اختفاء النبي يونس عليه السلام
وقابلية البقاء إلى يوم يبعثون
سماحة الشيخ نزيه محيي الدين
الحوزة العلمية في النجف الأشرف
قال الله عزّ وجلّ:
(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ *إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ*فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ * فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ * أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ).(١)
قصة النبي يونس عليه السلام واضحة في اختفائه في بطن الحوت (نون)، ولكن هناك إشارة غريبة ترافق هذا الاختفاء الغامض وهي: قابلية بقائه وبقاء الحوت إلى يوم البعث على حاله، وهذا أمر يحتاج من المسلم المنصف أن يفكر فيه جيداً، قال تعالى (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
هنا نحن أمام ظاهرة غريبة وفريدة وهي الوعد بأن يونس كان يمكن ان يخلد في بطن الحوت ـ الذي ينبغي أن يكون نفسه قابلاً للبقاء ـ لو لا أنه من المسبحين فأخرجه الله نتيجة تسبيحه، وهذا لا يحتاج إلى أدلة، فالنص ظاهر وواضح.
فإذن ما معنى أن يكون قابلاً للبقاء في بطن حوت إلى يوم البعث؟
هنا يمكننا القول بأن هذه الآية الكريمة تثبت إمكانية البقاء حياً، وإمكانية الاختفاء مع كونه نبياً مرسلاً لم تسقط نبوته بالإختفاء.
والآية حين عالجت الإمكان قالت بوقوع الغيبة والحياة في ظرف لا يمكن وصفه بأنه ظرف قابل لحياة إنسان وهو في بطن حوت كبير.
ملاحظة: يمكن ان يُدّعى بأن النص السابق ينافي نصاً آخر في القرآن، مفاده انه لو لا رحمة الله لنبذَ الحوتُ يونسَ في العراء، وهذا قد يتعارض مع الآية السابقة، ومفادها لولا كونه من المسبحين لبقي في بطن الحوت إلى يوم يبعث الخلق. قال تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).
والحل بسيط: وهو أن لا تعارض، فان الآية الأولى تنظر إلى كون التسبيح لله جعله خارج دائرة الخلود في بطن الحوت. وهو نوع من العذاب، بينما الآية الثانية الآتية تنص على ان رحمة الله ونعمته وقّتتْ زمن ومكان إنزال يونس عليه السلام في مكانٍ أخضر فيه حياة، ولولا تلك الرحمة لنبذ في العراء، وهو مكان لا حياة فيه. فلا تعارض مطلقاً، أي لو أراد ان يبقيه معذباً في بطن الحوت لبقي إلى يوم يبعثون، ولو أراد الله ان يهلكه لنبذه في العراء.
هناك نصوص تدل على ان ليونس غيبة قصيرة، ويبدو ان أهمية هذه الغيبة هي وعيد الله بإمكانية أن تكون ليوم يبعثون ولكن حصل أمر من الله في هذا الشأن.
فقد رويت في بحار الأنوار قصة يونس بسند العياشي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي قصة طويلة جداً سنقتطع منها بعض مواضع الحاجة ولمن يريد المزيد عليه مراجعة بحار الأنوار ج٤ ص ٣٩٢ ـ ٣٩٧.
تفسير العياشي: عن أبي عبيدة الحذّاء، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول: وجدنا في بعض كتب أمير المؤمنين عليه السلام قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن جبرئيل عليه السلام حدثه أن يونس بن متى عليه السلام بعثه الله إلى قومه وهو ابن ثلاثين سنة، وكان رجلاً يعتريه الحدة، وكان قليل الصبر على قومه والمداراة لهم، عاجزاً عما حمل من ثقل حمل أوقار النـبـوة وأعـلامـها، وأنه يفسخ تحتها كما يفسخ الجذع تحت حمله، وأنه أقام فيهم يدعوهم إلى الإيمان بالله والتصديق به وأتباعه ثلاثاً وثلاثين سنة، فلم يؤمن به ولم يتبعه من قومه إلا رجلان: اسم أحدهما روبيل واسم الآخر تنوخا، وكان روبيل من أهل بيت العلم والنبوة والحكمة، وكان قديم الصحبة ليونس بن متى من قبل أن يبعثه الله بالنبوة، وكان تنوخا رجلاً مستضعفاً عابداً زاهداً منهمكاً في العبادة وليس له علم ولا حكم.
وذكر قصة طويلة جداً وممتعة حقاً، ملخصها ان النبي يونس عليه السلام رغب في إهلاك قومه نتيجة كفرهم وعتوهم، فوعده الله بذلك وأخبر قومه، ولكن مستشاره الأمين نبه الناس للعذاب وذكّرهم الله، فضجوا بالاستغفار والبكاء حين رأوا بدايات الكارثة، فعفا الله عنهم، وحين جاءهم يونس ليتأكد من هلاكهم وجدهم بأتم حال، فهرب مستحياً معتقداً في نفسه الخذلان، فحصل له ان التقمه الحوت وحدث له ما حدث ورجع إلى قومه وقد آمنوا به وحسن حالهم.
ثم قال الراوي:
(قال أبو عبيدة: قلت لأبي جعفر عليه السلام: كم كان غاب يونس عن قومه حتى رجع إليهم بالنبوة والرسالة فآمنوا به وصدقوه؟ قال: أربعة أسابيع).
وقد ذكر الإمام الرضا عليه السلام تصحيحاً لرواية راوٍ اتهمه بالكذب على الإمام الصادق عليه السلام ، حيث قال إن لصاحب هذا الأمر غيبة كغيبة يونس عليه السلام. وهذا التشبيه بالغيبة له توظيف عقلي واضح. وهو نفي استحالة الغيبة بوقوعها فعلاً من النبي يونس عليه السلام.(٢)
عنه عن أبي عمر قال: سمعت حمدوي قال: حدثني علي بن محمد بن قتيبة قال: حدثني الفضل قال: حدثنا محمد بن الحسن الواسطي ومحمد بن يونس قالا، حدثنا الحسن بن قياما الصيرفي قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام وقلت: جعلت فداك ما فعل أبوك؟ قال: مضى كما مضى آباؤه. فقلت: كيف أصنع بحديث حدثني به زرعة بن محمد الحضرمي عن سماعة بن مهران أن أبا عبد الله عليه السلام قال: إن ابني هذا فيه شبه من خمسة أنبياء: يحسد كما حسد يوسف عليه السلام ، وغاب كما غاب يونس، وذكر ثلاثة أخر؟ قال: كذب زرعة ليس هكذا حديث سماعة إنما قال: صاحب هذا الأمر ـ يعني القائم عليه السلام فيه شبه من خمسة أنبياء، لم يقل ابني).
وقد بيّن السيد اللواساني قضية مهمة وهي أن ذكر غيبة يونس ليست للمقارنة بالزمن وما شابه ذلك، وإنما لإثبات الإمكانية، فمادامت الغيبة ممكنة ليونس عليه السلام فهي ممكنة لغيره، ولهذا لا مجال للاعتراض بأن غيبة يونس عليه السلام قصيرة لأقل من شهر بينما غيبة المهدي عليه السلام طويلة تجاوزت الألف عام. فهذا لا علاقة له بما يراد من إثبات غيبة يونس عليه السلام.
(ولا مجال لنقض المعارضة بالفرق بين غيبته وغيبة هذا الإمام بقصر مدة غيبة يونس عليه السلام وطول زمان غيبة الإمام، بأن يقال بإمكان الأول دون الثاني، فإن الفرق غير فارق (و) ذلك لوضوح أنه (ليس في طول الزمان والقصر) فيه من حيث الإمكان وعدمه (ما يوجب الفرق) في قدرته تعالى، فإن المولى الذي أدام حياة ذاك النبي في غيبته وحده منفردا في المغارات والبراري مع حاجته التامة إلى جميع لوازم البشرية قادر أيضاً على إدامة حياة هذا الوصي كذلك، من غير عجز ولا فتور (فأمعن النظر)).