انعدام الأمراض الاجتماعية في عصر الظهور
نور الساعدي/ قسم القرآن الكريم/ كلية الشيخ الطوسي الجامعة
إن الأمراض الاجتماعية آفة تفتك بالمجتمع حتى توصله إلى حالة الإعياء والتي يصبح فيها المجتمع في أقصى حالات الضعف والتفكك مما يسوده من الظلم والفساد والانحراف الأخلاقي والفقر والتخلف وعندما يقال التخلف لا يقصد به التخلف العلمي بقدر ما يقصد به التخلف الأخلاقي والعيش بحالة أشبه بمعيشة الغابات لما تسودها من الوحشية والعنف اللامبرر.
وهذه الأمراض التي تفتك بالمجتمع مؤدية إلى انحرافه تكمن أسبابها في أمور عدة منها ما هو على مستوى القيادة العليا للمجتمع المتمثلة بالدولة وحكومتها والتي تتحمل المسؤولية الكبرى في صلاح مجتمعها أو فساده وذلك لان الناس على دين ملوكهم، روي عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام انه قال:
(الناس بأمرائهم أشبه منهم بآبائهم)(١) مما يدل على شدة تأثر الأمة بقائدها فان كان من الهداة هُدوا، وان كان من الضالين ضلوا، وأضلوا لذلك يقول عليه السلام في حديث آخر: (إذا تغير السلطان تغير الزمان)(٢) وهذا دليل واضح على مدى أثر الحاكم ودوره في المجتمع فإن (أفضل عباد الله إمام عادل هدي وهدى....وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضل وضل به)(٣) لذلك إن صلح الراعي صلحت الرعية.
لكن كيف يضل الحاكم الضال أفراد مملكته؟
يمكن تلخيص الإجابة بعدة نقاط:
١ ـ من خلال التثقيف المنحرف الموجه من قبل السلطة للأجيال الصاعدة في المدارس والمعاهد ووسائل الإعلام بشكل عام.
٢ ـ الضغط الموجه من قبل السلطة لإطاعة وتطبيق أحكامها الجائرة المخالفة للسجية الإنسانية والشريعة الإلهية.
٣ ـ استئثار الدولة بأموال الأمة وحرمان أفرادها منه مما يؤدي إلى خلق طبقة كبيرة من الفقراء والمعوزين مؤديا ذلك إلى انحرافهم للحصول على ما يسد حاجتهم.
٤ ـ إنشغال الدولة بأمور جانبية ما أنزل الله بها من سلطان وتناسيها للسبل التي من شأنها توفير سبل الراحة للرعية.الخ
ومنها ما هو على مستوى المجتمع والذي يقع على عاتقه مسؤولية تغيير الحاكم الجائر والذي من آثار استمراره في الحكم تردي أوضاع المجتمع والسير به نحو الهاوية، فالأمة تتحمل مسؤولية الانحراف والضعف الذي يصيب المجتمع بشكل عام وقياداته بشكل خاص، فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: (أيها الناس لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق ولم تهنوا عن توهين الباطل لم يطمع فيكم من ليس مثلكم ولم يقو من قوي عليكم).(٤)
بعد هذه المقدمة وبيان بعض أسباب تفشي الأمراض الاجتماعية _ الظلم والفقر والفساد... الخ_ ومن يتحمل مسؤولية تفشيها، يطرح سؤال: ما سر انعدام هذه الأمراض في عصر الظهور الشريف كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: (لو قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها ولأخرجت الأرض نباتها ولذهبت الشحناء من قلوب العباد،...حتى تمشي المرأة بين العراق إلى الشام لا تضع قدميها إلا على نبات وعلى رأسها زينتها لا يهيجها سبع ولا تخافه)(٥) هل يرجع السبب إلى الإعجاز الذي يستخدمه الإمام المهدي عليه السلام من أنه يمسح على رؤوس العباد فتكمل أحلامهم وبذلك يغير حالهم وواقعهم بعد أن كان الظلم والجور هو السائد في حياتهم، ويجعل من تلك الحياة حياة أخرى تناقضها في كل شيء، أم إن هناك حلولا أخرى يستخدمها الإمام عليه السلام في حل تلك المشاكل؟
لا يوجد من ينكر وجود العامل الاعجازي والتسديد الإلهي في حركة الإمام المهدي عليه السلام في جميع جوانبها، ولكن هذا لا يعني أن نجعل منه سببا رئيسا أو عاملا وحيدا في نجاح عملية الإصلاح التي يقوم بها منقذ البشرية عليه السلام لأن اعتماد الإعجاز وحده يقلل من أهمية تلك الحركة المنشودة لما لها من تغييب لحكمة الإمام عليه السلام من جهة ولما سيثيره المتقولون من ادعاءات باطلة حول عملية التغيير والإصلاح، ولا جدوى من القيام بها قبل الظهور الشريف إن كان نجاحها متوقفا على الإعجاز فقط وهو ما يفتقده عامة الناس من جهة أخرى، فضلا عن ذلك كان من الأحرى أن تنجح عمليات الإصلاح التي حاول الأنبياء بكل ما أوتو من قوة لإنجاحها من خلال عامل الإعجاز ولتحقق المجتمع المثالي قبل آلاف السنين ولا حاجة لانتظار الإمام المهدي عليه السلام ليقوم بهذه العملية الكبرى.
إذن ما سر انعدام تلك الأمراض في عصر الظهور المبارك؟
لو أُرجِِعَ هذا السؤال إلى القرآن الكريم لإيجاد الجواب عنه ورؤية ما يصوره في كيفية معالجة الأزمات الاجتماعية سواء في عصر الظهور أو في غيره لوجد أنه يؤكد على جملة من الأمور منها ما يتعلق بأفراد المجتمع ومنها متعلق بقيادته. أما ما يتعلق بأفراد المجتمع فهي:
تغيير ما في النفوس:
قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)(٦) لا يمكن صلاح مجتمع وتعافيه دون أن يصلح ويتعافى أفراده مما هم عليه من سلوكيات غير صحيحة تعود عليهم بالمضرة والإثم.
فلو أن كل فرد رجع إلى فطرته السليمة التي فطر الله الناس عليها وأزال عنها الأدران التي اكتسبها بالابتعاد عن تلك الفطرة لأصبح حال المجتمع غير ما هو عليه من الانحراف والفساد، والفطرة تعني العقل والرجوع إلى العقل يكون من خلال التفكر والتأمل ومحاسبة النفس والنظر في أمرها، فعن الإمام الكاظم عليه السلام انه قال: (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسنا استزاد الله، وإن عمل سيئا استغفر الله منه وتاب إليه)(٧) ومحاسبة النفس نوع من التفكر، وهو مما يقوي العقل الذي جعله الله محورا للثواب والعقاب.
خلاصة القول إن تغيير النفس الإنسانية وانتشالها من الرذيلة إلى الفضيلة يعمل على توجيه المجتمع الإنساني نحو الصلاح وانعدام مظاهر الأمراض الاجتماعية الظاهرة منها والباطنة.
الإيمان والتقوى:
قال جل وعلا: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَْرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٨) ،الآية المباركة صريحة بما تحمله من مضمون من ان الإيمان له آثاره البالغة في تغيير حال المجتمع وانتشاله من مآسيه، ولكن ما هو الإيمان وهل يختلف عن الإسلام؟ قال تعالى: (قالَتِ الأَْعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِْيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ)(٩) الآية المباركة توضح إن الإسلام غير الإيمان،الإسلام عبارة عن مجرد الدخول في الدين والتسليم لسيد المرسلين، والإيمان عبارة عن اليقين الثابت في قلوب المؤمنين مع الاعتراف به في اللسان فيكون على هذا أخص من الإسلام.(١٠) فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (الإيمان ما وقرته القلوب وصدقته الأعمال، والإسلام ما جرى به اللسان وحلت به المناكحة)(١١) فالإيمان هو التسليم القلبي بأوامر الله ونواهيه بحيث ينعكس هذا التسليم لسلوك خارجي على أرض الواقع وللإيمان شروط وأركان،فمن أركانه وتمامه الإقرار بولاية أهل البيت عليهم السلام، جاء عن الإمام الصادق عليه السلام انه قال: (...نحن حجة الله ونحن أركان الإيمان ودعائم الإسلام)(١٢) وتمامه بمحبتهم،عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (لا يتم الإيمان إلا بمحبتنا أهل البيت وان الله تبارك وتعالى عهد إلي أنه لا يحبنا أهل البيت إلا مؤمن تقي ولا يبغضنا إلا منافق شقي، فطوبى لمن تمسك بي وبالأئمة الأطهار من ذريتي...)(١٣) وقوله: (علي أمير المؤمنين...وإمام المسلمين ولا يقبل الله الإيمان إلا بولايته وطاعته).(١٤) وعود على بدء إن الإيمان بشرطه وتمامه والى جانب التقوى والورع عن محارم الله والاجتهاد في طاعته لهما الأثر البالغ في صلاح المجتمع وبخلافه تنزل النقمة على المجتمع وذيل الآية الواردة في بدء الكلام عن الإيمان واضحة في بيان ذلك (وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي نتيجة التكذيب والتعالي على تعاليم الله وأوامره ونواهيه نزل بهم ما نزل (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وهي فريضة فيها صلاح المجتمع وبتركها يُسلَط عليه شرار الناس فيدعو خيارهم فلا يستجاب لهم،إذ حث القرآن الكريم على أن يكون المجتمع آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر من خلال قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١٥) ولا يصل المجتمع إلى هذه المرحلة إلا بعد أن يكون كل فرد من أفراده ـ أو على الأقل ـ الأعم الأغلب منهم آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر لأن رحمة الله سبحانه وتعالى تنزل بإقامة هذه الفريضة حيث قال عز من قائل: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ)(١٦) ومن تركها نزلت عليه لعنة الله (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ * كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ)(١٧) وعن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (إذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن منكر ولم يتبعوا الخيار من أهل بيتي سلط الله عليهم شرارهم فيدعو عند ذلك خيارهم فلا يستجاب لهم)(١٨) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم (لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزِعت منهم البركات وسُلِط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء)(١٩) فكلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واضح وبين في آثار ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من نزع البركات عن الأمة وتسليط الطغاة عليها عقابا لها لتغاضيها عن المنكر وعدم النهي عنه وخلاصة القول تتجسد في قول الإمام الباقر عليه السلام: (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء،ومنهاج الصلحاء فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب،وتحِل المكاسب وتُرَد المظالم،وتعمر الأرض وينصف من الأعداء ويستقيم الأمر)(٢٠)
الاستغفار:
قال تعالى: (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ)(٢١) وقوله جل وعلا: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً)(٢٢) فالاستغفار له آثار غريبة عجيبة توضحها الآيتان الكريمتان من فتح السماء بدر الخيرات على الإنسان وإيتائه القوة ورزقه بالأموال والبنين، هذه كلها آثار الاستغفار والتوبة من الذنب.
أما ما يتعلق بقيادة المجتمع فالقرآن الكريم يؤكد على جملة أمور يجب توفرها في القائد منها:
١ ـ معرفة الإسلام وكيفية تطبيق أحكامه
من شروط القيادة في الإسلام هو معرفة الإسلام بالمفهوم الدقيق للكلمة واستيعاب أصوله ومبادئه وأحكامه في المجالات الفقهية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية المختلفة كما في قوله تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَْرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الأُْمُورِ)(٢٣) فالاستخلاف في الأرض نتيجة الإيمان بالله والعمل الصالح وإقامة دينه على وجه التمام ويترتب عليه من وراء الاستخلاف- ما ذكر في الآية من التمكين وتبديل الخوف بالأمن(٢٤) وهذا ما يؤكد أن الحاكم يجب أن يحيط بالإسلام إحاطة تطبيق كمنهج في الحياة وأسلوب في السياسة مع التمكن من أدق تفاصيل أحكامه.
٢ ـ العدالة
العدل في (اللغة) هو القصد في الامور وهو خلاف الجور، وقيل العدل ما قام في النفوس انه مستقيم وهو ضد الجور(٢٥) وخير من عرف العدل هو الإمام علي عليه السلام عندما سئل ما هو العدل فقال:(العدل وضع الأمور مواضعها)(٢٦) فالعدل هو سمة ذاتية تنبع من داخل الحاكم وتمتزج مع نمط تفكيره وذوقه العام.
والسياسة العادلة هي الأفعال التي يكون فيها الناس المحكومون أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد(٢٧) ولا يتحقق العدل إلا بالحكم الإلهي القائم على الجزم واليقين كي يتمكن من وضع الأمور في مواضعها دون أن يظلم احد.وبذلك يرتقي الحاكم العادل منزلة الأفضلية بين عباد الله، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة،قيام ليلها وصيام نهارها)(٢٨)
وذلك لأن الله سبحانه وتعالى يأمر بالعدل وينهى عن الظلم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِْحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)(٢٩) ، وعدالة الحاكم لها اثر واضح في صلاح المجتمع وإنصاف المستضعفين لان قلوب الرعية خزائن راعيها كما جاء عن أمير الحق علي بن أبي طالب عليه السلام: (قلوب الرعية خزائن راعيها، فما أودعها من عدل أو جور وجده)(٣٠) فان صلحت الرعاة صلحت الرعية ونزلت البركات على الأمة،عن الإمام الصادق عليه السلام: (الناس يستغنون إذا عُدِل وتُنزِل السماء رزقها وتخرج الأرض بركتها بإذن الله تعالى)(٣١) وبخلافه ارتفعت البركة من الأمة وعاشت مأساة الفقر والفساد والتخلف وتفشي الظلم، فعن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (إذا حكموا بغير عدل ارتفعت البركات).(٣٢)
الرحمة واللين:
من الأمور التي تجعل الحاكم مؤثرا في رعيته هو أن يكون رحيما بهم عطوفا عليهم وألا يكون جافا قاسيا بالأمة، قال تعالى: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)(٣٣) فالقائد إذا أراد أن ينجح في قيادته يجب أن يكون أبا رحيما برعيته لأنهم سر نجاحه فان تمكن من استمالة قلوبهم كسبهم في تحقيق أفضل النتائج المطلوبة من قيادته.
هذه الصفات وغيرها هي من أهم الصفات التي يؤكد القرآن الكريم على توفرها في الحاكم ليتمكن من إحداث التغيير وتوجيه المجتمع نحو الصلاح.
فلو اجتمعت شروط القيادة آنفة الذكر في قائد يربي أهل مملكته بتلك الأمور التي تبينت في صدر الحديث لأمكن الحصول على مجتمع مثالي متكامل ينعدم فيه كل ما يعكر صفاء عيشه وسير حياته الطبيعية لما بين الحاكم والمحكوم من تأثير وتأثر.
فهل هذه الصفات التي ذكرت في القائد متوفرة في شخص الإمام المهدي؟ وهل يحقق العدل والترف الاجتماعي بين رعيته بالفعل دون العامل الاعجازي؟
الإمام المهدي هو قائد الدولة العالمية الكبرى المنتظر إقامتها على يده المباركة وهو الجامع لشروط القيادة بكلها لا بجزئها لما يمتلكه من العلم اليقيني الذي يمكنه إقامة العدل والحكم بين الرعية بعلمه الواقعي وبغير بينة دون أن يظلم أحدا في دولته المباركة فضلا عن تطبيقه لتعاليم الإسلام حتى يظن البعض انه سيأتي بدين جديد وهو ليس بجديد ولكنهم لم يعرفوا الإسلام كما أنزل، والأحاديث الواردة في هذا الجانب كثيرة التي تبين عدله وتطبيقه لتعاليم الإسلام وعطفه على الرعية منها:
عن الصادق عليه السلام قال:(إذا قام القائم حكم بالعدل، وارتفع في أيامه الجور، وأمنت به السبل وأخرجت الأرض بركاتها، ورد كل حق إلى أهله ولم يبق أهل دين حتى يظهروا الإسلام ويعرفوا بالإيمان، أما سمعت الله سبحانه يقول: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالأَْرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)، وحكم بين الناس بحكم داود عليه السلام وحكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فحينئذ تظهر الأرض كنوزها وتبدي بركاتها ولا يجد الرجل منكم موضعا لصدقته ولا بره لشمول الغنى جميع المؤمنين)(٣٤) وعن الرضا عليه السلام انه قال: (..فلا يترك عبدا مسلما إلا اشتراه وأعتقه ولا غارما إلا قضى دينه،ولا مظلمة لأحد من الناس إلا ردها ولا يُقتل منهم عبد إلا أدى ثمنه دية مسلمة إلى أهله، ولا يُقتل قتيل إلا قضى عنه ديته وألحق عياله في العطاء حتى يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا وعدوانا...).(٣٥)
أما من ناحية تمكنه من تغيير المجتمع دون العامل الاعجازي فهو يحقق ذلك من خلال تربية الأمة وتهيئتها بالصورة التي تجعلها حالة مثالية متكاملة دون العامل الاعجازي- وله وسائله الخاصة في تلك التربية وكيفية إنجاحها- وإن حاول البعض الإشارة إلى ذلك من خلال الروايات والتي منها ما جاء عن الإمام الباقر عليه السلام انه قال: (إذا قام قائمنا وضع يده على رؤوس العباد،فجمع بها عقولهم وكملت بها أحلامهم)(٣٦) ويمكن التوسع في الحديث واعتباره كناية عن بعض الأمور التي يقوم بها الإمام وليس فقط على نحو الإعجاز، فربما المراد من تمرير يده الشريفة على رؤوس العباد هو كناية عن تربية القائم للأمة، وعبّر بالرؤوس باعتبارها وعاء العقول والفكر باعتقاد الناس،ووضع اليد عليها كناية عن السيطرة عليها بالإقناع والتربية،والمراد من تكامل الأحلام هو ارتفاع مستوى نضج العقول والتفكير السليم مما يؤدي إلى العدالة الفردية ومن ثم وصول المجتمع إلى حالة التكامل الفكري والحضاري والوعي العالي في دولة الإمام المهدي عليه السلام.
والخلاصة إن وضع يد الإمام على رؤوس العباد لا يراد به الإعجاز أو الاستيلاء بمعنى الملك والسيطرة فقط لان ذلك بمجرده لا ينتج مجتمعاً متكاملاً، وإنما الذي ينتجه هو التربية والإعلاء للعقول والأفكار والعواطف(٣٧) وهذه التربية لا يمكن أن تجنى ثمارها دون أن يكون المربي على مستوى عالٍ من الرقي والتسامي العلمي والأخلاقي وصاحب دراية كاملة بواقع مجتمعه وطبيعة ظروفه وكيفية التأثير فيه وهذا لا يتم إلا على يد قائد عادل عارف بأحكام الإسلام كما أنزلها الله سبحانه وتعالى من آل محمد وهو بقية الله في الأرض الحجة بن الحسن عليه السلام يخلص الأمة من مآسيها وينتشلها من ضياعها ويوصلها إلى قمة السعادة والنعيم.
الهوامش
(١) بحار الأنوار للمجلسي /مج٥٧/٤٥.
(٢) نهج البلاغة تعليق صبحي الصالح كتاب ٣١ص٥١٤.
(٣) نهج البلاغة،تحقيق محمد عبدة،٢/٦٩.
(٤) نهج البلاغة تعيق صبحي الصالح خطبة ١٦٦، ص٢٩٧.
(٥) بحار الأنوار للمجلسي/ مج١٣، ١٨٢.
(٦) الرعد: ١١.
(٧) الكافي للكليني/٢/٤٥٣/٢.
(٨) الأعراف: ٩٦.
(٩) الحجرات:١٤.
(١٠) الفصول المهمة في تأليف الأمة للسيد شرف الدين/١٣.
(١١) شرح احقاق الحق للسيد المرعشي-٢٩/٤٤.
(١٢) غاية المرام:هاشم البحراني-٤/٦.
(١٣) كفاية الأثر للخزاز القمي/١١٠.
(١٤) المنتخب من الصحاح الستة- محمد حياة الانصاري/١٦.
(١٥) آل عمران:١٠٤.
(١٦) التوبة:٧١.
(١٧) المائدة:٧٨،٧٩.
(١٨) الأمالي للصدوق،٣٥٤.
(١٩) تهذيب الأحكام،١٦/٢٢٨٨١.
(٢٠) الكافي،٥/٥٦/١.
(٢١) هود:٥٢.
(٢٢) نوح:١٠، ١٢.
(٢٣) الحج: ٤١.
(٢٤) مفاهيم القرآن لجعفر السبحاني،٦٢.
(٢٥) سياسة الأنبياء للسيد نذير يحيى الحسيني،٢٤.
(٢٦) نهج البلاغة،حكمة٤٣٧.
(٢٧) سياسة الأنبياء،٢٤.
(٢٨) مشكاة الانوار،٥٤٤.
(٢٩) النحل:٩٠.
(٣٠) غرر الحكم،٢/٥٠٨/٣٤٦٤.
(٣١) الكافي،٣/٥٦٨/٦.
(٣٢) معدن الجواهر،٧٣.
(٣٣) آل عمران:١٥٩.
(٣٤) ترجمة الإمام المهدي في أعيان الشيعة،تقديم وتحقيق مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي،٢٣٥.
(٣٥) نفسه،٢٣٠.
(٣٦) منتخب الأثر،٤٨٣.
(٣٧) ظ/المهدي المنتظر وأحداث الظهور،٤١٠-٤١٥.