فضل زيارة الأربعين
الشيخ حيدر الربيعاوي
ورد في تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السلام: (علامات المؤمن خمس: التختم باليمين وصلوات إحدى وخمسين والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والتعفير للجبين وزيارة الأربعين) شهر محرم وصفر شهران لم يشهد المؤمن مثلهما على طول أيام السنة - فيما اعتقد- لتجدد أحزان آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن كانت أحزانهم ومظلومياتهم غير مختصة بهذين الشهرين لمصيبة سيد الشهداء (عليه السلام) أبي الظيم خصوصية ولذا ترى المعصومين من النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الإمام القائم (عجل الله فرجه) عندما يتعرضون لمصيبة سيد الشهداء (عليه السلام) يجعلون لها الحظ الأوفر وليس معنى هذا سهولة مصيبة باقي المعصومين (عليهم السلام) بل المقصود عظم مصيبة أبي عبد الله (عليه السلام) وقد عبّر عن ذلك الإمام الرضا (عليه السلام) حيث قال: (إن يوم عاشوراء اقرح جفوننا واذلّ عزيزنا وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء).
والحديث عن زيارة الأربعين ومدى أهميتها حديث واسع وجعلتُ افتتاحي لهذا الموضوع بحديث الإمام العسكري (عليه السلام) ليس لقلة الأحاديث في هذا المورد بل لغاية ستتضح من خلال البحث ان شاء الله تعالى.
أمَا العلامات الأربع الأولى التي جعلها الإمام من صفات المؤمن فليس الحديث عنها الآن وإن كانت جديرة بالتحدث إلاّ أنَّ المناسبة تقتضي تسليط الضوء على العلامة الخامسة أعني (زيارة الأربعين).
زيارة الأربعين عند غير المسلمين:
من النواميس المطرّدة هو الاعتناء بالفقيد بعد أربعين يوماً مضين من وفاته بإسداء البر إليه وتأبينه وعد مزاياه في حفلات تعقد وذكريات تُدون تخليداً لذكره على حين أنَ الخواطر تكاد تنساه والأفئدة أوشكت ان تهمله فبذلك تعاد إلى ذكره البائد صورة خالدة بثغرٍ زائف تتناقله الألسن. وقد ورد عن أبي ذر الغفاري وابن عباس (رضي الله عنهما) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنَ الأرض تبكي على المؤمن أربعين صباحاً).
وعن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): إنَ السماء بكت على الحسين (عليه السلام) أربعين صباحاً بالدم، والأرض بالكسوف والحمرة، والملائكة بكت عليه أربعين صباحاً، وما أختضبت إمرأة منا ولا دهنّت ولا اكتحلت ولا رجلت حتى أتانا رأس عبيد الله بن زياد وما زلنا في عبرة من بعده. وكل هذا يؤيد ويؤكد هذه الطريقة المألوفة والعادة المستمرة بين الناس من الحداد على الميت أربعين يوماً فإذا كان يوم الأربعين أقيم على قبره الاحتفال بتأبينه يحضره أقاربه وخاصته وأصدقاءه وهذه العادة لم يختص بها المسلمون فأنّ النصارى يقيمون حفلة تأبينية يوم الأربعين من وفاة فقيدهم يجتمعون في الكنيسة ويعيدون الصلاة عليه المسمّاة عندهم بصلاة الجنازة ويفعلون ذلك في نصف السنة وعند تمامها.
واليهود يعيدون الحداد على فقيدهم بعد مرور ثلاثين يوماً وبمرور تسعة أشهر وعند تمام السنة وكل ذلك إعادة لذكراه وتنويهاً بآثاره واعماله إن كان من العظماء.
إذن الفكرة لا تختص بفئةٍ دون فئة ولا بطائفة دون أخرى ولا يمكن لأي انسان منحه الله عقلاً سليماً وفكراً صحيحاً أن يتعدى سيد الشهداء ولا يعطية حقه الذي منحه الله تبارك وتعالى فهو الأولى بكل ذلك ومن كل أحد بأن تقام له الذكريات في كل مكان وتشتد له الرحال للوقوف عند قبره المقدّس.
ولهذا اطردَت عادة الشيعة على تجديد العهد بتلكم الأحوال يوم الأربعين من كل سنة ولعلّ رواية أبي جعفر الباقر (عليه السلام): (إنَ السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً تطلع حمراء وتغرب حمراء) (تلميح إلى هذه العادة المألوفة بين الناس.
هل تشمل زيارة الأربعين سائر المعصومين (عليهم السلام)؟
إنَ الأئمة من آل الرسول (عليهم السلام) وإن كانوا كلهم أبواب نجاة وسفن الرحمة وبولائهم يُعرف المؤمن من غيره وكلهم استشهدوا على أيدي طواغيت عصرهم فكان الواجب إقامة المأتم في يوم الأربعين من شهادة كل واحد منهم وحديث الإمام العسكري (عليه السلام) لم يشتمل على قرينة لفظية تصرف هذه الجملة (زيارة الأربعين) إلى خصوص الحسين (عليه السلام) إلا أن القرينة الحالية أوجبت فهم العلماء الأعلام (قدس الله ارواحهم) من هذه الجملة خصوص زيارة الحسين (عليه السلام)؛ لان قضية سيد الشهداء (عليه السلام) هي التي ميزت بين دعوة الحق والباطل، ولذا قيل: الإسلام بدؤه محمدي وبقاؤه حسيني وحديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (حسين مني وانا من حسين) يُشير إليه.
ومن هنا لم يرد التحريض من الائمة على اقامة المأتم في يوم الأربعين من شهادة كل واحدٍ منهم، حتى نبي الأمة (صلى الله عليه وآله وسلم) مع إيماننا بأنه الأعظم من الحسين (عليه السلام) ومن هنا فالذي يتجلى للقارئ العزيز هو إختصاص زيارة الأربعين بالحسين (عليه السلام) ويتجلى ايضا أنها من صفات المؤمنين وليس لكل أحدٍ أن يتصف بها وكذا العلامات الأخر.
هل يمكن حمل زيارة الأربعين على زيارة أربعين مؤمناً؟
قد يشكل البعض أو قد يأتي إلى ذهن أحد أو يلتوي آخرون في أن المقصود من زيارة الأربعين هو زيارة أربعين مؤمناً فيكون معنى الحديث أن من علامات المؤمن: صلاة إحدى وخمسين وو..، وزيارة أربعين مؤمناً.
وهذا فهم يأباه الفهم السليم لسياق الحديث وقرائنه مع أنه عارٍ عن أي قرينة ولو كان الغرض هو الأرشاد إلى زيارة أربعين مؤمناً لقال (عليه السلام): (وزيارة أربعين) أو (زيارة أربعين مؤمناً) فالأكتفاء بالجملة من غير ذلك والأتيان بالألف واللام العهدية كل ذلك يبعد الحمل الموهوم ويقرب المطلوب.
أضف إلى ذلك كله أن زيارة أربعين مؤمناً ليس من مختصات المؤمنين وعلاماته فهي من علائم الإسلام وكما حث عليها الإسلام، فهي علامة للمسلمين. نعم زيارة الحسين (عليه السلام) يوم الأربعين من قتله ممّا يدعوا إليها الإيمان الخالص لأهل البيت (عليهم السلام) وقد وردت زيارة الحسين (عليه السلام) يوم الأربعين عن صفوان الجمّال عن الإمام الصادق (عليه السلام) ولم ترد زيارات لاربعينيات لباقي المعصومين (عليهم السلام) مما يؤكد اختصاص أربعين الحسين (عليه السلام) بميزة خاصة. ومعلوم أن الذين يحضرون في الحائر الحسيني الأطهر- بعد مرور أربعين يوماً من مقتل سيد شباب أهل الجنة- خصوص المتابعين له السائرين على أثره.
كلام الفقهاء الأعلام وفهم للحديث:
إن فهم الفقهاء الأعلام وكلامهم في زيارة الأربعين هو الفصل في هذا المقام. منهم أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (رحمه الله) في التهذيب فأنه بعد أن روى الأحاديث في فضل زيارته المطلقة ذكر المقيّد بأوقات خاصة ومنها يوم عاشوراء وبعده روى هذا الحديث وهذا دليل واضحَ ودليلّ صالح على ما اردناه من أن المقصود من زيارة الأربعين زيارة أربعين الإمام الحسين (عليه السلام) وإلا لما ذكره هنا بل ذكره في باب التزاور بين المؤمنين واستحباب عيادة المريض مثلاً إلى غير ذلك من الأبواب التي هي الأنسب من غيرها. وفي مصباح المتهجد ذكر شهر صفر وما فيه من الحوادث ثم قال: وفي يوم العشرين منه رجوع حرم أبي عبد الله (عليه السلام) من الشام إلى مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وورود جابر بن عبد الله الأنصاري إلى كربلاء لزيارة أبي عبد الله (عليه السلام) فكان أول من زاره من الناس وهي زيارة الأربعين فروى عن أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام) أنه قال: (علامات المؤمن خمس.... الخ) وقال العلامة الحلي في المنتهى كتاب الزيارات بعد الحج: يُستحب زيارة الحسين (عليه السلام) في العشرين من صفر ثم ساق الحديث نفسه وفي الأقبال للسيد بن طاووس عند ذكر زيارة الحسين (عليه السلام) في العشرين من صفر ساق الحديث المذكور. ونقل المجلسي (أعلى الله مقامه) في مزار البحار هذا الحديث عند ذكر فضل زيارة الحسين (عليه السلام) يوم الأربعين.
وفي الحدائق للشيخ يوسف البحراني في الزيارات بعد الحج قال: وزيارة الحسين في العشرين من صفر من علامات المؤمن. وحكى الشيخ الجليل عباس القمي في المفاتيح هذه الرواية عن التهذيب ومصباح المتهجد في الدليل على رجحان الزيارة في الأربعين من دون تعقيب باحتمال إرادة أربعين مؤمناً. وكذا نص على الأستحباب الشيخ المفيد في مسار الشيعة والعلامة الحلي في التذكرة والتحرير وملا محسن الفيض الكاشاني في تقويم المحسنين.
وفي ذكر هؤلاء الاعلام مما هم أهل الدراية والرواية من أمثال شيخ الطائفة فيه غنى وكفاية.
زيارة جابر لكربلاء:
ونتذكر هنا رواية مجيء جابر إلى كربلاء التي تشمل فوائد كثيرة فقد روى الشيخ الجليل عماد الدين أبو القاسم الطبري الآملي وهو من أجلاء فن الحديث في كتابه بشارة المصطفى مسنداً عن عطية بن سعد بن جنادة العوفي (من رواة الإمامية، وقد صرّح أبناء العامة في رجالهم بصدق حديثه) أنه قال: خرجتُ مع جابر بن عبد الله الأنصاري (رحمه الله) زائرين قبر الحسين (عليه السلام) فلما وردنا كربلاء دنا جابر من شاطئ الفرات فاغتسل ثم ائتزر بازار وأرتدى بآخر ثم فتح صُرة فيها سعُد فنثرها على بدنه ثم لم يخطُ خُطوة إلاّ ذكر الله حتى إذا دنى من القبر قال: ألمسنيه -أي خذ بيدي إلى القبر- فألمسته فخّرَّ على القبر مغشيّاً عليه، فرششتُ عليه شيئاً من الماء فأفاق وقال: يا حسين ثلاثاً، ثم قال: حبيب لا يجيب حبيبه. ثم قال: وأنى لك بالجواب، وقد شحطت أوداجك على اثياجك وفرّق بين بدنك ورأسك... الخ.
ثم جال ببصره حول القبر وقال: السلام عليكم أيتها الأرواح التي حلّت بفناء الحسين (عليه السلام) واناخت برحله... إلى ان قال: لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.قال عطية: فقُلتُ لجابر: وكيف ولم نهبط وادياً ولم نعلُ جبلاً ولم نضرب بسيفٍ والقوم قد فرّق بين رؤوسهم وأبدانهم وأيتمت أولادهم وارملت الأزواج؟.
فقال لي: يا عطية سمعتُ حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (مَن أحبَّ عمل قومٍ أشرك في عملهم). والذي بعث محمداً بالحق نبيّاً إن نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه.
قال الراوي: فلما صرنا في بعض الطريق فقال لي: يا عطية هل أوصيك؟ وما أظن أنني بعد هذه السفرة ملاقيك، أحبْ محبَّ آل محمدَ ما أحبهم، وابغض مبغض آل محمد ما أبغضهم، وإن كان صواما قواماً، وارفق بمحب آل محمد فأنه إن تزل لهم قدم بكثرة ذنوبهم تثبت لهم أخرى بمحبتهم، فأن محبهم يعود إلى الجنة ومبغضهم يعود إلى النار.
فالسلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين. اللهم احشرنا مع الحسين (عليه السلام) وارزقنا شفاعته.