الإجابة: بسم الله الرحمن الرحيم
سند الرواية مختلف فيه بين الأعلام لاختلافهم في (جعفر بن محمد بن مالك الفزاري) بين موثِّق له ومضعِّف، نعم ورد في حديث صحيح ما هو قريب من هذا المعنى في كمال الدين للصدوق، قال: حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني (رضي الله عنه) قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن أبي أحمد محمد بن زياد الأزدي، قال: سألت سيدي موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً﴾، فقال (عليه السلام): النعمة الظاهرة الإمام الظاهر، والباطنة الإمام الغائب. فقلت له: ويكون في الأئمة من يغيب؟ قال: نعم يغيب عن أبصار الناس شخصه ولا يغيب عن قلوب المؤمنين ذكره. [كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص٣٩٨]
وكذلك ما رواه في العلل عن أبي هاشم الجعفري، قال: سمعت أبا الحسن العسكري (عليه السلام) يقول: الخلف من بعدي الحسن ابني، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف. قلت: ولِمَ جعلني الله فداك؟ فقال: لأنكم لا ترون شخصه ولا يحل لكم ذكره باسم. [علل الشرائع للشيخ الصدوق: ج١، ص٢٨٣]
وما رواه النعماني عن عبيد بن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: يفقد الناس إمامهم، يشهد المواسم فيراهم ولا يرونه. [الغيبة للشيخ النعماني: ص١٨١]
وفي قبال هذه الروايات توجد روايات أخرى تثبت إمكانية رؤية الإمام (عجّل الله فرجه) ومشاهدته من قبل الناس، فقد روى الصدوق بسند صحيح عن محمد بن موسى بن المتوكل (رضي الله عنه) قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري، عن محمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) قال: سمعته يقول: والله إن صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كل سنة فيرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه. [كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص٤٧٠]
وما رواه سدير عن الإمام الصادق (عليه السلام): فما تنكر هذه الأمة أن يكون الله (عزَّ وجلَّ) يفعل بحجته ما فعل بيوسف، أن يكون يسير في أسواقهم ويطأ بسطهم وهم لا يعرفونه. [الغيبة للشيخ النعماني: ص١٦٧]
وما رواه أيضاً عن أبي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام): وأمّا سنة من يوسف فالستر، يجعل الله بينه وبين الخلق حجاباً يرونه ولا يعرفونه. [كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص٣٨١]
ولأجل هذا الاختلاف بين الروايات والذي قد يوحي للوهلة الأولى بوجود تعارض بينها وجدنا نظريتين تفسر كل واحدة منهما غيبة الإمام (عجّل الله فرجه) على نحو يختلف عن الأخرى:
فالأولى: تذهب إلى أن غيبته (عجّل الله فرجه) هي غيبة شخصية بمعنى أن جسم الإمام (عجّل الله فرجه) مختف عن الأنظار ولا تقع عليه الأبصار، فقد يكون موجوداً في مكان ما ومع ذلك لا يُرى.
والنظرية الثانية: على العكس من ذلك وإنما تعتبر أن الغائب حقيقة هو معرفة الناس بشخص الإمام (عجّل الله فرجه)، ومعنى ذلك أنهم يرونه ولكن لا يعرفونه، وهذا هو الرأي الأشهر عند الأعلام والذي يرونه منسجماً مع ما دل على المخاطر المحيطة بالإمام (عجّل الله فرجه) أثناء غيبته، وهو ما يتفق أيضاً مع استحباب دعاء المؤمنين له بالحفظ والحراسة من أعين الظالمين، بل ولا معنى لما ورد من النهي في الدلالة على مكان الإمام (عجّل الله فرجه)، فكل ذلك يستلزم أن الإمام (عجّل الله فرجه) حاضر ومُشاهد من الآخرين لكنه خفي عنهم بعنوانه لا بشخصه (عجّل الله فرجه)، وأمّا توجيههم لروايات الطائفة الأولى فيحملونها على المعنى المجمل الذي تفصله الطائفة الثانية من الروايات، بمعنى أن عدم رؤية جسمه أو شخصه (عجّل الله فرجه) كناية عن عدم المعرفة الفعلية من قبل الآخرين، فأنت يمكن أن تنفي رؤيتك لشخص أو سماعك به إذا سُئلت عنه ولم تكن عارفاً به قبل ذلك، وهذا أمر متداول في العرف وفي حواراتنا كثيراً، ولذلك لو سُئل أولاد يعقوب عن رؤية يوسف (عليه السلام) في مصر قبل أن يعرّفهم بنفسه لنفوا ذلك حتماً لعدم معرفتهم بهويته (عليه السلام).
والذي نستظهره من الأخبار ونستقربه تبعاً لها أن الإمام (عجّل الله فرجه) يمتلك القدرة وولاية التصرف بإذنه تعالى والتي تمكنه من أن يغيب بشخصه عن الآخرين بحيث لا يُرى أو يُشاهد، وهذا ما قد يُفسّر لنا القصص التي رواها العلماء والصالحون في لقاءاتهم معه (عجّل الله فرجه) ثم يتفاجؤون باختفائه وعدم رؤيتهم له حتى بعد اجتهادهم في البحث عنه، وهذا هو أيضاً مضمون ما روي من اقتحام جلاوزة المعتضد العباسي لدار الإمام (عجّل الله فرجه) للقبض عليه، ثم خروجه من بينهم وعدم رؤية أميرهم لشخصه (عجّل الله فرجه)، فقد روى الراوندي عن بعض من اشترك في تلك الحملة قوله: ثم بعثوا عسكراً أكثر، فلما دخلوا الدار سمعوا من السرداب قراءة القرآن فاجتمعوا على بابه [باب السرداب] وحفظوه حتى لا يصعد [الإمام (عجّل الله فرجه)] ولا يخرج، وأميرهم قائم حتى يصل العسكر كلّهم، فخرج [أي: الإمام (عجّل الله فرجه)] من السكّة التي على باب السرداب ومرّ عليهم، فلما غاب قال الأمير: انزلوا عليه. قالوا: أليس هو مرّ عليك؟ قال: ما رأيت! ولِمَ تركتموه؟ قالوا: إنا حسبنا أنّك تراه. [الخرائج والجرائح للراوندي: ج٢، ص٤٥٩]
وعلى ضوء ذلك لن نحتاج إلى تأويل الروايات السابقة التي نفت رؤية جسمه (عجّل الله فرجه) أو شخصه أو حملها على معنى يغاير ظاهرها، بل نلتزم بها وبمدلولها وأنها بصدد بيان القدرة التي يمتلكها الإمام (عجّل الله فرجه) لتغييب شخصه عن الآخرين فيما لو اقتضت المصلحة ذلك في بعض الحالات، وفي حالات أخرى يظهر ويُرى ولكن لا يعرفه الناس وبهذا البيان يمكن الجمع بين طائفتي الروايات التي ذكرناهما في أول الجواب.
ودمتم برعاية المولى صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه)