لماذا الأربعين؟
محمد حميد السلمان
بحبك لذَّ لي عيشي وطابا أبا الثوار قد أحييت ديناً وأرشدت الأباةَ طريق عزٍ |
|
وقلبي في هواك العذب ذابا وللثورات قد أوجدت باباً إذا ساروا به كانوا غلابا |
ربما يتبادر سؤال لذهن البعض ممن يتابعون الحراك الحُسيني من بعيد، ولو من باب العلم: لماذا كل هذا الاهتمام بيوم الأربعين، أي بعد مرور أربعين يوماً على استشهاد الإمام الحسين بن علي عليه السلام على أرض كربلاء، حيث استشهد وكل أفراد أسرته وأصحابه من الرجال؟ لماذا تكرار إحياء مناسبة الاستشهاد وقد مضى عليها أربعون يوماً تقريباً وكأنها يوم كربلاء ذاته؟
ربما يحتاج الأمر لبحوث طويلة في مجال الرد على مثل هذا السؤال، ولكن فقط نُشير إلي أن تلك الساعات من مطلع نهار يوم العاشر من محرم حتى ما بعد منتصفه بقليل من العام ٦١ هـ، والتي انتهت باستشهاد أبي الأحرار والثوار الإمام الحسين بن علي عليه السلام، لم تكن مجرد معركة غير متكافئة، جرت بين معسكر الحق والباطل، وانطوت بين صفحات التاريخ كي تذوب بعد أربعين يوماً؛ بل ليعيد التاريخ نفسه صياغتها من جديد في شكل ومضمون لا يمكن نسيانه على مر الدهور. كما كان لابد من جانب إعلامي قوي ومتواصل لدعم وتوضيح وتوثيق ما حصل على أرض كربلاء، في زمنٍ لم يكن هناك إعلامٌ منتشر كما نعيشه اليوم، ليحمل أنفاس ثورة الإمام الحسين إعلامياً على مر التاريخ.
ذلك الجانب الإعلامي لم يتشكل إلا خلال الأربعين يوماً اللاحقة ليوم العاشر من محرم، وكانت مبدعة الجانب المجلجل خلال الأربعين يوماً فقط، هي العقيلة زينب ابنة علي عليها السلام، بجانب وجود الإمام علي بن الحسين عليه السلام، وهو آخر من بقي من أولاد الحسين عليه السلام بعد المذبحة؛ ولولا تلك الثورة الإعلامية التي وضعت أسسها فقط خلال أربعين يوماً على يد من بقي من نخبة آل البيت الأطهار؛ لما انتشرت ثورة الإمام ووصلت إلينا بهذا الزخم الجماهيري الحاشد في يوم عاشوراء أو في يوم الأربعين. وليس قول الشاعر (قم جدّد الحزن في العشرين من صفر) مجرد تجديد لمسيرة الدموع والألم، والبكاء على قتيل الإسلام الكبير فقط؛ بل هذا التجديد هو لدفع الدماء الإعلامية في مسيرة الثورة الحسينية. فالثورة لم تبدأ وتنتهي على أرض (الطف) بالعراق، بل انتقلت إلى أرض الشام بعد أن تواصلت أنفاس الثورة بصبر تلك النفوس الأبية من آل البيت النبوي الشريف، التي وقفت ضد الطغيان والظلم في عرين العدو، حيث أُقيمت أول مجالس العزاء على استشهاد أبي الأحرار وصحبه.
فيوم الأربعين ليس يوماً عادياً، بل هو الشقيق واللصيق ليوم عاشوراء، في الأول قدّم الإمام الحسين عليه السلام، أول دروس التضحية الإنسانية في التاريخ، كنموذج أعلى للتفاني من أجل رفعة الإسلام المحمدي وحماية هوية الأمة. وفي اليوم الثاني، قدّم الإمام علي بن الحسين وعمته زينب بنت علي عليهما السلام، خلال أربعين يوماً، النموذج المتابع والمدعّم للتضحية الأولى، وبذا تواصلت المسيرة الثورية العالمية لتغدوا وتداً بعلمٍ يبقي مرفرفاً على ناصية هذه الأرض.
ومن هنا يصبح يوم الأربعين هو المكمل لواقعة كربلاء إعلامياً وتاريخياً وروحياً. وليس تجديد الحزن في هذا اليوم يأتي ليُثبت في ذاكرة الأمة، هزيمة المنافقين والمارقين في معسكر الأعداء أمام رمز الحرية والإباء الحُسيني الذي استوعب شهادة الرسل والأنبياء، فكانت رمال كربلاء حاضرةً لتسجل بالدماء الطاهرة فداء الثورة الحسينية لكل الثورات القادمة بعدها، فارتبط ذلك اليوم بضمائر العالم أجمع، وهزّ النفوس وكتب في صفحات التاريخ خطوات سبل التحرر من العبودية والطغيان.
وما شد الرحال، لملايين من البشر من شتى أرجاء المعمورة، لزيارة الأربعين كل عام عند قبر الحسين الشهيد عليه السلام، إلا إحياءً لتلك النهضة الحسينية واحتفاءً بتلك النخبة من العظماء الذين ساروا على درب الزمن، حاملين أكفانهم بين أيديهم، واثقي الخطى، نحو رايات العزّة والشموخ.
مع الأربعين تتجدد طاقة التجمع أو الحشد الجمعي خلال اللقاء في تأبين سيد الشهداء، وتجديد الولاء لنهضته الخالدة، ولروح التحدي بكل مفرداته، وشجباً للظلم والظالمين. تلك الطاقة الجمعية التي التقت حول عاشوراء الحسين عليه السلام بين يوم العاشر من محرم حتى العشرين من صفر، هي من أهم مفردات الحراك الحُسيني في صراعٍ دائم بين هذين المبدأين، الرحماني والشيطاني، ومن هنا جرى قلم القضاء أن يكون يوم العاشر، ويوم الأربعين، هما جذوة الحراك الحُسيني في قلوب المؤمنين.
من خلال هذه الحشود الجماهيرية في زيارة الأربعين، تعطي طاقة إيمانية إضافية، وتعبئة ثورية متواصلة ضمن إحياء النهج الحسيني ولنشر قضية أهل البيت النبوي على مر العصور، وأهم عناوينها مأساة كربلاء، بلا ريب. فالسلوك الجمعي كفيلٌ بإعطاء دفع أقوى للمسيرة الحسينية، كما أن هذه المظاهرة الحاشدة في كل زيارة هي تحدٍ وشجبٌ للظلم والظالمين.
وأول من استخدم هذا الأسلوب في الحشد الجمعي، الإمام علي بن الحسين عليه السلام، وعمّته زينب عليها السلام، حين أقاما العزاء في أول زيارة لهما للحسين بعد ٤٠ يوماً من المجزرة الكبرى، ثم سار على دربهم بقية آل الرسول، وأتباع مدرستهم حتى اليوم والغد. أما لماذا رقم الأربعين تحديداً، فذلك سرٌ إلهي لا نعلم كنهه بعد. ولكن تبقي للأربعين أهمية خاصة حتى حين.