مسؤوليتنا
الأستاذ فيصل علي عبد الأمير
لم تزل القضية المهدوية تشغل حيزاً كبيراً من اهتمام المسلمين، وفي الوقت نفسه لا تزال قضية الإمام المهدي عليه السلام تبعث على القلق لدى الوسط الحاكم فتثير لديه العديد من ردود الفعل غير المتوازنة.
كانت المهدوية العباسية بزعامة أبي جعفر المنصور حين أعلن عن ولده محمد بأنه المهدي بعد ا ن دعى لمحمد النفس الزكية وإبراهيم الإمام ابني الحسن بن عبد الله بن الحسن، ولم تدم هذه العلاقة الحسنية _ العباسية طويلاً حتى انتهت بقتل محمد وإبراهيم على يد أبي جعفر المنصور في ملحمة أحجار الزيت المشهورة، ولم يكن أبو جعفر المنصور قد غفل عن أهمية الدعوة المهدوية حين ينسبها إلى ولده محمد ويلقبه بالمهدي ويسعى إلى فرض سطوة الحاكم على الأوساط العامة لتعتنق هذه الفكرة. وهو لم يؤمن بما دعا إليه طرفة عينٍ أبداً. وقد صرّح بذلك إلى أحد خاصته بأنه سمع محمد الباقر يقول إن المهدي من ولد فاطمة ولو لا محمد قال ذلك _ والكلام لأبي جعفر المنصور _ لم يصدّق ما ورد، الا أنه عالم آل محمد ـ أجل، لم يعتقد المنصور العباسي بمهدوية ولده إلا أن دوافع السياسة العباسية آنذاك تُملي أن يتحرك المنصور بإتجاه الدعوة المهدوية، لسد الطريق على القضية المهدوية الحقيقية وتسفيه هذا المعتقد لدى العامة من الناس، ولتفقد بريقها الذي يأخذ بالقلوب.
ما نعيشه اليوم هو المهدوية العباسية بعينها، حيث تسعى بعض الجهات إلى إرباك العقلية العامة بزج العديد من السذج في دعاوى مهدوية كاذبة، وليس هدف هذه الأوساط نجاح هذه الشخصيات المهدوية في تحقق هدفها المعلن عنه بقدر ما تحاول هذه الأوساط النيل من قداسة قضية الإمام المهدي ـ فقد رأت بعض هذه الأوساط أن عشق القضية المهدوية من قبل الأوساط الشابة يساعد على إنجاح أية دعوى مهدوية تثير أحاسيس ووجدانيات أولئك البسطاء من الناس وتبعث في نفوسهم الأمل المنشود في الخلاص وتعينهم على تحقيق أحلامهم في الإلتحاق بالإمام عليه السلام وكو لذا فهي تستجيب لأدنى دعوى يُنادى بها من قبل أي طرفٍ كان. وبالفعل ترى هذه المجاميع من الشباب ترتمي في أحابيل هذه المجموعة أو تلك وما تجد نفسها بعد قليل الا أنها مضللة بهذه الدعوى أو تلك. ولابد من أن تعاني هذه المجاميع المغرر بها من إحباطٍ قاتل يتعامل بعد ذلك مع قضية الإمام المهدي عليه السلام الحقيقية. بأنها مجرد دعوى كبقية الدعاوى المزيفة والتي جرّت إليهم الدمار والخراب وبهذا فقد حقق الأعداء أهدافهم المنشودة في:
١ _ تسفيه القضية المهدوية وإثارة السخرية منها.
٢ _ إحباط النفسية المتلهفة بلقاء الإمام واقتلاع هذا الإعتقاد من الذهنية العامة والتعاطي معه بأنه مجرد دعاوى شخصية غير حقيقية، حتى يصل الأمر إلى اشمئزاز هذه الأوساط من قضية الإمام، وعدم الإهتمام بها بعد أن جلبت لهم الويلات والمحن.
هذه أهم الأهداف لتلك الدوائر التي تسعى من خلق دعاوى مهدوية وتصديرها إلى الشارع العام لتحقيق أهدافها، ولا أراك تتردد في قبول مثل هذه الحقائق بعد أن تجد أن دولاً وأوساطاً مخابراتية تسعى لدفع بعض من له القابلية في تبني هذه الدعاوى الباطلة، وجر العديد من المغفلين اليهم، وإلا ما الذي يدعو حارث الضاري شيخ الإرهاب وفقيه القتل على الهوية وجهات أخرى إلى تبني مثل هذه التوجهات لتزج بالعديد من الشباب إلى محرقةٍ حقيقية. فضلاً عما تجلبه هذه الدعاوى من سمعةٍ سيئة لأولئك المتورطين بهذه الأضاليل. بعدما تناقلت الأخبار عن شيوع الإباحية بين هذه الخلايا التنظيمية، لجلب أكبر عدد من الشباب الذين وجدوا ان (إمامهم) والعياذ بالله قد أباح لهم ارتكاب كل محظور وهم في حلٍ من كل هذه الملاذ والمغريات وهو بعد ذلك يعدهم بالجنة بغير حساب.
هذه هي محنة القضية المهدوية حينما تمر بهذه التجاوزات دون أن نلتفت إلى أسباب نشوئها ونتائجها المترتبة، وسنشير إلى هذين المحورين بشكلٍ موجز:
المحور الأول: أسباب النشوء
ان المنهج المعرفي لكل قضية يستند إلى عوامل عدة يشكل كلٌ منها منهجاً مستقلاً، فالعامل الروائي، والعامل العقلي، والعامل الاجتماعي وغيرها من العوامل الأخرى تشكّل في مجموعها منظومةً معرفية تساهم في رفد العقل بمجمل قضية الإمام أو تفاصيلها، الا أننا نشعر بالقصور في تنظير هذه المناهج. فالروائية المتطرفة التي لا تقبل معها إلا ما ورد من روايات في هذا الشأن والجمود على النصوص دون التعدي إلى تحليلها مما كشف عن عدم الكفاءة في إدارة القضية المهدوية بما ينسجم وتطلعات القواعد. فضلاً عن توجهات النخب وبواعثها العلمية والثقافية التي تؤهل العقلية العامة إلى قراءة القضية بكل توجهاتها.
كما أن المنهج العقلي لم يكن له حضوره الفعال في قراءة القضية المهدوية، بل يشط حتى يؤدي بناحية إلى الخطل، أو يجيش حتى يوقع صاحبه في مهاوي الهلكة، وهكذا تجد المنهج العقلي غير رشيدٍ في كثير من تحرياته وبحثه فهو يتطرف أحياناً ليصل إلى حد القطيعة لكل ما هو مطروح ووارد برواياتٍ لا تقبل الرد أو الطرح.
كما ان العامل الاجتماعي سعى إلى منهجة القضية المهدوية وتنظيرها بما ينسجم وتطلعاتِ المجتمع إلا أنه تحت ضغطٍ سياسي أو مصلحة معينة يتوجه لتحقيقها.
اذن لم تنضّج المناهج المعرفية لقراءة القضية قراءةً واعيةً مسؤولة.
اننا نعيش ضمن حربٍ إعلاميةٍ مسعورة. والقضية المهدوية إحدى هذه الأهداف المحددة، فهل استطاع إعلامنا أن يقارع الإعلام المضاد؟ وهل استطاعت جملة الفضائيات العاملة في الساحة الإعلامية أن تتحمل مسؤولياتها بكل جدارة؟ أم أن فضائياتنا _ وللأسف _ تعيش حالة الهوية والحزبية المغلقة، أي أنك تجد فضائياتنا الشيعية تبرمج خطابها بآلياتٍ لم تكن قادرة على إيفاء الموضوع حقه حتى تولج بعض المحسوبين في تقديم وعرض قضية ما وهي لم تزل غير مؤهلة لاستيعابها فكيف تقدمها للجمهور؟ ووسائل الإعلام هذه تعيش تحت وطئة الفئوية غير القادرة أن تخدم قضيتها خدمةً ممتازة، الا أننا لا ننفي مساهمة هذه الفضائيات في رفع المستوى الثقافي للمتلقي بمقدارٍ لا بأس به، والقضية المهدوية إحدى هذه الضحايا الإعلامية التي ترزح تحت وطأة الإعلام المضاد، أو الإعلام غير الناضج، فالإعلام المضاد ينتزع كل مظاهر اللياقة والأدب ليتمادى في تخرصاته وأقاويله، فهو يتنكر لحقائق إسلامية بديهية تمتلئ بها المصادر الحديثية دون أدنى ريب. الا أن هذه الجهات الإعلامية تتنكر بشكل مجحفٍ في حق هذه القضية الإسلامية.
أما الإعلام غير الناضج فلا يستطيع تقديم القضية المهدوية بشكلها المناسب، وبما ينسجمُ وتطلعات الشرائح المثقفة الواعية أو الشابة العاشقة لهذه القضية الإلهية، حتى تكاد هذه الإعلاميات أن تقف إزاء هذه القضية وقفة المجامل فحسب، أي أنها تسعى لتقديم (هامشيات) في القضية المهدوية دون أن تحسب لها حسابها الخطير، بل تتعاطى معها على أساس اللامبالاة تماماً الا في أوقات المناسبات فقط _ وهي أهون التقديرين _ وهكذا تتجاذب القضية المهدوية نزعات السياسة وتطرفات البسطاء ولا مبالاة النخب، وجهل المتصدين لتفرز رؤية غير رشيدة تطيح بهذه القضية فتحيلها إلى قضيةٍ مفروغة المحتوى.
فالسياسة لها مبرراتها التي لا تنسجم والقضية المهدوية حتى تدفعها إلى متاهات المدعيات الكاذبة من أجل الحصول على مصالحها الخاصة. والشواهد التاريخية تشير إلى مدعيات الأمويين في عمر بن العزيز وجعله المهدي المرتقب غاضةً عن كل ما ورد في مهدي آل محمد. وانه من ولد فاطمة وصحاح الفريقين شاهدة على ذلك، والمهدوية العباسية تستذكر مساعي المنصور العباسي في خلق شخصية المهدي من ولده محمد ناهيك عن مدعيات المهدي السوداني، ومحمد بن عبد الله بن تومرت البربري، والحسين بن زكرويه بن مهدويه القرمطي، ومهدي تهامة، وأحمد بن مرزوق، وأحمد بن عبد الله بن هاشم المعروف بالملثم، ومحمد بن الحسن النصيري، وتمرتاش، وحسن بن عبد الله الافلاطي، ومحمد بن يوسف الجونبري، وشمس الدين محمد بن أحمد الفرياني، وأحمد بن عبد الله السجلماسي المغربي، ومحمد ابن إسماعيل بن عبد الغني بن الشاه ولي الله الدهلوي. وقد ادعيت المهدوية له المقتول في حرب السيخ بالهند سنة ١٢٤٦ هـ وعلي محمد رضا الشيرازي زعيم الطائفة البهائية، وغلام محمد بن محمد القادياني الهندي، إلى غير ذلك من المدعين للمهدوية أو المدعى لهم، والذي نريد قوله أن ما حدث في الآونة الأخيرة من دعوى المهدوية هي ضمن قائمة طويلة من الدعاوى المهدوية التي تبيح كل محظور من أجل تحقيق أهدافها وغاياتها، لذا فلا تشكل هذه الحركة الأخيرة من دعوى المهدوية إحباطاً لحالة التعلق والشوق للإمام المهدي عليه السلام ، بل تزيدنا يقيناً أن قضية الإمام المهدي عليه السلام تشكّل خطراً حقيقياً وتهديداً يحسب أعداؤنا له حسابه وكونه النصر الحقيقي لأتباع أهل البيت عليهم السلام يراد الإطاحة به، وهيهات أن يصلوا جميعهم إلى غايةٍ من هذه الغايات فإن المهدي بن الحسن العسكري من آل محمد نور الله في أرضه، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، ولو كره المشركون، ولو كره المنافقون.