تأملات في علة الغيْـبَة للإمام الثاني عشر
حسن هادي سلمان/ باحث ومحرر في مجلة الإنتظار
تثار حول غيبة الإمام الثاني عشر عليه السلام عدد من الإشكالات والتساؤلات، نحاول في هذا البحث أن نتطرق إلى أهمها وذلك بالتأمل في مضامين بعض الأخبار الواردة عن أهل البيت عليهم السلام، ومنهجنا في كتابة هذا البحث يوحي بأننا إنما نأتي بالرواية لأجل إثبات صدق التفسير الذي نختاره من خلال التأمل، لكنه في الواقع مجرد إجراء اعتمدناه من أجل شد انتباه القارئ إلى الأفكار المطروحة، أي أننا سلكنا هذا السبيل لغاية منهجية صرفة، فلا ينبغي أن ينظر إلينا بأننا نجعل كلام أهل البيت عليهم السلام تابعاً لأفكارنا، فكلامهم عليهم السلام متبوع أبداً لا تابع.
يمكن لنا إرجاع جميع ما يثار حول الغيبة من أسئلة واستفسارات إلى ثلاثة وهي: ما هو السبب في غيبة الإمام الثاني عشر؟ ولماذا الغيْـبَة ضرورية في رسم خارطة اليوم الموعود؟ وهل من الممكن تاريخياً أن تنجح مهمة الإمام المهدي عليه السلام في إقامة دولة العدل والقسط العالمية من دون أن يمر بفترة الغيْـبَة؟ إن محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة نظرياً هو الذي دفعنا إلى كتابة هذا البحث المقتضب.
يجب أن نفهم قبل كل شيء بأن المهدي شخص واقعي قد ثبت بالدليل التاريخي القاطع أنه ولد في حدود العام (٢٥٥) للهجرة، وقد اختفى هذا الرجل لسبب ما، ونريد هنا أن نبحث عما عساه يكون السبب المباشر الذي أوجب اختفاءه كشخص إنساني لا أكثر، وسوف ندرك بقليل من التأمل أن الإنسان يندفع تلقائياً إلى الاختفاء عن محيطه إذا خاف على نفسه من الهلاك، فحينما يكون مطارداً من قبل شخص أو جهة أقوى منه -بحسب المقاييس العادية- فإنه سيتوارى عن الطلب كرد فعل طبيعي للخطر المتوقع، وما لم يتصرف الإنسان طبقاً لهذا الشعور الغريزي فإنه لا يكون إنساناً سوياً، ولا يفرق بين أن يكون هذا الإنسان نبياً أو وصياً أو رجلاً عادياً. فهذا هو السبب المباشر لاختفاء المهدي من حيث كونه إنساناً. ويؤيد ذلك ما ورد في القرآن الكريم في قصة نبي الله موسى: (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(١)وقد صرحت بهذه العلة بعض الأخبار منها ما رواه الشيخ الصدوق رحمه الله عن محمد بن أبي عمير عن أبان وغيره عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابد للغلام من غيبة فقيل له: ولِمَ يا رسول الله؟ قال: يخاف القتل(٢)، وعن زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إن للقائم غيبة قبل أن يقوم، قال: قلت: ولِمَ؟ قال: يخاف - وأومأ بيده إلى بطنه(٣).
ولو ارتقينا في سلم أسباب الخوف فإننا نجد أن السبب لحصوله عند الإنسان في الغالب هو توقع بطش السلطان، فإنه هو الباعث للخوف في النفس، فإذا أمن الإنسان بطش السلطان زال خوفه فلا يبقى من موجب معقول لاختفائه وغيبته، وعلة بطش السلطان هو جوره وطغيانه، فالسلطان الجائر من شأنه البطش بالرعية، فإذا تبدل جور السلطان إلى عدل فلا يبطش، وعلة جور السلطان عدم حكمه بما أنزل الله تعالى، وعلة عدم حكمه بما أنزل الله تعالى إما عجزه عن تطبيق حدوده جهلا بها أو تمردا عليها، وعلة عجزه عن إقامة حدود الله أنه ليس من أهل تلك الإقامة، وبالتالي فلابد أن يكون غاصبا لمقام لم يضعه الله تعالى فيه. فرجعت سلسلة أسباب الغيبة إلى استيلاء نفر من الناس على مقام قد جعله الله تعالى لغيرهم، ومنه يتبين أن رئاسة الأمة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابد وأن تكون من شؤون الخلافة الإلهية التي هي الإمامة.
أما لماذا كانت الغيْـبَة ضرورية في رسم خارطة اليوم الموعود وهو اليوم الذي أشار الله تعالى إليه في جملة من آيات الذكر الحكيم كقوله عز من قائل: )وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)(٤)وقوله: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ)(٥) فالذي نرجحه سبباً لذلك هو: أن يتبين للناس ولاسيما للمتغلبين من حكام الجور وأصحاب الشرائع الوضعية أن حكم الله تعالى عبر من نصّبهم لإقامة حدوده في أرضه بشريعته السمحاء هو النموذج الأكمل الذي تتحقق به العدالة وتسود الرفاهية وتزدهر الحضارة بل هو الحل الأمثل الذي يحقق للإنسانية أرفع درجات الرقي والتكامل، ولا يتبين ذلك للناس إلا بعد أن يخوضوا بأنفسهم غمار الرئاسة والسلطان ويجربوا ما يرونه قميناً بتطبيق العدالة عبر قوانين وتشريعات لا تمثل روح الشريعة الإلهية إما لعجزهم عن تطبيقها أو تمردهم عليها. ويشير إلى هذا المعنى ما رواه النعماني رحمه الله في الغيبة عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (ما يكون هذا الأمر حتى لا يبقى صنف من الناس إلا وقد ولوا على الناس حتى لا يقول قائل: إنا لو ولينا لعدلنا، ثم يقوم القائم بالحق والعدل)(٦).
وهكذا فإن الله تعالى يريد من الناس أن يوقنوا عبر المخاض التاريخي الطويل للبشرية فشل التجارب السياسية والقوانين الوضعية في تحقيق سعادة الإنسان وتطبيق العدل في الأرض، ويدركوا نقصانها عن النموذج الإلهي الكامل الذي رسمته شريعة الإسلام الخالدة، فهذه أيضا تعد من العلل الغائية لغيبة المهدي عليه السلام.
والغيبة ضرورية كذلك من جهة كونها ظاهرة امتحانية إلهية مشعرة بانتفاء الرقيب والولي الشرعي، مما يساعد على كشف بواطن المنتسبين إلى المذهب الحق أو المحسوبين عليه، فيتبين من خلاله صدق بعض الدعاوى والانتماءات العقدية والشرعية أو زيفها، ويحصل بسببها تمحيص للناس ليتميز المبطل من المحق والمسيء من المحسن والخبيث من الطيب، فإن الناس في الغالب يريدون أن يحسبوا في صف أهل الحق والإحسان والطيبة، وهم يدّعون في سبيل إثبات ذلك دعاوى عريضة ويسلكون مسالك وعرة، فعلة الغيْـبَة إرادة الله عز وجل كشف بواطن هؤلاء وتعرية ضمائرهم ليُعلم أنهم من أي الفريقين ويحصل الفرز التام بين الطائفتين، فإن ذلك من أسباب إقامة العدل والقسط وإحلال الأمن والسلام في الدولة العالمية، لأنه مع عدم التمييز بينهما لا يؤمَن أن يتصدى لبعض أمور المؤمنين في دولة المهدي عليه السلام من هو في باطنه ليس منهم، فينجم من جرّاء ذلك الفساد في البلاد والتجاوز على حقوق العباد. وقد أشارت إلى هذا المعنى بعض الروايات منها ما رواه الكليني رحمه الله عن محمد بن منصور الصيقل عن أبيه قال: كنت أنا والحارث بن المغيرة وجماعة من أصحابنا جلوساً وأبو عبد الله عليه السلام يسمع كلامنا، فقال لنا في أي شيء أنتم؟ هيهات هيهات! لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تغربلوا، لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تمحصوا، لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تميزوا، لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم إلا بعد إياس، ولا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى يشقى من يشقى ويسعد من يسعد(٧). ومنها ما رواه الصدوق رحمه الله عن الإمام الصادق عليه السلام قال: وكذلك القائم فإنه تمتد أيام غيْـبته ليصرح الحق عن محضه ويصفو الإيمان من الكدر بارتداد كل من كانت طينته خبيثة من الشيعة الذين يخشى عليهم النفاق إذا أحسوا بالاستخلاف والتمكين والأمن المنتشر في عهد القائم عليه السلام(٨).
وربما يستفاد من بعض القرائن في الأخبار أن عملية الغربلة والتمحيص الإلهية لها فائدة أخرى سوى حصول التمييز والفرز المشار إليه، ولعلها أجلّ وأسمى من الفائدة الأولى وهي: تربية وإعداد نخبة من الرجال الممتازين من خلال غربال التمحيص المتمثل بأصناف الفتن والبلايا والمكاره التي يتعرض إليها الناس في زمان الغيْـبَة، فبمقدار ما يبذله المؤمن من سعي في تحصيل القرب منه تعالى عبر تحمل المصاعب والآلام الناجمة من الفتن ويكون ثابتاً في تيارها العاتي فإنه يتأهل لأن يكون من أنصار المهدي عليه السلام وأعوانه الذين ربما كان ترتيبهم في مراتبهم تبعاً لقرب المنزلة من المهدي عليه السلام - كالأبدال والنجباء والرفقاء والعصائب وغيرهم- ناجماً عن مدى تضحيتهم وإخلاصهم عبر محنة التمحيص والغربلة، ويشير إلى ذلك ما ورد في الكافي عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عز وجل: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً)(٩) ؛ قال: الخيرات الولاية، وقوله تبارك وتعالى: (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً) يعني أصحاب القائم الثلاثمائة والبضعة عشر رجلاً، قال: وهم والله الأمة المعدودة قال: يجتمعون والله في ساعة واحدة كقزع الخريف(١٠)، ومنه يظهر أن الأمر الإلهي باستباق الخيرات من جملة غاياته تأهيل جماعة من الرجال لنيل مقام الأمة المعدودة وهم أبرز أنصار المهدي عليه السلام ممن سوف تناط بهم مسؤوليات جسام حين خروجه وخاصة بعد إقامة الدولة العالمية.
كما يفتقر التغيير الذي يعقب زمان الغيبة إلى بلوغ المجتمع البشري بشكل عام والقواعد الشعبية للإمام المهدي عليه السلام بشكل خاص إلى مرحلة من الحضارة تكون فيه الأطروحة العالمية في كافة أطرها السياسية والاجتماعية والثقافية قد مورست نوعاً من الممارسة بغض النظر عن فشلها أو نجاحها؛ وذلك لأجل أن يتفاعل الناس مع أطروحة الإمام المهدي عليه السلام الشاملة ولا ينفروا منها، وعلى هذا الضوء ندرس موقف الإمام المهدي عليه السلام لنجد أن عملية التغيير التي أعد لها ترتبط من الناحية التنفيذية كأي عملية تغيير اجتماعي أخرى بظروف موضوعية تساهم في توفير المناخ الملائم لها، ومن هنا كان من الطبيعي أن توقت وفقا لذلك. ومن المعلوم أن المهدي لم يكن قد أعد نفسه لعمل اجتماعي محدود، ولا لعملية تغيير تقتصر على هذا الجزء من العالم أو ذاك، لأن رسالته التي ادُخر لها من قبل الله - سبحانه وتعالى - هي تغيير العالم تغييرا شاملا، وإخراج البشرية كل البشرية من ظلمات الجور إلى نور العدل، وعملية التغيير الكبرى هذه لا يكفي في ممارستها مجرد وصول الرسالة والقائد الصالح وإلا لتمت شروطها في عصر النبوة بالذات، وإنما تتطلب مناخاً عالمياً مناسباً، وجوا عاماً مساعداً، يحقق الظروف الموضوعية المطلوبة لعملية التغيير العالمية(١١).
ومن فوائد الغيبة كذلك تربية عقول الموالين لأهل البيت عليهم السلام على التفكر والنظر والبحث العلمي، ففي ظل غيبة المهدي يفتقر المؤمنون إلى تلبية احتياجاتهم العلمية وإبراء ذممهم أمام الله تعالى في كثير من المسائل الشرعية والاعتقادية والعلمية إلى استفراغ الوسع في طلب العلم وتحصيل الفهم وإتقان العمل، وهذا يؤدي إلى رفع درجة الوعي لديهم فيكونون مهيئين للتفاعل مع متطلبات المرحلة القادمة بما اكتسبوه من خبرات علمية وعملية، ويشير إلى هذا المعنى ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قال: إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل من أهل كل زمان، لان الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله بالسيف، أولئك المخلصون حقا وشيعتنا صدقا، والدعاة إلى دين الله عز وجل سرا وجهر(١٢).
فالغيبة إذاً ضرورية لتحصيل التكامل التدريجي في وعي الشيعة ومعارفهم وخبراتهم، أما مرحلة الكمال التام للعقل فسوف تتحقق في زمان ظهور المهدي عليه السلام الذي سيعمل على إيصال مواطني دولته العالمية إلى أقصى درجة ممكنة من الرقي في كافة ميادين العلم والمعرفة، تشير إلى هذا المعنى جملة من الروايات، منها ما رواه الشيخ الصدوق رحمه الله عن الباقر عليه السلام قال: إذا قام قائمنا عليه السلام وضع يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت بها أحلامهم(١٣)، ومنها ما أورده الحسن بن سليمان الحلي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: العلم سبعة وعشرون حرفا فجميع ما جاءت به الرسل حرفان فلم يعرف الناس حتى اليوم غير الحرفين فإذا قام القائم عليه السلام أخرج الخمسة والعشرين حرفا فبثها في الناس وضم إليها الحرفين حتى يبثها سبعة وعشرين حرف(١٤).
أما السؤال عن إمكان نجاح مهمة الإمام المهدي عليه السلام من دون حاجة إلى غيبة أو على الأقل من دون حاجة إلى امتداد الغيبة قروناً متطاولة فجوابه: أن الله تعالى بسابق حكمته قد هيأ لهذا الأمر رجالا معروفين عند أهل السماء وعند أهل البيت عليهم السلام، ولابد لهم أن يولدوا في أزمنتهم التي قدّرها الله لهم، والمهدي عليه السلام يعلم بشأنهم وبالدور الذي سيناط بهم مما له دخل من قريب أو بعيد في إنضاج وإنجاح مهمته، ولا يشترط أن يكونوا كلهم من أنصاره إذ يكفي أن يكون لهم دور ما في مجمل التخطيط الإلهي لليوم الموعود، ويشير إلى هذا المعنى ما أورده الشيخ الطوسي رحمه الله عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: لينصرن الله هذا الأمر بمن لا خلاق له، ولو جاء أمرنا لقد خرج منه من هو اليوم مقيم على عبادة الأوثان(١٥). فالمانع دون ظهوره قبل الأوان سواء أقبل الغيبة أم في أثنائها هو عين المانع الذي جعل أمير المؤمنين عليه السلام في بعض غزواته يعرض عن قتل جماعة وكان متمكنا من قتلهم، فإنه يعلم صلوات الله عليه أن في أصلاب هؤلاء رجالاً لهم أدوار لابد أن يملأوها، وهكذا الإمام المهدي عليه السلام فإنه يعلم بأن هنالك نفر من الناس يكون لهم دور في إنجاح مهمته وفيهم أنصار له وقواعد شعبية، فإذا خرج قبل أوانه فقد حرم نفسه من عنصر مهم من عناصر الظفر والغلبة، ويكون بذلك قد أخل بواجب الحكمة وحاشاه، ويؤيد ذلك ما رواه الصدوق رحمه الله عن إبراهيم الكرخي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أصلحك الله ألم يكن علي عليه السلام قوياً في دين الله عز وجل؟ قال: بلى، قال: فكيف ظهر عليه القوم، وكيف لم يدفعهم وما يمنعه من ذلك؟ قال: آية في كتاب الله عز وجل منعته، قال: قلت: وأية آية هي؟ قال: قوله عز وجل: (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً)(١٦)إنه كان لله عز وجل ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين ومنافقين، فلم يكن علي عليه السلام ليقتل الآباء حتى يخرج الودائع، فلما خرجت الودائع ظهر على من ظهر فقاتله، وكذلك قائمنا أهل البيت لن يظهر أبدا حتى تظهر ودائع الله عز وجل فإذا ظهرت ظهر على من يظهر فقتله.(١٧)
ومن ضمن الإشكالات المثارة ضد غيبة المهدي عليه السلام أن يقال: إذا كانت العلة في استتار الإمام خوفه من الظالمين واتقائه من المعاندين فهذه العلة زائلة في أوليائه وشيعته، فيجب أن يكون ظاهراً لهم أو يجب أن يكون التكليف الذي أوجب إمامته لطفاً فيه ساقطاً عنهم، لأنه لا يجوز أن يكلفوا بما فيه لطف لهم ثم يحرموه بجناية غيرهم، وهذا الإشكال أورده السيد المرتضى رحمه الله وأجاب عنه بما حاصله: إن العلة في استتاره من الأعداء هي الخوف منهم والتقية، وعلة استتاره من الأولياء لا يمتنع أن يكون لئلا يشيعوا خبره ويتحدثوا عنه مما يؤدي إلى خوفه وإن كانوا غير قاصدين بذلك(١٨)، أي يرجع السبب في غيبة المهدي عن أوليائه إلى قضية احتمالية مفادها أن علم الأولياء به وبموضعه وإذاعتهم له فيما بينهم من دون قصد قد يؤدي إلى اطلاع الأعداء على سره فيوقعون به أو بشيعته.
وعلل السيد المرتضى رحمه الله غيبة الإمام المهدي عليه السلام عن الأولياء في معرض حديثه عن الوسيلة التي من خلالها يمكن أن يتعرف الناس على الإمام المهدي عليه السلام حال ظهوره، من جهة إظهاره المعجز لهم، ومنع أن يهتدي بعض الناس بما فيهم أولياؤه إلى حقيقة المعجز الذي يثبت هويته وذلك لقصور أو جهل في تمييز المعجز من غيره فيهم، فجعل الجهل بمعجز المهدي الذي يتميز به عمن سواه هو العلة في عدم ظهوره للأولياء، فقال: إن الإمام عليه السلام عند ظهوره عن الغيبة إنما يعلم شخصه ويتميز عينه من جهة المعجز الذي يظهر على يديه؛ لأن النص المتقدم من آبائه عليهم السلام لا يميز شخصه من غيره، كما يميز النص أشخاص آبائه عليهم السلام لما وقع على إمامتهم. والمعجز إنما يعلم دلالة وحجة بضرب من الاستدلال، والشبهة معترضة لذلك وداخلة عليه، فلا يمتنع على هذا أن يكون كل من لم يظهر له من أوليائه، فلأن المعلوم من حاله أنه متى ظهر له قصّر في النظر في معجزه، ولحق به هذا التقصير عند دخول الشبهة لمن يخاف منه من الأعداء، وقلنا أيضا أنه غير ممتنع أن يكون الإمام عليه السلام يظهر لبعض أوليائه ممن لا يخشى من جهته شيئاً من أسباب الخوف، فإن هذا مما لا يمكن القطع على ارتفاعه وامتناعه، وإنما يعلم كل واحد من شيعته حال نفسه، ولا سبيل له إلى العلم بحال غيره(١٩).
وأخيراًَ فقد ورد في الأخبار أن علة الغيبة لا يمكن أن تنكشف للناس إلا عند ظهوره عليه السلام ، فعن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام يقول: إن لصاحب هذا الأمر غيبة لا بد منها يرتاب فيها كل مبطل، فقلت: ولم جعلت فداك ؟ قال: لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم؟ قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟ قال: وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج الله تعالى ذكره، إن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلا بعد ظهوره كما لم ينكشف وجه الحكمة فيما أتاه الخضر عليه السلام من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار لموسى عليه السلام إلى وقت افتراقهما. يا ابن الفضل: إن هذا الأمر أمر من أمر الله تعالى وسر من سر الله، وغيب من غيب الله، ومتى علمنا أنه عز وجل حكيم صدقنا بأن أفعاله كلها حكيمة وإن كان وجهها غير منكشف(٢٠).
ومنه يتبين أن الغرض من الغيبة ووجه الحكمة فيها أمر لا يتبين لنا إلا بعد ظهور الإمام المهدي عليه السلام ، ولعل السر في ذلك يرجع إلى عدم بلوغ الوعي قبل ذلك الدرجة الكافية من النضج التي يكون معها مؤهلاً لفهم هذا الأمر، ففي خبر رواه الكليني رحمه الله عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: إذا فقد الخامس من ولد السابع فالله الله في أديانكم لا يزيلكم عنها أحد، يا بني إنه لابد لصاحب هذا الأمر من غيبة حتى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به، إنما هو محنة من الله عز وجل امتحن بها خلقه، لو علم آباؤكم وأجدادكم ديناً أصح من هذا لاتبعوه، قال: فقلت: يا سيدي مَنْ الخامس من ولد السابع؟ فقال: يا بني عقولكم تصغر عن هذا، وأحلامكم تضيق عن حمله، ولكن إن تعيشوا فسوف تدركونه(٢١). فلابد إذاً أن تصل الإنسانية إلى مستوىً متقدم من الإدراك والمعرفة حتى يتضح للناس وجه الحكمة من الغيبة والعلة في وقوعها، ولذا قال بعض الأعلام: إنا لما أثبتنا أنه تعالى عدل حكيم لا يفعل قبيحاً ولا يخل بواجب، وان أفعال الله تعالى معللة بالأغراض والمصالح، كان ذلك موجباً لاعتقاد أن جميع أفعاله تعالى مشتملة على الغرض الصحيح، وان لم نعلم كنه ذلك الغرض وحقيقة تلك الحكمة، إذ لا سبيل لنا إلى معرفة حقائق جميع الأشياء، لعجز القوة البشرية عن إدراك جميع ذلك(٢٢).
الهوامش:
(١) القصص: ٢١
(٢) علل الشرائع ج١ ص٢٤٤
(٣) كمال الدين: ص٣٤٢
(٤) لأنبياء: ١٠٥
(٥) القصص: ٥
(٦) الغيبة للنعماني ص ٢٨٣
(٧) الكافي للكليني ج١ ص٣٧٠
(٨) كمال الدين وتمام النعمة ص٣٥٦
(٩) البقرة: ١٤٨
(١٠) الكافي ج٨ ص٣١٣
(١١) بحث حول المهدي عليه السلام محمد باقر الصدرص١١٧
(١٢) كمال الدين ص٣٢٠
(١٣) كمال الدين ص ٦٧٥
(١٤) مختصر بصائر الدرجات ص ١١٧
(١٥) الغيبة للشيخ الطوسي ص٤٥٠
(١٦) الفتح: ٢٥
(١٧) كمال الدين ص ٦٤٢
(١٨) تنزيه الأنبياء
(١٩) تنزيه الأنبياء ص٢٣٧
(٢٠) كمال الدين ص٢٤٢
(٢١) الكافي ج ص٣٣٦
(٢٢) كتاب الأربعين للشيخ الماحوزي ص٢٢٦