قضية الإمام المنتظر عليه السلام (١)
العلامة عبد الهادي الفضلي
(تمذهب القضية):
إنّ كثيراً من قضايانا العقائدية صيغت بطابع مذهبي أو طائفي بسبب عوامل معينبة طرأت عليها فقولبتها في إطار ذلك المذهب أو نطاق تلك الطائفة، ممّا أفقدها طابعها العام بصفتها عقيدة إسلامية عامة.
وراحت تتغلغل في تمذهبها نتيجة دفع كثير من الدراسات والبحوث غير المقارنة أو غير الموضوعية، التي تدور حول القضية على إعتبار أنها من عقائد مذهب معين أو طائفة معينة.
وقضيتنا هذه (قضية المهدي المنتظر) إحدى تلكم القضايا التي حوّلتها العوامل الطارئة إلى قضية خاصة، فقولبتها في إطار مذهب الشيعة وقوقعتها في نطاق هذه الطائقة من طوائف المسلمين.
(القضية إسلامية عامة):
في حين أن دراسة هذه القضية أو بحثها بشيء من الوعي والموضوعية ينتهي بنا حتماً إلى أنها قضية إسلامية قبل أن تكون مذهبية، شيعية أو غيرها.
وقد رأيت ـ في حدود مراجعاتي حول القضية ـ أن باحثي موضوع المهدي المنتظر من سنيين وشيعيين يمتدون بجذور المسألة إلى أحاديث صادرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثبتت صحّة صدورها إما لأنها متواترة ـ كما سيأتي ـ أو لأنها أخبار آحاد توفّرت على شرائط الصحة.
وإذا كانت المسألة التي ينتهى بها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ والجميع يؤمنون بأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سنّته المقدسة هو عدل القرآن الكريم في الارشاد إلى العقيدة الحقّة وفي تشريع الأحكام ـ لا تعدّ مسألة إسلامية، فإذن ما هي المسألة الاسلامية؟!.
ورأينا أننا متى أبعدنا من حسابنا الإنفعال العاطفي والرواسب الفِرَقية التي خالفتها وعمّقتها أفاعيل الحكّام المنحرفين من المسلمين والحكّام المستعمرين من الكافرين، ودخلنا المسألة بذهنية العالم الموضوعي الذي ينشد معرفة الواقع مستمدّاً من مصادره الإسلامية الأصيلة وعلى ضوء المقاييس الاسلامية المعتبرة، وقفنا أمام مسألة إسلامية، حتى فيما نعتقده أو نخاله مذهبياً منها.
(تواتر أحاديثها عن النبي):
وذلك أن الاحاديث في المسألة الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قال بتواترها غير واحد من العلماء.
وهي ـ في حدود ما وقفت عليه ـ على طوائف ثلاث هي: ـ
١ـ القول بتواترها عند المسلمين.
٢ـ القول بتواترها عن أهل السنة.
٣ـ القول بتواترها عند الشيعة.(٢)
والقول بالتواتر لدى طائفتي المسلمين ـ في واقعة ـ قول بالتواتر عند المسلمين عامة. وقال بصحّة صدورها من لم يصرّح بتواترها من العلماء أمثال أبي الأعلى المودودي. قال: (غير أن من الصعب على كلّ حال، القول بأن الروايات لا حقيقة لها أصلاً، فإننا إذا صرفنا النظر عمّا أدخل فيها الناس من تلقاء أنفسهم، فإنها تحمل حقيقــة أساسيــة هي القدر المشترك فيها، وهي: أن النبي صلى الله عليه وآلـه وسلم أخبر أنه سيظهر في آخر الزمان زعيم عامل بالسنّة يملأ الأرض عدلاً ويمحو عن وجهها أسباب الظلم والعدوان ويُعلي فيها كلمة الإسلام ويعمّم الرفاه في خلق الله).(٣)
(طوائف أحاديثها):
وبغية الانتهاء إلى النتيجة التي أَشرت إليها آنفاً، لابد لنا من دراسة الأحاديث المشار إليها دراسة مقارنة وموضوعية ولو بشيء من الإيجاز:
إن الأحاديث في المسألة على طوائف هي: ـ
١ـ ما لم يُصرّح فيها بذكر المهدي.
٢ـ ما صُرّح فيها بذكر المهدي.
وقد حمل العلماء القسم الأول من الأحاديث (وهي التي لم يصرّح فيها بذكر المهدي) لأنها مطلقة على القسم الثاني (وهي التي صُرّح فيها بذكر المهدي) لأنها مقيّدة. يقول المودودي: (قد ذكرنا في هذا الباب نوعين من الأحاديث: أحاديث ذُكر المهدي فيها بالصراحة، وأحاديث إنّما أخبر فيها بظهور خليفة عادل بدون تصريح بالمهدي.
ولمّا كانت هذه الأحاديث من النوع الثاني تشابه الأحاديث من النوع الأول في موضوعها، فقد ذهب المحدّثون إلى أن المراد بالخليفة العادل فيها هو المهدي).(٤) وتنقسم الطائفة الأخيرة منهما إلى طوائف أيضاً هي: ـ
أ ـ ما صرّح فيها بأن المهدي من الأمة.
ب ـ المهدي من العرب.
ج ـ المهدي من كنانة.
د ـ من قريش.
هـ ـ من بني هاشم.
و ـ من أولاد عبد المطلب.
وإلى هنا يحمل المطلق منها على المقيّد نظراً إلى عدم وجود ما يمنع من ذلك، فتكون النتيجة هي ما تصرّح به الطائفة الأخيرة ـ رقم و ـ (المهدي من أولاد عبد المطلب). وهي تنقسم إلى طائفتين أيضاً هما: ـ
١ـ ما صرّح فيها بأن المهدي من أولاد أبي طالب.
٢ـ ما صرح فيها بأن المهدي من أولاد العباس.
وهنا نظرا لتكافؤ الاحتمالين وهما: إحتمال حمل المطلق المتقدّم (وهو ما تضمن أنّ المهدي من أولاد عبد المطلب) على القسم الأول (وهو ما تضمّن أن المهدي من أولاد أبي طالب)، واحتمال حمله على القسم الثاني (وهو ما تضمن أن المهدي من أولاد العباس)، لا يستطاع تقييده بأحدهما إلا مع ثبوت المرجّح.
وحيث قد ثبت أنَّ الأحاديث التي تضمنت أن المهدي من أولاد العباس موضوعة ـ كما ذكرت بيانه مفصلاً في البحث عن عوامل الغيبة الصغرى(٥) تبقى الأحاديث من القسم الأول (وهي التي تضمنت أن المهدي من أولاد أبي طالب) غير معارضة، فيقيّد بها إطلاق ما قبلها فيُحمل عليها، فتكون النتيجة هي: ان المهدي من أولاد أبي طالب.
وهي ـ أعني الأحاديث المتضمنة أن المهدي من أولاد أبي طالب ـ تنقسم إلى طوائف أيضاً هي: ـ
١ـ المهدي من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
٢ـ من العترة عليهم السلام .
٣ـ من أهل البيت عليهم السلام .
٤ـ من ذوي القربى عليهم السلام .
٥ـ من الذرية.
٦ـ من أولاد علي عليه السلام .
٧ـ من أولاد فاطمة عليها السلام .
والأخيرة في هذا السياق ـ تقيّد ما قبلها فتُحمل عليها.
وهي تنقسم إلى طائفتين هما: ـ
أ ـ المهدي من أ-ولاد الإمام الحسن عليه السلام .
ب ـ المهدي من أولاد الإمام الحسين عليه السلام .
وهنا نعود فنقول: نظراً لتكافؤ الاحتمالين (إحتمال حمل المطلق على القسم الأَول وإحتمال حمله على القسم الثاني) لا يمكن حمل المطلق المتقدّم على أحدهما من غير مرجّح.
ولما كانت الأحاديث المتضمنة أن المهدي من أولاد الحسن موضوعة، لما يشابه العوامل السياسية التي حملت بني العباس على وضع أحاديث المهدي من أولاد العباس، يحمل المطلق المتقدم على القسم الثاني فيقيد بها.. فتكون النتيجة: المهدي من أولاد الامام الحسين عليه السلام .
ولا أقل من أن أحاديث القسم الأول لضعفها وقلّتها لا تقوى على مناهضة أحاديث القسم الثاني لصحّتها وكثرتها.
وتنقسم الطائفة الاخيرة منهما إلى طوائف هي: ـ
١ـ المهدي من أولاد الامام الصادق عليه السلام .
٢ـ من أولاد الامام الرضا عليه السلام .
٣ـ إبن الإمام الحسن العسكري عليه السلام .(٦)
وشأن هذه الطوائف الأربع الاخيرة في حمل المطلق منها على المقيد شأن ما تقدّمها من طوائف.
(النتيجة):
وفي النهاية تكون النتيجة الاخيرة هي:
المهدي المنتظر هو (إبن الإمام الحسن العسكري) عليهما السلام .
(محاولة الرجوع بالقضية إلى واقعها العام):
وهذا اللون من المحاولة في الدراسة والبحث لإرجاع المسألة إلى واقعها العام والخروج بها عن الأُطر المذهبية الضيقة أمثال: إعتبارها شيعية خاصة ـ كما يذهب البعض ـ أو إعتبارها سنية ـ كما يذهب الشيخ ناصف في كتابه (غاية المأمول) فيما نقل عنه(٧).
أقول: إن هذا اللون من المحاولة يتطلّب منّا الرجوع إلى أصول عامة في بحث الحديث توفّر للعالم الأجواء الكافية للدراسة المقارنة والبحث الموضوعي. أمثال: أن تعتبر الشرط الأساسي في توثيق الراوي هو: كونه مسلماً صادقاً معاصراً لمن ينقل عنه بلا واسطة، قادراً على الاتصال به مشافهة أو تحريراً مع توفر شروط الإمامة في التدوين والنقل.
(عوامل التمذهب):
وإلى هنا.. ربما يتساءل عن العوامل التي حوّلت قضية المهدي المنتظر إلى قضية طائفية؟!.
إن الذي يبدو لي: أن العوامل التي ساعدت على ذلك نوعان هما: ـ
١ـ العامل السياسي: ويتمثّل في إستغلال العباسيين القضية لصالح ملكهم الخاص ـ كما ذكرت بيانه مفصلاً في موضوع عوامل الغيبة الصغرى ـ وفي إستغلال الحسنيين القضية أيضاً بُغية التوصل إلى الحكم ـ كما مرت الإشارة إليه ـ.
٢ـ العامل الطائفي: ويتمثل في لون من الصراع المذهبي بين الشيعة والسنة، وهو الذي كان يقوم على أساس غير موضوعي، وإنما على الرواسب والنزاعات الطائفية وفي إطار الانفعالات العاطفية التي وسّعت فجوة الخلاف بين الطائفتين فحولت كثيراً من المسائل العامة إلى قضايا خاصة.
الهوامش:
ـــــــــــــــــــــ
(١) فصل من كتاب (في انتظار الإمام) للشيخ عبد الهادي الفضلي خص به مؤلفه (رسالة الاسلام) استجابة لطلب تقدم به بعض الاخوان حول ايضاح (قضية الإمام المنتظر) وموقعها في الرأي الإسلامي، وقد نشرته مجلّة <رسالة الإسلام> العدد (٥ـ٦) في الصفحات ٩٩ ـ ١٠٥.
(٢) للوقوف على الأقوال يقرأ: اسماعيل الصدر، محاضرات في تفسير القرآن الكريم ص ١٣١ وما بعدها. ومحمد أمين زين الدين، مع الدكتور احمد امين في حديث المهدي والمهدوية ص ١٦ وما بعدها. ومحسن الامين، أعيان الشيعة ج٢ ق٣ سيرة الامام المنتظر.
(٣) البيانات ص ١١٦.
(٤) البيانات ص ١٦١.
(٥) ل آخر من الكتاب.
(٦) وقوف على متون الاحاديث في جميع هذه الطوائف يراجع: السيد صدر الدين الصدر (المهدي)، والمودودي (البيانات).
(٧) رأ: السيد اسماعيل الصدر، ص ١٣٣.