المصلح في الديانة المسيحية
الشيخ نزيه محي الدين/ استاذ في الحوزة العلمية النجف الأشرف
اهم نص يدور حوله فكر متكامل في المسيحية, هو انتظار (الفارقليط, البركليت, الباركليت), وهذا (البركليت) في الحقيقة, سيقوم بتطويع جميع الناس للدين, وسيحاسب المجرمين, ويقوم بالقسطاس.
طبعاً تُرجم (البركليت) في الكتب المسيحية, بـ (المعزي, والمسلي) ولكن المسلمون تمسكوا بأن المقصود به هو النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم, وينفي المسيحيون ذلك.
ونحن _ هنا بتجرد تام _ نريد أن نعرف ما قصة هذا اللفظ؟
فهو إما أن يكون عبارة عن لفظين متقاربين: (البركليت, الباركليت) أحدهما: (أحمد). أو إنه لفظ واحد يحمل معنيين, ولهذا تمسك المسلمون به.
ومن الطريف من باب: (أراد أن ينفي فأثبت): إن مستشرقاً شاتماً للنبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم اعترف باعتراف طريف, إذ اعتبر أن معلم النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم خلط بين لفظين متشابهين أحدهما بدون امتداد, ويعني بهما كلمتي: (باركليتوس) و(بريكليتوس)،(١) والتي بدون امتداد تعني: (أحمد) والثانية تعني: (المعزي) فهو قد أثبت التشابه الصوتي, إلى درجة شبيهة بالتطابق بين كلمتين, إحداهما تعني: (أحمد) أو (محمّد) أو (المحمود) وهذا يعني أن استدلال المسلمين لم يكن من فراغ. وإنما يستند إلى لفظ متفق على كون أحد صيغتيه الصوتيتين هو (محمّد). يبقى أنه هل هو ما يقول به المسيحيون؟ أم ما يقول به المسلمون؟ وهذا يحتاج إلى دليل نفي قاطع بكونه ليس اللفظ الذي يعني: (محمّداً). لأن المحتمل يحتاج إلى دليل نفي حتّى ينتفي.
والسبب في الشكّ في القائل، هو توفر القصد والمنفعة في تغيير اللفظ, وأما ادعاؤهم أن معلّم النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم خلط بين لفظين, فهذا أوّل الكلام.
فهل سمع هذا المستشرق كلمة (بركليت) أو (باركليت) من النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أو من معلمه حتّى يقول ما قال؟
المشكلة أن الدلائل تشير _ بكل تأكيد _ إلى أن النبي محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم مرسل من الله, وليس لديه أيّ معرفة بكتب السابقين. ولم يتفرد أو يدرس هذه الكتب المعقدة اللفظ نتيجة تعدد الترجمات. ولهذا فإن افتراض هذا المستشرق ما هو إلاّ ضرب من الخيال الذي يثبت المطلوب, رغم أنه يسعى لنفيه.(٢)
ولو سأل أحد: فما علاقة النص على اسم النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم, بالنص على الإمام المهدي؟
وهنا _ أقول: إن في النص ما يدل على أن محمّداً _ هنا _ ليس هو النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم, وإنما ابنه محمّد المهدي عليه السلام, لما يحصل على يديه, فالتفسير الأشمل للنص, هو: أن النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم, إذا كان هو: (البركليت), وهو: (المسيّا) الموعود،(٣) فإن ذلك لا يتم في التطبيق, إلاّ بشريعته, عبر ابنه الإمام المهدي عليه السلام, الذي ينشر شريعة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم, على كل العالم, وهذا الفهم ناتج من ضرورة الاختلاف في التطبيق, بين النص والواقع.
وبهذا التفسير, يمكن أن نفهم أن (البركليت) الذي هو (مسيّا) والذي سيظهر آخر الزمان, برسالة عامة, ويقمع الباطل, ويبيّن جميع الحق _ بلا استثناء _ يصح أن يكون هو محمّد الإمام المهدي عليه السلام, الذي هو المطبق الحقيقي لشريعة محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا بسبب ملحقات النص إذا صح النص نفسه.
فلنبحث في صفات (البركليت) أو (الباركليت) في إنجيل يوحنا الإصحاح الخامس عشر والسادس عشر, ونحن نورد النص كاملاً _ هنا _ من أجل المزيد من الفائدة:(٤)
(ومتى جاء المعزي (بركليت) الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق،(٥) الذي من عند الأب ينبثق, فهو يشهد لي(٦)/ وتشهدون أنتم أيضاً؛ لأنكم معي من الابتداء(٧)/ قد كلمتكم بهذا؛ لكي لا تعثروا/ سيخرجونكم من المجامع, بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدّم خدمة لله/ وسيفعلون هذا بكم؛ لأنهم لم يعرفوا الأب ولا عرفوني/ لكني قد كلمتكم بهذا؛ حتّى إذا جاءت الساعة تذكرون أني أنا قلته لكم, ولم أقل لكم من البداية؛ لأني كنت معكم/ وأما الآن, فأنا ماض إلى الذي أرسلني, وليس أحد منكم يسألني أين تمضي/ لكن؛ لأني قلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم/ لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق؛ لأنه إن لم انطلق لا يأتيكم المعزي (بركليت) ولكن إن ذهبت أرسله إليكم(٨)/ ومتى جاء ذاك, يبكت العالم على خطية, وعلى بر وعلى دينونة/ أما على خطية؛ فلأنهم لا يؤمنون بي/ وأما على بر؛ فلأني ذاهب إلى أبي, ولا ترونني أيضاً/ وأما على دينونة؛ فلأن رئيس هذا العالم قد دين/ إن لي أموراً كثيرة أيضاً؛ لأقول لكم, ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن/ و أما متى جاء ذاك روح الحق, فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه, بل كل ما يسمع يتكلم به, ويخبركم بأمور آتية).(٩)
رغم وجود خلل في السياق وفي التراكيب اللغوية وفي ترابط المعاني فإن الجمل الأخيرة من النص يجب التفكير فيها وتفسيرها جيداً, فهي تتحدّث عن الإفصاح عن جميع الحق. وهذا يعني محو أيّ مجال للمغالطة. فهو _ أي المذكور في النص _ يتكلّم بموجب العلم اللدني. بخلاف تكليف عموم الأنبياء, والأئمّة, والمصلحين. ويتكلّم بالمغيبات للأشخاص, وهذا يقتضي الحكم بموجبها, وهو الحكم وفق العلم اللدني. وهذا لا ينطبق إلاّ على المهدي عليه السلام, وفق النصوص؛ ولأن هذا النص مخالف لواقع كل من تقدم من أهل البلاغ.
لقد نقل الدكتور نصر الله أبو طالب في كتابه آنف الذكر, وبحسب ما ذكر في لفائف البحر الميت, التي سميت بمخطوطات قمران. نصاً من المخطوطة رقم: ١٥, يقول:(١٠)
١٥:
The dead sea scriptures page .
The prophet that is to arise at the end of days.
وتصح ترجمة هذا النص, بالشكل التالي:
(النبي (أو القديس) الذي سيظهر في نهاية العالم).
إن نهاية العالم, التي اتفقت الأديان الثلاثة, على تحديدها, كزمن لظهور المصلح المنقذ العالمي, يجعل كل النصوص المتقدمة لا تنطبق على أحد من الأنبياء, إلاّ إذا ثبت النص على نبي محدد بالصفة, بدون نهاية العالم, ولكن النصوص عكس هذا.
فلنقرأ المقطوعة بصورة كاملة تقريباً في انجيل يوحنا ـ الإصحاح الخامس عشر والسادس عشر. لنعرف ما صفات البركليت أو الباركليت:
٢٦:١٥ ومتى جاء المعزي (بركليت) الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق(١١) الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي.(١٢)
٢٧:١٥ وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء(١٣)
١:١٦ قد كلمتكم بهذا لكي لا تعثروا
٢:١٦ سيخرجونكم من المجامع بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم انه يقدم خدمة لله.
٣:١٦ وسيفعلون هذا بكم لأنهم لم يعرفوا الآب ولا عرفوني
٤:١٦ لكني قد كلمتكم بهذا حتى إذا جاءت الساعة تذكرون أني أنا قلته لكم ولم أقل لكم من البداية لأني كنت معكم.
٥:١٦ وأما الآن فأنا ماض إلى الذي أرسلني وليس أحد منكم يسألني أين تمضي.
٦:١٦ لكن لأني قلت لكم هذا، قد ملأ الحزن قلوبكم
٧:١٦ لكني أقول لكم الحق انه خير لكم أن انطلق لأنه إن لم انطلق لا يأتيكم المعزي (بركليت) ولكن إن ذهبت أرسله إليكم.(١٤)
٨:١٦ ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة.
٩:١٦ أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي.
١٠:١٦ وأما على برفلاني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضاً.
١١:١٦ وأما على دينونة فلان رئيس هذا العالم قد دين.
١٢:١٦ إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن.
١٣:١٦ وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية.(١٥)
وهذا هو ما قلناه من طريقة التمييز في البشارة بأحمد، بين النبي محمد صاحب الشريعة الشاملة وبين الإمام محمد صاحب التطبيق الشامل على البشر وإنقاذ البشرية من الجور والظلم.
الهوامش:
(١) الفرق بينهما من ناحية صوتية, هو الفرق بين الفتحة والكسرة. وفي اللغة الإنجليزية هو الفرق بين (E) وبين (A)، ولعلَّه الأمر نفسه, في اللغة اللاتينية الأصل. وهذا من أبسط موارد التصحيف, التي تواجه الأخطاء الكتابية في النقل، فما أكثر تصحيف (حسن) بـ (حسين) في كتب الحديث؟ وهو أصعب تصحيفاً لأن الاختلاف ليس بمستوى الفتحة والكسرة. ولا يمكن الجزم - بناءً على هذا, في تحويل الكلمة إلى الجهة التي لا تُعجب المستخدم. فهذا استخدام انتقائي غير مبرر، وهو ليس مسلكاً دينياً، فالمتدين ليس أمام لعبة كلمات متقاطعة، وإنما هو أمام نص ديني, هو حجة عليه أمام الله.
(٢) ذكر المستشرق (tisdall) في كتابه:
(the original sources of quran): ١٩٠:
Muhammed was misled by some ignorant but zealous proselyte or other disciple who confounded the word used in these verses (goun xiv ١٦ ٢٦ xvi ٧) with anothe rgreek word which might witht without avery great stretch of the imagimation be inter preted by the Arabic word ahmad the greatly praised.
ويمكن ترجمة هذا النص إلى (إن (محمّداً) ضُلل من قبل معلم جاهل حيث قرأ نص يوحنا: ١٥: ٢٦ و١٦: ٧ بكلمة يونانية بدون امتداد, متخيلاً أنها تعني (أحمد) العربية, وهي الممدوح جدّاً (المحمود - أفعل التفضيل من حمد).
والمقصود بذلك - طبعاً - (بريكليتيوس) التي ترجموها بـ (المعزي).
ويلاحظ على هذا النصّ أنه لم يحدد اللفظين, وإنما أشار - فقط - إلى أن أحدهما فيه امتداد يدل على كلمة: (أحمد) بينما الآخر لا يدل على ذلك. والنص يتهم المعلم المفترض للنبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم! بأنه اختار لفظة - تناسب مدعاه - اعتقاداً منه بأن النبي محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم أو معلمه المزعوم هو مؤلف القرآن، جهلاً منه بطبيعة كل من القرآن وبيئة النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الثقافية، على أن وجود الاحتمال يبطل استدلاله، فلماذا لا يقول بأنهم اختاروا غيرها من أجل التخلص من هذه المصيبة العظيمة عليهم؛ لوجود الاحتمال بها؟
(٣) ذكرنا آنفاً: أن (بركليت) في اللغة اليونانية هي (أفعل) التفضيل من (حمد)، و(مسيّا) في اللغة العبرية, هي: (حِمْدا) وتلفظ بهذا اللفظ - بالضبط.
(٤) الآيات: ١٥/ ٢٦، ١٦: ١٣ من إنجيل يوحنا.
(٥) إن كلمة روح الحق تختلف - بكل وضوح - عن روح القدس. وعليه: فإن تفسير (البركليت) بروح القدس الذي ظهر لرسل المسيح وحواريه يعتبر تزويراً للنص. وهو يوجد مشكلة حقيقية لإنجيل يوحنا. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك.
(٦) هذا يعني أنه يستحيل أن يكون هو المسيح نفسه, كما فسّر في بعض التفسيرات الغريبة, بأن (البركيلت) الذي ظهر للرسل هو المسيح؛ لأنه يرسله. وسيشهد له, فلا يمكن اعتباره نفسه باتحاد الرسول والمرسل. وهذا غير معقول - أصلاً -.
(٧) هذا يعني: أنه يستحيل أن يكون هو نفسه أحد رسل المسيح؛ لأنهم سيشهدون مع روح الحق الذي هو (البركليت) فإذا لم يكن هو روح القدس الملاك, ولا يكون هو المسيح نفسه, ولا يكون هو أحد الرسل, والحواريين, فإذن القضية أصبحت واضحة, فالحديث عن شخصية أخرى, والأحرى بالمسيحية أن تفكر بدراستها والتعرّف عليها. ولعلَّه بالوصول إلى الحقيقة تزول الضغائن لاتحاد المطلوب من الجميع فلا مشكلة حقيقية في إيمان الديانات.
(٨) هذا النص يدل على عدم الاجتماع - أصلاً - بين المسيح و(البركليت) بينما المسيح وروح القدس مجتمعان, وكان معه, ومعهم, وقد شاهده الحواريون, وشاهد الناس آياته. فتكون كل التفسيرات عبارة عن إسقاط مذهبي على النص, من أجل إكمال صورة, غير تامة الأجزاء.
(٩) هذا المقطع من النص يوضّح فرقاً بين محمّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وبين محمّد المهدي الإمام عليه السلام؛ لأنه يقول بانقطاع حجة الباطل في العالم, وبالتكلم بالعلم اللّدني, دون العلم الظاهري, وهذا من صفات المهدي عليه السلام وليس من صفات النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
(١٠) تباشير الإنجيل, والتوراة بالإسلام, ورسوله محمّد: ٥٠٩.
(١١) بكل وضوح أن كلمة روح الحق تختلف عن روح القدس، فعليه إن تفسير البركليت بروح القدس الذي ظهر لرسل المسيح وحواريه يعتبر تزويراً للنص. وهو يوجد مشكلة حقيقية لانجيل يوحنا. وقد تقدم الإشارة لذلك.
(١٢) هذا يعني يستحيل أن يكون هو نفس المسيح. كما فسر في بعض التفسيرات الغريبة بأن البركيلت الذي ظهر للرسل هو المسيح لأنه يرسله. وسيشهد له فلا يمكن اعتباره نفسه باتحاد الرسول والمرسل. وهذا غير معقول أصلاً.
(١٣) هذا يعني: أنه يستحيل أن يكون هو نفسه أحد رسل المسيح. لأنهم سيشهدون مع روح الحق الذي هو البركليت، فإذا لم يكن هو روح القدس الملاك ولا يكون هو المسيح نفسه ولا يكون هو أحد الرسل والحواريين فإذن القضية أصبحت واضحة وهو التكلم عن شخصية أخرى يجب دراستها مسيحياً.
(١٤) هذا النص يدل على عدم الاجتماع أصلا بين المسيح والبركليت، بينما المسيح وروح القدس مجتمعان وكان معه ومعهم وقد شاهده الحواريون وشاهد الناس آياته. فتكون كل التفسيرات عبارة عن إسقاط مذهبي على النص من أجل تكميل صورة غير تامة الأجزاء.
(١٥) هذا النص يوضّح فرقاً بين محمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين محمد المهدي الإمام عليه السلام، لأن هذا النص يقول بانقطاع حجة الباطل في العالم وبالتكلم بالعلم اللدني دون العلم الظاهري وهذا من صفات المهدي عليه السلام وليس من صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.