محنة ثقافات الاغتراب (الجليدي)*
بقلم: راصد
في مقالةٍ نشرها الأستاذ غالب الشابندر ينتقد فيها نشاط مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عليه السلام الذي كُلّف من خلاله ثلاثة من أساتذة الحوزة العلمية لإلقاء محاضرات في شأن الإمام المهدي عليه السلام، وكان الأستاذ متحاملاً كثيراً ـ بل لقد فقد بعض لياقته التي ينبغي أن تتوفر في أمثاله عند نقد ظاهرة معينة ـ وكان الأستاذ متشنجاً حتى أنه أطلق بعض التعبيرات غير المسؤولة في وصف هؤلاء الأساتذة الأجلاء بعدم إدراكهم لمعنى الدولة وشؤونها الرسمية، وكأنها إشارة إلى المعرفة المتجذرة لمعنى الدولة ومفهومها التي كتب من خلالها الميرزا النائيني (تنبيه الأمة) في شرح وافٍ للدولة الديمقراطية، أو تناسى فهم هؤلاء العلماء لسيادة الدولة المستباحة حين أعلنوا الجهاد ضد الاحتلال البريطاني آنذاك، أو تغافل عمن كتب الدستور وهم نخبة من رجال الدين إضافة إلى أكاديميين فهموا الدولة غير ما يفهمه الشابندر ليلقي باللائمة على أولئك الذين أدركوا واجبهم الديني والوطني إزاء قوات الشرطة البطلة، التي كانت متلهفة لاستماع نصائح وإرشادات العلماء، للتعريف بمسؤولية هذه القوات حيال وطنهم المستباح من فتاوى التكفيريين وأنصاف الدينيين، الذين خلطوا بين ثقافة الاغتراب وبين ثقافة التهميش للمبادئ والمتبنيات، حتى تولدت رؤية ثالثة ترتضع من ثقافات الآخر. فالتنظير الذي يطلقه هؤلاء من على قمم الجبال الجليدية يأتي بارداً ببرودة تحسسهم لمآسي وطنهم فلا يحمل دفء الحنان والحب لوطن أرهقته الرؤى غير المسؤولة، وهم ينظرون إلى الواقع العراقي على بعد آلاف الكيلومترات ومن زاويتهم الضيقة ولم يكتووا بصيف الانقطاع الكهربائي الدائم.
إن قلق الأستاذ الشابندر على وحدة الوطن واحترام الدستور يفترض أن ينطلق من النزول إلى كل بقعة من بقاع الوطن المستباح، والمشاركة في هموم هذا الشعب الممتهن، أما أن تكون التنظيرات منبعثة من ثقافة الإغتراب فلا، كما نتمنى على الأستاذ أن يقتدي بحرص أولئك الأساتذة الذين عادوا إلى العراق بُعيد سقوط النظام متحدّين كل الأخطار ونقص الخدمات من أجل مشاركة شعبهم في هذه المأساة وعن قرب، في حين تنحدر تنظيرات الأستاذ الشابندر من برج عاجي على توصيات اعتاد أن يطلقها هؤلاء المنظرون لرجال الدين، والدروشة في نظر الأستاذ الشابندر هي إحدى موانع تقدم رجل الدين القابع في أزقة النجف التي لا تعرف لنهايتها إلا بداية الأخرى في دائرةٍ مغلقة من المكان والزمان.
إن خطاب الشابندر لرجال الدين لا ينطلق من فراغ بل هو وليد إحساس الفراغ المعرفي الذي تصوره الأستاذ في بعض كتاباته، وليت حديث الظاهرة السيستانية قد استذكره قبل نقده هذا والتي أول من أطلقها الأستاذ الشابندر في بعض الإصدارات تُظهر حرصه غير المشكوك فيه على تمنياته في بروز الموقف الشيعي موقفاً ناضجاً، إلا أنه وللأسف ـ لا يزال يعيش في حالة خيبة أمل ـ تصورها بسبب قبليات عاشها تحت ظروفٍ معينة ألجأته أن يتمرد على الواقع العملي لرجال الدين.
إن الأستاذ في نقده حرص على أن لا تُسيس مثل هذه المراكز الحكومية لصالح فئة دون غيرها، وقد فات الأستاذ أن ثقافة الفكرة المهدوية هي إحدى آليات الوحدة بين أطياف ومكونات الشعب العراقي، فالطوائف الإسلامية ـ خصوصاً القاطنة في العراق ـ لا تختلف على حقيقة وجود الإمام المهدي عليه السلام، وكتب الصحاح السنية تشير بقدرٍ موازٍ في أحاديثها المهدوية لكتب الحديث الشيعية بل جعلوا قضية الإمام المهدي عليه السلام من المتواترات التي لا يختلف عليها اثنان، فضلاً عن كون قضية الإمام المهدي عليه السلام مسألة أخلاقية قبل أن تكون عقائدية صرفة، فشعار الإصلاح المهدوي الذي تؤطره الثقافة المهدوية هو منطلق ناضج ورشيد للإصلاح الوطني الذي يجب أن يتحلى به رجل الشرطة، على أن الطابع الأخلاقي قد طغى على محاضرات السادة العلماء، فما الضير أن يعبّر كل مكوّن عراقي عن إرادته في الثقافة الدينية وغيرها لكن تحت مظلة العراق الواحد؟
ومما يؤسف له أن المعطيات التي أوقعت الأستاذ الشابندر تنطلق من تشاؤمه لسلوكية رجل الدين بعد أن أطلق الظاهرة السيستانية في الوحدة الوطنية، فهل يا ترى سيكون هؤلاء العلماء الذين تحركوا في الإطار المرجعي خارجين عن هذه الظاهرة المباركة؟
ان فهم الشابندر للتثقيف على أصالة المتبنيات الدينية ساذج جداً، فقد خلط بين الوعي الوطني والأخلاقي والفكري وبين الفتنة الطائفية التي تغاضى عمن أطلقها وكان السبب في إيقاظها.
وفي نصائح الشابندر تجد العجيب إذ هو يرشد علماء الدين في كيفية التحرك على الساحة التبليغية وينصح بإعتماد التحرك في الجوامع والحسينيات ويتهمهم بالفشل في حركة التبليغ حتى راحوا يبحثون في مراكز التدريب ودوائر الدولة في من يسمع منهم ويعير إليهم اهتمامه، وهي مأساة مدّعي الثقافة حين يشعرون (بالنرجسية الثقافية) ويـطـلـقون التهم بدون وازعٍ أخـلاقـي، وإذا فات الأستاذ الكاتب حركة هؤلاء العلماء التبليغية بين محافظات العراق وأقضيته ونواحيه وكيف أن برامج التثقيف المهدوي امتدت من الجوامع والحسينيات وشملت المدارس والجامعات ووصلت مراكز الشرطة وكل منتديات الحياة.. وإذا كانت هذه الحركة التبليغية تُرعب الأستاذ الشابندر ليتوجس منها الطائفية، فإن في محاولاته الامتهانية حيال علماء الدين ورجال الحوزة ألف تساؤل ولا زالت كراساته التسويقية شاهدة على حرصه المدعى.. وحقيقته الغائبة..
وأخيراً فليُهنأ الأستاذ الشابندر ما كتبه صعاليك النظام الصدامي وخفافيش الظلام التكفيري مرحبين بمبادرته الخاسرة. فهل من اعتذار يتلافى ما فات على الأستاذ من حقائق، أم هي شنشنةٌ أعرفها من أخزم؟!!