ما مشيت نحو كربلاء ولكن القلب مشى
د. حسين ابو سعود
الزمن يمر والسنوات تتعاقب وذكر الحسين يزداد رفعة وعلوا، إنها الكرامة الكبرى التي خص بها الله تعالى الإمام الحسين عليه السلام، دخل محرّم فأعادتني مظاهره سنة واحدة إلى الوراء عندما كنت في العراق، وتذكرت المشاة الذين عايشتهم عن قرب، رأيت مئات الألوف في مسيرة طويلة لا نهاية لهذا رأيت الرجال والنساء، الكبار والصغار، الأصحاء والمرضى، رأيت المضايف على طول الطريق وفيها أناس نذروا أنفسهم لخدمة الزوار وإطعامهم، نعم ما مشيت حينها بل كنت متوجها إلى كربلاء بالسيارة، ولكن القلب كان يمشي معهم، والنفس كانت تهفو إليهم، والروح كما باقي الأرواح تشتاق إلى دوحة الفداء والتضحية، حيث يجتمع على صعيد تلك المدينة ملايين العشاق والمحبين، في ظلال الأنوار القدسية والتجليات النقيّة للإنسانية الحقيقية، المتمثلة بالتضحية والإيثار والعطاء وحب الخير للناس.
وقد حدثني أحد الأخوة الذين لا يرون ضرورة المشي، بأنه عندما وصل بالسيارة الى ما يقرب ٢٥ كيلومترا من كربلاء، منع رجال الأمن السيارات من التقدم أكثر لاستحالة ذلك، بسبب كثرة الناس وامتلاء الطريق المؤدي إلى كربلاء بالزوار، فلم يبق أمامه والقول له : إلا المشي نحو المدينة مع المشاة اضطرارا، لقد كان المنظر مروعاً والمشهد مؤثرا، لم نشعر بالتعب والإرهاق مع التدفق المليوني، وكثرة المواكب المنتشرة على جانبي الطريق، ولقد تمنيت حينها لو أني كنت قد نويت المشي ابتداءً لكثرة ما رأيت من المواقف الإيمانية والمشاهد الإنسانية، وكانت اللغة السائدة حتى بلوغ المدينة هي لغة القلوب .. انتهى كلامه.
لا شك أن الشعائر الحسينية في تطور، ولا جدال في دخول أشياء جديدة عليها، ولكن المشي السنوي أصبح حقيقة واقعة ولا تقدر قوة في الأرض على إيقافه مهما بلغت درجة تأثيرها، ثم انه أمر مباح لا شيء فيه، المشي صار قضية عالميّة، إذ لا تبق وسيلة إعلامية في الدنيا لا تراقبها وتنقل أحداثها، مع العجب الشديد من احتواء مدينة صغيرة مثل كربلاء لهذه الحشود البشرية.
المشي في ظاهره حالة عفوية جميلة مقدسة، يراد منه ربط أحداث النهضة الحسينية بإحداث الحاضر والمستقبل، وينبغي أن تكون رحلة تربوية ثقافية اجتماعية دينية هادفة، وماراثون روحي نبيل، ليعود الزائر من مشيه وقد تعلم أشياء كثيرة تفيده في تغيير حاله إلى الأحسن، يعود إنسانا جديدا يحب العمل والبذل والإنتاج.
المشي واقع ويجب التعامل معه بموضوعية وواقعية تامة، لتحقيق مقاصد عليا في التربية والتوجيه الجماهيري، ويجب أن لا يقتصر واجب الدولة على الجانب الأمني فقط، بل يمتد ليشمل التركيز على جانب الخدمات، وتخصيص مسارات مريحة للمشاة غير الطريق المخصص للسيارات.
عاشوراء سواء شئنا أم أبينا حالة متجذرة في شعور المسلمين بجميع طوائفهم، والمطلوب هو الإتباع الواعي للإمام الحسين عليه السلام، وتحويل هذا الإتباع الى ظاهرة واضحة مرئية منتجة مفيدة مؤثرة فاعلة مغيرة، وكما قال العلامة محمد تقي المدرسي مؤكداً على الإتباع الواعي غير العشوائي: يجب أن نعتبر الأئمة أحياء يعيشون بيننا وليسوا أموات.
وهذا قول يحتم علينا أن لا نحول عاشوراء إلى مشروع بكاء صرف، بل نحوله إلى مشروع عمل مستمر، وتغيير الكثير من الممارسات، وأن لا نجعل الحسين كما نريده، بل نكون كما يريدنا هو، والمنابر الحسينية يمكن لها أن تتحول الى جامعات مفتوحة، تعطي كل ما يحتاجه الإنسان من علوم في حياته اليومية، وتحويل الحسين الى قضية عالمية، لا سيما وانه لم تبق أرض على هذه الدنيا لم يصل إليها صوت الحسين وذكره، فالحسين جامع للكلمة موحد للأمة، وعلينا أن نعيد القيادة للإمام الحسين عليه السلام ليقود المسيرة بسيرته السمحة، لنحصل على التغيير الفعلي الحقيقي، يجب أن نعيد فهم الحسين، نفهمه كما هو وليس كما نشتهي نحن، فثورة الإمام ثورة سلميّة إنسانية ومستمرة، وستبقى ما بقيت الدنيا، فسلام على الحسين يوم ولد، ويوم نال الشهادة غريبا مظلوما ظامئا، ويوم يبعث حياً مع الأنبياء والصديقين والشهداء.