لقاء النور
تعدُّ اللقاءات التي حظي بها بعض المؤمنين بالإمام الحجة عليه السلام إحدى خصوصيات فترة الغيبة الكبرى.
فمعايشة الإمام عليه السلام لواقع الأحداث ومتابعته لدقائق الأمور تكشفُ عن حضور الإمام عليه السلام الدائم في أوساط الأمّة، ومراقبته لمجريات الأحداث دليل على إدارة الإمام لهذا العالم بطرقٍ خفية خاصة، فتدخّل الإمام عليه السلام مثلا في إنقاذ أحد شيعته من الهلاك دليل على اهتمامه الشريف برعاية أتباعه وشيعته وحفظهم وحمايتهم. في هذا الباب سنقتطفُ بعض التشرّفات، التي حظي بها البعض بالإمام عليه السلام ، لنتلمس من خلالها حضوره ومعايشته في أوساط شيعته ومريديه.
اللقاء الأول
نقل السيد محمد الحسيني ـ المتقدّم ذكره في كتاب الأربعين الذي سمّاه بكفاية المهتدي ـ عن كتاب الغيبة للحسن بن حمزة العلوي الطبري المرعشي، وهو الحديث السادس والثلاثون من ذلك الكتاب، قال: حدثنا رجل صالح من أصحابنا، قال: خرجت سنة من السنين حجّاً إلى بيت الله الحرام، وكانت سنة شديدة الحرّ كثيرة السموم، فانقطعت عن القافلة وضللت الطريق، فغلب عليّ العطش حتى سقطت وأشرفت على الموت، فسمعت صهيلاً ففتحت عينيّ فإذا بشاب حسنِ الوجه حسنِ الرائحة راكب على دابّة شهباء، فسقاني ماء أبرد من الثلج وأحلى من العسل ونجّاني من الهلاك.
فقلت: يا سيدي من أنت؟
قال: أنا حجّة الله على عباده، وبقيّة الله في أرضه، أنا الذي أملأ الأرض قِسطاً وعدلاً كما ملئت جَوراً وظلماً، أنا ابن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
ثم قال: اخفض عينيك، فخفضتهما، ثمّ قال: افتحهما، ففتحتهما فرأيت نفسي في قدّام القافلة، ثمّ غاب عن نظري صلوات الله عليه.(١)
ولا يخفى أنّ الحسن بن حمزة بن علي بن عبد الله بن محمد بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام هو من أجلاّء فقهاء طائفة الشيعة ومن علماء المائة الرابعة.
وذكر ابن شهر آشوب في كتاب معالم العلماء من جملة تصانيفه كتاب الغيبة(٢).
وقال الشيخ الطوسي: كان فاضلاً أديباً عارفاً فقيهاً زاهداً ورعاً كثير المحاسن ... الخ(٣).
اللقاء الثاني
نقل الصالح الصفي المبرور والسيد المتّقي ميرزا محمد حسين النائيني الإصفهاني، قال:
وردت المشهد المقدّس الرضوي على مشرّفه الصلاة والسلام للزيارة، وأقمت فيه مدّة، وكنت في ضنك وضيق مع وفور النعمة ورخص أسعارها، ولمّا أردت الرجوع مع سائر الزائرين لم يكن عندي شيء من الزاد صباح ذلك اليوم حتّى قرص لقوت يومي، فتخلّفت عنهم، وبقيت يومي إلى زوال الشمس، فزرت مولاي وأدّيت فرض الصلاة فرأيت أنّي لو لم ألحق بهم لا تتيسّر لي الرفقة عن قريب، وإن بقيت أدركني الشتاء ومتّ من البرد.
فخرجت من الحرم المطهّر مع ملالة الخاطر، وشكوت وقلت في نفسي: أمشي على أثرهم، فإن متّ جوعاً استرحت، وإلاّ لحقت بهم.
فخرجت من البلد الشريف وسألت عن الطريق، وصرت أمشي حتّى غربت الشمس وما صادفت أحداً، فعلمت أنّي أخطأت الطريق، وأنا ببادية مهولة لا يُرى فيها سوى الحنظل، وقد أشرفت من الجوع والعطش على الهلاك، فصرت أكسر حنظلة حنظلة لعلّي أظفر من بينها بحبحب(٤)، حتّى كسرت نحواً من خمسمائة، فلم أظفر بها، وطلبت الماء والكلأ حتّى جنّني الليل ـ ويئست منهما، فأيقنت الفناء واستسلمت للموت، وبكيت على حالي.
فتراءَى لي مكان مرتفع، فصعدته فوجت في أعلاه عيناً من الماء فتعجّبت وشكرت الله عزّ وجل، وشربت الماء وقلت في نفسي: أتوضّأ وضوء الصلاة وأصلّي لئلاّ ينزل بي الموت وأنا مشغول الذمّة بها، فبادرت إليها.
فلمّا فرغت من العشاء الآخرة أظلم الليل وامتلأت البيداء من أصوات السباع وغيرها، وكنت أعرف من بينها صوت الأسد والذئب، وأرى أعين بعضها تتوقّد كأنّها السراج، فزادت وحشتي إلاّ أنّي كنت مستسلماً للموت، فأدركني النوم لكثرة التعب، وما أفقت إلاّ والأصوات قد انخمدت، والدنيا بنور القمر قد أضاءت، وأنا في غاية الضعف.
فرأيت فارساً مقبلاً عليّ، فقلت في نفسي: إنّ هذا الفارس سوف يقتلني، لأنّه يريد متاعي فلا يجد شيئاً عندي فيغضب لذلك فيقتلني، ولا أقل من أن تصيبني منه جراحة.
فلمّا وصل إليّ سلّم علي، فرددت عليه السلام وطابت منه نفسي.
فقال: مالك؟
فأومأت إليه بضعفي.
فقال: عندك ثلاث بطّيخات، لم لا تأكل منها؟ ولئن كنت بحثت حتّى يئست عن الحبحب الذي هو حنظل كالبطيخ فضلاً عن البطيخ.
فقلت: لا تستهزئ بي ودعني على حالي.
فقال لي: انظر إلى ورائك.
فنظرت فرأيت شجرة بطيخ عليها ثلاث بطيخات كبار.
فقال: سدّ جوعك بواحدة، وخُذ معك اثنتين، وعليك بهذا الصراط المستقيم فامش عليه، وكُل نصف بطيخة أوّل النهار، والنصف الآخر عند الزوال، واحفظ بطيخة فإنّها تنفعك، فإذا غربت الشمس تصل إلى خيمة سوداء يوصلك أهلُها إلى القافلة، وغاب عن بصري.
فقمت إلى تلك البطيخات فكسرت واحدة منها فرأيتها في غاية الحلاوة واللطافة كأنّي ما أكلتُ مثلها، فأكلتها وأخذت معي الاثنتين، ولزمت الطريق وجعلت أمشي حتّى طلعت الشمس، ومضى على طلوعها مقدار ساعة، فكسرت واحدة منهما وأكلت نصفها وسرت إلى زوال الشمس، فأكلت النصف الآخر وأخذت الطريق.
فلمّا قرب الغروب بدت لي تلك الخيمة، ورآني أهلها فبادروا إليّ وأخذوني بعنف وشدّة وذهبوا بي إلى الخيمة كأنّهم توهّموا بأنّي جاسوس، وكنت لا أعرف التكلّم إلاّ باللغة العربية وهم لا يعرفون إلاّ باللغة الفارسية، وكلّما صحت لم يسمعني أحد، حتّى جاؤوا بي إلى كبيرهم.
فقال لي بشدّة وغضب: من أين جئت؟ تصدقني وإلاّ قتلتُك.
فأفهمته بكلّ حيلة شرح حالي وأنّي خرجت اليوم الماضي من المشهد المقدس وضيّعت الطريق.
فقال: أيّها السيد الكذّاب لا يعبر من هذا الطريق الذي تدّعيه متنفّس إلاّ تلف أو أكلته السباع، ثمّ إنّك كيف قدرتَ على تلك المسافة البعيدة في الزمن الذي تذكره، ومن هذا المكان إلى المشهد المقدّس مسيرة ثلاثة أيّام؟ أصدِقني وإلاّ قتلتك، وشهر سيفه في وجهي.
فبدت له البطيخة من تحت عبائتي.
فقال: ما هذا؟
فقصصت عليه قصّته.
فقال الحاضرون: ليس في هذه الصحراء بطّيخ، خصوصاً هذه البطيخة التي ما رأينا مثلها أبداً، فرجعوا إلى أنفسهم، وتكلّموا فيما بينهم بلغتهم، وكأنّهم علموا صدق مقالتي، وأنّ هذه معجزة من الإمام عليه آلاف التحية والثناء والسلام.
فأقبلوا عليّ وقبّلوا يدي وصدّروني في مجلسهم، وأكرموني غاية الإكرام، وأخذوا لباسي تبرّكاً به، وكسوني ألبسة جديدة فاخرة، وأضافوني يومين وليلتين.
فلمّا كان اليوم الثالث أعطوني عشرة توامين، ووجّهوا معي ثلاثة منهم حتّى أدركت القافلة.
الهوامش
ــــــــــــــــ
(١) راجع كفاية المهتدي: الحديث السادس والثلاثون، ص١٤٠ ـ المخطوط ـ وفي أربعين الخاتون آبادي (كشف الحق): ص ٦٥.
(٢) معالم العلماء (ابن شهر آشوب): ص ٣٦، تحت رقم (٢١٥).
(٣) الفهرست (الشيخ الطوسي): ص ٥٢، تحت رقم (١٨٤).
(٤) الحبحب: البطيخ الشامي الذي تسميه أهل العراق: الرقي، والفرس: الهندي، قاله الفيروز آبادي (القاموس المحيط): ج١،ص ٥١.