السير على الأقدام.. مسيرة الولاء والتحدي
محمّد علي جواد تقي
إقترنت ذكرى أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) مع توجه الآلاف نحو مدينة كربلاء المقدسة سيراً على الأقدام لزيارته في يوم الأربعين المصادف العشرين من شهر صفر، وبات من الصعب تصوّر هذه الذكرى وإحياؤها دون مشاهدة الحشود المليونية القادمة من كل أنحاء العراق، حيث نرى -ويرى العالم- الكبار والصغار والنساء وحتى الشيوخ وكل شرائح المجتمع وهم يتخلون عن مركباتهم ملتهمين الطريق؛ يقطعون المسافات البعيدة عبر السهول والحقول وحتى الصحارى ليصلوا إلى كربلاء ويحضروا مشهد الإمام (عليه السلام) وهم حفاة الأقدام، محمولين على الإصرار والعزيمة والتحدي.
فمن أين جاءت هذه الوسائل الثلاث وغيرها لتحمل الزائرين وتحمّلهم أيضاً كل هذا العناء والجهد الكبيرين؟ ولماذا يفضلها الزائرون على بقية وسائل النقل ـ المتاحة والحديثة ـ للوصول أسرع وأداء هذه الشعيرة الحسينية الخالدة..؟
بداية نشير إلى أن ثمة إصراراً شديداً شهد له التاريخ على إقتباس مشاهد الظلم والتنكيل التي مارسها الحكم الأموي ضد الإمام الحسين وأهل بيته، وتطبيقها على شكل أعمال وممارسات ضمن طقوس حزينة لمواساة أهل البيت (عليهم السلام) فيما تحملوه من انتهاك للحرمات والأذى الجسدي، ابتداءً من الضربات المتتالية بالسيف على جسد الإمام الحسين (عليه السلام) ورأسه ثم سوق الخيل لتطأ صدر الإمام وجسده الشريف، ومروراً بحرق الخيام وترويع النساء والأطفال والسبي الذي تخلله الضرب بالسياط على اكتاف الإمام زين العابدين (عليه السلام) وعمته العقيلة زينب (عليها السلام) وجميع المقيدين بالسلاسل والأصفاد، فظهر التطبير وضرب الرؤوس بالسيوف، وظهر اللطم على الصدور، ولا ننسى اللطم على الوجوه عند النساء مواساة مع نساء الحسين (عليه السلام) اللاتي لطمن وجوههن ـ كما تقول الروايات ـ وهنّ أمام أجساد قتلاهن على رمال كربلاء، كما ظهر ضرب الظهور بالسلاسل الحديدية، هذا فضلاًعن مشاهد حرق الخيام وتشييد مواكب السبي ضمن أعمال فنية ـ تمثيلية؛ بل حتى تمثيل واقعة الطفّ بأكملها في بعض المناطق.. أما خاتمة المطاف فكانت في زيارة كربلاء بعد مرور أربعين يوماً على استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه؛ وتقول معظم الروايات إن قافلة السبايا المنطلقة من الشام إلى المدينة، توجهت إلى كربلاء بطلب من الإمام السجاد وعمته زينب (عليهما السلام) لإحياء الذكرى المؤلمة.
هذه الزيارة اكتسبت أهمية كبيرة ليس فقط في الثقافة الحسينية مثل سقي الماء والإتشاح بالسواد وغيرها، وإنما في البناء العقائدي للإنسان المسلم والمؤمن حيث عدّها الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) من علامات المؤمن الخمس وهي: صلاة أحدى وخمسين ـ الفرائض مع النوافل ـ، وزيارة الأربعين والتختّم باليمين وتعفير الجبين والجهر بسم الله الرحمن الرحيم..
وإنطلاقاً من هذا الشعور الجماعي إزاء الإيمان بالله تعالى والولاء لأهل البيت (عليهم السلام) يندفع الآلاف وربما الملايين في مسيرات حاشدة لأداء شعيرة السير على الأقدام لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) يوم الأربعين ـ العشرون من صفر ـ، وعند هذه النقطة بالذات تصطدم هذه الشعيرة قبل غيرها بالأنظمة السياسية الحاكمة على مرّ الزمان، فالمواكب المتسلسلة من مناطق مختلفة وهي تضمّ الحشود الجماهيرية، تعد لدى الحكّام بمنزلة تظاهرة عارمة بإمكانها إزاحة أكبر ستار على أصغر ثغرة ومثلبة في نظام الحكم القائم؛ هذا أولاً، أما الأمر الثاني والأكثر خطورة هي مسألة الولاء التي تبقى دائماً وأبداً ضالة الحكام المتسلقين جدار الحكم على حين غفلة من الناس؛ إذاً، فالحشود متزايدة ومتعاظمة، وهي معبأة بمشاعر الأسى على ما حصل على أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أما الولاء والطاعة والذوبان، فهي في نقطة واحدة ومركزية هي: الإمام الحسين (عليه السلام) فماذا، يبقى بعدئذ للأنظمة الحاكمة؟!
إن الذي حصل في العراق خلال العقود الماضية أو أكثر لم يكن سوى حلقة ضمن سلسلة تاريخية في مسيرة الشعائر الحسينية؛ هذه الشعائر التي حملت قضية كربلاء الدامية هي الأخرى خضّبت بالدماء بسبب ذلك الاصطدام المتوقع مع أنظمة الحكم وكانت الريادة في ذلك للحاكم العباس (المتوكل بالله) الذي ثبّت اسمه في التاريخ ليكون أول من جابه زائري الإمام الحسين (عليه السلام) بالقهر والحديد، بل حتى إلى حرث الأرض ودرس القبر الشريف ليصعب على الزائرين اكتشافه فيعودوا ولا يكررها غيرهم وتنتهي القضية ـ حسب تصوره ـ ومع إن نظام حزب البعث في العراق حاول عدم تكرار ممارسات العباسيين لاستيعاب الحالة الاجتماعية وتهدئة النفوس والخواطر بالنفاق تارة والازدواجية تارة أخرى، إلا إن مفاهيم النهضة الحسينية ظلت عصية على هذا الحزب لأن جذورها مشتبكة مع الولاء المتصل بالإيمان بالله تعالى وبكتابه ونبيه..
وعليه فإن حزب البعث ليس فقط فشل في تحجيم هذه الشعيرة الحسينية وإنما كان سبباًَ غير مباشر في مضاعفة الإصرار على أدائها كل عام، وانسحبت هذه الحالة وهذا المآل على بقية الشعائر الحسينية، فتحولت مواكب التطبير أو السير على الأقدام ـ مثلاً لا حصرا ـ راية للتحدي والمطالبة بالتغيير على غرار ما حصل بين معسكر الإمام الحسين (عليه السلام) ومعسكر الأمويين.
والخطأ القاتل الذي سقط فيه النظام البائد هو تسيير لغة الخطاب مع المشاعر الجماهيرية الجيّاشة ووصف المنطلقات بأنها سياسية وتحوّلت التسمية فيما بعد إلى (تحريض طائفي) لربط القضية الآنية بحوادث تاريخية لا علاقة موضوعية للناس بها وذلك لإيجاد التبريرات لمنعها بل وتحشيد بعض الآراء في المجتمع ضدها، في حين إن الدماء التي سالت منذ عهد المتوكل العباسي وحتى يومنا هذا وإلى أمد غير معلوم، لم تكن بهدف الاقتصاص من شخص أو جماعة أو تدارك لعقد نفسية أو تحقيق لمكاسب معينة، وإنما كانت لتعزيز الحب والولاء للحسين (عليه السلام) وحسب..
ذلك الخطأ كررته في العراق أنظمة سياسية بعد سقوط نظام حزب البعث في العراق عام ٢٠٠٣ ، وهي مسألة جديرة بالتأمل، إذ امتدت أيدي الإرهاب الآثمة إلى زائري الإمام الحسين (عليه السلام) في ظهيرة اليوم العاشر من محرم الحرام سنة ١٤٢٦ لتحدث مجزرة مروعة في مدينة كربلاء المقدسة بجوار مرقد أبي الفضل العباس (عليه السلام) وتوقع عشرات الشهداء والجرحى، ثم اعقبت ذلك أعمال إجرامية واستفزازية ضد المواكب الحسينية، ولم يكن آخرها فتاوى التكفير والدعوة لهدم قبور الأئمة الاطهار في العراق.
وقد يتصور المعينون خارج العراق بانهم في مأمن من انعكاسات هذه الجرائم ولن يكونوا مثل صدام في قربه من الشارع، إلا إن فألهم قد خاب وأضمحل، بعد إماطة اللثام عن كل الدسائس والمؤامرات التي حيكت ضد الشعب العراقي، واتضح للجميع سبب اندفاع خريجي السجون الأردنية والسورية من أمثال الزرقاوي وغيره نحو العراق؟، وسبب انتقال الشبّان السعوديين الحاملين أفكار (القاعدة) إلى العراق، فكادوا كيدهم ليضمنوا الأمان والاستقرار بعيداً عن نار العراق، فلحق بهم الخزي والعار، وباتوا مثاراً للسخرية والتندّر بين أوساط الناس، فبدلاً من أن يسبقوا العالم بالمواد الغذائية والطبية للإسهام في إعادة بناء العراق أنطلاقاً من المشاعر القومية ـ على الأقل ـ، ألقوا بمخلفات السجون والزنزانات وبالأدمغة المتحجرة لتنفجر وسط النساء والأطفال والأبرياء، ثم يقام لهؤلاء الانتحارين مجالس (فاتحة) على إنهم شهداء سقطوا في معركة مع (مشركين) أو يستقبلون أبناءَهم بالورد بعد اعتقالهم على يد أجهزة الأمن العراقية.
إنه درس كبير حقاً لمن يفقه ويتّعظ، فالمسيرة جارفة عارمة لا خيار سوى الوقوف جانباً وتحاشيها وإلا فإن النتيجة الطبيعية هي الاحتقان والتصعيد ثم الفيضان ويكون الواقفون على السد أول المتضررين.