الغيبة والمهدوية
من وجهة نظر فلسفية
حسن هادي سلمان
باحث ومحرر في مجلة الانتظار
قد لا يوافق البعض على إدراج (المهدوية) في المسائل الفلسفية أو عدّها محورا من محاور التفلسف يضاف إلى المحاور التقليدية للفلسفة الإسلامية عامة أو إلى فلسفة التشيع بوجه خاص، بحجة كونها في الأصل مسألة اعتقادية، ومن دأب المحصلين التفرقة بين البحث العقائدي والبحث الفلسفي منهجاً وموضوعاً، فما دامت (المهدوية) من المسائل المتفرعة على مبحث الإمامة التي هي من أصول الدين فلا ربط لها بالفلسفة، ولكن لسائل أن يسأل: أليست (المهدوية) من حيث أنها فكرة تمس مصير بني آدم في سيرهم التكاملي عبر التاريخ هي مسألة فلسفية كذلك؟ بل لعلها فلسفية زمنيا قبل أن تكون عقائدية، إذ أنها تترتب في الواقع على السؤال الذي طرحه الإنسان منذ أقدم العصور عن مصيره ومآله وغايته، وبالتالي فإن الأطروحات التي وضعت للإجابة عن هذا السؤال يمكن أن تنتمي إلى أكثر من حقل معرفي واحد، فيمكن أن يتكفل بها علم الاجتماع أو علم النفس أو علم الإنسان (الانثروبولوجيا) أو الفلسفة فضلاً عن العقائد (علم الكلام).
ولذلك فإننا نعتبر بعض المحاولات التي حصلت في تاريخ الفلسفة مثل محاولة أفلاطون في كتاب (الجمهورية) أو الفارابي في (آراء أهل المدينة الفاضلة) أو الألماني نيتشه في (هكذا تكلم زرادشت) أو الانكليزي برناردشو في (الإنسان والسوبرمان) نماذج من الأجوبة المقترحة على هذا السؤال الفطري الوجداني، سواء وفّق من تصدى للإجابة من هؤلاء وغيرهم في إصابة الحق أم أخفق.
وإذا كانت فكرة المهدوية بمثل هذا الوضوح كونها نابعة من وجدان الإنسان وفطرته فإنها قد تحولت -بفعل ارتباطها بوعد إلهي أكدته الشرائع السماوية المقدسة- إلى عقيدة، وخرجت بذلك عن كونها مجرد فكرة أو شعور فطري، وقد عزز من رسوخ هذه العقيدة في نفوس المتدينين أن الله تعالى من شأنه أنه إذا وعد وفى؛ لأنه لا يخلف الميعاد، وحيث أنه قد بشّر بظهور مصلح للبشرية في مرحلة تالية – في المستقبل – فلابد من اتخاذ موقف واضح بشأنه في الفترة السابقة لأوان ظهوره، والموقف الطبيعي المفروض اتخاذه من قبل كل المتدينين أياً كان دينهم هو الانتظار، ومنه يظهر أن الانتظار ينطوي في ذاته على فكرة (المهدوية) ممزوجة بوعد إلهي بتحققها، إذ لو تجردت المهدوية عما ارتبط بها من وعد لأضحى الانتظار محض توقع لحدوث أمر محتمل، وهذا التوقع لا يرقى إلى مرتبة الاعتقاد، أي أن الذي أضفى على (المهدوية) التي هي فكرة إنسانية وجدانية ناجمة عن السؤال العتيد عن مصير (النوع الإنساني) طابعها العقائدي إنما هو وعد الله عز وجل في كتبه وعلى لسان أنبيائه بضرورة تحققها في وقت لاحق من تاريخ بني آدم على هذه الأرض، إذ مجرد التوقع لا يترتب عليه أي أثر على صعيد الممارسة الدينية (الطقوسية) تلك الممارسة التي تنبثق عن تساؤل المتدين: ما هو تكليفي إزاء هذا المنتظر الآتي لا محالة؟
ومن هنا فإنه يجوز لنا أن نبحث (المهدوية) في إطارها الفلسفي العام مثلما يجوز أن نطالب بإدراجها تحت محور مناسب من محاور التفلسف في الفكر الفلسفي عامة وفي الفلسفة الإسلامية بشكل خاص، وقد لاحظنا أن إرهاصات المهدوية قد تبدّت بجلاء لأول وهلة فلسفياً في مشروع أفلاطون السياسي (الجمهورية)، فإن المبادئ العامة التي ذكرها هذا المفكر تدل بوضوح على ما كان يعتمل في ذهنه تأسيساً لتلك القضية الوجدانية المرتبطة بمصير الإنسان وبما ينبغي أن تكون عليه الإنسانية وصولا إلى الكمال، فقد أكد هذا الفيلسوف على صفة العدالة بشكل خاص حيث اعتبرها القوة المنظمة التي تحقق الاتساق والتعادل بين الجميع، وقسم الدولة (على ضوء قوى النفس) إلى ثلاث قوى: العقلية، والحماسية، والشهوية، فوضع القسم العقلي في المرتبة العليا وهو الذي يقابل أرقى الأقسام في الدولة، مقر العلم والحكمة والمنطق والرأي الصائب، فلا يحق لأحد أن يكون رئيساً للدولة ما لم يكن فيلسوفاً قد صلحت نفسه الناطقة واستعلت على قوتيه الشهوية والغضبية.
أما الفيلسوف الإسلامي أبو نصر الفارابي فإنه شرع في بيان المدينة الفاضلة بذكر آراء أهلها؛ لأن الناس إن لم يكونوا معتقدين للآراء المحمودة لم يستقم أمر المدينة الفاضلة حتى ولو كان الوالي إماما معصوما، فإن المدينة الطبيعية التي يمكن البحث عن أمرها وآثارها ولوازمها وعن حكومتها وحسنها وقبحها وصلاحها وفسادها سواء كانت مدينة فاضلة أم جاهلة هي أن يكون الناس موافقي الرأي للوالي.
وهكذا نلحظ عند الفارابي اهتماماً خاصاً بالجماهير وتكاملهم العقلي، إذ بدونه لا يتسنى لرئيس المدينة الفاضلة مهما كان حكيماً بل إماماً معصوماً أن يطبّق مشروعه السياسي الفاضل، كما لم يتسنَّ ذلك لأمير المؤمنين عليه السلام والحسن عليه السلام في مدة إمامتهما الظاهرية.
فرئيس المدينة الفاضلة عند الفارابي فيلسوف يقرب كثيراً أو قليلاً مما يصور به أفلاطون في جمهوريته هذا الرئيس وغيره ممن إليهم شؤون الحكم وتدبير السياسة في هذه الجمهورية، ولكنه ليس عند الفارابي فيلسوفاً قد صلحت نفسه الناطقة واستعلت على نفسه الشهوية ونفسه الغضبية فحسب، ولا هو يستطيع بفضل ما أتيح له من صلاح نفسه الناطقة أو قوته العاقلة أن يتصل بالعقل الفعّال الذي يفيض عليه حقائق الموجودات ودقائق المعقولات فحسب، وإنما هو فيلسوف بهذه المعاني كلها وبمعنى آخر زائد عليها، هو هذا المعنى النبوي الإسلامي الذي يجعل من رئيس المدينة الفارابية حكيماً أضفى الله على قوته المتخيلة ثوباً من أثواب النبوة، فإذا هو متعقل لما هو موجود، ومخبر بما هو كائن، ومنذر بما سيكون؛ لأن كلاً من قوتيه المتعقلة والمتخيلة قد بلغت من الدقة والرقة، ومن الصفاء والنقاء حداً بحيث تهيأ لصاحبهما من الكمال ما يجعله أهلا للتلقي عن الله بطريق الاتصال بالعقل الفعّال.
ومن خلال ما ذكرناه يتبين أن (المهدوية) في إطارها الإنساني العام هي فكرة فلسفية بامتياز كونها مرتبطة بالعلة الغائية لوجود الإنسان، والبحث عن العلل القصوى في طبيعته بحث فلسفي كما لا يخفى، ولذلك نجد صدى (المهدوية) وإرهاصاتها في تراث مختلف الأمم والحضارات وإن لم تذكر تحت هذا العنوان الذي اشتهر في التراث الإسلامي خاصة.
إذا كانت المهدوية بهذه المثابة فإن أحد أهم مفاصلها وهي (الغيْـبَة) لم تلق على ما يبدو ما لقيته (المهدوية) من اهتمام من قبل المفكرين والفلاسفة، ولعل السبب في ذلك هو عدم الرغبة في تعميمها خارج نطاق البحث العقائدي الخالص، أولا: لأن الغيبة بالمفهوم المتداول ليست قضية فطرية كقضية المهدوية، بل ربما يشكك البعض حتى في كونها من المسلمات العقلية، لأن غيبة إنسان ما شخصاً باختفائه عن الأنظار أو عنواناً بعدم تعلق المعرفة به حال كونه ظاهراً للعيان، من المسائل الغير مأنوسة في العرف العام، وكل ما هو غير مأنوس يكون مستغرباً بطبيعته، وقد دأب السواد العام على تسوية المستغرَب من الأمور بالخرافي أو الأسطوري، وهذا من الأخطاء الشائعة التي كُذِّب بسببها جملة من الأنبياء والعلماء عبر التاريخ.
أي أن الناس ينزعون عما هو مستغرَب عندهم وغير مأنوس لهم صفة الواقعية، ويحيلونه إلى خانة الطوبى والخيال، ومن هنا فقد وصفت (الغيْـبَة) رغم كونها من الأمور الممكنة بل الواقعية -لمحل عدم الأنس بها لدى العوام بل لدى بعض الظاهريين من أهل النظر كابن حجر العسقلاني وابن خلدون وأضرابهما- بأنها أسطورة أو خيال نسجته أذهان المقهورين والمستضعفين، حتى أن بعض المستشرقين المتخصصين بالفلسفة الإسلامية كالفرنسي هنري كوربان قد فشل في فهم فكرة (الغيْـبَة) كما طرحت بالمنظور الشيعي فحاول اختزالها عبر إرجاعها إلى معنى باطني تجسده فكرة الإمام المستور(١)، فالغيبة والاستتار عنده بمعنى واحد، وهذا خطأ فادح.
وكما كان الانتظار بالنسبة إلى المهدوية هو الأداة التي ساعدت على بلورة الفكرة وأخرجتها عن حيز التفلسف المجرد إلى حيز الممارسة والعبادة والطقس، فاكتسبت عند المؤمنين بها ميزة الحتمية وصفة الواقعية المرتقبة، كذلك الغيْـبَة فإنها بسبب كثرة تداولها لدى أوساط الشيعة الإمامية وورودها المتكرر في الموروث الروائي لأئمة أهل البيتK قد تحررت من عنصر (الغرابة) وأضحت من المعاني المأنوسة، ما أدى إلى ترسيخها كعقيدة في نفوس المنتسبين إلى مذهب أهل البيت، علاوة على أنها في الأصل من الأمور العقلائية المقبولة التي أثبت العلم إمكانها وتحققها.
بينما لم يستطع أتباع المذاهب الأخرى التحرر من بوتقة (الغرابة) وعدم الأنس بفكرة (الغيْـبَة) وإن أقروا بوقوعها في الأمم السابقة تبعاً لما نص عليه القرآن الكريم، فإنهم قد انتهوا إلى عد الغيْـبَة في هذه الأمة من الأمور الأسطورية وغير الواقعية غافلين عن التناقض الذي يسببه اتخاذ مثل هذا الموقف؛ لأن جريان الغيْـبَة في سائر الأمم دون الأمة الإسلامية لازمه تحول سنة الله أو تبدلها، وقد قال تعالى: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)،(٢) بل انعكس الأمر عندهم حتى على (المهدوية) نفسها، فشكك بعض علماء المذاهب الأربعة حتى بواقعة ظهور المهدي، ومن هنا ندرك مدى صحة ما لاحظه المستشرق المجري جولدتسيهر حين قال: (إن ظهور المهدي في الإسلام السني لم يصل ألبتة إلى أن يتقرر كعقيدة دينية، ولم يبد قط عند أهل السنة إلا كحيلة أسطورية لغاية مثلى).(٣)
ولكن وضوح فكرة (الغيْـبَة) وتحولها إلى عقيدة لا ينبغي أن يجعل التعاطي معها منحصراً في البحث العقائدي، فإن الجنبة الفلسفية في (الغيْـبَة) لا تقل عنها في (المهدوية) إن لم تكن تزيد، ذلك لأن الغيْـبَة بعد أن تم الفراغ عن كونها أمراً واقعياً منذ العام ٢٦٠ للهجرة وتم تداولها كحقيقة واقعة في المجال التاريخي فضلاً عن العقائدي، يجب أن تدرس في إطار فلسفي وتطرح كمسألة أساسية من مسائل فن الحكمة، فإن السؤال عن علة الغيْـبَة أو بالأحرى عن عللها أشد علقة بالبحث الفلسفي منه بالبحث العقائدي أو التاريخي.