فهرس المكتبة التخصصية
 كتاب مختار:
 البحث في المكتبة:
 الصفحة الرئيسية » المكتبة التخصصية المهدوية » كتب المركز » أضواء على دولة الإمام المهدي (عليه السلام)
 كتب المركز

الكتب أضواء على دولة الإمام المهدي (عليه السلام)

القسم القسم: كتب المركز الشخص المؤلف: السيد ياسين الموسوي الشخص المحقق: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) تاريخ الإضافة تاريخ الإضافة: ٢٠١٣/٠٥/١٣ المشاهدات المشاهدات: ٣١٤٣٨ التعليقات التعليقات: ٠

أضواء على دولة الإمام المهدي (عليه السلام)

تأليف: السيّد ياسين الموسوي
إعداد وتحقيق: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)
الطبعة الرابعة: ١٤٣٣هـ
رقم الإصدار: ١٢٤

فهرست الموضوعات

الندوة الأولى: حركة الإمام المهدي (عليه السلام) والحتمية الإلهية..................٣
الحتمية الإلهية..................٣
ملامح الحركة المهدوية..................٤
تكامل الأدوار..................٥
مراحل تأهيل المجتمع..................٧
منبع التغيير..................١٠
عصر الظهور..................١١
عصر التكامل..................١٢
الأسئلة والأجوبة..................١٧
الندوة الثانية: دور العراق في حركة الإمام المهدي (عليه السلام) ..................٢٧
شمولية النظرية الإسلاميّة..................٢٧
خصوصية العراق..................٢٨
مراحل دور العراق..................٣٠
المرحلة الأولى: قبل التمهيد..................٣٠
المرحلة الثانية: التمهيد..................٣٥
لاحظ شيئين..................٣٦
المرحلة الثالثة: العراق في عصر الظهور..................٤٠
عاصمة الدولة المهدوية..................٤١
الأسئلة والأجوبة..................٤٣
الندوة الثالثة: التطوّر الحضاري في دولة الإمام المهدي (عليه السلام) ..................٤٨
مفهوم الدولة..................٤٨
الدولة الإسلاميّة..................٤٩
خاتمة الدول..................٥٠
الرؤية الأولى: الرؤية الدينيّة المطلقة..................٥١
الرؤية الثانية: الرؤية الخاصّة..................٥٢
النظرية الغربية..................٥٣
بركات الدولة المهدوية..................٥٥
إعجاز الإمام المهدي (عليه السلام) ..................٦٣
البعد الاقتصادي..................٦٦
الأسئلة والأجوبة..................٦٧
الندوة الرابعة: الإنسان الكامل في دولة الإمام المهدي (عليه السلام) ..................٧١
الإنسان بين الخلقة والكمال..................٧١
النظرية الإسلاميّة في تكامل الإنسان..................٧٤
الغاية من خلق الإنسان..................٧٧
مجتمع عصر المعصومين..................٧٨
مجتمع عصر الظهور..................٨٠
مظاهر الكمال..................٨١
الأسئلة والأجوبة..................٨٧
مصادر التحقيق..................٩٢

الندوة الأولى(١): حركة الإمام المهدي (عليه السلام) والحتمية الإلهية

الحتمية الإلهية:
عندما يريد الإنسان أن يتحدَّث عن العقيدة المهدوية ربَّما يقع أمام نظر الباحث موضوع علاقة حركة الإمام المهدي (عليه السلام) بالحتمية الإلهية.
ونقصد باصطلاح (الحتمية الإلهية) البحث عن حلقة التغيير والتكوين الاجتماعي في المجتمع الإنساني، كما يمكن أن يعبَّر عنه في حلقات فلسفة التأريخ.
ففي الإيديولوجية الماركسية وحينما يتحدَّثون عن تطوّر المجتمعات الإنسانية تحت عنوان قانون الحتمية الديالكتيكية التاريخية فهم يتعرَّضون إلى نقطة مهمّة في عملية تطوّر المجتمع من دور إلى دور حتَّى يصلوا بالمجتمع الإنساني في تطوّره وارتقائه إلى مرحلة الحتمية التاريخية، والتي يتحقَّق بها المجتمع الشيوعي في نهاية المطاف.
وإنَّنا عندما نقرأ المفهوم الإسلامي للعالم وفلسفة التأريخ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) أُقيمت هذه الندوة في كلّية التربية للبنات في النجف الأشرف عام (٢٠٠٥م).

↑صفحة ٣↑

نجد أنَّ الإسلام عنده (الحتمية الإلهية) ضمن رؤيته العقائدية التي يفسّر بها عملية التغيير الحضاري والتطوّر الاجتماعي في مجتمعات الإنسان.
وبما أنَّني لم أقصد من هذا البحث الحديث عن تلك القوانين الاجتماعية المؤثّرة في تكوين نوعية الطبقة الاجتماعية وتسلسل تلك الطبقات، وإنَّما أتحدَّث عن حلقة واحدة بشكل موجز عن دور حركة الإمام المهدي (عليه السلام) فيلزمنا البحث عن ملامح هذه الحتمية ودور هذه الحركة في تحقيق المستقبل الواعد لتاريخ البشرية.
ملامح الحركة المهدوية:
لو قرأنا كلَّ ما كُتِبَ عن الإمام المهدي (عليه السلام) سواء في الفكر الإمامي، أو الفكر الإسلامي غير الإمامي، بل وحتَّى الفكر غير الإسلامي، فإنَّ أوضح ما يمكن أن يتحدَّثوا عنه هو التغيير الذي سوف يحدث بسبب حركة الإمام (عليه السلام)، هذا أوّلاً.
والشيء الثاني من تلك الحركة، هو أن تكون تلك الحركة خاتمة الحركات التغييرية في الأمم والمجتمعات الإنسانية، بما يمكننا أن نقول: إنَّ الحلقة الأخيرة في الحركة التغييرية التاريخية لتطوّر المجتمع الإنساني ككلّ سوف تنتهي بحلقة ظهور الإمام المهدي (عليه السلام)، وتبعاً لهذه الحقيقة يتَّضح أنَّ حركة الإمام غير مسبوقة - لا كمَّاً ولا نوعاً - بحركة تغييرية أخرى، وهو المُعبَّر

↑صفحة ٤↑

عنه دينياً بالنصّ النبوي المأثور والمجمع عليه في الفكر الإسلامي عموماً سواء الشيعي أو السُنّي بما رووا عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه يظهر فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً(٢).
تكامل الأدوار:
يعتمد الإنسان الذي يريد أن يدرس حركة الإمام المهدي (عليه السلام) على توضيح وفهم مركَّز لكيفية ظهور هذه الحركة، ومدى أمميَّة هذه الحركة، وسعة حركة الإمام (عليه السلام).
ولا بدَّ من القول إنَّ التأريخ الإنساني بحلقاته المتقدّمة سوف يصل إلى مستوى يؤهّل الإنسان النوع - ولا أقصد الإنسان الفرد - ليكون أهلاً ومستحقّاً ليحكمه العدل المهدوي.
وبتعبير آخر يعطيك جواباً عن سؤال يقول: لماذا لم يظهر الإمام المهدي في عصر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولماذا لم يكن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو المهدي؟ وهناك سؤال آخر يطرح نفسه شبيه بالسؤال الأوّل بما يتلاءم مع عقائد الشيعة الإمامية وهو: لماذا لم يكن الإمام علي وهو سيّد الأئمّة وأبو الأئمّة وخير الأئمّة سلام الله عليهم جميعاً، لماذا لم يكن هو الإمام المهدي؟
وهكذا لو أردنا أن نجري السؤال على كلّ إمام من الأئمّة المعصومين (عليهم السلام).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢) راجع: الإمامة والتبصرة: ١٢٠/ ح ١١٤؛ الكافي ١: ٣٤١/ باب في الغيبة/ ح ٢١؛ كمال الدين: ٢٨٧/ باب ٢٥/ ح ٤؛ سنن أبي داود ٢: ٣٠٩/ ح ٤٢٨٢؛ مستدرك الحاكم ٤: ٤٦٥؛ صحيح ابن حبّان ١٥: ٢٣٨؛ وغيرها من المصادر.

↑صفحة ٥↑

الواقع أنَّ كلّ واحد منهم (عليهم السلام) له دور تأريخي في تطوير حياة الإنسان، وفي تأهيل المجتمع الإنساني لكي يدخل دوره الخاصّ الذي يوصله إليه الإمام المتقدّم.
وبتعبير أوضح إنَّ دور النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إيصال البشرية إلى مستوى معيَّن ومحدَّد.
إذن كان للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دوره الربّاني الخاصّ به وهو تأهيل البشرية لمستوى يمكن أن تتحمَّل ولاية علي بن أبي طالب، ثمّ كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) دوره الذي سلَّمه للإمام الحسن، وهكذا الأئمّة من بعده، مع التنبيه أنَّ تشخيص هذه الأدوار يحتاج إلى بحث مستقلّ.
ولكن هناك دور قد اشترك فيه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأمير والأئمّة الباقون في تأهيل البشرية لتكون مستحقّة لتولّي الإمام المهدي الدور الكبير الذي هو جامع لجميع أدوار الإمامة، يعني أنَّ من مهمّات النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومهمّات الأئمّة الباقين - إضافةً إلى مهمّاتهم الخاصّة الأخرى التي نبَّهنا عليها - دوراً آخر في المجتمع هو من أجل أن يتقبَّلوا مشاريع التغيير العظيمة التاريخية حينما يصلون إلى مستوى يؤهّلهم لذلك، بل أن يصلوا إلى مستوى تحقيق الطرح الميداني لإمامة الإمام المهدي (عليه السلام).
أي إنَّه لو لم يكن الأئمّة السابقون يقومون بهذا الدور لما كانت البشرية مؤهَّلة لاستقبال دورها في ظلّ إمامة الإمام المهدي (عليه السلام).
على كلّ حالٍ، فالإمامة بالنسبة للإمام المهدي لم تكن منحصرة بالظهور، وإنَّما دوره في الظهور وقبل الظهور، والذي أخذ أبعاده (عليه السلام)

↑صفحة ٦↑

من يوم ولادته إلى الغيبتين الصغرى والكبرى، ولذلك نجد أنَّ كلّ هذه الخصوصيات المتعلّقة في هذه المرحلة من تأريخ الإنسانية قد وردت على لسان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلى لسان الأنبياء الذين سبقوا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، حتَّى أنَّنا نجد ذكر المهدي (عليه السلام) بالكناية أو بالأسماء التي ذكرت بالكتب السماوية، فإنَّنا لو قرأنا بإمعان وتدبّر فسوف نجد تلك الأسماء موجودة في كتب السماء في التوراة والإنجيل.
وقد أُلّفت كتب خاصّة في ذكر الآيات الإنجيلية والآيات التوراتية التي ذكرت الإمام المهدي (عليه السلام)(٣).
أي إنَّ هذا الدور لم يبتدئ بالنبيّ، وإنَّما كان هذا الدور قد قام به الأنبياء من قبل أيضاً.
فإنَّ جميع الرسالات السماوية قد اهتمَّت بتربية البشرية من أجل ارتقائها إلى المستوى الذي تتقبَّل به العقيدة المهدوية أوّلاً، والحركة المهدوية التي تتعمَّق وتترسَّخ عندما يظهر (عليه السلام) ثانياً، ومعنى هذا أنَّ لدينا مرحلتين: مرحلة العقيدة، ومرحلة إجراء العقيدة في الواقع، وتنفيذ تلك العقيدة على أرض الواقع حالياً، وتنفيذها عندما يظهر (عليه السلام) فيتمّ بذلك (أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً)، وتتمّ الخاتمة في حركات الطبقات الاجتماعية لرؤية دينية سواء كانت إسلاميّة أو غير إسلاميّة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣) راجع: كتاب بشارات العهدين للدكتور محمّد الصادقي، وكتاب المصلح المنتظر في أحاديث الأديان لمحمّد أمين زين الدين العاملي، والإمام المهدي في كتب الأمم السابقة والمسلمين لمحمّد رضا حكيمي.

↑صفحة ٧↑

مراحل تأهيل المجتمع:
بعد أن وضَّحنا حقيقة حركة الإمام (عليه السلام) وأنَّها الحلقة الأخيرة لنهضة المجتمع الإنساني وتطوّره، فنقول: حينئذٍ لا بدَّ من تأهيل الإنسانية للحلقة الأخيرة من تطوّرها. فهناك تصوّر واضح أنَّ المجتمع الذي يظهر فيه الإمام يختلف عن المجتمعات السابقة عليه. فالمجتمع الذي يظهر فيه الإمام، (وهو غير المجتمع الذي يصنعه الإمام).
فالمجتمع الذي يكون قبل ظهور الإمام هو المجتمع الأوّل، وهو ممتدّ بعصر الإنسانية إلى مستوى أن تظهر علامات ظهوره (عليه السلام).
وبتعبير آخر: نريد أن ندرس علامات الظهور دراسة أكاديمية واضحة، تحدّد الفلسفة الواقعية لحركة الإمام.
إنَّ الإنسانية قبل الظهور تكون بمستوى غير مؤهّل لاستقبال حركة الإمام، ولذلك لم يظهر الإمام، ولذلك لم يكن الإمام هو النبيّ، ولم يكن هو الأمير، ولم يكن المهدي (عليه السلام) هو أحد آبائه (عليهم السلام)، لأنَّ البشرية غير مؤهَّلة لهذه النهضة، ولكن الأئمّة (عليهم السلام) قد سعوا لإيجاد هذا المجتمع الذي يكون مؤهَّلاً ليظهر فيه الإمام، فعندما يتكامل المجتمع الإسلامي في أطواره الارتقائية في الغيبة الصغرى وما بعدها، فإذا تكامل هذا المجتمع في الغيبة الكبرى فحينئذٍ تبدأ المرحلة الثانية، وهي مرحلة الظهور.
ففي مرحلة الظهور يكون المجتمع الإنساني عموماً مؤهَّلاً بشيئين، وببعدين، وبعنصرين يملكان ويحكمان المجتمع:

↑صفحة ٨↑

العنصر الأوّل: هو العنصر المخطئ، الذي يعبَّر عنه بالظلم والجور، حيث تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً.
والعنصر الثاني: الذي نقرأه في الروايات أنَّ الإمام المهدي لا يظهر إلاَّ بعد أن تتكامل له قواعده التي يتحرَّك بها في نهضته وحركته.
وقد يتصوَّر البعض أنَّ القواعد محدودة بعددٍ معيَّن، باعتبار أنَّ لدينا روايات وبعضها معتبرة من حيث سند الحديث الروائي، وبعضها يسند تلك الروايات بنوع من الإسناد وتقول جميعها: إنَّ عدد الذين ينتظرون ظهوره (عليه السلام) (٣١٣) كعدد أهل بدر.
وهؤلاء الـ(٣١٣) يعبَّر عنهم بأسمائهم في بعض الروايات الموجودة في كتاب بشارة الإسلام، ومختصر كفاية المهتدي وغيرهما بأسمائهم وأوطانهم(٤).
وأنا لديَّ ملاحظات على هذا الأمر من كون تلك الأسماء هل هي رمزية أم هي واقعية تعبّر عن أشخاصهم؟ وكذلك المدن هل هي تعبّر عن بُعْد رمزي للمناطق التي يظهر هؤلاء بها، أم هي تعبّر عن أسماء موجودة في الواقع وموصوفة ومشخَّصة؟
وهل المنتظرون له فقط (٣١٣) أم هم أكثر بكثير وإنَّما هؤلاء هم قادة المجتمع الإيماني الذي يظهر قبل الإمام؟
أي إنَّه كما نقرأ في الروايات فإنَّ الوجود الإنساني الاجتماعي سوف يمتلئ بالظلم والجور، فإنَّه سوف يكون هناك مساحات واسعة من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤) راجع: الملاحم والفتن لابن طاووس: ٣٧٥ - ٣٨٠/ ح ٥٤٦.

↑صفحة ٩↑

الإيمان والإنسان المؤمن، ويفترض في هذه المساحات أن توجد بدون تحديد عددي، فإنَّ الروايات لم تحدّد سعة هذه المساحة، وإنَّما ذكرت وجود هذه المساحة التي يقوم فيها الإمام بالتغيير.
وطبعاً فإنَّ عندنا شواهد وروايات كثيرة تنصّ على هذه الحقيقة، وبعضها كان قد طبّق في زمان الأئمّة (عليهم السلام)، مثل الروايات المروية عن الإمام الصادق (عليه السلام) والتي تقول: إنَّ الإمام لا يظهر إلاَّ في مجتمع خاصّ يكون مؤهَّلاً لحكومة الإمام ولقيادة الإمام(٥).
إذا توفَّر هذان العنصران: (العنصر الأوّل القادة، والعنصر الثاني القاعدة التي تحكمها تلك القيادة) فمعناه أنَّه قد تكوَّن مجتمع ما قبل الظهور، ولكيفية تحقّق ذلك، وكيف نعرف أنَّه قد تحقَّق العنصران المرتقبان المنتظران؟ فإنَّنا نعرف ذلك من خلال تحقّق علامات ذكرها الأئمّة (عليهم السلام) وأنَّ هذه العلامات تدلُّ على ذلك المجتمع الذي سوف يكون على يديه التغيير الإلهي والحتميّة الإلهية.
منبع التغيير:
من الطبيعي في هذه المرحلة عندما نتحدَّث عن عملية التغيير لا بدَّ أن نتذكَّر دور الإنسان في التغيير، وهنا بحث سياسي واجتماعي وفقهي على مستوى ثقافي واسع، في أنَّ الأهمّية في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥) بعكس بعض الروايات التي تحدَّثت عن السيوف المشرعة في زمان الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال: «ما أنت من رجالي ولا الزمان زماني»، مثل رواية الخراساني والخلال وغيرها. راجع: الملل والنحل ١: ١٥٤؛ ينابيع المودَّة ٣: ١٦١.

↑صفحة ١٠↑

التغيير هل تعود إلى الأمّة؟ أم أنَّ الأهمّية تعود إلى القائد؟ يعني من هو الذي يغيّر؟ هل أنَّ الإمام أو القائد هو الذي يغيّر الأمّة، أم أنَّ الأمّة هي التي تغيّر القائد؟
يعني علينا أن نكثّف جهودنا على أيّ الاثنين؟ لإيجاد أيّ واحد من الاثنين؟ هل نكثّف الجهد في إيجاد الإنسان القائد؟ أم نكثّف الجهد في إيجاد الأمّة القائدة؟ هذا الموضوع موضوع مهمّ جدّاً سواء على المستوى الفكري أو المستوى الميداني والعملي.
فإذا قلنا - نحن كأُناس نعيش في الأمّة وكمكلَّفين -: إنَّ الذي يقود التغيير الإمام، إذن فما هو دور الأمّة؟ وما هو دور الفرد في الأمّة؟ وأمَّا إذا قلنا: إنَّ المغيّر هو الأمّة، فسوف يكون تحرّكنا تحرّكاً آخر في التغيير من إيجاد الأمّة القادرة على التغيير.
هذا الطرح والاستفهام له واقع أيضاً، وليس هو على مستوى النظرية فقط، فالأمّة الإسلاميّة أمّة مكلَّفة، والإمام هو المغيّر، ولكن الإمام قبل الظهور وفي عصر الغيبة هو غير الإمام بعد الظهور.
يعني أنَّ الإنسان الخليفة إذا أراد أن يجسّد الحقيقة الغائية للخلقة في الأرض، فإنَّما يتمُّ له ذلك عندما تتمُّ الغاية القصوى لظهور المجتمع المؤهَّل لاستلام قيادة الإمام (عليه السلام).
عصر الظهور:
إنَّ العصر الذي نتحدَّث عنه وهو عصر أو مرحلة الظهور، قد ذكرت له علامات تحدَّثت عنه، ثمّ بعد ذلك وعندما تنتهي هذه المرحلة

↑صفحة ١١↑

التي نعيش - ولله الحمد - أبعادها في عصورنا المتأخّرة، وهي مرحلة علامات الظهور أو مرحلة بداية الظهور إنَّما هي مرحلة مهمّة، أمَّا متى تبتدئ وإلى أين تنتهي فهذه تحتاج أيضاً إلى وقفة، لنعرف هل هي بالفعل بدأت، فمتى بدأت؟
بعضهم ممَّن كتب عن الإمام يعتبر أنَّ هذه المرحلة بدأت منذ العبّاسيين مع ظهور الحركة العبّاسية ضدّ الأمويين، والبعض الآخر يعتبر أنَّ هذه الحركة بدأت في عصور متأخّرة، كالعلامة المجلسي التي يعدّها بظهور الدولة الصفوية في إيران(٦).
إنَّ الذي يمكن الجزم به هو أنَّنا الآن نعيش مرحلة التمهيد وتأهيل المجتمع لظهور الإمام (عليه السلام).
طبعاً لست الآن بصدد تحديد الوظيفة الشرعية لكلّ من حضر، أو أُريد أن أُحدّد الوظيفة الشرعية للمكلَّف المسلم في هذه المرحلة، وإنَّما يعتمد في ذلك على ما كتبه كثير من علمائنا في تحديد الوظيفة، هناك كتاب اسمه: (وظيفة الأنام في غيبة الإمام) للسيّد محمّد تقي الموسوي، يمكن مراجعته في هذا الخصوص.
عصر التكامل:
المرحلة الأخرى، وهي المرحلة العظمى في تأريخ الإنسانية، وهي الحتميّة أو نهاية الحتميّة، أو نهاية البداية لتطوّر الإنسانية، فإنَّها سوف تتمّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦) راجع: بحار الأنوار ٥٢: ٢٤٣/ ذيل الحديث ١١٦.

↑صفحة ١٢↑

وتتكامل بظهور الإمام (عليه السلام)، وعلينا أن نلاحظ المجتمع الذي يقوده الإمام والذي يصنعه الإمام فإنَّه سوف يكون غير المجتمع الذي نحن فيه، فهناك عدَّة جوانب بارزة في مجتمع الإمام، مثل التغيّر الكوني، وليس التغيّر الإنساني فقط الذي يحدث في مجتمع الإمام، بل إنَّ بعض هذا التغيير يصنعه الإمام، والبعض الآخر تصنعه ملائكة الله، أو التكوين الإلهي.
أنا أذكر النقاط التالية بشكل مجمل، وهي تبيّن كيف أنَّ الإمام في نهاية المطاف التاريخي لمسيرة الإنسان التكاملية يغيّر كينونة الإنسان:
أوّلاً: إنَّ الإنسان كإنسان، وكنوع - سواء أكان مسلماً أم غير مسلم - سوف يصل في دولة الإمام المهدي (عليه السلام) إلى مستوى تتشخَّص وتتميَّز فيه قوى الخير من قوى الشرّ، ولا يبقى في الأرض إنسان وسط، بل يكون الإنسان إمَّا إنساناً خيّراً مطلقاً، وإمَّا إنساناً شرّيراً مطلقاً.
هذا الحدّ لم يكن متوفّراً قبل هذه المرحلة، فلم تكن البشرية قد وصلت إلى هذه المرحلة من الحدّية بين الخير والشرّ قبل مرحلة ظهور الإمام (عليه السلام)، وإنَّما سوف تصل البشرية إلى هذه الحدّية عندما تؤهَّل فتدخل آخر مرحلة من مراحل تغيير الإنسان للمجتمع الإنساني في ظهور الإمام (عليه السلام).
ولذلك فسوف تتغيَّر قوانين التحكّم، سواء أكانت تشريعية أم تنفيذية، حتَّى أنَّها ستشمل بعض التشريعات السماوية ويتغيَّر وينقلب

↑صفحة ١٣↑

كثير من الموازين إلى ألوان أخرى، وبعض تلك التغييرات يشخّصها الإمام (عليه السلام) نفسه ويتحرَّك بها الإمام بشخصه المقدَّس (عليه السلام).
وأعطيك مثالاً لما يفعله الإمام، سواء فسَّرناه على نحو الإعجاز أو فسَّرناه بأحد التفسيرات المعيَّنة، تلك هي الروايات المتعدّدة في تغيير أصحاب الإمام، فقد جاء في إحدى تلك الروايات المروية عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «إذا قام قائمنا وضع يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت بها أحلامهم»(٧).
ويستخدم لغوياً (كمال الحلم) بمعنى العقل أيضاً، وهذا الكمال هو الكمال العقلي الذي سيصل إليه العباد وهم أفراد المجتمع الإنساني. هل كانت الرواية ترمز إلى أنَّ تلك الحركة من يد الإمام (عليه السلام) يقصد بها يده الظاهرية المقدَّسة، أم أنَّ المقصود من يده مؤدّى المجاز وجاء اللفظ على التعبير المجازي؟ فاليد مجازاً تعني القوَّة والسطوة التي يستخدمها الإمام، ومعنى هذا أنَّ القوَّة هي التي تكون السبب المركزي لكمال العقول، وتكامل العقل الإنساني.
نحن الآن مبهورون بما وصلت إليه الإنسانية من التكنولوجيا والتطوّر الذي نشاهده، لكن الانبهار الأعظم يكون عند ظهور الإمام (عليه السلام) فسوف يتكامل العقل الإنساني، ويتحقَّق هذا التكامل في كلّ أبعاده النظرية، أو أبعاده العملية بما يعبَّر عنه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧) كمال الدين: ٦٧٥/ باب ٥٨/ ح ٣٠.

↑صفحة ١٤↑

بالعقل النظري والعقل العملي، ويعني هذا أنَّ طريقة الإدراك البشري سوف تتكامل في عصره.
كما أنَّه سوف تتكامل الوسائل الممهّدة للعقل الإنساني التي من جملتها التطوّر التكنولوجي الذي يكون في عصره، وهكذا فسنجد في زمانه (عليه السلام) أنَّ كلّ واحد من أصحابه يكلّم مَنْ في المشرق من هو في المغرب، ويكلّم مَنْ في المغرب مَنْ هو في المشرق، ربَّما كان تصوّر هذا التقدم التكنولوجي سابقاً في زمان الأئمّة (عليهم السلام) يعدُّ نوعاً من أنواع الإعجاز، ولكنَّه حالياً صار من الأمور العادية والبديهية ببركة التقدّم التكنولوجي.
وهذا التطوّر الذي يحدث في عصر الإمام يخاف منه الغرب، وتوجد حالياً دراسات غربية - قرأت عنها منذ عدَّة سنوات - تتحدَّث عن التطوّر التكنولوجي في عصر الإمام (عليه السلام)، وكيف يخافون من هذا التطوّر الذي يرهب التطوّر الغربي، فالغرب يحسب حساباً لهذا التطوّر التكنولوجي المهدوي الذي سوف يكون في زمان الإمام (عليه السلام).
وهناك الروايات الأخرى التي تحدَّثت عن تغيّر في قوى الإنسان، ومن جملة هذه التغيّرات التي تحدث في الإنسان المهدوي أنَّه (عليه السلام) إذا ظهر وضع يده على رؤوس العباد فلا يبقى مؤمن إلاَّ صار قلبه أشدّ من زبر الحديد، وأعطاه الله تعالى قوَّة أربعين رجلاً(٨).
كما تعرفون إنَّ هذا العدد - وهو ثلاثون وأربعون وسبعون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨) أنظر: كمال الدين: ٦٥٣/ باب ٥٧/ ح ١٧.

↑صفحة ١٥↑

- يستخدم للمبالغة وللكثرة، يعني تصل قوَّة الرجل إلى منتهى القوَّة البدنية والجسمية، والله أعلم بالتغيّر الفسلجي الذي سوف يحدث في إنسان عصر الإمام المهدي (عليه السلام).
ثمّ إنَّ هناك تغيّراً وتكاملاً كونياً في القوى التي تحكم هذه الدنيا فإنَّها سوف تغيّر الدنيا، وتبدّل الدنيا، ويكتفى بنور الإمام عن ضوء الشمس والقمر(٩).
وعندما يتحدَّث علماء الفلك حالياً ويضعون مدَّة سنوية تخمد الشمس أضواءها وتنطفئ الشمس، فإنَّنا نحسّ بأهمّية هذه المرحلة من تأريخ البشرية.
ولكن هل بانطفاء الشمس تنتهي الحياة في الأرض؟ كما قد يقال حالياً، ولذلك فهم يريدون أن يسبقوا التغيّر الكوني لما يحتملونه من وجود حياة سابقاً في المريخ انتهت لمثل هذه الأسباب؟
أم أنَّ هناك حياة ما بعد انطفاء الشمس التي يقرّها علماء الفلك حالياً إلى مرحلة الله أعلم كم مداها؟ وقد تحدَّث عن هذه المرحلة الإسلام العظيم بتشخيصه التطوّر، أو التغيّر الكوني في عصر الإمام (عليه السلام).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٩) عن المفضَّل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها﴾ [الزمر: ٦٩]، قال: «ربّ الأرض يعني إمام الأرض»، فقلت: فإذا خرج يكون ماذا؟ قال: «إذاً يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر ويجتزون بنور الإمام» (تفسير القمّي ٢: ٢٥٣).

↑صفحة ١٦↑

هذه المرحلة الخطيرة في حركة الإمام التي لا تعبّر عن نهاية البشرية، وإنَّما تعبّر عن غاية الكمال الكوني، والكمال الإنساني والذي يتمّ ويتحقَّق في آخر مرحلة من مراحل التطوّر الإنساني في حركة الإمام المهدي والمعبَّر عنه بالحتمية الإلهية.
أنا أضع هذا الموضوع في هذا الإطار وبهذا المقدار، لأجل أن نرسم لتلك الفراغات آفاقاً أخرى غير التي شملناها في الحديث.

* * *

↑صفحة ١٧↑

الأسئلة والأجوبة:

السؤال الأوّل: تحدَّثتم عن تأهيل النفس الإنسانية، ووردت آيات قرآنية كثيرة في مسألة الصراع بين الشرّ والخير، وقد ذكرت أنَّ أصحاب الخير هم قلَّة، فهذه النفس الإنسانية، هل هي محصورة بالمؤمنين أم تشمل غير المسلمين؟
الجواب: بطبيعة الحال إنَّ الإنسان له موقفان: الموقف الفردي، والموقف الاجتماعي يتميَّز أحدهما عن الآخر.
وقد تحدَّثنا عن الجانب الاجتماعي كمجتمع، لأنَّنا حينما نحلّل في علم النفس فتارةً نتحدَّث عن الإنسان الفرد، ومرَّةً نحلّل الإنسان ولكن بطريقة علم الاجتماع، أي الإنسان المجتمع.
الجانب الذي تحدَّثت فيه إنَّما كان عن الجانب الاجتماعي في حركة الإمام المهدي (عليه السلام)، وليس معنى ذلك غضّ النظر والطرف عن الجانب الفردي، لأنَّ هناك ترابطاً بين الفرد وبين المجتمع.
يعني أنَّه يمكن أن يفصل الواحد عن الآخر، ولكن كما أنَّ هناك مؤثّرات شخصانية للإنسان، فهناك مؤثّرات اجتماعية في الإنسان أقوى وأكبر من إرادة الإنسان التي في بعض نظريات علم الاجتماع يعبَّر عنها بالحتمية الاجتماعية أو الجبر الاجتماعي.

↑صفحة ١٨↑

أي إنَّ هناك جبراً فردياً، وهناك جبراً اجتماعياً، لست أُريد حالياً أن أُحدّد وأُشخّص هاتين النظريتين وهل هما صحيحتان أم لا، وإنَّما استشهد بهما لأُوضّح الظروف التي أتحدَّث عنها، وهو أنَّ الإنسان الفرد يحتاج إلى موقف تفصيلي، وقد تحدَّثت في هذه المحاضرة عن الإنسان المجتمع فقط.
أمَّا الإنسان الفرد في عصر الظهور، وعصر ما قبل الظهور فله دور كبير في إيجاد هذه الحالة الاجتماعية، لكن لم يكن هو الدور الأوّل والآخر، وإنَّما يبقى الإنسان بدوره الفرداني والشخصاني يؤثّر فيه الخير والشرّ، ولكن هناك أبعاد اجتماعية تتحكَّم في عملية التغيير الاجتماعي في تطوّر المجتمع الإنساني.
فكما تحدَّثت عن ذلك الجانب، يبقى الحديث كما هو معروف أنَّ الإنسان فيه خير وفيه شرّ ولكن التطوّر الاجتماعي يوصل الإنسان قبل مرحلة الظهور إلى منطقة المائز والحدّ الفاصل بين الخير والشرّ.
السؤال الثاني: ذكرتم أنَّ المصلح النهائي العالمي لم يكن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يكن أحداً من الأئمّة الأحد عشر قبل الإمام لأنَّ المجتمع غير مؤهّل لذلك. أقول: وذلك لأنَّه لم يميّز بين الخبيث والطيّب، وبما أنَّنا نشهد الآن سقوط قانون وضعي بعد آخر لكونه غير صالح لكلّ الأزمان، حتَّى تصبح البشرية مدركة أنَّه لا يكون صلاحها إلاَّ بدين الله، ودين الله الصحيح ومن منابعه الأصلية، وهذا هو التمييز بين الخبيث والطيّب.

↑صفحة ١٩↑

الجواب: إنَّ هناك سؤالاً أثاره البعض لطول عمر الإمام (عليه السلام) وبيَّن هذا السؤال أنَّه ربَّما يقال: إنَّ أحد أسباب طول عمر الإمام لزيادة خبرة الإمام، في الواقع نحن الإمامية نعتبر هذا الجواب خاطئاً، لأنَّنا نعتبر أنَّ الإمام المعصوم (عليه السلام) علمه لدنّي ولا تؤثّر عليه الظروف الاجتماعية لتطوّر علومه (عليه السلام)، وإنَّما العكس هو الصحيح أنَّ الخبرات الاجتماعية كلَّما تكثَّفت، كلَّما سبَّبت تكامل البشرية، فتكون البشرية مؤهَّلة لاستقبال الحركة المحدّدة للتغيير التامّ - من قبل ومن بعد -، فهذه الخبرات التي أشار إليها الكاتب إنَّما عبَّرت عنها بالتطوّر.
السؤال الثالث: هل هناك رواية تقول: إنَّه لا يكون أمركم - أي ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) - حتَّى يأتي الله بقوم لا تضرّهم الفتنة(١٠)؟ فهل هؤلاء القوم المقصود بهم الأمّة أم أصحاب الحجّة (عليه السلام)؟
الجواب: عندما نتكلَّم عن الأمّة ونتكلَّم عن أصحاب الإمام لا نعتبر أصحاب الإمام شيئاً مجرَّداً عن الأمّة، وإنَّما قلنا: إنَّ الأمّة أو المجتمع الإيماني، وبطبيعة الحال يكون الأصحاب هم قادة هذا المجتمع الإيماني، ويكون هذا المجتمع مؤهَّلاً لقيادة الإمام، ففي الواقع أنَّه لا تمييز بين القادة والمجتمع لأنَّه سوف يكون هؤلاء هم قادة المجتمع.
السؤال الرابع: هنا مجموعة من الأسئلة ذات محور واحد، نعرضها على سماحة السيّد:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٠) عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث طويل، قال: «... لا يبقى منكم إلاّ عصابة لا تضرّها الفتنة شيئاً» (الغيبة للنعماني: ٢١٨/ باب ١٢/ ح ١٧).

↑صفحة ٢٠↑

(الأوّل): ما هي الواجبات الملقاة على عاتقنا، وما هو دورنا كنساء وموظَّفات ومعلّمات؟ وكيف نتهيَّأ في هذا الزمان لظهور الإمام (عليه السلام)؟
(الثاني): ما هو دور المرأة المؤمنة في عصر الظهور؟
(الثالث): هل هناك من النساء مع الإمام المهدي (عليه السلام)؟
(الرابع): ماذا على المكلَّف أن يقوم به لتعجيل فرجه (عليه السلام)؟
(الخامس): كيف تتهيَّأ المرأة لعصر الظهور؟
(السادس): هل تستطيع المرأة في زمن الظهور اللقاء معه (عليه السلام)؟
(السابع): هل صحيح أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) يقتل على يد امرأة؟ وما هي مواصفاتها واسمها؟ وأين تظهر؟
الجواب: مجموع الأسئلة تتحدَّث بشكل عامّ عن دور المرأة قبل الظهور وبعد الظهور، والإسلام يرى أنَّ المرأة قد وجّه إليها التكليف بمقدار ما وجّه إلى الرجل، فعندما يقول تعالى: ﴿إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: ٣٠)، فإنَّ الكلّ يعلم أنَّ الله خلق اثنين - لم يخلق واحداً - خلق آدم وحوّاء، وكان التكامل الإنساني بين الطرفين، ولكن الخطاب عندما يوجّه إلى آدم، فهو من خطاب التغليب، وهو - كما تعلمون - يوجّه إلى طرف مع أنَّه يقصد الطرفين.
وأمَّا سبب التغليب الذي صار في هذه المحادثات الربّانية، فهو لشدَّة العلقة بين حوّاء المرأة وبين آدم الرجل حتَّى صارا شيئاً واحداً في الخطاب، فلو قرأنا القرآن الكريم نجد تكاليف الصلاة وتكاليف الصيام وتكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد وجّهت إلى الطرفين الرجل والمرأة، ولا توجد عندنا تكاليف

↑صفحة ٢١↑

قرآنية موجّهة إلى الرجل وحده أو تكاليف قرآنية موجّهة إلى المرأة فقط، فمثلاً: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ (آل عمران: ٩٧)، كلمة: (من) لم يقصد بها الرجل ولم يقصد بها المرأة، ولذلك كان الخطاب: ﴿يا أَيـُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لم يقصد به الرجل وإنَّما المقصود به خطاب التكليف للذين آمنوا، أي الذين تكونوا من رجل وامرأة.
أقصد من هذا التصوّر أنَّ الرؤية القرآنية والإسلاميّة للمرأة بمنزلة الرجل بمستوى واحد، ولا يفرّق القرآن ولم تفرّق سيرة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة (عليهم السلام) بين الرجل والمرأة، إلاَّ عندما تتميَّز الخلقة، في باب تميّز الخلقة والتكوين فيكون هناك خطاب مختصّ بالرجل ويكون هناك خطاب مختصّ بالمرأة، ولكنَّه جاء التكليف للحاظ الخصوصية، مثل الجهاد على الرجل، وأحكام الحيض على النساء، وليس هو في أصل التشريع.
أمَّا التشريعات الخاصّة بالمرأة، فإنَّما جاءت نتيجة التميّز التكويني للمرأة، فمثلاً عندما أسقط الله تعالى الجهاد عن المرأة وأوجبه على الرجل في زمن من الأزمنة عندما كانت الحرب تعتمد على استخدام العضلات، فإنَّما كان السبب هو أنَّ التكوين الفسلجي للمرأة لا يستطيع أن يوفّر هذا التكليف، وكذلك عندما أسقط الله سبحانه وتعالى تكاليف معيَّنة عن الرجل وأوجبها على المرأة، فذلك لأنَّه كان فاقد القدرة التكوينية لأداء ذلك التكليف.
أمَّا بالنسبة للمرأة في عصر التهيئة للظهور، فدورها نفس

↑صفحة ٢٢↑

الدور الذي هو للرجل، وعندما نتحدَّث ويكون الخطاب للتذكير وليس التأنيث لم نكن نقصد به التذكير بما هو تذكير، وإنَّما المقصود به المكلَّف الذي يتكوَّن من رجل وامرأة، ولذلك فدور المرأة في عصر الغيبة وفي عصر التمهيد للظهور هو نفس دور الرجل وبنفس القوَّة وبنفس الحسّاسية، وبنفس التكليف.
وعندما نتحدَّث مع المجتمع بهذا الأسلوب فسوف تعلم المرأة كيف تؤدّي وظيفتها، كما أنَّ الرجل يعلم من خلال التكاليف الشرعية كيف يؤدّي وظيفته، وهكذا بالنسبة لما بعد الظهور.
ومن البديهي فإنَّ هذا الموضوع مهمّ، وأُحبّ أن أُشير إليه إشارات وأترك التفاصيل، وهو أنَّ حركة الإمام العسكرية بعد الظهور هل هي كما نعرفها نحن؟ حرب وقتال، أم هناك حركة أخرى وبصورة أخرى؟ فمثلاً عندما تُذْكَر الحرب في بعض الروايات فهل هي عبارة عن كناية، ومجاز، وألفاظ هدفها إيصال معنى أنَّ حركة الإمام ضخمة وعظيمة؟ إنَّ الجواب على هذا السؤال يحتاج إلى بحث ودراسة، ووقت لشرح تلك الأبعاد المهمّة لتلك الحركة بالنسبة إلى الإمام (عليه السلام).
والحقيقة أنَّ دور المرأة التغييري يتبيَّن فيما لو عرفنا أنَّ دور حركة الإمام ليست قتالاً بمعنى القتل والقتال فقط، وإنَّما هي لتغيير الإنسان، وسوف نعرف أنَّ الدور واحد للرجل والمرأة.
وأمَّا أنَّ المرأة سوف تقتل الإمام فجاء في رواية شاذّة مهملة لا تصلح في مقام تأسيس النظرية الإسلاميّة، إضافة إلى أنَّ

↑صفحة ٢٣↑

هناك بحثاً يا أخواتي وهو: هل أنَّ الإمام (عليه السلام) سوف يقتل أو يموت ميتة طبيعية أو بمشيئة ربّانية؟ حيث توجد عندنا روايات بأنَّه (عليه السلام) سوف يقتل، لكن هناك روايات أخرى أيضاً تقول بأنَّه (عليه السلام) سوف يموت ميتة طبيعية(١١).
السؤال الخامس: لماذا نقول: حركة الإمام المهدي ولا نطلق عليها ثورة الإمام المهدي (عليه السلام)؟
الجواب: يتمكَّن الإنسان أن يعبّر عنها بكلا التعبيرين، فإن شاء أن يعبّر عنها بالحركة التغييرية أو الثورة، فهذا مصطلح يمكن التسامح به لأنَّه مصطلح. والمتحدّث والمتكلّم والكاتب يستخدم المصطلح كما هو يصطلح عليه، ولا تشاح باستعمال الألفاظ.
السؤال السادس: يظهر من الروايات أنَّ الإمام المهدي يتَّخذ العراق (الكوفة) عاصمة له، فهل هذا الاختيار مبني على وجود قاعدة محبَّة أم لأسباب أخرى؟
الجواب: إنَّ موقع العراق بالنسبة لحركة الإمام فيه جملة من الأبعاد المهمّة التي سوف تتحقَّق في هذه البقعة المباركة، فإنَّ عاصمة دولة الإمام (عليه السلام) هي العراق وبالخصوص الكوفة، والكوفة معقل الإمام وفيها بيت الإمام، ولذلك فقد جاء في بعض الروايات أنَّ مسجد سهيل - أي مسجد السهلة - هو بيت الإمام(١٢)، وقد يستشكل على هذا الموضوع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١١) راجع: الغيبة للنعماني: ٣٥٤/ باب ٢٦/ ح ٣.
(١٢) الكافي ٣: ٤٩٥/ باب مسجد السهلة/ ح ٢.

↑صفحة ٢٤↑

أنَّه كيف يكون مسجداً وبيتاً في آنٍ واحد؟ وهو موضوع لطيف وطريف وفيه من المعالم العقائدية والفكرية التي تحتاج إلى تفصيل، ويمكن أن يجاب عليه بسؤال آخر وهو: كيف كان مسجد النبيّ بيت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ وبيت فاطمة (عليها السلام) في المسجد؟ ولذلك سدَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كلّ الأبواب التي كانت تطل على المسجد إلاَّ بيت علي (عليه السلام)(١٣)، لأنَّ بيت علي هو بيت النبيّ وهو المسجد - أي لا فرق بين بيت علي والمسجد -، لأنَّ إرادة الله شاءت أن يكون للإمامة موقعها الخاصّ.
وأنَّ مسجد السهلة سوف يكون بيت الإمام، وفي هذا البيت سوف تشدّ الرايات للإمام المهدي، أي إنَّ مركز الدولة العالمية يبتدئ هناك، والسبب في ذلك هو أنَّ هذا الشعب بإرادة الله تبارك وتعالى سوف يبلغ القمَّة في التمحيص.
وعندنا روايات تتحدَّث عن الآية الكريمة: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ﴾، ثمّ تقول الآية: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: ١٥٥)، الإمام الباقر (عليه السلام) يقول: إنَّ هذه خاصّة بأهل العراق(١٤)، يعني أنَّ هذه العلامات، التي هي علامات الضغط، ونقص في الأموال والثمرات ثمّ القتل والدمار والدم الذي سال في العراق وعلى أرض العراق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٣) راجع: أمالي الصدوق: ٤١٤/ ح (٥٤١/٨)؛ تفسير القرطبي ٥: ٢٠٨.
(١٤) عن الثمالي، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله: ﴿لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾، قال: «ذلك جوع خاصّ وجوع عامّ، فأمَّا بالشام فإنَّه عامّ، وأمَّا الخاصّ بالكوفة يخصّ ولا يعمّ...» (تفسير العياشي ١: ٦٨/ ح ١٢٥).

↑صفحة ٢٥↑

أمَّا لماذا أنَّ الله ابتلى أهل العراق بهذا الابتلاء؟! فللأسف أنَّ هناك ثقافة أموية - وليست ثقافة علوية هاشمية - حاولت أن تثبت كثيراً من قطاعات الأمّة على الانحراف باتّهام العراقيين بأنَّ هؤلاء يستحقّون العذاب والمرارة لأنَّهم أهل الشقاق والنفاق.
إنَّ هذه الثقافة إنَّما هي من رواسب الثقافة الأموية؟ وعليه فلماذا خصّوا بها أهل العراق ولم يخصّوا بها أهل الشام؟!
لأنَّ أهل العراق ومن بداية تأسيس العراق وقبل أن يأتي الإمام أمير المؤمنين إلى الكوفة وأسَّس خلافته كانوا قد بنو أساسهم على أساس علوي هاشمي، ولذلك كانت النهضة الأولى التي أسقطت الانحراف الذي سبق خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) وقبل أن ترجع زمام الإمامة إلى الإمام ابتدأت من العراق، وهكذا فالتصحيح بدأ من الكوفة، والحرب ضدّ الانحراف بدأ من الكوفة، لأنَّ الكوفة كانت علوية من بداياتها، وكبرت علوية، وبقيت الكوفة وبقي العراق علوياً، وبتعبير آخر: (محمّدياً)، وبتعبير آخر: إنَّ الإسلام الصحيح كان في العراق، ولذلك كان على عاتق هذا الشعب بناء جيش الإمام المنتظر (عليه السلام)، وعلى عاتق هذا الشعب قيادة البشرية في التغيير الذي يحدث عند ظهور المهدي.
ولذلك سوف يبتلي الله هذا الشعب بهذه الابتلاءات، ويشدّد التمحيص ويشدّد الابتلاء، لأنَّه جاء في روايات الابتلاء وروايات الفتن: كلَّما اشتدَّ الابتلاء وكلَّما كثرت المحن زكى

↑صفحة ٢٦↑

هذا الإنسان، وهذا المجتمع، وهذا الشعب، وكان أكثر أهمّية لقيادة البشرية، كما أنَّ الحديد كلَّما سلَّطت عليه النار كلَّما تخلَّص من الشوائب، وكلَّما كان أنقى وأكثر تحمّلاً للصعوبات.
والمصاعب التي مرَّت بهذا الشعب كانت مقصودة لأنَّ هذا الشعب هو قائد العالم، وقائد التغيير للدنيا في عصر الظهور، وأعطيكم مثالاً صغيراً رأيناه بأُمّ أعيننا: إنَّ العراقي في أيّ بلد كان من البلاد - حتَّى وإن كان قبل خروجه من العراق ليس متديّناً - فهو عندما يخرج إلى بلد من بلدان العالم فإنَّ أوّل ما يشيّد في ذلك البلد حسينية، ويبني مسجداً، يقام فيه مجلس الحسين (عليه السلام)، وقد امتلأت الأرض حالياً بأبعادها بذكر الحسين من يوم هاجر العراقيون إلى العالم، فهذه حكمة إلهيّة أن يكون هذا الإنسان يُربّى هذه التربية التي جاءت في كثير من الأحيان انعكاساً للسلوك العدواني الذي كان يواجهه الإنسان العراقي من الأنظمة الطائفية، ويُعلَّم هذا التعليم الذي له - قطعاً - يد غيبية فيكون هذا الإنسان له دور حالياً، فكيف يكون دوره في التغيير المستقبلي؟! إن شاء الله يشارك بشكل مؤثّر بتغيير الأمّة وتغيير العالم.
لعلَّ لهذه الأسباب يكون منشأ أهمّية العراق.

* * *

↑صفحة ٢٧↑

الندوة الثانية(١٥): دور العراق في حركة الإمام المهدي (عليه السلام)

شمولية النظرية الإسلاميّة:
عندما نتحدَّث عن حركة الإمام المهدي (عليه السلام)، وندرس خريطة الحركة تظهر أمامنا مواقع كثيرة مهمّة ذُكِرَتْ في الروايات المستقبلية لحركة الإمام، وأهمّ تلك المواقع هو العراق، وقد وجدنا موقع العراق على خارطة حركة الإمام قد أخذ اهتماماً كبيراً في الروايات.
وقبل أن نتحدَّث عن تفاصيل وجزئيات هذا الموقع الوارد في الروايات الشريفة لا بدَّ من الحديث كمقدّمة أولى (لدفع دخل كما يقول العلماء) للموضوع بالحديث الجغرافي عن المناطق والأمكنة الجغرافية.
وذلك لأنَّ الفكر الإسلامي يعالج مسألة المكان برؤية فلسفية ثورية واقعية، وموضوع (أثر المكان في حركة الإنسان)، من المواضيع المهمّة والضرورية التي تجعل الباحث يتطرَّق إلى عالمية الإسلام والمفاهيم التي جاء بها كأيدلوجية حملها الإنسان بدون قيد زماني أو مكاني.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٥) أُقيمت هذه الندوة في كلّية الآداب في النجف الأشرف عام (٢٠٠٥م).

↑صفحة ٢٨↑

فعندما نقرأ: ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ (الأنبياء: ١٠٧)، فهو كسر لطوق المكانية وطوق الزمانية، يعني أنَّ المؤثّرات المكانية والزمانية سوف تنعدم عن الروح والفكر الثوري الإسلامي.
ونلاحظ أيضاً أنَّ الأطروحات المؤطّرة بأطر مكانية، كالأطروحة القومية العربية، أو القومية الفارسية، أو القومية الألمانية، أو أيّ أطروحة قومية أخرى، قد برز فيها المكان واضحاً على الأطروحة، يعني أنَّه قد أُخذ في الأطروحة موضوع المكان كمسألة أساسية وأوّلية، يحدّد طوق تلك الأطروحة، وذلك المشروع الفكري، أو الثقافي الذي يطرح للأمّة المختصَّة بالمكان.
فالقومية العربية تتحدَّث عن مكان محدَّد بوطن سمّوه الوطن العربي، والقومية الفارسية تحدَّثت عن المكان الذي يحكمه جوّ من الانتماء العرقي أو الانتماء المكاني، وهكذا في القوميات الألمانية والقوميات الأخرى التي طرحت في أوربا في عصور تسبق ما طرح في وطننا العربي، أو وطننا الإسلامي.
خصوصية العراق:
لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّنا وإن تجاوزنا بطرحنا العامّ، وطرحنا الأممي المكاني، لأنَّ الفكر الإسلامي تجاوز الموقع المكاني والزماني؛ فالإسلام ليس لأمّة دون أمّة، ولا لزمان دون زمان، مع أنَّنا نؤكّد على هذه الحقيقة فإنَّنا نؤكّد أنَّ هناك أموراً لا

↑صفحة ٢٩↑

بدَّ أن نتحدَّث عنها بواقعية، وهي: أنَّه كان للمكان في كثير من الأحيان خصوصيته في تحديد مواقع المبادئ والعقائد.
وعندما نتحدَّث عن العراق، فنتحدَّث عنه كمستقبل، ونتحدَّث عنه كماضي مؤثّر في المستقبل ومؤثّر في الحاضر، ونتحدَّث عن العراق كموقع اهتمَّ به أهل البيت (عليهم السلام) فكرياً، واهتمّوا به تطبيقياً وميدانياً.
وهذا الموضوع بنفسه يحتاج إلى تفصيل ويحتاج إلى حديث خاصّ لملاحظة ما ورد في العراق من روايات أهل البيت (عليهم السلام) من موقع قيادي في الماضي والحاضر والمستقبل، ولكنّي أختصُّ بالحديث في هذه المحاضرة عن العراق ودور العراق المستقبلي في حركة الإمام المهدي (عليه السلام).
وقد وجدنا هناك تنوّعاً في الروايات، كما وجدنا تحديداً لكثير من الخصوصيات التي تتحدَّث عن العراق كموقع جغرافي، وقد عبَّرنا عنه باصطلاح المكان.
وهناك شيء آخر وجدناه في الروايات التي تحدَّثت عن الناس، والمجتمع الذي يعيش في هذه البقعة من الأرض، والذي قد أُعبّر عنه بالعراقيين، وأقصد سكّان هذه الأرض بدون لحاظ الانتماء العرقي أو غير ذلك من الانتماءات، ومن دون تحديد الهوية والجنسية، وما إلى ذلك من التفصيلات ممَّا يمكن للإنسان أن يتعرَّض لها، أو لا بدَّ للباحث أن يشخّص تلك الخصوصيات، مثلاً: مَنْ هو العراقي؟ ومَنْ هو غير العراقي؟ لأنّي أرى أنَّ

↑صفحة ٣٠↑

الروايات تحدَّثت عن العراقي الذي يكون متواجداً في هذه المنطقة، ويحمل همّ هذه الأرض، وينتمي جغرافياً وليس قطرياً وإقليمياً فحسب، بل ينتمي جغرافياً لهذه الأرض المسمّاة بالعراق.
مراحل دور العراق:
والعراق له دور مستقبلي في حركة الإمام المهدي (عليه السلام)، وبملاحظة الروايات التي تحدَّثت عن العراق نجدها قد أخذت عدَّة صور في الحديث عنه، فمرَّة تحدَّثت الروايات عن العراق الذي يسبق الظهور، وأخرى تحدَّثت عن العراق الذي يمهّد للظهور، وأخرى تحدَّثت عن العراق الذي سوف يشارك في الظهور.
بمعنى أنَّ هناك مراحل ثلاث يمرُّ بها العراق، وهذه المراحل الثلاث هي:
المرحلة الأولى: قبل التمهيد:
وهي المرحلة التي تسبق التمهيد للظهور، وقد قالت عنها الروايات: إنَّ الأمّة في العراق سوف تعاني التمحيص، وسوف تعاني الابتلاء والشدَّة من حكّام جور سيحكمون هذا البلد، ويحكمون هذه البقعة الجغرافية، حتَّى يؤدّي هذا الجور إلى حالات صعبة يمرُّ بها العراق والشعب العراقي، وقد عبَّرت الروايات عن هذه الحالات بأنواع مختلفة.
ومن جملة تلك الأنواع التي يمرُّ بها العراق في عصر قبل التمهيد المرارة التي يمرُّ بها المجتمع العراقي، التي سوف تؤدّي إلى ضغوط

↑صفحة ٣١↑

كثيرة، منها ضغوط نفسية، وضغوط دينية، وضغوط اقتصادية، وحتَّى ضغوط تكوينية تغيّر في طبوغرافية المجتمع العراقي.
وإنَّ هذه الصور المتعدَّدة التي تحدَّثت عنها الروايات قد صوَّرت لنا أنَّ العراق سوف يُحكم من قبل حكّام جور، وأنَّ هؤلاء الحكّام يغيّرون كثيراً من خصوصية هذه المنطقة ممَّا يجعل المنطقة تعيش في حصار اقتصادي، وهو المعبَّر عنه في الروايات بالجوع: «وخوف يشمل أهل العراق، وموت ذريع فيه، ونقص في الأموال والثمرات»(١٦)، هذا كلّه موجود في نصوص وروايات وردت عن الإمام الصادق والأئمّة (عليهم السلام)، حيث تحدَّثوا عن الجوع والحصار والألم الاقتصادي الذي يمرُّ به الشعب العراقي قبل مرحلة التمهيد.
ومن الصحيح أنَّ هذا شيء قد مرَّ به العراق مرّات كثيرة، ولكنَّه قد يكون آخر مرَّة خلال الحقبة الزمنية الأخيرة التي تجاوزت العشر سنوات.
والشيء الآخر الذي يمرُّ به العراق حالة الحروب المتكرّرة، وكثرة الدم، وكثرة القتل، وكثرة الذبح، ممَّا يؤدّي إلى انتشار حالة اجتماعية مرفوضة، وهي حالة الخوف الذريع. والخوف الذريع سببه انعدام الأمن الذي سوف يكون في العراق.
وهذا الخوف الذريع - للأسف الشديد - سوف يؤثّر على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٦) أنظر: الإرشاد ٢: ٣٦٩؛ كشف الغمّة ٣: ٢٥٦.

↑صفحة ٣٢↑

إرادة الإنسان، لأنَّ الإنسان بطبيعته تحكمه خصوصيات اجتماعية ونفسية وإن أراد أن يتجرَّد منها أو يكبر عليها، لكن هناك ضغوط اجتماعية قد تفقد الإنسان في كثير من الأحيان إرادته، وهذه الحالة سببها الخوف، والذي يمكن أن نرجع سكوت الشعب العراقي أو كثير من قطاعات الشعب العراقي عمَّا مرَّ عليه من الاضطهاد، والحرمان، والعذاب، والقتل وما إلى ذلك، مع أنَّه كان - تقريباً - ساكتاً بالشكل العامّ نتيجة في كثير من الأحيان لما يفسّر بفقدان الإرادة، فالإنسان عندما يرى الظلم لا بدَّ أن يقاتل الظلم لكنَّه كان فاقد الإرادة أمام الظلم، وغير قادر على أن يجابه الظلاَّم والحكّام الذين سبق وأن حكموه وسلبوا إرادته.
إنَّ هذه الحالة تظهر قبل مرحلة التمهيد، والتي عبَّر عنها الأئمّة (عليهم السلام) في كثير من تلك الأحيان بأنَّه: «وخوف يشمل أهل العراق وموت ذريع فيه».
هذا الخوف الذريع قد يؤدّي إلى تغيير خصوصيات التفكير عند الإنسان، ولكن مع كلّ ذلك فإنَّ هذا الخوف الذريع، قد يؤدّي إلى حالة إيجابية أيضاً، ليست الحالة سلبية فقط، فقد تكون هناك حالة إيجابية، وهذه الحالة الإيجابية تميّز وتغربل الناس بغربال كما يقول الإمام الصادق (عليه السلام)، تميّزهم على قسمين، وهذه الرواية رواها النعماني في غيبته عن أبي بصير عندما كلَّمه الإمام الصادق عمَّا يمرُّ على أهل العراق من الفتن

↑صفحة ٣٣↑

والامتحان والبلايا، وأنَّهم يغربلون كغربلة الغربال فيميّز أحدهم عن الآخر، الرديء عن الحسن(١٧).
هذا التمييز إنَّما يأتي من الفتن، يأتي من الضغوط التي يمرُّ بها المجتمع العراقي في هذه المرحلة.
وهنا قد يثار سؤال: لماذا يمتحن هذا الشعب بهذا الامتحان دون غيره من شعوب العالم، ومناطق الدنيا؟
قد نجد أكثر الروايات التي تحدَّثت عن عصر الظهور ذكرت فيها منطقة العراق، بحيث أنَّ الفقيه والقارئ المستنبط لتلك الروايات التي تحدَّثت عن عصر الظهور يجد أكثر تلك الروايات التي تحدَّثت عن عصر الظهور وما فيها من علامات ودلالات وآيات وما إلى ذلك أنَّها سوف تحدث في العراق؟
ففي هذه المرحلة التمهيدية (المرحلة الأولى) نجد أكثر هذه العلامات تحدث في العراق قبل أن تشمل العالم، لماذا هذا التمحيص والابتلاء في العراق؟ لماذا هذا الامتحان وشدة الامتحان في العراق؟
الجواب: لأنَّ الله سبحانه وتعالى أخذ العراق مكاناً جغرافياً مهمّاً لحركة الإمام المهدي، وهو الذي نقرؤه في العصر الثالث، وهو عصر ظهوره وعصر حركته (عليه السلام)، فإنَّ موقع التحرّك المهمّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٧) عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «مع القائم (عليه السلام) من العرب شيء يسير»، فقيل له: إنَّ من يصف هذا الأمر منهم لكثير، قال: «لا بدَّ للناس من أن يمحَّصوا ويميَّزوا ويغربلوا، وسيخرج من الغربال خلق كثير» (الغيبة للنعماني: ٢١٢/ باب ١٢/ ح ٦).

↑صفحة ٣٤↑

يكون في العراق، ولذلك سوف يكون هذا الموقع لأهمّيته بمستوى هذه المهمّة، وأن يكون الجمهور والمجتمع والناس الذين يسكنون في هذا الموقع الجغرافي بمستوى هذه المهمّة.
بمعنى أنَّه لا بدَّ من تناسب طردي بين المهمّة، وبين شخصية المجتمع الذي يسكن في تلك الأرض التي تتحمَّل هذه المهمّة، فعندما نقرأ أنَّ عاصمة الإمام المهدي (عليه السلام) سوف تكون في العراق، وتكون في الكوفة، وعندما نقرأ أنَّ مرحلة تحرّك الإمام المهدي (عليه السلام) تكون من الكوفة، أو من العراق؛ فلا بدَّ أن يكون المجتمع في ذلك الموقع قد تحمَّل كلّ الامتحانات ولم يسقط أمامها، وتحمَّل كلّ الهموم ولم يسقط أمامها.
هذا المجتمع الذي لم يسقط، أو الذي خرج من الامتحان ناجحاً يكون مؤهّلاً لقيادة البشرية وقيادة العالم، فلذلك ولأجل أن يكون هذا المجتمع القائد، والمجتمع الرائد الذي يقوم بمرحلة هداية البشرية، لا بدَّ أن يكون قد مرَّ بالامتحانات السابقة الصعبة وقد خرج منها ناجحاً.
وبالفعل كان التأكيد الإلهي على العراق؛ لأنَّ العراق دولة الإمام، ولأنَّ العراق مجتمع الإمام، ولأنَّ العراق محطّ قادة الإمام وجند الإمام، ولذلك فلا بدَّ لهذا المجتمع أن يمرَّ بالامتحان.
إذن هذا الامتحان وهذا العذاب وهذا التمحيص لم يكن سخطاً إلهياً على المجتمع كما يصوّره بعض الناس عندما يقرؤون حركة الإمام، وإنَّما هذه العلامات التي تظهر من أجل أن يوفّر

↑صفحة ٣٥↑

المجتمع كلّ خصوصيات، وكلّ صفات القيادة المؤهّلة له لقيادة البشرية.
نلاحظ الدور الإيجابي للمجتمع العراقي في عصر الظهور، هذا الدور مترابط بالمراحل.
إذن فهذا العذاب وهذه المرارة التي يمرُّ بها العراق ويمرُّ بها المجتمع العراقي سوف يؤهّله وينظّمه ليأخذ دوره الطبيعي.
ونحن في عقيدتنا الإمامية نعتقد أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) لا يظهر بصورة إعجازية، ويريد أن يثبت الإعجاز في الأرض، وفي الوجود، وإنَّما يظهر (عليه السلام) بشكل طبيعي عندما تتوفَّر القواعد وتتهيَّأ القيادة المؤهّلة لذلك الدور التغييري للعالم، وليس للعراق فقط، وليس للعرب فقط، وليس للمسلمين فقط، وإنَّما التغيير الأرضي، وبواسطة التغيير الأرضي سوف يكون هناك تغيير كوني، فالكون سوف يتغيَّر.
وقد تعجب كيف يكون تغيير الكون؟! ولإزالة هذا التعجّب نحتاج إلى حديث خاصّ حول دور المهدي في تغيير المجموعة الشمسية وحركة المجموعة الشمسية، وهذا فيه لحاظات ليست انطلاقاً من الروايات والأحاديث المقدَّسة فقط وإنَّما من خلال بحوث علمية تتحدَّث عن هذا التغيير الكوني الذي سوف يحدث في عصر المهدي (عليه السلام).
المرحلة الثانية: التمهيد:
هذا التغيير الذي يقوم به الإمام يبتدئ من العراق، ولذلك يحتاج هذا الدور إلى تمهيد، وهو المرحلة الثانية:

↑صفحة ٣٦↑

وفي مرحلة التمهيد يأخذ العراق دوراً كبيراً قبل أن يتحرَّك الإمام، وقبل أن يظهر الإمام.
ولا بدَّ لهذا المجتمع الذي خرج من الامتحان ناجحاً أن يكون له دور الممهّد لظهور الإمام المهدي (عليه السلام).
وهناك روايات تتحدَّث عن الممهّدين للمهدي سلطانه، وعن الموطّئين الذين تعبّر عنهم الروايات: الموطئون للمهدي سلطانه(١٨)، وأنَّ هؤلاء ينطلقون بحركتهم من العراق إلى خراسان، في حركة متواصلة.
وهناك روايات متنوّعة تحدَّثت عن هذا التمهيد، ومن جملة تلك الروايات التي تحدَّثت عن أنَّ هناك قوى بمستوى الوعي، وبمستوى الإدراك، وبمستوى المسؤولية للتغيير الشمولي للدنيا في العراق قبل الظهور، أقرأ هذه الرواية عن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال: ­«يدخل المهدي الكوفة وبها ثلاث رايات قد اضطربت بينها، فتصفو له، فيدخل حتَّى يأتي المنبر ويخطب، ولا يدري الناس ما يقول من البكاء»(١٩).
لاحظ شيئين:
الشيء الأوّل: أنَّه يأتي العراق، فلو كان العراق لا يملك التأهيل المناسب لاستمرار ثورته لانتقلت حركة الإمام إلى منطقة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٨) راجع: بحار الأنوار ٥١: ٨٧؛ المعجم الأوسط للطبراني ١: ٩٤.
(١٩) الغيبة للطوسي: ٤٦٨ و٤٦٩/ ح ٤٨٥.

↑صفحة ٣٧↑

أخرى، مثلاً: إلى الشام، أو إلى خراسان، أو إلى اليمن، أو إلى مصر، لكنَّه تجاوز كلّ تلك المناطق وتحرَّك بمجرَّد أن نجح في مكّة والمدينة - كما تقول الروايات - وتوجَّه إلى العراق.
والجهة التي يتحرَّك، وينطلق منها إلى الدنيا هي العراق فيؤسّس الدولة المهدوية في العراق، ثمّ بعد ذلك ينطلق إلى الدنيا.
ولا يتصوَّر البعض في حركة الإمام الجانب السلبي الذي سمعناه وقرأناه في كثير من المرّات، حيث تحدَّث بعض الناس عن العراق بشكل سلبي فقط، وإنَّما سوف يكون للعراق دور إيجابي، هذا الدور الإيجابي فيه ثلاث رايات.
بعض الروايات تقول فيها: راية الحسني وراية الحسيني وراية الخراساني هذه ثلاث رايات وهي رايات هدىً؛ يعني أنَّ القوى الحاكمة في المنطقة قوى لها امتداد عميق في الأمّة، وهي قوى تشكّل براياتها الثلاث - والراية تمثّل عملاً إيجابياً - قوى مسلَّحة أو قوى غير مسلَّحة عسكرياً، ولكن تملك الجمهور الذي يساند هذه الراية؛ وهذه القوى هي الموطّئة والممهّدة.
وعندما يأتي المهدي تكون هذه القوى قد فَرَّغَتْ العراق له، ولذلك لم نقرأ في الروايات أنَّ هناك حرباً تجري في العراق بين الإمام المهدي وبين أهل العراق، ولا توجد أيّ رواية بهذا الصدد إلاَّ رواية البترية التي تحدَّثت عن أولئك الستّة عشر ألف الذين يخرجون ويسمّون البترية يقولون عندما يظهر الإمام: ما لنا

↑صفحة ٣٨↑

ولك يا بن فاطمة ارجع لا شأن ولا شغل لنا معك فيضع السيف فيهم(٢٠).
أولئك البترية قوم غرباء عن العراق، والبترية لم يكونوا من الشيعة، إنَّما هم قوم غرباء عن العراق، وغرباء عن التشيّع، وغرباء عن شخصية هذا المجتمع العراقي، لكن الحرب تكون على الأرض العراقية، وأمَّا الشعب لم يكن شعباً عراقياً، ولم يكن مجتمعاً عراقياً، وإنَّ الذي يقاتل هؤلاء هو الإمام المهدي بالرايات الثلاث: راية الحسني، وراية الحسيني، وراية الخراساني التي تكون قد نشرت. ولا نقصد بالغرباء أنَّهم غرباء الجنسية، وإنَّما نقصد بالغربة غربة الشخصية، فقد يكون أولئك من شذّاذ سكنة هذه الأرض ولكنَّهم غرباء عنها وعن أهلها بالشخصية والطباع.
الشيء الثاني: الاضطراب الذي تذكره الرواية قد يكون له معنيان: الأوّل: معنىً من معاني الاضطراب الاهتزازي كما لو اهتزَّت تلك الرايات لكثرة الجمهور والقواعد التي تسير تحت تلك الرايات، يعبّر عنها أيضاً بعبارة: (قد اضطربت).
وهناك تفسير آخر قد يكون للاضطراب: وهو حالة من اللاتفاهم الجزئي، أو حالة من الاختلاف الجزئي الذي قد يكون بين هذه الرايات، ثمّ تسقط وتتلاشى هذه الاختلافات على يد الإمام (عليه السلام).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٠) دلائل الإمامة: ٤٥٥ و٤٥٦/ ح (٤٣٥/٣٩).

↑صفحة ٣٩↑

وهذا الوضع يوضّح أنَّ هناك قوىً قبل ظهور الإمام، وأنَّ هذه القوى تمهّد للإمام، وتوطّئ للإمام (عليه السلام).
والرواية تتحدَّث عن المجتمع العراقي تقول: «حتَّى يأتي المنبر»؛ يعني لم يكن للإمام مدَّة طويلة عند دخوله العراق، وإنَّما بمجرَّد أن يصل الإمام (عليه السلام) إلى الكوفة فإنَّه يصعد المنبر، ويخطب بالناس «ولا يدري الناس ما يقول من البكاء».
لاحظ: قوله (عليه السلام): «ولا يدري الناس ما يقول من البكاء» لا يفهم الناس ما يقول الإمام، لأنَّ حالة البكاء شملت الناس، وهذا يفسّر شيئين:
أوّلاً: كثرة الجمهور، لأنَّه لو كان بكاءً فردياً لانتبهوا.
ثانياً: يعطيك مدلول الحالة النفسية والعاطفية بين الجمهور والقائد بما تعني الحالة العاطفية والانفعال في أوج حالات الترقّب والفرح والحضور وفي أعلى مستوياتها، حيث غلب البكاء على الجمهور.
إذن هذه القاعدة التي تكون قبل ظهور الإمام لم تكن قاعدة صغيرة، ولم تكن هذه القاعدة شاذّة أو تعبّر عن حالة فردانية بالحضور، وإنَّما تكون قاعدة واسعة من حيث الكمّ، وتكون قاعدة واعية ومتَّفقة عقائدياً وعاطفياًَ مع الإمام، لذلك يأخذها الانفعال الذي يغلب على كلّ حواس الإنسان سواء السمع أو غيره، لأنَّ الإنسان الحاضر قد توجَّه بكلّه إلى الإمام.
هذا الوضع يعطينا أملاً في هذه الظلمة التي نعيشها، إذ ربَّما

↑صفحة ٤٠↑

الإنسان في مثل هذا الجوّ يعيش الإحباط فهو عندما يخرج إلى الشارع وعندما يخرج إلى المجتمع يجد كثيراً من الأشياء المنكرة فقد تأخذه حالة من حالات اليأس، وحالة من حالات فقد الإرادة التي يعيشها العالم الإسلامي والعالم العربي الآن.
إنَّ هذا الوضع المأساوي الذي تعيشه الأمّة ككلّ، هو فقدان الجانب الفاعل في الإنسان، والجانب المؤثّر في الإنسان.
والذي يعطي الزخم المستقبلي الإيجابي هو العقيدة المهدوية عندما تكون في هذه المرحلة بكلّ خصوصياتها الشيعية التي تحكم الإنسان وفكر الإنسان، وتكون مؤهّلة للظهور.
إنَّ هذه الحالة من حالات الهزيمة التي نعيشها، سواء في الهزيمة السياسية أو الهزيمة العسكرية في عدَّة مواقع ابتداءً من حرب حزيران وانتهاءً بحرب أمريكا سوف تكون في مرحلة زمنية محدودة، وفي مرحلتنا هذه لا تكون طويلة وممتدَّة، وإنَّما سوف تنقلب هذه الهزيمة إلى حالة إيجابية عندما نرتبط مع الروح الحقيقية للعقيدة الشيعية بما تفهمه عن الحركة المهدوية(٢١).
المرحلة الثالثة: العراق في عصر الظهور:
قرأت الآن مجموعة من الروايات، وأنا أتحدَّث عنها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢١) وقد صدق القول، هذا انتصار حزب الله الشيعة في لبنان على إسرائيل وغطرستها حتَّى أذلّوها وهزموها فولّى اليهود الدبر، وهي أوّل مرَّة يعيش الإسرائيليون الهزيمة منذ قيام كيانهم الصهيوني إلى يومنا الحاضر (٢٢/ شعبان/ ١٤٢٧هـ) المصادف (١٧/ ٩/ ٢٠٠٦م).

↑صفحة ٤١↑

بشكل سريع، فإنَّها تحدَّثت عن أهمّية العراق ودور العراق المستقبلي.
ونجد بعض تلك الروايات قد تحدَّثت عن هذا المجتمع من حيث كلّ الخصوصيات التغييرية يصنع على عين الإمام(٢٢) وحركة الإمام، ولذلك فإنَّ أوّل شيء يقوم به الإمام (عليه السلام) هو الوصول إلى العراق، ويؤسّس في العراق هذه الدولة، وسيكون مقرّ الدولة الكوفة.
حتَّى أنَّها تحدَّثت عن الكوفة، وعن علاقة الكوفة بهذه القيادة، تقول: «ويكون أسعد الناس به أهل الكوفة»(٢٣)، إشارة إلى العراق؛ والروايات عندما تتحدَّث عن الكوفة فهي تعني العراق ككلّ وعموماً، أي بالشكل العامّ.
وعندما تتحدَّث عن العراق تقول: «أسعد الناس به أهل الكوفة»، ولم تقل الرواية: (أفرح الناس)، أي أكثر فرحاً، بل هم أكثر سعادةً، لأنَّ هذا الشعب تحمَّل الكثير من أجل الإمام (عليه السلام)، وتحمَّل الكثير من أجل أهل البيت (عليهم السلام)، فيكون حينئذٍ محل اقتطاف تلك الثمرة فلذلك يكون الناس سعداء، بمعنى مرتاحين من جميع الجوانب: الحضارية، والمدنية، والثقافية، والسياسية، والعسكرية، وكلّ الجوانب التي ترتبط بحياة الإنسان، وحينها تتوفَّر أحسن سبل الراحة في العراق وفي عصر الإمام (عليه السلام).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٢) مقتبس من قوله تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي﴾ (طه: ٣٩).
(٢٣) بحار الأنوار ٥٢: ٣٩٠/ ح ٢١٢.

↑صفحة ٤٢↑

ولذلك نجد الإنسان في العراق سوف يتغيَّر من حالة الهزيمة والتعب، والمرارة، والعذاب، والشقاء إلى مجتمع مثالي.
عاصمة الدولة المهدوية:
المجتمع المهدوي يختلف عن باقي المجتمعات بخصوصيّات لم تتوفَّر قبل الظهور، وإنَّما تكون هذه الخصوصيات قد توفَّرت بعد ظهوره (عليه السلام)، فعندما تتوفَّر السبل العمرانية والحضارية فبطبيعة الحال يكون ذلك سبباً للهجرة، فعلى سبيل المثال عندما جاء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى المدينة المنوَّرة كان يقطنها الأوس والخزرج وبعض اليهود في مناطق وحصون بعيدة عن داخل المدينة، أي إنَّ المدينة المنوَّرة كانت قرية صغيرة؛ أمَّا مكّة فكانت تسمّى أُمّ القرى، لأنَّ فيها كلّ وسائل الراحة التي تجبى من الشام، وتجبى من اليمن، ومن حضارات الدنيا من الفرس والروم، وما إلى ذلك، ولكن بعدما جعل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المدينة المنوَّرة عاصمة له حينها بدأت الهجرة إليها من باقي المناطق حتَّى أهل مكّة أنفسهم قد هاجروا إليها لتوفّر وسائل الراحة، ولذلك صار المهاجرون من حيث الكمّ والنفوس العدد الأكبر بالنسبة إلى سكّان المدينة والتنوّع من جميع العرقيات، حتَّى تجد الرومي قد سكن المدينة.
وفي عصر الإمام وعندما يكون العراق، وتكون الكوفة عاصمة الإمام وتتوفَّر في هذه العاصمة كلّ وسائل الراحة

↑صفحة ٤٣↑

وتطوّرات المدنيّة، فحينئذٍ يكون الحضور والهجرة بكثرة بحيث تعبّر تلك الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: «إذا قام قائم آل محمّد (عليهم السلام) بنى في ظهر الكوفة مسجداً له ألف باب واتّصلت بيوت الكوفة بنهر كربلاء»(٢٤).
يعني أنَّ الدنيا سوف تهاجر إلى هذه المنطقة الخربة، التي خرَّبها صدام وخرَّبتها الأنظمة. وسوف يعمّرها المهدي، وتعمّر في عصر قبل المهدي، ولكن يتمّ التعمير الأعظم عندما يظهر بقية الله.
وهذا التطوّر في هذه المنطقة بالخصوص - وهي العراق - سوف يكون حقّاً أسعد الناس به أهل الكوفة، يعني أهل العراق، لما يظهر في هذه المنطقة من تطوّر كبير، والحديث طويل جدّاً.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٤) بحار الأنوار ٥٢: ٣٣٧/ ح ٧٦، عن الإرشاد ٢: ٣٨٠.

↑صفحة ٤٤↑

الأسئلة والأجوبة:

السؤال الأوّل: (أوّلاً): أودُّ أن أتَّفق مع سماحة السيّد أنَّ العراق نقطة الانطلاق للمشروع الحضاري الإسلامي المعاصر، وأنَّه نقطة الانطلاق كما تقول (كنودا ليزا رايس) مستشارة الأمن القومي: إنَّ العراق اليوم نقطة انطلاق لشرق أوسط جديد.
(ثانياً): هناك حملة شديدة تتَّهم الروايات المهدوية بالضعف والإرسال واضطراب المتون وضعف بعض رواة أسانيدها مثل المفضَّل بن عمر، فما يقول سماحة السيّد بخصوص هذا الأمر؟
الجواب: أشكر الأخ الدكتور العميد(٢٥) على ما كتبه وأشكره على حفاوته وتهيئة الظروف والأجواء الأخويّة والعلمية، وأسأل الله له ولكم التوفيق، وأن يجعلنا من جند الإمام المهدي (عليه السلام).
أمَّا بالنسبة لتوثيق السند للروايات، فهذا موضوع قائم بنفسه، فهناك بحث بالنسبة إلى موضوع أسانيد روايات الظهور وهل تحتاج إلى دراسة أسانيدها بالضبط كما نفعل مع الروايات الواردة في مسائل الفقه أم أنَّها ليست بحاجة إلى هذه الجهود

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٥) المقصود: الدكتور عبد الأمير زاهد عميد كلّية الآداب في جامعة الكوفة.

↑صفحة ٤٥↑

العلمية من أبحاث الأسانيد، وتكفي القرائن الحالية والمقامية لتصحيحها كما يفعل مع القضايا التاريخية.
أمَّا اتّهام هذه الروايات بالضعف فلنا بحث مكتوب ومطبوع حول روايات الظهور عموماً، ففي الفكر الإسلامي عندنا نوعان من الروايات:
النوع الأوّل: الروايات العامّة التي تحدَّثت عن المهدي وعلامات الظهور، يدخل أكثر تلك الروايات تحت عنوان كتاب الملاحم لأحمد بن جعفر بن المنادي، وكتاب الفتن لنعيم بن حماد المروزي، وهذان الكتابان موضع نقد من حيث السند، ولو أنَّ السيّد ابن طاووس عندما كتب كتاب الملاحم والفتن في علامات الظهور إنَّما اعتمد على هذين الكتابين بالدرجة الأولى وهو واضح من خلال عنوان كتابه، ولذلك نعتبر من حيث الأسانيد أنَّ هذه الأسانيد ساقطة من الاعتبار ولا يمكن أن نعمل عليها على نحو المسألة الفقهية، ولكن هناك بحث بالنسبة إلى المسألة التاريخية وتنبّؤات المستقبل.
النوع الثاني: وهي روايات الشيعة الموجودة في كتاب الغيبة للنعماني، والغيبة للشيخ الطوسي، وإكمال الدين للشيخ الصدوق، وغيرها من كتب الشيعة، ففيها من الروايات المتينة والصحيحة سنداً ودلالةً، ولكنَّها تحتاج إلى التفصيل في هذا الموضوع، نسأله تعالى أن يوفّقنا للحديث عنه لاحقاً بشكل مفصَّل.

↑صفحة ٤٦↑

السؤال الثاني: نجد في كثير من الروايات والمقالات ما يذمّ أهل العراق ويتَّهمهم بالنفاق، ولذا نجدهم قد وضعوا منهجية تنشر اليأس في قلوب الكثيرين، وتخمّد الروح الثورية لدى الناس، لأنَّها في الغالب تذكر السلبيات دون الإيجابيات.
الجواب: في الواقع لا توجد رواية: يا أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق في نهج البلاغة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وإنَّما هو افتعال قام به الأمويون لأجل حربهم ضدّ العلويين باعتبار أنَّ العراق تأريخياً كان علوياً نشأةً، وكان علوياً جهاداً، وكان علوياً سياسةً، وفي كلّ أبعاده بقي العراق مع أهل البيت وسوف يبقى العراق مع أهل البيت إلى أن يظهر المهدي إن شاء الله تعالى.
ولذلك حظي العراق بحرب ضروس من الأمويين فاختلقوا من تلك الأكاذيب التي تحدَّثوا فيها عن أهل العراق.
وأمَّا ما نجده في بعض الروايات من خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) فهو ما نعبّر عنه منطقياً وبالمنطق الأورسطي بالقضيّة الخارجية، فكان (عليه السلام) إنَّما يتحدَّث عن مجتمع عاصره وقد عانى هو (عليه السلام) من هذا المجتمع المرارات، ولذلك كان يتحدَّث عن بعض الحاضرين ولم يكن قد تحدَّث عن المجتمع كمجتمع على نحو القضيّة الحقيقية، بل بالعكس فلو أراد الفقيه أن يحدّد الصورة الدينية والرؤية الإسلاميّة والشيعية للمجتمع العراقي لرآه مجتمعاً ممدوحاً، وأهمّ رواية - في نظري - تحدَّثت عن الكوفة هي ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) بصيغ مختلفة تؤدّي كلّها

↑صفحة ٤٧↑

معنى: («يا كوفة ما أرادك جبّار بسوء إلاَّ قصمه الله)(٢٦)، يعني أنَّ الله نصر الكوفة وسوف ينصر الكوفة ويحفظ الكوفة ويجعلها المنطقة التي تؤدّي دورها المطلوب في دولة الإمام.
سؤالان يتمحوران حول موضوع واحد:
(الأوّل): هل تدلُّ الأحداث الحالية في العراق وفي دول أخرى على أنَّنا نعيش في عصر الظهور؟
(الثاني): حاول سماحة السيّد المحاضِر أن يطوّع الواقع ومجرياته ليوحي للمستمع وليدلّل على أنَّ المرحلة الراهنة هي مرحلة ما قبل التمهيد، أي المرحلة الأولى، في حين أنَّ العراق مرَّ بمراحل مماثلة على مرّ تأريخه وحتَّى عصرنا الحالي، خاصّة في العصر الوسيط الذي عاصر السنوات الأخيرة للدولة العبّاسية وتلى سقوطها، والويلات التي مرَّت على العراق، وكانت تلك الفترة من أقسى الفترات. إنَّ ظروف الظهور تحتاج إلى وقت طويل لكي تمهّد لذلك الظهور، وهي تحتاج منّا نحن العراقيين بالذات العمل الجادّ والدؤوب لنكون بحقّ الممهّدين لتلك الدولة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٦) روي الحديث بصيغ عدَّة، منها: قوله (عليه السلام): «كَأنّي بـِكِ يَا كُوفَةُ تُمَدَّينَ مَدَّ الأدِيم الْعُكَاظِيَّ، تُعْرَكِينَ بـِالنَّوَازِلِ، وَتُرْكَبـِينَ بـِالزَّلاَزِلِ؛ وَإِنِّي لأعْلَمُ أنَّهُ مَا أرَادَ بـِكِ جَبَّارٌ سُوءاً إِلاَّ ابْتَلاَهُ اللَّهُ بـِشَاغِلٍ وَرَمَاهُ بـِقَاتِلٍ» (نهج البلاغة ١: ٩٧/ ح ٤٧)؛ ومنها: ما ورد عن حسّان بن مهران، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «مكّة حرم الله، والمدينة حرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والكوفة حرمي لا يريدها جبّار بحادثة إلاَّ قصمه الله» (الكافي ٤: ٥٦٣/ باب تحريم المدينة/ ح ١).

↑صفحة ٤٨↑

الجواب: نتَّفق أنَّ المرحلة طويلة وليست هذه المرحلة بالأيّام، وعندما نتكلَّم عن المرحلة فلا نقصد بها أنَّها تكون بيومين أو شهرين أو سنتين ويظهر المهدي (عليه السلام)، وإنَّما نتحدَّث عن العناصر المشتركة في هذه المرحلة بشكلها العامّ، فمثلاً أنَّ الشيخ المجلسي وعندما تحدَّث عن التوطئة للمهدي تحدَّث عنها قال عن الدولة الصفوية في كتاب البحار الذي ألَّفه في زمان الدولة الصفوية: (إنّ هذه الدولة التي سوف تسلّم للمهدي الراية وتسلّم للمهدي (عليه السلام) الأمور)(٢٧).
وعلى كلّ حال فنحن نعيش الآن في الأمل، ونبقى فيه، وأمَّا تشخيص هذه المرحلة فلم أتحدَّث بالتشخيص الدقيق، لأنَّ التشخيص الدقيق قد يكون نوعاً من أنواع التوقيت المذموم الذي نهينا عنه، وإنَّما أتحدَّث عن المرحلة بخصوصياتها العامّة التي نعيشها.
ولا إشكال فنحن الآن في المرحلة الأولى أو الثانية وليس نحن في مرحلة الظهور، ولكن في المرحلة التي تمهّد إن شاء الله لظهوره، وقد تكون هذه المرحلة ألف سنة أو سنة أو سنتين أو أيّاماً أو أشهراً، فعلم ذلك عند الله، لأنَّ التوقيت مذموم ونهينا عنه، فلم يكن المقصود من كلامي هو التوقيت، وإنَّما الطرح العامّ لتوضيح الرؤية الدينية والشيعية لحركة الإمام ومستقبلها.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٧) قال (رحمه الله) في بحار الأنوار ٥٢: ٢٤٣/ ذيل الحديث ١١٦: (بيان: لا يبعد أن يكون إشارة إلى الدولة الصفوية شيَّدها الله تعالى، ووصلها بدولة القائم (عليه السلام)).

↑صفحة ٤٩↑

الندوة الثالثة(٢٨): التطوّر الحضاري في دولة الإمام المهدي (عليه السلام)

مفهوم الدولة:
عندما نعنون الحديث والبحث عن التقدّم الحضاري في دولة الإمام، فإنَّ العنوان يتحدَّث عن جانب من جوانب ما يظهر ويتجلّى في دولة صاحب الأمر.
وتلاحظون العنوان فإنَّه يتحدَّث عن التقدّم الحضاري، كما أنَّه يتحدَّث عن الدولة الخاتمة للإمام.
وعندما تريد أن تتحدَّث عن الدولة كمفهوم سياسي؛ وأثر الدولة في بناء المجتمع المتقدّم، أو بالعكس حيث تتحدَّث عن أثر الدولة في تأخّر الإنسانية، فإنَّ هذا الموضوع بنفسه يحتاج إلى حديث مفصَّل ومستقلّ؛ بمعنى: ما هو دور الدولة في بناء المجتمع الصالح وفي بناء الإنسان الصالح؟ وهل هناك معادلة طردية، أو عكسية بين المجتمع الصالح وبين الدولة الصالحة أو ليس هناك علاقة؟
وهذا تصوّر قد أخذ في مجمل أبحاث تحدَّثت عن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٨) أُقيمت هذه الندوة في كلّية الإدارة والاقتصاد في جامعة الكوفة عام (٢٠٠٥م).

↑صفحة ٥٠↑

الدولة، وأثر الدولة في المجتمع، والمقطوع به أنَّ للدولة دوراً كبيراً في بناء الإنسان، بغضّ النظر عن كلّ خصوصيات ما يمكن أن يقال في هذا الصدد، وبهذا الصدد، فإنَّ للدولة - كدولة وكبناء - دوراً في بناء المجتمع الصالح.
الدولة الإسلاميّة:
ويمكننا أن نعنون حديثاً آخر، عندما نتحدَّث عن الدولة الإسلاميّة التي أُسّست في عهد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهي أوّل دولة إسلاميّة، بل أوّل دولة في مفهومها المعاصر نشأت في جزيرة العرب، ومن الصحيح أنَّه كانت هناك دول أخرى خارج هذه البقعة الجغرافية كالدول التي كانت في الشرق أو في الغرب، مثل الروم أو الفرس أو الغساسنة أو المناذرة - إن صحَّ على الأخيرين إطلاق اسم دول -، ولكن في الجزيرة العربية تعتبر الدولة المحمّدية التي قام بها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أوّل الدول بمنظور حضاري بما يؤدّي وبما يملك للدولة من مفهوم.
ولكنَّ هذه الدولة أخذت منحىً آخر بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فإنَّ انتكاسة كبيرة قد أصابت هذه الدولة ونقلتها من شكلها الحضاري وبنائها المؤسّساتي إلى الروح القبلية التي كانت تحكم المجتمع العربي قبل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولذلك خسرت الدولة كثيراً من مفاهيمها الإستراتيجية، كما خسرت الدولة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كثيراً من مؤسّساتها على الواقع والواقعية.

↑صفحة ٥١↑

ولكن هناك نموذج آخر، أو تطوّر آخر، أو استرداد واسترجاع للدولة في حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما صار خليفة للمسلمين.
خاتمة الدول:
لكن هناك خاتمة الدول التي تختم الدول الإنسانية في عقيدة الإمامية، وتكون في آخر الزمان عندما يقوم بتلك الدولة صاحب الأمر (عليه السلام)، ومن الطبيعي فإنَّ البحث هنا يحتاج إلى تأصيل، وتوضيح، وتأسيس لمفهوم الدولة كدولة من وجهة سياسية، سواء كان كمذهب سياسي، أو طبق الرؤى العلمية بعلم السياسة التي تحدّد مفهوم الدولة في عصر الإمام المهدي (عليه السلام) ومؤسّسات تلك الدولة التي يظهرها (عليه السلام).
إنَّ للدولة دوراً بمفهومه العقائدي والسياسي والمذهبي في دولة الإمام، وفي حياة الإمام، وفي حركة الإمام الخاتم، الإمام المهدي (عليه السلام).
وهذا الدور سوف يؤثّر في رقيّ الإنسانية والتقدّم الحضاري للإنسانية، ولذلك فعندما تؤسّس تلك الدولة ذات المفهوم المحدَّد، والمدلول المعيَّن فسوف تهيّئ الأجواء والظروف المناسبة لهذا التطوّر، ولا بدَّ من بيان العوامل والأسباب الواقعية والعملية لهذا التطوّر وهو وجود تلك الدولة الخاتمة.
ويمكن قراءته من خلال رؤيتين:

↑صفحة ٥٢↑

الرؤية الأولى: الرؤية الدينيّة المطلقة:
وأقصد بالإطلاق هنا ما يقابل الرؤية الدينية الخاصّة التي سوف أتحدَّث عنها، المختصّة بدولة صاحب الأمر (عليه السلام).
فهناك رؤية دينية مطلقة تعبّر عن حقيقة أنَّه لو توفَّرت تلك الدولة، ولو توفَّرت تلك الأسس الموضوعية فسوف - بطبيعي الحال - يتحقَّق القسم الثاني الطردي المرتبط بهذا القسم الأوّل؛ يعني لو كانت هناك دولة إسلاميّة، وكان هناك مجتمع إسلامي وتهيَّأت الظروف المناخية والسياسية وغير ذلك من الظروف، فحينئذٍ لكان الجانب الثاني من المعادلة يتحقَّق بشكل طبيعي، وهذا التحقّق هو التقدّم الحضاري.
يعني هناك ترابط بين وجود دولة إسلاميّة ذات أبعاد إسلاميّة مع وجود تقدّم حضاري، وهذا الذي أشارت إليه مجموعة من الآيات الكريمة التي تحدَّثت عن هذه الحالة.
ومن جملة تلك الآيات قوله تعالى: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً﴾، ثمّ يقول في الآية الثانية: ﴿يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً﴾.
إذن هناك ترابط بين الاستغفار، استغفار الله تبارك وتعالى وبين عملية نزول المطر، وهذا التنـزيل الإلهي للمطر تتمَّه قوله تعالى في الآية الثالثة: ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً﴾ (نوح: ١٠ - ١٢).
اُنظر الوضع المترابط بين مطر السماء، وبين ضخامة المال، وتداول الثروة، أو بقاء الثروة، أو تكدّس، أو تضخّم الثروة - بمختلف التعابير -،

↑صفحة ٥٣↑

وبين كثرة البنين، وبين أن تمتلئ الدنيا بالجنّات، والجنّات هنا قطعاً لم يكن المقصود بها جنّات الآخرة وإنَّما هي جنّات الدنيا؛ يعني أن تزدهر وتتطوَّر وتتقدَّم الزراعة في الأرض.
ثمّ تتحدَّث عن الثروة المائية بعدما تحدَّثت عن الزراعة، وتحدَّثت عن الأسرة، وتحدَّثت عن عدَّة أشياء، فهي تتحدَّث عن الثروة المائية فتقول: ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً﴾.
هذه الآيات تبيّن هذه العلاقة والارتباط.
اسمع قوله تعالى: ﴿وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً﴾ (هود: ٥٢)، هذا هو نفس المنطق، ونفس المفهوم الذي ذكر في الآيات السابقة لكن في بُعد آخر، فإنَّ تكملة الآية تقول: ﴿وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ﴾، هذه القوّة ومداليل القوَّة، سواء كانت القوَّة الجسمانية أو القوى الأخرى التي تظهر بظهور هذه الخيرات بواسطة الاستغفار.
إذن برؤية عامّة هناك قضايا مترابطة بعضها مع بعض، مقدّمات ونتائج: استغفروا الله، تكون نهضة حضارية شمولية تشمل جوانب متعدّدة من حياة الإنسان، بل تشمل حياة الإنسان ككلّ، هذا المفهوم العامّ.
الرؤية الثانية: الرؤية الخاصّة:
هناك مفهوم خاصّ بعقيدتنا كإمامية، نعتقد أنَّ تحقّق الدولة - وإن كان هذا يحتاج إلى بحث خاصّ - تحقّق الدولة

↑صفحة ٥٤↑

بكلّ مواقعها الحقيقية لا يمكن أن تظهر خيراتها إلاَّ في دولة صاحب الأمر (عليه السلام)، فكم هناك من حكومات إسلاميّة تسبق دولة الإمام (عليه السلام) ويظهر فيها الخير والبركة، ولكن الحكم الإلهي المطلق وتطبيق الحكم الإلهي المطلق منحصر في دولة صاحب الأمر (عليه السلام).
ولذلك فسوف تكون مظهرية تلك الخيرات أتمّ بتحقّق دولة صاحب الأمر (عليه السلام)، وأعلى مستوى من مستويات الرفاهية الإنسانية، وأعلى مستوى حضاري تقدّمي للإنسان سوف يكون في دولة صاحب الأمر، هذا في المنطق العامّ.
ولو أخذنا هذا المنطق من خلال الروايات التي وردت وتحدَّثت عن دولة صاحب الأمر وعن تلك المظاهر العمرانية والحضارية في دولته، مجمل هذا الوضع - والحديث يحتاج إلى تفصيل - ينشأ ويؤيّد ما طرحناه من عموميات.
النظرية الغربية:
قبل أن أتطرَّق لخصوصيّات دولة صاحب الأمر، أُلاحظ النظرة الغربية التي عشناها في بداية شبابنا عندما ظهرت في العالم العربي وترجمت النظريات الغربية إلى العالم العربي، والتخوّفات الغربية من مستقبل البشرية في الأرض، التي كان يعبّر عنها بأوضح تعبير في نظرية (مالتس) الذي تحدَّث على أنَّ البشرية متقدّمة نحو الدمار والزوال.

↑صفحة ٥٥↑

هذا البؤس والتشاؤم في الرؤية الغربية للدنيا، وللبشرية والعالم جعل الغربيّين يتحرَّكون لوضع حلول بديلة عن الوقوع في الهاوية، لأنَّهم يتصوَّرون أنَّ الخيرات في الأرض محدودة، وذلك هو مجمل هذه النظرية الغربية التي تزعَّمها (مالتس) في ذلك الوقت، فبما أنَّ الأرض تملك خيرات محدودة فلا بدَّ أن يكون وجود الإنسان السكّاني على الأرض محدوداً بمحدودية الأرض.
ومن هذا المنطلق، ومن هذه الفكرة نشأت وبقوَّة نظرية تحديد النسل التي دعا إليها الأوربيّون الغربيّون في بداية القرن العشرين وما زالوا لحدّ الآن يؤمنون بهذه النظرية في تحديد النسل، ويدعون إلى تحديد النسل لأجل إيجاد نهاية لهذه التخوّفات وحالة البؤس التي يعاني منها الإنسان الغربي.
وفي هذه الرؤية ترى البشرية في حالة دمار، وفي حالة هاوية، وفي حالة شقاء؛ وهذه البشرية لا يمكن علاجها إلاَّ بأخذ مسكّنات أوّلية، وجرعات لهذه المسكّنات لإيقاف التزايد السكّاني إلى مقدار يمكن للأرض أن تتحمَّله.
ويقابل هذه النظرية (النظرية الدينية الإسلاميّة)، التي تؤمن أنَّ الأرض فيها من الخيرات الشيء الكثير، وأنَّ ما نراه من الخيرات على هذه الأرض لم يكن كلّ خيرات الأرض، فهذه الأنهار لم تكن كلّ قابلية الطبيعة لإغناء الإنسان بالثروة المائية، وكذلك السماء لم تكن قابليتها فقط هذه الزخّات من المطر، وهكذا بالنسبة للمعادن، وهكذا بالنسبة للثروات الطبيعية الأخرى.

↑صفحة ٥٦↑

فإنَّ الرؤية الدينية تقول: إنَّ ما هو موجود حالياً لم يكن كلّ الثروة، ولم يكن كلّ الخير، ولم يكن كلّ البركة، بل إنَّ الأرض فيها من الإمكانية حتَّى تكفي أبناءها البشر لو كانوا أضعاف وأضعاف هذا العدد السكّاني الموجود على الأرض، ولكنَّ المانع الذي يمنع من إيجاد وظهور تلك البركات هو العوامل الغيبية التي لا يحسّ بها الإنسان.
تلاحظ أنَّ الفكر المادّي عندما يتصوَّر أنَّ المعادلة كلّها معادلة مادّية بحتة، ولا يوجد هناك دافع وعامل غيـبي يتحكَّم بهذه العناصر المادّية، في الوقت الذي نرى فيه أنَّ الدوافع الغيبية، والعوامل الغيبية لا تنحصر فقط في الآخرة والمعاد ويوم القيامة والعوامل اللامرئية، وإنَّما ذلك الغيب وذلك العامل الغيبي مؤثّر حتَّى في العوامل الطبيعية والأسباب الطبيعية.
فإنَّ الآية الكريمة التي قرأناها توضّح أنَّ هناك تواصلاً وتلاحماً بين العامل الغيـبي - الاستغفار، ذكر الله، وأن ينطلق المجتمع انطلاقة ربّانية - وبين التطوّر الحضاري والعمراني والازدهار بكلّ أنواعه الذي يعيشه الإنسان، وهذا الشيء كان مفقوداً في الرؤية المادّية.
بركات الدولة المهدوية:
وهنا بشكل مجمل نوضّح حقيقة أنَّ التقدّم بدولة صاحب الأمر قد ورد في روايات كثيرة، وسنذكر هنا جملة من تلك

↑صفحة ٥٧↑

الروايات بأسانيد العامّة، فإنَّ الروايات التي وردت بأسانيد شيعية كثيرة جدّاً، ولكن من باب المحاججة نذكر بعض الروايات بأسانيد عامّية - وهي كثيرة أيضاً - لتكون الرؤية أكثر استيعاباً بما هو موجود في المذاهب الأخرى وبما روي عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
من جملة تلك الروايات رواية حذيفة بن اليمان عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يتحدَّث عن المهدي، والرواية طويلة جدّاً لكن أنقل هذا المقطع، يقول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «... يفرح به أهل السماء وأهل الأرض، والطير، والوحش، والحيتان في البحر، وتزيد المياه في دولته، وتمدُّ الأنهار، وتُضعف الأرض أُكُلها، وتُستخرج الكنوز»(٢٩).
فيفرح به أهل السماء والأرض بمستوىً واحد، فما يشمل أهل الأرض يشمل أهل السماء، وما يشمل أهل السماء يشمل أهل الأرض، وهذا يحتاج إلى رؤية علمية غيبية.
قلنا: الغيب متفاعل في الشهود في الأرض وفي الدنيا، تفاعل السماء التي هي عالم من عوالم الغيب ببعض أوجهها مع الأرض التي هي عالم الشهود، وعالم الظهور، وعالم الواقع والوجدان والحضور؛ وهذا التفاعل الثنائي معه الرواية تقول: «يفرح به أهل السماء وأهل الأرض والطير»، وهذا البعد الآخر، «والوحوش والحيتان في البحر»، وهذا يحتاج إلى حديث يتعلَّق عن أثر دولة الإمام المهدي (عليه السلام)، ودور دولة الإمام المهدي (عليه السلام) بتطوّر الحيوان وليس فقط الإنسان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٩) عقد الدرر: ٢٠٠/ ط ١/ ١٤١٦هـ/ انتشارات نصائح.

↑صفحة ٥٨↑

وملخَّص هذه الرواية بما يتعلَّق مع التقدّم الحضاري والعمراني للإنسان نلاحظ فيها أنَّها تصرّح بأشياء مهمّة كثيرة، منها: أنَّه تزيد المياه، وتمدُّ الأنهار، وتُضعف الأرض أُكُلها، وتُستخرج الكنوز، هذه الرواية مع أنَّها وردت في كتب أبناء العامّة فإنَّها تحدَّثت عن هذه المظاهر التقدّمية الحضارية لدولة صاحب الأمر التي هي من صلب عقيدة الشيعة الإمامية سلَّمهم الله تعالى.
والرواية الأخرى أيضاً تروى بأسانيد إخواننا السُنّة عن عبد الله بن عبّاس، عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، يقول عن التطوّرات التي تحدث في عصر الإمام ودولة الإمام:
«... وتأمن البهائم والسباع، وتلقي الأرض أفلاذ كبدها»، قال: قلت: وما أفلاذ كبدها؟ قال: «أمثال الأسطوانة من الذهب والفضَّة»(٣٠).
وتأمن البهائم، اُنظر: (الأمن) هو من المواضيع المهمّة، فعندما نتحدَّث عن الثروة المائية، وعن الزراعة، وعن الاقتصاد فالرواية تتحدَّث عن الأمن، وهو أهمّ مَعلم من المعالم الفاعلة، والمحرّكة في تقدّم الحضارة الإنسانية، ولا يمكن لأمّة أن تترقّى بلا أمن، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «وتأمن البهائم والسباع»، أي إنَّ هذا الأمن الذي تتحدَّث عنه الرواية لا يختصّ بالبشر فقط، وإنَّما يشمل حتَّى البهائم.
ثمّ قال: «وتلقي الأرض أفلاذ كبدها»، فيسأل عبد الله بن عبّاس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويقول له: وما أفلاذ أكبادها؟ قال: «أمثال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٠) مستدرك الحاكم ٤: ٥١٤، وقال بعده: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه - أي البخاري ومسلم -.

↑صفحة ٥٩↑

الأسطوانة من الذهب والفضَّة»، اُنظر إلى عبارة: (أسطوانة)، فهكذا سوف تخرج الخيرات لأهل الدنيا كما في هذه الرواية.
والرواية الأخرى التي تحدَّثت عن هذا الجانب، مع العلم أنَّها روايات كثيرة جدّاً ولا يمكن في الواقع ذكرها جميعاً لكنَّني أُعنون الحديث بما يناسب المقام.
والرواية يرويها أبو سعيد الخدري، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأسانيد أبناء العامّة، قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
«ينـزل بأمّتي في آخر الزمان بلاء شديد من سلطانهم لم يسمع بلاء أشدّ منه، حتَّى تضيق بهم الأرض الرحبة، وحتَّى تملأ الأرض جوراً وظلماً، لا يجد المؤمن ملجأ يلتجئ إليه من الظلم، فيبعث الله (عزَّ وجلَّ) رجلاً من عترتي فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، لا تدَّخر الأرض من بذرها شيئاً إلاَّ أخرجته ولا السماء من قطرها شيئاً إلاَّ صبَّه الله عليهم مدراراً...»(٣١).
اُنظر إلى أثر الدولة التخريبـي، فإذا كانت الدولة مخرّبة فكيف تؤثّر سلباً في حياة الإنسان، والمجتمع وفي حياة الإنسان الفرد؟ فحقّاً أنَّ الدور التخريبي في حياة الإنسان هو من تخريب الدولة، وهو ما يقابل الدور الفاعل الإيجابي في حياة الإنسان، والعمراني والتقدّمي في الدولة الخيّرة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣١) مستدرك الحاكم ٤: ٤٦٥، وقال بعده: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه - أي البخاري ومسلم -.

↑صفحة ٦٠↑

وهذا التقدّم لم يكن كيفياً، وإنَّما هو طبيعي، أي بالقوانين الطبيعية وليس بالإعجاز وليس خارق العادة، بل بالقوانين الطبيعية وسوف يتمّ هذا التطوّر عندما تفتح السماء أبوابها وعندما يكون الإنسان مؤهّلاً لنزول الخيرات.
ونلاحظ من مظاهر التقدّم في دولة الإمام (عليه السلام) أنَّ أوّل شيء يقف أمام ناظرنا من هذا التطوّر هو مسألة المياه، ونحن نعيش الآن في هذا العصر، مسألة المياه التي هي مشكلة العصر، وإنَّ مشكلة القرن الواحد والعشرين هي مشكلة المياه، والمتوقّع كما تسمعون من الإعلام والاختصاصيين الذين يبحثون عن هذه المشكلة العويصة، إنَّ هذه المشكلة غير محصورة بالثروة الزراعية، أو مسألة مهمّة بما تتعلَّق بحياة الإنسانية، بل انعكاسها على الوضع السياسي العالمي، فإنَّ الحروب المتوقّعة في المستقبل في هذا القرن يكون منشؤها هو قلَّة المياه، لأنَّ هناك جدباً سوف يؤثّر على واقع الحياة في الأرض. ويفسّر بعضهم هذه الحالة بعنوان أنَّ الأرض ابتدأت ترتفع حرارتها، فربَّما ارتفعت درجة حرارة الأرض - بحسب التقارير العلمية - نصف درجة إلى درجة ممَّا يسبّب هذا الارتفاع الجدب الذي تمرُّ به الأرض بشكل عامّ.
فإنَّ من أهمّ مشكلات العصر الحاضر هي مشكلة المياه، فنحن الآن وإن كنّا نعيش في بلاد الرافدين وقد أبعدنا الباري عن هذه المشكلة، إلاَّ أنَّكم لو نظرتم إلى بقيّة دول العالم لرأيتم هذه المشكلة بوضوح، فهي الآن تُعد إحدى المشاكل الخطرة في مباحثات السلام بين لبنان وسوريا من جهة وبين إسرائيل من جهة

↑صفحة ٦١↑

أخرى تحت عنوان تقسيم الثروة المائية. فمسألة المياه مسألة سوف تدخل في السلم العالمي فضلاً عن دور المياه في الزراعة، ودور المياه في الاقتصاد، ودور المياه في حفظ حياة الإنسان.
لكن هذه الحلول - كلّ الحلول التي تقدَّم ذكرها وغيرها - على نمطين:
النمط الأساسي عالمياً: أنَّ المرتكز العالمي لإيجاد الحلول هو الحلول السياسية، ويتحدَّد بتقسيم الثروة المائية كما حدث في المؤتمر الأخير الذي عقد في أفريقيا لتقسيم ثروة مياه نهر النيل.
فهذا الموضوع موضوع دولي لتقسيم المياه، لكن هذا التقسيم وهذا الحلّ هو حلّ مؤقَّت، فإنَّه سوف يوفّر لهم فرصة أخرى للعيش في مياه أقلّ، ولكن سوف تبقى عندهم مشكلة يعانون منها في تصوّرهم وهي أنَّ الأرض قادمة على جفاف كلّي، وهذا الجفاف مؤثّر في حياة البشرية ككلّ، ولذلك يحاولون أن يجدوا حلولاً طبيعية أخرى يستغنون بها عن تلف وإتلاف هذا المقدار من المياه، ولم يفلحوا لحدّ الآن إلاَّ من جانب واحد، وهو جانب الخيال العلمي؛ وأمَّا الانطلاقة الأخرى العملية والواقعية التجريبية، فإنَّه لم يتوصَّل الإنسان لحدّ الآن إلى تجربة عملية لتوفير المياه.
أمَّا عندنا نحن الشيعة الإمامية فإنَّ الحلّ موجود في دولة صاحب الأمر (عليه السلام)، ذلك لأنَّ السماء سوف تمدّنا بمطر غزير، وأنَّ الأرض يفجّر الله فيها عيوناً وأنهاراً، وهذه الخيرات التي

↑صفحة ٦٢↑

سوف تكون في هذه الأرض لم تكن على نحو إعجازي وإنَّما تناسبي، فلو فهمنا المعادلة التناسبية فحينئذٍ سوف نفهم التقدّم الذي يحصل في دولة صاحب الأمر.
اُنظر إلى بعض القضايا التي تطرح على مستوى الخيال العلمي، وكما يقال وكما ترون، وبما يذكر في هذا الصدد، فإنَّ أثر الخيال العلمي في الوصول واضح في اختراع الآلات المتطوّرة، ولا أُريد أن أتطرَّق لهذا الموضوع وليس من اختصاصي، وإنَّما أستشهد به لتوصيل الفكرة، وهي: ربَّما أنا وأنت نقرأ بعض الروايات، وربَّما لا نستوعب حدود هذه الرواية، فمرَّة نوكلها إلى الإعجاز، ومرَّة نوكلها إلى ظروف لم يتوصَّل إليها الإنسان.
أنا أقول بصراحة: إنَّ القوانين الطبيعية التي اكتشفناها لحدّ الآن كبشر، والقوانين والتطوّر الطبيعي فضلاً عن التطوّر العمراني والحضاري الذي وصل إليه الإنسان، لم يكن كلّ اكتشافاته، يعني أنَّ القوانين التي اكتشفناها حالياً لم تكن كلّ القوانين التي تملكها الطبيعة، وإنَّما هناك قوانين أخرى لم يتوصَّل إليها الإنسان في مورد الاكتشاف. وقد حاول الإنسان أن يظهرها في رسائل الخيال العلمي.
وهذا الخيال العلمي، ربَّما يكون على الأرض، ونحن على يقين أنَّ هناك كثيراً من القوانين الطبيعية التي لم يكتشفها الإنسان حالياً وإنَّما سوف تظهر ويظهرها صاحب الأمر (عليه السلام)، الذي آتاه الله من العلم ما لم يؤتِ أحداً من العالمين، فالإمام ليس عالماً بقوانين الشريعة فقط، أو قوانين اللغة، أو العلوم الإنسانية بشتّى

↑صفحة ٦٣↑

أنواعها وأصنافها، وإنَّما الإمام المعصوم (عليه السلام) عالم بكلّ قوانين الحياة، سواء كانت على مستوى فيزيائي، أو كيميائي، أو أيّ نوع من أنواع تلك القوانين التي تحكم حياة الإنسان والتطوّر الإنساني.
وعندما يظهر ويخرج كنوز الأرض، فإنَّ أحد التفاسير لكنوز الأرض أنَّه ليس المقصود من هذا الكنز هو الكنز من الذهب والفضَّة المادّي فحسب، وإنَّما قد يكون - والله العالم - كما تشير إليه الروايات الكثيرة، وهو أنَّ الإمام يظهر مبادئ القوَّة، وقوانين القوَّة وقوانين القدرة للإنسان، أي يعطيه تلك القوانين التي يستطيع بها الإنسان أن يوفّر لحياته أفضل العيش، وأهنأ العيش، وأحسن العيش؛ أي إنَّ الإمام سوف يوفّر للإنسان أشياء كثيرة لم يمكنه أن يحصل عليها من قبل ومن جملة هذه الأشياء التي يوفّرها هي تلك القوانين.
أعطيك رواية واحدة تشير إلى هذا المعنى تحدَّثت عمَّا يظهر في دولة صاحب الأمر (عليه السلام)، وهذه الرواية في الخرائج والجرائح للراوندي، وهو من العلماء الأعلام للشيعة، قد رواها عن الإمام الصادق، عن أبيه الباقر (عليه السلام)، قال:
«إذا قام القائم بمكّة وأراد أن يتوجَّه إلى الكوفة نادى منادٍ: ألا لا يحمل أحد منكم طعاماً ولا شراباً، ويحمل معه حجر موسى الذي انبجست منه اثنتا عشرة عيناً، فلا ينزل منزلاً إلاَّ نصبه فانبعثت منه العيون، فمن كان جائعاً شبع ومن كان ظمآناً روي، فيكون زادهم حتَّى ينزلوا النجف من ظاهر الكوفة، فإذا نزلوا

↑صفحة ٦٤↑

ظاهرها انبعث منه الماء واللبن دائماً، فمن كان جائعاً شبع ومن كان عطشاناً روي»(٣٢).
علماً أنَّ عدد الجيش هو عدد ضخم، إذ أنَّ قادة الجيش عددهم (٣١٣) قائداً، وقد ورد في بعض الروايات أنَّ كلّ قائد يشدُّ له الإمام (عليه السلام) راية على عشرة أو اثني عشرة ألف أو يزيدون، فكم مليون يكون عدد جند صاحب الأمر (عليه السلام)؟ وهذا العدد يعطيك حالة تفاؤلية لمن يكون معه (عليه السلام) من حيث الكمّ، والأمل أن نكون ضمن هذا الكمّ.
إعجاز الإمام المهدي (عليه السلام):
هذا المنطق ربَّما نفسّره تفسيراً إعجازياً.
فالمعجزة على نوعين:
النوع الأوّل: تبقى دائماً إلى أن يأتي الله سبحانه وتعالى بعلمه، أي تبقى خارقة لقانون الطبيعة، يعني على الدوام والاستمرار.
النوع الثاني: هناك نوع من المعجز يكون نسبياً، مثل السحر الذي كان في عهد موسى (عليه السلام) يقال: إنَّ هذا السحر إعجاز لم يكن خارقاً للعادة، وإنَّما نسبي بما عجز عنه السحرة في عصره، والمقصود من النسبية هنا هو أنَّ هناك في الطبيعة قوانين لم يتوصَّل إليها البشر في ذلك العصر، والنبيّ بما أُوتي من قوَّة بالعلم والمعرفة يستخدم قوَّته العلمية وعلومه التي لم يعرفها باقي البشر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٢) الخرائج والجرائح ٢: ٦٩٠/ ح ١.

↑صفحة ٦٥↑

لإظهار ذلك الخارق، وحينئذٍ لو سُئل: من أين لك هذا العلم؟ فإنَّه سيقول: من الله سبحانه، باعتبار أنَّ الله هو الذي علَّمه هذا القانون، ممَّا يؤيّد ويؤكّد إعجاز ذلك النبيّ على نبيّنا وآله وعلى جميع الأنبياء آلاف التحيّة والسلام.
هناك في حياة الإمام ربَّما يقال نوع من هذا الإعجاز، يعني هناك إعجاز ربّاني لا إشكال فيه، وكما جرى على يد سائر الأنبياء فإنَّه سوف يجري على يد الإمام المهدي (عليه السلام).
وهناك إعجاز سبقي، بمعنى تقدّم علمي حصل عليه الإمام لم يحصل عليه السابقون، قد يكون من ذلك حجر موسى (عليه السلام) الذي يكون مع المهدي (عليه السلام).
وهذا الموضوع مهمّ، ودقيق، ولا أُريد أن أخوضه بكلّ تفاصيله، وإنَّما بالشكل السريع من أجل إيصال الفكرة، وأمَّا الخصوصيات، فيمكن أن نناقش فيها للتوصّل إلى رؤىً صحيحة تنسجم مع العقيدة الصحيحة.
وأُريد أن أقول: إنَّ هناك تقدّماً حضارياً علمياً يسبق الخيال العلمي الموجود حالياً، ويطبّق أو ينفّذ كثيراً من النظريات الخيالية العلمية، فيكون تطبيقها في دولة صاحب الأمر (عليه السلام).
وهذا السبق يؤثّر في تقدّم الزراعة، كما قرأت هذه الآية، إضافة إلى ما تحدَّثت به الروايات من أنَّ الله يجعل الأرض في دولة صاحب الأمر خضراء، فهذه الجزائر والصحاري التي نراها، مثل جزيرة العرب، أو جزيرة العراق، أو غير ذلك من الصحاري الواسعة في الأرض سوف

↑صفحة ٦٦↑

تتحوَّل إلى جنّات وعيون تمتلئ بالخضرة، والخضرة التي تفيد الأرض، كما أنَّ هنالك خضرة تفيد حياة الإنسان تعبّر عنها الرواية التي قرأناها عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّ هذه الأُكُل: «وتُضعف الأرض أُكُلها» حتّى النوع سوف يختلف ويتكثَّر.
إنَّ هذا السبق أيضاً ربَّما كان للتأكيد على حدوث أشجار تحمل الأثمار التي لم تكن معروفة في زمان الأئمّة (عليهم السلام).
وعلى كلّ حالٍ، فإنَّ كلّ هذا إنَّما هو في عصر الإمام (عليه السلام) وفي عهده بالنسبة للزراعة، وبالنسبة للمياه، فإنَّه قالت الروايات: إنَّ هناك مياهاً وأنهاراً جديدة سوف تشقّ في الأرض، كما وأنَّ الإمام (عليه السلام) سوف يشقّ نهراً من كربلاء إلى النجف(٣٣)، يعني أنظر إلى هذه الصحراء التي تراها حالياً ما بين كربلاء وما بين النجف فإنَّها سوف يحييها الإمام (عليه السلام) مرَّة أخرى.
وكلّ هذا التقدّم سوف تمرُّ به البشرية في عصر الإمام.
والإمام الصادق (عليه السلام) عندما ذكر هذه المناظر، إنَّما تحدَّث عنها لأنَّها كانت معروفة ومتصوّرة لمعاصريه، ولكنَّه لم يتحدَّث عن المناظر الأخرى غير المعروفة لمعاصريه وليس عدم ذكره لها لأنَّها لم يشملها التقدّم، بل سوف يشملها، ولكن لسبب آخر وهو: لأنَّ الرواة كانوا ربَّما لا يعرفون إلاَّ أبعاداً ضيّقة عن المناطق الجغرافية التي يعيشون فيها أو التي يمرّون بها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٣) راجع: الإرشاد ٢: ٣٨٠.

↑صفحة ٦٧↑

البعد الاقتصادي:
إذا أردنا أن نرى التقدّم الاقتصادي في دولة الإمام فنلاحظ أثر المال في الاقتصاد - اقتصاد الدولة، واقتصاد المجتمع، واقتصاد الفرد -، وإلى أثر المال في التطوّر والتقدّم بما يعني له من البعد الاقتصادي في تطوّر حياة الإنسان.
وعندما نقرأ الآن في كتب الفكر الماركسي فإنَّنا نجدها تتحدَّث عن أنَّ العامل الأوّل والأخير في التطوّر الحضاري عند الإنسان هو العامل الاقتصادي، فيأتيك الإسلام فيجعل هناك عوامل متنوّعة للتطوّر، ومنها العامل الاقتصادي.
وعلى أيّ حالٍ فإنَّ هناك شعباً كثيرة من الحديث عن حضارة الإنسان في دولة الإمام، وهذا التطوّر الحضاري من حيث المدن وترتيبها وتطوّرها، أي الجانب العمراني في المدينة وأثر المدينة، وبناء المدينة في دولة صاحب الأمر (عليه السلام).
وكلّ واحد من هذه المفردات التي طرحتها والتي لم أطرحها، مثل الجانب الأمني، والجانب العسكري، ولحاظ بناء المدن، والتقدّم العمراني، ولحاظ التقدّم في الصناعات، والتقدّم في التكنولوجية، وكلّ شيء، وكلّ هذه مسائل تحتاج إلى حديث مفصَّل.
وهناك تقدّم أيضاً يحدث في الإنسان نفسه، أي في قدراته العقلية، وفي إدراكات الإنسان بما يحدث فيه من تطوّر آخر.

* * *

↑صفحة ٦٨↑

الأسئلة والأجوبة:

السؤال الأوّل: سماحة السيّد تحدَّثتم أنَّ هناك عدَّة دول إسلاميّة تسبق دولة الإمام (عليه السلام)، ما هي فائدة هذه الدول الإسلاميّة إذا كان تحقّق العدل المطلق محصوراً في دولة الإمام (عليه السلام)؟ علماً أنَّ هناك من المراجع من لا يرى قيام دولة إسلاميّة في الوقت الحاضر؟
الجواب: السؤال ينشعب إلى قسمين:
القسم الأوّل: ما هي فائدة وجود دول إسلاميّة قبل دولة صاحب الأمر؟
والجواب: من خلال البحث والحديث توضَّح أنَّ تلك الدول التي تكون قبل صاحب الأمر تكون قوَّتها وقدرتها على تنفيذ الإسلام محدودة، بمعنى أنَّ القوَّة فيها محدودة سواء كانت أسباب تلك المحدودية تعود لظروف دولية أو سواء كان لظروف اقتصادية تجبر هذه الدولة على أن يكون تأثيرها محدوداً، أو أمور أخرى.
والإنسان المنطقي والعلمي يتوصَّل إلى أنَّ القدرة في تلك الدول لا تجعلها أن تحكّم الإسلام كاملاً، فضلاً عن أنَّ الإنسان الحاكم إذا لم يكن معصوماً بطبيعته يكون معرضاً للخطأ.

↑صفحة ٦٩↑

ولكن فائدتها تمثّل جزءاً من الخير، فإنَّ الخير القليل خير من لا خير، فالخير النسبي وإن كان محدوداً فهو خير، وأمَّا عندما أقول: إسلاميّة، لا أقصد بهذا المصطلح إعطاء نمط خاصّ وهو النمط الإسلامي، يعني (الدولة الفلانية إسلاميّة)، ولا أقصد من هذه التسميات التي تطلق على بعض الدول من الناحية الرسمية، وإنَّما أقول معنى تطبيق الإسلام النسبي بما تهيّئه الظروف، وبتعبير الإمام الخميني ومؤسّس الدولة الإسلاميّة في إيران كان يقول: نحن لحدّ الآن لم نطبّق الإسلام كلّه وإنَّما نسعى لتطبيق الإسلام، وأمَّا الإسلام كلّه فسوف يطبَّق في دولة الإمام المهدي (عليه السلام).
القسم الثاني: وهو أنَّ بعض المراجع لا يؤمنون بوجود حكومة إسلاميّة.
فالصحيح: ليس أنَّ بعض أولئك المراجع لا يؤمنون بحكومة إسلاميّة، بل أنَّهم لا يدعون للوجوب، يعني لا يجب عليك أن تسعى وتجاهد وتقاتل من أجل إقامة دولة إسلاميّة.
هذه رؤية فكرية تحتاج إلى وقفة، ومن الطبيعي أنَّ هناك فقهاء قد يؤمنون بعدم هذا الوجوب، أمَّا لو وجدت الدولة الإسلاميّة فلا يسمّونها دولة غير إسلاميّة ولا يسمّونها - أعوذ بالله - مثلاً دولة منافقين أو دولة كفّار إلى آخره، وإنَّما دولة إسلاميّة، نعم لم تتوافر تلك الدولة على تلك الشروط المطلقة الموجودة في دولة الإمام المهدي (عليه السلام)، لأنَّ الإنسان المطلق والكامل يحقّق ذلك الأمل في دولة صاحب الأمر (عليه السلام) فقط.

↑صفحة ٧٠↑

السؤال الثاني: سماحة السيّد الموسوي، يبشّرنا بعض المراجع بأنَّ هذا الزمان إن شاء الله زمن ظهور الإمام (عليه السلام)، فما رأيك؟ ولكوننا شباباً نتطلَّع لظهوره فما هو دورنا في هذا الأمر، وكيف يكون الاستعداد والمشاركة في دولة الإمام المهدي (عليه السلام)؟
السؤال الثالث: هل لنا دور في تعجيل أو تأخير ظهور الإمام؟ وما هي الأمور التي تساعد على ظهور الإمام؟ وما هو دور المرأة في تعجيل ظهور الإمام؟ وما هو دور الشباب في تعجيل ظهوره (عليه السلام)؟
السؤال الرابع: هل هذا الاحتلال الذي عمَّ العراق له دور في تعجيل ظهور الإمام المهدي (عليه السلام)؟ وهل تعتبر هذه الحروب العلامات في تعجيله؟ وما هو دورنا في هذا الظرف؟
الجواب: بطبيعة الحال كلّ واحد من هذه الأسئلة يحتاج إلى وقت كامل للحديث عنه، أمَّا بشكل مختصر:
نحن كمؤمنين سواء الرجال منّا أو النساء مكلَّفون - والكلّ مكلَّف - أن نسعى بالتهيّؤ لصاحب الأمر، والسعي مرَّة على نحو الفرد والشخص، ومرَّة على نحو المجتمع والشكل العامّ، وتهيئة الأمّة، وتهيئة الفرد.
والوظائف الشرعية محدَّدة، وكلّ إنسان يحدّد وظيفته الشرعية، أوّلاً ينطلق من تزكية النفس وتهذيب النفس إلى أن يملأ ذهنه وعقله بالرؤى والعقائد الصحيحة الإيمانية، خصوصاً في عصر الفتن، كما نقرأ في الروايات أنَّ عصر ما قبل الظهور

↑صفحة ٧١↑

عصر الفتن، خصوصاً الفتن العقائدية، ويفترض في كلّ واحد منّا أن يتهيَّأ للدفاع عن عقيدته والعمل بوظيفته الشرعية، إمَّا في بناء المجتمع الصالح وإمَّا في بناء الأمّة الصالحة الممهّدة لصاحب الأمر.

* * *

↑صفحة ٧٢↑

الندوة الرابعة(٣٤): الإنسان الكامل في دولة الإمام المهدي (عليه السلام)

الإنسان بين الخلقة والكمال:
عندما نتحدَّث عن الإنسان الكامل في عهد الإمام المهدي (عليه السلام) لا بدَّ أن نعطي لمحة تمهيدية لشرح هذا الاصطلاح الفلسفي، وما هو المقصود من هذا الاصطلاح، والمداليل التي تؤدّيها هذه الكلمة.
الإنسان الذي خلقه الله سبحانه وتعالى في موقع حباه ما لم يحبِ أحداً من خلقه.
نلاحظ في المفهوم الإسلامي الفلسفي للعالم أنَّ المركز في الكون هو الإنسان، وأنَّه المحور الذي يتحرَّك عليه كلّ شيء، وإليه يعود الهدف الذي خلق من أجله كلّ شيء، ولذلك عبَّر عنه القرآن الكريم بأنَّه خليفة الله، ﴿وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: ٣٠).
والإنسان الذي سمّي باسم آدم على نبيّنا محمّد وآله وعلى آدم آلاف التحيّة والسلام كان المقصود منه هو (الخليفة الإنسان)، وما يعبّر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٤) أُقيمت هذه الندوة في كلّية الطبّ في جامعة الكوفة عام (٢٠٠٥م).

↑صفحة ٧٣↑

عنه بالنوع والجنس والكلّي، والمقصود من الإنسان الكلّي هو كلّ إنسان، ونوع الإنسان، وليس المقصود الكاشف عن الأفراد الخارجية - كما يعبَّر عنه في علم المنطق الشكلي أو الأرسطي -.
فالإنسان الخليفة من حيث الفهم الفلسفي، له دوره في الحياة، فهو المركز الذي يتمحوَّر حوله كلّ شيء في الكون.
لذلك فإنَّ الله سبحانه وتعالى جعله الخليفة وجعله الواسطة بينه وبين باقي الخلائق والكائنات، فلم نجد نبيّاً غير إنسان، مع أنَّ الله سبحانه وتعالى خلق خلائق كثيرة (عالمين)، وأنَّ هذه العالمين هي التي وردت في كثير من الآيات الكريمة، والمقصود منها أي مجموعة العوالم المتنوّعة سواء العوالم الشهودية أو العوالم الغيبية باختلاف تلك العوالم الشهودية والعوالم الغيبية؛ فإنَّنا لم نجد في جميع تلك العوالم نبيّاً فيهم من غير جنس الإنسان، لأنَّ الخلافة الإلهية قد انحصرت في الإنسان ولم تعط تلك الخلافة الإلهية لأحد من خلق الله كائناً من كان حتَّى لو كان ذلك الخلق جبرئيل، وحتَّى لو كان ذلك الخلق الملائكة الكرّوبيين، فضلاً عمَّا خلق الله من الجنّ وخلق الله من النسناس - كما ذكر في الروايات -(٣٥)، وخلق من الحيوانات وخلق من الأشجار وخلق ممَّا يرى وممَّا لا يرى، فلا يوجد من جميع هذه المخلوقات نبيّ يوحى إليه، ويتَّصل بينه وبين السماء، أو بينه وبين الله تبارك وتعالى مباشرة، أو بواسطة الوحي إلاَّ الإنسان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٥) راجع: الكافي ٨ : ٢٤٤ و٢٤٥/ ح ٣٣٩.

↑صفحة ٧٤↑

ويكشف هذا الأمر عن الموقع الربّاني لهذا المخلوق في الكون، فهو المركز الذي يتمحور حوله كلّ الموجودات في هذا الوجود.
ولم يقصد من هذا المركز وهو الإنسان الأنبياء فقط أو الأئمّة (عليهم السلام)، أو الأوصياء، أو المعصومون، وأيّ معصوم من المعصومين (عليهم السلام).
ولم يكن هو المقصود الأوّل والآخر فقط، وإنَّما المقصود هو الإنسان الكامل الذي خلقه الله تكويناً.
فإنَّ الله سبحانه وتعالى خلق البشر والإنسان على نمطين، وعلى نحوين:
خلق كامل بالتكوين، وهم الأنبياء والمعصومون والأئمّة، ومع ذلك فهم في طور التكامل ويتكاملون، ولذلك فإنَّ إبراهيم النبي (عليه السلام) مرَّ بمراحل من التكامل بما تجلّى بمقامات التجلّي والظهور في هذا الوجود، ولا أُريد أن أتعرَّض لهذه النظرية بكلّ تفاصيلها، وإنَّما أُشير إليها إشارة لكي أتوصَّل لتوضيح المصطلح الذي نريد أن نتحدَّث عنه في دولة الإمام المهدي (عليه السلام).
الإنسان إذن على نوعين وقسمين: إنسان معصوم بالذات، خُلق كاملاً، ولكن هذا الكامل كامل نسبي، ولذلك نرى أنَّ بعض المعصومين بالنسبة للمعصومين الآخرين يكونون أعلى درجة أو أقلّ درجة؛ فمثلاً عندنا الأنبياء أصحاب درجات؛ والدرجات تعني أن نسبة الكمال والتكامل في ذلك الإنسان بما ظهر فيه،

↑صفحة ٧٥↑

فعندنا أنبياء أكمل من أنبياء إلى أن تصل إلى الأنبياء أولي العزم الذين هم أكمل الأنبياء ثمّ تأتي درجة أعلى من الأنبياء أولي العزم وهو خاتمية محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فدرجته في النبوّة أعلى وأكمل لأنَّ إنسانيَّته أكمل من باقي الأنبياء.
النظرية الإسلاميّة في تكامل الإنسان:
وهناك حديث طويل في هذا المضمار وهو الحديث عن كاملية الإنسان الكامل في عالم التكوين، وهذا الحديث يحتاج إلى وقت مفصَّل وطويل؛ ولكنَّنا نتحدَّث عن نمط التكوين ونمط التكامل في هذا الإنسان، وكيف، ولماذا كان هؤلاء، ولم يكن غيرهم؟ فهناك عدَّة أسئلة تطرح، ويمكن أن تطرح، وتحتاج إلى أوقات لشرح تلك الجوانب.
لكن أُريد أن أتعرَّض للنوع الثاني من الإنسان وهم باقي البشر:
فباقي البشر خلقه الله سبحانه وتعالى، وحسب النظرية الفلسفية في الحكمة المتعالية لصدر الدين الشيرازي المعروف بـ(ملاَّ صدرا) صاحب كتاب الأسفار، وهو أرقى ما وصل إليه الفكر الديني والإنساني في تفسير كثير من المسائل الوجودية فلسفياً، وتوضيح مواقعها في خارطة الوجود على أكمل وأتمّ أوجه التفسير لتلك التساؤلات.
أُريد أن أقول من هذه النظرية - ولم نجد لها معارضاً بين الفلاسفة المسلمين فضلاً عن غير المسلمين - هو أنَّ الإنسان أوّل

↑صفحة ٧٦↑

ما يخلق لم يخلق من كمال وإنَّما خلق من طين لازب - كما يقول القرآن -(٣٦)، يعني هذا الطين العادي الذي فخره الله سبحانه وتعالى بفخار القدرة.
وهذا الإنسان الطيني يخلق أوّل ما يخلق في الجوانب الأولى من ظهوره في الوجود بتعبير القرآن: ﴿مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى﴾ (القيامة: ٣٧)، ثمّ بعد ذلك يتحوَّل إلى علقة، ثمّ مضغة، مخلَّقة وغير مخلَّقة، ثمّ عظام، فيكسو العظام لحماً فيكون جنيناً في بطن الأُمّ تلجه الروح.
هذا الإنسان الطيني من حيث الكمال لم يملك كمالاً، ولكن فيه قدرة وقابلية الكمال والترقّي؛ وهذا الكمال والترقّي فيه تعاطف وتناغم بين جنبتي الطينية والروحية.
وبعد ذلك تظهر الروح وتنشأ الروح في الإنسان في بطن أُمّه كجنين، ثمّ يكون خلقاً آخر كما يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ﴾ (المؤمنون: ١٤).
هذا التناغم الطيني والروحي في بطن الأُمّ، والتناسل، والتبادل يدخل كلّ واحدٍ منهما في تركيبة الإنسان الكامل؛ أي إنَّ كون الإنسان خلق من هذه الصورة الطينية، ومن هذا الدماغ، ومن هذا القوام، ومن هذا الشكل فإنَّ له أثره في كمال الإنسان، كما أنَّ الذي له الأثر الكبير في كمال الإنسان هو الجانب الثاني وهو الجانب الروحي.
وعندما يولد الإنسان، يقول القرآن: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾ (النحل: ٧٨)، إنَّ الكمال المعرفي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٦) قال تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ﴾ (الصافّات: ١١).

↑صفحة ٧٧↑

عند الإنسان يكون من نقطة الصفر في بطن الأُمّ، فيولد الإنسان وهو خالٍ من المعرفة، خلافاً لمفاهيم ديكارت الذي يؤمن ويحاول أن يبرهن أنَّ المبادئ الفطرية الأوّلية تولد مع الإنسان.
وعلى كلّ حالٍ فإنَّ الإنسان يولد وهو لا يملك هذا الكمال، بل تبدأ معارفه الحسّية - وهي أوّل المعارف التي تتكوَّن في عقل الإنسان - تظهر من خلال تجاربه مع الواقع الخارجي، ولذلك نعتبر أنَّ المعارف الحسّية وإن لم تكن هي المعارف الكمالية للإنسان كإنسان ولكن هذه المعارف الحسّية تعبّر عن الموجود الأوّل للمعرفة، يعني أنَّها تشكّل المعرفة الإنسانية في بداياتها: من المعرفة الحسّية ثمّ تترقى إلى المعرفة العقلية.
وهذا يعني أنَّنا نختلف مع الحسّيين حينما نقول: إنَّ المعرفة الحسّية تترقّى إلى معرفة عقلية، ونختلف مع العقليين أو الفلاسفة العقليين أو الذين يعبَّر عنهم بالمثاليين، سواء في المثالية القديمة أو بالمثالية الجديدة التي بشَّر بها الفيلسوف الألماني (هيگل) أو غير ذلك الذي أنكر المعارف الحسّية بواقعيتها وفهمها كانعكاسات مثالية فوق قدرات المادّة.
وبدون لحاظ لهذه التصوّرات الحسّية أو المثالية فإنَّ عملية التكامل عند الإنسان تبدأ من خلال ظهور الإنسانية فيه حيث تؤدّي الجوارح والجسم دورها في إعطاء المجال للقوى العاقلة في الإنسان فتتكامل وتصل إلى مستويات أعلى، وتكون هذه المستويات قادرة على أن تخرق العالم الطيني، أو العالم الناسوتي - كما يقول الفلاسفة -

↑صفحة ٧٨↑

وترتقي إلى عوالم أخرى كعالم الجبروت مثلاً، فيطَّلع ويتكامل الإنسان، فيكون في أعلى علّيين وهو في الدنيا.
الغاية من خلق الإنسان:
هذا الموضوع مع أهمّيته يبحث عن الهدف الأساسي لخلقة الإنسان، والهدف هذا هو تكامله فحسب لأنَّ الله سبحانه جعل الإنسان خليفته وعندما يريد أن يكون الإنسان خليفة الله في الأرض فلا بدَّ أن يكون بهذا المستوى من الكمال الذي يستحقّ به أن يكون خليفة لله سبحانه وتعالى في الأرض وفي الوجود، ويعني هذا أن يكون عنده من قوى الإدراك والمعرفة ما يجعله مؤهّلاً ومسلّطاً على كلّ الموجودات.
إذن هذا هو المقصود من الإنسان الكامل، وهو المعبَّر عنه ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: ٥٦)، وهذه اللاَّم لام الغاية، وهنا نحتاج إلى تفصيل وبيان لما هو المقصود من ﴿لِيَعْبُدُونِ﴾، هل العبادة الحركية الظاهرية، أم هناك حركة الواقع، وهو أن يتحرَّك الإنسان بكلّه وبروحه؟
وعلى كلّ حالٍ فإنَّ هذا الهدف الذي خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان لأجله، وهو أن يعبد الله سبحانه وتعالى، كما يقول المفسّرون في تفسير الآية السابقة: «ليعرفون»(٣٧)، لأنَّ العبادة الحقيقية هي عبادة المعرفة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٧) راجع: تفسير ابن كثير ٤: ٢٥٥؛ تفسير السلمي ٢: ٢٧٨؛ تفسير أبي السعود ٢: ١٣٠.

↑صفحة ٧٩↑

وإنَّ هذه الغاية هي التي يستطيع بها الإنسان أن يتكامل ويكون بمستوى فوق الملائكة وفوق كلّ المخلوقات، بل يكون المركز الذي تتمحوَّر حوله جميع الموجودات والمخلوقات.
وإنَّ هذه الغاية، وتحقيق هذه الغاية هي غاية الأنبياء (عليهم السلام) على مرّ التأريخ، فإنَّ الله بعث الأنبياء والرسل من أجل أن يوصلوا الخليقة للكمال الذي يستطيعون به أن يعبدوا الله تبارك وتعالى حقّ عبادته ويعرفوا الله تبارك وتعالى حقّ معرفته، وهذه المهمّة هي من مهمّة الأنبياء الأساسية.
ومن المعلوم فإنَّ مهمّة الأنبياء تتوّج وتنتهي بمهمّة الوصيّ الخاتم المهدي المنتظر (عليه السلام)، ولذلك نجد في كلّ النبوّات التي سبقت نبيّنا محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والتي لحقت النبوّة من الوصايات والإمامات التي توالت بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كانت تؤكّد وتبشّر بالمهدي المنتظر (عليه السلام) الذي سوف يحقّق تلك الأمنية الإلهية.
أي إنَّ الأنبياء وكلّ نبيّ له دور يتمّم الدور الذي قبله، إلى أن جاء دور نبيّنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكان هو الدور الخاتم النهائي والذي ابتدأ في أعظم حلقة من حلقات هذا الدور بوجوده الشريف (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسوف تنتهي هذه الحلقات العظيمة بأشرف حلقة منها بظهور الإمام المهدي (عليه السلام).
مجتمع عصر المعصومين:
وبقي الإنسان الكامل على مرّ التأريخ مفردات يتحدَّث عنها التأريخ، وفي عصر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو من العصور الشريفة التي حظيت

↑صفحة ٨٠↑

بحضوره (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحضور أئمّة ثلاثة هم: الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) والإمام الحسن والحسين (عليهما السلام) إضافة إلى الصدّيقة الكبرى فاطمة (عليها السلام)، ولكنَّنا نجد البشرية لم تكن مؤهَّلة لتحظى بالكمال التامّ فتكون هذه البشرية هي الإنسان الكامل، فلم نحسّ أنَّ المجتمع المدني الذي عاصر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (وأقصد بالمجتمع المدني ما نسبته إلى المدينة المنوَّرة على ساكنها ومشرّفها أفضل الصلاة والسلام) والإنسان المدني ومع وجود النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة (عليهم السلام) لم يملك مفردات وجود الإنسان الكامل إلاَّ بأفراد معدودين.
ولذلك فإنَّنا نعدُّ من أفراد الإنسان الكامل أفراداً قلائل من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذين وصلوا إلى مرحلة عظيمة من الكمال بحيث تخدمهم الملائكة، كما في الرواية: «سبعة بهم تمطرون وبهم ترزقون»(٣٨)، يعني أنَّ الله لأجلهم ينزل المطر ولأجلهم يعطي الرزق للعباد، وذكر من جملتهم سلمان والمقداد وعمّار وأبا ذر، هؤلاء وصلوا بالكمال لهذا المستوى العظيم، ولكن مع هذا المستوى العظيم الذي وصلوا إليه من كمال لم يكونوا جميعهم بهذا المستوى، أي لم يكن جميع من حضر بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بهذه الدرجة، وهذا موجود في قوله تعالى: ﴿أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ﴾ (آل عمران: ١٤٤).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٨) عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): خلقت الأرض لسبعة بهم ترزقون، وبهم تنصرون، وبهم تمطرون، منهم: سلمان الفارسي، والمقداد، وأبو ذر، وعمّار، وحذيفة، وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: وأنا إمامهم، وهم الذين صلّوا على فاطمة صلوات الله عليها» (الاختصاص: ٥).

↑صفحة ٨١↑

يعني أنَّ هذا المجتمع مع وجود النبيّ، وأنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اشتغل لأجل نقل هذا المجتمع إلى هذا المستوى ولكن لم يكن المجتمع ليصل إلى مستوى الكمال الذي يثبته على الحقّ فلا يضرّ إنسانه موت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو بقاؤه لأنَّه كانت نسبة الإنسان الكامل فيه نسبة كلّية ونسبة ظاهرة.
مجتمع عصر الظهور:
ولكن سوف تتحقَّق هذه النسبة في مجتمع الإمام المهدي (عليه السلام)، لا لأنَّ المهدي وحده سوف يقدر على ما لم يقدر عليه باقي الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام)، وإنَّما لأنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) شاءت إرادة الله أن يكون الخاتم الذي تظهر على يده المقدَّسة نتائج جهود جميع الأنبياء في دولته، وتظهر جميع مظاهر الجهاد والجهود التي قام بها الأنبياء والأوصياء في دولته، وسبب هذا أنَّ تكامل الإنسان الكامل يحتاج إلى جهود، وتظافر جهود كبيرة لا يمكن أن تتحقَّق من حيث التكوين - ليس من حيث التشريع - إلاَّ في دولة صاحب الأمر (عليه السلام).
ولذلك سوف تكون نسبة وجود الإنسان الكامل على نحوين:
فهناك نظرية تقول بأنَّ النسبة سوف تكون تامّة، وهو المعبَّر عنه بالمجتمع المعصوم، ويمكننا أن نتحدَّث عن الإنسان الكامل الكلّي في مجتمع إنساني كلّي، وهو مجتمع المهدي (عليه السلام).
فهذه النظرية تقول: إنَّ مجتمع الإمام المهدي مجتمع معصوم.

↑صفحة ٨٢↑

ولكن هناك نظرية أخرى أيضاً تقول: إنَّ المجتمع في عصر الإمام المهدي (عليه السلام) وإن لم يكن كلّه معصوماً، ولكن بالنسبة إلى الأغلبية من المجتمع سوف تكون فيه حالة العصمة، بمعنى أنَّ أغلب المجتمع، أو أنَّ النسبة العامّة في مجتمع الإمام المهدي (عليه السلام) يكون قد تحقَّق فيهم عنصر الإنسان الكامل.
وبالطبع فهم يبقون مختلفين في درجات الكمال، فإنَّ الناس وإن وصلوا إلى مرتبة الإنسان الكامل بشكل عامّ - بحسب هذه النظرية - وليس بالمعنى الجوهري التامّ الذي ينكشف انكشافاً كلّياً على جميع الأفراد، ولكنَّه مع ذلك فإنَّ هذه النسبة سوف تكون مختلفة أي - بتعبير المناطقة الشكليين - مشكّكة، وليست متواطئة، بمعنى أنَّها ليست على مستوىً واحد، وإنَّما هي على مستويات مختلفة، بمعنى أنَّ مستويات الناس وإن وصلوا إلى مرتبة الإنسان الكامل إلاَّ أنَّها يمكن تشبيهها بتفاوت درجات الأنبياء، فعندنا (١٢٤) ألف نبيّ وكلّ نبيّ عنده وصيّ أو أكثر من وصيّ، ومع هذا فهم مختلفون في مراتب الكمال فيما بينهم فكذلك في مجتمع الإمام المهدي (عليه السلام) فإنَّه سوف يكون الإنسان الكامل مختلفاً من حيث رتبة الكمال فيما بينه وبين غيره من الأفراد.
مظاهر الكمال:
التكامل يشمل التكامل العضوي، والتكامل الروحي، فكما هناك تكامل روحي فإنَّ هناك تكاملاً عضوياً.
وهذه النظرية تحتاج إلى تفصيل، وبحث طويل حول أنَّ العلاقة

↑صفحة ٨٣↑

العضوية والروحية تكون متكافئة، أو تكون بينهما حالة تبادل في الكمال، يعني ما هو أثر الجانب الروحي على الجانب العضوي؟ وكيف يمكن للإنسان إذا ترقّى روحياً أن يؤثّر حتَّى على قوَّته - بنوع ما من التأثير - وعلى جسمه؟ وهذا الكمال الجسمي يكون بمستوى بحيث تملك قواه أيضاً نوعاً من أنواع الكمال.
وهذا الموضوع من المواضيع المهمّة حيث يطرح حالياً على عدَّة مستويات سواء على مستوى الفلسفات الشرقية، التي هي معروفة بالبوذية وغير البوذية، أو الفلسفات الجديدة في الغرب وهي الفلسفات الروحية، وهو الذي يعبَّر عنه الباراسايكولوجي ويتحدَّثون عن أثر القوى الخفيّة التي توجد في واقع الإنسان، على الجانب العضوي في الإنسان، وليس فقط السكيلوجي وإنَّما الجانب العضوي في الإنسان.
وعندما نقرأ الروايات عن إنسان دولة صاحب الأمر (عليه السلام) فإنَّنا نجد إنساناً يملك من القوى العضوية ما لا يملكه إنسان آخر، أعطيك مثالاً: العاهات والأمراض والعلل التي تصيب الإنسان، فعندنا في رواياتنا عن أهل البيت (عليهم السلام)، وهذه الروايات موجودة أيضاً في كتب إخواننا السُنّة كما هي موجودة في كتب الشيعة، فلم نختصّ نحن بروايتها، وإنَّما هي موجودة في كتب جميع المسلمين، وتقول هذه الروايات: إنَّ الإنسان - إنسان دولة الإمام المهدي (عليه السلام) - يبرأ من العاهة، ويبرأ من الضعف البدني، ويبرأ هذا الإنسان من الأمراض والعلل.

↑صفحة ٨٤↑

فكيف يمكن لهذا الإنسان أن يبرأ من هذه العاهات، وهذه النواقص البدنية في جسمه؟! توجد له عدَّة تفاسير.
ربَّما يفسّره البعض على أساس غيبي، فيقول: إنَّ هناك أمراً إعجازياً أو أمراً ربّانياً، شاء الله تبارك وتعالى - المشيئة وهي الإرادة التكوينية فيه - أن يكون هذا الإنسان المعاصر للمهدي (عليه السلام) بهذا المستوى من القدرة والقوَّة البدنية، هذا هو التفسير الأوّل.
لكن هذا التفسير لا نهضمه، لسبب هو أنَّ الله تعالى أجرى قانون الطبيعة في حياة الإنسان في زمان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقبله وبعده، ولم تذكر الروايات أنَّ هذه الحالات التي سوف يتوصَّل إليها الإنسان في دولة الإمام بسبب أمر غيبـي.
مثلاً: من جملة تلك الروايات ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): «من أدرك قائم أهل بيتي من ذي عاهة برأ، ومن ذي ضعف قوي»(٣٩)، فإنَّك تلاحظ الرواية تتحدَّث عن أنَّ من به عاهة جسمية قبل دولة صاحب الأمر فإنَّها في دولة صاحب الأمر تبرأ بشكل غير إعجازي، وبشكل تكويني، وبشكل طبيعي، وبشكل تجريبي داخل تحت التجربة وداخل ضمن قوانين الطبيعة، وكذلك في الضعف. وهذه هي رواية واحدة من تلك الروايات.
والرواية الأخرى عن الإمام الباقر (عليه السلام)، عن أبيه علي بن الحسين (عليه السلام) أنَّه قال: «إذا قام القائم أذهب الله عن كلّ مؤمن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٩) الخرائج والجرائح ٢: ٨٣٩/ ح ٥٤.

↑صفحة ٨٥↑

العاهة، وردَّ إليه قوَّته»(٤٠)، وهذه القوَّة هي نفس القوَّة التي ذكرت في الرواية السابقة.
وتلاحظ في هذه الروايات زوال الضعف وزوال العاهات، والبرء من العلل، والبرء من الأمراض.
وقد يقال بالوضع التجريبي: إنَّ المجتمع المهدوي يصل بالتطوّر العلمي في شتّى الوسائل، أو في شتّى مجالات العلوم إلى مستوىً كبير من التطوّر والتقدّم التكنولوجي وغير التكنولوجي بحيث تزول تلك العلل.
ولتوضيح هذه الفكرة نقول: لو أنَّ مجتمعنا يعيش في هذا القرن بدايات القرن الواحد والعشرين لو قسناه إلى مجتمع قبل سبعة قرون فسوف نلاحظ نسبة العاهات، ونسبة الأمراض، ونسبة العلل، والظواهر اللاصحّية التي كانت موجودة في تلك المجتمعات بنسبة كبيرة جدّاً وظاهرة للعيان، ولذلك كانت تنتشر الأوبئة بشكل سريع وكان الناس في كلّ سنة يتخوَّفون في مواسم معيَّنة - خصوصاً مواسم الحرّ - من ظهور الأوبئة، والأمراض مثل الكوليرا أو ما إلى ذلك، أمَّا الآن فبالتطوّر العلمي خفَّت هذه الظواهر اللاصحّية بسبب التقدّم، وإن كان الإنسان قد توصَّل لاكتشاف خريطة الجسم - فرضاً - التي يكتشف منها الأمراض المستقبلية في الإنسان، أو اكتشف أكثر هذه الخريطة للجسم لاستطاع أن يكتشف تلك الأمراض والأوبئة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٠) الغيبة للنعماني: ٣٣٢/ باب ٢١/ ح ٢.

↑صفحة ٨٦↑

وهكذا في زمان الإمام فسوف يتطوَّر الإنسان وتظهر كفاءاته، كما يوجد في إحدى الروايات أنَّ الإمام المهدي إذا جاء نشر العلم(٤١)، وكلّ علم ولا يختصّ فقط في علم الدين، وإنَّما كلّ العلوم سوف تنتشر وتكون في أعلى مستوى في دولة صاحب الأمر (عليه السلام)، ولذلك فسوف تزول هذه الأوبئة بشكل طبيعي وبدون حاجة إلى الإعجاز.
وهذا الرأي والتفسير تؤيّده مجموعة من الروايات:
ومن جملة تلك الروايات التي تحدَّثت عن قوى الإنسان الكامل في دولة صاحب الأمر (عليه السلام) ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في صفة أصحاب القائم، ويقصد بأصحاب القائم المجتمع الكامل الذي يحقّقه الإمام المهدي (عليه السلام)، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «... وإنَّ الرجل منهم ليعطى قوَّة أربعين رجلاً، وإنَّ قلبه لأشد من زبر الحديد، ولو مرّوا بجبال الحديد لقلعوها»(٤٢).
فهذه القوَّة التي تعطى للجسم، قد لا نملك من وسائل تجريبية ما نستطيع بها أن نوفّر هذا المستوى من الطموح في رقيّ الإنسان وتكامل الإنسان، ولكن لو نلاحظ حقيقة أنَّ الإنسان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤١) عن أبان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «العلم سبعة وعشرون جزءاً فجميع ما جاءت به الرسل جزءان، فلم يعرف الناس حتَّى اليوم غير الجزءين، فإذا قام القائم أخرج الخمسة والعشرين جزءاً فبثَّها في الناس، وضمَّ إليها الجزءين، حتَّى يبثّها سبعة وعشرين جزءاً» (الخرائج والجرائح ٢: ٨٤١/ ح ٥٩).
(٤٢) كمال الدين: ٦٧٣/ باب ٥٨/ ح ٢٦.

↑صفحة ٨٧↑

يمكنه أن يقوي قدراته عندما يتعرَّف ويجد الأسباب في قوَّته الجسمية ويجد الأسباب في ضمور عضلاته، فإذا افترضنا أنَّ المقصود من هذه القوَّة هو فقط القوَّة الجسمية، علماً أنَّه يوجد احتمال آخر، هو أن تكون له وسائل قدرة أخرى - فرضاً - بل أكثر وأرقى وأقوى من هذه القوى بالنسبة للإنسان.
إنَّ هذه الروايات التي تحدَّثت عن هذا الإنسان في زمان الإمام المهدي (عليه السلام) والذي سوف يتغيَّر روحياً وسوف يتغيَّر جسمياً، وهذا التغيّر الروحي والتغيّر الجسمي نحو الكمال، وهو الكمال المنشود الذي ينسجم مع طموح الشريعة وطموح الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) في تكميل الإنسان في أرقى المستويات.
وفي الموضوع تفاصيل كثيرة والوقت أدركنا، نكتفي بهذا المقدار.

* * *

↑صفحة ٨٨↑

الأسئلة والأجوبة:

السؤال الأوّل: ما قول سماحتكم في بعض الدراسات القائلة في المهدي بأنَّه ليس بشراً منّا أهل البيت، وإنَّما هو ممكن أن يكون تغييراً جذرياً في فكر الناس، أو هو دولة قويّة تقدّم الإسلام بفكره الصحيح وبأسلوبه المستقيم ويتمحور الناس حولها ويقبلونها؟
الجواب: الواقع إذا تناولنا الموضوع بلحاظ ديني، فإنَّ الروايات المتواترة عند السُنّة والشيعة بالإجماع - لم يشذّ عنهم شاذّ - قد نصّوا على هذا الرجل الذي اسمه المهدي (عليه السلام) أو صفته المهدي وصفته القائم، وعندنا نحن باسمه الشريف ابن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وعندنا صفاته الجسمية موجودة في الروايات، وعندنا أنَّه ولد في (١٥/ شعبان) وقد روت السيّدة حكيمة يوم ولادته وكيف ولد(٤٣)، وعندنا أنَّ هذا الإمام هو الذي سوف يملؤ الأرض قسطاً وعدلاً.
هذا كلّه موجود بمئات بل بآلاف الروايات، فمثلاً أحد الكتب التي جمعت قسماً من هذه الروايات اسمه (العبقري الحسان) باللغة الفارسية وقد طبع على الحجر، ولو يطبع على الطبعة الحديثة فسوف لن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٣) راجع: كمال الدين: ٤٢٤ - ٤٢٦/ باب ٤٢/ ح ١.

↑صفحة ٨٩↑

يكون أقلّ من عشرين مجلَّداً، قد جمع مؤلّفه بعض تلك الروايات التي تحدَّثت عن الإمام المهدي، كما لدينا موسوعات تحدَّثت عن الإمام المهدي (عليه السلام) وجمعت الروايات حوله ومن أفضل هذه الموسوعات موسوعة الإمام المهدي (عليه السلام) لآية الله العظمى الشهيد المظلوم السيّد محمّد الصدر (قدّس سرّه).
فالرؤية الدينية الإسلاميّة للإمام المهدي (عليه السلام) محصورة به.
السؤال الثاني: لو افترضنا - كما قلتم - أنَّ المجتمع الإنساني في وقت الظهور قد وصل إلى أعلى درجة في التكامل الإنساني، فهناك إشكال، وهو الحديث المشهور الذي يقول أنَّه: «سيملؤ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً» فحيث هناك تناقض - ظاهراً - بين الحديث والمطلوب، نرجو توضيح ذلك ورفع هذا التناقض جزاكم الله خير الجزاء؟
الجواب: طبعاً عندما نتحدَّث عن المجتمع قبل الظهور فهو غير المجتمع الذي سوف يكون في ما بعد الظهور.
أمَّا كيفية امتلاء الأرض بالظلم والجور؟ فتفسير هذا الامتلاء فيه آراء كثيرة، لكن أهمّ تلك التفسيرات هو أنَّ هذا الامتلاء قبل ظهور صاحب الأمر (عليه السلام) ما يكون المقصود منه الامتلاء على مرّ التأريخ، بحيث لم تبقَ منطقة لم يشملها الظلم والجور، وهو المعبَّر عنه في الروايات التي تفسّرها طبعاً الروايات الأخرى، فإنَّ الروايات تفسّر بعضها بعضاً، كما يفسّر القرآن بالقرآن وبالرواية؛ فنفسّر الرواية بالرواية وبالقرآن.

↑صفحة ٩٠↑

وهذا التفسير اعتمد على جملة من الروايات، والموضوع يحتاج إلى تفصيل لست الآن بصدد بيانه وإنَّما أُشير إليه إشارة لأُجيب على هذا السؤال، وهذه الرواية عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «ما يكون هذا الأمر حتَّى لا يبقى صنف من الناس إلاَّ وقد ولّوا على الناس حتَّى لا يقول قائل: إنّا لو ولّينا لعدلنا، ثمّ يقوم القائم بالحقّ والعدل»(٤٤).
هذا المقصود من «لو حكمنا لعدلنا» معناه أنَّ الكلّ سوف يحكم، وأنَّ الكل تظهر منه مظاهر الجور والظلم بما يمتلئ به الوضع الأرضي، ممَّا يمكنه أن يمتلئ.
وأمَّا امتلاء الأرض قسطاً وعدلاً بعد الظهور، فيعني أنَّ البشرية تكون متكاملة.
أمَّا كيف يكون وكيف يتحقَّق التكامل، فهذا يحتاج إلى حديث مفصَّل، باعتبار أنَّ التكامل الذي يظهر في دولة صاحب الأمر ويملؤ الأرض يطرح علينا سؤالاً هو: الأشرار أين يذهبون والظلاَّم أين يذهبون؟ وهذا ما يجاب عنه أنَّ في دولة صاحب الأمر (عليه السلام) يحكم بحكم داود (عليه السلام)، وهل يوجد في حكمه إلاَّ السيف؟!
وهنا ينشقّ موضوع السيف والقوَّة والحديد والحوار، وهذا يحتاج إلى مجال للحديث وتفصيل عن متى يستعمل السيف؟ ومتى يستعمل الحوار؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٤) الغيبة للنعماني: ٢٨٢/ باب ١٤/ ح ٥٣.

↑صفحة ٩١↑

وهذا الموضوع له من الأهمّية الكبيرة ما نحتاج إلى البحث عنه، ولكن المقصود منه هنا هو التأكيد على أنَّه بعدما تتوفَّر في حكمه كلّ الظروف لتطهير الإنسان وتطهير الأرض فسوف يتطهَّر الإنسان، وحينئذٍ يمكن للإنسان أن يصل إلى مراتب الكمال.
يوجد هنا موضوع آخر وهو قد يعبَّر عنه بالتأثيرات الاجتماعية على سلوك الفرد وسلوك المجتمع، والمعبَّر عنه في علم الاجتماع بالعقل الجمعي وتأثيره على العقل المفرد أو السلوك الفردي بالنسبة للإنسان والسلوك الجماعي للأمّة كمجتمع، سوف يتخلَّص الفرد من العقل الجمعي الشرّير والجائر والظالم في دولة صاحب الأمر (عليه السلام)، فلذلك يتوفَّر للإنسان العقل الكامل والعقل المرشد.
السؤال الثالث: إذا كان الإنسان في عصر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة (عليهم السلام) لم يصل مائة بالمائة إلى الإنسان الكامل، فما هي يا ترى نسبة الإنسان الكامل في عصرنا هذا الذي نعيشه؟
سؤال آخر حول نفس المحور تقريباً: في الأوّل والآخر الله وحده العالم ولكن حسب علمكم ما مدى نضج المجتمع الإنساني في الوقت الحاضر ليكون بمستوى مجتمع عصر ظهور الإمام المهدي (عليه السلام)؟
الجواب: قلنا بالنسبة إلى ظهور الكمالات: إنَّ شغل الأنبياء وشغل الأئمّة (عليهم السلام) ليس على الكمّ، فالمهمّة الأساسية التي كانت على النبيّ وعلى الأنبياء الذين سبقوه والأئمّة (عليهم السلام) لم يكن الأصل فيها العدد الكمّي وأنَّهم كانوا يسعون أن يربّوا أكثر ما يمكنهم ويستطيعوا تربيتهم من الإنسان الكامل، وإنَّما كان

↑صفحة ٩٢↑

اهتمامهم متمركزاً في الجانب الرتبي من الإنسان، يعني إظهار أعلى مراتب الإنسان الكامل وإن كان أقلّ عدداً.
أمَّا في عصر اكتمال الشريعة، وعندما تكتمل الشريعة، وعندما يتحقَّق المصداق الأكمل للآية الكريمة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً﴾ (المائدة: ٣)، الذي هو في عصر الإمام المهدي (عليه السلام) حيث يظهر الكمال بأجلى مظاهره في تمام الشريعة، وهذا يوفّر الفرصة لظهور الإنسان الكامل، وتلاحظون أنَّ هذا شرط أساسي للإنسان، فلذلك لم تكن مهمّة الأنبياء هي المساحة الكمية، وإنَّما كانت المهمّة هي المساحة النوعية، عندما تتكامل المساحة النوعية في آخر المجتمعات الإنسانية فإنَّه سوف تظهر في ذلك المساحة الثانية وهي المساحة الكمّية.
أمَّا مجتمعنا أو باقي المجتمعات والقياس عليها - كما سألتم - فهذا حديث يحتاج أن نتحدَّث عن مجتمعنا والقوانين الاجتماعية الحاكمة في المجتمع الإنساني بشكل عامّ والإسلامي الذي نطمح إليه، وهذا يحتاج إلى بحث خاصّ.
أمَّا إلى أين وصلنا، نرجو من الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المجتمعات التي تحظى بنظرة صاحب الأمر (عليه السلام)، ويرحمنا ويرفعنا من مستوانا إلى أعلى مستوى، ويجعلنا ممَّن يوفَّق لرؤيته وخدمته والظهور في دولته (عليه السلام).

* * *

↑صفحة ٩٣↑

مصادر التحقيق

القرآن الكريم.
الاختصاص: الشيخ المفيد/ ط ٢/ ١٤١٤هـ/ دار المفيد/ بيروت.
الإرشاد: الشيخ المفيد/ ط ٢/ ١٤١٤هـ/ دار المفيد/ بيروت.
الأمالي: الشيخ الصدوق/ ط١/ ١٤١٧هـ/ مؤسسة البعثة.
الإمامة والتبصرة: ابن بابويه/ ط١/ ١٤٠٤هـ/ مدرسة الإمام الهادي/ قم.
بحار الأنوار: المجلسي/ ط٢ المصحَّحة/ ١٤٠٣هـ/ مؤسسة الوفاء/ بيروت.
تفسير ابن كثير: ابن كثير/ ١٤١٢هـ/ دار المعرفة/ بيروت.
تفسير أبي السعود: أبي السعود/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
تفسير السلمي: السلمي/ ط١/ ١٤٢١/ دار الكتب العلمية/ بيروت.
تفسير العياشي: العياشي/ المكتبة العلمية الإسلاميّة/ طهران.
تفسير القرطبي: القرطبي/ ت البردوني/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
تفسير القمي: علي بن إبراهيم/ ط ٣/ ١٤٠٤هـ/ مؤسسة دار الكتاب/ قم.
الخرائج والجرائح: الراوندي/ ط١/ ١٤٠٩هـ/ مؤسسة الإمام المهدي/ قم.
دلائل الإمامة: الطبري (الشيعي)/ ط١/ ١٤١٣هـ/ مؤسسة البعثة/ قم.
سنن أبي داود: السجستاني/ ط١/ ١٤١٠هـ/ دار الفكر/ بيروت.
صحيح ابن حبان: ابن حبان/ ط٢/ ١٤١٤هـ/ مؤسسة الرسالة.

↑صفحة ٩٤↑

الغيبة: الطوسي/ ط١/ ١٤١١هـ/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ قم.
الغيبة: النعماني/ ط١/ ١٤٢٢هـ/ مط مهر/ أنوار الهدى.
الكافي: الكليني/ ط٥/ ١٣٦٣ش/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.
كشف الغمّة: ابن أبي الفتح الأربلي/ ط٢/ ١٤٠٥هـ/ دار الأضواء/ بيروت.
كمال الدين: الشيخ الصدوق/ ١٤٠٥هـ/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
المستدرك: الحاكم النيسابوري/ إشراف يوسف عبد الرحمن المرعشلي.
المعجم الأوسط: الطبراني/ ١٤١٥هـ/ دار الحرمين.
الملاحم والفتن: ابن طاووس/ ط١/ ١٤١٦هـ/ مؤسسة صاحب الأمر.
الملل والنحل: الشهرستاني/ دار المعرفة/ بيروت.
ينابيع المودّة: القندوزي/ ط١/ ١٤١٦هـ/ دار الأسوة.

* * *

↑صفحة ٩٥↑

التحميلات التحميلات:
التقييم التقييم:
  ٢ / ٥.٠
 التعليقات
لا توجد تعليقات.

الإسم: *
الدولة:
البريد الإلكتروني:
النص: *

 

Specialized Studies Foundation of Imam Al-Mahdi (A-S) © 2016