الإجابة: بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الكلام فضلاً عن كونه مجرد ادعاء بلا دليل علمي، فهو أشبه بمن يريد أن يستدل على عدم نبوة نوح (عليه السلام) في زمان بعثته من خلال موقف ولده الذي لم يؤمن بنبوة أبيه ولا بما أخبر به من عذاب الطوفان الذي سيأتي على كفار قومه، ومن الطبيعي بعد ذلك أن الشيعة تكذّب هذا الرجل ومن هو على شاكلته بعد أن ثبت لهم بالتواتر واليقين حقيقة ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) سواء فيما وصل للشيعة من الأئمة السابقين أو اللاحقين (عليهم السلام) جميعاً، وهل هناك عاقل يرتضي أن يكذّب عشرات الأحاديث الواردة عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) لأجل رجل ثبت كذبه وانحرافه، ولا أدل على ذلك من ادعائه الإمامة ولجوئه للسلطة الحاكمة ليشرعنوا له امامته المدعاة بعد أن كان معروفاً عند الشيعة بالانحراف، ولذلك سخر منه الوزير ابن خاقان في طلبه هذا بقوله: وقال له: يا أحمق السلطان جرد سيفه في الذين زعموا أن أباك وأخاك أئمة ليردهم عن ذلك، فلم يتهيأ له ذلك، فإن كنت عند شيعة أبيك أو أخيك إماماً فلا حاجة بك إلى السلطان أن يرتبك مراتبهما ولا غير السلطان وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا. [الكافي للشيخ الكليني: ج١، ص٥٠٦]، بل ادعى تركة الأموال والميراث التي خلفها الإمام العسكري (عليه السلام) بلا وجه حق، قال الشيخ المفيد (رحمه الله) في الارشاد: وتولى جعفر بن علي أخو أبي محمد (عليه السلام) أخذ تركته، وسعى في حبس جواري أبي محمد (عليه السلام) واعتقال حلائله، وشنع على أصحابه بانتظارهم ولده وقطعهم بوجوده والقول بإمامته، وأغرى بالقوم حتى أخافهم وشردهم، وجرى على مخلفي أبي محمد (عليه السلام) بسبب ذلك كل عظيمة، من اعتقال وحبس وتهديد وتصغير واستخفاف وذل، ولم يظفر السلطان منهم بطائل.
وحاز جعفر ظاهر تركة أبي محمد (عليه السلام) واجتهد في القيام عند الشيعة مقامه، فلم يقبل أحد منهم ذلك ولا اعتقده فيه، فصار إلى سلطان الوقت يلتمس مرتبة أخيه، وبذل مالاً جليلاً، وتقرب بكل ما ظن أنه يتقرب به فلم ينتفع بشيء من ذلك، ولجعفر أخبار كثيرة في هذا المعنى، رأيت الإعراض عن ذكرها لأسباب لا يحتمل الكتاب شرحها، وهي مشهورة عند الامامية ومن عرف أخبار الناس من العامة، وبالله استعين. [الارشاد للشيخ المفيد: ج٢، ص٣٣٦]
وعلى هذا الأساس فتكذيب الشيعة لجعفر الكذاب لأمرين:
الأول منهما لشهرة انحرافه وكذبه عند الشيعة بسبب مواقفه والحال الذي كان عليه يُضاف إلى ما ورد فيه من الادانة في روايات أهل البيت (عليهم السلام)، فقد سأل ابو خالد الكابلي الإمام زين العابدين (عليه السلام) عن سبب لقب الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) بالصادق دون بقية الأئمة (عليهم السلام) قائلاً: فقلت له: يا سيدي فكيف صار اسمه الصادق وكلكم صادقون، قال: حدثني أبي، عن أبيه (عليهما السلام) أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: إذا ولد ابني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) فسموه الصادق، فإن للخامس من ولده ولداً اسمه جعفر يدعي الإمامة اجتراء على الله وكذباً عليه فهو عند الله جعفر الكذاب المفتري على الله (عزَّ وجل)، والمدعي لما ليس له بأهل، المخالف على أبيه والحاسد لأخيه. [كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص٣١٩]، بل ورد عن الإمام الهادي (عليه السلام) تشبيهه بأبن نوح المتمرد على أبيه فقد جاء عنه (عليه السلام): تجنبوا ابني جعفراً فإنه مني بمنزلة نمرود من نوح، الذي قال الله (عزَّ وجل) فيه فقال: ﴿رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي﴾ فقال الله: ﴿يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾. [مدينة المعاجز للسيد هاشم البحراني: ج٨، ص١٣٤]، وهكذا كان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) يوصي أصحابه بعدم تواصلهم معه وكشف أسرارهم، ومنها بطبيعة الحال ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، فقد جاء عنه (عليه السلام): الله الله أن يظهر لكم أخي جعفر على سر، ما مثلي ومثله إلا مثل هابيل وقابيل ابني آدم، حيث حسد قابيل هابيل على ما أعطاه الله لهابيل من فضله فقتله، ولو تهيا لجعفر قتلي لفعل، ولكن الله غالب على أمره. [مدينة المعاجز للسيد هاشم البحراني: ج٨، ص١٣٤]
والأمر الثاني: إن تكذيبه كان أمراً لازماً يفرضه اليقين والايمان بما تواتر عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) في ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، فقد روى الصدوق بسند صحيح قال: حدثنا: محمد بن الحسن قال: حدثنا: عبد الله بن جعفر الحميري، قال: قلت لعثمان بن سعيد العمري: إني أسألك سؤال إبراهيم ربه (جل جلاله)، قال له: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾، فأخبرني عن صاحب هذا الأمر هل رأيته، قال: نعم وله رقبة مثل ذي، أشار بيده إلى عنقه. [كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص٤٣٥]، وروى كذلك بسند معتبر قال: حدثنا: محمد بن الحسن قال: حدثنا: سعد بن عبد الله، قال: حدثنا: أبو جعفر محمد بن أحمد العلوي، عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: سمعت أبا الحسن صاحب العسكر (عليه السلام) يقول: الخلف من بعدي ابني الحسن، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف، فقلت: ولم جعلني الله فداك، فقال: لأنكم لا ترون شخصه، ولا يحل لكم ذكره باسمه، قلت: فكيف نذكره، قال: قولوا: الحجة من آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم). [كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص٣٨١]، وروى الكليني بحديث صحيح آخر: عن محمد بن يحيى العطار، عن أحمد بن اسحاق، عن أبي هاشم الجعفري، قال: قلت لأبي محمد (عليه السلام): جلالتك تمنعني من مسألتك فتأذن لي أن أسألك، فقال: سل، قلت: يا سيدي هل لك ولد، فقال: نعم، فقلت: فإن حدث بك حدث فأين أسأل عنه، قال: بالمدينة. [الكافي للشيخ الكليني: ج١، ص٣٢٨]، وغيرها من الأحاديث التي لو أردنا استقصاءها لطال فيها الكلام، ومع ذلك نحن لا ندعي أن جميع الناس في زمن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أتيح لهم رؤية الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) أو الاطلاع على سر وجوده للظروف الأمنية القاهرة التي كانت تفرض لوناً من السرية القصوى والاقتصار على الثقات المأمونين فقط ومن خلالهم يتم إرشاد الشيعة وبيان الحقيقة، بل كانت روايات الأئمة المتقدمين (عليهم السلام) كافية في اثبات ولادته (عجّل الله فرجه) وما يأتي بعد ذلك من غيبته.
ومن هنا نجد ابن قبة الرازي العالم المعتزلي الذي عاصر أحداث الغيبة الصغرى والذي قضى شطراً من حياته يناظر ويجادل المتكلمين ثم استبصر وتشيع فيما بعد، يذكر في كتابه (نقض الاشهاد) الذي نقل أكثره الشيخ الصدوق (رحمه الله) [كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص١٣٧ و١٤٣]، يشير لهذا المعنى عند رده على بعض المخالفين ممن أنكر ولادة الإمام (عجّل الله فرجه) وخفاء ولادته: وأما قوله: إنهم ادعوا للحسن ولداً. فالقوم لم يدعوا ذلك إلا بعد أن نقل إليهم أسلافهم حاله وغيبته وصورة أمره واختلاف الناس فيه عند حدوث ما يحدث، وهذه كتبهم فمن شاء أن ينظر فيها فلينظر، ثم ما زالت الأخبار ترد بنص واحد على آخر حتى بلغ الحسن بن علي (عليهما السلام) فلما مات ولم يظهر النص والخلف بعده رجعنا إلى الكتب التي كان أسلافنا رووها قبل الغيبة فوجدنا فيها ما يدل على أمر الخلف من بعد الحسن (عليه السلام) وأنه يغيب عن الناس ويخفى شخصه، وأن الشيعة تختلف وأن الناس يقعون في حيرة من أمره، فعلمنا أن أسلافنا لم يعلموا الغيب وأن الأئمة أعلموهم ذلك بخبر الرسول، فصح عندنا من هذا الوجه بهذه الدلالة كونه ووجوده وغيبته.
ولا يخفى أن عبارة ابن قبة تمثل وثيقة تاريخية مهمة صريحة في كون الكتب الحديثية التي توارثها الشيعة عن أسلافهم السابقين على وفاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قد ذكرت تفاصيل حال الإمام (عجّل الله فرجه) وغيبته قبل ولادته بسنين متطاولة وتنبأت أيضاً بالاختلاف الذي سيقع فيه البعض، أما للتعتيم والاخفاء الذي صاحب ولادته (عجّل الله فرجه) بسبب أجواء التقية والخوف عليه أو لأهداف أخرى متفرعة عن الجهل أو الأغراض السيئة، وهو الأمر الذي نجده مدوناً في رواياتهم (عليهم السلام) والتي سجلتها كتب الحديث التي اعتنت بالعقيدة المهدوية والغيبة.
ودمتم برعاية المولى صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه)