غيبة الإمام المهدي عليه السلام بين الشك واليقين
بقلم الأستاذ: نجم عبد الحسين جبار
عضو اتحاد الصحافة الإسلامية في العراق
من المعلوم المسلّم لدى الجميع ان الإسلام قد جعل العقل أساس العقيدة ومرتكز الإيمان، ونهى عن التقليد الأعمى والتبعية العشواء، وفرض ضرورة استناد أصول الاعتقاد في مجملها إلى العقل معتمدة عليه ومستمدةً قوتها وصلابتها منه وحده، دونما مشاركة شيء آخر من هوى النفس واندفاع العاطفة واتباع الآخرين بلا حجة، وهكذا كان العقل هو القائد إلى الإيمان بالله تعالى وهو المرشد نحو الاعتقاد الثابت بوجوده ووحدانيته، ثم كان العقل أيضاً هو الدليل على ضرورة النبوة والإمامة والمعاد تفريعاً عن الإيمان بالله عز وجل، أما أحكام الشرع ومسائل الدين فليست بحاجة إلى دليل عقلي خاص بكل مفردة منها على حدة، وليس لازماً أن يقام عليها مثل هذا الدليل بعد أن كان الأساس قائماً عليه بل يكفي في وجوب الاقرار بها مجرد ورود النص عليها بالطرق الشرعية المقررة للتعبد بالنصوص، ومن هنا آمن المسلمون بصدق ويقين بمسألة وجود الملائكة مثلاً أو تكلم عيسى عليه السلام في المهد أو تسبيح الحصى بيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لورود النص على ذلك، إما في القرآن الكريم أو السنة الصحيحة المتواترة.
واننا عندما نبحث موضوع المهدي وغيبته إنما نبحثه مع المسلمين المعترفين بأصول الإسلام وأسس التشريع دون غيرهم من منكري وجود الله تعالى أو غير المقرّين بالإسلام، وذلك لأن المسألة معتمدة في جوهرها على الاستدلال بالقرآن المجيد والسنة النبوية الشريفة فلا يصح الكلام فيها مع من لا يؤمن بالكتاب والسنة. أي اننا نبحث هذا الموضوع على أساس الاعتقاد الديني المستند إلى الأدلة الشرعية التي أجمع المسلمون على وجوب العمل بها، أي اننا سنبحث هذه المسألة بكل جوانبها في ضوء الكتاب والسنة لأنها مصدر التشريع وباب المعرفة عند المسلمين وان انكارهما والخروج عليهما انكار للإسلام وخروج على أحكامه وتكاليفه.
وفي ضوء السنة النبوية نجد ان النصوص النبوية الشريفة التي رواها حفاظ الحديث ومنهم من اتفق المسلمون على صحة ما حدثوا به في ذلك تكرر ذكر كلمة (الغيبة) كثيراً وفي بعضها تكون له غيبة وحيرة تضل فيها الأمم(١) وفي أخرى يغيب عن أوليائه غيبة لا يثبت على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه للإيمان،(٢) وفي حديث ابن عباس: يبعث المهدي بعد اياس وحتى يقول الناس لا مهدي،(٣) وفي حديث آخر وهو طويل جاء فيه نقلاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذي بعثني بالحق بشيراً ونذيراً ان الثابتين على القول بامامته في زمان غيبته لأعز من الكبريت الأحمر فقام إليه جابر بن عبد الله الأنصاري فقال: يا رسول الله وللقائم من ولدك غيبة قال: إي وربي ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين. ثم قال: يا جابر، ان هذا أمر من أمر الله وسر من سر الله فإياك والشك فإن الشك في أمر الله عز وجل كفر.(٤)
ان كلمة (الغيبة) كما وردت في الأحاديث المارة الذكر وكما يقتضيها سياق الكلام لا تعني إحياء المهدي بعد موته وإعادته إلى الدنيا بعد وفاته، وإنما هي ناظرة إلى اختفائه واحتجابه عن الناس وعدم رؤيتهم إياه ومشاهدتهم له، وهذا هو المتبادر إلى الأذهان عند قراءة تلك الروايات والوقوف على كلمة (الغيبة) المتكررة فيها، ومما يزيد المعنى تأكيداً ما ورد في الحديث النبوي الشريف الذي اتفق المسلمون على روايته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، أو من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية، إذ هو صريح في ضرورة وجود إمام حي في كل عصر وحين بما يشمل حالتي الغيبة والحضور، والقول بوفاة المهدي عليه السلام مع كونه مخالفاً لأحاديث الغيبة وحديث استمرار الإمامة.. لم يشتهر في مصادر التاريخ ولم يعرف خبره على ألسنة المؤلفين. متى مات... وفي أي يوم وشهر وسنة... ومتى شيع ومن حضر تشييعه... وأين دفن وفي أي بلد.. ولماذا لم تعلن الجهات الحاكمة تلك الوفاة لتتخلص من تمسك شيعته بالإيمان بوجوده؟؟ ان هذا كله يؤكد ان المهدي حي لم يمت وانه اختفى عن أعين أعدائه حفظاً لحياته ونجاة بنفسه، وكان اختفاؤه هذا على مرحلتين:
الأولى: اختفاؤه عن أعين الناس حينما هجم جيش الخليفة على دار الإمام العسكري عليه السلام إثر وفاته وكان يتصل خلال هذا الاختفاء المسمى بـ (الغيبة الصغرى) بالثقات المخصوصين من وكلائه وسفرائه وأصحابه ويتسلم منهم رسائل شيعته وأسئلتهم ويمدهم بالأجوبة والردود عليها لإيصالها للسائلين والمستفهمين.(٥)
الثانية: اختفاؤه الكامل عن كل الناس بحيث لا يتصل به أحد مطلقاً وهو الاختفاء المسمى بـ (الغيبة الكبرى) ويقوم في آخرها بالسيف ليطهر الأرض من الجور والظلم ويتحقق وعد الله تعالى بقوله في كتابه المجيد: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ). وقوله عز وجل: (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ).
وكان الشيخ الطوسي قدس سره قد توقف لأكثر من مرة في بحثه المعني بالغيبة وشؤونها عند سبب الغيبة والاستتار وعلة ذلك، فقال في بعض ما أفاد به: مما يقطع على أنه سبب لغيبة الإمام هو خوفه على نفسه من القتل باخافة الظالمين إياه ومنعهم إياه من التصرف فيما جعل إليه التدبير والتصرف فيه. واذا خاف على نفسه وجبت غيبته ولزم استتاره، كما استتر النبي صلى الله عليه وآله وسلم تارة في الشعب وأخرى في الغار ولا وجه لذلك إلا الخوف من المضار الواصلة إليه. فأما التفرقة بطول الغيبة وقصرها فغير صحيحة لأنه لا فرق في ذلك بين القصر المنقطع والطويل الممتد، لأنه اذا لم يكن في الاستتار لائمة على المستتر اذا أحوج إليه... جاز أن يتطاول سبب الاستتار كما جاز أن تقصر أيامه، فإن قيل: اذا كان الخوف أحوجه إلى الاستتار فقد كان آباؤه عليهم السلام عندكم على تقية وخوف من أعدائهم فكيف لم يستتروا؟ قلنا: ما كان على آبائه عليهم السلام خوف من أعدائهم مع لزوم التقية والعدول عن التظاهر بالإمامة... وامام الزمان عليه السلام كل الخوف عليه لأنه يظهر بالسيف ويدعو إلى نفسه ويجاهد من خالفه عليه... على أن آباءه عليهم السلام متى قتلوا أو ماتوا كان هناك من يقوم مقامهم ويسد مسدهم... وصاحب الأمر عليه السلام بالعكس من ذلك لأن من المعلوم أنه لا يقوم أحد مقامه ولا يسد مسده فبان الفرق بين الأمرين.(٦)
بعد ثبوت ما تقدم بيانه من وجود المهدي واختفائه واستمرار حياته إلى اليوم يقفز إلى الذهن سؤال رئيس وملح يدور حول إمكان بقاء الإنسان على قيد الحياة طوال هذه السنين وهل يقر العقل البشري بذلك؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال نود أن نذكر القارئ بما سلف منا ذكره من أن حقائق الشرع إذا ثبتت بالنقل الصحيح فإننا بحكم كوننا مسلمين ملزمون بالتعبد بذلك وقبول ما ورد النص عليه ولو لم تهتدِ عقولنا لفهم فلسفته وادراك سره وليس يسوغ لنا انكار شيء من تكاليف الدين الأساسية بدعوى الجهل بوجه الحكمة والعلة فيه، وبحجة عدم فهم السر أو عدم الاقتناع بالأمر، أما طول العمر وامتداد الحياة مئات من السنين فليس مستحيلاً كما يتصور بعض المتصورين، فقد روى المؤرخون وقوع ذلك كثيراً في تاريخ البشرية الطويل، فآدم عليه السلام عمر ألف سنة ولقمان عمر ثلاثة آلاف وخمسائة سنة وسلمان الفارسي عمر طويلاً في الأرض وادعى بعض المؤرخين انه عاصر المسيح عليه السلام وأدرك الإسلام وتوفي في أيام عمر بن الخطاب إلى كثير وكثير ممن عمّر مئات السنين وروى خبرهم المؤرخون وبخاصة السجستاني الذي جمع أخبارهم في كتاب سماه (المعمرون) وهو مطبوع معروف. هذا من ناحية الاثبات التاريخي.
وأما القرآن الكريم وهو أصدق الكلام وأقوى الحجج فقد قال الله تعالى وقوله الحق: إن نوحاً عليه السلام لبث في قومه يدعوهم إلى الله (٩٥٠) عاماً والله أعلم بما عاش قبل البعثة والدعوة وبعد الطوفان، وان يونس عليه السلام بقي حياً في بطن الحوت مدة من الزمن ولولا فضل الله عليه لبقي في بطنه إلى يوم القيامة: (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ومعنى هذا بقاؤه حياً إلى يوم القيامة وبقاء الحوت حياً معه خلال هذه الآماد المتمادية، وان أهل الكهف (لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) ولا نعلم كم عاشوا قبل دخولهم في الكهف وبعد خروجهم منه، هذا كله بالاضافة إلى ما تناقله مؤلفو السير ورواة رجال الحديث وتلقوه بالإقرار والقبول من حياة العبد الصالح الخضر من قبل زمان النبي موسى عليه السلام وإلى آخر الزمان، فهل نصدق بكل ذلك الذي نطق به القرآن واستفاضت به السنة أم نكفر به؟ وهل يصح منا إنكاره ورفضه بمجرد ادعاء ان العقل البشري بمستواه الحاضر لم يدرك بعد أسرار هذه الأمور ولم يكشف خباياها المجهولة؟
إن موضوع غيبة الإمام المهدي عليه السلام قائم على هذا الأساس بالضبط ولابد لنا من القول باستمرار حياته جرياً مع تلك النصوص وتصديقها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى) وتنفيذاً لأمر الله تعالى في قوله: (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) إذ يكون الإيمان بذلك مساوقاً للإيمان بعمر نوح ولبث يونس في بطن الحوت وولادة عيسى من غير أب وبقاء الطعام والشراب مائة عام دون أن يصيبه التلف. وإلى هذا المعنى يشير الحافظ الكنجي وهو يتحدث عن المهدي عليه السلام: ولا امتناع في بقائه بدليل بقاء عيسى وإلياس والخضر من أولياء الله تعالى، وبقاء الدجال وابليس الملعونين من أعداء الله تعالى، وهؤلاء قد ثبت بقاؤهم بالكتاب والسنة وقد اتفقوا عليه ثم أنكروا جواز بقاء المهدي.(٧) ويزيد الشيخ الطوسي الموضوع بياناً فيقول: فأما ما يعرض من الهرم بامتداد الزمان وعلو السن وتناقص بنية الإنسان ليس مما لابد منه... وهو تعالى قادر أن لا يفعل ما أجرى العادة بفعله.. واذا ثبتت هذه الجملة ثبت ان تطاول العمر ممكن غير مستحيل.(٨)
واذا كان النص القرآني والحديث الشريف قد دلا على إمكان بقاء الإنسان حياً أكثر من ألف عام وعلى وقوع ذلك في الأمم السابقة فلا يصح عده شيئاً فوق العلم وفوق العقل، بل ان العلم الحديث يصرح بأنه بامكان الإنسان البقاء آلاف السنين لو تهيأت له وسائل المحافظة على القوى البدنية ما يساعده على البقاء، وان العلماء الموثوق بعلمهم يقولون: ان كل الأنسجة الرئيسية من جسم الحيوان تقبل البقاء إلى ما لا نهاية وانه في الإمكان أن يبقى الإنسان حياً آلافاً من السنين إذا لم تعرض عليه عوارض تصرم حبل حياته.(٩) واذا صح إمكان عمر الإنسان بحسب الاستعداد والطبيعة كان ممكناً بل صحيحاً بالقطع واليقين طول عمر المهدي عليه السلام طيلة هذه القرون بحسب الطبيعة (أولاً) وبحسب ما يضاف إليها (ثانياً) في الإرادة الإلهية القائلة للشيء كن فيكون، لذلك إن الارتياب والشك بوجود المهدي أثناء غيبته ناشئ في واقعه من الانحراف والفساد الموجود في هذا العصر وأما لو خلي الفكر الإنساني المستقيم ونفسه لما رقى إليه الشك، ومن هنا نرى أن أولياء الله الصالحين الذين ليس للفتن طريق إلى قلوبهم ولا للضغط والظلم طريق إلى قوة إرادتهم لا يرقى إليهم الشك في المهدي عليه السلام لأن العوامل النفسية والموانع المنحرفة لذلك غير موجودة لديهم فيبقون على الفطرة التي فطر الله الناس عليها من الإيمان بقدرته وحكمته فيسلمون بنتيجة الدليل القطعي الدال على وجود المهدي عليه السلام.
وبعد:
فإن البشرية التي تعيش اليوم أعقد ظروفها الفكرية والاجتماعية وأخطر مراحلها الحضارية المجهولة العواقب في أمسّ الحاجة إلى هذا المصلح المنتظر الذي لا شك أنه سيطلع عليها قطعاً في يوم من الأيام نرجو أن يكون قريباً ليقود ركب الإنسانية إلى غايته المثلى ويحمله على انتهاج الصراط المستقيم وان العقل البشري المسلم منه وغير المسلم ليتطلع إلى مثل هذا المنقذ المنتظر بمنتهى الشوق واللهفة ويقر بحتميته وضرورته حتى لو لم يكن هناك نص عليه أو إشارة إليه.