثنا عشر، وبلغكم رسولي ذلك ورفع بيد الأول منهم وقال: هذا وليكم من بعدي، ومن كنت مولاه فهذا مولاه. وقد فهمتم ذلك منه، وهنأتم الحجة بعده، وبخبختم له، فتمت الحجة عليكم.
وقد بيَّنَ الله تعالى احتجاجه على الناس يوم القيامة فقال: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ). (الأنعام:١٤٩).
وقال: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا). (النساء:١٦٥).
فالمعنى: أشهدك يا سيدي أني أشهد أنكم حجج الله تعالى على الناس، فاشهد عليَّ بذلك فإني قائمٌ بشروطه، أتولاكم وأطيعكم، وأتلقى معالم ديني منكم. فاشهد لي لتكون شهادتك لي حجة لي عند الله.
↑صفحة ١٢٦↑
أنتم الأول والآخر
(أنتم الأول والآخر، وأن رجعتكم حقٌّ لا شك فيها، يوم: (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا). (الأنعام: ١٥٨).
استفاضت الرواية في أن أهل البيت (عليهم السلام) هم البدء والختام في مشروع الإسلام، ففي كمال الدين/٣٠ ٢: (قال علي (عليه السلام) لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): يا رسول الله أمِنَّا الهداةُ أم من غيرنا؟ قال: بل منا الهداة إلى الله إلى يوم القيامة، بنا استنقذهم الله (عزَّ وجلَّ) من ضلالة الشرك، وبنا يستنقذهم من ضلالة الفتنة، وبنا يصحبون إخواناً بعد ضلالة الفتنة، كما بنا أصبحوا إخواناً بعد ضلالة الشرك. وبنا يختم الله، كما بنا فتح الله).
وفي الكافي (١ /٤٧١) قال الإمام الباقر (عليه السلام): (أيها الناس أين تذهبون وأين يراد بكم، بنا هدى الله أولكم وبنا يختم آخركم، فإن يكن لكم مُلْكٌ معجل فإن لنا مُلكاً مؤجلاً، وليس بعد ملكنا ملك، لأنا أهل العاقبة يقول الله (عزَّ وجلَّ): (وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينْ)).
وفي بصائر الدرجات/٨٣، عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (ونحن الذين بنا يفتح الله وبنا يختم، ونحن أئمة الهدى).
↑صفحة ١٢٧↑
وفي تحف العقول/١١٥، من خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام): (بنا فتح الله جل وعز وبنا يختم الله، وبنا يمحو الله ما يشاء، وبنا يدفع الله الزمان الكَلِب، وبنا يُنزل الغيث. فلا يغرنكم بالله الغرور.
لو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها، ولأخرجت الأرض نباتها وذهبت الشحناء من قلوب العباد، واصطلحت السباع والبهائم، حتى تمشي المرأة بين العراق والشام لا تضع قدميها إلا على نبات).
وقوله: وأن رجعتكم حقٌّ لا شك فيها: فإن رجعة الأئمة (عليهم السلام) تطلق على ظهور الإمام المهدي (عليه السلام)، وعلى رجعة الأئمة (عليهم السلام) بعد حكمه.
أما آية: (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ)، فلا بد أن يكون ذلك مخصوصاً ببعض الظالمين، أو عند قرب القيامة، لأن باب التوبة يبقى مفتوحاً بعد ظهور الإمام المهدي (عليه السلام).
الشهادة بالآخرة والحساب
(وأن الموت حق، وأن ناكراً ونكيراً حق. وأشهد أن النشر والبعث حق، وأن الصراط والمرصاد حق، والميزان والحساب حق، والجنة والنار حق، والوعد والوعيد بهما حق).
↑صفحة ١٢٨↑
وعندما يطلب المؤمن من إمامه (عليه السلام) أن يشهد عليه بأنه يعتقد بالمعاد والحساب والجنة والنار، فهو يتعهد بأن يكون منسجماً مع ذلك ويدخله في حساب عمله، فيتقي ربه، ويخاف عقابه، ويرجو ثوابه.
وإقراره على نفسه بذلك يؤثر على سلوكه، ويزيد من تأثيره أنه أشهد إمامه على نفسه، فإن انحرف فسيشهد عليه، لا له!
الولاية المطلقة لأهل البيت (عليهم السلام)
(يا مولاي شقيَ من خالفكم، وسَعِدَ من أطاعكم، فاشهد على ما أشهدتك عليه، وأنا وليٌّ لك، بريءٌ من عدوك، فالحقُّ ما رضيتموه، والباطل ما سخطتموه، والمعروف ما أمرتم به، والمنكر ما نهيتم عنه.
فنفسي مؤمنة بالله وحده لا شريك له، وبرسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وبأمير المؤمنين، وبأئمة المؤمنين (عليهم السلام). بكم يا مولاي، أولكم وآخركم، ونصرتي معدة لكم ومودتي خالصة لكم).
↑صفحة ١٢٩↑
الولاية والبراءة أصلان في كل دين
قوله: وأنا وليٌّ لك، بريءٌ من عدوك:
تطبيقٌ لمبدأ الولاية والبراءة الشرعي. والبعض يتخيل أن البراءة تتنافى مع التسامح ومحبة الناس، ويريد أن يكون الدين ولاية بلا براءة.
لكن توحيدك لله تعالى لا يتحقق إلا بالبراءة من الشرك، فلا يكفي أن تقول: أشهد إلا الله، بل تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فالبراءة ونفي الشريك مقدم على الولاية وإثبات التوحيد، لأن التوحيد لا يتحقق إلا به، كما أن حبك للخير لا يتحقق إلا ببغضك للشر والبراءة منه. ولهذا قام مذهبنا على ولاية النبي وآله (صلّى الله عليه وآله وسلم) والبراءة من ظالميهم.
عن أبي الجارود قال: (قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إني امرؤ ضرير البصر كبير السن، والشقة فيما بيني وبينكم بعيدة؟ وأنا أريد أمراً أدين الله به وأتمسك به وأبلغه من خلفت. قال: فأعجب بقولي فاستوى جالساً فقال: يا أبا الجارود كيف قلتَ رُدَّ عليَّ، قال: فرددت عليه، فقال: نعم يا أبا الجارود: شهادة ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان،
↑صفحة ١٣٠↑
وحج البيت، وولاية ولينا، وعداوة عدونا، والتسليم لأمرنا وانتظار قائمنا، والورع والاجتهاد). (دعوات الراوندي/١٣٥).
وقال يونس بن عبد الرحمن: (دخلت على موسى بن جعفر (عليهما السلام) فقلت له: يا ابن رسول الله أنت القائم بالحق؟ فقال: أنا القائم بالحق ولكن القائم الذي يطهر الأرض من أعداء الله (عزَّ وجلَّ) ويملؤها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، هو الخامس من ولدي، له غيبة يطول أمدها خوفاً على نفسه، يرتد فيها أقوام ويثبت فيها آخرون.
ثم قال (عليه السلام): طوبى لشيعتنا المتمسكين بحبلنا في غيبة قائمنا الثابتين على موالاتنا والبراءة من أعدائنا، أولئك منا ونحن منهم، قد رضوا بنا أئمة ورضينا بهم شيعة، فطوبى لهم ثم طوبى لهم، وهم والله معنا في درجتنا يوم القيامة). (كمال الدين: ٢ /٣٦١).
↑صفحة ١٣١↑