زيارة الأربعين صدى عاشوراء
الشيخ صالح الكرباسي
تحديداً قبل ١٣٧٦ عاماً من يومنا هذا وفي يوم عاشوراء (١) وبعدما لقي أصحاب الامام الحسين (عليه السلام) مصرعهم ولم يبق منهم أحد يذبّ عن حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وجد الحسين نفسه وحيداً بين جيش العدو، فلما التفت يميناً وشمالاً ولم ير أحداً، أخذ ينادي قائلاً: هل من ذابٍّ يذبّ عنا؟
فخرج ولده علي بن الحسين زين العابدين من الفسطاط وكان مريضاً لا يقدر أن يحمل سيفه.
وأم كلثوم تنادي خلفه: يا بني ارجع.
فقال علي بن الحسين: يا عمّتاه ذريني أقاتل بين يدي ابن رسول الله.
وإذا بالحسين (عليه السلام) ينادي: يا أم كلثوم خذيه لئلاّ تبقى الأرض خالية من نسل آل محمد.
نعم قتلوا الحسين شهيداً مظلوماً وانتهكوا حرمته وسبوا حريمه وأطفاله، ودسوا جسده بحوافر خيولهم لكي لايدعوا أثراً لريحانة رسول الله.
لكن هيهات من أن يمحوا ذكر الحسين، إنما تمكنوا من قتل الحسين جسداً، ولم يتمكنوا من قتل الحسين روحاً وفكراً، كما لم يتمكنوا من القضاء على المشروع الحسيني، وهو إحياء دين جده المصطفى وإحياء القيم والمثل الانسانية ومقارعة الظالمين والجبابرة والطغاة المتسترين بعباءة الدين.
نعم استشهد الحسين لكن بقي نداؤه حياً يدوي في أسماع المؤمنين والمؤمنات وهم أجنة بَعدُ في أرحام الأمهات وأصلاب الأباء رغم سبات الامة حين إنطلاق هذه الصرخة الحزينة.
ثم جاء الجواب من جابر بن عبد الله الانصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله ملبياً ريحانة النبي ليغرس البذرة الأولى فزار الحسين (عليه السلام) في العشرين من شهر صفر سنة ٦١ أي بعد مقتله بأربعين يوماً، ليقول لبيك يا حسين.
ورغم قساوة الأعداء في التعامل مع الزيارة الحسينية عبر التاريخ فلقد تتالت الأصوات من الحناجر المؤمنة لتقول لبيك يا حسين في ازدياد مستمر وفاءً بعهدها وميثاقها، فهاهي الجموع المليونية والحشود البشرية التي تنحدر انحدار السيول لتلتحق بالحسين وبمشروعه التربوي المبارك، فتقول بلسان حالها: لَبَّيْكَ داعِيَ اللهِ، إِنْ كانَ لَمْ يُجِبْكَ بَدَنِي عِنْدَ اسْتِغاثَتِكَ وَلِسانِي عِنْدَ اسْتِنْصارِكَ فَقَدْ أَجابَكَ قَلْبِي وَسَمْعِي وَبَصَرِي سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً.
نعم أنه وعد إلاهي تنبأت به العقيلة زينب عليها السلام وهي تخاطب ابن أخيها زين العابدين (عليه السلام) تهدأه: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدتي وإخوتي، فوالله إن هذا لعهد من الله إلى جدك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطعة، والجسوم المضرجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علما لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره، ولا يمحى رسمه على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه، فلا يزداد أثره إلا علوا.
ولقد صدقت مولاتنا زينب الكبرى عليها السلام عندما خاطبت الطاغية يزيد بن معاوية بعد واقعة الطف الأليمة وقالت فيما قالت: فكِدْ كَيْدكَ واسْعَ سَعْيَكَ وناصِبْ جُهْدَكَ، فواللهِ لا تَمحْو ذِكرَنا، ولا تُميتُ وَحيَنا، ولا تُدرِكُ أمَدَنا، ولا تُرحِضُ عنك عارَها...
زيارة الأربعين علامة الايمان والولاء
رُوِيَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيِّ (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: عَلَامَاتُ الْمُؤْمِنِ خَمْسٌ: صَلَاةُ الْخَمْسِينَ (٢)، وزِيَارَةُ الْأَرْبَعِينَ (٣)، والتَّخَتُّمُ فِي الْيَمِينِ، وتَعْفِيرُ الْجَبِينِ (٤)، والْجَهْرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٥) (٦).
زيارة الأربعين مهرجان القيم والمثل:
لو نظرنا الى الزيارة الاربعينية بما تتضمنه من الاستعداد الروحي المتميز لدى الجموع المشاركة في هذه المراسيم الفريدة من أجل التفاني في المشروع الحسيني الكبير لوجدناها مهرجاناً فريداً للقيم والمُثل الإسلامية والإنسانية ومدرسة نموذجية لتنمية وتعبئة الطاقات البشرية الرسالية وفقاً للقيم الإنسانية والإسلامية بعيدا عن التحزبات السياسية والانحيازات المصلحية، ذلك لأن رواد هذه المدرسة جعلوا أصحاب الامام الحسين(عليه السلام) أمثلة يحتذون حذوهم، فهم في محاولة جادة لتطبيق النمط الإسلامي للحياة على حياتهم الفردية والاجتماعية بُغية الوصول الى الحياة الطيبة التي دعا اليها الإسلام المحمدي الخالص.
و أخيراً فإن الزيارة الحسينية الاربعينية التي تنطلق من المدن والقرى العراقية مشياً على الأقدام ويُشارك فيها عُشاق الحسين(عليه السلام) من مختلف الدول وبمختلف الألوان والثقافات قد كسرت الأرقام القياسية في مختلف المجالات وإن تغافلت عن هذه الحقائق المؤسسات العالمية بمختلف أشكالها تحمل في طياتها تحديات كبيرة يعجر العالم عن فهمها وتفسيرها، حيث أنها ليست إلا مسيرات شعبية منبثقة من الروح الايمانية لا تخطط لها المؤسسات الكبرى ولا تدعمها الدول العظمى، وهي مع عفويتها تشكل تجسيداً للتعايش السلمي والتعبئة الايمانية الصادقة والمتنامية لنصرة الحق وهي من الأمور الممهدة للحكومة الاسلامية الشاملة بقيادة الامام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف إن شاء الله.
الهوامش:
(١) يوم عاشوراء بالمد والقصر وهو عاشر المحرم، وهو اسم إسلامي، وجاء عشوراء بالمد مع حذف الألف التي بعد العين، راجع: مجمع البحرين: ٣/ ٤٠٥.
وهو اليوم الذي وقعت فيه واقعة الطَّف الأليمة التي قُتل فيها سبط النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) الإمام الحسين بن علي (عليه السلام)، خامس أصحاب الكساء وثالث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مع جمع من خيرة أبنائه وأصحابه في أرض كربلاء دفاعاً عن الدين الاسلامي وقيمه.
وكانت هذه الواقعة الأليمة في يوم الجمعة العاشر من شهر محرم من سنة ٦١ هجرية، الموافق ل ١٢/١٠ /٦٨٠ ميلادية.
(٢) أي الصلوات الواجبة اليومية ونوافلها، إذ يكون مجموع ركعاتها خمسين ركعة، حيث أن الصلوات الخمس سبعة عشر ركعة، ونافلة الصبح ركعتان، ونافلة الظهر ثمان ركعات، وكذلك نافلة العصر ثمان ركعات، ونافلة المغرب أربع ركعات، ونافلة العشاء ركعتان من جلوس وتُحسب ركعة واحدة لأن كل ركعة من جلوس تعادل ركعة من قيام، ونافلة الليل إحدى عشر ركعة، فيكون المجموع خمسون ركعة.
(٣) أي زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم الأربعين، أي العشرين من شهر صفر، ويُسمَّى بالأربعين لمرور أربعين يوماً على استشهاد الامام الحسين (عليه السلام) في العاشر من شهر محرم الحرام.
(٤) أي وضع الجبهة وأطرافها حال السجود على الأرض والتراب، وتَعْفِيرُ الجَبِينِ: تَمْرِيغُهُ فِي التُّرَابِ، والتعفير: أن يمسح المصلي جبينه حال السجود على العفر وهو التراب تذللاً لله (عزوجل)، والجبين: فوق الصدغ وهما جبينان عن يمين الجبهة وشمالها يتصاعدان من طرفي الحاجبين إلى قصاص الشعر فتكون الجبهة بين جبينين.
(٥) أي الجهر في الصلاة بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم حتى في الصلوات الاخفاتية.
(٦) تهذيب الأحكام: ٦ / ٥٢، للشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، المولود بخراسان سنة: ٣٨٥ هجرية، والمتوفى بالنجف الأشرف سنة: ٤٦٠ هجرية، طبعة دار الكتب الإسلامية، سنة: ١٣٦٥ هجرية/ شمسية، طهران/ إيران.