قصة قصيرة
قناديل مهدوية في حي الحسين
السيد طارق الصافي
محرر في مجلة الإنتظار
مسافر في حياة الآخرين، هكذا كنت ولا أزال أفرح لفرحهم وأحزن لحزنهم وأشاركهم مفردات ودقائق أيامهم حتى ليخيل إلي بأنني أحمل هموم أمة، ربما يعود منشأ هذا الأمر إلى ما تعلمته من ديننا حول الاهتمام بشؤون المسلمين وغيرهم من نظائرنا في الخلق، وربما يتعارض هذا مع نظرية كثير من التجار الذين يسعون لتحقيق منافع شخصية حتى ولو كانت على حساب غيرهم، لكنه مبدأ مرفوض جملة وتفصيلاً لدي ولعل هذا هو سر نجاحي في عملي، وهو ما اكسبني الكثير من المحبين كصديقي الإماراتي (صالح)، هذا الفتى الصادق، المؤتمن، ذو الأخلاق الرفيعة الكاشفة عن روح شفافة لا تطلب إلا الحقيقة، والتي بينها لي تعدد اللقاءات بيننا في دبي عند ذهابي إليها لإنهاء معاملات نقل بضاعتي إلى بيروت عبر الميناء. وها نحن اليوم معاً في مصر (أم الدنيا) في حي سيدنا الحسين في قلب القاهرة، للتعاقد على إنشاء شركة بيننا يقع فرعها الرئيسي في هذا المكان الشعبي الرائع الذي يشدك نحو الأصالة العربية شداً ويحكم قبضته عليها.
إلا اننا وما أن ينتهي الكلام في العمل حتى نتعرض للكثير مما نختلف فيه من آراء، تاريخية وعقائدية وفقهية وغيرها من المواضيع والتي ترجع جذورها إلى دراستنا الدينية المتخصصة في بلدينا في مقتبل عمرينا والتي تعتبر أهم رابط في صداقتنا لما بينته من تقارب واضح في أفكارنا ورؤانا.
ومنها مسائل مهمة حول الإمام المهدي، وفي أحد الأيام عرّفنا أحد نزلاء الفندق الذي نسكن فيه على الحاج (عبد المعين) صاحب مكتبة (الأنوار) المجاورة ليمين أحد الأزقة في الحي، ومن خلال تكرار زياراتنا له وإعجابا برصانة تفكيره وعمقه إذ تبيّن لنا انه شافعي المذهب اشعري العقيدة فقد ارتضيناه حكماً فيما اختلفنا فيه مستنجدين بولديه (كمال الدين) و (راضي)، الطالبين بكلية الشريعة بجامعة الأزهر، كلما أردنا الحصول على معلومات بواسطة الحاسوب. وأول مسألة تعرض لها (صالح) هي صحة الأحاديث الواردة بشأن المهدي بكونه من ولد العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث بادرنا الحاج بقوله:
_ بين يدي كما ترون (مجلة التمدن الإسلامي) وفيها مقال للشيخ الألباني يوضح فيه أن الروايات التي تدخل حلبة الصراع عند التعارض لا بد أن تكون متكافئة، وحيث ان روايات مهدوية العباس غير مكافئة لروايات مهدوية غيره فإنها لا تدخل حلبة التعارض فضلاً عن كونها معارضة لها أو حجة أو مقدمة عليها ونص العبارة يقول: (وهذه علة مدفوعة لأن التعارض شرطه التساوي في قوة الثبوت وأما نصب التعارض بين قوي وضعيف فمما لا يسوغه عاقل منصف، والتعارض المزعوم من هذا القبيل). ثم التفت الحاج إلى (كمال) وقال: اعتقد ان لديك جواباً تفصيلياً، فقال:
نعم، هناك بعض الأحاديث تبين ذلك، منها: ما رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال لعمه العباس: (إن الله ابتدأ بي الإسلام وسيختمه بفلان من ولدك وهو الذي يتقدم لعيسى بن مريم).
وهو ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخه، وهذا الحديث قد ضعف بمحمد بن مخلد العطار على ما نص عليه الذهبي في ميزان الاعتدال في الجزء الأول في الصفحة التاسعة والثمانين حيث قال: (رواه عن محمد بن مخلد العطار فهو آفته). أما الحديث الآخر فقد روي عن أم الفضل بنت الحارث الهلالية عن سعيد بن خيثم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (يا عباس فإذا كانت سنة خمس وثلاثين ومائة فهي لك ولولدك منهم السفاح ومنهم المنصور ومنهم المهدي). وهذا الحديث قد روي في تاريخ بغداد وتاريخ دمشق بالرغم من ضعفه بأحمد بن راشد الهلالي على ما ذكر الذهبي في ميزان الاعتدال حيث قال: (فهو الذي اختلقه بجهل). فهو بعيد دلالة عن المقصود غاية البعد كما لا يخفى على متأمل. وهناك حديث قد روي عن ابن حماد عن كعب (.... المهدي من ولد العباس) وهو بغض النظر عن سنده لتعدد طرقه وضعف بعضها وإرسال البعض الآخر إلا أن الروايات بمجموع مداليلها لا تدل على أن مهدي آخر الزمان هو من ولد العباس بل تدل على ان للعباس ولد يلقب بالمهدي وهذا ما حصل فعلاً وحكاه لنا التاريخ.
تبسم (صالح) وكأنه كان يعرف النتيجة مسبقاً وقال:
كنت ادري أن الرد سيكون كذلك ولكن لدي قضية أخرى هي الهدف من تعرضي للمسالة الأولى، فقد دونت في هذه الورقة هذا الحديث (لا تذهب الدنيا حتى يبعث الله رجلاً من أهل بيتي، يواطي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي). خرجه ابن شيبة في المصنف والطبراني في المعجم الكبير والحاكم في المستدرك وبلفظ قريب لأبي داود في سننه وكلهم عن عاصم بن أبي نجود عن زر عن عبد الله بن مسعود، والحديث الآخر (المهدي يواطي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي). وقد خرجه الخطيب البغدادي في تاريخه وابن حجر في القول المختصر عن عاصم بن أبي نجود عن ابن مسعود.
وهاهنا حديث آخر (لا تقوم الساعة حتى يملك الناس رجل من أهل بيتي يواطي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي). وقد أخرجه أبو عمر الداني في سننه والخطيب البغدادي في تاريخه. وأريد منكم بيان الرأي السديد في زيادة (واسم أبيه اسم أبي) الواردة في الحديث. فإذا بـ(راضي) يقول:
أنا أقول ان حديث الزيادة موضوع وذلك لسببين، الأول لوجود شخصين بارزين وهما المهدي العباسي وهو محمد بن عبد الله المنصور والمهدي الحسني وهو محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى وكلاهما ملقب بالمهدي. والسبب الثاني هو ان ظهور هاتين الشخصيتين يتزامن مع قرب زمن رفع الحظر عن التدوين للأحاديث. ساد الصمت لحظات منتظرين الرد من (كمال) الذي يجلس هادئاً أمام جهاز الحاسوب فقال:
إن أهم ما يشكل على هذا الحديث انه لم يرو في الكتب المعتبرة للروايات إلا الذي ليس فيه زيادة وان الذين رووه هم أنفسهم من رواه بعدم الزيادة، فلو كان هذا الحديث معتبراً عند المحدثين مثل الإمام احمد والترمذي والطبراني لرووه بزيادته.
انفرجت أسارير (صالح) وكأنه اقترب من نيل جائزة عظيمة لا ينالها إلا القليلون في هذا العالم وقال بصوت يملؤه الدفء:
أسألكم بحق صاحب هذا المقام الشريف الطاهر، من منكم قادر على أن يثبت لي ان المهدي من ولد الحسين لا الحسن؟!
فقال الحاج (عبد المعين): أنا ولكن بشرط أن تدعونا إلى زيارة الإمارات والإقامة فيها أسبوعاً، فقال (صالح):
أسبوع فقط، يا حاج انتم أهل الدار ونحن الضيوف. فضحك الحاج وقال:
اسمع يا سيدي، هناك رواية واحدة فقط في سنن أبي داوود في كتاب المهدي في الجزء الثاني في الصفحة ثلاثمائة وإحدى عشر والحديث رقم (٤٢٩٠) فقلت:
ما شاء الله يا حاج، لديك ذاكرة عملاقة فأجابني قائلاً:
هذا من فضل الله سبحانه وتعالى، واليكم الحديث: قال أبو داود حُدثت عن هارون بن المغيرة، قال، حدثنا عمرو بن أبي قيس عن شعيب بن خالد عن أبي إسحاق قال: (قال علي رضي الله عنه (ونظر إلى ابنه الحسن) فقال: ان ابني هذا سيد كما سماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه بالخلق ولا يشبهه بالخلق، ثم ذكر قصة: يملأ الأرض عدلاً).
إلا أن هذا الحديث ساقط عن الاعتبار من وجوه
منها انه ليس بحديث عند الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيسقط الاحتجاج به فقال (راضي):
ومن المحتمل أن يكون مكذوباً على علي به وهو ما ذكره الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر في كتابه (لا مهدي ينتظر بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خير البشر). أليس هذا محتملاً يا والدي فقال الحاج:
هذا رأيك وأنا احترمه، ولكني أقول ان أبا داود يقول: حُدثت عن هارون بن المغيرة ولم يذكر لنا من هو الذي حدثه عنه بالإضافة إلى ان الحديث معنعن والرواية منقطعة كما يذكر ابن قيم الجوزية في (المنار المنيف في الصحيح والضعيف). مضافاً إلى ان أبا إسحاق السبيعي رأى علياً رؤية ولم تثبت له رواية كما قال المنذري في مختصر سنن أبي داود في الجزء الثاني في الصفحة مائة واثنين وستين.
وأما مسك الختام فقد ذكر الجزري الدمشقي الشافعي في أسمى المناقب في تهذيب أسمى المطالب (والأصح انه من ذرية الحسين بن علي لنص أمير المؤمنين على ذلك فيما اخبرنا به شيخنا المسند رحلة زمانه عمر بن الحسن الرقي قراءةً عليه قال: أنبأنا أبو الحسن بن البخاري أنبأنا عمر بن محمد الدارقزي أنبأنا أبو البدر الكرخي أنبأنا أبو بكر الخطيب أنبأنا أبو عمر الهاشمي أنبأنا أبو علي اللؤلؤي أنبأنا أبو داود الحافظ قال حدثت عن هارون بين المغيرة قال حدثنا عمر بن أبي قيس عن شعيب بن خالد عن أبي إسحاق قال، قال علي ونظر إلى ابنه الحسين ثم ذكر الحديث). وعندما انتهى الحاج من كلامه علمت ان هناك يداً خفية هي التي جمعتنا لنستضيء بنور الحقيقة لأن الثابت من خلال الروايات من المصادر ان الإمام المهدي من ولد فاطمة عليها السلام وبعد بطلان الدليل الوحيد لإثبات ذلك (أي انه من ولد الحسن بن علي عليهما السلام كما عليه جملة من أهل السنة) لا يبقى إلا أن يكون المهدي من ولد الإمام الحسين عليه السلام.
نظرت إلى (صالح) وقلت له:
هيا نحزم حقائبنا معك إلى الإمارات. فضحك وقال:
تعتقدون باني امزح معكم؟ كلا، فانا على أتم الاستعداد لتحمل نفقات سفركم ومدة إقامتكم، لأني اعتبر هذا شرفاً لي فمن يكون صديقاً لكم تكون أيامه كلها رابحة.
عم المكان جو بهيج اختلطت فيه الابتسامات بالدعاء لبعضنا البعض على أن نلتقي في الغد بالحاج وأولاده لمرافقتنا أنا وصديقي إلى الخليج.