قمع زيارة الأربعين مسيرة الأربعين وما يعترضها
الشيخ حيدر الربيعاوي/ مدير مركز البحوث والدراسات الانسانية في النجف الاشرف
في كل عام تنطلق المسيرة الحسينية من كل انحاء العراق صوب كربلاء لتجديد العهد مع سيد الشهداء (عليه السلام) واخيه ابي الفضل العباس (عليه السلام) بمواصلة الدرب والمسيرة والثبات على ذلك النهج الثائر من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل ومحاربة كل من يريد تزييف الدين وتحريف أحكامه، أو التسلط على رقاب الناس.
لذا كانت هذه المسيرة الحسينية الكبرى هدفا للطغاة في محاربتها والوقوف ضدها، ولم نر على مر الدهور طاغوتا حارب تلك المسيرة كما حاربها المقبور صدام, فقد عمل بكل جهده على مدى خمساً وثلاثين عاما من اجل اسدال الستار على تلك المسيرة الخالدة، فاستعمل كافة الوسائل واتبع شتى الطرق، فاشغل الامة بالحروب الجانبية وباستخدامه سياسة تكميم الافواه وتحويل العراق إلى سجن كبير.
بل ابتكر في اواخر ايامه ظاهرة الاعراس الجماعية في يوم العاشر من المحرم، في مسعى منه لاسقاط هيبة عاشوراء في قلوب ونفوس الناس.
انتفاضة صفر ١٩٧٧ في كربلاء:
ولكن الأمة لم تأبى ذلك فجاءت انتفاضة صفر عام ١٩٧٧ لتكون انتفاضة شعب حسيني ثائر بوجه نظام يزيدي كافر, جاءت تلك الانتفاضة لتجديد الروح العاشورائية والتضحيات الكربلائية فانطلقت الامة شاهرة سيوفها بوجه الحكم العفلقي الاستبدادي الجائر متجاهلين ذواتهم ومصالحهم ومتخلين عن أهوائهم وشهواتهم, هدفهم إعلاء كلمة الله واحقاق الحق.
فبدأت المواجهة الكبرى مع النظام البعثي الكافر حيث تحدّت الجماهير الحسينية الطائرات والدبابات والحديد والنار, بدروع بشرية ليعلنوا بداية انتفاضة حسينية اسلامية كبرى.
فانتفاضة صفر أو انتفاضة الأربعين هي انتفاضة في العراق قام بها الشيعة العراقيون نتيجة منعهم من السير إلى كربلاء في ذكرى الأربعين عام ١٩٧٧م / ١٣٩٧ هـ
بداية الأحداث:
قرر النظام الديكتاتوري المخلوع في العراق منع أتباع أهل البيت (عليهم السلام) من احياء ذكرى عاشوراء وذكرى الأربعين (وهو مضي أربعين يوماً على شهادة الإمام الحسين وهو أيضاً ذكرى زيارته من أهل بيته ورجوع رأسه الشريف ورؤوس آله وأصحابه إلى أجسادها) ويتم إحياء هاتين المناسبتين باقامة مجالس العزاء والسير إلى كربلاء.
فكان قرار منع اقامة هذه الشعائر دافعاً للمؤمنين للانتفاض ضد السلطة واقامة الشعائر رغم المنع، فقام البعض بتعليق منشوات في شوارع وازقة النجف الأشرف تدعو اهالي المدينة إلى المشاركة في المسير إلى كربلاء، مما أدى إلى شن حملة اعتقالات واسعة في المحافظة من قبل قوات الامن، ولكن هذا لم يمنعهم من مواصلة الحراك والدعوة إلى المسير إلى كربلاء وحددوا الساعة الحادية عشر من صباح الخامس عشر من شهر صفر موعداً لانطلاق المسيرة.
مجريات الأحداث:
قبل أيام قليلة من بدأ الانتفاضة حاول النظام تدارك الموقف وعقد اجتماعاً مع قادة المواكب ومجالس العزاء في النجف الأشرف، إلا أن هذه الاجتماعات لم تسفر عن نتيجة حيث أصر الأهالي على المسير إلى كربلاء المقسة رغم التهديد من قبل محافظ النجف الأشرف جاسم محمد الركابي والسلطات الأمنية فيها.
١٥ صفر:
صباح ٤ شباط ١٩٧٧ م / ١٥ صفر ١٣٩٧ هـ خرجت جماهير غفيرة من مناطق النجف الأشرف الرئيسية وهي البراق والمشراق والحويش والعمارة وهي تجوب شوارع المدينة متوجهة إلى مرقد الامام علي (عليه السلام) وهم يرددون اهازيج منددة بمنع شعائرهم مثل (أهل النجف يا امجاد راياتكم رفعوها) و(إسلامنا ماننساه ايسوا يابعثية) وواصلت الجموع مسيرها إلى كربلاء وخاضوا صدامات دامية مع قوات الامن المنتشرة في الطريق وصولاً إلى منطقة خان الربع حيث قضى السائرون ليلتهم فيه.
١٦ صفر:
يوم ٥ شباط ١٩٧٧ م / ١٦ صفر ١٣٩٧ هـ كان يوماً حافلاً، حيث واصلت الجموع مسيرها إلى كربلاء المقدسة، وكانت دوريات الشرطة والامن تلاحقهم على الشارع العام وهي تهددهم وتامرهم بالرجوع إلى النجف الأشرف ،إلا أن الحشود لم تكترث إلى تهديداتهم وبقيت تواصل سيرها إلى كربلاء المقدسة حتى وصلوا إلى منطقة خان النص عصر هذا اليوم، حيث توقفت المسيرة للاستراحة والمبيت فيها، وواصلت مجاميع من الشباب الحراسة ليلاً خوفاً من أي هجوم محتمل من قبل دوريات الشرطة والامن التي كانت تجوب المنطقة.
١٧ صفر:
صباح يوم ٦ شباط ١٩٧٧ م / ١٧ صفر ١٣٩٧ هـ تحركت المسيرة من منطقة خان النص باتجاه كربلاء المقدسة والجموع تردد الاهازيج المختلفة والحماسية، وبعد ابتعادها عن المنطقة قامت مجاميع من قوات الامن بالهجوم على مؤخرة المسيرة وإطلاق النار عليها مما أدى إلى سقوط أول شهيد في الانتفاضة وهو محمد الميالي، مما أدى إلى تحرك مئات الشباب الغاضبين إلى مراكز الشرطة القريبة والهجوم عليها وتدميرها واخذت جموع كبيرة بالالتحاق بالمسيرة من النجف الأشرف وبعض المناطق القريبة من كربلاء المقدسة، حتى وصلت المسيرة إلى منطقة خان النخيلة حيث تقرر الاستراحة والمبيت فيه إلى صباح اليوم التالي، وقد التحقت القبائل المحيطة بالمنطقة بالمسيرة بعد أن اتجه العشرات اليهم لدعوتهم للمشاركة حيث جاء الالاف إلى المنطقة وهم يرددون اهازيج عراقية مختلفة منها (أسمع العباس ناده ياهلّه بهاي الضيوف....إشلون أأدي هلتحيه واني مكطوع الجفوف).
١٨ صفر:
عصر يوم ٧ شباط ١٩٧٧ م / ١٨ صفر ١٣٩٧ هـ ارسلت الحكومة العراقية أحد خدمة الروضة الحيدرية المقدسة لتدارك الموقف وايقاف المسيرة واخذ بتهديد السائرين وشتمهم، إلا أن كلامه لم ياتِ بنتيجة فعاد إلى النجف الأشرف، وفي المساء هطلت الأمطار بغزارة واشتدّ البرد ليلا مما اعاق تقدم قوات الحرس الجمهوري التي وصلت إلى المسيب استعداداً لضرب المسيرة، بعد ذلك قامت المرجع الديني السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) بارسال السيد محمد باقر الحكيم لتوجيه الإرشادات اللازمة إلى جماهير المسيرة والمشاركة معها، مما ساعد برفع معنويات الجماهير وحماسها، فقد اكد السيد الحكيم لهم بانه مستعد ان يكون بينهم وان يواصل المسيرة معهم إلى كربلاء المقدسة.
١٩ صفر:
قاربت المسيرة الوصول إلى مدينة كربلاء المقدسة يوم ٨ شباط ١٩٧٧ م / ١٩ صفر ١٣٩٧ هـ وهو يصادف ليلة الأربعين، وهنا تصاعد غضب رئاسة الجمهورية وسخطها وقامت بارسال اللواء المدرع العاشر إلى طريق كربلاء لاعتراض المسيرة حتى وصل الامر إلى إرسال طائرات ميغ٢٣ إلى المدينة وإعطاءها الامر بإطلاق النار ان استدعى الوضع، وبعد وصول المسيرة إلى مشارف كربلاء المقدسة كانت في استقبالهم مجموعة من الدبابات والسيارات المصفحة وسيارات الشرطة ومئات المسلّحين وهم يتاهبون لإطلاق النار ومنع تقدم الجموع إلى المدينة، وقامت هذه القوات بالقاء القبض على اعداد كبيرة من الشباب والنساء وكبار السن بعد محاصرتهم إلا أن مجاميع كبيرة تمكنت من الفرار واكمال المسير عبر طرق فرعية أخرى وصولاً إلى العتبتين الحسينية والعباسية المقدستين.
٢٠ صفر:
كان يوم ٩ شباط ١٩٧٧ م / ٢٠ صفر ١٣٩٧ هـ يوماً حافلاً في كربلاء المقدسة حيث يوافق ذكرى الأربعين، وكان الآلاف يتجمهرون حول العتبتين الحسينية والعباسية المقدستين، وهم يؤدون مراسم الزيارة والعزاء، حتى اشاعت قوات الأمن أنباء تشير إلى وجود قنبلة موقوتة داخل ضريح الامام الحسين (عليه السلام)، مما أدى تولد الذعر في نفوس الجموع التي كانت في داخل الضريح، وهنا استغلت القوات الأمنية الفرصة وقامت بالقاء القبض على مجاميع كبيرة من الشباب ونقلهم إلى المعتقلات القريبة وكان من بين المعتقلين السيد محمد باقر الحكيم مما أدى إلى إضراب في الحوزة العلمية اعلنه المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر.
وقد شكلت انتفاضة صفر عام ١٩٧٧ نقطة تحول جوهرية في تاريخ العراق السياسي المعاصر، فقد اراد صدام المقبور ان يضرب الحركة الاسلامية بكل قوة والقضاء على اتباع اهل البيت (عليهم السلام).
وثائق للتاريخ:
في مطلع تشرين الاول سنة ١٩٧٧ كتب (مدير امن محافظة النجف) إلى (مدير الامن العام) كتابا ذكر فيه : (ادناه اسماء المجرمين الذين اعدموا في احداث الشغب في النجف ابان زيارة الأربعين لعام ١٩٧٧ واهم المعلومات عنهم وهم : يوسف ستار عبد الحسن الاسدي وناجح محمد كريم المشهداني و غازي جودي محمد خوير وكامل ناجي مالو الخالدي. وهنالك اخر صدر عليه حكم الاعدام كونه من عناصر حزب الدعوة حيث سبق واوقف لهذا السبب فضلا على انه كان يلتزم المناسبات الدينيةوهو:وهاب عزيز حميد الطالقاني). إلى هنا انتهت برقية مدير الامن العام.
فبحسب هذه الوثيقة يبدو ان الالتزام الديني والموقع الاجتماعي اللذين يتمتع بهما كل واحد من هؤلاء المعدومين قد اقلق مدير الامن العام فكتب إلى احد ضباطه وهو النقيب نوري احد ضباط الشعبة الخامسة في مديرية الامن العامه قوله: اعلامنا عن كيفية التحرك على عوائل المذكورين والطريقة التي يجب اتباعها في التحرك عليهم حيث انهم من العوائل الملتزمة دينيا والتي لها ومواقع اجتماعية ويجب اعداد دراسة عنهم تتضمن مايلي:
١- اسماء اشقاء المعدومين واعمالهم وكذلك ذويهم.
٢- المعلومات المتوفرة عن سيرة وميول وعلاقات المذكورين ووضعهم المادي.
٣- تشخيص العناصر التي يخشى منها ان تستغل للاخلال بالأمن.
٤-الموقف العائلي الحالي لعوائل المعدومين وذويهم من السلطة.
٥- الاسلوب الافضل للتحرك لكسب المذكورين وتشخيص من يمكن الاستفادة منه.
نتائج انتفاضة صفر١٩٧٧م:
واليك الحقائق التاريخية التي انبثقت عن انتفاضة صفر الخالدة وهي كالاتي:
١- ان الانتفاضة هي اول تحدي شعبي جماهيري عام للنظام الديكتاتوري البائد، فهي اذن حولت المواجهة مع النظام من العمل الحزبي النخبوي إلى العمل الجماهيري، ولذلك فانها المفصل في عملية التحدي والتغيير.
٢- انها اول دماء تراق على الارض في مواجهة شعبية في وضح النهار، وبذلك تكون الانتفاضة قد نقلت وقود الثورة وعملية التغيير من السجون المظلمة إلى الشارع وأمام مرأى ومسمع الراي العام.
٣- ولاول مرة يكتشف النظام الديكتاتوري مدى حجم الرفض الشعبي لسياساته الرعناء التي تعتمد على تكميم الافواه وعلى التضليل، فيما نبهت العراقيين كذلك إلى حجم الظلم الواقع عليهم ليستعدوا لمواجهته.
٤- كما ان الانتفاضة كانت سببا لوقوع الخلاف والاختلاف في صفوف النظام البائد وقياداته وازلامه، فكلنا يتذكر الموقف الانساني الذي وقفته بعض قيادات النظام آنئذ عندما رفضت التصديق على احكام الاعدام التي اصدرتها المحكمة الصورية الخاصة التي شكلها الطاغية الذليل صدام حسين شخصياً لمحاكمة من شارك في الانتفاضة، هذا الموقف الذي دفعت ثمنه تلك القيادات آجلا بالقتل بعد ان تمت تصفيتهم من قيادة الحزب الحاكم والدولة عاجلا.
٥- ان انتفاضة صفر الظافرة قد كسرت حاجز الخوف للجماهير من خلال دخولهم في معركة حاسمة مع فلول النظام البعثي الكافر على طريق نجف- كربلاء والتي استمرت للايام المتتالية يوم ١٧و١٨ و١٩ و٢٠ من صفر وتدمير فلول النظام الجائر.
٦- كشفت القناع الاسلامي المزيف الذي كان يتقنع به الحزب الكافر.
٧- بينت الانتفاضة للاستبداد عملية تلاحم الامة مع مرجعيتها في إتخاذ القرار.
وفي نهاية قولنا نؤكد على أنّ انتفاضة صفر المباركة كان لها الدور الفعّال والمهم في تغّير تأريخ العراق السياسي. حيث كان لها الفضل في تعرية الحزب البعثي الكافر ومهّدت لانتفاضات ومواقف جهادية أخرى مثل انتفاضة رجب ١٣٩٨هجرية وانتفاضة الخامس عشر من شعبان ١٤١٥هجرية واخرها سقوط النظام الصدامي ونهاية عصر الطواغيت في العراق.
كما اكتشف النظام بالانتفاضة ان كل اساليبه التي تعتمد الدعاية والتضليل لم تمض بالعراقيين الذين اثبتوا بانهم على وعي كامل بما يحيكه النظام من سياسات ظالمة يراد بها اسكات الصوت الحر لهذا الشعب الابي.
ولولا تلك التضحيات الجسام التي قدمها العراقيون على طريق ذكرى واقعة الطف العظيمة، لما شاهدنا اليوم كل هذا الزحف المليوني إلى مرقد سيد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام) في كربلاء المقدسة، فالدماء والتضحيات الجسام التي قدمت في تلك الانتفاضة نلمس ثمراتها اليوم ونحن نعيش عصر الديمقراطية في العراق فالدستور العراقي الجديد كتبه المخلصون بدماء اولئك الابطال الذين لازالت اصواتهم إلى يومنا هذا تصرخ (يحسين بضمايرنه...صحنا بيك امنا).
انه الثمن الذي لابد ان يدفعه أي شعب ينشد العيش بحرية وكرامة، وصدق الشاعر عندما قال:
لا يسلم الشرف الرفيع من الاذى حتى يراق على جوانبه الدم.